مَنْزِلَةُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ رَبِّهِمْ

مَنْزِلَةُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ رَبِّهِمْ

((مَنْزِلَةُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ رَبِّهِمْ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّه نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ أَعْظَمُ الْأَعْمَالِ وَأَزْكَاهَا))

فَقَدِ امْتَحَنَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّلَاةِ وَالسُّجُودِ وَالرُّكُوعِ فَاسْتَجَابُوا طَائِعِينَ، وَامْتَحَنَهُمْ بِالزَّكَاةِ وَدَفْعِ الْمَالِ فَاسْتَجَابُوا طَائِعِينَ، وَامْتَحَنَهُمْ بِالْحَجِّ وَالصَّوْمِ وَتَرْكِ الشَّهَوَاتِ فَلَبَّوْا -كَذَلِكَ- طَائِعِينَ.

ثُمَّ جَاءَ الِامْتِحَانُ الْأَكْبَرُ وَالِاخْتِبَارُ الْأَعْظَمُ، فَكَانَ أَنْ طَلَبَ مِنْهُمْ أَرْوَاحَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ يَبْذُلُونَهَا فِي سَاحَاتِ الْجِهَادِ، فَتَقَدَّمَ أَقْوَامٌ وَتَأخَّرَ آخَرُونَ!

تَأَخَّرَ الْمُنَافِقُونَ: {وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 86].

وَتَقَدَّمَ الصَّادِقُونَ، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {لَٰكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التوبة: 88].

فَفَرَّقَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِالْجِهَادِ بَيْنَ الصَّادِقِينَ وَالْكَاذِبِينَ، بَيْنَ الْمُحِبِّينَ للهِ وَرَسولِهِ ﷺ وَالْمُدَّعِينَ.

إِنَّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ هُوَ أَعْظَمُ الْأَعْمَالِ وَأَزْكَاهَا، وَهُوَ أَيْسَرُ الطُّرُقِ إِلَى رِضْوَانِ اللهِ تَعَالَى وَالْجَنَّةِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَوْلا أَنْ يَشُقَّ عَلَى المُسلِمِينَ مَا قَعَدْتُ خِلافَ سَرِيَّةٍ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي أَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلَ، ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلَ، ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلَ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

وَلَمَّا كَانَ الْجِهَادُ بَذْلَ أَعْظَمِ وَأَنْفَسِ مَا عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ وَهِيَ أَنْفُسُهُمْ يَبْذُلُونهَا دُونَ خَوْفٍ وَلَا تَرَدُّدٍ، وَلَمَّا كَانَ فِيهِ بَذْلُ الْأَمْوَالِ وَتَرْكُ الزَّوْجَاتِ وَالذُّرِّيَّاتِ، وَهَجْرُ الْمَسَاكِنِ وَالْأَوْطَانِ وَالْمَلَذَّاتِ.

وَلَمَّا كَانَ فِيهِ قَتْلُ الْأَنْفُسِ وَإِرَاقَةُ الدِّمَاءِ؛ كَانَ حَرِيًّا بِالشَّرْعِ أَنْ يَضَعَ لَهُ أَعْظَمَ الضَّوَابِطِ وَأَقْوَى الْأَحْكَامِ؛ حَتَّى لَا تُرَاقَ الدِّمَاءُ فِي كُلِّ وَادٍ وَبِكُلِّ سَبِيلٍ، وَحَتَّى لَا يَخْتَلِطَ الْحَابِلُ بِالنَّابِلِ، وَلَا يَدْرِي الْقَاتِلُ فِيمَ قَتَلَ وَلَا الْمَقْتُولُ فِيمَ قُتِلَ.

إِنَّ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَرْوَاحَهُمْ هِيَ أَعْظَمُ شَيْءٍ عِنْدَ اللهِ؛ لِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَزَوَالُ الدُّنيَا أَهوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَقَالَ ﷺ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ: ((مَا أَطْيَبَكِ! وَأَطْيَبَ رِيحَكِ! مَا أَعْظَمَكِ! وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ! وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَحُرْمَةُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ حُرْمَةً مِنْكِ؛ مَالِهِ وَدَمِهِ)).

وَقَدْ بَيَّنَ الدِّينُ الْعَظِيمُ -كِتَابًا وَسُنَّةً- أَنَّ الْجِهَادَ لَيْسَ غَايَةً فِي حَدِّ ذَاتِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ وَسِيلَةٌ.

فَالْجِهَادُ لَيْسَ هَدَفًا فِي ذَاتِهِ وَلَا غَايَةً، إِنَّمَا هُوَ وَسِيلَةٌ لِرَفْعِ رَايَةِ الدِّينِ، وَهُوَ وَسِيلَةٌ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

((وُجُوبُ التَّعَاوُنِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْجِهَادِ))

قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللهَۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2].

فَالْبِرُّ: اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، وأَحَبَّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ؛ مِنَ التَّحَقُّقِ بِعَقَائِدِ الدِّينِ وَأَخْلَاقِهِ، وَالْعَمَلِ بِآدَابِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ؛ مِنَ الشَّرَائِعِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَمِنَ الْقِيَامِ بِحُقُوقِ اللهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ، وَمِنَ التَّعَاوُنِ عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا، فَكُلُّ هَذَا دَاخِلٌ فِي التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ.

وَمِنَ التَّعَاوُنِ عَلَى التَّقْوَى: التَّعَاوُنُ عَلَى اجْتِنَابِ وَتَوَقِّي مَا نَهَى اللهُ وَرَسُولُهُ عَنْهُ؛ مِنَ الْفَوَاحِشِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَمِنَ الْإِثْمِ وَالْبَغْيِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَالْقَوْلِ عَلَى اللهِ بِلَا عِلْمٍ؛ بَلْ عَلَى تَرْكِ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ.

وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ: التَّعَاوُنُ عَلَى جَمِيعِ الْوَسَائِلِ وَالْأَسْبَابِ الَّتِي يُتَّقَى بِهَا ضَرَرُ الْأَعْدَاءِ؛ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ بِالْأَسْلِحَةِ الْمُنَاسِبَةِ لِلْوَقْتِ، وَتَعَلُّمِ الصَّنَائِعِ الْمُعِينَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَالسَّعْيِ فِي تَكْمِيلِ الْقُوَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ وَالْمَادِّيَّةِ الْمُعِينَةِ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 71].

فَيَدْخُلُ فِي هَذَا: الِاسْتِعْدَادُ بِكُلِّ الْمُسْتَطَاعِ؛ مِنْ قُوَّةٍ عَقْلِيَّةٍ وَسِيَاسِيَّةٍ وَصِنَاعِيَّةٍ، وَتَعَلُّمُ الْآدَابِ الْعَسْكَرِيَّةِ، وَالنِّظَامِ النَّافِعِ، وَالرَّمْيِ وَالرُّكُوبِ، وَيَدْخُلُ فِي هَذَا: التَّحَرُّزُ مِنَ الْأَعْدَاءِ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ يُدْرِكُهَا الْمُسْلِمُونَ، وَاتِّخَاذُ الْحُصُونِ الْوَاقِيَةِ.

وَقَدْ أَمَرَ اللهُ وَرَسُولُهُ بِجِهَادِ الْكُفَّارِ الْمُعْتَدِينَ -فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ وَأَحَادِيثَ مُتَنَوِّعَةٍ- بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ وَالرَّأْيِ، وَفِي حَالِ الِاجْتِمَاعِ، وَفِي كُلِّ الْأَحْوَالِ، وَالْأَمْرُ بِذَلِكَ أَمْرٌ بِهِ وَبِكُلِّ أَمْرٍ يُعِينُ عَلَيْهِ وَيُقَوِّيهِ وَيُقَوِّمُهُ.

وَأَخْبَرَ بِمَا لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ، وَمَا يَدْفَعُ اللهُ بِهِ مِنْ أَصْنَافِ الشُّرُورِ، وَمَا يَحْصُلُ بِهِ مِنَ الْعِزِّ وَالتَّمْكِينِ وَالرِّفْعَةِ، وَمَا فِي تَرْكِهِ وَالزُّهْدِ فِيهِ مِنَ الذُّلِّ وَالضَّرَرِ الْعَظِيمِ، وَتَوَعَّدَ النَّاكِلِينَ عَنْهُ بِالْخِذْلَانِ، وَالسُّقُوطِ الْحِسِّيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ، وَبَيَّنَ لَهُمُ الطُّرُقَ الَّتِي يَسْلُكُونَهَا فِي تَقْوِيَةِ مَعْنَوِيَّتِهِمْ؛ فَإِنَّهُ حَثَّهُمْ عَلَى التَّآلُفِ وَالِاجْتِمَاعِ، وَنَهَاهُمْ عَنِ التَّبَاغُضِ وَالتَّعَادِي وَالِافْتِرَاقِ.

وَذَلِكَ أَنَّ حَقِيقَةَ الْجِهَادِ هُوَ الْجِدُّ وَالِاجْتِهَادُ فِي كُلِّ أَمْرٍ يُقَوِّي الْمُسْلِمِينَ، وَيُصْلِحُهُمْ، وَيَلُمُّ شَعَثَهُمْ، وَيَضُمُّ مُتَفَرِّقَهُمْ، وَيَدْفَعُ عَنْهُمْ عُدْوَانَ الْأَعْدَاءِ، أَوْ يُخَفِّفُهُ بِكُلِّ طَرِيقٍ وَوَسِيلَةٍ.

((مَنْزِلَةُ الشَّهَادَةِ وَثَمَرَاتُهَا))

لَقَدِ اقْتَضَتْ سُنَّةُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنْ يَصْطَفِيَ مِنْ عِبَادِهِ مَنْ يَشَاءُ، فَيَرْفَعُ دَرَجَاتِهِمْ، وَيُعْلِي مِنْ شَأْنِهِمْ، وَيَمُدُّهُمْ بِعَطَايَاهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَقَامَ الشَّهَادَةِ مِنْ أَعْلَى مَقَامَاتِ الِاصْطِفَاءِ وَالِاجْتِبَاءِ الَّتِي يَمْتَنُّ اللهُ تَعَالَى- بِهَا عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ؛ حَيْثُ يَقُولُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69].

وَمَنْ يُطِعِ اللهَ دَوَامًا فِي أَدَاءِ الْفَرَائِضِ وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي، وَيُطِعِ الرَّسُولَ فِي السُّنَنِ الَّتِي سَنَّهَا؛ فَأُولَئِكَ الْفُضَلَاءُ ذَوُو الْمَنْزِلَةِ الرَّفِيعَةِ، الْمُطِيعُونَ للهِ وَرَسُولِهِ فِي صُحْبَةِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ بِالْهِدَايَةِ وَالتَّوْفِيقِ فِي الدُّنْيَا، وَبِدُخُولِ الْجَنَّةِ فِي الْآخِرَةِ فِي مَنَازِلِ الْفِرْدَوْسِ الْأَعْلَى؛ مِنَ النَّبِيِّينَ الَّذِينَ أَنْبَأَهُمُ اللهُ وَاخْتَارَهُمْ؛ لِيُخْبِرُوا عَنْهُ -تَعَالَى-، وَيُبَلِّغُوا شَرْعَهُ.

وَمَعَ كَثِيرِي الصِّدْقِ فِي إِيمَانِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ مِنْ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ الَّذِينَ صَدَّقُوا بِكُلِّ الدِّينِ.

وَمَعَ الشُّهَدَاءِ الَّذِينَ شَهِدُوا الْحَقَّ، وَعَلِمُوهُ كَعِلْمِ الْمُعَايَنَةِ وَالْمُشَاهَدَةِ، وَاسْتُشْهِدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ، وَبَذَلُوا أَرْوَاحَهُمْ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ، وَمَعَ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ صَلَحَتْ أَحْوَالُهُمْ، وَحَسُنَتْ أَعْمَالُهُمْ.

وَنِعْمَتُ الصُّحْبَةُ صُحْبَةُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللهُ تَعَالَى- مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ فِي مَنَازِلِ الْفِرْدَوْسِ الْأَعْلَى فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ.

وَالشَّهِيدُ: هُوَ الَّذِي قُتِلَ بَاذِلًا دَمَهُ وَنَفْسَهُ مِنْ أَجْلِ اللهِ، يُعَوِّضُهُ اللهُ بِهَذِهِ الْحَيَاةِ الْفَانِيَةِ حَيَاةً أَبَدِيَّةً لَا نِهَايَةَ لَهَا، وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي الْبَرْزَخِ -أَيْ قَبْلَ الْقِيَامَةِ-، وَفِي الْجَنَّةِ بَعْدَ الْقِيَامَةِ.

وَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ} [البقرة: 154].

لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى- الْأَمْرَ بِالِاسْتِعَانَةِ بِالصَّبْرِ عَلَى جَمِيعِ الْأَحْوَالِ؛ ذَكَرَ نَمُوذَجًا مِمَّا يُسْتَعَانُ بِالصَّبْرِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ، وَهُوَ أَفْضَلُ الطَّاعَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، وَأَشَقُّهَا عَلَى النُّفُوسِ؛ لِمَشَقَّتِهَا فِي نَفْسِهِ، وَلِكَوْنِهِ مُؤَدِّيًا لِلْقَتْلِ وَعَدَمِ الْحَيَاةِ، الَّتِي إِنَّمَا يَرْغَبُ الرَّاغِبُونَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا؛ لِحُصُولِ الْحَيَاةِ وَلَوَازِمِهَا، فَكُلُّ مَا يَتَصَرَّفُونَ بِهِ؛ فَإِنَّهُ سَعْيٌ لَهَا، وَدَفْعٌ لِمَا يُضَادُّهَا.

وَمِنَ الْمَعْلُومِ: أَنَّ الْمَحْبُوبَ لَا يَتْرُكُهُ الْعَاقِلُ إِلَّا لِمَحْبُوبٍ أَعْلَى مِنْهُ وَأَعْظَمُ، فَأَخْبَرَ -تَعَالَى- أَنَّ مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِهِ؛ بِأَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللهِ، لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا، وَدِينُهُ الظَّاهِرُ، لَا لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَغْرَاضِ؛ فَإِنَّهُ لَمْ تَفُتْهُ الْحَيَاةُ الْمَحْبُوبَةُ، بَلْ حَصَلَتْ لَهُ حَيَاةٌ أَعْظَمُ وَأَكْمَلُ مِمَّا تَظُنُّونَ وَتَحْسِبُونَ.

فَالشُّهَدَاءُ.. {أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) ۞ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِين} [آل عمران: 169-171].

فَهَلْ أَعْظَمُ مِنْ هَذِهِ الْحَيَاةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْقُرْبِ مِنَ اللهِ، وَتَمَتُّعِهِمْ بِرِزْقِهِ الْبَدَنِيِّ فِي الْمَأْكُولَاتِ وَالْمَشْرُوبَاتِ اللَّذِيذَةِ، وَالرِّزْقِ الرُّوحِيِّ، وَهُوَ الْفَرَحُ، وَهُوَ الِاسْتِبْشَارُ، وَزَوَالُ كُلِّ خَوْفٍ وَحُزْنٍ، وَهَذِهِ حَيَاةٌ بَرْزَخِيَّةٌ أَكْمَلُ مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا؛ بَلْ قَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ: أَنَّ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ، تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ، وَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا، وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مُعَلَّقَةٍ بِالْعَرْشِ.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) ۞ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِين} [آل عمران: 169-171].

فَيُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى- عَنِ الشُّهَدَاءِ بِأَنَّهُمْ وَإِنْ قُتِلُوا فِي هَذِهِ الدَّارِ؛ فَإِنَّ أَرْوَاحَهُمْ حَيَّةٌ مَرْزُوقَةٌ فِي دَارِ الْقَرَارِ.

وَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد: 6].

وَقَدِ اشْتَرَى اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مِنَ الْمُؤْمِنِينَ نُفُوسَهُمْ؛ لِنَفَاسَتِهَا لَدَيْهِ؛ إِحْسَانًا مِنْهُ وَفَضْلًا، وَكَتَبَ ذَلِكَ الْعَقْدَ الْكَرِيمَ فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ؛ فَهُوَ يُقْرَأُ أَبَدًا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَيُتْلَى، قَالَ تَعَالَى- مُبَيِّنًا لُزُومَ هَذَا الْعَقْدِ أَزَلًا فِي مُحْكَمِ الْقُرْآنِ: {إِنَّ اللهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111].

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: «يُخْبِرُ تَعَالَى- أَنَّهُ عَاوَضَ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ إِذَا بَذَلُوهَا فِي سَبِيلِهِ بِالْجَنَّةِ، وَهَذَا مِنْ فَضْلِهِ وَكَرَمِهِ وَإِحْسَانِهِ؛ فَإِنَّهُ قَبِلَ الْعِوَضَ عَمَّا يَمْلِكُهُ بِمَا تَفَضَّلَ بِهِ عَلَى عَبِيدِهِ الْمُطِيعِينَ لَهُ.

لِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَقَتَادَةُ: ((بَايَعَهُمُ اللهُ فَأْغَلَى ثَمَنَهُمْ)) )).

وَقَالَ تَعَالَى: {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ} [الزمر: 69].

فَقَرَنَ تَعَالَى- ذِكْرَ الشُّهَدَاءِ مَعَ النَّبِيِّينَ؛ تَكْرِيمًا لَهُمْ، وَبَيَانًا لِعُلُوِّ مَنْزِلَتِهِمْ.

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران: 140].

قَالَ السُّهَيْلِيُّ: «وَفِيهِ فَضْلٌ عَظِيمٌ لِلشُّهَدَاءِ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى حُبِّ اللهِ إِيَّاهُمْ؛ حَيْثُ قَالَ: {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ}، وَلَا يُقَالُ: اتَّخَذْتُ، وَلَا اتَّخَذَ؛ إِلَّا فِي مُصْطَفًى مَحْبُوبٍ، قَالَ تَعَالَى-: {مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَلَدٍ} [المؤمنون: 91]، وَقَالَ تَعَالَى-: {مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا} [الجن: 3]، فَالِاتِّخَاذُ إِنَّمَا هُوَ اقْتِنَاءٌ وَاجْتِبَاءٌ)).

وَلَقَدْ خَصَّ اللهُ تَعَالَى- وَرَسُولُهُ ﷺ الشُّهَدَاءَ بِمَنَاقِبَ عَدِيدَةٍ؛ فَمِنْهَا:

*شَرَفُ مَكَانِهِمْ وَجِوَارِهِمْ، وَعَظِيمُ أَجْرِهِمْ وَنَعِيمِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: {وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} [الحديد: 19].

وَالشُّهَدَاءُ هُمُ الَّذِينَ قَاتَلُوا فِي سَبِيلِ إِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ، وَبَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ فَقُتِلُوا؛ لَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ أَجْرٌ جَزِيلٌ، وَنُورٌ عَظِيمٌ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ يَتَفَاوَتُونَ بِحَسَبِ مَا كَانُوا فِي الدَّارِ الدُّنْيَا فِي أَعْمَالِهِمْ.

فَهَذِهِ الْمَكَانَةُ لِلشُّهَدَاءِ خَاصَّةً، وَلَا أَدَّلَ عَلَى عِظَمِ هَذَا الشَّرَفِ وَالْمَكَانَةِ مِنْ حِرْصِ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى-؛ لِيُكْتَبَ لَهُ أَجْرُ هَذِهِ الدَّرَجَةِ الْعَالِيَةِ؛ فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَوْ لَا أَنْ يَشُقَّ عَلَى المُسلِمِينَ؛ مَا قَعَدْتُ خِلَافَ سَرِيَّةٍ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي أَغْزُو فِي سَبِيلِ اللهِ فَأُقْتَلَ، ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلَ، ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلَ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

لَقَدْ بَيَّنَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَضْلَ الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَبَيَّنَ عَظِيمَ قَدْرِ الشَّهِيدِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَا يَجِدُ الشَّهِيدُ مِنْ مَسِّ الْقَتْلِ إِلَّا كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ مِنْ مَسِّ الْقَرْصَةِ)). أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((مَا أَحَدٌ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا وَإِنَّ لَهُ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا الشَّهِيدَ؛ فَإِنَّهُ يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ؛ لِمَا يَرَى مِنَ الْكَرَامَةِ)).

وَفِي رِوَايَةٍ: ((لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((يُؤْتَى بِالرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ اللهُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ! كَيْفَ وَجَدْتَ مَنْزِلَكَ؟

فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ! خَيْرَ مَنْزِلٍ.

فَيَقُولُ: سَلْ وَتَمَنَّهْ.

فَيَقُولُ: وَمَا أَسْأَلُكَ وَأَتَمَنَّى؟!! أَسْأَلُكَ أَنْ تَرُدَّنِي إِلَى الدُّنْيَا، فَأُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ عَشْرَ مَرَّاتٍ؛ لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ)). أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ.

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ أُمَّ الرُّبَيِّعِ بِنْتَ الْبَرَاءِ -وَهِيَ أُمُّ حَارِثَةَ بْنِ سُرَاقَةَ- أَتَتْ رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَقَالَتْ: ((يَا نَبِيَّ اللهِ! أَلَا تُحَدِّثُنِي عَنْ حَارِثَةَ؟ -وَكَانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ، أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ؛ أَيْ: لَا يُدْرَى رَامِيهِ- فَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ صَبَرْتُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ؛ اجْتَهَدْتُ عَلَيْهِ فِي الْبُكَاءِ)).

قَالَ: ((يَا أُمَّ حَارِثَةَ! إِنَّهَا جِنَانٌ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنَّ ابْنَكِ أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

*وَالشَّهِيدُ تُكَفَّرُ عَنْهُ خَطَايَاهُ؛ إِلَّا الدَّيْنَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إِلَّا الدَّيْنَ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

فَالشَّهَادَةُ فِي سَبِيلِ اللهِ تُكَفِّرُ جَمِيعَ مَا عَلَى الْعَبْدِ مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَامَ فِيهِمْ، فَذَكَرَ ((أَنَّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْإِيمَانَ بِاللهِ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ))، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللهِ؛ تُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((نَعَمْ، إِنْ قُتِلْتَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ))، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((كَيْفَ قُلْتَ؟)).

قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللهِ؛ أَتُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((نَعَمْ، إِنْ قُتِلْتَ وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ؛ إِلَّا الدَّيْنَ؛ فَإِنَّ جَبْرَائِيلَ قَالَ لِي ذَلِكَ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

*وَمِنَ الْفَضَائِلِ وَالْمَنَاقِبِ: أَنَّ رِيحَ دَمِ الشَّهِيدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رِيحُ الْمِسْكِ؛ ((فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَا مِنْ مَكْلُومٍ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللهِ إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَكَلْمُهُ يَدْمَى، اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ)).

((مَا مِنْ مَكْلُومٍ)): مَجْرُوحٍ، ((يُكْلَمُ)): يُجْرَحُ، ((فِي سَبِيلِ اللهِ)) يَعْنِي: بِنِيَّةٍ خَالِصَةٍ للهِ، وَبَذْلِ النَّفْسِ؛ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ.

((إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَكَلْمُهُ يَدْمَى)) أَيْ: وَجُرْحُهُ يَثْعُبُ مِنْهُ الدَّمُ، وَيَسِيلُ كَهَيْئَتِهِ حِينَ جُرِحَ.

((اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ)): اللَّوْنُ أَحْمَرُ كَلَوْنِ الدَّمِ؛ وَلَكِنَّ الرِّيحَ رِيحُ الْمِسْكِ، وَلَيْسَ بِرِيحِ دَمٍ.

أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّهُ مَا مِنْ مَكْلُومٍ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللهِ.. بِأَنْ كَانَ مُخْلِصًا للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، بَاذِلًا نَفْسَهُ لِرَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، طَائِعًا رَاجِيًا مِنَ اللهِ ثَوَابَهُ، خَائِفًا مِنْ عِقَابِهِ؛ إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجُرْحُهُ يَدْمَى -يَسِيلُ مِنْهُ الدَّمُ- كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ جُرِحَ، اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ.

وَهَذَا فِيهِ فَضِيلَةُ مَنْ يُجْرَحُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَأَنَّ رَائِحَةَ دَمِهِ تَنْتَشِرُ فِي الْمَوْقِفِ، فَيَشُمُّهَا النَّاسُ جَمِيعًا، كَأَنَّهَا رَائِحَةُ الْمِسْكِ.

فَيُشْتَرَطُ لِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ؛ فَمَا مَعْنَى فِي سَبِيلِ اللهِ؟

أَنْ يَكُونَ مُخْلِصًا للهِ فِي الْعَمَلِ الَّذِي أَوْجَبَ جُرْحَهُ، وَأَنْ يَكُونَ عَمَلُهُ صَوَابًا عَلَى مَا شَرَعَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ.

فَإِذَا كَانَتِ النِّيَّةُ مَدْخُولَةً، أَوْ كَانَ الْعَمَلُ عَلَى غَيْرِ صَوَابٍ عَلَى السُّنَّةِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ كَلْمُهُ كَذَلِكَ؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِهِ)).

يُعْلَمُ مِنْ هَذَا: أَنَّ الَّذِينَ يَقْتُلُونَ أَنْفُسَهُمْ بِمَا يُسَمُّونَهُ بِالْعَمَلِيَّاتِ الِاسْتِشْهَادِيَّةِ -وَهِيَ لَيْسَتْ بِاسْتِشْهَادِيَّةٍ، وَإِنَّمَا هِيَ عَمَلِيَّاتٌ انْتِحَارِيَّةٌ، وَكَذَلِكَ مَا يَأْتِي بِهِ الْخَوَارِجُ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ؛ بِإِزْهَاقِ الْأَرْوَاحِ الْبَرِيئَةِ، وَسَفْكِ الدِّمَاءِ الْمَعْصُومَةِ، وَإِتْلَافِ الْأَمْوَالِ الْمُحَرَّمَةِ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ وَلَا هُدًى-؛ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا: أَنَّ عَمَلَهُمْ بَاطِلٌ، وَهُوَ مُوجِبٌ لِغَضَبِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَلَيْسَ بِمُوجِبٍ لِرِضَاهُ -كَمَا زَعَمُوا-.

وَلِهَذَا فَلْيَتَّقُوا اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي أَنْفُسِهِمْ، وَلْيَتَّقِ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الَّذِينَ يُفْتُونَهُمْ بِجَوَازِ مَا عَمِلُوا مِنَ الْإِفْسَادِ، وَلْيَعْلَمُوا أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِخَافٍ عَلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الَّذِي لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ.

قَالَ ﷺ: ((إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَكَلْمُهُ يَدْمَى)): يَنْزِلُ مِنْهُ الدَّمُ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ جُرِحَ.

فَمَا السَّبَبُ فِي تَغَيُّرِ رَائِحَةِ الدَّمِ -وَإِنْ كَانَ اللَّوْنُ لَوْنَ دَمٍ-؟

السَّبَبُ طِيبُ النِّيَّةِ، فَكَمَا طَيَّبَ نِيَّتَهُ؛ طَيَّبَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- رَائِحَةَ دَمِهِ، فَقَدْ بَذَلَ نَفْسَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَامْتَثَلَ الْأَمْرَ، وَكَانَتْ نِيَّتُهُ طَيِّبَةً، فَطَيَّبَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- رَائِحَةَ الدَّمِ، وَتِلْكَ الرَّائِحَةُ الْحَسَنَةُ يَسْتَدِلُّ بِهَا مَنْ شَمَّهَا عَلَى حُسْنِ عَمَلِ صَاحِبِهَا، وَطِيبِ نِيَّتِهِ، وَإِخْلَاصِهِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

يُرِيدُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يُظْهِرَ شَرَفَ مَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَجَعَلَ الدَّمَ بِلَوْنِهِ، وَجَعَلَ الرَّائِحَةَ رَائِحَةَ الْمِسْكِ، يَعْلَمُ ذَلِكَ أَهْلُ الْمَوْقِفِ)).

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «جِيءَ بِأَبِي يَوْمَ أُحُدٍ قَدْ مُثِّلَ بِهِ؛ حَتَّى وُضِعَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَقَدْ سُجِّيَ ثَوْبًا، فَذَهَبْتُ أُرِيدُ أَنْ أَكْشِفَ عَنْهُ، فَنَهَانِي قَوْمِي، ثُمَّ ذَهَبْتُ أَكْشِفُ عَنْهُ، فَنَهَانِي قَوْمِي، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَرُفِعَ، فَسَمِعَ صَوْتَ صَائِحَةٍ، فَقَالَ: ((مَنْ هَذِهِ؟)).

فَقَالُوا: ابْنَةُ عَمْرٍو، أَوْ أُخْتُ عَمْرٍو.

قَالَ: ((فَلِمَ تَبْكِي؟ أَوْ: لَا تَبْكِي، فَمَا زَالَتِ الْمَلَائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رُفِعَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي، فَصَعِدَا بِي الشَّجَرَةَ، وَأَدْخَلَانِي دَارًا هِيَ أَحْسَنُ وَأَفْضَلُ، لَمْ أَرَ قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهَا، قَالَ: أَمَّا هَذِهِ الدَّارُ فَدَارُ الشُّهَدَاءِ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((إِنَّ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ، تَعْلُقُ أَيْ: تَرْعَى- مِنْ ثَمَرِ الْجَنَّةِ، أَوْ قَالَ: مِنْ شَجَرِ الْجَنَّةِ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ.

وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((الشَّهِيدُ يَشْفَعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ حِبَّانَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ لِغَيْرِهِ.

وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((إِنَّ لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللهِ سَبْعَ خِصَالٍ: أَنْ يُغفَرَ لَه فِي أَوَّلِ دُفْعَةٍ مِنْ دَمِهِ، وَيُرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجنَّةِ، وَيُحَلَّى حُلَّةَ الْإِيمَانِ، وَيُجَارَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَيَأْمَنَ مِنَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ، وَيُوضَعَ عَلَى رَأْسِه تَاجُ الْوَقَارِ؛ الْيَاقُوتَةُ مِنْهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَيُزَوَّجُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، وَيُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ إِنْسَانًا مِنْ أَقَارِبِهِ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ.

وَعَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! مَا بَالُ الْمُؤْمِنِينَ يُفْتَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ إِلَّا الشَّهِيدَ؟)).

قَالَ: ((كَفَى بِبَارِقَةِ السُّيُوفِ عَلَى رَأْسِهِ فِتْنَةً)). أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ.

وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَجُلًا أَسْوَدَ أَتَى النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي رَجُلٌ أَسْوَدُ، مُنْتِنُ الرِّيحِ، قَبِيحُ الْوَجْهِ، لَا مَالَ لِي، فَإِنْ أَنَا قَاتَلْتُ هَؤُلَاءِ حَتَّى أُقْتَلَ؛ فَأَيْنَ أَنَا؟

قَالَ: ((فِي الْجَنَّةِ)).

فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ ﷺ، فَقَالَ: ((قَدْ بَيَّضَ اللهُ وَجْهَكَ، وَطَيَّبَ رِيحَكَ، وَأَكْثَرَ مَالَكَ))، وَقَالَ لِهَذَا أَوْ لِغَيْرِهِ: ((فَقَدْ رَأَيْتُ زَوْجَتَهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ نَازَعَتْهُ جُبَّةً لَهُ مِنْ صُوفٍ، تَدْخُلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جُبَّتِهِ)). أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

*وَمِنْ إِكْرَامِ اللهِ لِأَجْسَادِهِمُ الَّتِي بَذَلُوهَا لِأَجْلِهِ: إِبْقَاؤُهَا كَمَا هِيَ؛ فَلَا تَأْكُلُ الْأَرْضُ أَجْسَادَهُمْ.

فِي حَدِيثِ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: عِنْدَمَا دُفِنَ أَبُوهُ مَعَ آخَرَ، وَكَانَا قَدْ قُتِلَا فِي مَعْرَكَةِ أُحُدٍ، قَالَ جَابِرٌ: «...ثُمَّ لَمْ تَطِبْ نَفْسِي أَنْ أَتْرُكَهُ مَعَ الْآخَرِ، فَاسْتَخْرَجْتُهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَإِذَا هُوَ كَيَوْمِ وَضَعْتُهُ، لَمْ يَتَغَيَّرْ مِنْهُ شَيْءٌ سِوَى شَيْءٍ يَسِيرٍ فِي أُذُنِهِ)).

وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ، قَالَ: «لَمَّا أَرَادَ مُعَاوِيَةُ أَنْ يُجْرِيَ الْكِظَامَةَ قَالَ: قِيلَ: ((مَنْ كَانَ لَهُ قَتِيلٌ فَلْيَأْتِ قَتِيلَهُ يَعْنَي: قَتْلَى أُحُدٍ-، قَالَ: فَأَخْرَجْنَاهُمْ رِطَابًا يَتَثَنَّوْنَ، قَالَ: فَأَصَابَتِ الْمِسْحَاةُ إِصْبَعَ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَانْفَطَرَتْ دَمًا».

قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((وَلَا يُنْكِرُ بَعْدَ هَذَا مُنْكِرٌ أَبَدًا)).

نَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْنَا بِالشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِهِ، وَأَنْ يُحْسِنَ خِتَامَنَا أَجْمَعِينَ.

((الشَّهَادَةُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالِادِّعَاءِ))

إِنَّ الْمَكَانَةَ السَّامِيَةَ وَالدَّرَجَةَ الْعَالِيَةَ الَّتِي أَعَدَّهَا اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لِلشُّهَدَاءِ لَا يَنَالُهَا إِلَّا شَهِيدُ الْحَقِّ، فَهُنَاكَ شَهِيدُ الْحَقِّ، وَقَتِيلُ الْبَاطِلِ، فَالشَّهِيدُ الْحَقُّ هُوَ مَنْ دَافَعَ عَنْ دِينِهِ وَوَطَنِهِ ضِدَّ كُلِّ مُعْتَدٍ، وَبَذَلَ رُوحَهُ؛ فِدَاءً لِدِينِهِ، وَتَضْحِيَةً مِنْ أَجْلِ وَطَنِهِ، وَحِمَايَةً لِتُرَابِهِ، وَدِفَاعًا عَنْ أَهْلِهِ.

إِنَّ بِلَادَنَا بِلَادٌ إِسْلَامِيَّةٌ، وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَمَا دَامَتْ بِلَادُنَا إِسْلَامِيَّةً فَيَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَسْعَى لِاسْتِقْرَارِهَا، وَاكْتِمَالِ أَمْنِهَا، وَيَجِبُ حِيَاطَتُهَا بالرِّعَايَةِ، وَالْحِفَاظِ وَالْبَذْلِ.

قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِينٍ -كَمَا فِي شَرْحِهِ عَلَى ((رِيَاضِ الصَّالِحِينَ))-: ((حُبُّ الْوَطَنِ: إِنْ كَانَ إِسْلَامِيًّا فَهَذَا تُحِبُّهُ؛ لِأَنَّهُ إِسْلَامِيٌّ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ وَطَنِكَ الَّذِي هُوَ مَسْقَطُ رَأْسِكَ، وَالوَطَنِ الْبَعِيدِ عَنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، كُلُّهَا أَوْطَانٌ إِسْلَامِيَّةٌ يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَحْمِيَهَا)).

الْوَطَنُ إِنْ كَانَ إِسْلَاميًّا يَجِبُ أَنْ يُحَبَّ، وَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُشَجِّعَ عَلَى الْخَيْرِ فِي وَطَنِهِ، وَعَلى بَقَائِهِ إِسْلَامِيًّا، وَأَنْ يَسْعَى لِاسْتِقْرَارِ أَوْضَاعِهِ وَأَهْلِهِ، وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ الْمُسْلِمِينَ.

وَمِنْ لَوَازِمِ الْحُبِّ الشَّرْعِيِّ لِلْأَوْطَانِ الْمُسْلِمَةِ: أَنْ يُحَافَظَ عَلَى أَمْنِهَا وَاسْتِقْرَارِهَا، وَأَنْ تُجَنَّبَ الْأَسْبَابَ الْمُفْضِيَةَ إِلَى الْفَوْضَى وَالِاضْطِرَابِ وَالْفَسَادِ؛ فَالْأَمْنُ فِي الْأَوْطَانِ مِنْ أَعْظَمِ مِنَنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ عَلَى الْإِنْسَانِ.

فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَعْرِفَ قَدْرَ بَلَدِهِ الْإِسْلَامِيِّ، وَأَنْ يُدَافِعَ عَنْهُ، وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَحْصِيلِ اِسْتِقْرَارِهِ وَأَمْنِهِ، وبُعْدِهِ وَإِبْعَادِهِ عَنِ الْفَوْضَى، وَعَنْ الِاضْطِرَابِ، وَعَنْ وُقُوعِ الْمُشَاغَبَاتِ.

عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُحِبَّ بَلَدَهُ الْإِسْلَامِيَّ، وَأَنْ يُدَافِعَ عَنْهُ، وَأَنْ يَمُوتَ دُونَهُ؛ فَإِنَّ مَنْ مَاتَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَالْأَرْضُ مَالٌ، فَمَنْ مَاتَ دُونَ مَالِهِ فَهُو شَهِيدٌ.

أَمَّا قَتِيلُ الْبَاطِلِ -الَّذِي يَسْفِكُ دِمَاءَ الْأَبْرِيَاءِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَيُرَوِّعُ أَبْنَاءَ الْوَطَنِ، وَيُهَدِّدُ أَمْنَهُمْ وَأَمَانَهُمْ، وَيَسْعَى إِلَى نَشْرِ الْفَسَادِ وَالْفَوْضَى فِي الْأَرْضِ، وَيُرَوِّعُ الْآمِنِينَ بِعَمَلِيَّاتٍ انْتِحَارِيَّةٍ، وَتَفْجِيرَاتٍ إِرْهَابِيَّةٍ لَا يُقِرُّهَا دِينٌ، وَلَا يَقْبَلُهَا عَقْلٌ- لَا يُعَدُّ شَهِيدًا، وَوَصْفُهُ بِالشَّهِيدِ ادِّعَاءٌ كَاذِبٌ لَا صِحَّةَ لَهُ، وَتَحْرِيفٌ لِلْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ.

اللَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَمَرَ بِجِهَادِ الكُفَّارِ تَحْتَ وِلَايَةٍ مِنْ وِلَايَاتِ المُسْلِمِينَ، أَمَّا التَّفْجِيرُ وَالتَّدْمِيرُ وَالقَتْلُ وَالتَّخْرِيبُ، وَالتَّفْزِيعُ وَالتَّرْوِيعُ؛ فَهَذَا مِمَّا يَنْهَى عَنْهُ الإِسْلَامُ؛ لِأَنَّهُ يُسَبِّبُ شَرًّا عَلَى المُسْلِمِينَ قَبْلَ غَيْرِهِمْ، وَلِأَنَّهُ مَضَرَّةٌ مَحْضَةٌ بِدُونِ فَائِدَةٍ.

وَاللهُ -جَلَّ وَعَلَا- حَرَّمَ الِاعْتِدَاءَ عَلَى الأَنْفُسِ المَعْصُومَةِ وَالأَمْوَالِ المُحْتَرَمَةِ، وَحَرَّمَ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَجَعَلَهُ بَيْنَ عِبَادِهِ مُحَرَّمًا، وَنَهَاهُمْ -تَعَالَى- أَنْ يَتَظَالَمُوا.

وَالوَاجِبُ عَلَى المُسْلِمِينَ أَنْ يَتَعَاوَنُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّ الأَمْنَ مِنْ أَجَلِّ النِّعَمِ، كَمَا أَنَّ فَقْدَهُ مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ العَذَابِ؛ فَإِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- لَمَّا ذَكَرَ أَهْلَ القَرْيَةِ الَّتِي كَانَ يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَلَمْ تَشْكُرِ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا-؛ أَذَاقَهَا اللهُ لِباسَ الجُوعِ وَالخَوْفِ.

قَالَ تَعَالَى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].

إِنَّ احْتِرَامَ دِمَاءِ النَّاسِ وَاحْتِرَامَ أَمْوَالِهِمْ أَمْرٌ قَرَّرَتْهُ شَرِيعَةُ الإِسْلَامِ، وَحُرْمَةُ الدِّمَاءِ وَالأَمْوَالِ مِمَّا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ شَرَائِعُ اللهِ كُلُّهَا، وَأَكْمَلُهَا شَرِيعَةُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ.

وَقَدْ جَاءَ فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَعْظِيمُ أَمْرِ القَتْلِ، وَبَيَانُ خَطَرِهِ فِي الشَّرَائِعِ السَّابِقَةِ:

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عَنْ أَحَدِ ابْنَيْ آدَمَ: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة: 30].

وَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32].

وَقَالَ ﷺ: «لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ -أَيْ: نَصِيبٌ- مِنْ دَمِهَا؛ لأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ». رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.

وَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عَنْ رَسُولِهِ وَكَلِيمِهِ مُوسَى  أَنَّهُ قَالَ لِلخَضِرِ: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا} [الكهف: 74].

وَقَالَ اللهُ -تَعَالَى- عَنْهُ: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ ۖ قَالَ هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ * قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [القصص: 15- 16].

وَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ»: عن سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ، مَا أَسْأَلَكُمْ عَنِ الصَّغِيرَةِ، وَأَرْكَبَكُمْ لِلْكَبِيرَةِ، سَمِعْتُ أَبِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ  يَقُولُ: «إِنَّ الْفِتْنَةَ تَجِيءُ مِنْ هَاهُنَا، وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنَا الشَّيْطَانِ، وَأَنْتُمْ يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا قَتَلَ مُوسَى الَّذِي قَتَلَ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ خَطَأً، فَقَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لَهُ: {وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه: 40]».

وَقَوْلُ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ: «مَا أَسْأَلَكُمْ عَنِ الصَّغِيرَةِ، وَمَا أَرْكَبَكُمْ لِلْكَبِيرَةِ» يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى مَا جَاءَ عَنْ أَبِيهِ فِي «صَحِيحِ البُخَارِيِّ» أَنَّهُ سَأَلَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ العِرَاقِ عَنْ دَمِ البَعُوضِ؛ فَقَالَ: «انْظُرُوا إِلَى هَذَا! يَسْأَلُنِي عَن دَمِ البَعُوضِ، وَقَدْ قَتَلُوا ابْنَ النَّبِيِّ ﷺ، وَسَمِعْتُ النَّبِيَّ  يَقُولُ: «هُمَا -يَعْنِي الحَسَنَ وَالحُسَيْنَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-- رَيْحَانَتَايَ مِنَ الدُّنْيَا».

وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ} [البقرة: 84].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45].

بَلْ إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- حَرَّمَ تَحْرِيمًا أَكِيدًا أَنْ يَقْتُلَ الإِنْسَانُ نَفْسَهُ، وَقَدْ جَاءَ مِنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَفِي سُنَّةِ نَبِيِّهِ  مَا هُوَ كَافٍ شَافٍ.

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ ۚ وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا ۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء: 29- 30].

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ فِي الدُّنْيَا عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَقَدْ رَوَى البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ -أَيْضًا-: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ  قَالَ: «مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فيه خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَحَسَّى سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَسُمُّهُ فِي يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَجَأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا».

وَعِنْدَ البُخَارِيِّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «الَّذِي يَخْنُقُ نَفْسَهُ يَخْنُقُهَا فِي النَّارِ، وَالَّذِي يَطْعُنُهَا يَطْعُنُهَا فِي النَّارِ».

وَكَذَلِكَ مَنْ فَجَّرَ نَفْسَهُ يُفَجِّرُهَا فِي النَّارِ، مَنْ أَدَّى عَمَلُهُ إِلَى شَيْءٍ يُذْهِبُ حَيَاتَهُ؛ فَهُوَ بِذَلِكَ يَفْعَلُهُ فِي النَّارِ؛ كَمَا قَالَ المُخْتَارُ ﷺ.

وَفِي هَذَا الحَدِيثِ فِي «مُسْنَدِ الإِمَامِ أَحْمَدَ» وَغَيْرِهِ زِيَادَةٌ: «وَالَّذِي يَتَقَحَّمُ فِيهَا يَتَقَحَّمُ فِي النَّارِ».

وَفِي «صَحِيحَيِ البُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ»: عَنِ الحَسَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا جُنْدُبٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي هَذَا المَسْجِدِ، فَمَا نَسِينَا، وَمَا نَخَافُ أَنْ نَنْسَى، وَمَا نَخَافُ أَنْ يَكْذِبَ جُنْدُبٌ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «كَانَ بِرَجُلٍ جِرَاحٌ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَقَالَ اللهُ: بَدَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ؛ حَرَّمْتُ عَلَيْهِ اْلجَنَّةَ».

وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي «صَحِيحِهِ»: عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «أَنَّ رَجُلًا كَانَتْ بِهِ جِرَاحَةٌ فَأَتَى قَرْنًا لَهُ، فَأَخَذَ مِشْقَصًا فَذَبَحَ بِهِ نَفْسَهُ، فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ». وَهُوَ صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ.

يَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ}، وَهَذَا يَشْمَلُ قَتْلَ الإِنْسَانِ نَفْسَهُ وَقَتْلَهُ لِغَيْرِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَا يَجُوزُ لِلإِنْسَانِ أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُحَافِظَ عَلَى نَفْسِهِ غَايَةَ المُحَافَظَةِ، وَلَا يَمْنَعُ هَذَا أَنَّهُ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَيُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَوْ تَعَرَّضَ لِلقَتْلِ وَالشَّهَادَةِ، أَمَّا أَنْ يَتَعَمَّدَ قَتْلَ نَفْسِهِ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ.

وَفِي عَهْدِ النَّبِيِّ  فِي بَعْضِ الغَزَوَاتِ كَانَ أَحَدُ الشُّجْعَانِ يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ مَعَ الرَّسُولِ ﷺ، فَقَالَ النَّاسُ مُثْنِينَ عَلَيْهِ: مَا أَبْلَى مِنَّا أَحَدٌ مِثْلَ مَا أَبْلَى فُلَانٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ مَعَ ذَلِكَ الوَصْفِ: «هُوَ فِي النَّارِ»!!

هَذَا قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ، فَصَعُبَ ذَلِكَ عَلَى الصَّحَابَةِ، كَيْفَ بِمِثْلِ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يُقَاتِلُ وَلَا يَتْرُكُ مِنَ الكُفَّارِ أَحَدًا إلَّا تَبِعَهُ وَقَاتَلَهُ؛ كَيْفَ يَكُونُ فِي النَّارِ؟!!

فَتَبِعَهُ رَجُلٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَرَاقَبَهُ وَتَتَّبَعَهُ، فَجُرِحَ الرَّجُلُ، وَفِي النِّهَايَةِ رَآهُ وَضَعَ غِمْدَ السَّيْفِ عَلَى الأَرْضِ، وَجَعَلَ ذُبَابَةَ السَّيْفِ تَحْتَ ثَدْيِهِ الأَيْسَرِ، ثُمَّ اتَّكَأَ مُتَحَامِلًا عَلَى سَيْفِهِ، فَدَخَلَ السيفُ مِنْ صَدْرِهِ، وَخَرَجَ مِن ظَهْرِهِ؛ فَمَاتَ؛ فَقَالَ الصَّحَابيُّ: صَدَقَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَعَرَفُوا أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ لَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى .

لِمَاذَا دَخَلَ النَّارَ مَعَ هَذَا العَمَلِ؟! وَكَانَ يُجَاهِدُ، لَا يَدَعُ شَاذَّةً وَلَا فَاذَّةً، وَلَمْ يُبْلِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ مَا أَبْلَاهُ؛ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمَّا انْتَحَرَ -فَلَمَّا قَتَلَ نَفْسَهُ-؛ دَخَلَ النَّارَ -وَالعِيَاذُ بِالعَزِيزِ الغَفَّارِ-، قَتَلَ نَفْسَهُ، وَلَم يَصْبِرْ!!

فَلَا يَجُوزُ لِلإِنْسَانِ أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ بِحُجَّةِ الجِهَادِ، بِحُجَّةِ البَحْثِ عَنِ الشَّهَادَةِ، بِحُجَّةِ أَنَّهَا مِنَ العَمَلِيَّاتِ الِاسْتِشْهَادِيَّةِ، بَلْ هِيَ عَمَلِيَّاتٌ انْتِحَارِيَّةٌ، وَلَا تَجُوزُ فِي أَيِّ دِينٍ، هَذَا خَطَأٌ كَبِيرٌ.

وَالَّذِي يَمْلكُ تَفْنِيدَ الأَدِلَّةِ مِنَ الإِثْخَانِ فِي العَدُوِّ وَالتُّرْسِ وَمَا أَشْبَهَ، الَّذِي يَمْلِكُ الجَوَابَ عَنْ هَذِهِ الأُمُورِ هُمُ الَّذِينَ يَحْمِلُ عَلَيْهِمْ مَنْ يَحْمِلُ الحَمْلَةَ الشَّعْوَاءَ، وَفِي الوَقْتِ نَفْسِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ جَوَابًا عَنْ هَذِهِ الشُّبُهَاتِ.

فَخَلُّوا -عِبَادَ اللهِ- عَنْ أَهْلِ العِلْمِ حَتَّى يَتَكَلَّمُوا مَعَ هَؤُلَاءِ، فَإِنَّ المَعْرَكَةَ مَعْرَكَةُ عَقِيدَةٍ، لَا يُفْلِحُ فِي خَوْضِهَا الزَّائِغُونَ، وَلَا المُنْحَرِفُونَ، وَلَا المُتَحَلِّلُونَ، وَلَا الَّذِينَ يُحَارِبُونَ الدِّينَ، وَلَا الَّذِينَ يَنْسِفُونَ تُرَاثَ المُسْلِمِينَ، هَؤُلَاءِ يَزِيدُونَ النَّارَ اشْتِعَالًا؛ لِأَنَّ الشَّابَّ إِذَا رَأَى مَنْ يُهَرْطِقُ فِي دِينِ اللهِ، وَيُجَدِّفُ فِيهِ، فَإِنَّهُ يُكَفِّرُهُ.

ثُمَّ كَمَا هِيَ القَاعِدَةُ عِنْدَ التَّكْفِيرِيِّينَ: يَسْحَبُ ذَيْلَ التَّكْفِيرِ فَيَقُولُ: إِنَّ السُّلْطَةَ الَّتِي لَا تَمْنَعُ هَذَا الزِّنْدِيقَ المُهَرْطِقَ المُجَدِّفَ الَّذِي يَحْمِلُ عَلَى دِينِ اللهِ، وَيَنْسِفُ مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ وَصْفُهَا كوَصْفِهِ!!

ثُمَّ يَقُولُ: وَالمُجْتَمَعُ الَّذِي يَسْكُتُ عَلَى هَذَا كُلِّهِ وَصْفُهُ كَوَصْفِ السُّلْطَةِ وَوَصْفِ المُهَرْطِقِ!! وَمِنْ هُنَا انْسَحَبَ ذَيْلُ التَّكْفِيرِ عَلَى المُجْتَمَعِ كُلِّهِ!!

اتَّقُوا اللهَ!

اتَّقُوا اللهَ فِي هَذَا البَلَدِ!

اتَّقُوا اللهَ فِي مُسْتَقْبَلِ الإِسْلَامِ فِيهِ!

اتَّقُوا اللهَ فِي الدِّمَاءِ!

إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.

يَقُولُ المَأْمُونُ ﷺ: «لَا يَزَالُ المُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا». أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ.

فَاحْتِرَامُ الأَمْوَالِ وَالدِّمَاءِ أَمْرٌ مَطْلُوبٌ شَرْعًا، وَالسَّعْيُ فِي زَعْزَعَةِ أَمْنِ الأُمَّةِ إِنَّمَا يَصْدُرُ مِنْ أُنَاسٍ فَهِمُوا الإِسْلَامَ عَلَى غَيْرِ فَهْمِهِ الشَّرْعِيِّ، وَجَاءَهُمُ الشَّيْطَانُ وَزَيَّنَ لَهُمُ البَاطِلَ؛ فَظَنُّوهُ حَقًّا، وَذَلِكَ مِنْ قُصُورِ الإِيمَانِ وَالعِلْمِ، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر: 8].

وَمَا أَرَادُوهُ إِلَّا لِكَيْدِ الأُمَّةِ وَالنَّيْلِ مِنْهَا، وَزَعْزَعَةِ دَوْلَةِ الإِسْلَامِ، وَمَحَبَّةِ إِظْهَارِ الفَوْضَى فِي بِلَادِ المُسْلِمِينَ، وَهَؤُلَاءِ جَهَلَةٌ خُدِعُوا وَغُرِّرَ بِهِمْ، وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ مِنَ العِلْمِ مَا يَحْمِلُهُمْ عَلَى اتِّقَاءِ هَذِهِ المَصَائِبِ العَظِيمَةِ، وَأَعْدَاءُ الأُمَّةِ سَاعُونَ فِي الإِضْرَارِ بِالأُمَّةِ بِكُلِّ مَا أُوتُوا؛ بِالمَكَائِدِ مِنْ قِيلَ وَقَالَ، وَأَرَاجِيفَ وَإِشَاعَاتٍ بَاطِلَةٍ، وَمِنْ إِيحاءٍ لِضِعَافِ البَصَائِرِ؛ لِيَسْتَغِلُّوهُمْ فِي بَاطِلِهِمْ وَلِيَجْعَلُوهُمْ سَبَبًا لِحُصُولِ مَا يَحْصُلُ مِنَ النَّكَبَاتِ لِلأُمَّةِ.

فَاليَقَظَةُ وَالِانْتِبَاهُ وَاجِبَانِ لِمَعْرِفَةِ مُخَطَّطَاتِ أَعْدَاءِ الإِسْلَامِ، وَلْيَكُنِ المُسْلِمُونَ عَلَى حَذَرٍ مِنْ هَذِهِ الأُمُورِ، فَإِنَّ أَعْدَاءَ اللهِ لَا يُرِيدُونَ لَنَا نُصْحًا، وَإِنَّمَا يُحِبُّونَ أَنْ يُوقِعُوا بَيْنَنَا العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ.

فَلْيَحْذَرِ المُسْلِمُ أَنْ يَكُونَ مَطِيَّةً لِأَعْدَائِهِ؛ يُوَجِّهُهُ الأَعْدَاءُ كَيْفَ شَاءُوا، وَلْيَكُنْ عَلَى ثِقَةٍ بِدِينِهِ، وَلْيَسْتَقِمْ عَلَى الخَيْرِ، وَلْيَتَعَاوَنِ المُسْلِمُونَ جَمِيعًا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى.

وَلْيَحْذَرِ المُسْلِمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَوْنًا لِكُلِّ مُجْرِمٍ وَلِكُلِّ مُفْسِدٍ، فَإِنَّهَا تُخِلُّ بِالأَمَانَةِ الشَّرْعِيَّةِ، فَأَمْنُ هَذَا البَلَدِ عُمُومًا مَسْئُولِيَّةُ كُلِّ فَرْدٍ مِنَّا، حَمَى اللهُ بِلَادَ المُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ سُوءٍ وَجَنَّبَهَا المَهَالِكَ، وَكَفَاهَا شَرَّ الأَعْدَاءِ، وَبَصَّرَ الأُمَّةَ فِي دِينِهَا.

((أَنْوَاعٌ مِنَ الشُّهَدَاءِ مِنْ أُمَّةِ النَّبِيِّ ﷺ ))

عِبَادَ اللهِ! لَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ دِينَ الْمُرُوءَةِ وَالشَّهَامَةِ، وَالْعِفَّةِ، وَحِفْظِ الْأَنْفُسِ وَالْأَعْرَاضِ وَالْأَمْوَالِ وَالْحُقُوقِ؛ جَعَلَ مَنْ مَاتَ فِي سَبِيلِ الدِّفَاعِ عَنْ ذَلِكَ شَهِيدًا؛ فَقَدْ سَأَلَ النَّبِيُّ ﷺ أَصْحَابَهُ يَوْمًا عَنِ الشَّهِيدِ: ((مَا تَعُدُّونَ الشَّهِيدَ فِيكُمْ؟)).

فَقَالُوا: الَّذِي يَمُوتُ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

يَمُوتُ فِي سَاحَةِ الْوَغَى، فِي سَاحَةِ الْقِتَالِ.

فَقَالَ ﷺ: ((إِنَّ شُهَدَاءَ أُمَّتِي إِذَنْ لَقَلِيلٌ)).

ثُمَّ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنْوَاعًا مِنَ الشُّهَدَاءِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَلَيْسُوا مِمَّنْ مَاتَ فِي الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَلَا فِي سَاحَةِ الْمَعْرَكَةِ.

شَهِيدُ الْمَعْرَكَةِ.. وَمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا؛ هَذَا شَهِيدُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ هَذَا يُكَفَّنُ فِي ثِيَابِهِ، لَا يُغَسَّلُ، وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَيَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجُرْحُهُ يَخْرُجُ مِنْهُ رِيحُ الْمِسْكِ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ، مَعَ أَنَّ اللَّوْنَ لَوْنُ الدَّمِ.

هَذَا شَهِيدُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَأَمَّا شُهَدَاءُ الْآخِرَةِ -لَا شُهَدَاءُ الدُّنْيَا-؛ فَلَا تَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ شَهَادَةِ الْقَتْلِ فِي الْمَعَارِكِ جِهَادًا فِي سَبِيلِ اللهِ.

الَّذِي يُدَافِعُ عَنْ مَالِهِ، عَنْ عِرْضِهِ، يُدَافِعُ عَنْ دَمِهِ؛ هَذَا إِذَا مَاتَ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَأَمَّا مَنِ اعْتَدَى عَلَيْهِ؛ فَهَذَا قَاتِلٌ، يُحَاسِبُهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- حِسَابَ الْقَاتِلِينَ الْمُعْتَدِينَ.

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الْمَبْطُونُ شَهِيدٌ))، مَنْ قَتَلَهُ بَطْنُهُ فَهُوَ شَهِيدٌ؛ يَعْنِي: الَّذِي يُصَابُ فِي كَبِدِهِ فَيَمُوتُ بِهِ، أَوْ فِي كُلْيَتَيْهِ فَيَمُوتُ بِذَلِكَ، الَّذِي يَأْتِيهِ سَرَطَانٌ فِي الْأَمْعَاءِ، أَوْ فِي الْمُسْتَقِيمِ، أَوْ فِي الْمَثَانَةِ، أَوْ فِي الْبُرُوسْتَاتَا، أَوْ مَا أَشْبَهَ، يَعْنِي: مَا كَانَ مِنْ أَمْرٍ يَكُونُ مُؤَدِّيًا إِلَى الْمَوْتِ فِي الْبَطْنِ، فَإِنَّ مَنْ صَبَرَ عَلَى ذَلِكَ؛ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَاحْتِسَابًا عِنْدَ اللهِ مَا لَهُ مِنَ الْأَجْرِ الْحَسَنِ؛ فَهُوَ شَهِيدٌ.

فِي التَّقْسِيمِ الطِّبِيِّ التَّشْرِيحِيِّ الْحَدِيثِ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْبَطْنِ وَالْحَوْضِ؛ وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مَعْهُودًا عِنْدَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَالْقُرْآنُ عَرَبِيٌّ، فَمَهْمَا كَانَ مِنْ دَاءٍ فِي الْحَوْضِ مِنْ شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْتُ بَعْضَهُ، فَأَدَّى إِلَى الْوَفَاةِ؛ فَهُوَ أَيْضًا- دَاخِلٌ فِي قَوْلِ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((الْمَبْطُونُ شَهِيدٌ)).

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((صَاحِبُ السِّلِّ شَهِيدٌ))؛ السِّلُّ: هُوَ السُّلُّ، يَعْنِي: الْمَسْلُولُ الَّذِي يُصِيبُهُ السُّلُّ غَالِبًا فِي رِئَتَيْهِ، فَإِنَّهُ إِذَا مَاتَ بِذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ أَيْضًا- شَهِيدًا، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ.

((وَمَنْ مَاتَ مَطْعُونًا أَيْ: بِالطَّاعُونِ- فَهُوَ شَهِيدٌ)).

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((صَاحِبُ الْهَدْمِ شَهِيدٌ))؛ يَعْنِي: الَّذِي يَسْقُطُ عَلَيْهِ جِدَارٌ، يَسْقُطُ عَلَيْهِ السَّقْفُ، يُهْدَمُ عَلَيْهِ الْبَيْتُ، فَيَمُوتُ؛ هُوَ شَهِيدٌ، قَالَ ﷺ: ((صَاحِبُ الْهَدْمِ شَهِيدٌ)).

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((الْغَرِقُ شَهِيدٌ))، وَ((الْحَرِقُ شَهِيدٌ)) يَعْنِي: مَنْ مَاتَ غَرَقًا؛ فَهُوَ شَهِيدٌ أَيْضًا، وَمَنْ مَاتَ مَحْرُوقًا؛ فَهُوَ شَهِيدٌ أَيْضًا.

فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنْوَاعًا مِنَ الشُّهَدَاءِ، وَذَكَرَ لَوْنًا مِنَ الشَّهَادَةِ، كَانَ الصَّحَابَةُ أَنْفُسُهُمْ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِنَ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا سُئِلُوا عَنِ الشَّهِيدِ قَالُوا: الَّذِي يَمُوتُ فِي الْمَعْرَكَةِ، فَقَالَ: ((إِذَنْ شُهَدَاءُ أُمَّتِي قَلِيلٌ)).

* ذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ -أَيْضًا- مِنْ أَنْوَاعِ الشُّهَدَاءِ الْمَرْأَةَ تَمُوتُ فِي نِفَاسِهَا، ((فَتَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَجُرُّهَا وَلِيدُهَا بِسَرَرِهِ؛ حَتَّى يُدْخِلَهَا الْجَنَّةَ)) السَّرَرُ: هُوَ الْحَبْلُ السُّرِّيُّ.

فَتَصَوَّرْ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَالْمَرْأَةُ تَمُوتُ فِي أَثْنَاءِ الْوَضْعِ، أَوْ تَمُوتُ فِي أَثْنَاءِ النِّفَاسِ يَعْنِي: قَبْلَ أَنْ تَطْهُرَ مِنْ نِفَاسِهَا-؛ فَهَذِهِ.. يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ وَلَدَهَا يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَارًّا لَهَا بِسَرَرِهِ يَعْنِي: بِالْحَبْلِ السُّرِّيِّ-؛ حَتَّى يُدْخِلَهَا الْجَنَّةَ)).

كُلُّ هَؤُلَاءِ أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ لَهُمْ مَقَامًا عِنْدَ اللهِ؛ بِشَرْطِ أَنْ يَمُوتُوا عَلَى التَّوْحِيدِ، وَالصَّبْرِ عَلَى مَقَادِيرِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ، مُتَّبِعِينَ لِلنَّبِيِّ الْكَرِيمِ ﷺ.

كَمَا لَا يُحْرَمُ فَضْلَ الشَّهَادَةِ مَنْ سَأَلَهَا بِصِدْقِ نِيَّةٍ وَإِخْلَاصِ طَوِيَّةٍ، أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) بِسَنَدِهِ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: ((مَنْ سَأَلَ اللهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ؛ بَلَّغَهُ اللهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ؛ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ)).

((اتَّقُوا اللهَ فِي أَوْطَانِكُمْ!))

عِبَادَ اللهِ! يَنْبَغِي عَلَيْنَا جَمِيعًا أَنْ نَتَّقِيَ اللهَ -تَعَالَى- فِي دِينِنَا، وَفِي بَلَدِنَا، فِي إِسْلَامِنَا، وَفِي أَرْضِنَا.

عَلَيْنَا أَنْ نَتَّقيَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَمِيعًا فِي هَذِهِ الأُمَّةِ، وَفِي بِلَادِ الإِسْلَامِ مِنْ وَرَائِهَا.

يَنْبَغِي عَلَيْنَا جَمِيعًا أَنْ يُمْسِكَ لِسَانَهُ مَنْ لَا يَعْلَمُ مَا يَخْرُجُ مِنْ رَأْسِهِ، وَأَلَّا يَتَطَوَّعَ المُفْسِدُونَ الفَسَدَةُ بِنَثْرِ الِاتِّهَامَاتِ عَلَى البُرَآءِ، وَبِالتَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّاسِ، وَبِالتَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السُّلُطَاتِ، فَإِنَّهُمْ زِمامُ الأَمْنِ لِهَذَا الوَطَنِ.

وَأَمَّا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُشْعِلُونَ الفِتَنَ، فَإِنَّهُمْ يُرِيدُونَهَا فَوْضَى، تَنْطَلِقُ فِيهَا الغَرَائِزُ مِنْ مَكَامِنِهَا، وَتَشْرَئِبُّ فِيهَا النَّزَوَاتُ بِأَعْنَاقِهَا، يُرِيدُونَهَا فَوْضَى، لَا يُرِيدُونَهَا دِينًا بِـ«افْعَلْ، وَلَا تَفْعَلْ»؛ مِنْ أَجْلِ الحَقِّ وَالخَيْرِ وَالسَّلَامِ، وَمِنْ أَجْلِ أَنْ يَعُمَّ الخَيْرُ رُبُوعَ الدَّوْلَةِ، لَا يُرِيدُونَهَا هَكَذَا، هَؤُلَاءِ مَنْسُوبُونَ إِلَى غَيْرِ أَبْنَائِهَا، عَامِلُونَ عَلَى غَيْرِ أَجِنْدَةِ هَذِهِ الدَّوْلَةِ، هُمْ يَعْمَلُونَ عَلَى أَجِنْدَاتٍ لَا نَعْلَمُهَا.

يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَحْذَرَهُمْ، وَأَلَّا نُلْقِيَ بِأَسْمَاعِنَا إِلَى مَا يَهْرِفُونَ بِهِ، وَإِلَى مَا يُلْقُونَهُ مِنَ الأَسْمَاعِ إِلَى القُلُوبِ مِنَ السُّمِّ الزُّعَافِ، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ لَأَفْتَكُ بِالقُلُوبِ وَالأَبْدَانِ وَالحَيَاةِِ مِن سُمِّ الأَفَاعِي، مِنْ سُمِّ الأَسَاوِدِ.

فَيَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَتَّقِيَ اللهَ، وَأَنْ نُحَدِّدَ مَوْقفَنَا: مَعَ هَذَا الدِّينِ مَعَ هَذَا الوَطَنِ، أَمْ ضِدَّ هَذَا الدِّينِ وَضِدَّ هَذَا الوَطَنِ؟!!

وَلْيَمْضِ كُلٌّ بَعْدَ ذَلِكَ فِي طَرِيقِهِ.

وَاللَّهُ المُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.

اللهم بِأَسْمَائِكَ الْحُسْنَى وَصِفَاتِكَ الْمُثْلَى نَسْأَلُكَ الشَّهَادَةَ فِي سَبِيلِكَ فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ.

((مِنْ فَضَائِلِ شَهْرِ شَعْبَانَ))

عِبَادَ اللهِ! لَقَدْ أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ، عَنِ الحِبِّ بْنِ الْحِبِّ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَعَنْ أَبِيهِ وَعَنْ أُمِّهِ أُمِّ أَيْمَنَ حَاضِنَةِ رَسُولِ اللهِ ، وَأَيْمَنُ هُوَ أَخُو أُسَامَةَ لِأُمِّهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَعَنْ أُمِّهِ وَعَنْ أَبِيهِ-.

قَالَ: «قُلْتُ لِلنَّبِيِّ : مَا لِي أَرَاكَ تَصُومُ فِي شَهْرِ شَعْبَانَ مَا لَا تَصُومُ فِي غَيْرِهِ مِنَ الشُّهُورِ -يَعْنِي خَلَا رَمَضَانَ-؟!!

فَقَالَ النَّبِيُّ : «هَذَا شَهْرٌ يَغْفُلُ عَنْهُ أَكْثَرُ النَّاسِ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي فِيهِ وَأَنَا صَائِمٌ».

هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ ثَابِتٌ يُوَضِّحُ فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الْأَعْمَالَ تُرْفَعُ الرَّفْعَ السَّنَوِيَّ.

تُرْفَعُ الْأَعْمَالُ رَفْعًا يَوْمِيًّا كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ؛ إِذْ يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَلَائِكَةٌ كَمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ وَفِي صَلَاةِ الْعَصْرِ.

تُرْفَعُ الْأَعْمَالُ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هَكَذَا يَوْمِيًّا، ثُمَّ ((تُعْرَضُ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ -كَمَا فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهَا تُعْرَضُ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ-، وَيَغْفِرُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِلَّا لِمُشْرِكٍ، وَرَجُلٍ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيَقُولُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: أَجِّلَا هَذَيْنِ -أَنْظِرَا هَذَيْنِ- حَتَّى يَصْطَلِحَا)).

فَهَذَا عَرْضٌ أُسْبُوعِيٌّ فِي كُلِّ يَوْمِ اثْنَيْن وَخَمِيس.

ثُمَّ يَأْتِي الْعَرْضُ السَّنَوِيُّ عَلَى رَبِّ الْعِزَّةِ بِأَعْمَالِ خَلْقِهِ -جَلَّ وَعَلَا- فِي شَهْرِ شَعْبَانَ كَمَا أَخْبَرَ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ مُحَمَّدٌ ﷺ: ((هَذَا شَهْرٌ يَغْفُلُ عَنْهُ أَكْثَرُ النَّاسِ))؛ إِذْ إنَّهُ يَقَعُ بَيْنَ رَجَبٍ -وَهُوَ شَهْرٌ مِنَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَالْعَرَبُ كَانَتْ -حَتَّى فِي جَاهِلِيَّتِهَا- تُقَدِّسُ وَتَحْتَرِمُ الْأَشْهُرَ الحُرُمَ؛ فَكَيْفَ وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ نَصَّ عَلَى أَنَّهَا حُرُمٌ بِحُرْمَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ إِلَى أَنْ يَرِثَ اللهُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا؟!!

فَالْعَرَبُ كَانَتْ تُقَدِّسُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَالْمُسْلِمُونَ أَشَدُّ مَعْرِفَةً لِقَدْرِ الْأَشْهُرِ الحُرُمِ فِي هَذَا الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، فَالنَّاسُ يَعْرِفُونَ قَدْرَ شَهْرِ رَجَبٍ.

وَأَمَّا شَهْرُ رَمَضَانَ؛ فَإِنَّهُ شَهْرُ الْقُرْآنِ، وَشَهْرُ الْقِيَامِ وَالذِّكْرِ، وَشَهْرُ الصِّيَامِ، وَهُوَ شَهْرٌ مَعْلُومُ الْفَضِيلَةِ عِنْدَ النَّاسِ كَافَّةً.

وَأَمَّا هَذَا الشَّهْرُ شَهْرُ شَعْبَانَ؛ وَمَا سُمِّيَ شَعْبَانَ إِلَّا لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَشَعَّبُونَ فِيهِ فِي أَمْرِ الْغَزْوِ؛ إِذْ يَخْرُجُونَ مِنَ الشَّهْرِ الحَرَامِ مُتَعَطِّشِينَ إِلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ، كَمَا كَانَ الشَّأْنُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ؛ فَسُمِّيَ شَعْبَانَ لِهَذَا الْأَمْرِ الَّذِي مَرَّ ذِكْرُهُ.

فَيَقُولُ نَبِيُّنَا : إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ يَقَعُ بَيْنَ شَهْرَيْنِ مَعْلُومَيِ الْقَدْرِ، مَعْرُوفَيِ الْفَضْلِ عِنْدَ النَّاسِ كَافَّةً؛ وَعَلَيْهِ فَيَغْفُلُ عَنْهُ أَكْثَرُ النَّاسِ، ثُمَّ إِنَّهُ تُعْرَضُ فِيهِ الْأَعْمَالُ وَتُرْفَعُ، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ. هَذَا كَلَامُهُ .

*اسْتِعْدَادُ النَّبِيِّ ﷺ لِرَمَضَانَ بِكَثْرَةِ الصَّوْمِ فِي شَعْبَانَ:

إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَسْتَعِدُّ لِلدُّخُولِ عَلَى رَمَضَانَ؛ فَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَتْ: «مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَصُومُ فِي شَهْرٍ قَطُّ خَلَا رَمَضَانَ مَا كَانَ يَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ، وَإِنْ كَانَ لَيَصُومُ شَعْبَانَ إِلَّا قَلِيلًا».

وَفِي رِوَايَةٍ: «كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ».

فَكَانَ الرَّسُولُ  يَأْتِي إِلَى هَذَا الشَّهْرِ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ لَا يَتْرُكُ الصِّيَامَ، وَإِنَّمَا كَانَ يَصُومُ حَتَّى يُقَالَ: لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى يُقَالَ: لَا يَصُومُ، يُمَرِّنُ الْأُمَّةَ وَيُعَلِّمُهَا وَيُعَوِّدُهَا عَلَى هَذَا الْإِخْلَاصِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ لِأَنَّ هَذَا الصِّيَامَ يُنْتِجُ التَّقْوَى، كَمَا أَخْبَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي عِلَّةِ فَرْضِ هَذَا الشَّهْرِ عَلَى الْأُمَّةِ؛ {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، فَتُحَصِّلُونَ التَّقْوَى للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِهَذِهِ الْمُرَاقَبَةِ للهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ إِذْ هُوَ سِرٌّ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ.

((مَحَبَّةُ النَّبِيِّ ﷺ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلُهُ وَهُوَ صَائِمٌ))

إِذَا كَانَ عَمَلُ النَّبِيِّ ﷺ هُوَ الْعَمَلُ الَّذِي تَتَشَرَّفُ بِهِ الْإِنْسَانِيَّةُ، وَتَفْخَرُ بِهِ الْبَشَرِيَّةُ، وَالَّذِي لَا تَجِدُ فِيهِ هَنَةً مِنَ الْهَنَاتِ، وَلَا تَجِدُ فِيهِ -حَاشَا للهِ- سَقْطَةً مِنَ السَّقْطَاتِ، وَمَعَ ذَلِكَ يُحِبُّ -مَعَ كَمَالِ تَمَامِ عَمَلِهِ ﷺ- أَنْ يُرْفَعَ هَذَا الْعَمَلُ الْعَظِيمُ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَهُوَ صَائِمٌ ﷺ.

فِي حَالَةٍ مِنْ حَالَاتِ شَرَفِ النَّفْسِ مَعْلَومَةٍ لِكُلِّ مَنْ كَانَ صَائِمًا بِالْحَقِيقَةِ، لِكُلِّ مَنْ صَامَ قَلْبُهُ، وَصَامَتْ جَوَارِحُهُ تَبَعًا، فَصَامَ تَصَوُّرُهُ، وَصَامَ فِكْرُهُ، وَصَامَ يَقِينُهُ عَنِ الْوُقُوعِ فِي كُلِّ مَا يُغْضِبُ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا-.

لِكُلِّ مَنْ كَانَ صَائِمًا يَعْلَمُ حَالَةَ شَرَفِ النَّفْسِ الَّتِي تَكُونُ عَلَيْهَا النَّفْسُ، وَشَرَفِ الرُّوحِ عِنْدَمَا تَكُونُ مَوْصُولَةً بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، قَاطِعَةً حَاسِمَةً لِمَادَّةِ اللَّذَّةِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْعُرُوقِ بِالشَّهَوَاتِ؛ لِكَيْ تَصْفُوَ النَّفْسُ مُقْتَرِبَةً مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ.

يُحِبُّ نَبِيُّكُمْ ﷺ -مَعَ كَمَالِ تَمَامِ عَمَلِهِ- أَنْ يُعِرَضَ عَمَلُهُ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَهُوَ صَائِمٌ، فَكَيْفَ بِمَنْ عَمَلُهُ بِجِوَارِ عَمَلِ نَبِيِّهِ ﷺ كَحَبَّةٍ مِنْ رَمْلٍ فِي صَحْرَاءَ مُتَرَامِيَةِ الْأَطْرَافِ لَا يَبْلُغُ الطَّرْفُ مَدَاهَا، وَلَا تَنْتَهِي الْقَدَمُ إِلَى مُنْتَهَاهَا؟!!

فَكَيْفَ بِمَنْ عَمَلُهُ بِجِوَارِ عَمَلِ نَبِيِّهِ ﷺ كَقَطْرَةٍ فِي بَحْرٍ أَوْ أَقَلَّ؟!!

كَيْفَ وَالنِّسْبَةُ هَاهُنَا غَيْرُ مَعْقُولَةٍ وَلَا مَفْهُومَةٍ؟!!

كَيْفَ لَا يُحِبُّ الْمَرْءُ وَلَا يَحْرِصُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلُهُ فِي هَذَا الشَّهْرِ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَهُوَ صَائِمٌ كَمَا كَانَ الشَّأْنُ عِنْدَ نَبِيِّهِ ﷺ؟!!

((أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ))

عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يُصْلِحَ مَا أَفْسَدَهُ، وَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَصِلَ مَا قَطَعَهُ، وَعَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَكُونَ مُتَوَقِّيًا حَذِرًا.

وَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهَ- فَالتَّقْوَى هِيَ وَصِيَّةُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لِلْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131].

والتَّقْوَى: هِيَ أَنْ تَتَّقِيَ اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ بِفِعْلِ المَأْمُورِ وَتَرْكِ المَحْظُورِ، فَهَذِهِ تَقْوَى اللهِ.

 

((حَالُ الْمُسْلِمِ فِي شَهْرِ الْحَصَادِ))

*الِاجْتِهَادُ فِي تَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ، وَتَطْهِيرِ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ:

عِبَادَ اللهِ! الَّذِي يُرِيدُ النَّجَاةَ، يُرِيدُ أَنْ يَنْجُوَ مِنَ النَّارِ، وَأَنْ يَسْلَمَ مِنْهَا؛ عَلَيْهِ أَنْ يَلْحَظَ مُعْتَقَدَ الرَّسُولِ ﷺ بِعَيْنِ بَصِيرَتِهِ وَبِعَيْنِ الرِّعَايَةِ وَالِاهْتِمَامِ، وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ خَلَقَهُ اللهُ.

عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا فِي الْخَلَاصِ مِنَ الشِّرْكِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا؛ بِتَصْفِيَةِ الْقَلْبِ مِمَّا يَعْلَقُ بِهِ مِنَ الشَّوَائِبِ، وَمَا يَجُرُّ إِلَيْهِ الشِّرْكُ مِنْ تِلْكَ الْمَادَّةِ الْقَذِرَةِ بِالحَمْئَةِ الْمَسْنُونَةِ؛ مِنْ تِلْكَ الشَّحْنَاءِ بِالْبَغْضَاءِ، بِالْغِلِّ، بِالْحَسَدِ.

وَيَا لله! هَلْ تَجِدُ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ نَقِيَّ الْفِطْرَةِ سَوِيَّ الطَّوِيَّةِ يُمْكِنُ أَنْ يَنْطَوِيَ بَاطِنُهُ عَلَى مِثْلِ هَذَا القَذَرِ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؟!!

«وَلَا يُؤمِنُ أَحَدُكُم حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ، لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُم إِيمَانًا صَحِيحًا كَامِلًا مُعْتَبَرًا فِي مِيزَانِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مَقْبُولًا عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، فَكَيْفَ بِتِلْكَ الْمَادَّةِ الْقَذِرَةِ مِنَ الشَّحْنَاءِ، مِنَ الحِقْدِ، مِنَ الْغِلِّ، مِنَ الْحَسَدِ، مِنَ الْبَغْضَاءِ، تَنْطَوِي عَلَيْهَا نَفْسٌ مُشَوَّهَةٌ حَتَّى يَتَشَوَّهَ الظَّاهِرُ تَبَعًا؟!!

كَيْفَ يَصْلُحُ الْقَلْبُ؟

يَصْلُحُ الْقَلْبُ بِالْخُلُوصِ مِنَ الشِّرْكِ، وَالْبِدْعَةِ، وَالْحِقْدِ، وَمَذْمُومِ الْخِصَالِ.. هَذَا صَلَاحُ الْقَلْبِ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ رَتَّبَ الْجَزَاءَ عَلَى الشَّرْطِ: «إِذَا صَلَحَتْ؛ صَلَحَ»، «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً»: قِطْعَةٌ مِنَ اللَّحْمِ بِمِقْدَارِ مَا يُمْضَغُ -صَغِيرَةٌ هِيَ-، «إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ؛ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ».

هُنَا جَزَاءٌ قَدْ رُتِّبَ عَلَى شَرْطِهِ؛ فَلَا صَلَاحَ إِلَّا بِصَلَاحٍ، لَا صَلَاحَ لِلْجَسَدِ، لَا صَلَاحَ لِلْحَيَاةِ إِلَّا بِصَلَاحِ الْقَلْبِ -كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّـهِ ﷺ-، وَإِذَا فَسَدَ الْقَلْبُ فَسَدَ الْجَسَدُ.. وَفَسَدَتِ الْحَيَاةُ.

كَيْفَ صَلَاحُ الْقَلْبِ -إِذَنْ-؟

بِخُلُوصِهِ مِنَ الشِّرْكِ، وَخُلُوصِهِ مِنَ الْبِدْعَةِ، وَخُلُوصِهِ مِنَ الْحِقْدِ وَمَذْمُومِ الْخِصَالِ.

فِي «صَحِيحِ سُنَنِ ابْنِ مَاجَه»: عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: قِيلَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: مَنْ أَفْضَلُ النَّاسِ؟

فقال ﷺ: ((كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ -كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ هَذَا أَفْضَلُ النَّاسِ-)).

فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، صَدُوقُ اللِّسَانِ عَرَفْنَاهُ، فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ الَّذِي لَا إِثْمَ فِيهِ وَلَا بَغْيَ وَلَا غِلَّ فِيهِ وَلَا حَسَدَ» .

فَأَفْضَلُ الْأَعْمَالِ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَفْضَلُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- سَلَامَةُ الصَّدْرِ وَمَنْ كَانَ عَنِ الْغِلِّ وَالْحَسَدِ مُنَزَّهًا، وَمِنْ ذَلِكَ مُبَرَّءًا.

*عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَحْرِصَ عَلَى تَطْهِيرِ اللِّسَانِ مِنْ آفَاتِهِ:

قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((اعْلَمْ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِكُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَحْفَظَ لِسَانَهُ عَنْ جَمِيعِ الْكَلَامِ؛ إِلَّا كَلَامًا ظَهَرَتْ فِيهِ الْمَصْلَحَةُ، وَمَتَى اسْتَوَى الْكَلَامُ وَتَرْكُهُ فِي الْمَصْلَحَةِ؛ فَالسُّنَّةُ الْإِمْسَاكُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْجَرُّ الْكَلَامُ الْمُبَاحُ إِلَى حَرَامٍ أَوْ مَكْرُوهٍ، وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْعَادَةِ، وَالسَّلَامَةُ لَا يَعْدِلُهَا شَيْءٌ)).

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا، أَوْ لِيَصْمُتْ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَهَذَا الْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ يَنْبَغِي أَلَّا يُتَكَلَّمَ إِلَّا إِذَا كَانَ الْكَلَامُ خَيْرًا، وَهُوَ الَّذِي ظَهَرَتْ مَصْلَحَتُهُ، وَمَتَى شَكَّ فِي ظُهُورِ الْمَصْلَحَةِ؛ فَلَا يَتَكَلَّمُ.

عِبَادَ اللهِ! لَمَّا كَانَتِ التَّخْلِيَةُ مُقَدَّمَةً عَلَى التَّحْلِيَةِ؛ فَلْنُرَكِّزْ عَلَى أَمْرَيْنِ، أَمَّا أَحَدُهُمَا؛ فَتَخْلِيَةٌ، وَأَمَّا الْآخَرُ؛ فَتَحْلِيَةٌ.

*فَأَمَّا التَّخْلِيَةُ: تَطْهِيرُ اللِّسَانِ مِنْ آفَاتِهِ:

فَقَدْ رَهَّبَ النَّبِيُّ مِنَ الْغِيبَةِ وَالْفُحْشِ، وَقَوْلِ الزُّورِ وَالْكَذِبِ.

وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَدْ بَيَّنَ لَنَا أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا اغْتَابَ أَخَاهُ؛ فَكَأَنَّمَا أَكَلَ لَحْمَهُ مَيْتًا، وَهُوَ أَمْرٌ تَكْرَهُهُ الطِّبَاعُ، وَتَنْفِرُ مِنْهُ النُّفُوسُ؛ وَلَكِنْ هَكَذَا هُوَ فِي قُبْحِهِ، هَكَذَا هُوَ فِي شَنَاعَتِهِ.

عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ؛ دَمُهُ وَعِرْضُهُ، وَمَالُهُ».

وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : «الرِّبَا اثْنَانِ وَسَبْعُونَ بَابًا، أَدْنَاهَا مِثْلُ إِتْيَانِ الرَّجُلِ أُمَّهُ، وَإِنَّ أَرْبَى الرِّبَا: اسْتِطَالَةُ الرَّجُلِ فِي عِرْضِ أَخِيهِ».

فَأَقلُّ دَرَجَةٍ فِي الرِّبَا هِيَ أَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الزِّنَا، وَأَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الرِّبَا الَّذِي أَقَلُّ دَرَجَةٍ مِنْهُ كَأَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الزِّنَا؛ أَكْبَرُ دَرَجَةٍ فِي الرِّبَا: عِرْضُ الْمُسْلِمِ.

وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : «لَمَّا عُرِجَ بِي؛ مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمِشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟».

قَالَ: «هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ، وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ».

فَالنَّبِيُّ يُحَذِّرُ مِنْ أَكْلِ لُحُومِ النَّاسِ، وَمِنَ الْوُقُوعِ فِي أَعْرَاضِهِمْ، فَتَخْلِيَةُ اللِّسَانِ مِنْ آفَاتِهِ مِنْ أَهَمِّ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُدَرِّبَ الْمَرْءُ نَفْسَهُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الشَّهْرِ، وَأَنْ يُمْسِكَ لِسَانَهُ إِلَّا عَنْ خَيْرٍ؛ لِأَنَّ الْمَرْءَ قَدْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَعْمَالٍ صَالِحَاتٍ، فَيَأْخُذُ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، حَتَّى إِذَا فَنِيَتْ؛ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ؛ فَطُرِحَ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ.

وَلَيْسَتِ الْغِيبَةُ أَنْ تَذْكُرَ أَخَاكَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ؛ هَذَا بُهْتَانٌ، وَأَمَّا الْغِيبَةُ؛ فَأَنْ تَذْكُرَ أَخَاكَ بِمَا هُوَ فِيهِ مِمَّا يَكْرَهُهُ..

نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُطَهِّرَ أَلْسِنَتَنَا مِنَ الغِيبَةِ وَالبُهْتَانِ، وَأَعْيُنَنَا وَسَمْعَنَا مِنَ الخِيَانَةِ، وَجَوَارِحَنَا مِنَ الظُّلْمِ.

فَنُطَهِّرُ اللِّسَانَ مِنْ آفَاتِهِ، هَذِهِ التَّخْلِيَةُ، وَالتَّخْلِيَةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى التَّحْلِيَةِ.

أَلَا تَرَى إِنَّكَ إِنْ تَلَوْتَ الْقُرْآنَ، وَذَكَرْتَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَسَبَّحْتَهُ؛ وَهَذِهِ تَحْلِيَةٌ تَأْتِي بِهَا بِاللِّسَانِ، وَلَمْ تُخَلِّ اللِّسَانَ مِنْ آفَاتِهِ، بَدَّدَ عَلَيْكَ اللِّسَانُ بِآفَاتِهِ مَا حَصَّلْتَهُ مِنْ حَسَنَاتٍ؟!!

فَالتَّخْلِيَةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى التَّحْلِيَةِ.

رَسُولُ اللهِ ﷺ الَّذِي بَعَثَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ؛ لِيُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ؛ يُرْسِي قَوَاعِدَهَا، وَيُرْسِي أُصُولَهَا، وَيَدْعُو إِلَيْهَا، وَأَقَامَ عَلَيْهَا بُنْيَانًا تَبَدَّى فِي الْجِيلِ الْمِثَالِيِّ الْأَوَّلِ -فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ، فِي الْقَرْنِ الْأَوَّلِ الْمُفَضَّلِ، ثُمَّ مَا زَالَتِ الْأُمُورُ تَنْقُصُ بَعْدُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَا يَأْتِي عَلَى النَّاسِ عَامٌ إِلَّا وَالَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ)).

فَيَنْبَغِي عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَّقِيَ اللهَ رَبَّهُ، وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي الْحِفَاظِ عَلَى مَنْطِقِهِ، وَأَنْ يُرَاقِبَ مُرَاقَبَةً تَامَّةً -كَمَا لَوْ كَانَ يُرَاقِبُ عَدُوًّا لَدُودًا يَسْعَى فِي هَلَاكِهِ، أَنْ يُرَاقِبَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ- لِسَانَهُ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَلِمَةٌ خَرَجَتْ مِنْهُ فَأَوْرَدَتْهُ الْمَهَالِكَ؛ ((وَإِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ، لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ»..

((وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمَ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ يَكْتُبُ اللهُ عَلَيْهِ بِهَا سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ)).

عِبَادَ اللهِ! أَمْسِكُوا أَلْسِنَتَكُمْ -يَرْحَمُكُمُ اللهُ- !!

كُفُّوا أَلْسِنَتَكُمْ!!

لَا تَتَكَلَّمُوا إِلَّا فِيمَا تُحْسِنُونَ!!

((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَومِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ)).

فَنَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُسَدِّدَ أَلْسِنَتَنَا، وَأَنْ يُطَهِّرَهَا مِنْ كُلِّ مَا يُغْضِبُهُ، وَمِنْ كُلِّ مَا يَسُوءُ، وَأَنْ يُحْسِنَ خِتَامَنَا أَجْمَعِينَ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ، صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَومِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((رِحْلَةُ الْعَوْدَةِ تَبْدَأُ بِالتَّوْبَةِ الصَّادِقَةِ))

فَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: أَنْ فَتَحَ بَابَ التَّوْبَةِ، وَجَعَلَهُ فَجْرًا تَبْدَأُ مَعَهُ رِحْلَةُ الْعَوْدَةِ بِقُلُوبٍ مُنْكَسِرَةٍ، وَدُمُوعٍ مُنْسَكِبَةٍ، وَجِبَاهٍ خَاضِعَةٍ.

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الحجر: 50].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا- حَاثًّا عَلَى التَّوْبَةِ وَالرُّجُوعِ وَالْأَوْبَةِ: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31].

وَصَحَّ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ -كَمَا رَوَى ذَلِكَ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ»- أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللهَ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا».

وَهَذَا نَبِيُّ الرَّحْمَةِ، قَدْ غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ! تُوبُوا إِلَى اللهِ؛ فَإِنِّي أَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ مِئَةَ مَرَّة». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

فَانْظُرْ وَتَأَمَّلْ فِي فَضْلِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَى التَّائِبِ الْعَائِدِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ». أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَلَا يَأْخُذْكَ الْهَوَى وَمُلْهِيَاتُ النَّفْسِ؛ فَإِنَّ الرَّسُولَ ﷺ قَالَ: «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى».

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَنْ يَأْبَى؟

قَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى». أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

فَهَذَا الْحَدِيثُ بِشَارَةٌ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِالْجَنَّةِ؛ إِلَّا صِنْفًا مِنْهُمْ لَا يُرِيدُونَ دُخُولَهَا، لَا زُهْدًا فِيهَا؛ وَلَكِنْ جَهْلًا بِالطَّرِيقِ الْمُوصِلَةِ إِلَيْهَا، وَتَرَاخِيًا وَتَكَاسُلًا عَنْ دُخُولِهَا، وَتَفْضِيلًا لِهَذِهِ الْمُتَعِ الدُّنْيَوِيَّةِ الزَّائِلَةِ عَلَى تِلْكَ النِّعَمِ الْخَالِدَةِ الْبَاقِيَةِ.

جِدَّ فِي التَّوْبَةِ، وَسَارِعْ إِلَيْهَا، فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ مُسْتَرَاحٌ إِلَّا تَحْتَ شَجَرَةِ طُوبَى، وَلَا لِلْمُحِبِّ قَرَارٌ إِلَّا يَوْمَ الْمَزِيدِ.

فَسَارِعْ إِلَى التَّوْبَةِ، وَهُبَّ مِنَ الْغَفْلَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ خَيْرَ أَيَّامِكَ يَوْمُ الْعَوْدَةِ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَاصْدُقْ فِي ذَلِكَ الْمَسِيرِ، وَلْيَهْنِكَ حَدِيثُ الرَّسُولِ ﷺ: «لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ -أَيْ رَاحِلَتُهُ-، وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتَى شَجَرَةً، فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا، وقَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ.

فَبَيْنَما هُوَ كَذَلِكَ؛ إِذْ هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «إنَّ قَوْمًا أَلْهَتْهُمْ أَمَانِيُّ الْمَغْفِرَةِ، حَتَّى خَرَجُوا مِنْ الدُّنْيَا بِغَيْرِ تَوْبَةٍ، يَقُولُ أَحَدُهُمْ: إِنِّي أُحْسِنُ الظَّنَّ بِرَبِّي، وَكَذَبَ!! لَوْ أَحْسَنَ الظَّنَّ لَأَحْسَنَ الْعَمَلَ».

وَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ قَوَّامٌ عَلَى نَفْسِهِ، يُحَاسِبُ نَفْسَهُ لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَإِنَّمَا خَفَّ الْحِسَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى قَوْمٍ حَاسَبُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا شَقَّ الْحِسَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى قَوْمٍ أَخَذُوا هَذَا الْأَمْرَ مِنْ غَيْرِ مُحَاسَبَةٍ.

إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَفْجَؤُهُ الشَّيْءُ يُعْجِبُهُ فَيَقُول: وَاللهِ إِنِّي لَأَشْتَهِيكَ، وَإِنَّكَ لَمِنْ حَاجَتِي؛ وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا مِنْ صِلَةٍ إِلَيْكَ، هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ، حِيلَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ، وَيُفْرِطُ مِنْهُ الشَّيْءُ، فَيَرْجِعُ إِلَى نَفْسِهِ فَيَقُولُ: مَا أَرَدْتُ إِلَى هَذَا، مَا لِي وَلِهَذَا؟ وَاللَّهِ لَا أَعُودُ لِهَذَا أَبَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَوْمٌ أَوْثَقَهُمُ الْقُرْآنُ، وَحَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ هَلَكَتِهِمْ، إِنَّ الْمُؤْمِنَ أَسِيرٌ فِي الدُّنْيَا، يَسْعَى فِي فِكَاكِ رَقَبَتِهِ، لَا يَأْمَنُ شَيْئًا حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ-، يَعْلَمُ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ عَلَيْهِ فِي سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَلِسَانِهِ وَجَوَارِحِهِ».

إِنَّ جِهَادَ النَّفْسِ جِهَادٌ طَوِيلٌ، وَطَرِيقٌ مَحْفُوفٌ بِالْمَكَارِهِ، مَذَاقُهُ مُرٌّ، ومَلْمَسُهُ خَشِنٌ؛ فَعَلَيْكَ بِالسَّيْرِ فِي رِكَابِ التَّائِبِينَ، حَتَّى تَحُطَّ رِحَالَكَ فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ.

*سَتَمُوتُ وَحْدَكَ.. وَتَدْخُلُ الْقَبْرَ وَحْدَكَ!!

قَالَ الْحَسَنُ: «ابْنَ آدَمَ؛ إِنَّكَ تَمُوتُ وَحْدَكَ، وَتَدْخُلُ الْقَبْرَ وَحْدَكَ، وَتُبْعَثُ وَحْدَكَ، وَتُحَاسَبُ وَحْدَكَ، إِنَّكَ تَمُوتُ وَحْدَكَ، لَنْ يَمُوتَ أَحَدٌ عَنْكَ، وَتَدْخُلُ الْقَبْرَ وَحْدَكَ، لَنْ يَدْخُلَ الْقَبْرَ أَحَدٌ عَنْكَ، وَتُبْعَثُ وَحْدَكَ، لَنْ يُبْعَثَ أَحَدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْكَ، وَتُحَاسَبُ وَحْدَكَ، لَنْ يُحَاسَبَ أَحَدٌ عَنْكَ».

فَيَنْبَغِي لِكُلِّ ذِي لُبٍّ وَفِطْنَةٍ أَنْ يَحْذَرَ عَوَاقِبَ الْمَعَاصِي؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْآدَمِيِّ وَبَيْنَ اللهِ تَعَالَى قَرَابَةٌ وَلَا رَحِمٌ، وَإِنَّمَا هُوَ قَائِمٌ بِالْقِسْطِ، حَاكِمٌ بِالْعَدْلِ، وَإِنْ كَانَ حِلْمُهُ يَسَعُ الذُّنُوبَ؛ إِلَّا أَنَّهُ إِذَا شَاءَ عَفَا، فَعَفَا عَنْ كُلِّ كَثِيفٍ مِنَ الذُّنُوبِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ وَأَخَذَ بِالْيَسِيرِ؛ فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ!!

وَكُلُّنَا أَصْحَابُ ذُنُوبٍ وَخَطَايَا، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ هُوَ مَعْصُومٌ عَنِ الزَّلَلِ وَالْخَطَأِ؛ وَلَكِنَّ خَيْرَنَا مَنْ يُسَارِعُ إِلَى التَّوْبَةِ، وَيُبَادِرُ إِلَى الْعَوْدَةِ، تَحُثُّهُ الْخُطَى، وَتُسْرِعُ بِهِ الدَّمْعَةُ، وَيُعِينُهُ أَهْلُ الْخَيْرِ رُفَقَاءُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَإِنَّ مِنْ وَاجِبِ الْأُخُوَّةِ فِي اللهِ: عَدَمَ تَرْكِ الْعَاصِي يَسْتَمِرُّ فِي مَعْصِيَتِهِ؛ بَلْ يُحَاطُ بِإخْوَانِهِ، وَيُذَكَّرُ وَيُنَبَّهُ، وَلَا يُهْمَلُ وَيُتْرَكُ فَيَضِلَّ وَيَشْقَى.

أَرَأَيْتَ إِنْ نَزَلَ بِهِ مَرَضٌ أَوْ شَأْنٌ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا؛ كَيْفَ تَقِفُ مَعَهُ؟!! وَكَيْفَ تُعِينُهُ؟!!

فَالْآخِرَةُ أَوْلَى وَأَبْقَى».

وَشُرُوطُ التَّوْبَةِ:

الْأَوَّلُ: الْإِخْلَاصُ فِيهَا.

الثَّانِي: الْإِقْلَاعُ عَنِ الذَّنْبِ.

الثَّالِثُ: النَّدَمُ عَلَى مَا فَاتَ.

الرَّابِعُ: الْعَزْمُ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدَةِ.

الْخَامِسُ: إِرْجَاعُ الْحُقُوقِ إِلَى أَصْحَابِهَا؛ مِنْ مَالٍ وَغَيْرِهِ.

السَّادِسُ: أَنْ تَقَعَ التَّوْبَةُ فِي وَقْتِ قَبُولِهَا.

حَالُنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا بَيْنَ مُسَوِّفٍ وَمُفَرِّطٍ، حَتَّى يَفْجَأَنَا الْمَوْتُ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ.

فَتَأَمَّلْ فِي حَالِ بَعْضِنَا مِمَّنْ يُؤْثِرُ الظِّلَّ عَلَى الشَّمْسِ، ثُمَّ لَا يُؤْثِرُ الْجَنَّةَ عَلَى النَّارِ!!

تَأَمَّلْ فِي حَالِ بَعْضِنَا؛ بَلْ فِي حَالِنَا، فَكُلُّنَا يُؤْثِرُ الظِّلَّ عَلَى الشَّمْسِ، ثُمَّ لَا يُؤْثِرُ الْجَنَّةَ عَلَى النَّارِ!!

نَسْأَلُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يَتُوبَ عَلَيْنَا أَجْمَعِينَ.

((مُحَاسَبَةُ النَّفْسِ فِي شَهْرِ الْحَصَادِ))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ مُحَاسَبَةَ النَّفْسِ وَاجِبَةٌ، يَجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تُحَاسِبَ نَفْسَكَ.

يَنْبَغِي عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَتَأَمَّلَ فِي حَالِ قَلْبِهِ، وَمَا أَنْذَرَ عِلْمَ الْقُلُوبِ! فَإِنَّ النَّاسِ فِي غَفْلَةٍ -إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا--، فَأَقْبَلَ عَلَى قَلْبِهِ مُفَتِّشًا، وَفِي أَطْوَاءِ ضَمِيرِهِ مُنَقِّبًا؛ لِيَنْظُرَ مَا انْطَوَى عَلَيْهِ قَلْبُهُ، وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ فُؤَادُهُ، وَلِيَتَأَمَّلَ فِي حَالِهِ، أَمُرْضٍ هُوَ لِرَبِّهِ بِفِعَالِهِ وَقَالِهِ، أَمْ هُوَ عَابِدٌ لِهَوَاهُ؟!!

وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((الزُّهْدِ)) ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: ((حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَزِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا، فَإِنَّهُ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ فِي الْحِسَابِ غَدًا؛ أَنْ تُحَاسِبُوا أَنْفُسَكَمُ الْيَوْمَ، وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الْأَكْبَرِ، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ)).

وَذَكَرَ -أَيْضًا- عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: ((لَا تَلْقَى الْمُؤْمِنَ إِلَّا يُحَاسِبُ نَفْسَهُ، مَا أَرَدْتُ بِكَلِمَتِي؟ مَا أَرَدْتُ بِأَكْلَتِي؟ مَا أَرَدْتُ بِشَرْبَتِي؟

وَالْفَاجِرُ يَمْضِي قُدُمَا، لَا يُحَاسِبُ نَفْسَهُ)).

 لَا تَلْقَى الْمُؤْمِنَ إِلَّا يُحَاسِبُ نَفْسَهُ، وَأَمَّا الْفَاجِرُ فَيَمْضِي قُدُمًا!!

إِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَضَاعَ نَفْسَهُ وَظَلَمَهَا؛ ضَيَّعَ حَظَّهَا مِنْ رَبِّهَا.

قَالَ الْحَسَنُ: ((إِنَّ الْعَبْدَ لَا يَزَالُ بِخَيْرٍ، مَا كَانَ لَهُ وَاعِظٌ مِنْ نَفْسِهِ، وَكَانَتِ الْمُحَاسَبَةُ مِنْ هِمَّتِهِ)) .

حَاسِبْ نَفْسَكَ، فَمُحَاسَبَةُ النَّفْسِ وَاجِبَةٌ، حَتَّى لَا يَنْدَمَ الْمَرْءُ وَلَاتَ سَاعَةَ مَنْدَمِ!!

((الْعُمُرُ هُوَ رَأْسُ الْمَالِ))

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ! اسْأَلُوا اللهَ أَنْ يُعِينَكُمْ عَلَى ذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ وَحُسْنِ عِبَادَتِهِ، وَأَنْ يُحْسِنَ لَكَ الْمُسْتَقْبَلَ وَالْخِتَامَ.

وَاعْلَمُوا أَنَّ الْغَبْنَ كُلَّ الْغَبْنِ فِي خُسْرَانِ الْعُمُرِ وَالْأَوْقَاتِ، وَأَنَّ كُلَّ وَقْتٍ يَمُرُّ عَلَيْكَ فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللهِ فَإِنَّهُ خَسَارَةٌ وَنَدَامَةٌ، فَالرَّابِحُ مَنِ اغْتَنَمَ عُمُرَهُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَتَزَوَّدْ فِيهِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ؛ لِيَسْعَدَ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَبَعْدَ الْمَمَاتِ.

وَالْخَاسِرُ مَنْ فَرَّطَ فِي الْأَوْقَاتِ، وَأَهْمَلَهَا وَتَهَاوَنَ بِالْوَاجِبَاتِ الَّتِي أَوْجَبَ اللهُ عَلَيْهِ وَضَيَّعَهَا.

فَاعْرِفُوا -رَحِمَكُمُ اللهُ- قَدْرَ الْأَوْقَاتِ وَاغْتَنِمُوهَا، وَانْظُرُوا إِلَى سُرْعَةِ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي وَانْقِضَائِهَا فَأَدْرِكُوهَا، تَرَوْا أَنَّ الْأَوْقَاتَ تُطْوَى خَلْفَكُمْ طَيًّا، وَأَنَّ كُلَّ لَحْظَةٍ تُقَرِّبُكُمْ مِنَ الْآخِرَةِ شَيْئًا فَشَيْئًا.

أَسْأَلُ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ، وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ- أَنْ يَمُنَّ عَلَيْنَا بِالْيَقَظَةِ بَعْدَ الْغَفْلَةِ، وَأَنْ يَهْدِيَنَا إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.

المصدر: مَنْزِلَةُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ رَبِّهِمْ

 

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  الْإِسْلَامُ عَمَلٌ وَسُلُوكٌ..نَمَاذِجُ مِنْ حَيَاةِ التَّابِعِينَ
  الرد على الملحدين:الرد على بعض شبهات الملحدين، وبيان بعض صفات الخالق
  مُوَاجَهَةُ الْفَسَادِ.. مَسْؤُولِيَّةٌ دِينِيَّةٌ وَوَطَنِيَّةٌ وَمُجْتَمَعِيَّةٌ
  الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ وَمَنْهَجُهُ فِي عِمَارَةِ الْكَوْنِ
  الرد على الملحدين: من الأدلة العقلية على وجود الخالق
  مَاذَا بَعْدَ الْحَجِّ؟
  حَقُّ الْحَيَاةِ فِي الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ
  فَهْمُ مَقَاصِدِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ وَصَلَاحِيَتُهَا لِكُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ
  فضل الصيام وسلوك الصائمين
  كَفُّ الْأَذَى عَنِ النَّاسِ صَدَقَةٌ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان