الْعَقْلُ الْفِطْرِيُّ

الْعَقْلُ الْفِطْرِيُّ

 ((الْعَقْلُ الْفِطْرِيُّ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((مَنْهَجُ الْإِسْلَامِ فِي إِعْمَالِ الْعَقْلِ))

فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((مُسْنَدِهِ))، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ))، -وَالْحَدِيثُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ- بِإِسْنَادَيْهِمَا عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ صَاحِبِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((جَاءَ فَتًى شَابٌّ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا)).

فَقَالَ النَّاسُ: ((مَهْ مَهْ!)): وَهُوَ اسْمُ فِعْلِ أَمْرٍ بِمَعْنَى: انْزَجِرْ وَاسْكُتْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُطْلَبَ مِنْ نَبِيِّ الْفَضِيلَةِ ﷺ الْإِذْنُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْفَوَاحِشِ.

وَلَكِنَّ النَّبِيَّ ﷺ يَتَصَرَّفُ عَلَى نَحْوٍ آخَرَ، فَقَالَ: ((ادْنُهْ)): وَهُوَ فِعْلُ أَمْرٍ مِنَ الدُّنُوِّ، دَنَا يَدْنُو دُنُوًّا، ((ادْنُهْ))، وَ (الْهَاءُ) فِيهِ لِلسَّكْتِ لِبَيَانِ الْحَرَكَةِ، يَعْنِي: اقْتَرِبْ، تَعَالَ.

فَمَا زَالَ يَدْنُو حَتَّى جَلَسَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ: ((مَاذَا قُلْتَ؟)).

قَالَ: قُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا)).

وَهُنَا يَعْقِدُ النَّبِيُّ ﷺ مُحَاكَمَةً عَقْلِيَّةً فِطْرِيَّةً، وَلَيْسَتْ بِمُحَاكَمَةٍ عَقْلِيَّةٍ مَنْطِقِيَّةٍ، وَإِنَّمَا هِيَ مُحَاكَمَةٌ عَقْلِيَّةٌ تَعُودُ إِلَى الْفِطْرَةِ السَّوِيَّةِ، لَيْسَتْ إِلَى أُصُولِ الْمَنْطِقِ الْأَرِسْطِيِّ، الْمَنْطِقِ الْيُونَانِيِّ الْعَمِيقِ، وَإِنَّمَا يَعْقِدُ مُحَاكَمَةً فِطْرِيَّةً عَقْلِيَّةً.

فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ -وَقَدْ سَمِعَ مَسْأَلَتَهُ وَمَا يُرِيدُ-: ((أَفَتَرْضَاهُ لِأُمِّكَ؟!)).

فَقَالَ: ((لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ يَا رَسُولَ اللهِ! لَا أَرْضَاهُ لِأُمِّي)).

قَالَ: ((وَكَذَلِكَ النَّاسُ لَا يَرْضَوْنَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ، أَوَتَرْضَاهُ لِابْنَتِكَ؟!)).

قَالَ: ((لَا يَا رَسُولَ اللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاكَ! لَا أَرْضَاهُ لِابْنَتِي)).

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((وَكَذَلِكَ النَّاسُ لَا يَرْضَوْنَهُ لِبَنَاتِهِمْ، أَفَتَرْضَاهُ لِأُخْتِكَ؟!)).

يَقُولُ: ((لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ يَا رَسُولَ اللهِ! لَا أَرْضَاهُ لِأُخْتِي)).

((كَذَلِكَ النَّاسُ لَا يَرْضَوْنَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ، أَفَتَرْضَاهُ لِعَمَّتِكَ؟!)).

((لَا وَجَعَلَنِي اللهُ فِدَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ! لَا أَرْضَاهُ لِعَمَّتِي)).

((وَكَذَلِكَ النَّاسُ لَا يَرْضَوْنَهُ لِعَمَّاتِهِمْ، أَفَتَرْضَاهُ لِخَالَتِكَ؟!)).

يَقُولُ مِثْلَمَا قَالَ مُفَدِّيًا رَسُولَ اللهِ ﷺ بِنَفْسِهِ دَاعِيًا: ((جَعَلَنِي اللهُ فِدَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ!)).

((كَذَلِكَ النَّاسُ لَا يَرْضَوْنَهُ لِخَالَاتِهِمْ)).

وَهَلِ الْمَرْأَةُ فِي الْمُنْتَهَى إِلَّا أُمُّ رَجُلٍ، أَوِ ابْنَةُ رَجُلٍ، أَوْ أُخْتُ رَجُلٍ، أَوْ عَمَّةُ رَجُلٍ، أَوْ خَالَةُ رَجُلٍ؟!

فَإِنْ لَمْ تَكُنْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَمَاذَا تَكُونُ؟!!

وَالنَّاسُ لَا يَرْضَوْنَهُ لِوَاحِدَةٍ مِنْ هَؤُلَاءِ.

قَالَ أَبُو أُمَامَةَ -رَاوِي الْحَدِيثِ-: ((فَوَضَعَ النَّبِيُّ ﷺ يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ وَقَالَ: ((اللهم طَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ، وَغُضَّ بَصَرَهُ)).

قَالَ: ((فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى شَيْءٍ))؛ لِأَنَّ دُعَاءَ الرَّسُولِ ﷺ دُعَاءٌ مُسْتَجَابٌ، وَقَدْ دَعَا لَهُ بِطَهَارَةِ الْقَلْبِ، وَتَحْصِينِ الْفَرْجِ، وَغَضِّ الْبَصَرِ؛ فَمَاذَا يَبْقَى بَعْدُ؟!

لَعَلَّكَ -أَخِي الْحَبِيب- عِنْدَمَا تَسْمَعُ مَنْ يَقُصُّ عَلَيْكَ هَذِهِ الْقِصَّةَ، وَيَسْرُدُ عَلَيْكَ وَعَلَى مِسْمَعَيْكَ هَذَا الْحَدِيثَ تَذْهَبُ بِظَنٍّ كَالْيَقِينِ إِلَى أَنَّ مُحَدِّثَكَ لَا بُدَّ سَيُحَدِّثُكَ عَنْ أَمْرِ الْفَوَاحِشِ، وَخُطُورَةِ الزِّنَا، وَأَهَمِّيَّةِ الْحِفَاظِ عَلَى الْعَفَافِ وَالْعِفَّةِ وَالطَّهَارَةِ وَالنَّظَافَةِ وَالطُّهْرِ، وَلَكَ الْحَقُّ كُلُّهُ فِي أَنْ تَظُنَّ ذَلِكَ الظَّنَّ الَّذِي يَرْقَى إِلَى شِبْهِ الْيَقِينِ؛ وَلَكِنْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَقُولَ سَرْدًا: إِنَّ الرَّسُولَ ﷺ قَالَ: ((إِذَا ظَهَرَ الزِّنَا وَالرِّبَا فِي قَرْيَةٍ فَقَدْ أَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ عَذَابَ اللهِ)).

وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ -أُمِّنَا أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَزَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ- قَالَتْ: ((اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ ﷺ لَيْلَةً فَزِعًا، يَقُولُ: ((وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ اللَّيْلَةَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ -وَحَلَّقَ بِأُصْبُعِهِ الْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا-)).

قَالَتْ: قُلْتُ: ((أَفَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟)).

قَالَ: ((نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ)).

قَالَتْ: ((أَفَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟))، تَظُنُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ وُجُودَ الصَّالِحِينَ عِصْمَةٌ.

وَالْقَرْيَةُ لَيْسَتْ بِالْمَعْنَى الَّذِي يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَإِنَّمَا الْقَرْيَةُ قَدْ تُطْلَقُ عَلَى الْقُطْرِ: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24]، وَقَدْ تُطْلَقُ الْقَرْيَةُ عَلَى الْقَرْيَةِ بِالْمَعْنَى الَّذِي يَتَعَارَفُ عَلَيْهِ النَّاسُ الْيَوْمَ، وَالْمَدِينَةُ فِي الْعُرْفِ الْقُرْآنِيِّ وَالنَّبَوِيِّ قَرْيَةٌ -أَيْضًا-.

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِذَا ظَهَرَ الزِّنَا وَالرِّبَا فِي قَرْيَةٍ فَقَدْ أَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ عَذَابَ اللهِ))؛ اسْتَنْزَلُوهُ اسْتِنْزَالًا، وَاسْتَدْعَوُا الْعَذَابَ اسْتِدْعَاءً، وَهُمُ الَّذِينَ سَعَوْا إِلَيْهِ وَحَرِصُوا عَلَيْهِ، وَجَدُّوا مِنْ أَجْلِ أَنْ يَصِلُوا إِلَيْهِ، كُلُّ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ -وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامِ لِلْعَبِيدِ-.

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ))؛ لِمَ خَصَّ الْعَرَبَ بِالذِّكْرِ؟

لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَكْثَرَ الْأَجْنَاسِ فِي وَقْتِ هَذَا الْحَدِيثِ إِسْلَامًا، فَكَانَ الْإِسْلَامُ فِيهِمْ أَكْثَرَ مِمَّا هُوَ فِيمَا سِوَاهُمْ مِنَ الْأَجْنَاسِ، فَخَصَّهُمُ الرَّسُولُ ﷺ بِالذِّكْرِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ.

هَذَا قَوْلٌ.

وَخَصَّهُمُ النَّبِيُّ ﷺ بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّهُمْ مَعْدِنُ الْإِسْلَامِ، وَبِاللُّغَةِ الَّتِي كَانُوا يَتَخَاطَبُونَ بِهَا نَزَلَ الْقُرْآنُ، وَهُمُ الَّذِينَ حَمَلُوا الْأَمَانَةَ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَأَدَّوْهَا قَوْلًا وَفِعْلًا، وَجِهَادًا وَسَعْيًا، وَتَبْلِيغًا وَحِفْظًا، فَخَصَّهُمُ الرَّسُولُ ﷺ بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّهُمْ فِي هَذَا الشَّأْنِ بِمَكَانٍ عَظِيمٍ.

((وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ)): وَالْوَيْلُ: هُوَ الْهَلَاكُ وَالثُّبُورُ، أَوْ: هُوَ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ تَسْتَغِيثُ مِنْهُ جَهَنَّمُ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مَرَّاتٍ.

وَذَلِكَ مِنْ تَفْسِيرِ التَّنَوُّعِ، فَكُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ.

((وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ)): وَأَتَى بِـ (قَدْ) الَّتِي هِيَ لِلتَّحْقِيقِ إِذَا مَا دَخَلَتْ عَلَى الْفِعْلِ الْمَاضِي: ((مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ)).

((وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ اللَّيْلَةَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ -وَحَلَّقَ بِأُصْبُعِهِ الْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا)).

فَكَأَنَّمَا تَتَدَاعَى عَلَيْهِمُ الْأُمَمُ كَمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ: «يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا -أَوْ: عَلَى قَصْعَتِهَا-».

فَقَالَ قَائِلٌ: ((وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟)).

فَقَالَ: ((بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ؛ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزِعَنَّ اللهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ)).

فَقَالَ قَائِلٌ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! وَمَا الْوَهْنُ؟)).

قَالَ: ((حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ)).

هَذَانِ أَمْرَانِ اجْتَمَعَا سَلْبًا وَإِيجَابًا -وَجُودًا وَعَدَمًا-؛ فَكَيْفَ وَالْوَاحِدُ مِنْهُمَا كَانَ يَكْفِي وَيَزِيدُ وَهُوَ فَوْقَ الْكِفَايَةِ بِمَا لَيْسَ عَلَيْهِ مَزِيدٌ؟!

((وَلَيَنْزِعَنَّ اللهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ)): هَذَا وَحْدَهُ يَكْفِي؛ وَلَكِنْ ضَمَّ إِلَيْهِ مَا هُوَ نَظِيرُهُ، فَيَقُولُ: ((وَلَيَقْذِفَنَّ..)) فِي الْمُقَابِلِ مَعَ نَزْعِ الْهَيْبَةِ مِنْ صُدُورِ الْأَعْدَاءِ حَتَّى يَحْتَقِرُوكُمْ، وَحَتَّى لَا يَرَوْا أَنَّكُمْ تُمَثِّلُونَ أَفْضَلَ مِنَ الْهَبَاءِ، أَوْ أَعْلَى مِنَ الذُّبَابِ، لَا شَيْءَ؛ كَالْعَدَمِ، ((وَلَيَنْزِعَنَّ اللهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ)) فِي الْمُقَابِلِ!

فَخَصْلَةٌ تُثْبَتُ وَخَصْلَةٌ تُنْزَعُ إِيجَابًا وَسَلْبًا -وُجُودًا وَعَدَمًا-، وَالْكُلُّ مُحِيطٌ شَامِلٌ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ -نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُقِيلَ عَثْرَتَهَا بِرَحْمَتِهِ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ-.

النَّبِيُّ ﷺ عِنْدَمَا ذَكَرَ أَنَّ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ قَدْ فُتِحَ كَمِثْلِ هَذِهِ -وَحَلَّقَ بِالْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا-؛ قَالَتْ أُمُّنَا أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((أَفَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟!)).

الْخَيْرُ كَثِيرٌ، وَالْأُمَّةُ بِخَيْرٍ، وَالْمُصَلُّونَ يُصَلُّونَ، وَالْمُزَكُّونَ يُزَكُّونَ، وَالْحُجَّاجُ يَحُجُّونَ، وَالذَّاكِرُونَ فِي الصَّوَامِعِ وَالدَّيَّارَاتِ وَفِي الْبِيَعِ يَذْكُرُونَ؛ فَمَاذَا يَقَعُ بَعْدُ؟!

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((نَعَمْ -تَهْلِكُونَ وَفِيكُمُ الصَّالِحُونَ- إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ)).

يَقُولُ الْعُلَمَاءُ: إِنَّ الْخَبَثَ هَاهُنَا هُوَ الزِّنَا خَاصَّةً، فَإِذَا كَثُرَ الزِّنَا فِي الْأُمَّةِ أَتَاهَا الْهَلَاكُ.

كَأَنَّ الَّذِي يَذْهَبُ إِلَى ذَلِكَ شَرْحًا يَنْظُرُ إِلَى الْحَدِيثِ الْآخَرِ -الَّذِي مَرَّ-: ((إِذَا ظَهَرَ الزِّنَا وَالرِّبَا فِي قَرْيَةٍ فَقَدْ أَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ عَذَابَ اللهِ)).

وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ إِنَّ الْأَمْرَ هَاهُنَا يَشْمَلُ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْ أَمْرِ الزِّنَا؛ فَكُلُّ مَا هُوَ فُسُوقٌ دَاخِلٌ فِي الْأَمْرِ.

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ عِنْدَمَا سُئِلَ: ((أَفَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟)) قَالَ: ((نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ)).

إِذَا انْزَوَى الصَّلَاحُ جَانِبًا، وَتَوَارَى الْإِصْلَاحُ نَاحِيَةً، وَأَصْبَحَ الْفَسَادُ طَاغِيًا، وَأَصْبَحَ الشَّرُّ طَامِيًا؛ حِينَئِذٍ لَا بُدَّ أَنْ يَأْتِيَ الْهَلَاكُ، وَهُوَ مِنْ قَدَرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

إِذَا جَاءَ فِي ذِهْنِكَ أَنَّ مَنْ سَرَدَ عَلَيْكَ قِصَّةَ الْفَتَى الشَّابِّ الَّذِي جَاءَ يَسْتَأْذِنُ بِالزِّنَا مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ سَوْفَ يَسْرُدُ عَلَيْكَ أَوْ يَمْضِي مَعَكَ فِي طَرِيقٍ قَدْ تَوَضَّحَتْ مَعَالِمُهَا بَدْءًا، وَقَدْ وُضِعَتْ أُصُولُهَا سَلَفًا، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ سَيَسِيرُ فِي تِلْكَ الطَّرِيقِ إِلَى نِهَايَتِهَا؛ إِذَا مَا جَاءَ إِلَى ذِهْنِكَ مِثْلُ ذَلِكَ فَلَا حَرَجَ عَلَيْكَ وَلَا تَثْرِيبَ.

وَلَكِنْ مَا إِلَى هَذَا أَرَدْتُ، وَإِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَدُلَّ عَلَى أَنَّ لِلْإِسْلَامِ مَنْهَجًا يَنْزِعُ إِلَى إِعْمَالِ الْعَقْلِ، وَإِلَى الْأَخْذِ بِيَدِ الْفِطْرَةِ السَّوِيَّةِ عَلَى مُقْتَضى قَانُونِ الْعَقْلِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ نَاظِرًا فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ حَتَّى فِي الْمُحَرَّمَاتِ.

وَلَيْسَ فِي هَذَا إِعْمَالٌ لِلْعَقْلِ بِإِزَاءِ النَّصِّ -حَاشَا وَكَلَّا-، وَلَيْسَ فِي هَذَا تَقْدِيمٌ لِلْعَقْلِ عَلَى النَّصِّ أَبَدًا، وَلَيْسَ فِي هَذَا مُسَاوَاةٌ بَيْنَ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ؛ لَا يَكُونُ، وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ حَدَّدَهُ الْعُلَمَاءُ بَدْءًا؛ لِأَنَّ هَذَا الْعَقْلَ الَّذِي أَنْعَمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ عَلَى الْعُقَلَاءِ مِنْ بَنِي آدَمَ هُوَ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ، فَإِذَا ذَهَبَ الْعَقْلُ سَقَطَ التَّكْلِيفُ، فَالنَّائِمُ يُرْفَعُ عَنْهُ الْقَلَمُ؛ لِأَنَّهُ لَا أَهْلِيَّةَ لَهُ وَهُوَ غَيْرُ مَسْؤُولٍ، وَكَذَلِكَ الَّذِي لَمْ يَحْتَلِمْ بَعْدُ -صَغِيرًا- فَهَذَا رُفِعَ عَنْهُ الْقَلَمُ، وَلَا أَهْلِيَّةَ لَهُ وَهُوَ غَيْرُ مَسْؤُولٍ، وَالْمَجْنُونُ رُفِعَ عَنْهُ الْقَلَمُ حَتَّى يُفِيقَ.

وَإِذَنْ؛ فَهَذَا الْعَقْلُ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ، وَإِذَا مَا رُفِعَ الْعَقْلُ سَقَطَ التَّكْلِيفُ، هُمَا أَمْرَانِ لَا بُدَّ أَنْ يُوجَدَا مَعًا؛ وَإِلَّا فَإِنَّهُمَا يَرْتَفِعَانِ مَعًا.

وَإِذَنْ؛ فَلَهُ أَهَمِّيَّتُهُ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَفِي هَذَا الزَّمَانِ الَّذِي تَتَعَرَّضُ فِيهِ الثَّوَابِتُ -ثَوَابِتُ الْإِسْلَامِ- إِلَى الْهُجُومِ الشَّرِسِ، ثَوَابِتُ الْإِسْلَامِ الَّتِي لَا تَتَزَعْزَعُ بِحَالٍ أَبَدًا؛ كِتَابُ اللهِ، وَسُنَّةُ رَسُولِ اللهِ، وَمَنْهَجُهُ، وَفَضَائِلُهُ، وَسِيرَتُهُ، وَهَدْيُهُ، وَسَمْتُهُ وَدَلُّهُ، وَشَرْعُهُ وَدِينُهُ؛ كُلُّ ذَلِكَ ثَوَابِتُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَتَزَعْزَعَ بِحَالٍ أَبَدًا، وَهِيَ ثَابِتَةٌ فِي وَجْهِ تِلْكَ الْأَعَاصِيرِ الْهُوجِ مِنْ مَوْجَاتِ الْإِلْحَادِ وَالشَّكِّ عَلَى مَدَارِ التَّارِيخِ مُنْذُ جَاءَ مُحَمَّدٌ ﷺ؛ وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَلَّا يُغَيِّبَ الْمُسْلِمُ عَقْلَهُ، وَبِشَرْطِ أَنْ يُعْمِلَ الْمُسْلِمُ عَقْلَهُ؛ وَحِينَئِذٍ فَإِنَّهُ يَفِيءُ بِدِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَإِلَى دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَيَفِيءُ -حِينَئِذٍ- إِلَى أَصْلٍ أَصِيلٍ، وَرُكْنٍ رَكِينٍ، وَحِصْنٍ شَدِيدٍ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَزِيغَ أَبَدًا، وَلَا أَنْ يَضِلَّ.

وَأَمَّا أَنْ يَدَعَ الْمُقَدِّمَاتِ الْعَقْلِيَّةَ الْمُنْضَبِطَةَ، وَأَمَّا أَنْ يَجْعَلَ الْعَقْلَ مُهْمَلًا، وَأَمَّا أَلَّا يَنْظُرَ فِي الْأُمُورِ عَلَى مُقْتضَى الْفِطْرَةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْعَقْلِ الْفِطْرِيِّ؛ فَإِنَّهُ إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَتَرَكَ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَسَرَّبَ إِلَى نَفْسِهِ شَيْءٌ مِنَ الشَّكِّ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَتَسَلَّلَ إِلَى ضَمِيرِهِ شَيْءٌ مِنَ الزَّيْغِ.

((الْإِسْلَامُ يَحْتَرِمُ الْعَقْلَ الْفِطْرِيَّ وَيُعَالِجُ سُؤَالَاتِهِ))

هَذَا الْإِسْلَامُ الْعَظِيمُ لَا يَخْشَى شَيْئًا أَبَدًا، وَدِينُ مُحَمَّدٍ ﷺ لَيْسَ فِيهِ غُمُوضٌ، وَلَيْسَ فِيهِ لَبْسٌ، وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْمَنَاطِقِ الَّتِي لَا يُحَوِّمُ حَوْلَهَا إِنْسَانٌ بِعَقْلِهِ ثُمَّ يَسْقُطُ فِي الشَّكِّ بَعِيدًا عَنْهَا لِأَنَّهُ لَا يَجِدُ لَهَا تَفْسِيرًا، وَلَا يَجِدُ لَهَا مَعْنًى، وَلَا يَجِدُ لَهَا تَأْوِيلًا، لَيْسَ كَذَلِكَ.

فَهَذَا نَبِيُّكُمْ ﷺ يَقُولُ: ((يَأْتِي الشَّيْطانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولَ: مَنْ خَلَقَ كَذَا وَكَذَا؟ حَتَّى يَقُولَ لَهُ: مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ؟ فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ وَلْيَنْتَهِ)).

أَرَأَيْتَ!! أَرَأَيْتَ اقْتِحَامَ هَذَا الْمَجْهَلِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَا يَدَعُ شَيْئًا مِنْ ظِلَالِ الشَّكِّ يُمْكِنُ أَنْ يَنْسَرِبَ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَسَلَّلَ إِلَى عَقْلٍ بِاحْتِمَالٍ إِلَّا وَيَأْتِي لَهُ بِبَيَانٍ، مَا يَزَالُ الشَّيْطَانُ يَقُولُ وَيَقُولُ، فَإِذَا قَالَ فَقُلْ!

بَلْ مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- جَاؤُوا النَّبِيَّ ﷺ يَشْكُونَ -وَلَا يَشُكُّونَ، وَإِنَّمَا هِيَ الْفِطْرَةُ الْبَشَرِيَّةُ، وَالنَّقْصُ الْإِنْسَانِيُّ، وَالْإِيمَانُ الَّذِي يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، الْإِيمَانُ الَّذِي يَزِيدُ بِالطَّاعَاتِ، وَيَنْقُصُ بِالْمَعَاصِي-، فَيَأْتِي الْأَصْحَابُ إِلَى الرَّسُولِ ﷺ لِكَيْ يَقُولُوا: ((نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا الشَّيْءَ نُعَظِّمُ أَنْ نَتَكَلَّمَ بِه -أَوِ: الْكَلَامَ بِهِ-، مَا نُحِبُّ أَنَّ لَنَا وَأَنَّا تَكَلَّمْنَا بِهِ)).

يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ أَحَدَنَا لَيَجِدُ فِي نَفْسِهِ الْكَلِمَةَ لَأَنْ يَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ أَهْوَنُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِهَا؛ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ فِي الْأَمَاكِنِ الْمُحَرَّمَةِ، وَفِي تِلْكَ النقاط الْمَحْمِيَّةِ؛ وَلَكِنَّ النَّفْسَ تَرُوحُ وَتَجِيءُ، وَهَذَا دِينٌ يَتَفَاعَلُ مَعَ النَّفْسِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَيَتَفَاعَلُ مَعَ الْعَقْلِ، وَيُهَيْمِنُ عَلَيْهِ.

وَهَذَا دِينٌ لَا يَجْعَلُ النَّاسَ فِي الْحَيَاةِ حَيَارَى يَسِيرُونَ فِي الْأَرْضِ سُكَارَى، وَإِنَّمَا يَحْفَظُ عَلَيْهِمْ عُقُولَهُمْ، وَيَلْتَزِمُهُمْ عَلَى جَادَّةِ الطَّرِيقِ وَسَوائِهِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَكُونُوا مُحَقِّقِينَ فِي الْحَيَاةِ لِعُبُودِيَّتِهِمْ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِاخْتِيَارِهِمْ، فَيَمُدُّهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ -حِينَئِذٍ- بِالْهِدَايَةِ، وَبِمَدَدٍ مِنْ عِنْدِهِ، فَيَأْتِي الْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ أَحَدَنَا لَيَجِدُ فِي نَفْسِهِ الْكَلِمَةَ لَأَنْ يَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ أَهْوَنُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَا، لَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَا.

فَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ -مُطَمْئِنًا وَهُوَ يَنْظُرُ بِذَلِكَ الْمَنْطِقِ الْعَقْلِيِّ الْفِطْرِيِّ فِي النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ السَّوِيَّةِ-: ((أَوَ قَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟)).

قَالُوا: ((نَعَمْ)).

 قَالَ: ((ذَاكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ)).

 يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: عَدَمُ اسْتِطَاعَتِكُمُ النُّطْقَ بِهَا هُوَ الْإِيمَانُ.

مَا الَّذِي يَحْمِلُكَ عَلَى أَلَّا تَنْطِقَ؟ مَا الَّذِي يُخِيفُكَ؟ مَا الَّذِي يُرَغِّبُكَ وَيُرَهِّبُكَ؟ أَنْتَ تَفِيءُ إِلَى أَصْلِ الْفِطْرَةِ السَّوِيَّةِ فِي قَلْبِكَ؛ وَحِينَئِذٍ لَا حَرَجَ، وَإِنَّمَا هُوَ نَزْغٌ عَابِرٌ مِنْ نَزْغِ الشَّيْطَانِ، لَا يَلْبَثُ إِلَّا قَلِيلًا ثُمَّ يَضْمَحِلُّ وَيَزْوِي، ثُمَّ يَصِيرُ إِلَى الْعَدَمِ.

النَّبِيُّ ﷺ يَلْحَظُ هَذِهِ الْمَعَانِيَ فِي النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ؛ لِأَنَّ هَذَا الدِّينَ دِينٌ يَحْتَرِمُ الْعَقْلَ؛ بَلْ إِنَّهُ يَقُودُ الْقَلْبَ بِزِمَامِ الْعَقْلِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُقِيمَهُ عَلَى جَادَّةِ الْإِيمَانِ الْحَقِّ، وَالتَّسْلِيمِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

((النَّبِيُّ ﷺ جَاءَتْهُ صَفِيَّةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- تَزُورُهُ فِي مُعْتَكَفِهِ فِي مَسْجِدِهِ ﷺ، فَلَمَّا أَنْ أَرَادَتْ أَنْ تَعُودَ قَامَ مَعَهَا لِيَقْلِبَهَا -يَعْنِي: لِيُوَصِّلَهَا بِلُغَتِنَا- إِلَى حُجْرَتِهَا فِي أَبْيَاتِ النُّبُوَّةِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ قَرِيبًا مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ عِنْدَ بَابِ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ؛ مَرَّ بِهِمَا رَجُلَانِ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَسَلَّمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ثُمَّ نَفَذَا -لَمَّا رَأَيَا النَّبِيَّ ﷺ أَسْرَعَا، كَمَا هِيَ عَادَةُ أَهْلِ الْحَيَاءِ مِنَ الْبَشَرِ الَّذِينَ مَتَّعَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَلَوْ بَذَرْوٍ يَسِيرٍ وَبِأَثَارَةٍ قَلِيلَةٍ مِنْ حَيَاءٍ، عِنْدَمَا يَرَى صَاحِبَهُ مَعَ امْرَأَةٍ فِي الطَّرِيقِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ فِي جَانِبِ الطَّرِيقِ الْمُقَابِلِ وَيَمْضِي مُسْرِعًا، غَاضًّا لِلْبَصَرِ، يَمْضِي وَلَا يَلْوِي عَلَى شَيْءٍ-.

فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((عَلَى رِسْلِكُمَا)): يَا فُلَانُ وَيَا فُلَانُ! مَهْلًا مَهْلًا ((إِنَّهَا صَفِيَّةُ))

قَالَا: ((سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا ذَلِكَ)) يَعْنِي: أَوَيُمْكِنُ أَنْ نَشُكَّ فِيكَ؟! وَاللهِ! إِنَّا لَنَشُكُّ فِي أَنْفُسِنَا وَلَا نَشُكُّ فِيكَ!

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((إِنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنَ الْإِنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا -أَوْ قَالَ: شَرًّا-)).

 

النَّبِيُّ  ﷺ فِي مِثَالٍ عَظِيمٍ جِدًّا كَانَ فِيهِ إِعْمَالُ الْحَقِّ مُؤَدِّيًا بِالْعَقْلِ إِلَى نَفْيِ الْبَاطِلِ وَاضْمِحْلَالِهِ حَتَّى يَصِيرَ عَدَمًا.

وَالنَّبِيُّ ﷺ -كَمَا هِيَ عَادَتُهُ، وَكَمَا هِيَ سُنَّتُهُ، وَكَمَا هُوَ شَرْعُهُ- الْحِلْمُ كُلُّهُ فِيهِ، وَالْأَنَاةُ كُلُّهَا فِيهِ، وَالرِّفْقُ، وَالشَّفَقَةُ، وَالْيُسْرُ، وَالْإِقْبَالُ؛ كُلُّ ذَلِكَ فِيهِ ﷺ.

((الْعَقْلُ الْفِطْرِيُّ وَالْهِدَايَةُ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ))

فِي السَّنَةِ السَّادِسَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ وَفِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا -كَمَا أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي ((صَحِيحَيْهِمَا))- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَحْكِي فَيَقُولُ: ((أَرْسَلَ النَّبِيُّ ﷺ خَيْلًا قِبَلَ نَجْدٍ -يَعْنِي: نَاحِيَةَ نَجْدٍ-))؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بَعْدَ أَنِ اسْتَقَرَّ فِي غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ فِي سَنَةِ خَمْسٍ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ فِي كُلِّ حِينٍ يُرْسِلُ اسْتِطْلَاعَاتٍ وَاسْتِخْبَارَاتٍ، وَجُنُودًا يَسِيرُونَ ضَارِبِينَ فِي الْأَرْضِ مُجَاهِدِينَ يَنْظُرُونَ أَحْوَالَ النَّاسِ حَوْلَ الْمَدِينَةِ؛ حَتَّى لَا يُفَاجَئُوا فِي مَدِينَةِ النَّبِيِّ ﷺ بِمَا يُؤْخَذُونَ بِهِ عَلَى غِرَّةٍ وَعَلَى حِينِ فَجْأَةٍ.

قَالَ: ((لَمَّا أَرْسَلَ خَيْلًا قِبَلَ نَجْدٍ -نَاحِيَةَ نَجْدٍ- جَاءَتْ بِرَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ الْحَنَفِيُّ، مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ النَّازِلِينَ بِـ(الْيَمَامَةِ) -وَهِيَ قَبِيلَةُ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ لَا رَحِمَ اللهُ فِيهِ مَغْرِزَ إِبْرَةٍ-، جِيءَ بِثُمَامَةِ بْنِ أُثَالٍ وَهُوَ سَيِّدُ قَوْمِهِ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ)).

وَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ الْإِسْلَامُ وَمَا زَالَ وَسَيَظَلُّ يُعَامِلُ الْأَسْرَى؛ الرَّجُلُ كَافِرٌ مُشْرِكٌ، لَا نَطْمَعُ فِي إِسْلَامِهِ -وَسَوْفَ تَرَى إِنْ شَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ-، وَلَكِنَّهُ الْآنَ فِي قَبْضَتِهِمْ أَسِيرٌ؛ يُنْتَهَكُ عِرْضُهُ؟! تُهْدَرُ آدَمِيَّتُهُ؟! يُنْتَهَكُ عِرْضُ حُرُمِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَحْتَ عَيْنَيْهِ؟! يُعْتَدَى عَلَيْهِ؟! يُهَدَّدُ؟! يُنْظَرُ إِلَيْهِ شَزَرًا؟! لَا شَيْءَ مِنْ ذَلِكَ يَكُونُ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ الرَّجُلُ حَتَّى يَصِيرَ فِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ ﷺ، فَيُرْبَطُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ.

خَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ حُجْرَتِهِ لِلصَّلَاةِ، فَمَرَّ بِثُمَامَةَ -وَكَانَ يَعْرِفُهُ-، فَوَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ: ((مَاذَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟!)).

لَا يَطْلُبُ مِنْهُ عَرْضًا، لَا، يَقُولُ: ((مَاذَا عِنْدَكَ؟)) يَعْنِي: مَا الَّذِي لَدَيْكَ مِنَ الْعَرْضِ تَعْرِضُهُ عَلَيَّ؟! لَا، وَلَكِنْ مَا الَّذِي تَظُنُّهُ فِينَا، وَمَا تَظُنُّنَا فَاعِلِينَ بِكَ؟ مَا الَّذِي عِنْدَكَ؟ كَيْفَ تَجِدُكَ؟ مَا الَّذِي تَظُنُّ أَنَّنَا سَنُنْزِلُهُ بِكَ؟!

فَقَالَ هَذَا الرَّجُلُ: ((عِنْدِي يَا مُحَمَّدُ خَيْرٌ)) ﷺ.

الْآنَ؛ رَجُلٌ هُوَ سَيِّدُ قَوْمِهِ مَرْبُوطٌ بِسَارِيَةِ الْمَسْجِدِ، الصَّحَابَةُ يَرُوحُونَ وَيَجِيئُونَ عَلَيْهِ، وَالصِّبْيَةُ كَذَلِكَ مِنْ صِغَارِ صَحَابَةِ النَّبِيِّ ﷺ وَمِنْ أَوْلَادِ الصَّحَابَةِ، وَيَمُرُّ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ عَلَيْهِ يَتَفَرَّسُ فِي وَجْهِهِ حِينًا، وَلَا يَتَحَسَّسُهُ حِينًا، وَيَمُرُّ بِهِ أَحْيَانًا مُغْضِيًا، وَأَحْيَانًا مُسْتَفْسِرًا، وَأَحْيَانًا مُسْتَغْرِبًا، وَأَحْيَانًا مُتَعَجِّبًا، أَحْوَالُ الْبَشَرِ مَعَ كُلِّ مَا هُوَ مُسْتَغْرَبٌ؛ مَنْ هَذَا وَمَا يَكُونُ؟

قَدْ تَعْلُو الْهَمْهَمَاتُ هَاهُنَا وَهُنَالِكَ، وَقَدْ يَعْلُو الْهَمْسُ هَاهُنَا وَهُنَالِكَ، وَقَدْ يَسْمَعُ هُوَ الْكَلِمَةَ الشَّارِدَةَ تَنْبُو بِهَا الْأَلْسِنَةُ مِنْ غَيْرِ مَا طَعْنٍ وَلَا تَثْرِيبٍ وَلَا لَوْمٍ؛ وَلَكِنْ هُوَ اسْتِفْسَارٌ، وَهَذَا وَاقِعُ الْبَشَرِ فِي حَيَاةِ الْبَشَرِ فِي كَوْنِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَالرَّجُلُ مِنْ بَعْدِ الْحُرِّيَّةِ الطَّلِيقَةِ الْفَسِيحَةِ الَّتِي كَانَ الْعَرَبِيُّ -وَأَتَعَشَّمُ أَنْ يَظَلَّ- عَاشِقًا لَهَا حَتَّى مِنْ غَيْرِ دِينٍ، الرَّجُلُ صَارَ مُقَيَّدًا فِي قَبْضَةِ أَعْدَائِهِ، يَتَأَمَّلُ هَذَا الدِّينَ مَا هُوَ؟ وَمَا يَكُونُ؟

الْعَقْلُ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَخَذَ الْفُرْصَةَ لِلنَّظَرِ، وَهَذَا الدِّينُ يُعْطِي دَائِمًا الْعَقْلَ فُرْصَةً لِلنَّظَرِ، وَيُعْطِي الْمَنْطِقَ الْفِطْرِيَّ الْعَقْلِيَّ فُرْصَةً لِلتَّفَكُّرِ وَالْفِكْرِ وَالنَّظَرِ دَائِمًا، دِينُ اللهِ كَذَلِكَ.

وَلِذَلِكَ لَمَّا وَقَعَ مَا وَقَعَ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَّةِ، وَكَانَ نَبِيُّنَا ﷺ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ- قَدْ وَقَّعَ الصُّلْحَ عَلَى بُنُودٍ بَدَتْ ظَالِمَةً جَائِرَةً فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ؛ حَتَّى إِنَّ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَمْ يَفْهَمْهَا وَجُمْلَةُ الْأَصْحَابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، فَأَمَّا عُمَرُ فَأَعْلَنَ، وَأَمَّا الصَّحَابَةُ فَلَمْ يُعْلِنُوا قَوْلًا، وَإِنَّمَا أَعْلَنُوا فِعْلًا، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: ((فَأَتَيْتُ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ فَقُلْتُ: ((أَلَسْتَ نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا؟)).

قَالَ: ((بَلَى)).

قُلْتُ: ((أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ، وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟)).

قَالَ: ((بَلَى)).

قُلْتُ: ((فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذَنْ؟!)).

قَالَ: ((إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَلَسْتُ أَعْصِيهِ، وَهُوَ نَاصِرِي)).

قُلْتُ: ((أَوَلَيْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ؟)).

قَالَ: ((بَلَى، فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ الْعَامَ؟)).

قَالَ: قُلْتُ: ((لَا)).

قَالَ: ((فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ)).

فَلَمَّا فَرَغَ ﷺ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِأَصْحَابِهِ: ((قُومُوا فَانْحَرُوا، ثُمَّ احْلِقُوا))، قَالَ: فَوَاللَّهِ! مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ)).

الْحَاصِلُ أَنَّهُ عِنْدَ انْصِرَافِهِمْ أَنْزَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى قَلْبِ نَبِيِّهِ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}.

هَذِهِ نَزَلَتْ لَا فِي الْفَتْحِ الْأَكْبَرِ، وَإِنَّمَا فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ فِي الْمُعَاهَدَةِ الَّتِي بَدَتْ ظَالِمَةً فِي سَنَةِ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ (6هـ) فِي السَّنَةِ الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا أَحْدَاثُ هَذِهِ الْقِصَّةِ الَّتِي نَحْكِي وَالَّتِي خَرَّجَهَا الشَّيْخَانِ فِي ((صَحِيحَيْهِمَا)) -قِصَّةِ ثُمَامَةَ بْنِ أُثَالٍ الْحَنَفِيِّ-.

لَمَّا عَادَ النَّبِيُّ ﷺ، وَنَقَضَتْ قُرَيْشٌ عَهْدَهَا بَعْدَ عَامَيْنِ، فَمَضَى عَلَى الْعَقْدِ وَالْعَهْدِ سَنَتَانِ -يَعْنِي: ظَلَّتْ مُعَاهَدَةُ الْحُدَيْبِيَةِ بِرَفْعِ الْحَرْبِ وَإِقْرَارِ السِّلْمِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ.. ظَلَّتْ سَارِيَةً لِمُدَّةِ عَامَيْنِ-، فِي هَذَيْنِ الْعَامَيْنِ دَخَلَ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَدَدٌ هُوَ أَكْبَرُ مِنَ الْعَدَدِ الَّذِي دَخَلَ فِي الدِّينِ مُنْذُ بُعِثَ النَّبِيُّ الْأَمِينُ إِلَى سَنَةِ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ فِي عَامَيْنِ.

لَمَّا وَضَعَتِ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، وَرُفِعَتْ تِلْكَ الْأَوْزَارُ -أَوْزَارُ الْقِتَالِ-، ثُمَّ حَطَّتْ مُطْمَئِنَّةً؛ أَخَذَ النَّاسُ يَتَفَكَّرُونَ: مَا هَذَا الدِّينُ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ؟ وَإِلَامَ يَدْعُو؟

فَإِذَا هُوَ دَاعٍ إِلَى الطُّهْرِ وَإِلَى الْعَفَافِ، وَإِلَى كُلِّ مَا هُوَ جَمِيلٌ، وَإِلَى تَنْظِيمِ الْحَيَاةِ تَنْظِيمًا تَسْتَقِرُّ بِهِ النَّفْسُ الْبَشَرِيَّةُ، وَتَهْدَأُ بِهِ الضَّمَائِرُ الْإِنْسَانِيَّةُ، وَيَسْتَقِيمُ بِهِ خَطْوُ الْبَشَرِيَّةِ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ مِنْ غَيْرِ مَا عِوَجٍ، وَمِنْ غَيْرِ مَا انْتِكَاسٍ وَلَا ارْتِكَاسٍ فِي الْحَمْأَةِ النَّجِسَةِ -حَمْأَةِ الشَّهَوَاتِ، وَحَمْأَةِ النَّزَوَاتِ، وَحَمْأَةِ الْغَرَائِزِ، وَفِي طِينِ كُلِّ مَا هُوَ وَبِيءٌ-.

وَإِذَنْ؛ فَفِي سَنَتَيْنِ مِنْ إِعْمَالِ الْعَقْلِ دَخَلَ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَدَدٌ يَزِيدُ عَلَى الْعَدَدِ الَّذِي دَخَلَ مَعَ الْجِلَادِ وَالصِّرَاعِ وَالْكِفَاحِ، وَمَا كَانَ هُنَالِكَ مِنْ إِرَاقَةِ الدِّمَاءِ فِي سَبِيلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَطْلُوبٌ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ وَلَكِنْ مَعَ إِعْمَالِ الْعَقْلِ دَخَلَ فِي الدِّينِ فِي عَامَيْنِ مِنَ السِّلْمِ.. مِنْ وَضْعِ الْحَرْبِ أَوْزَارَهَا؛ دَخَلَ فِي الدِّينِ عَدَدٌ يَزِيدُ عَلَى الْعَدَدِ الَّذِي دَخَلَ مُنْذُ بِعْثَةِ مُحَمَّدٍ إِلَى أَنْ عُقِدَتْ مُعَاهَدَةُ الْحُدَيْبِيَّةِ؛ لِمَ؟!

لِأَنَّ النَّاسَ أَخَذُوا هُدْنَةً يَلْتَقِطُونَ فِيهَا الْأَنْفَاسَ، فَتَهْدَأُ الْخَوَاطِرُ، وَتَصْفُو النُّفُوسُ، وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّهُ إِذَا احْتَدَمَ الْجِدَالُ تَوَارَى الصَّوَابُ جَانِبًا، إِذَا احْتَدَمَ الْجِدَالُ.. إِذَا احْتَدَمَ الصِّرَاعُ تَوَارَى الصَّوَابُ جَانِبًا.

وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّكَ لَوْ أَتَيْتَ بِكِتَابٍ فَجَعَلْتَهُ مُلَاصِقًا لِعَيْنَيْكَ فَإِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ أَنْ تَقْرَأَ مِنْهُ حَرْفًا، وَلَا أَنْ تُبْصِرَ مِنْهُ شَيْئًا، فَإِذَا مَا أَبْعَدْتَهُ قَلِيلًا تَحَقَّقْتَ مِنْهُ تَحَقُّقًا، وَوَقَعْتَ عَلَيْهِ تَحْقِيقًا، وَحِينَئِذٍ ابْتَعِدْ قَلِيلًا كَيْ تَرَى أَفْضَلَ!

ابْتَعِدْ قَلِيلًا كَيْ تَرَى أَوْضَحَ!

ابْتَعِدْ قَلِيلًا كَيْ تَرَى أَصْفَى!

وَهَكَذَا كَانَ الْأَمْرُ بِتِلْكَ الْمُعَاهَدَةِ.

فَالْإِسْلَامُ يُعْطِي الْعَقْلَ فُرْصَةً، وَيُعْطِي الضَّمِيرَ فُرْصَةً، وَيُعْطِي النَّفْسَ الْبَشَرِيَّةَ فُرْصَةً لِلتَّصْفِيَةِ وَالتَّهْذِيبِ وَالتَّرْبِيَةِ وَالتَّنْقِيَةِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مَوْضُوعِيًّا وَصَوَابًا، وَمُبَرَّأً مِنْ كُلِّ أَثَارَةٍ مِنْ شَهْوَةٍ وَانْفِعَالٍ وَغَضَبٍ يُبْعِدُ عَنِ الْوُقُوعِ عَلَى حَقِيقَةِ الصَّوَابِ.

هَذَا ثُمَامَةُ يُعْطِيهِ النَّبِيُّ ﷺ فُرْصَةً، مَرْبُوطًا بِسَارِيَةِ الْمَسْجِدِ، يُؤَذَّنُ لِلصَّلَاةِ بِمَحْضَرِهِ، وَيُرْفَعُ الْأَذَانُ هُنَالِكَ فِي السَّحَرِ الْأَعْلَى عِنْدَ بُدُوِّ الْفَجْرِ الْكَاذِبِ، عِنْدَمَا تَهْدَأُ النُّفُوسُ، وَعِنْدَمَا تَسْتَقِرُّ عَلَى الْمَضَاجِعِ الْجُنُوبُ، وَعِنْدَمَا تَخْرُجُ النَّفْسُ مِنْ زَحْمَةِ الْحَيَاةِ إِلَى صَفَائِهَا وَنَقَائِهَا وَهُدُوئِهَا وَانْتِظَامِهَا عَلَى مَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ عَلَيْهِ.

هُوَ هُنَالِكَ رُبَّمَا يَنَامُ نَوْمَ الْمُشَرَّدِ الْمُفَزَّعِ  الَّذِي يَخْطَفُهُ النَّوْمُ مِنَ الْيَقَظَةِ حِينًا، ثُمَّ يَرُدُّهُ كَالْمَوْتِ يَتَلَاطَمُ بِالشُّطْآنِ الْحَجَرِيَّةِ، لَا يَسْتَقِرُّ عَلَى قَرَارٍ، يَرُوحُ وَيَجِيءُ، نَوْمُ الْمُشَرَّدِ، وَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ نَوْمُ الْأَسِيرِ؛ وَبِخَاصَّةٍ إِذَا كَانَ الْأَسِيرُ سَيِّدَ قَوْمِهِ، وَبِخَاصَّةٍ إِذَا كَانَ عَرَبِيًّا صَلِيبَةً، حُرًّا تَشْتَعِلُ عُرُوقُهُ بِدِمَاءِ الْحُرِّيَّةِ.

الرَّجُلُ يَسْمَعُ الْأَذَانَ يُرْفَعُ، وَالنَّاسُ يَتَوَافَدُونَ يَتَقَاطَرُونَ، يَقُومُونَ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِمْ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَتَعَبَّدُونَ؛ مَا هَذَا؟!

هَذَا شَيْءٌ جَدِيدٌ هُوَ غَيْرُ مَعْهُودٍ، مَا هَذَا الدِّينُ؟!

ثُمَّ هَا هُمْ يَتَعَامَلُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ تَحْتَ عَيْنَيْهِ بِقَانُونِ الْإِسْلَامِ وَعَلَى قَانُونِهِ، لَا يُجِيزُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ لِنَفْسِهِ وَلَا يُجِيزُ الشَّرْعُ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى أَخِيهِ نَظْرَةً فِيهَا احْتِقَارٌ؛ حَتَّى النَّظْرَةُ يَمْنَعُهَا الْإِسْلَامُ الْعَظِيمُ!

وَدِينُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هُوَ دِينُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، يَنْطَوِي عَلَى مَا يَنْطَوِي عَلَيْهِ مِنَ الْحِسِّ وَمِنَ الْمَشَاعِرِ؛ فَهُوَ دِينُ الْأَحَاسِيسِ -عِبَادَ اللهِ-، دِينُ الْأَحَاسِيسِ، وَالنَّبِيُّ ﷺ لَمْ يَكُنْ يُحِدُّ النَّظَرَ إِلَى وَاحِدٍ مِنَ الْبَشَرِ أَبَدًا؛ كَيْفَ؟! هَذَا عَجِيبٌ!

وَلَكِنْ هُوَ تَطْبِيقٌ عَمَلِيٌّ لِلتَّعَالِيمِ، إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَرَى الْإِسْلَامَ عَمَلِيًّا وَالْقُرْآنَ قَائِمًا فَانْظُرْ سِيرَةَ وَسُنَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ؛ تَرَ الْأَمْرَ مَنْصُوبًا فِي قَالَبٍ.. فِي قَالَبٍ يَرُوحُ وَيَجِيءُ مِنْ غَيْرِ مَا حُدُودٍ ﷺ.

إِذَن؛ الرَّجُلُ مَرْبُوطٌ بِالسَّارِيَةِ تَتَابَعُ عَلَيْهِ الصَّلَوَاتُ، وَالصَّحَابَةُ يَتَعَامَلُونَ يَتَفَاعَلُونَ بَيْنَهُمْ، يَرُوحُونَ وَيَجِيئُونَ، ثُمَّ هُمْ بَعْدُ تَحْتَ عَيْنَيْهِ يَتَعَامَلُونَ مَعَ نَبِيِّهِمْ ﷺ تَحْتَ عَيْنَيْهِ، هَذَا تَعَامُلٌ فَذٌّ فَرِيدٌ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ ﷺ بَيْنَ أَصْحَابِهِ لَمْ يَكُنْ يَتَوَضَّأُ بِوَضُوءٍ قَطُّ -وَهُوَ الْمَاءُ الَّذِي يُتَوَضَّأُ بِهِ- إِلَّا وَقَعَ فِي يَدِ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ يَجْعَلُهُ عَلَى وَجْهِهِ، أَوْ يَسْتَقْبِلُ بِهِ مَا يَسْتَقْبِلُ مِنْ جَسَدِهِ، وَمَا مِنْ شَيْءٍ مِنْ شَعْرِهِ إِلَّا وَقَدْ وَقَعَ فِي يَدِ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ﷺ، يُحِبُّونَهُ، يُجِلُّونَهُ، يُعَزِّرُونَهُ وَيُوَقِّرُونَهُ، وَيَلْتَزِمُونَ أَمْرَهُ، وَيَنْتَهُونَ عَنْ نَهْيِهِ، وَهُوَ عِنْدَهُمْ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، وَأَبْنَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ، وَأَمْوَالِهِمْ وَدِيَارِهِمْ، وَتِجَارَةٍ اكْتَسَبُوهَا، وَمِنْ أَنْفُسِهِمُ الَّتِي بَيْنَ جُنُوبِهِمْ ﷺ.

وَإِذَنْ؛ فَالرَّجُلُ يَرَى ذَلِكَ كُلَّهُ بِمَحْضَرٍ وَهُوَ شَاهِدٌ، يُعْطِيهِ الْفُرْصَةَ، وَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟)).

قَالَ: ((عِنْدِي يَا مُحَمَّدُ خَيْرٌ، إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ)).

((ذَا دَمٍ)) يَعْنِي: صَاحِبَ دَمٍ لَا يَذْهَبُ دَمُهُ هَبَاءً، وَلَكِنْ وَرَاءَهُ مَنْ يُطَالِبُ بِدَمِهِ؛ لِأَنَّهُ شَرِيفٌ فِي قَوْمِهِ سَيِّدٌ.

هَذَا قَوْلٌ.

((إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ)) يَعْنِي: مَنْ قَدْ أَصَابَ مِنْكُمْ مَا أَصَابَ، فَإِنْ قَتَلْتَهُ فَإِنَّمَا بِالدَّمِ الَّذِي أَصَابَهُ فِيكُمْ.

هَذَا قَوْلٌ.

((إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ)).

فَلَمْ يُكَلِّمْهُ النَّبِيُّ ﷺ، وَمَضَى وَتَرَكَهُ إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي تَلَا، فَمَرَّ عَلَيْهِ فَقَالَ: ((مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟)).

الرَّجُلُ كَانَ يَعْتَادُهُ فِي السَّاعَاتِ الْأُولَى حَتَّى اللِّقَاءِ النَّبَوِيِّ هَاجِسٌ يَأْخُذُ بِيَدَيْ رُوحِهِ إِلَى حَدِّ الْحَجَرِ الَّذِي يُذْبَحُ عَلَيْهِ مَا يُذْبَحُ مِنَ الْأَنْعَامِ، فَهُوَ يَنْظُرُ مِنْ خِلَالِ اللَّوْنِ الْأَحْمَرِ وَلَا يَرَى إِلَّا الْمَوْتَ قَائِمًا، فَلَمَّا كَلَّمَهُ النَّبِيُّ ﷺ بِهَذَا الرِّفْقِ طَمِعَ، فَلَمَّا جَاءَ فِي غَدٍ فَقَالَ: ((مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟)).

أَخَّرَ التَّرْهِيبَ الَّذِي بَدَأَ بِهِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، وَقَالَ: ((مَا قُلْتُ لَكَ؛ إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ))، فَلَمْ يُكَلِّمْهُ وَمَضَى.

وَجَاءَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَقَالَ: ((مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟)).

فَقَالَ ثُمَامَةُ لِلنَّبِيِّ ﷺ: ((مَا قُلْتُ لَكَ؛ إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ)).

فَقَالَ: ((أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ!)) ﷺ؛ أَطْلِقُوهُ!

قَدْ أَعْتَقْتُكَ وَمَنَنْتُ عَلَيْكَ!

هَذَا الرَّجُلُ أَخَذَ يُدِيرُ بِاللَّيْلِ وَبِالنَّهَارِ فِي الصَّبَاحِ وَفِي الْمَسَاءِ، فِي صَحْوِهِ وَفِي مَنَامِهِ، فِي فَزَعِهِ وَفِي سُكُونِهِ، فِي مَدِّهِ وَجَزْرِهِ، يَنْظُرُ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْجَدِيدِ، فِي هَذَا الدِّينِ مَا هُوَ، وَيَسْمَعُ الْآيَاتِ يَتْلُوهَا النَّبِيُّ ﷺ فِي الصَّلَوَاتِ يَتَأَمَّلُ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ بَشَرٍ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ قَدْ جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ؛ فَإِنَّ شَخْصَ مُحَمَّدٍ ﷺ هَاهُنَا لَا يُدْعَى إِلَيْهِ، إِنَّمَا الدَّعْوَةُ كُلُّهَا إِلَى اللهِ!

هُوَ يَلْحَظُ ذَلِكَ، وَيَلْحَظُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَا يَصْنَعُ لِنَفْسِهِ بِنَفْسِهِ مَجْدًا، وَلَا يُحَصِّلُ لِنَفْسِهِ بِنَفْسِهِ عِزًّا، وَلَا يُوَطِّئُ بِدَعْوَتِهِ لِذَاتِهِ طَرِيقًا مُمَهَّدًا مِنْ أَجْلِ أَنْ يَعْلُوَ بِهِ عَلَى رِقَابِ النَّاسِ، إِنَّهُ نَبِيُّ اللهِ ﷺ، فَالْأَمْرُ للهِ؛ يَرْفَعُ وَيَضَعُ، وَيُعْطِي وَيَمْنَعُ، الْأَمْرُ للهِ يُعِزُّ وَيُذِلُّ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

تَأَمَّلَ وَتَفَكَّرَ، وَأَرَادَ أَنْ يَصْنَعَ صَنِيعَهُ، فَلَمَّا أَطْلَقَهُ -وَيَبْدُو أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ عِلْمَ الْإِسْلَامِ الْحَقِّ-؛ ذَهَبَ إِلَى نَخْلٍ هُنَالِكَ -يَعْنِي: إِلَى نَخْلٍ بِهِ عَيْنُ مَاءٍ أَوْ عِنْدَهُ مَاءٌ- فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ بَعْدَمَا اغْتَسَلَ، وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَقَالَ: ((أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ)).

لِمَ لَمْ  يَقُلْهَا وَهُوَ فِي الْأَسْرِ وَقَبْلَ الْإِطْلَاقِ؟!

لِمَ لَمْ يَقُلْهَا فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَخْرُجَ بِجِلْدِهِ مِنَ الْمَوْتِ سَالِمًا وَالْمَوْتُ مُحِيطٌ بِهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ؟!

إِنَّ الْعَرَبِيَّ يَمُوتُ وَلَا يَتَدَنَّى!

إِنَّ الْحُرَّ الْكَرِيمَ يُضَحِّي بِرُوحِهِ وَلَا يَقِفُ مَوْقِفَ ذُلٍّ أَبَدًا!

لَمْ يُرِدْ أَنْ يُقَالَ عَنْهُ يَوْمًا إِنَّهُ أَسْلَمَ مَخَافَةَ السَّيْفِ، وَإِنَّهُ أَسْلَمَ فَزَعًا وَرُعْبًا، وَإِنَّمَا بَعْدَ إِطْلَاقِ السَّرَاحِ وَبَعْدَ الْخُرُوجِ إِلَى فَضَاءِ الْحُرِّيَّةِ مِنْ ضِيقِ الْأَسْرِ يَعُودُ بِنَفْسِهِ بِذَاتِهِ إِلَى نَبِيِّهِ ﷺ لِكَيْ يَقُولَ: ((أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ)).

كَانَ قَدْ تَأَمَّلَ تَأَمُّلًا صَحِيحًا فَوَصَلَ إِلَى الْآتِي، يَقُولُ: هَذَا الرَّجُلُ كُنْتُ أَحْكُمُ فِيهِ بِالظَّنِّ، وَهَذَا الدِّينُ كُنْتُ أَقْضِي عَلَيْهِ بِالظَّنِّ، وَهَذَا الْبَلَدُ كُنْتُ أَتَخَيَّلُ فِيهِ أُمُورًا بِالظَّنِّ، وَلَا أَثَارَةَ لِلْحَقِيقَةِ فِيهِ، وَالْآنَ هُوَ يُصَحِّحُ ذَلِكَ كُلَّهُ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ ﷺ.

يَقُولُ: ((يَا مُحَمَّدُ! وَاللَّهِ! مَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ كُلِّهَا إِلَيَّ، وَاللَّهِ! مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ، فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ كُلِّهِ إِلَيَّ، وَاللَّهِ! مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ، فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلَادِ كُلِّهَا إِلَيَّ، وَإِنَّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِي وَأَنَا أُرِيدُ الْعُمْرَةَ فَمَاذَا تَرَى؟))، فَبَشَّرَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ)).

 ثُمَّ مَضَى إِلَى عُمْرَتِهِ، لَمَّا كَانَ بِالْوَادِي قَبْلَ دُخُولِهِ بِمَكَّةَ أَخَذَ يَقُولُ مُلَبِّيًا: ((لَبَّيْكَ اللهم لَبَّيْكَ)).

يَقُولُونَ: أَوَّلُ مَنْ لَبَّى فِي الْإِسْلَامِ قَاصِدًا الْبَيْتَ هُوَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

فَأَخَذَتْهُ قُرَيْشٌ -وَهِيَ تَعْرِفُهُ سَيِّدُ بَنِي حَنِيفَةَ، وَكَانَتِ الْيَمَامَةُ مَنْزِلُ بَنِي حَنِيفَةَ رِيفَ قُرَيْشٍ.. كَانَتْ رِيفَ قُرَيْشٍ يَتَحَصَّلُونَ عَلَى الْحِنْطَةِ -عَلَى الْقَمْحِ- مِنَ الْيَمَامَةِ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ، فَإِذَا مَنَعَتْ بَنُو حَنِيفَةَ قَمْحَهَا وَحِنْطَتَهَا جَاعَتْ قُرَيْشٌ، فَيَعْرِفُونَ لِلرَّجُلِ قَدْرَهُ، وَيَعْرِفُونَ لَهُ أَثَرَهُ-، فَأَخَذُوهُ، قَالُوا: ((أَصَبَوْتَ؟!)) يَعْنِي: تَرَكْتَ دِينَكَ؟!

قَالَ: ((لَا، وَلَكِنِّي أَسْلَمْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ )).

صَبَأَ يَعْنِي: تَرَكَ دِينًا كَانَ عَلَيْهِ.

يَقُولُ: أَنْتُمْ لَمْ تَكُونُوا عَلَى دِينٍ وَلَسْتُمْ عَلَيْهِ، فَإِذَا قُلْتُمْ: صَبَأْتَ؛ فَمَعْنَى ذَلِكَ أَنِّي انْتَقَلْتُ مِنْ دِينٍ إِلَى دِينٍ، لَمْ أَكُنْ عَلَى دِينٍ، وَإِنَّمَا اسْتَأْنَفْتُ الدِّينَ الْحَقَّ.

ثُمَّ قَالَ: ((وَلَا وَاللَّهِ! لَا يَأْتِيكُمْ مِنَ الْيَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ )).

مَا هَذَا؟!

ضَاقَ الْحِصَارُ عَلَى قُرَيْشٍ جِدًّا -يَا صَاحِبِي-؛ حَتَّى فِي لُقْمَةِ الْعَيْشِ، رَبُّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، صَاحِبُ الْقُوَى وَالْقُدَرِ، يُذِلُّ أُنُوفَ الطُّغَاةِ، وَيَجْعَلُهَا مُمَرَّغَةً فِي الرُّغَامِ بِأَسْبَابٍ لَا تُتَصَوَّرُ وَلَا تُتَخَيَّلُ.

ثُمَّ لَمَّا قَضَى عُمْرَتَهُ عَادَ وَمَنَعَ الْحِنْطَةَ؛ مَاذَا تَصْنَعُ قُرَيْشٌ؟

وَيَا لَلْعَجَبِ! لَمْ تُعْمِلْ عَقْلَهَا كَمَا أَعْمَلَ ثُمَامَةُ عَقْلَهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي مَعَ الْمَقُولَةِ الَّتِي سَيَقُولُونَ فِي الشَّفَاعَةِ عِنْدَ الْمَأْمُونِ ﷺ لِاسْتِئْنَافِ اسْتِيرَادِهِمْ لِلْحِنْطَةِ مِنَ الْيَمَامَةِ؛ كَانَ يَنْبَغِي مَعَ إِقْرَارِهِمْ بِالَّذِي يُقَدِّمُونَهُ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ ﷺ لِكَيْ يَمُنَّ عَلَيْهِمْ.. كَانَ يَنْبَغِي -وَهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ يَقِينًا- أَنْ يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ.

قَالُوا مَاذَا؟

أَرْسَلُوا إِلَيْهِ يَقُولُونَ: ((يَا مُحَمَّدُ! إِنَّكَ تَأْمُرُ بِصِلَةِ الرَّحِمِ، وَإِنَّا سَنَمُوتُ جُوعًا؛ فَأْمُرْ بَنِي حَنِيفَةَ كَيْ يُرْسِلُوا إِلَيْنَا الْحِنْطَةَ)).

شَرَفٌ فِي الْخُصُومَةِ؛ أَرْسَلَ إِلَيْهِ يَقُولُ: ((يَا ثُمَامَةُ! لَا تَمْنَعْ عَنْهُمْ حِنْطَةَ الْيَمَامَةِ)) ﷺ.

تُعْمِلُ الْعَقْلَ! لَا يَهْتَزُّ مُسْلِمٌ أَبَدًا بِشَكٍّ مَهْمَا عَلَتْ مَوْجَةُ الْإِلْحَادِ وَالشَّكِّ أَبَدًا، إِنَّمَا يَهْتَزُّ الْفَارِغُونَ، نَعَمْ؛ الْمُجَوَّفُ الَّذِي لَا قَرَارَ لَهُ وَلَا جِذْرَ يَمْتَدُّ بِهِ فِي أَصْلِ الْفِطْرَةِ، هَزَّةُ الرِّيحِ تُمِيلُهُ، وَرُبَّمَا قَصَمَتْهُ.

نَعَمْ؛ شَجَرَةُ الْبَاطِلِ تَهِيجُ، شَجَرَةُ الْخِرْوَعِ فِي ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ تَعْلُو الْبَيْتَ بِالطَّبَقَاتِ وَالطَّوَابِقِ، وَأَمَّا النَّخْلَةُ فَتَنْمُو عَلَى هِينَةٍ تَمْتَدُّ جُذُورُهَا فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ إِذَا هِيَ نَخْلَةٌ سَحُوقٌ لَا تَصْنَعُ مَعَهَا هُوجُ الرِّيَاحِ شَيْئًا، وَأَمَّا تِلْكَ الَّتِي هَاجَتْ فَمَاجَتْ فَعَلَتْ فَسَمَقَتْ ظَاهِرًا مِنْ غَيْرِ مَا أَصْلٍ وَلَا قَرَارٍ؛ هَبَّةُ الرِّيحِ تَجْعَلُهَا مُنْجَعِفَةً مُنْكَسِرَةً، وَإِذَا هِيَ كَالْهَبَاءِ وَالْعَدَمِ!

لَمْ يُعْمِلُوا الْعَقْلَ!

((مَجَالَاتُ إِعْمَالِ الْعَقْلِ))

نَبِيُّكُمْ مُحَمَّدٌ ﷺ يُحِبُّ الَّذِينَ يُعْمِلُونَ الْعَقْلَ الْفِطْرِيَّ فِي أَصْلِ الْقَضِيَّةِ؛ حَتَّى يَنْمَحِقَ الشَّكُّ، وَيَزُولَ الْوَهْمُ، وَمِنْ أَجْلِ أَنْ يَظَلَّ الْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ رَاسِخًا، نَعَمْ..

وَدَوْرُ الْعَقْلِ مُنْحَسِمٌ مُنْحَصِرٌ فِي قَانُونٍ: إِنَّهُ يُعْمَلُ فِي الْقَضِيَّةِ الْأُولَى عَلَى رَأْسِ الطَّرِيقِ، فَإِذَا أَسْلَمْتَ فَلَا يَجُوزُ بَعْدَ إِسْلَامِكَ وَإِيمَانِكَ وَتَسْلِيمِكَ أَنْ تُعْمِلَ الْعَقْلَ فِي النُّصُوصِ قَبُولًا وَرَدًّا، لِلْعَقْلِ مَجَالُهُ، فَإِذَا مَا سَلَّمَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُرَاجِعَ، وَإِلَّا فَلَوْ رَاجَعَ الْعَقْلُ مَرَّةً أُخْرَى بَعْدَ التَّسْلِيمِ فِي أَصْلِ الْقَضِيَّةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ قَدْ رَاجَعَ فِي أَصْلِ الْقَضِيَّةِ، وَلَا يَسْتَقِيمُ، تَنَاقُضٌ؛ لَا يَجُوزُ، أَنْتَ سَلَّمْتَ وَأَنْتَ عَلَى رَأْسِ الطَّرِيقِ: { فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46].

الْأَمْرُ وَاضِحٌ كَالشَّمْسِ فِي رَائِعَةِ الضُّحَى مِنْ غَيْرِ مَا غَيْمٍ وَلَا سَحَابٍ تُدْرِكُهَا الْأَعْيُنُ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا مِنْ عُشُوٍّ، وَلَيْسَ بِهَا مِنْ عَمًى، وَلَا دُونَهَا ضَبَابٌ، هَذِهِ الْأَعْيُنُ الَّتِي لَيْسَتْ بِرُمْدٍ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَسْتَجْلِيَ حَقِيقَةَ الدِّينِ بِالْفِطْرَةِ الْعَقْلِيَّةِ لَا عَلَى الْفِطْرَةِ الْمَنْطِقِيَّةِ.

وَعَلَى رَأْسِ الطَّرِيقِ يَخْتَارُ الْمَرْءُ طَرِيقَهُ؛ هُمَا طَرِيقَانِ؛ وَهَدَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْإِنْسَانَ النَّجْدَيْنِ؛ طَرِيقَ الْحَقِّ وَطَرِيقَ الْبَاطِلِ، طَرِيقَ الْهُدَى وَطَرِيقَ الضَّلَالِ، فَإِذَا مَا سِرْتَ فِي طَرِيقِ الْحَقِّ فَاخْتَرَتْهُ فَكَيْفَ تُرَاجِعُ مَرَّةً أُخْرَى فِي أَصْلِ الْقَضِيَّةِ فِي أَصْلِ الِاخْتِيَارِ؟! هَذَا تَنَاقُضٌ لَا يَحْسُنُ بِالْعُقَلَاءِ، وَلَا يَجْمُلُ وَلَا يَكُونُ عِنْدَ عَاقِلٍ أَبَدًا.

هَذِهِ وَاحِدَةٌ.

وَأُخْرَى هِيَ أُخْتُهَا، مُنْتَظِمَةٌ فِي سِلْكِهَا كَحَبَّاتِ الْعُقْدِ تَتَتَالَى، وَدُونَكَ رَجُلٌ مِنَ الْأَصْحَابِ شَاعِرٌ أَدِيبٌ فَصِيحٌ بَلِيغٌ، هَذَا الرَّجُلُ كَانَ سَيِّدًا فِي قَوْمِهِ، وَكَانَ رَأْسًا فِي قَبِيلَتِهِ -قَبِيلَةِ دَوْسٍ-، هَذَا الرَّجُلُ هُوَ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو الدَّوْسِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، كَانَ سَيِّدَ قَوْمِهِ وَرَأْسَ دَوْسٍ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ.. كَانَ رَأْسَ قَوْمِهِ مِنْ قَبِيلَةِ دَوْسٍ قَبْلَ إِسْلَامِهِ، وَكَانَ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ أَنَّهُمْ يَؤُمُّونَ الْبَيْتَ؛ يَذْهَبُونَ إِلَى مَكَّةَ مُعْتَمِرِينَ وَزَائِرِينَ وَقَاضِينَ لِحَاجَاتِ بِلُبَانَاتِ قَلْبِ عَاشِقٍ لِهَذَا الْبَيْتِ.

الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَمْ يَكُنْ تُطْفَئُ لَهُ نَارٌ، وَلَا يَنْزِلُ لَهُ قِدْرٌ عَنْ نَارٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، كَانَ مَقْصُودًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي كُلِّ حِينٍ وَحَالٍ، وَكَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بَذُولًا، وَكَانَ شَاعِرًا فَصِيحًا يَعْرِفُ قَدْرَ الْكَلَامِ.

الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَصَدَ مَكَّةَ مِنْ أَجْلِ الزِّيَارَةِ، فَلَمَّا أَنْ كَانَ هُنَالِكَ أَقْبَلَ عَلَيْهِ مَنْ أَقْبَلَ مِنْ قُرَيْشٍ -وَكَانَ عِنْدَهُمْ مَعْرُوفًا مَشْهُورًا- فَقَالُوا لَهُ: ((يَا طُفَيْلُ! إنَّكَ قَدِمْتَ بِلَادَنَا، وَهَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بَيْنَ أَظْهُرِنَا قَدْ أَعْضَلَ بِنَا -اشْتَدَّ أَمْرُهُ-، وَقَدْ فَرَّقَ جَمَاعَتَنَا، وَشَتَّتَ أَمْرَنَا، وَإِنَّمَا قَوْلُهُ كَالسِّحْرِ يُفَرِّقُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ أَبِيهِ، وَبَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ أَخِيهِ، وَبَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ، وَإِنَّا نَخْشَى عَلَيْكَ وَعَلَى قَوْمِكَ مَا قَدْ دَخَلَ عَلَيْنَا، فَلَا تُكَلِّمَنَّهُ وَلَا تَسْمَعَنَّ مِنْهُ شَيْئًا)).

يَا طُفَيْلُ! إِنَّ زَعَامَتَكَ فِي قَوْمِكَ سَتَهْتَزُّ -مُعَرَّضَةً لِلِاهْتِزَازِ-، وَإِنَّا نَخْشَى عَلَيْكَ أَنْ تَسْمَعَ مُحَمَّدًا ﷺ، إِنَّهُ قَدْ فَرَّقَ جَمْعَنَا، وَسَفَّهَ آلِهَتَنَا، فَحَذَارِ أَنْ تَسْمَعَ مِنْهُ حَذَارِ!

قَالَ الطُّفَيْلُ: ((فَوَاَللَّهِ! مَا زَالُوا بِي حَتَّى أَجْمَعْتُ أَلَّا أَسْمَعَ مِنْهُ شَيْئًا، وَلَا أُكَلِّمَهُ، حَتَّى حَشَوْتُ فِي أُذُنَيَّ حِينَ غَدَوْتُ إلَى الْمَسْجِدِ كُرْسُفًا؛ فَرَقًا مِنْ أَنْ يَبْلُغَنِي شَيْءٌ مِنْ قَوْلِهِ، وَأَنَا لَا أُرِيدُ أَنْ أَسْمَعَهُ)).

الرَّجُلُ أَخَذَ كَلَامَهُمْ مَأْخَذَ الْجَدِّ، وَجَعَلَ الرَّجُلُ فِي أُذُنَيْهِ كُرْسُفًا -يَعْنِي: قُطْنَةً، جَعَلَ الرَّجُلُ فِي أُذُنَيْهِ بَعْضًا مِنْ قُطْنٍ-؛ حَتَّى لَا يَنْفُذَ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ مُحَمَّدٍ ﷺ.

قَالَ: ((فَغَدَوْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ؛ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَائِمٌ يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ، قَالَ: فَقُمْتُ مِنْهُ قَرِيبًا، فَأَبَى اللَّهُ إلَّا أَنْ يُسْمِعَنِي بَعْضَ قَوْلِهِ، قَالَ: فَسَمِعْتُ كَلَامًا حَسَنًا، قَالَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: وَاثُكْلَ أُمِّي! وَاَللَّهِ! إنِّي لَرَجُلٌ لَبِيبٌ شَاعِرٌ مَا يَخْفَى عَلَيَّ الْحَسَنُ مِنْ الْقَبِيحِ، فَمَا يَمْنَعُنِي أَنْ أَسْمَعَ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ مَا يَقُولُ؛ فَإِنْ كَانَ الَّذِي يَأْتِي بَهْ حَسَنًا قَبِلْتُهُ، وَإِنْ كَانَ قَبِيحًا تَرَكْتُهُ)).

ذَهَبَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ قَائِمًا هُنَالِكَ يُصَلِّي، فَأَبَى رَبُّكَ إِلَّا أَنْ يَنْفُذَ إِلَى سَمْعِهِ بَعْضُ كَلَامِ رَبِّكَ -جَلَّ وَعَلَا- عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ ﷺ، فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ وَعَتْهُ ذَاكِرَتُهُ، ثُمَّ طَافَ حَوْلَ الْبَيْتِ مَا شَاءَ، ثُمَّ مَضَى.

فَلَمَّا انْقَلَبَ إِلَى مَكَانِهِ الَّذِي كَانَ فِيهِ أَخَذَ يُعَاتِبُ نَفْسَهُ يَقُولُ: يَا طُفَيْلُ! أَنْتَ رَجُلٌ أَرِيبٌ أَدِيبٌ شَاعِرٌ، وَأَنْتَ تُمَيِّزُ جَيِّدَ الْكَلَامِ مِنْ رَدِيئِهِ، وَأَنْتَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَفْصِلَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْهُدَى وَالرَّشَادِ، مَا هَذَا الَّذِي نَزَلَ بِكَ، أَفَلَا ذَهَبْتَ إِلَى الرَّجُلِ فَسَمِعْتَ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ حَسَنًا قَبِلْتَهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ رَدَدْتَهُ!

إِعْمَالُ الْعَقْلِ هَاهُنَا فِي هَذَا الْمَوْطِنِ بِالْمُقَدِّمَاتِ الْعَقْلِيَّةِ الْفِطْرِيَّةِ، لَا الْمَنْطِقِيَّةِ؛ مِنْ أَجْلِ وَضْعِ الْيَدِ عَلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ، حَتَّى لَا يُهَوِّشَ الْإِنْسَانُ، وَحَتَّى لَا يَصْنَعَ لِنَفْسِهِ دِينًا، سَرْعَانَ مَا يَهْتَزُّ مَعَ أَوَّلِ إِعْصَارٍ مِنَ الْأَعَاصِيرِ، بَلْ مَعَ أَوَّلِ هَبَّةٍ مِنْ نَسِيمٍ عَلِيلٍ!

الرَّجُلُ يُرَاجِعُ النَّفْسَ، وَبِالْفِعْلِ ذَهَبَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ!

يَقُولُ: ((فَمَكَثْتُ حَتَّى انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى بَيْتِهِ فَاتَّبَعْتُهُ، حَتَّى إذَا دَخَلَ بَيْتَهُ دَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا مُحَمَّدُ! إنَّ قَوْمَكَ قَدْ قَالُوا لِي كَذَا وَكَذَا، لِلَّذِي قَالُوا، فَوَاَللَّهِ! مَا بَرِحُوا يُخَوِّفُونَنِي أَمْرَكَ حَتَّى سَدَدْتُ أُذُنَيَّ بِكُرْسُفٍ؛ لِئَلَّا أَسْمَعَ قَوْلَكَ، ثُمَّ أَبَى اللَّهُ إلَّا أَنْ يُسْمِعَنِي قَوْلَكَ، فَسَمِعْتُهُ قَوْلًا حَسَنًا، فَاعْرِضْ عَلَيَّ أَمْرَكَ، قَالَ: فَعَرَضَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْإِسْلَامَ، وَتَلَا عَلَيَّ الْقُرْآنَ، فَلَا وَاَللَّهِ! مَا سَمِعْتُ قَوْلًا قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهُ، وَلَا أَمْرًا أَعْدَلَ مِنْهُ، قَالَ: فَأَسْلَمْتُ وَشَهِدْتُ شَهَادَةَ الْحَقِّ، وَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! إنِّي امْرُؤٌ مُطَاعٌ فِي قَوْمِي، وَأَنَا رَاجِعٌ إلَيْهِمْ، وَدَاعِيهمْ إلَى الْإِسْلَامِ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ لِي آيَةً تَكُونُ لِي عَوْنًا عَلَيْهِمْ فِيمَا أَدْعُوهُمْ إلَيْهِ)).

فَقَالَ: ((اللَّهُمَّ اجْعَلْ لَهُ آيَةً)).

قَالَ: ((فَخَرَجْتُ إلَى قَوْمِي حَتَّى إذَا كُنْتُ بِثَنِيَّةٍ تُطْلِعُنِي عَلَى الْحَاضِرِ وَقَعَ نُورٌ بَيْنَ عَيْنَيَّ مِثْلُ الْمِصْبَاحِ فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ فِي غَيْرِ وَجْهِي، إنِّي أَخْشَى أَنْ يَظُنُّوا أَنَّهَا مُثْلَةٌ وَقَعَتْ فِي وَجْهِي لِفِرَاقِي دِينَهُمْ. قَالَ: فَتَحَوَّلَ فَوَقَعَ فِي رَأْسِ سَوْطِي. قَالَ: فَجَعَلَ الْحَاضِرُ يَتَرَاءَوْنَ ذَلِكَ النُّورَ فِي سَوْطِي كَالْقِنْدِيلِ الْمُعَلَّقِ، وَأَنَا أَهْبِطُ إلَيْهِمْ مِنْ الثَّنِيَّةِ. قَالَ: حَتَّى جِئْتُهُمْ فَأَصْبَحْتُ فِيهِمْ.

قَالَ: فَلَمَّا نَزَلْتُ أَتَانِي أَبِي، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا، قَالَ: فَقُلْتُ: إلَيْكَ عَنِّي يَا أَبَتِ، فَلَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي.

قَالَ: وَلِمَ يَا بُنَيَّ؟

قَالَ: قُلْتُ: أَسْلَمْتُ وَتَابَعْت دِينَ مُحَمَّدٍ ﷺ.

قَالَ: أَيْ بُنَيَّ! فَدِينِي دِينُكَ.

قَالَ: فَقُلْتُ: فَاذْهَبْ فَاغْتَسِلْ وَطَهِّرْ ثِيَابَكَ، ثُمَّ تَعَالَ حَتَّى أُعَلِّمَكَ مَا عُلِّمْتُ.

قَالَ: فَذَهَبَ فَاغْتَسَلَ، وَطَهَّرَ ثِيَابَهُ، قَالَ: ثُمَّ جَاءَ فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ، فَأَسْلَمَ.

قَالَ: ثُمَّ أَتَتْنِي صَاحِبَتِي، فَقُلْتُ: إلَيْكَ عَنِّي، فَلَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي.

قَالَتْ: لِمَ -بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي-؟!

قَالَ: قُلْتُ: قَدْ فَرَّقَ بَيْنِي وَبَيْنَكِ الْإِسْلَامُ، وَتَابَعْتُ دِينَ مُحَمَّدٍ ﷺ.

 قَالَتْ: فَدِينِي دِينُكَ.

قَالَ: قُلْتُ: فَاذْهَبِي إلَى حِنَا ذِي الشَّرَى -وَيُقَالُ: حِمَى ذِي الشَّرَى-  فَتَطَهَّرِي مِنْهُ، قَالَ: وَكَانَ ذُو الشَّرَى صَنَمًا لِدَوْسٍ-تَتَعَبَّدُ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُ مَاءٌ-، وَكَانَ الْحِمَى حِمَى حَمَوْهُ لَهُ، وَبِهِ وَشَلٌ مِنْ مَاءٍ يَهْبِطُ مِنْ جَبَلٍ.

فَقَالَتْ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي! أَتَخْشَى عَلَى الصَّبِيَّةِ مِنْ ذِي الشَّرَى شَيْئًا؟ -يَا طُفَيْلُ! أَوَتَخْشَى عَلَى أَبْنَائِكَ مِن ذِي الشَّرَى -يَعْنِي: مِنَ الصَّنَمِ- لِأَنَّكَ أَسْلَمْتَ-.

قَالَ: قُلْتُ: لَا، أَنَا ضَامِنٌ لِذَلِكَ -وَيْحا لَكِ وَلِذِي الشَّرَى-، وَإِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ تَذْهَبِي إِلَيْهِ فَتَغْتَسِلِي عِنْدَهُ؛ لِتَكُونِي أَبْعَدَ عَنِ الْأَعْيُنِ النَّوَاظِرِ، وَحَتَّى لَا يَرَاكِ وَلَا يَتَطَلَّعَ إِلَيْكِ نَاظِرٌ، وَأَمَّا هَذَا فَإِنَّهُ حَجَرٌ لَا أَخْشَى عَلَيْكِ وَلَا عَلَى بَنِيكِ مِنْهُ شَيْءٌ-، فَذَهَبَتْ فَاغْتَسَلَتْ، ثُمَّ جَاءَتْ فَعَرَضْتُ عَلَيْهَا الْإِسْلَامَ، فَأَسْلَمَتْ.

ثُمَّ دَعَوْتُ دَوْسًا إلَى الْإِسْلَامِ، فَأَبْطَئُوا عَلَيَّ -لَمْ تُطِعْهُ دَوْسٌ وَتَخَلَّفَتْ عَنْهُ وَأَبْطَأَتْ إِلَّا أَبَا هُرَيْرَةَ فَإِنَّهُ سَرْعَانَ مَا أَجَابَ دَاعِيَ الْحَقِّ-.

((قَدِمَ طُفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو الدَّوْسِيُّ وَأَصْحَابُهُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ دَوْسًا عَصَتْ وَأَبَتْ، فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهَا)).

فَقِيلَ: ((هَلَكَتْ دَوْسٌ))؛ وَافَجِيعَتَاهُ لِدَوْسٍ! وَافَجِيعَتَاهُ لِدَوْسٍ!

قَالَ: ((اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَأْتِ بِهِمْ)).

فَدَخَلَتْ فِي الْإِسْلَامِ جَمِيعًا.

قَالَ: ((اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا، ارْجِعْ إلَى قَوْمِكَ فَادْعُهُمْ وَارْفُقْ بِهِمْ)).

قَالَ: فَلَمْ أَزَلْ بِأَرْضِ دَوْسٍ أَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ، حَتَّى هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلَى الْمَدِينَةِ، وَمَضَى بَدْرٌ وَأُحُدٌ وَالْخَنْدَقُ، ثُمَّ قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِمَنْ أَسْلَمَ مَعِي مِنْ قَوْمِي وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِخَيْبَرِ)).

فَإِعْمَالُ الْعَقْلِ -هَكَذَا عِبَادَ اللهِ- أَمْرٌ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ.

نَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَرْضَى عَنْهُ وَعَنْ أَصْحَابِ نَبِيِّنَا ﷺ أَجْمَعِينَ.

الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

((إِعْمَالُ الْعُقُولِ فِي فَهْمِ وَتَرْسِيخِ الثَّوَابِتِ وَالْأُصُولِ))

فَعَلَّهُ يَتَسَلَّلُ إِلَى الذِّهْنِ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ تَرَاجَعُوا مِنَ النَّاحِيَةِ الْعَقَدِيَّةِ وَالدَّعَوِيَّةِ تَرَاجُعًا شَدِيدًا، فَعَادُوا يَبْحَثُونَ فِي إِثْبَاتِ وُجُودِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَعَادُوا يَبْحَثُونَ فِي إِثْبَاتِ حَقِيقَةِ الرِّسَالَةِ وَصِدْقِ الرَّسُولِ ﷺ، وَهَذَا خَطَأٌ.

هُمْ لَمْ يَتَرَاجَعُوا، وَإِنَّمَا يُصَحِّحُونَ؛ لِأَنَّ هَذَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَبْدَأَ الَّذِي يُبْدَأُ مِنْهُ وَالْمَصْدَرَ الَّذِي يُصْدَرُ عَنْهُ، فَلَمَّا تُجُوِزَ وَتَعَامَلَ مَنْ تَعَامَلَ مَعَ الدِّينِ عَلَى أَنَّهُ قَدِ اسْتَقَرَّ فِي قَلْبِهِ وَلَمْ يَسْتَقِرَّ، وَتَعَامَلَ مَنْ تَعَامَلَ مَعَ عَقْلِهِ عَلَى أَنَّهُ مُبَرَّأٌ مِنَ الشَّكِّ وَلَيْسَ بِذَلِكَ؛ وَقَعَ بَعْدَ ذَلِكَ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ.

وَكَانَ الْأَصْلُ أَنْ يَنْظُرَ فِي كِتَابِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَالْقُرْآنُ يُقَرِّرُ وُجُودَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِأَدِلَّةٍ فِطْرِيَّةٍ غَرَزَيَّةٍ عَقْلِيَّةٍ لَا تَقْبَلُ النَّقْدَ، وَيُقَرِّرُ الْقُرْآنُ فِي آيَاتِهِ الْكَثِيرَاتِ حَقِيقَةَ الرِّسَالَةِ وَصِدْقَ الرَّسُولِ، فَأَيُّ جَدِيدٍ، أَيُّ تَرَاجُعٍ؟!

وَلَكِنْ لَمَّا اخْتَلَّتِ الْبِدَايَاتُ وَانْعَدَمَ الضَّبْطُ صَارَ الْأَمْرُ إِلَى مَا صَارَ إِلَيْهِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي غَيَابَاتِ الشَّكِّ، وَأَصْبَحَ شَبَابُ الْأُمَّةِ الْيَوْمَ يُنَاقِشُ فِي الْأُصُولِ الثَّوَابِتِ عَلَى أَنَّهَا مُهْتَزَّةٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، هُوَ الَّذِي اهْتَزَّ، وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَبْحَثْ، وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَبْدَأْ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَبْدَأَ مِنْهُ، وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَنْطَلِقْ مِنَ الْمُنْطَلَقِ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَنْطَلِقَ مِنْهُ، هُوَ الَّذِي لَمْ يُحْسِنِ الْبِدَايَةَ، وَإِنَّمَا ابْتَدَأَ الطَّرِيقَ مِنْ مُنْتَصَفِهِ بَلْهَ آخِرِهِ!

نَعَمْ!

 ((أَهَمِّيَّةُ إِعْمَالِ الْعَقْلِ فِي فَهْمِ الدِّينِ وَتَبْلِيغِهِ))

إِعْمَالُ الْعَقْلِ -عِبَادَ اللهِ- أَمْرٌ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ، وَيَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَلْحَظَ هَذَا الدِّينَ، وَأَنْ نَبْحَثَ فِيهِ، وَأَنْ نُفَتِّشَ فِي أَطْوَائِهِ، هُوَ لَيْسَ وِرَاثَةً تُورَثُ، وَإِنَّمَا هُوَ مِيرَاثٌ يُؤَدَّى، لَيْسَ وِرَاثَةً تُورَثُ، وَإِنَّمَا هُوَ مِيرَاثٌ يُؤَدَّى -يُؤَدَّى إِلَى الْمُسْتَحِقِّ-.

وَأَنْتَ عَلِيمٌ أَنَّ السَّفِيهَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم}؛ فَكُلُّ سَفِيهٍ لَيْسَ عِنْدَهُ عَقْلٌ نَاظِرٌ فِي هَذَا الدِّينِ فَأَيُّ مِيرَاثٍ يُمْكِنُ أَنْ يُؤَدَّى إِلَيْهِ وَهُوَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُبْعَدٌ عَنِ التَّصَرُّفِ فِي مِيرَاثِهِ؟!

يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَحْمِلَ أَمَانَةَ الدِّينِ؛ حَتَّى لَا يَشُكَّ شَاكٌّ، وَلَا يَزِيغَ زَائِغٌ، وَلَا يَضِلُّ ضَالٌّ.

وَأَمَّا شَبَابُنَا -عِبَادَ اللهِ- فَهُمْ أَمَانَةٌ فِي أَعْنَاقِ عُلَمَائِنَا!

هُمْ أَمَانَةٌ فِي أَعْنَاقِ دُعَاتِنَا!

هُمْ أَمَانَةٍ فِي أَعْنَاقِ آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ وَمُعَلِّمِيهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ بِهِمْ خَوَاءٌ كَالرِّيحِ تَعْوِي فِي تِلْكَ الصَّافِرَاتِ مِنَ الشِّعَابِ الصُّمِّ بِوَحْيٍ كَوَحْيِ الْجِنِّ، وَلَا يَقُومُ هُنَاكَ مِنَ الْحَقِيقَةِ شَيْءٌ.

عَلَيْنَا -عِبَادَ اللهِ- أَنْ نَبْحَثَ فِي الدِّينِ، وَحِينَئِذٍ يَتَأَتَّى الْيَقِينُ -بِإِذْنِ اللهِ-.

اللهم بَارِكْ فِي عُقَلَائِنَا وَفِيمَنْ دُونَ ذَلِكَ، وَاعْفُ عَنَّا، وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا، إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَتُبْ عَلَيْنَا يَا مَوْلَانَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.

اللهم خُذْ بِأَيْدِينَا إِلَيْكَ، وَأَقْبِلْ بِقُلُوبِنَا عَلَيْكَ، وَارْحَمْنَا بِرَحْمَتِكَ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ يَا أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَيَا ذَا الْقُوَّةِ الْمَتِينِ.

اللهم اهْدِنَا فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنَا فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنَا فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَقِنَا وَاصْرِفْ عَنَّا شَرَّ مَا قَضَيْتَ.

اللهم اهْدِنَا إِلَى الْحَقِّ، وَثَبِّتْنَا عَلَيْهِ.

اللهم اهْدِ الشَّبَابَ الْحَائِرَ الْمِسْكِينَ.

اللهم اهْدِ الشَّبَابَ الْحَائِرَ الْمِسْكِينَ.

اللهم اهْدِ الشَّبَابَ الْحَائِرَ الْمِسْكِينَ.

اللهم اهْدِ الشَّبَابَ الْحَائِرَ الْمِسْكِينَ.

اللهم خُذْ بِأَيْدِينَا إِلَيْكَ، وَأَقْبِلْ بِقُلُوبِنَا عَلَيْكَ، وَهَيِّءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا، وَهَيِّءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا، وَهَيِّءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا.

{وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر: 44].

{وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}.

{وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}.

{رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف: 89].

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ.

المصدر:الْعَقْلُ الْفِطْرِيُّ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  ((دُرُوسٌ وَعِظَاتٌ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ)) ​((الدَّرْسُ الثَّانِي: أُصُولُ التَّوْحِيدِ وَمَعَالِمُهُ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ))
  حَقُّ الطِّفْلِ وَالنَّشْءِ وَرِعَايَتُهُ
  السير إلى الله والدار الآخرة
  خُطُورَةُ الشَّائِعَاتِ
  التَّضَرُّعُ إِلَى اللهِ فِي الْمِحَنِ وَالشَّدَائِدِ
  مصر بين حاضر الكفايات وماضي المجاعات
  حَيَاةُ النَّبِيِّ ﷺ أُنْمُوذَجٌ تَطْبِيقِيٌّ لِصَحِيحِ الْإِسْلَامِ
  أَهَمِّيَّةُ الْعَمَلِ وَالتَّخْطِيطِ فِي الْإِسْلَامِ وَسُبُلُ التَّغْيِيرِ
  مَخَاطِرُ الطَّلَاقِ
  السُّخْرِيَةُ وَأَثَرُهَا الْمُدَمِّرُ عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان