((وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ))
مِن:
((شَرْحُ وُجُوبِ التَّعَاوُنِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَمَوْضُوعِ الْجِهَادِ الدِّينِيِّ لِلْعَلَّامَةِ السَّعْدِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ- ))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((وُجُوبُ التَّعَاوُنِ عَلَى جَمِيعِ الْمَنَافِعِ الْكُلِّيَّةِ
وَخُصُوصًا الْجِهَادِ))
فَقَدْ ((قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: ٢].
فَالْبِرُّ: اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، وَأَحَبَّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ؛ مِنَ التَّحَقُّقِ بِعَقَائِدِ الدِّينِ وَأَخْلَاقِهِ، وَالْعَمَلِ بِآدَابِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ مِنَ الشَّرَائِعِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَمِنَ الْقِيَامِ بِحُقُوقِ اللهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ، وَمِنَ التَّعَاوُنِ عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا، فَكُلُّ هَذَا دَاخِلٌ فِي التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ.
وَمِنَ التَّعَاوُنِ عَلَى التَّقْوَى: التَّعَاوُنُ عَلَى اجْتِنَابِ وَتَوَقِّي مَا نَهَى اللهُ وَرَسُولُهُ عَنْهُ مِنَ الْفَوَاحِشِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَمِنَ الْإِثْمِ وَالْبَغْيِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَالْقَوْلِ عَلَى اللهِ بِلَا عِلْمٍ، بَلْ عَلَى تَرْكِ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ.
وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ التَّعَاوُنُ عَلَى جَمِيعِ الْوَسَائِلِ وَالْأَسْبَابِ الَّتِي يُتَّقَى بِهَا ضَرَرُ الْأَعْدَاءِ؛ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ بِالْأَسْلِحَةِ الْمُنَاسِبَةِ لِلْوَقْتِ، وَتَعَلُّمِ الصَّنَائِعِ الْمُعِينَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَالسَّعْيِ فِي تَكْمِيلِ الْقُوَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ وَالْمَادِّيَّةِ الْمُعِينَةِ عَلَى ذَلِكَ.
قَالَ تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} [الأنفال: ٦٠].
وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: ٧١].
فَيَدْخُلُ فِي هَذَا الِاسْتِعْدَادُ بِكُلِّ الْمُسْتَطَاعِ مِنْ قُوَّةٍ عَقْلِيَّةٍ وَسِيَاسِيَّةٍ وَصِنَاعِيَّةٍ، وَتَعَلُّمِ الْآدَابِ الْعَسْكَرِيَّةِ، وَالنِّظَامِ النَّافِعِ، وَالرَّمْيِ وَالرُّكُوبِ، وَالتَّحَرُّزِ مِنَ الْأَعْدَاءِ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ يُدْرِكُهَا الْمُسْلِمُونَ، وَاتِّخَاذِ الْحُصُونِ الْوَاقِيَةِ.
وَقَدْ أَمَرَ اللهُ وَرَسُولُهُ بِجِهَادِ الْكُفَّارِ الْمُعْتَدِينَ -فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ وَأَحَادِيثَ مُتَنَوِّعَةٍ- بِالنَّفْسِ، وَالْمَالِ، وَالرَّأْيِ، وَفِي حَالِ الِاجْتِمَاعِ، وَفِي كُلِّ الْأَحْوَالِ.
وَالْأَمْرُ بِذَلِكَ أَمْرٌ بِهِ وَبِكُلِّ أَمْرٍ يُعِينُ عَلَيْهِ وَيُقَوِّيهِ وَيُقَوِّمُهُ، وَأَخْبَرَ بِمَا لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ، وَمَا يَدْفَعُ اللهُ بِهِ مِنْ أَصْنَافِ الشُّرُورِ، وَمَا يَحْصُلُ بِهِ مِنَ الْعِزِّ وَالتَّمْكِينِ وَالرِّفْعَةِ، وَمَا فِي تَرْكِهِ وَالزُّهْدِ فِيهِ مِنَ الذُّلِّ وَالضَّرَرِ الْعَظِيمِ، وَتَوَعُّدِ النَّاكِلِينَ عَنْهُ بِالْخِذْلَانِ وَالسُّقُوطِ الْحِسِّيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ، وَبَيَّنَ لَهُمُ الطُّرُقَ الَّتِي يَسْلُكُونَهَا فِي تَقْوِيَةِ مَعْنَوِيَّاتِهِمْ؛ فَإِنَّهُ حَثَّهُمْ عَلَى التَّآلُفِ وَالِاجْتِمَاعِ، وَنَهَاهُمْ عَنِ التَّبَاغُضِ وَالتَّعَادِي وَالِافْتِرَاقِ.
وَذَلِكَ أَنَّ حَقِيقَةَ الْجِهَادِ هُوَ الْجِدُّ وَالِاجْتِهَادُ فِي كُلِّ أَمْرٍ يُقَوِّي الْمُسْلِمِينَ وَيُصْلِحُهُمْ، وَيَلُمُّ شَعَثَهُمْ، وَيَضُمُّ مُتَفَرِّقَهُمْ، وَيَدْفَعُ عَنْهُمْ عُدْوَانَ الْأَعْدَاءِ أَوْ يُخَفِّفُهُ بِكُلِّ طَرِيقٍ وَوَسِيلَةٍ)).
الْجِهَادُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقِفَ الْمُسْلِمُ بِهِ عِنْدَ حُدُودِ الْجِلَادِ، وَاسْتِعْمَالِ السِّنَانِ وَالسَّيْفِ فِي مُقَاتَلَةِ الْأَعْدَاءِ.
((أَقْسَامُ الْجِهَادِ وأَنْوَاعُهُ))
((الْجِهَادُ نَوْعَانِ: جِهَادٌ يُقْصَدُ بِهِ صَلَاحُ الْمُسْلِمِينَ وَإِصْلَاحُهُمْ فِي عَقَائِدِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ وَآدَابِهِمْ، وَجَمِيعِ شُؤُونِهِمُ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَفِي تَرْبِيَتِهِمُ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ.
وَهَذَا النَّوْعُ هُوَ أَصْلُ الْجِهَادِ وَقِوَامُهُ، وَعَلَيْهِ يَتَأَسَّسُ النَّوْعُ الثَّانِي، وَهُوَ جِهَادٌ يُقْصَدُ بِهِ دَفْعُ الْمُعْتَدِينَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَالْمُلْحِدِينَ وَجَمِيعِ أَعْدَاءِ الدِّينِ، وَمُقَاوَمَتُهُمْ.
وَهَذَا نَوْعَانِ:
* جِهَادٌ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ وَاللِّسَانِ.
* وَجِهَادٌ بِالسِّلَاحِ الْمُنَاسِبِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَزَمَانٍ.
هَذَا مُجْمَلُ أَنْوَاعِهِ عَلَى وَجْهِ التَّأْصِيلِ)).
قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((مِفْتَاحِ دَارِ السَّعَادَةِ)): ((وَلِهَذَا كَانَ الْجِهَادُ نَوْعَيْنِ:
* جِهَادٌ بِالْيَدِ وَالسِّنَانِ، وَهَذَا الْمُشَارِكُ فِيهِ كَثِيرٌ.
وَالثَّانِي: الْجِهَادُ بِالْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ، وَهَذَا جِهَادُ الْخَاصَّةِ مِنْ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ، وَهُوَ جِهَادُ الْأَئِمَّةِ، وَهُوَ أَفْضَلُ الْجِهَادَيْنِ؛ لِعِظَمِ مَنْفَعَتِهِ، وَشِدَّةِ مُؤْنَتِهِ، وَكَثْرَةِ أَعْدَائِهِ، قَالَ -تَعَالَى- فِي سُورَة الْفُرْقَانِ -وَهِي مَكِّيَّةٌ-: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان: 51-52].
فَهَذَا جِهَادٌ لَهُمْ بِالْقُرْآنِ، وَهُوَ أَكْبَرُ الْجِهَادَيْنِ، وَهُوَ جِهَادُ الْمُنَافِقِينَ -أَيْضًا-؛ فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَمْ يَكُونُوا يُقَاتِلُونَ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ كَانُوا مَعَهُمْ فِي الظَّاهِرِ، وَرُبَّمَا كَانُوا يُقَاتِلُونَ عَدُوَّهُمْ مَعَهُمْ، وَمَعَ هَذَا فَقَدْ قَالَ -تَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73]، وَمَعْلُومٌ أَنَّ جِهَادَ الْمُنَافِقِينَ بِالْحُجَّةِ وَالْقُرْآنِ)).
يُرِيدُ -رَحِمَهُ اللهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِكَفِّ الْأَيْدِي، وَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُمْ بِالْقِتَالِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى النَّبِيِّ ﷺ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ سُورَةِ الْفُرْقَانِ -وَهِيَ مَكِّيَّةٌ-: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا}.
وَالضَّمِيرُ فِي (بِهِ) رَاجِعٌ إِلَى الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، فَهَذَا جِهَادٌ لَهُمْ بِالْقُرْآنِ، وَهُوَ أَكْبَرُ الْجِهَادَيْنِ: {وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا}.
ثُمَّ احْتَرَزَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-؛ لِأَنَّ النِّفَاقَ لَمْ يَكُنْ قَدْ ظَهَرَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِمَكَّةَ؛ لِذَلِكَ قَالَ: ((وَهُوَ جِهَادُ الْمُنَافِقِينَ -أَيْضًا-؛ فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَمْ يَكُونُوا يُقَاتِلُونَ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ كَانُوا مَعَهُمْ فِي الظَّاهِرِ، وَرُبَّمَا كَانُوا يُقَاتِلُونَ عَدُوَّهُمْ مَعَهُمْ، وَمَعَ هَذَا فَقَدْ قَالَ -تَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}، وَمَعْلُومٌ أَنَّ جِهَادَ الْمُنَافِقِينَ بِالْحُجَّةِ وَالْقُرْآنِ))؛ لِأَنَّهُمْ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ، فَتَجْرِي عَلَيْهِمُ الْأَحْكَامُ الظَّاهِرَةُ وَإِنْ كَانُوا يُبْطِنُونَ الْكُفْرَ.
قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَالْمَقْصُودُ أَنَّ سَبِيلَ اللهِ هِيَ الْجِهَادُ، وَطَلَبُ الْعِلْمِ، وَدَعْوَةُ الْخَلْقِ بِهِ إِلَى اللهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ مُعَاذٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((عَلَيْكُمْ بِطَلَبِ الْعِلْمِ؛ فَإِنَّ تَعَلُّمَهُ للهِ خَشْيَةٌ، وَمُدَارَسَتَهُ عِبَادَةٌ، وَمُذَاكَرَتَهُ تَسْبِيحٌ، وَالْبَحْثَ عَنْهُ جِهَادٌ))؛ وَلِهَذَا قَرَنَ -سُبْحَانَهُ- بَيْنَ الْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ وَالْحَدِيدِ النَّاصِرِ، كَمَا قَالَ -تَعَالَى-: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25]، فَذَكَرَ الْكِتَابَ وَالْحَدِيدَ؛ إِذْ بِهِمَا قِوَامُ الدِّينِ، كَمَا قِيلَ:
فَمَا هُوَ إِلَّا الْوَحْيُ أَوْ حَدُّ مُرْهَفِ = تُمِيلُ ظُبَاهُ أَخْدَعِي كُلِّ مَائِلِ
فَهَذَا شِفَاءُ الدَّاءِ مِنْ كُلِّ عَاقِلِ = وَهَذَا دَوَاءُ الدَّاءِ مِنْ كُلِّ جَاهِلِ
-فَالْكِتَابُ شِفَاءُ الدَّاءِ مِنْ كُلِّ عَاقِلٍ، وَالْحَدِيدُ دَوَاءُ الدَّاءِ مِنْ كُلِّ جَاهِلِ-.
وَلَمَّا كَانَ كُلٌّ مِنَ الْجِهَادِ بِالسَّيْفِ وَالْحُجَّةِ يُسَمَّى سَبِيلَ اللهِ؛ فَسَّرَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- قَوْلَهُ: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ} [النساء: 59] بِالْأُمَرَاءِ وَالْعُلَمَاءِ؛ فَإِنَّهُمُ الْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ، هَؤُلَاءِ -يَعْنِي: الْأُمَرَاء- بِأَيْدِيهِمْ، وَهَؤُلَاءِ -يَعْنِي: الْعُلَمَاء- بِأَلْسِنَتِهِمْ؛ فَطَلَبُ الْعِلْمِ وَتَعْلِيمُهُ مِنْ أَعْظَمِ سَبِيلِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.
قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: ((طَالِبُ الْعِلْمِ كَالْغَادِي الرَّائِحِ فِي سَبِيلِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-).
وَجَاءَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: ((إِذَا جَاءَ الْمَوْتُ طَالِبَ الْعِلْمِ وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ -أَيْ: عَلَى حَالِ طَلَبِ الْعِلْمِ-؛ مَاتَ وَهُوَ شَهِيدٌ)).
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: ((مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ فَقَدْ بَايَعَ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- )).
وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: ((مَنْ رَأَى الْغُدُوَّ وَالرَّوَاحَ إِلَى الْعِلْمِ لَيْسَ بِجِهَادٍ فَقَدْ نَقَصَ عَقْلُهُ وَرَأْيُهُ)).
فَالْحَاصِلُ مِنْ كَلَامِ الْإِمَامِ الْعَلَّامَةِ ابْنِ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-؛ أَنَّهُ قَسَّمَ الْجِهَادَ إِلَى قِسْمَيْنِ:
* إِلَى جِهَادٍ بِاللِّسَانِ وَالْبَنَانِ وَبِالْحُجَّةِ بِالْقُرْآنِ.
* وَجِهَادٍ بِالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ.
وَجَعَلَ الْأَوَّلَ أَعْلَى الْقِسْمَيْنِ، وَهُوَ جِهَادُ الْحُجَّةِ، وَهُوَ جِهَادُ الْمُرْسَلِينَ، وَهُوَ جِهَادُ الْأَئِمَّةِ.
وَزَادَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- هَذَا الْأَصْلَ بَسْطًا فِي ((زَادِ الْمَعَادِ)) فَقَالَ: ((لَمَّا كَانَ الْجِهَادُ ذِرْوَةَ سَنَامِ الْإِسْلَامِ وَقُبَّتَهُ، وَمَنَازِلُ أَهْلِهِ أَعْلَى الْمَنَازِلِ فِي الْجَنَّةِ، كَمَا لَهُمُ الرِّفْعَةُ فِي الدُّنْيَا، فَهُمُ الْأَعْلَوْنَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي الذِّرْوَةِ الْعُلْيَا مِنْهُ، وَاسْتَوْلَى عَلَى أَنْوَاعِهِ كُلِّهَا، فَجَاهَدَ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ بِالْقَلْبِ وَالْجَنَانِ، وَالدَّعْوَةِ وَالْبَيَانِ، وَالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ، وَكَانَتْ سَاعَاتُهُ مَوْقُوفَةً عَلَى الْجِهَادِ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَيَدِهِ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَرْفَعَ الْعَالَمِينَ ذِكْرًا، وَأَعْظَمَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ قَدْرًا.
وَأَمَرَهُ اللَّهُ -تَعَالَى- بِالْجِهَادِ مِنْ حِينِ بَعْثِهِ، وَقَالَ: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الْفُرْقَانِ: 51-52]، فَهَذِهِ سُورَةٌ مَكِّيَّةٌ أَمَرَ فِيهَا بِجِهَادِ الْكُفَّارِ بِالْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ وَتَبْلِيغِ الْقُرْآنِ.
وَكَذَلِكَ جِهَادُ الْمُنَافِقِينَ إِنَّمَا هُوَ بِتَبْلِيغِ الْحُجَّةِ؛ وَإِلَّا فَهُمْ تَحْتَ قَهْرِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ۚ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التَّوْبَةِ: 73].
وَهَذَا الْجِهَادُ جِهَادُ خَوَاصِّ الْأُمَّةِ وَوَرَثَةِ الرُّسُلِ، وَالْقَائِمُونَ بِهِ أَفْرَادٌ فِي الْعَالَمِ، وَالْمُشَارِكُونَ فِيهِ وَالْمُعَاوِنُونَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانُوا هُمُ الْأَقَلِّينَ عَدَدًا فَهُمُ الْأَعْظَمُونَ عِنْدَ اللَّهِ قَدْرًا.
وَلَمَّا كَانَ مِنْ أَفْضَلِ الْجِهَادِ قَوْلُ الْحَقِّ مَعَ شِدِّةِ الْمُعَارِضِ؛ مِثْلَ أَنْ تَتَكَلَّمَ بِهِ عِنْدَ مَنْ تَخَافُ سَطْوَتَهُ وَأَذَاهُ؛ كَانَ لِلرُّسُلِ -صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ- مِنْ ذَلِكَ الْحَظُّ الْأَوْفَرُ، وَكَانَ لِنَبِيِّنَا -صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ- مِنْ ذَلِكَ أَكْمَلُ الْجِهَادِ وَأَتَمُّهُ.
وَلَمَّا كَانَ جِهَادُ أَعْدَاءِ اللَّهِ فِي الْخَارِجِ فَرْعًا عَنْ جِهَادِ الْعَبْدِ نَفْسَهُ فِي ذَاتِ اللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي ((صَحِيحِهِ)) وَصَحَّحَهُ، وَكَذَا الْحَاكِمُ فِي ((الْمُسْتَدْرَكِ)) وَصَحَّحَهُ، وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَ هَذَا الْقَدْرَ مِنْهُ الْأَلْبَانِيُّ؛ كَانَ جِهَادُ النَّفْسِ مُقَدَّمًا عَلَى جِهَادِ الْعَدُوِّ فِي الْخَارِجِ، وَأَصْلًا لَهُ؛ فَإِنَّهُ مَا لَمْ يُجَاهِدْ نَفْسَهُ أَوَّلًا لِتَفْعَلَ مَا أُمِرَتْ بِهِ، وَتَتْرُكَ مَا نُهِيَتْ عَنْهُ، وَيُحَارِبْهَا فِي اللَّهِ؛ لَمْ يُمْكِنْهُ جِهَادُ عَدُوِّهِ فِي الْخَارِجِ؛ فَكَيْفَ يُمْكِنُهُ جِهَادُ عَدُوِّهِ وَالِانْتِصَافُ مِنْهُ وَعَدُوُّهُ الَّذِي بَيْنَ جَنْبَيْهِ قَاهِرٌ لَهُ، مُتَسَلِّطٌ عَلَيْهِ، لَمْ يُجَاهِدْهُ، وَلَمْ يُحَارِبْهُ فِي اللَّهِ؟! بَلْ لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ إِلَى عَدُوِّهِ حَتَّى يُجَاهِدَ نَفْسَهُ عَلَى الْخُرُوجِ.
فَهَذَانِ عَدُوَّانِ قَدِ امْتُحِنَ الْعَبْدُ بِجِهَادِهِمَا، وَبَيْنَهُمَا عَدُوٌّ ثَالِثٌ لَا يُمْكِنُهُ جِهَادُهُمَا إِلَّا بِجِهَادِهِ، وَهُوَ وَاقِفٌ بَيْنَهُمَا يُثَبِّطُ الْعَبْدَ عَنْ جِهَادِهِمَا، وَيُخَذِّلُهُ وَيُرْجِفُ بِهِ، وَلَا يَزَالُ يُخَيِّلُ لَهُ مَا فِي جِهَادِهِمَا مِنَ الْمَشَاقِّ، وَتَرْكِ الْحُظُوظِ، وَفَوْتِ اللَّذَّاتِ وَالْمُشْتَهَيَاتِ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُجَاهِدَ ذَيْنِكَ الْعَدُوَّيْنِ إِلَّا بِجِهَادِهِ، فَكَانَ جِهَادُهُ هُوَ الْأَصْلَ لِجِهَادِهِمَا؛ وَهُوَ الشَّيْطَانُ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فَاطِرٍ: 6]، وَالْأَمْرُ بِاِتِّخَاذِهِ عَدُوًّا تَنْبِيهٌ عَلَى اسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ فِي مُحَارَبَتِهِ وَمُجَاهَدَتِهِ؛ لِأَنَّهُ عَدُوٌّ لَا يَفْتُرُ وَلَا يُقَصِّرُ عَنْ مُحَارَبَةِ الْعَبْدِ عَلَى عَدَدِ الْأَنْفَاسِ.
فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَعْدَاءٍ أُمِرَ الْعَبْدُ بِمُحَارَبَتِهَا وَجِهَادِهَا، وَقَدْ بُلِيَ بِمُحَارَبَتِهَا فِي هَذِهِ الدَّارِ، وَسُلِّطَتْ عَلَيْهِ؛ امْتِحَانًا مِنَ اللَّهِ لَهُ وَابْتِلَاءً، فَأَعْطَى اللَّهُ الْعَبْدَ مَدَدًا وَعُدَّةً وَأَعْوَانًا وَسِلَاحًا لِهَذَا الْجِهَادِ، وَأَعْطَى أَعْدَاءَهُ مَدَدًا وَعُدَّةً وَأَعْوَانًا وَسِلَاحًا، وَبَلَا -أَيِ: اخْتَبَرَ- أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ بِالْآخَرِ، وَجَعَلَ بَعْضَهُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً لِيَبْلُوَ أَخْبَارَهُمْ، وَيَمْتَحِنَ مَنْ يَتَوَلَّاهُ وَيَتَوَلَّى رُسُلَهُ مِمَّنْ يَتَوَلَّى الشَّيْطَانَ وَحِزْبَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ ۗ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الْفُرْقَانِ: 20]، وَقَالَ تَعَالَى: {ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ} [مُحَمَّدٍ: 4]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [مُحَمَّدٍ: 31].
فَأَعْطَى عِبَادَهُ الْأَسْمَاعَ، وَالْأَبْصَارَ، وَالْعُقُولَ، وَالْقُوَى، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ كُتُبَهُ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رُسُلَهُ، وَأَمَدَّهُمْ بِمَلَائِكَتِهِ، وَقَالَ لَهُمْ: {أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الْأَنْفَالِ: 12]، وَأَمَرَهُمْ مِنْ أَمْرِهِ بِمَا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْعَوْنِ لَهُمْ عَلَى حَرْبِ عَدُوِّهِمْ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُمْ إِنِ امْتَثَلُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ لَمْ يَزَالُوا مَنْصُورِينَ عَلَى عَدُوِّهِ وَعَدُوِّهِمْ، وَأَنَّهُ إِنْ سَلَّطَهُ عَلَيْهِمْ فَلِتَرْكِهِمْ بَعْضَ مَا أُمِرُوا بِهِ، وَلِمَعْصِيَتِهِمْ لَهُ، ثُمَّ لَمْ يُؤَيِّسْهُمْ وَلَمْ يُقَنِّطْهُمْ، بَلْ أَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَقْبِلُوا أَمْرَهُمْ، وَيُدَاوُوا جِرَاحَهُمْ، وَيَعُودُوا إِلَى مُنَاهَضَةِ عَدُوِّهِمْ فَيَنْصُرَهُمْ عَلَيْهِ، وَيُظْفِرَهُمْ بِهِمْ، فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ مَعَ الْمُتَّقِينَ مِنْهُمْ، وَمَعَ الْمُحْسِنِينَ، وَمَعَ الصَّابِرِينَ، وَمَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّهُ يُدَافِعُ عَنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ مَا لَا يُدَافِعُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ؛ بَلْ بِدِفَاعِهِ عَنْهُمُ انْتَصَرُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ، وَلَوْلَا دِفَاعُهُ عَنْهُمْ لَتَخَطَّفَهُمْ عَدُوُّهُمْ وَاجْتَاحَهُمْ.
وَهَذِهِ الْمُدَافَعَةُ عَنْهُمْ بِحَسَبِ إِيمَانِهِمْ وَعَلَى قَدْرِهِ، فَإِنْ قَوِيَ الْإِيمَانُ قَوِيَتِ الْمُدَافَعَةُ، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ.
وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُجَاهِدُوا فِيهِ حَقَّ جِهَادِهِ، كَمَا أَمَرَهُمْ أَنْ يَتَّقُوهُ حَقَّ تُقَاتِهِ، وَكَمَا أَنَّ حَقَّ تُقَاتِهِ أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى، وَيُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى، وَيُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرُ؛ فَحَقُّ جِهَادِهِ أَنْ يُجَاهِدَ الْعَبْدُ نَفْسَهُ لِيُسْلِمَ قَلْبَهُ وَلِسَانَهُ وَجَوَارِحَهُ لِلَّهِ، فَيَكُونَ كُلُّهُ لِلَّهِ وَبِاللَّهِ، لَا لِنَفْسِهِ وَلَا بِنَفْسِهِ، وَيُجَاهِدُ شَيْطَانَهُ بِتَكْذِيبِ وَعْدِهِ، وَمَعْصِيَةِ أَمْرِهِ، وَارْتِكَابِ نَهْيِهِ؛ فَإِنَّهُ يَعِدُ الْأَمَانِيَّ، وَيُمَنِّي الْغُرُورَ، وَيَعِدُ الْفَقْرَ، وَيَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ، وَيَنْهَى عَنِ التُّقَى وَالْهُدَى وَالْعِفَّةِ وَالصَّبْرِ، وَأَخْلَاقِ الْإِيمَانِ كُلِّهَا، فَجَاهَدَهُ بِتَكْذِيبِ وَعْدِهِ، وَمَعْصِيَةِ أَمْرِهِ، فَيَنْشَأُ لَهُ مِنْ هَذَيْنِ الْجِهَادَيْنِ قُوَّةٌ وَسُلْطَانٌ وَعُدَّةٌ يُجَاهِدُ بِهَا أَعْدَاءَ اللَّهِ فِي الْخَارِجِ -فِيمَا هُوَ خَارِجَ نَفْسِهِ، لَا أَنَّهُ يُرِيدُ بِالْخَارِجِ مَا يَكُونُ خَارِجَ وَطَنِهِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ جِهَادَ النَّفْسِ، ثُمَّ أَرَادَ جِهَادَ الشَّيْطَانِ، ثُمَّ أَرَادَ جِهَادَ الْعَدُوِّ الْخَارِجِيِّ الَّذِي هُوَ سِوَى النَّفْسِ وَسِوَى الشَّيْطَانِ- بِقَلْبِهِ، وَلِسَانِهِ، وَيَدِهِ، وَمَالِهِ؛ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا)).
فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا -أَيْضًا-؛ أَنَّ الْعَلَّامَةَ ابْنَ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- ذَكَرَ أَنَّ الْجِهَادَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:
- جِهَادُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ.
- وَجِهَادُ الْعَبْدِ الْعَدُوَّ الْخَارِجِيَّ.
- وَجِهَادُ الْعَبْدِ شَيْطَانَهُ.
إِذَنْ؛ عُرِفَ هَذَا، فَإِذَا عُرِفَ فَالْجِهَادُ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ:
- جِهَادُ النَّفْسِ.
- وَجِهَادُ الشَّيْطَانِ.
- وَجِهَادُ الْكُفَّارِ.
- وَجِهَادُ الْمُنَافِقِينَ.
((الْجِهَادُ الْمُتَعَلِّقُ بِالْمُسْلِمِينَ بِقِيَامِ الْأُلْفَةِ وَاتِّفَاقِ الْكَلِمَةِ))
((قَالَ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: ١٠٣].
وَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۚ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال: ٦٢-٦٣].
وَقَالَ: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۖ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ ۚ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا ۖ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: ٩-١٠].
وَقَالَ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: ((لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَكْذِبُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَاهُنَا -وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ- بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ؛ دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ: ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ)). أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ.
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْعَظِيمِ.
فَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ: السَّعْيَ فِي تَحْقِيقِ هَذَا الْأَصْلِ؛ فِي تَأْلِيفِ قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ، وَاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى دِينِهِمْ وَمَصَالِحِهِمُ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، فِي جَمْعِ أَفْرَادِهِمْ وَشُعُوبِهِمْ، وَفِي رَبْطِ الصَّدَاقَةِ وَالْمُعَاهَدَاتِ بَيْنَ حُكُومَاتِهِمْ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ.
وَمِنْ أَنْفَعِ الْأُمُورِ: أَنْ يَتَصَدَّى لِهَذَا الْأَمْرِ جَمِيعُ طَبَقَاتِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْكُبَرَاءِ وَسَائِرِ الْأَفْرَادِ مِنْهُمْ، كُلُّ أَحَدٍ يَجِدُّ بِحَسَبِ إِمْكَانِهِ.
فَمَتَى كَانَتْ غَايَةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةً وَهِيَ (الْوَحْدَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ)، وَسَلَكُوا السُّبُلَ الْمُوصِلَةَ إِلَيْهَا، وَدَافَعُوا جَمِيعَ الْمَوَانِعِ الْمُعَوِّقَةِ وَالْحَائِلَةِ دُونَهَا؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَصِلُوا إِلَى النَّجَاحِ وَالْفَلَاحِ.
وَمِمَّا يُعِينُ عَلَى هَذَا -أَيْ: عَلَى جَمْعِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَكُونُوا وَحْدَةً وَاحِدَةً-: الْإِخْلَاصُ وَحُسْنُ الْقَصْدِ فِيمَا عِنْدَ اللهِ مِنَ الْخَيْرِ وَالثَّوَابِ، وَأَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ كُلَّ سَعْيٍ فِي هَذَا الْأَمْرِ مِنَ الْجِهَادِ -السَّعْيُ فِي تَأْلِيفِ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَفِي جَمْعِ كَلِمَتِهِمْ، وَفِي اتِّحَادِهِمْ وَتَوْحِيدِ صَفِّهِمْ شُعُوبًا وَحُكُومَاتٍ؛ هَذَا السَّعْيُ مِنَ الْجِهَادِ-، وَفِي سَبِيلِ اللهِ، وَمِمَّا يُقَرِّبُ إِلَيْهِ وَإِلَى ثَوَابِهِ.
وَأَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ مُشْتَرَكَةٌ؛ فَالْمَصَالِحُ الْكُلِّيَّاتُ الْعَامَّةُ تُقَدَّمُ عَلَى الْمَصَالِحِ الْجُزْئِيَّاتِ الْخَاصَّةِ.
وَلِهَذَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِمْ أَلَّا يَجْعَلُوا الِاخْتِلَافَ فِي الْمَذَاهِبِ أَوِ الْأَنْسَابِ أَوِ الْأَوْطَانِ دَاعِيًا إِلَى التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ; فَالرَّبُّ وَاحِدٌ، وَالدِّينُ وَاحِدٌ، وَالطَّرِيقُ لِإِصْلَاحِ الدِّينِ وَصَلَاحِ جَمِيعِ طَبَقَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدٌ، وَالرَّسُولُ الْمُرْشِدُ لِلْعِبَادِ وَاحِدٌ؛ فَلِهَذَا يَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ الْغَايَةُ الْمَقْصُودَةُ وَاحِدَةً.
فَالْوَاجِبُ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ السَّعْيُ التَّامُّ لِتَحْقِيقِ الْأُخُوَّةِ الدِّينِيَّةِ وَالرَّابِطَةِ الْإِيمَانِيَّةِ، فَمَتَى عَلِمُوا وَتَحَقَّقُوا ذَلِكَ، وَسَعَى كُلٌّ مِنْهُمْ بِحَسَبِ مَقْدُورِهِ، وَاسْتَعَانُوا بِاللهِ وَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ، وَسَلَكُوا طُرُقَ الْمَنَافِعِ وَأَبْوَابَهَا، وَلَمْ يُخْلِدُوا إِلَى الْكَسَلِ وَالْخَوَرِ وَالْيَأْسِ؛ نَجَحُوا وَأَفْلَحُوا؛ فَإِنَّ الْكَسَلَ وَالْخَوَرَ وَالْيَأْسَ مِنْ أَعْظَمِ مَوَانِعِ الْخَيْرِ؛ فَإِنَّهَا مُنَافِيَةٌ لِلدِّينِ وَلِلْجِهَادِ الْحَقِيقِيِّ.
فَمَنِ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْكَسَلُ وَالْخَوَرُ لَمْ يَنْهَضْ لِمَكْرُمَةٍ، وَمَنْ أَيِسَ مِنْ تَحْصِيلِ مَطَالِبِهِ انْشَلَّتْ حَرَكَاتُهُ وَمَاتَ وَهُوَ حَيٌّ.
وَهَلْ أَخَّرَ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ إِلَّا تَفَرُّقُهُمْ، وَالتَّعَادِي بَيْنَهُمْ، وَخَوَرُهُمْ، وَتَقَاعُدُهُمْ عَنْ مَصَالِحِهِمْ وَالْقِيَامِ بِشُؤُونِهِمْ حَتَّى صَارُوا عَالَةً عَلَى غَيْرِهِمْ؟! وَدِينُهُمْ قَدْ حَذَّرَهُمْ عَنْ هَذَا أَشَدَّ التَّحْذِيرِ، وَحَثَّهُمْ عَلَى أَنْ يَكُونُوا فِي مُقَدِّمَةِ الْأُمَمِ فِي الْقُوَّةِ وَالشَّجَاعَةِ، وَالصَّبْرِ وَالْمُصَابَرَةِ، وَالْمُثَابَرَةِ عَلَى الْخَيْرِ، وَالطَّمَعِ فِي إِدْرَاكِهِ، وَقُوَّةِ الثِّقَةِ بِاللهِ فِي تَحْقِيقِ مَطَالِبِهِمْ، وَدَفْعِ مَضَارِّهِمْ، وَكَمَالِ التَّصْدِيقِ بِوَعْدِ اللهِ لَهُمْ بِالنَّصْرِ إِذَا نَصَرُوهُ، وَبِالنَّجَاحِ إِذَا سَلَكُوا سُبُلَهُ، وَبِالْإِعَانَةِ وَالتَّسْدِيدِ إِذَا كَمُلَ اعْتِمَادُهُمْ عَلَيْهِ: {إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ۖ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} [النساء: ١٠٤])).
مِنْ أَعْظَمِ أَلْوَانِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ: أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُونَ وِحْدَةً وَاحِدَةً، وَأَنْ يَتَجَمَّعُوا قَلْبًا وَقَالَبًا، وَإِنَّ التَّوْحِيدَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لَنْ يَكُونَ إِلَّا عَلَى كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ.
فَتَوْحِيدُ صُفُوفِهِمْ لَنْ يَكُونَ إِلَّا بِتَوْحِيدِهِمْ رَبَّهُمْ، فَإِذَا وَحَّدُوا اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- تَوْحِيدًا صَحِيحًا بَرِيئًا مِنَ الشِّرْكِ، وَالشَّكِّ، وَالشُّبْهَةِ، وَالْبِدْعَةِ؛ فَلَا شَكَّ -إِنْ شَاءَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-- أَنَّ صُفُوفَهُمْ سَتَكُونُ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ وِجْهَتَهُمْ صَارَتْ وَاحِدَةً، وَلِأَنَّ قُلُوبَهُمْ صَارَتْ عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ تَوْحِيدُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
هَذِهِ هِيَ الْوَسِيلَةُ لِلْوُصُولِ إِلَى هَذَا اللَّوْنِ مِنْ أَلْوَانِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَهُوَ الْجِهَادُ مِنْ أَجْلِ تَوْحِيدِ كَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُونَ جَمِيعًا عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ؛ شُعُوبًا وَحُكُومَاتٍ.
((الْفَرْقُ الْعَظِيمُ بَيْنَ رِجَالِ الدِّينِ
وَبَيْنَ الْمُخَذِّلِينَ الْمُرْجِفِينَ))
((قَالَ تَعَالَى: {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: ٢٣].
هَذَا نَعْتُ رِجَالِ الدِّينِ: الصِّدْقُ الْكَامِلُ فِيمَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ؛ مِنَ الْقِيَامِ بِدِينِهِ، وَإِنْهَاضِ أَهْلِهِ، وَنَصْرِهِ بِكُلِّ مَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ مِنْ مَقَالٍ، وَمَالٍ، وَبَدَنٍ، وَظَاهِرٍ وَبَاطِنٍ.
وَمِنْ وَصْفِهِم: الثَّبَاتُ التَّامُّ عَلَى الشَّجَاعَةِ وَالصَّبْرِ، وَالْمُضِيُّ فِي كُلِّ وَسِيلَةٍ بِهَا نَصْرُ الدِّينِ، فَمِنْهُمُ الْبَاذِلُ لِنَفْسِهِ، وَمِنْهُمُ الْبَاذِلُ لِمَالِهِ، وَمِنْهُمُ الْحَاثُّ لِإِخْوَانِهِ عَلَى الْقِيَامِ بِكُلِّ مُسْتَطَاعٍ مِنْ شُؤُونِ الدِّينِ، وَالسَّاعِي بَيْنَهُمْ بِالنَّصِيحَةِ وَالتَّأْلِيفِ وَالِاجْتِمَاعِ، وَمِنْهُمُ الْمُنَشِّطُ بِقَوْلِهِ وَجَاهِهِ وَحَالِهِ، وَمِنْهُمُ الْفَذُّ الْجَامِعُ لِذَلِكَ كُلِّهِ.
فَهَؤُلَاءِ رِجَالُ الدِّينِ وَخِيَارُ الْمُسْلِمِينَ، بِهِمْ قَامَ الدِّينُ، وَبِهِ قَامُوا، وَهُمُ الْجِبَالُ الرَّوَاسِي فِي إِيمَانِهِمْ وَصَبْرِهِمْ وَجِهَادِهِمْ، لَا يَرُدُّهُمْ عَنْ هَذَا الْمَطْلَبِ رَادٌّ، وَلَا يَصُدُّهُمْ عَنْ سُلُوكِ سَبِيلِهِ صَادٌّ، تَتَوَالَى عَلَيْهِمُ الْمَصَائِبُ وَالْكَوَارِثُ فَيَتَلَقَّوْنَهَا بِقُلُوبٍ ثَابِتَةٍ وَصُدُورٍ مُنْشَرِحَةٍ؛ لِعِلْمِهِمْ بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْخَيْرِ وَالثَّوَابِ وَالْفَلَاحِ وَالنَّجَاحِ.
وَأَمَّا الْآخَرُونَ، وَهُمُ الْجُبَنَاءُ الْمُرْجِفُونَ؛ فَبِعَكْسِ حَالِ هَؤُلَاءِ، لَا تَرَى مِنْهُمْ إِعَانَةً قَوْلِيَّةً وَلَا فِعْلِيَّةً وَلَا جِدِّيَّةً، قَدْ مَلَكَهُمُ الْبُخْلُ وَالْجُبْنُ وَالْيَأْسُ، وَفِيهِمُ السَّاعِي بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِإِيقَاعِ الْعَدَاوَاتِ وَالْفِتَنِ وَالتَّفْرِيقِ.
فَهَذِهِ الطَّائِفَةُ أَضَرُّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعَدُوِّ الظَّاهِرِ الْمُحَارِبِ؛ بَلْ هُمْ سِلَاحُ الْأَعْدَاءِ عَلَى الْحَقِيقَةِ.
قَالَ -تَعَالَى- فِيهِمْ وَفِي أَشْبَاهِهِمْ: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: ٤٧] أَيْ: يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ تَغْرِيرًا أَوِ اغْتِرَارًا.
فَعَلَى الْمُسْلِمِينَ الْحَذَرُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُفْسِدِينَ؛ فَإِنَّ ضَرَرَهُمْ كَبِيرٌ، وَشَرَّهُمْ خَطِيرٌ، وَمَا أَكْثَرَهُمْ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الَّتِي اضْطُرَّ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ إِلَى التَّعَلُّقِ بِكُلِّ صَلَاحٍ وَإِصْلَاحٍ، وَإِلَى مَنْ يُعِينُهُمْ وَيُنَشِّطُهُمْ.
فَهَؤُلَاءِ الْمُفْسِدُونَ يُثَبِّطُونَ عَنِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمُقَاوَمَةِ الْأَعْدَاءِ، وَيُخَدِّرُونَ أَعْصَابَ الْمُسْلِمِينَ، وَيُؤَيِّسُونَهُمْ مِنْ مُجَارَاةِ الْأُمَمِ فِي أَسْبَابِ الرُّقِيِّ، وَيُوهِمُونَهُمْ أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ يَعْمَلُونَهُ لَا يُفِيدُ شَيْئًا، وَلَا يُجْدِي نَفْعًا.
فَهَؤُلَاءِ لَا خَيْرَ فِيهِمْ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، لَا دِينَ صَحِيحًا، وَلَا شَهَامَةَ دِينِيَّةً وَلَا قَوْمِيَّةً وَلَا وَطَنِيَّةً -وَلَيْسَتْ بِدَعْوَةٍ إِلَى قَوْمِيَّةٍ، وَلَكِنَّهُ نَظَرٌ إِلَى أَحْوَالِ أَقْوَامٍ مِنَ الْمُعَاصِرِينَ يَدَّعُونَ الْقَوْمِيَّةَ وَالْوَطَنِيَّةَ، ثُمَّ هُمْ فِي الْمُنْتَهَى يُخَذِّلُونَ الْمُسْلِمِينَ، فَهَذَا تَنَزُّلٌ مَعَ هَؤُلَاءِ، نَفْيٌ عَنْهُمْ مَا اتَّصَفُوا بِهِ وَوَصَفُوا أَنْفُسَهُمْ بِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَلْقَابِ، وَمِنْ هَذَا الِانْتِسَابِ مِنَ الْقَوْمِيَّةِ وَالْوَطَنِيَّةِ-، لَا دِينَ صَحِيحًا، وَلَا عَقْلَ رَجِيحًا.
فَلْيَعْلَمْ هَؤُلَاءِ وَمَنْ يَسْتَجِيبُ لَهُمْ أَنَّ اللهَ لَمْ يُكَلِّفِ النَّاسَ إِلَّا وُسْعَهُمْ وَطَاقَتَهُمْ، وَأَنَّ لِلْمُؤْمِنِينَ بِرَسُولِ اللهِ أُسْوَةً حَسَنَةً؛ فَقَدْ كَانَ لَهُ ﷺ حَالَانِ فِي الدَّعْوَةِ وَالْجِهَادِ، أَمْرٌ فِي كُلِّ حَالٍ بِمَا يَلِيقُ بِهَا وَيُنَاسِبُهَا:
* أَمْرٌ فِي حَالِ ضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ وَتَسَلُّطِ الْأَعْدَاءِ بِالْمُدَافَعَةِ، وَالِاقْتِصَارِ عَلَى الدَّعْوَةِ إِلَى الدِّينِ، وَأَنْ يَكُفَّ عَنْ قِتَالِ الْيَدِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الضَّرَرِ الْمُرْبِي عَلَى الْمَصْلَحَةِ.
* وَأَمْرٌ فِي الْحَالَةِ الْأُخْرَى أَنْ يَسْتَدْفِعَ شُرُورَ الْأَعْدَاءِ بِكُلِّ أَنْوَاعِ الْقُوَّةِ، وَأَنْ يُسَالِمَ مَنْ تَقْتَضِي الْمَصْلَحَةُ مُسَالَمَتَهُ، وَيُقَاوِمَ الْمُعْتَدِينَ الَّذِينَ تَقْتَضِي الْمَصْلَحَةُ بَلِ الضَّرُورَةُ مُحَارَبَتَهُمْ.
فَعَلَى الْمُسْلِمِينَ الِاقْتِدَاءُ بِنَبِيِّهِمْ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ عَيْنُ الصَّلَاحِ وَالْفَلَاحِ)).
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ مُنُوا بِجُمْلَةٍ عَظِيمَةٍ مِنَ الْمُخَذِّلِينَ الْمُرْجِفِينَ، لَا عِلْمَ وَلَا حِلْمَ، لَا دِينَ صَحِيحًا، وَلَا عَقْلَ رَجِيحًا؛ حَتَّى صَارَ مِنَ السَّائِدِ الْمَعْهُودِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ -فَهُوَ مَعْهُودٌ سَمَاعُهُ عِنْدَهُمْ، وَمَعْهُودٌ نُطْقُهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ-: أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ، وَأَنَّنَا مَهْمَا حَاوَلْنَا وَمَهْمَا فَعَلْنَا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ نُدْرِكَ مَنْ سَبَقَنَا؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ نَسْبِقَهُ، وَقَدْ أَخْلَدُوا إِلَى الْأَرْضِ، وَرَضُوا بِهَذَا الْفَرْضِ الَّذِي قَدْ فَرَضَهُ عَلَيْهِمْ أُولَئِكَ الْمُخَذِّلُونَ الْمُرْجِفُونَ؛ حَتَّى صَارَ كَالْعَقِيدَةِ الثَّابِتَةِ وَالِاعْتِقَادِ الْمُلَازِمِ!
وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّ النَّصْرَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 249]، وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَمَّا أَمَرَ بِإِعْدَادِ الْقُوَّةِ أَمَرَ بِإِعْدَادِ مَا يُسْتَطَاعُ، وَلَمْ يُكَلِّفِ الْمُسْلِمِينَ مَا لَا يَسْتَطِيعُونَ؛ وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنَ التَّرْبِيَةِ الْإِيمَانِيَّةِ قَبْلَ الْعُدَّةِ الْمَادِّيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ؛ فَالْعُدَّةُ الْإِيمَانِيَّةُ الْقَلْبِيَّةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى هَذِهِ الْعُدَّةِ الْقِتَالِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ، وَالْمُسْلِمُونَ لَا يَهْتَمُّونَ بِهَذَا الْأَوَّلِ الَّذِي يُؤَسَّسُ عَلَيْهِ مَا يَأْتِي بَعْدُ، فَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى التَّرْبِيَةِ الْإِيمَانِيَّةِ؛ لِذَلِكَ تَتَخَالَفُ وُجْهَاتُهُمْ، وَتَتَضَارَبُ وُجْهَاتُهُمْ.
وَهَؤُلَاءِ الْمُسْلِمُونَ الْآنَ قَدْ تَنَازَعَتْهُمْ ثَارَاتُهُمْ، وَصَارُوا شِيَعًا، وَسَارَ كُلٌّ فِي سَبِيلٍ، فَتَضَارَبَتْ وُجْهَاتُهُمْ تَبَعًا لِتَضَارُبِ مَا فِي قُلُوبِهِمْ، وَلَوْ أَنَّهُمْ تَرَبَّوْا تَرْبِيَةً إِيمَانِيَّةً صَحِيحَةً، وَحَازُوا الْعُدَّةَ الْإِيمَانِيَّةَ؛ لَكَانَتْ وِجْهَتُهُمْ وَاحِدَةً؛ -فَكَمَا مَرَّ- أَنَّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ مِنْ أَعْلَى مَرَاتِبِهِ، وَمِنْ أَسْمَى أَنْوَاعِهِ: أَنْ يُبْذَلَ الْمَجْهُودُ بِصِدْقٍ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَجْتَمِعَ الْمُسْلِمُونَ شُعُوبًا وَحُكُومَاتٍ، وَأَنَّ هَذَا مِنْ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ.
فَهَذَا كُلُّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤَسَّسَ إِلَّا عَلَى الْيَقِينِ الصَّحِيحِ، وَالتَّوْحِيدِ السَّلِيمِ فِي الْقُلُوبِ السَّلِيمَةِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ الْأَمْرُ عَائِدًا إِلَى الرَّعِيلِ الْأَوَّلِ، إِلَى سَلَفِنَا الصَّالِحِينَ مِنْ صَحَابَةِ نَبِيِّنَا الْأَمِينِ ﷺ، الَّذِينَ لَمْ يَتَنَازَعُوا فِي أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الِاعْتِقَادِ، اعْتِقَادُهُمْ وَاحِدٌ؛ حَتَّى لَمَّا وَقَعَ لَوْنٌ مِنْ أَلْوَانِ الِاخْتِلَافِ لَمْ يَشْهَدْهُ مَا يَزِيدُ عَلَى الثَّلَاثِينَ، وَأَمَّا جُمْلَتُهُمْ -وَهُمْ أُلُوفٌ مُؤَلَّفَةٌ-؛ فَاعْتَزَلُوا هَذَا الْأَمْرَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ-، وَأَيْضًا لَمَّا وَقَعَ الْخِلَافُ؛ الَّذِينَ شَارَكُوا فِيهِ كَانُوا عَلَى قُلُوبٍ نَقِيَّةٍ وَنَصِيحَةٍ سَوِيَّةٍ، فَهُمْ لَمْ يُقَاتِلُوا لِلْمُلْكِ.
وَمَا كَانَ مُعَاوِيَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَضَعُ فِي خَاطِرِهِ -لِأَنَّ لِسَانَهُ نَفَى ذَلِكَ- أَنَّهُ أَوْلَى وَأَحَقُّ بِالْخِلَافَةِ مِنْ عَلِيٍّ، بَلْ إِنَّهُ كَانَ إِذَا جَاءَهُ أَمْرٌ مِنَ الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي لَا يَدْرِي لَهَا وَجْهًا؛ أَرْسَلَ إِلَى عَلِيٍّ يَطْلُبُ حُكْمَهُ وَفَتْوَاهُ، هَذَا مَعْرُوفٌ مُسَلَّمٌ.
فَهَذَا الِاتِّحَادُ فِي الْأَبْدَانِ لَا يُمْكِنُ أَبَدًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِاتِّحَادِ الْقُلُوبِ وَالْجَنَانِ، فَإِذَا جَاءَ التَّوْحِيدُ تَوَحَّدَتِ الْأَبْدَانُ، وَتَوَحَّدَتِ الْوِجْهَةُ، وَصَارَ الْأَمْرُ دَانِيَ الْقِطَافِ -بِفَضْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ-.
((وُجُوبُ الْمُشَاوَرَةِ فِي كُلِّ الْأُمُورِ الْكُلِّيَّةِ وَفَوَائِدُهَا))
((قَالَ تَعَالَى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: ١٥٩].
وَقَالَ فِي وَصْفِ الْمُؤْمِنِينَ: {وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ} [الشورى: ٣٨].
وَهَذَا يَشْمَلُ جَمِيعَ الْأُمُورِ الَّتِي يَحْتَاجُونَهَا، وَتَتَعَلَّقُ بِهَا مَنَافِعُهُمُ الدِّينِيَّةُ وَالدُّنْيَوِيَّةُ.
فَعَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَشَاوَرُوا فِي تَقْرِيرِ الْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ، وَفِي كَيْفِيَّةِ الْوُصُولِ إِلَيْهَا، وَفِي تَقْرِيرِ الْخُطَطِ الَّتِي يَتَعَيَّنُ سُلُوكُهَا فِي صَلَاحِ أَحْوَالِهِمُ الدَّاخِلِيَّةِ، وَإِصْلَاحِهَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَفِي الْحَذَرِ مِنْ أَعْدَائِهِمْ، وَمُقَاوَمَتِهِمْ، وَسُلُوكِ الطُّرُقِ السِّلْمِيَّةِ أَوِ الْحَرْبِيَّةِ بِحَسَبِ مَا تَقْتَضِيهِ الْمَصْلَحَةُ، وَبِحَسَبِ الْأَحْوَالِ وَالظُّرُوفِ الْحَاضِرَةِ، وَأَنْ يُعِدُّوا لِكُلِّ أَمْرٍ عُدَّتَهُ، وَتَجْتَمِعَ قُوَاهُمْ كُلُّهَا وَعَزَائِمُهُمْ عَلَى مَا اتَّفَقَتْ آرَاؤُهُمْ عَلَى نَفْعِهِ وَمَصْلَحَتِهِ؛ فَإِنَّ الْمُشَاوَرَةَ مِنْ أَعْظَمِ الْأُصُولِ وَالسِّيَاسَاتِ الدِّينِيَّةِ.
وَفِيهَا مِنَ الْفَوَائِدِ:
* امْتِثَالُ أَمْرِ اللهِ، وَسُلُوكُ الطَّرِيقِ الَّتِي يُحِبُّهَا اللهُ؛ حَيْثُ نَعَتَ الْمُؤْمِنِينَ بِهَا.
* وَفِيهَا -أَيْ: فِي الْمُشَاوَرَةِ-: الِاقْتِدَاءُ بِرَسُولِ اللهِ ﷺ؛ فَإِنَّهُ -مَعَ كَمَالِ عَقْلِهِ وَرَأْيِهِ، وَتَأْيِيدِهِ بِالْوَحْيِ- كَانَ يُشَاوِرُ أَصْحَابَهُ فِي الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ.
* وَمِنْ فَوَائِدِ الْمُشَاوَرَةِ: أَنَّهَا مِنْ أَكْبَرِ الْأَسْبَابِ لِإِصَابَةِ الصَّوَابِ، وَسُلُوكِ الْوَسَائِلِ النَّافِعَةِ لِاجْتِمَاعِ آرَاءِ الْأُمَّةِ وَأَفْكَارِهَا، وَتَنْقِيحِهَا وَتَصْفِيَتِهَا، مَعَ أَنَّ اللهَ يُعِينُهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ الَّتِي فَعَلُوا فِيهَا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ، وَيُسَدِّدُهُمْ وَيُؤَيِّدُهُمْ.
* وَمِنْهَا: أَنَّ الْمُشَاوَرَةَ تَتَنَوَّرُ فِيهَا الْأَفْكَارُ، وَتَتَرَقَّى الْمَعَارِفُ وَالْعُقُولُ؛ فَإِنَّهَا تَمْرِينٌ لِلْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَتَرْبِيَةٌ لَهَا، وَتَلْقِيحٌ لِلْأَذْهَانِ، وَاقْتِبَاسٌ لِبَعْضِهِمْ مِنْ آرَاءِ بَعْضٍ.
* وَمِنْهَا -أَيْ: مِنْ فَوَائِدِ الْمُشَاوَرَةِ-: أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الصَّوَابُ مِنْ مَجْمُوعِ رَأْيَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ أَوْ أَكْثَرَ، وَإِذَا تَقَابَلَ الصَّوَابُ وَالْخَطَأُ، وَوَزَنَتْهَا الْعُقُولُ السَّلِيمَةُ بِالْمَوَازِينِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي لَا تَرْكَنُ إِلَّا إِلَى الْحَقَائِقِ الصَّحِيحَةِ؛ ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَلَا سَبِيلَ لِذَلِكَ إِلَّا بِالْمُشَاوَرَةِ.
* وَمِنْهَا: أَنَّ الْمُشَاوَرَةَ مِنْ أَسْبَابِ الْأُلْفَةِ وَالْمَحَبَّةِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَشُعُورِ جَمِيعِهِمْ أَنَّ مَصَالِحَهُمْ وَاحِدَةٌ مُشْتَرَكَةٌ، وَتَنْبِيهٌ لِلْأَفْكَارِ وَالْآرَاءِ عَلَى النَّافِعِ وَالْأَنْفَعِ، وَعَلَى الصَّالِحِ وَالْأَصْلَحِ؛ فَإِنَّ تَرْكَ الْمُشَاوَرَةِ يُخْمِدُ الْأَفْكَارَ، وَيُضَيِّعُ الْفُرَصَ الَّتِي يَضُرُّ تَضْيِيعُهَا.
فَفَتْحُ بَابِ الْمُشَاوَرَةِ عَوْنٌ كَبِيرٌ فِي إِصْلَاحِ الْأُمُورِ وَإِكْمَالِهَا، وَتَجَنُّبِ الْمَضَارِّ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُقَلَاءُ عَلَى أَنَّ الطَّرِيقَ الْوَحِيدَ لِتَحْقِيقِ الصَّلَاحِ الدِّينِيِّ وَالدُّنْيَوِيِّ هُوَ طَرِيقُ الشُّورَى، وَاللهُ قَدْ أَرْشَدَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى هَذَا الطَّرِيقِ، وَأَنْ يَسْعَوْا فِي تَرْقِيَةِ أَحْوَالِهِمْ بِهَا، وَعَلَّمَهُمْ كَيْفِيَّةَ الْوُصُولِ إِلَى كُلِّ أَمْرٍ نَافِعٍ، فَإِذَا تَعَيَّنَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي أَمْرٍ سَلَكُوهُ، وَإِذَا ظَهَرَتِ الْمَضَرَّةُ فِي طَرِيقٍ تَرَكُوهُ، وَإِذَا تَشَابَهَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسَالِكُ، وَتَقَابَلَتِ الْمَنَافِعُ وَالْمَضَارُّ؛ رَجَّحُوا مَا تَرَجَّحَتْ مَصْلَحَتُهُ مِنْ فِعْلٍ وَتَرْكٍ، فَلَا يَدَعُونَ مَصْلَحَةً دَاخِلِيَّةً وَلَا خَارِجِيَّةً إِلَّا بَحَثُوا فِيهَا، وَتَشَاوَرُوا عَلَيْهَا، وَعَمِلُوا عَلَى مَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ آرَاؤُهُمْ، وَبِذَلِكَ يُحْمَدُونَ وَيُشْكَرُونَ، وَيُفْلِحُونَ)).
كُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَجْتَمِعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ، وَأَنْ يَكُونَ أَمْرُهُمْ جَمِيعًا مِنْ غَيْرِ تَفَرُّقٍ وَلَا اخْتِلَافٍ.
((وُجُوبُ الِاسْتِعْدَادِ لِلْأَعْدَاءِ بِكُلِّ قُوَّةٍ
وَأَخْذِ الْحَذَرِ مِنْهُمْ))
((قَالَ تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: ٦٠].
وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا} [النساء: ٧١].
تَضَمَّنَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ جَمِيعَ مَا يَلْزَمُ الْمُسْلِمِينَ فِي مُدَافَعَةِ الْأَعْدَاءِ وَمُقَاوَمَتِهِمْ، وَذَلِكَ بِالِاسْتِعْدَادِ بِالْمُسْتَطَاعِ مِنْ قُوَّةٍ عَقْلِيَّةٍ، وَسِيَاسِيَّةٍ، وَمَعْنَوِيَّةٍ، وَمَادِّيَّةٍ؛ فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ تَعَلُّمُ أَنْوَاعِ الْفُنُونِ الْحَرْبِيَّةِ، وَالنِّظَامِ السِّيَاسِيِّ وَالْعَسْكَرِيِّ، وَالِاسْتِعْدَادُ بِالْقُوَّادِ الْمُحَنَّكِينَ الْمُدَرَّبِينَ، وَصِنَاعَةُ الْأَسْلِحَةِ، وَتَعَلُّمُ الرَّمْيِ وَالرُّكُوبِ بِمَا يُنَاسِبُ الزَّمَانَ.
وَبِأَخْذِ الْحَذَرِ مِنَ الْأَعْدَاءِ بِالتَّحَرُّزِ وَالتَّحَصُّنِ، وَأَخْذِ الْوِقَايَةِ مِنْ شَرِّهِمْ، وَمَعْرِفَةِ مَدَاخِلِهِمْ وَمَخَارِجِهِمْ، وَمَقَاصِدِهِمْ وَسِيَاسَاتِهِمْ، وَعَمِلِ الْأَسْبَابِ وَالِاحْتِيَاطَاتِ لِلْوِقَايَةِ مِنْ شَرِّهِمْ وَضَرَرِهِمْ، وَأَنْ نَكُونَ مِنْهُمْ دَائِمًا عَلَى حَذَرٍ فِي وَقْتِ السِّلْمِ؛ فَضْلًا عَنْ وَقْتِ الْحَرْبِ؛ فَإِنَّ جَهْلَ الْمُسْلِمِينَ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَذْكُورَاتِ نَقْصٌ كَبِيرٌ فِيهِمْ، وَقُوَّةٌ لِعَدُوِّهِمْ، وَإِغْرَاءٌ لَهُ بِهِمْ.
فَعَلَى الْمُسْلِمِينَ الْأَخْذُ بِكُلِّ مَعْنًى مِنْ مَعَانِي الْحَذَرِ، وَبِكُلِّ وَسِيلَةٍ مِنْ وَسَائِلِ الْقُوَّةِ وَالِاسْتِعْدَادِ؛ عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا؛ فَإِنَّ جَهْلَ الْمُسْلِمِينَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَكَسَلَهُمْ عَنِ الْعَمَلِ ضَرَرُهُ كَبِيرٌ، وَبِذَلِكَ يَكُونُونَ عَالَةً عَلَى غَيْرِهِمْ، وَهَذَا عُنْوَانُ الذُّلِّ؛ فَإِنَّ للهِ سُنَنًا كَوْنِيَّةً جَعَلَهَا وَسَائِلَ لِلْعِزِّ وَالرُّقِيِّ، مَنْ سَلَكَهَا نَجَحَ، وَدِينُ الْإِسْلَامِ يَحُثُّ عَلَيْهَا غَايَةَ الْحَثِّ)).
وَبِذَلِكَ يَكُونُونَ عَالَةً عَلَى غَيْرِهِمْ، وَهَذَا عُنْوَانُ الذُّلِّ، وَهَذَا هُوَ الْوَاقِعُ؛ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ صَارُوا عَالَةً عَلَى غَيْرِهِمْ فِي طَعَامِهِمْ؛ فَأَكْثَرُ الدُّوَلِ الْإِسْلَامِيَّةِ تَسْتَوْرِدُ الْقَمْحَ مِنْ أَعْدَائِهِمْ، وَأَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ: يَسْتَوْرِدُونَ السِّلَاحَ مِنَ الْأَعْدَاءِ؛ فَكَيْفَ تُقَاتِلُونَهُمْ بِالسِّلَاحِ الَّذِي بَاعُوهُ لَكُمْ؟!! وَهَلْ يَبِيعُونَ لَكُمْ آخِرَ مَا وَصَلُوا إِلَيْهِ؟!! وَهُمْ أَدْرَى بِإِفْسَادِ مَا يُؤَثِّرُهُ السِّلَاحُ الَّذِي بَاعُوهُ لَكُمْ إِذَا مَا وَقَعَتْ خُصُومَةٌ وَعَدَاوَةٌ وَقِتَالٌ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ!
فَهَذَا أَمْرٌ عَجِيبٌ!
الْمُسْلِمُونَ إِلَى يَوْمِ النَّاسِ هَذَا لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى الطَّرِيقِ الَّتِي يَسْلُكُونَهَا مِنْ أَجْلِ أَنْ يَبْدَؤُوا طَرِيقَ عِزِّهِمْ؛ فَهُمْ بَعْدُ لَمْ يَسْلُكُوا طَرِيقَ الْعِزِّ، وَإِنَّمَا يَقِفُونَ عَلَى رَأْسِهِ؛ يَقُولُونَ: نَسْلُكُهُ، أَوْ لَا نَسْلُكُهُ؟! وَهَلْ هُوَ الطَّرِيقُ الصَّحِيحُ، أَوْ غَيْرُهُ هُوَ الصَّحِيحُ؟!
لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى شَيْءٍ؛ فَهُمْ مُتَنَاحِرُونَ فِي مَسَائِلِ الْعَقِيدَةِ؛ فَالْخُرَافِيُّونَ الْقَبْرِيُّونَ، وَالْأَشْعَرِيُّونَ، وَالْمُعْتَزِلِيُّونَ، وَالْجَهْمِيُّونَ، وَغَيْرُهُمْ يَقُولُونَ: أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَهَّابِيُّونَ مُشَبِّهَةٌ مُمَثِّلُونَ، ثُمَّ يَتَنَاحَرُ أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ، فَهَؤُلَاءِ مُعْتَزِلِيَّةٌ، وَهَؤُلَاءِ أَشْعَرِيَّةٌ، يَخْتَلِفُونَ فِي أَبْوَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الِاعْتِقَادِ؛ كَالْقَدَرِ، وَالْقُرْآنِ، وَكَذَلِكَ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَعْمَالِ وَأَفْعَالِ الْعِبَادِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْأُصُولِ.
ثُمَّ يَخْتَلِفُ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ هَذَا الِاخْتِلَافِ الْعَقَدِيِّ اخْتِلَافًا آخَرَ، وَهُوَ الِاخْتِلَافُ الْمَذْهَبِيُّ الْفِقْهِيُّ، فَلَا أَحَدَ يُرِيدُ أَنْ يَتْرُكَ رَأْيَهُ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ؛ وَلَوْ كَانَ الدَّلِيلُ عَلَى ضِدِّهِ وَنَقِيضِهِ، فَيَتَشَبَّثُ بِرَأْيِهِ وَيَقُولُ: هُوَ رَأْيُ الْإِمَامِ، فَإِذَا قِيلَ لَهُ: وَالْإِمَامُ لَيْسَ مَعْصُومًا؛ يَقُولُ: حَتَّى لَوْ جَاءَ الدَّلِيلُ عَلَى ضِدِّ مَا جَاءَ بِهِ الْإِمَامُ فَأَنَا أَذْهَبُ إِلَى قَوْلِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ الَّذِي جِئْتُمْ بِهِ لَا شَكَّ أَنَّ الْإِمَامَ عَلِمَهُ؛ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُ، أَوْ رَآهُ مَنْسُوخًا فَذَهَبَ إِلَى مَا هُوَ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ.
فَالْمُسْلِمُونَ لَا يَتَّفِقُونَ إِلَى يَوْمِ النَّاسِ هَذَا عَلَى صِيغَةٍ يُمْكِنُ أَنْ يَتَّحِدُوا عَلَيْهَا؛ حَتَّى يَكُونُوا عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ إِذَا مَا أَخَذُوا بِهَا.
وَأَمَّا الرَّوَافِضُ فَأَمْرُهُمْ مَعْلُومٌ؛ فَهَؤُلَاءِ دَائِمًا كَانُوا نَصْلًا مُغْمَدًا فِي قَلْبِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، كَانُوا حَرْبًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ عَصْرٍ، كَمَا يَشْهَدُ بِذَلِكَ تَارِيخُهُمُ الْمَاضِي، وَتَارِيخُهُمُ الْمُعَاصِرُ.
فَهَذَا كُلُّهُ عُنْوَانُ الذُّلِّ؛ لِأَنَّ للهِ سُنَنًا كَوْنِيَّةً جَعَلَهَا وَسَائِلَ لِلْعِزِّ وَالرُّقِيِّ، مَنْ سَلَكَهَا نَجَحَ، وَدِينُ الْإِسْلَامِ يَحُثُّ عَلَيْهَا غَايَةَ الْحَثِّ.
((الْوُجُوبُ يَتَعَلَّقُ بِقَدْرِ الْقُدْرَةِ وَالِاسْتِطَاعَةِ))
((قَالَ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: ١٦].
وَقَالَ ﷺ: ((إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
فَاللهُ -تَعَالَى- أَمَرَ بِالْجِهَادِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ، وَبِالْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، وَبِالْمُبَاشَرَةِ، وَإِعَانَةِ الْمُبَاشِرِينَ، وَبِالدَّعْوَةِ، وَالتَّحْرِيضِ وَالتَّشْجِيعِ.
وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((مَنْ لَمْ يَغْزُ، وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِالْغَزْوِ؛ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنَ النِّفَاقِ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
فَكُلُّ مَنْ فِي قَلْبِهِ إِيمَانٌ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ هَذَا الْجِهَادِ، وَكُلُّ أَحَدٍ فَرْضٌ عَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ بِمَا يَسْتَطِيعُهُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا.
فَأَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَالرِّيَاسَةِ مِنَ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْوُزَرَاءِ وَرِجَالِ الدُّوَلِ الْإِسْلَامِيَّةِ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسْعَوْا أَحَثَّ السَّعْيِ لِتَحْصِيلِ الْقُوَّتَيْنِ: الْقُوَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ، وَالْقُوَّةِ الْمَادِّيَّةِ، وَذَلِكَ بِالسَّعْيِ لِإِزَالَةِ الْمَوَانِعِ وَالْحَوَاجِزِ الَّتِي حَالَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ اتِّفَاقِهِمْ وَاجْتِمَاعِ كَلِمَتِهِمْ، وَأَنْ يَفْهَمُوا الْعَوَامِلَ الَّتِي فَرَّقَتْهُمْ، وَالْأَغْرَاضَ الْمُتَبَايِنَةَ الَّتِي شَتَّتَتْهُمْ، وَأَنَّ الْأَيْدِيَ الْأَجْنَبِيَّةَ تَتَوَسَّلُ بِذَلِكَ لِتَحْصِيلِ أَغْرَاضِهَا، فَمَتَى فَهِمُوهَا وَعَمِلُوا عَلَى إِزَالَتِهَا بِجِدٍّ وَاجْتِهَادٍ؛ فَلَهُمْ نَصِيبٌ وَافِرٌ مِنَ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ -مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَحْمِلُوا سَيْفًا، وَلَمْ يَرْمُوا بِنَبْلٍ، وَلَا شَهَرُوا سِلَاحًا فِي وَجْهِ عَدُوٍّ، وَإِنَّمَا جِهَادُهُمْ هَذَا الَّذِي مَرَّ-.
وَعَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ بَيَانِ فَضْلِ الْجِهَادِ وَوُجُوبِهِ، وَتَبْيِينِ مَنَافِعِهِ الضَّرُورِيَّةِ، وَحَضِّ النَّاسِ عَلَيْهِ، وَالْوَعْظِ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ أَعْظَمُ مِمَّا عَلَى غَيْرِهِمْ.
وَعَلَيْهِمْ أَنْ يُبَيِّنُوا لِلنَّاسِ أَنَّ جَمِيعَ حَرَكَاتِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَنَفَقَاتِهِمُ الْمُقَوِّيَةِ لِلدِّينِ، الْمُعِينَةِ لِلْمُسْلِمِينَ فِي دَفْعِ اعْتِدَاءِ الْمُعْتَدِي؛ كُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ.
فَمَتَى عَرَفَ الْمُؤْمِنُونَ مَوْضُوعَ الْجِهَادِ، وَأَنَّهُ اسْمٌ جَامِعٌ لِسُلُوكِ كُلِّ سَبَبٍ وَوَسِيلَةٍ فِي إِعْلَاءِ كَلِمَةِ الدِّينِ، وَفِي مُقَاوَمَةِ الْأَعْدَاءِ، وَالْحَذَرِ وَالتَّحَرُّزِ مِنْهُمْ؛ نَشَطُوا لِلْقِيَامِ بِهِ، وَأَخْلَصُوا للهِ فِيهِ، وَالْعَمَلُ الْخَالِصُ نَفْعُهُ كَبِيرٌ، وَأَجْرُهُ عَظِيمٌ.
وَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُبْدِيَ مَجْهُودَهُ فِي نَصْرِ الْمُسْلِمِينَ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلٍ، وَفِعْلٍ، وَدِعَايَةٍ، وَحَضٍّ لِإِخْوَانِهِ عَلَيْهِ.
وَكُلُّ أَحَدٍ عَلَيْهِ مِنَ الْقِيَامِ بِوَظِيفَتِهِ الْخَاصَّةِ مَا لَيْسَ عَلَى الْآخَرِ:
فَالْمُلُوكُ وَالْأُمَرَاءُ وَقُوَّادُ الْجُيُوشِ عَلَيْهِمْ مِنَ الْوَاجِبَاتِ بِحَسَبِ مَرَاتِبِهِمْ وَمَقَامَاتِهِمْ.
وَالْجُيُوشُ الْعَامِلَةُ عَلَيْهَا النُّهُوضُ بِوَظِيفَتِهَا، وَالْتِزَامُ الْقُوَّةِ وَالشَّجَاعَةِ وَالصَّبْرِ.
وَعَلَى أَهْلِ الْأَمْوَالِ بَذْلُ مَا يَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهِ فِي الْمَنَافِعِ الْكُلِّيَّةِ.
وَعَلَى أَهْلِ الصَّنَائِعِ النُّصْحُ وَالْجِدُّ فِي تَعْلِيمِ الصِّنَاعَاتِ النَّافِعَةِ لِلْجِهَادِ.
فَمَتَى قَامَ كُلُّ أَحَدٍ بِوَظِيفَتِهِ لَمْ يَزَالُوا فِي رُقِيٍّ وَصُعُودٍ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَعِزِّهِمْ وَشَرَفِهِمْ)).
فَهَذَا مَعْنًى جَلِيلٌ، لَوْ فُهِمَ عَلَى وَجْهِهِ لَأَتَى مِنْهُ -بِفَضْلِ اللهِ- خَيْرٌ كَثِيرٌ؛ وَلَكِنَّ الَّذِينَ يَفْهَمُونَ هَذَا الْمَعْنَى يَفْهَمُونَهُ فَهْمًا مَعْكُوسًا؛ حَتَّى إِنَّ التَّخْذِيلَ وَالتَّثْبِيطَ يَأْتِي مِنْ أَقْوَامٍ هُمْ قَاعِدُونَ لَا يَتَحَرَّكُونَ؛ حَتَّى إِنَّهُمْ لَا يَحْمُونَ أَنْفُسَهُمْ، وَلَا يُدَافِعُونَ عَنْ مُمْتَلَكَاتِهِمْ، وَإِنَّمَا يُطَالِبُونَ الْآخَرُونَ بِالدِّفَاعِ عَنْهُمْ، فَإِذَا مَا أَتَى أَقْوَامٌ يُشْهِرُونَ السِّلَاحَ مُكَفِّرِينَ لِجُيُوشِ بِلَادِهِمْ؛ بَلْ وَلِشُعُوبِهِمْ، ثُمَّ أَخَذُوا يَقْتُلُونَ أُولَئِكَ الْأَفْرَادَ فِي تِلْكَ الْجُيُوشِ وَغَيْرِهَا، وَتَعَامَلَتْ تِلْكَ الْجُيُوشُ مَعَهُمْ؛ حَتَّى عَلَى طَرِيقَةِ الدِّفَاعِ عَنِ النَّفْسِ- فَهَذَا مَشْرُوعٌ فِي كُلِّ دِينٍ؛ بَلْ هُوَ مَشْرُوعٌ فِي كُلِّ قَانُونٍ-؛ فَإِذَا مَا وَقَعَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ أَخَذَ أُولَئِكَ الْقَاعِدُونَ الْمَحْمِيُّونَ يَزْعَقُونَ وَيَصْرُخُونَ: هَذِهِ إِرَاقَةٌ لِلدِّمَاءِ، وَهَذِهِ اعْتِدَاءَاتٌ عَلَى الْأَرْوَاحِ!
وَالِاعْتِدَاءُ عَلَى الْأَرْوَاحِ فِي الْمُقَابِلِ، وَالتَّمْثِيلُ بِالْجُثَثِ، وَتَخْرِيبُ الْأَمْوَالِ الْعَامَّةِ وَنَسْفُهَا، وَإِحْدَاثُ الْفَوْضَى وَالْقَلَاقِلِ فِي الْبِلَادِ؛ هَذَا كُلُّهُ لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَيْهِ؛ فَأَيُّ شَيْءٍ هَذَا؟!
الْمُسْلِمُونَ يَنْبَغِي عَلَيْهِمْ أَنْ يَفْهَمُوا مَوْضُوعَ الْجِهَادِ فَهْمًا صَحِيحًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ فُهِمَ فَهْمًا صَحِيحًا، وَالْتُزِمَ بِإِطَارِهِ الْعَامِّ، فَتَحَرَّكَ الْمُسْلِمُونَ دَاخِلَهُ، وَأَدَّى كُلٌّ مَا عَلَيْهِ؛ لَاسْتَقَامَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ -بِفَضْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ-.
((وُجُوبُ الِاجْتِهَادِ فِي فِعْلِ الْأَسْبَابِ النَّافِعَةِ
مَعَ التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ))
((قَدْ أَمَرَ اللهُ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ بِالْقِيَامِ بِجَمِيعِ الْأَسْبَابِ النَّافِعَةِ، وَالسَّعْيِ فِي كُلِّ وَسِيلَةٍ فِيهَا صَلَاحُ الْأَحْوَالِ، كَمَا أَمَرَ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَالِاعْتِمَادِ عَلَى حَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ.
فَبِالْقِيَامِ بِهَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ تَقُومُ الْأُمُورُ كُلُّهَا، وَتَتِمُّ وَتَكْمُلُ، وَالنَّقْصُ وَالْقُصُورُ إِنَّمَا يَجِيءُ مِنَ الْإِخْلَالِ بِهِمَا أَوْ بِأَحَدِهِمَا؛ فَالتَّوَكُّلُ الَّذِي لَا يَصْحَبُهُ جِدٌّ وَاجْتِهَادٌ لَيْسَ بِتَوَكُّلٍ، وَإِنَّمَا هُوَ إِخْلَادٌ إِلَى الْكَسَلِ، وَتَقَاعُدٌ عَنِ الْأُمُورِ النَّافِعَةِ، كَمَا أَنَّ الْعَمَلَ بِالْأَسْبَابِ مِنْ دُونِ اعْتِمَادٍ وَتَوَكُّلٍ عَلَى مُسَبِّبِهَا وَاسْتِعَانَةٍ بِهِ مَآلُهُ الْخَسَارُ، وَالزَّهْوُ وَالْإِعْجَابُ بِالنَّفْسِ، وَالْخِذْلَانُ.
فَالْجَمْعُ بَيْنَ التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ وَبَيْنَ الِاجْتِهَادِ فِي فِعْلِ الْأَسْبَابِ هُوَ الَّذِي حَثَّ عَلَيْهِ الدِّينُ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ سَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ ﷺ، وَبِهِمَا يَتَحَقَّقُ الْإِيمَانُ، وَتَقْوَى دَعَائِمُ الدِّينِ، وَبِهِمَا تَقْوَى مَعْنَوِيَّةُ الْمُسْلِمِينَ؛ حَيْثُ اعْتَمَدُوا عَلَى رَبِّ الْعِبَادِ، وَأَدَّوْا مَا فِي مَقْدُورِهِمْ مِنْ جِدٍّ وَاجْتِهَادٍ)).
هَذَا أَصْلٌ مِنَ الْأُصُولِ الْكَبِيرَةِ، وَفِيهِ اجْتِهَادٌ فِي فِعْلِ الْأَسْبَابِ النَّافِعَةِ مَعَ الْأَخْذِ بِالتَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَهَذَا إِنَّمَا يُذْكَرُ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ جَمَاهِيرِ الْمُسْلِمِينَ هُمْ فِي الْحَقِيقَةِ مِنَ الْمُتَوَاكِلِينَ؛ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ أَقَرُّوا بِمَا صَارَتْ إِلَيْهِ الْأُمَّةُ مِنْ حَالَةٍ مُتَرَدِّيَةٍ، وَمِنْ ذُلٍّ وَاقِعٍ عَلَيْهَا فِي مَجْمُوعِهَا وَعَلَى أَفْرَادِهَا؛ حَتَّى صَارَ الْمُسْلِمُ فِي بِلَادِ الْكُفْرِ رُبَّمَا يَسْتَحْيِي مِنْ أَنْ يَذْكُرَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ؛ لِأَنَّ التَّرَادُفَ بَيْنَ (مُسْلِمٍ) وَ(إِرْهَابِيٍّ) صَارَ أَمْرًا وَاقِعًا، فَرُبَّمَا اسْتَحْيَا الْمُسْلِمُ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ مِنْ ذِكْرِ حَقِيقَةِ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الِاعْتِقَادِ.
مَعَ هَذَا كُلِّهِ، وَمَعَ الْإِقْرَارِ بِهِ فَإِنَّكَ تَجِدُ أَقْوَامًا لَا يَأْخُذُونَ بِالْأَسْبَابِ، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ: نَحْنُ مُتَوَكِّلُونَ عَلَى اللهِ، وَإِذَا أَرَادَ اللهُ أَنْ يَرْفَعَ الذُّلَّ عَنَّا رَفَعَهُ، وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا أَنْ نَدْعُوَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِيَرْفَعَ عَنَّا الذُّلَّ، وَسَيْرَفَعُهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَعَلَى الصَّالِحِينَ أَنْ يَتَحَلَّقُوا فِي الْمَسَاجِدِ مِنْ أَجْلِ الدُّعَاءِ لِرَفْعِ الْمَذَلَّةِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا هُوَ عَيْنُ التَّوَاكُلِ، هَذَا لَا تَوَكُّلَ فِيهِ!
وَهَؤُلَاءِ لَوْ قِيلَ لِلْوَاحِدِ مِنْهُمْ: لَا تَسْعَ عَلَى طَلَبِ الثَّرْوَةِ، وَلَا تَبْذُلْ فِي هَذَا مَجْهُودًا، وَإِنَّمَا اجْلِسْ فِي الْمَسْجِدِ دَاعِيًا رَبَّكَ، وَسَتُمْطِرُكَ السَّمَاءُ ذَهَبًا، أَوْ فِضَّةً، أَوْ مَا شَاءَ اللهُ؛ لَوْ قِيلَ لَهُ ذَلِكَ مَا قَبِلَهُ، وَلَكِنْ هُوَ يَقْبَلُ أَنْ يَبْقَى الْمُسْلِمُونَ فِي الْمَسَاجِدِ، أَوْ فِي الصَّوَامِعِ، أَوْ حَوْلَ الْأَضْرِحَةِ! يَسْأَلُونَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- رَفْعَ الْكَرْبِ مِنْ غَيْرِ بَذْلِ مَجْهُودٍ!
وَالْمُضْطَرُّ هُوَ الَّذِي اسْتَنْفَذَ الْأَسْبَابَ: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62]، فَهَذَا الْمُضْطَرُّ الَّذِي يُجِيبُ اللهُ دَعْوَتَهُ، وَيَكْشِفُ عَنْهُ السُّوءَ هُوَ الَّذِي اسْتَنْفَذَ الْأَسْبَابَ؛ وَلِذَلِكَ إِذَا دَعَا رَبَّهُ وَأَسْبَابُهُ مَعَهُ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُضْطَرًّا، وَلَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْوَعْدِ الْكَرِيمِ، فَلَا يُجِيبُ اللهُ دُعَاءَهُ، أَسْبَابُهُ فِي يَدِهِ؛ فَيَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ بِأَسْبَابِهِ، فَإِذَا نَفِدَتْ أَسْبَابُهُ فَدَعَا رَبَّهُ فَهُوَ مُضْطَرٌّ، فَلْيُبْشِرْ بِالْإِجَابَةِ، {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ}.
فَالْمُسْلِمُونَ أَسْبَابُهُمْ فِي أَيْدِيهِمْ وَلَيْسُوا بِمُضْطَرِّينَ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ يَجْأَرُونَ إِلَى اللهِ بِالدُّعَاءِ -فِعْلَ الْمُضْطَرِّينِ-، فَلَا يُجَابُونَ.
فَعَلَى الْمُسْلِمِ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ عُمُومًا أَنْ يَأْخُذُوا بِالْأَمْرَيْنِ مَعًا؛ بِالتَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَبِالْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ، وَهَذَا مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ؛ فَهُوَ أَعْظَمُ الْمُتَوَكِّلِينَ عَلَى اللهِ، وَمَعَ ذَلِكَ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَمْرًا مِنَ الْأُمُورِ أَعَدَّ لَهُ أَسْبَابَهُ ﷺ.
((مَعْرِفَةُ أَحْوَالِ الْأُمَمِ وَدَرْسُهَا
وَمَعْرِفَةُ سِيَاسَاتِهَا دَاخِلٌ فِي الْجِهَادِ))
((قَدْ عُلِمَ مِنْ قَوَاعِدِ الدِّينِ أَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَأَنَّ الْوَسَائِلَ لَهَا أَحْكَامُ الْمَقَاصِدِ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يَتِمُّ التَّحَرُّزُ مِنْ أَضْرَارِ الْأُمَمِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَالتَّوَقِّي لِشُرُورِهَا إِلَّا بِالْوُقُوفِ عَلَى مَقَاصِدِهِمْ، وَدَرْسِ أَحْوَالِهِمْ وَسِيَاسَاتِهِمْ؛ وَخُصُوصًا السِّيَاسَةَ الْمُوَجَّهَةَ مِنْهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ; فَإِنَّ السِّيَاسَةَ الدَّوْلِيَّةَ قَدْ أُسِّسَتْ عَلَى الْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ وَعَدَمِ الْوَفَاءِ، وَاسْتِعْبَادِ الْأُمَمِ الضَّعِيفَةِ بِكُلِّ وَسَائِلِ الِاسْتِعْبَادِ; فَجَهْلُ الْمُسْلِمِينَ بِهَا نَقْصٌ كَبِيرٌ وَضَرَرٌ خَطِيرٌ، وَمَعْرِفَتُهَا وَالْوُقُوفُ عَلَى مَقَاصِدِهَا وَغَايَاتِهَا الَّتِي تَرْمِي إِلَيْهَا نَفْعُهُ عَظِيمٌ، وَفِيهِ دَفْعٌ لِلشَّرِّ أَوْ تَخْفِيفُهُ، وَبِهِ يَعْرِفُ الْمُسْلِمُونَ كَيْفَ يُقَابِلُونَ كُلَّ خَطَرٍ.
وَلِهَذَا كَانَ مِنْ أَرْكَانِ السِّيَاسَةِ وَالْقِيَادَةِ: الْمَعْرِفَةُ وَالْوُقُوفُ التَّامُّ عَلَى أَحْوَالِ الْأَعْدَاءِ؛ فَالسِّيَاسَةُ الدَّاخِلِيَّةُ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِأَحْكَامِ السِّيَاسَةِ الْخَارِجِيَّةِ)).
الْمَعْرِفَةُ بِمَا عِنْدَ الْعَدُوِّ -عِنْدَ الْخَاصَّةِ، أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لَا عِنْدَ عُمُومِ النَّاسِ.. عِنْدَ عُمُومِ الشَّعْبِ، لَكِنْ عِنْدَ الْخَاصَّةِ الَّذِينَ يَقُودُونَ، وَالَّذِينَ يَتَحَرَّكُونَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّنْ فِي يَدِهِ مِنْ أَزِمَّةِ الْأُمُورِ مَا فِيهَا-؛ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ مِنْ أَوْجَبِ الْوَاجِبَاتِ، هَذِهِ الْمَعْرِفَةُ دَاخِلَةٌ فِي الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ.
((مِنَ الْجِهَادِ الْقِيَامُ بِالْقِسْطِ وَالْوَفَاءُ بِالْعُهُودِ))
((قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} [النساء: ١٣٥].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: ١].
{وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا} [النحل: ٩٢].
فَهَذَانِ الْأَصْلَانِ الْعَظِيمَانِ -وَهُمَا الْقِيَامُ بِالْقِسْطِ الَّذِي هُوَ الْعَدْلُ التَّامُّ عَلَى الْأَنْفُسِ، وَالْأَقْرَبِينَ، وَالْأَبْعَدِينَ، وَالْأَصْدِقَاءِ، وَالْمُعَادِينَ، وَالْوَفَاءُ بِالْعُهُودِ وَالْمُعَاقَدَاتِ كُلِّهَا- مِنْ أَكْبَرِ أُصُولِ الدِّينِ وَمَصَالِحِهِ، وَبِهَا يَتِمُّ الدِّينُ، وَيَسْتَقِيمُ طَرِيقُ الْجِهَادِ الْحَقِيقِيِّ، وَتَحْصُلُ الْهِدَايَةُ وَالْإِعَانَةُ مِنَ اللهِ -تَعَالَى-، وَالنَّصْرُ وَالْمُدَافَعَةُ.
فَمَا ارْتَفَعَ أَحَدٌ إِلَّا بِالْعَدْلِ وَالْوَفَاءِ، وَلَا سَقَطَ أَحَدٌ إِلَّا بِالظُّلْمِ وَالْجَوْرِ وَالْغَدْرِ.
وَبِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ -مَعَ بَقِيَّةِ أُصُولِ الدِّينِ- حَصَلَ لِلدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ مِنَ الْعِزِّ وَالشَّرَفِ وَالرُّقِيِّ وَقَهْرِ الْأُمَمِ الطَّاغِيَةِ مَا لَمْ يَحْصُلْ لِغَيْرِهِ.
وَبِهَذِهِ الرُّوحِ -رُوحِ الرَّحْمَةِ وَالْعَدْلِ وَالْوَفَاءِ- وَصَلَ الدِّينُ الْإِسْلَامِيُّ إِلَى مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، وَدَانَتْ بِهِ الْأُمَمُ الْمُتَبَايِنَةُ طَوْعًا وَانْقِيَادًا وَرَغْبَةً، وَبِتَرْكِهِ انْتَقَضَ الْأَمْرُ، وَلَمْ يَزَلِ الْهُبُوطُ مُسْتَمِرًّا؛ إِلَّا إِنَّهُ تَحْصُلُ نَفْحَاتٌ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، بِهَا يَنْتَعِشُ الدِّينُ إِذَا تَشَبَّثُوا بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمُقَوِّمَاتِ النَّافِعَةِ.
وَلِهَذَا تَجِدُ الْقُوَّاتِ وَالْحَضَارَاتِ الْهَائِلَةَ الَّتِي يَزْعُمُ أَهْلُهَا أَنَّهَا رَاقِيَةٌ فِي كُلِّ أَحْوَالِهَا لَمَّا كَانَتْ مَبْنِيَّةً عَلَى الظُّلْمِ وَالْجَشَعِ وَالطَّمَعِ وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ فِي ظُلْمِ الْأُمَمِ الضَّعِيفَةِ، وَكَانَتْ إِذَا قَطَعَتْ عُهُودَهَا، وَنَفَّذَتْ مُعَاهَدَاتِهَا؛ لَمْ تُبَالِ بَعْدَ ذَلِكَ وَفَّتْ أَوْ غَدَرَتْ، وَإِنَّمَا تُلَاحِظُ أَطْمَاعَهَا الْخَاصَّةَ، وَأَغْرَاضَهَا الرَّدِيَّةَ، وَلِسَانُ حَالِهِمْ يَقُولُ: السِّيَاسَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمَكْرِ وَالْخَدْعِ وَالْخَتْرِ وَالْغَدْرِ.
لَمَّا كَانَتْ مَعَ قُوَّتِهَا الْهَائِلَةِ مَبْنِيَّةً عَلَى هَذِهِ الْأُصُولِ الْمُنْهَارَةِ؛ كَانَتْ هَذِهِ الْمَدَنِيَّةُ الْمَزْعُومَةُ وَالْحَضَارَةُ الْمُدَّعَاةُ مُهَدَّدَةً كُلَّ وَقْتٍ بِالْفَنَاءِ وَالْهَلَاكِ وَالتَّدْمِيرِ، وَالْوَاقِعُ أَكْبَرُ شَاهِدٍ عَلَى ذَلِكَ.
فَلَوْ أَنَّهَا بُنِيَتْ عَلَى الدِّينِ الْحَقِّ، وَالْعَدْلِ، وَاتِّبَاعِ الْحَقِّ، وَالْوَفَاءِ بِالْمُعَاقَدَاتِ، وَنَصْرِ الْمَظْلُومِينَ؛ لَكَانَتْ مَدَنِيَّةً آمِنَةً؛ وَلَكِنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ مَادِّيَّةٌ مَحْضَةٌ، وَالْقُوَّةُ الْمَادِّيَّةُ إِذَا لَمْ تُبْنَ عَلَى الْحَقِّ فَإِنَّهَا مُنْهَارَةٌ لَا مَحَالَةَ، وَرُبَّمَا كَانَ سِلَاحُهَا الْفَتَّاكُ هُوَ مَادَّةَ هَلَاكِهَا وَعُقُوبَتِهَا.
وَالْمَقْصُودُ؛ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ بِالْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ لَا يَغْتَرُّونَ بِقُوَّةِ هَؤُلَاءِ الْمَادِّيِّينَ، وَإِنَّمَا يَقُومُونَ بِالْعَدْلِ التَّامِّ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمْ، وَبِالْوَفَاءِ الْكَامِلِ فِي حَقِّ الصَّدِيقِ وَالْعَدُوِّ.
وَهَذِهِ الْأُمُورُ كُلُّهَا مُضْطَرَّةٌ إِلَى التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ، وَالِاعْتِمَادِ عَلَى حَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، وَكَمَالِ الثِّقَةِ بِهِ فِي تَيْسِيرِ الْأُمُورِ، وَتَذْلِيلِ الصِّعَابِ، فَيَكُونُ الْمُتَوَكِّلُ يَعْمَلُ بِجِدٍّ وَاجْتِهَادٍ، مُطْمَئِنًّا بِاللهِ، وَاثِقًا بِوَعْدِهِ وَكِفَايَتِهِ، لَا يَرْجُو غَيْرَهُ، وَلَا يَخَافُ سِوَاهُ، لَا يَمْلِكُهُ الْيَأْسُ، وَلَا يُسَاوِرُهُ الْقُنُوطُ، غَيْرَ هَيَّابٍ وَلَا وَجِلٍ وَلَا مُتَرَدِّدٍ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ الْأُمُورَ بِيَدِ اللهِ، وَأَنَّ نَوَاصِيَ الْخَلِيقَةِ فِي قَبْضَتِهِ وَتَحْتَ تَدْبِيرِهِ.
بِهَذَا التَّوَكُّلِ التَّامِّ وَالْعَمَلِ الْكَامِلِ نَالَ الْمُسْلِمُونَ الْأَوَّلُونَ الْعِزَّ، وَالشَّرَفَ، وَالسُّلْطَانَ، وَصَلَاحَ الْأَحْوَالِ.
وَهَذَا الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ الْآنَ، وَأَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ وَالتَّوَكُّلُ نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ، فَلَا يَمِيلُوا إِلَى التَّوَاكُلِ وَالتَّخَاذُلِ، وَالْإِخْلَادِ إِلَى الْبَطَالَةِ وَالْكَسَلِ؛ فَإِنَّ هَذَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ الْحَقِيقِيَّ غَايَةَ الْمُنَافَاةِ; كَحَالِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ؛ يُشَاهِدُونَ عَدُوَّهُمْ يُحَارِبُهُمْ، وَيَسْلُبُهُمْ حُقُوقَهُمْ وَهُمْ سَاكِتُونَ، لَا يَدْفَعُونَهُ بِوَسِيلَةٍ مِنَ الْوَسَائِلِ، وَلَا يُبْدُونَ مَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ مِنْ مُقَاوَمَتِهِ الَّتِي لَا يُعْذَرُونَ عَنِ الْقِيَامِ بِهَا، فَتَكُونُ النَّتِيجَةُ مِنْ هَذَا السُّكُوتِ وَالتَّقَاعُدِ الضَّارِّ ضَيَاعَ اسْتِقْلَالِهِمْ، وَذَهَابَ مُلْكِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَالسَّيْطَرَةَ عَلَى حُقُوقِهِمْ، وَحُلُولَ الْمَصَائِبِ الْمُتَنَوِّعَةِ بِهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَيَقُولُونَ: نَحْنُ مُتَوَكِّلُونَ!
كَلَّا -وَاللهِ-، بَلْ هُمْ كُسَالَى مُتَوَاكِلُونَ، قَدِ اسْتَوْلَى عَلَيْهِمُ الْخَوَرُ، وَأَعْقَبَهُ الذُّلُّ وَاسْتِعْبَادُ الْأَجَانِبِ لَهُمْ)).
((رَبْطُ الصَّدَاقَاتِ وَعَقْدُ الْمُعَاهَدَاتِ
بَيْنَ الْحُكُومَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ مِنَ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ))
((قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: ١٠].
فَمِنْ أَهَمِّ مَسَائِلِ الْجِهَادِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ: عَقْدُ الْمُعَاهَدَاتِ، وَتَوْثِيقُ الْمَوَدَّةِ وَالصَّدَاقَةِ بَيْنَ الْحُكُومَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ، مَعَ احْتِفَاظِ كُلِّ حُكُومَةٍ بِشَخْصِيَّتِهَا وَحُقُوقِهَا الدَّوْلِيَّةِ، وَإِدَارَتِهَا دَاخِلًا وَخَارِجًا، وَالتَّكَافُلِ بَيْنَهَا وَالتَّضَامُنِ، وَأَنْ يَكُونُوا يَدًا وَاحِدَةً عَلَى مَنْ تَعَدَّى عَلَيْهِمْ أَوْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ حُقُوقِهِمْ، وَأَنْ يَكُونَ صَوْتُهُمْ وَاحِدًا، وَتَسْهِيلُ الْأُمُورِ الِاقْتِصَادِيَّةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ؛ طَلَبًا لِمَصْلَحَةِ الْكُلِّ، وَتَقْرِيبِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، وَأَنْ يَعْمَلُوا لِهَذَا الْمَوْضُوعِ أَعْمَالَهُ اللَّائِقَةَ بِهِ، الْمُنَاسِبَةَ لِلظُّرُوفِ الْحَاضِرَةِ، وَأَنْ يَسْعَوْا كُلَّ السَّعْيِ لِتَحْقِيقِ هَذَا، وَإِزَالَةِ جَمِيعِ الْعَقَبَاتِ الْحَائِلَةِ دُونَهُ وَالْمُعَوِّقَةِ لَهُ.
وَهَذِهِ الْأُمُورُ -وَإِنْ كَانَتْ بَادِيَ الرَّأْيِ- صَعْبَةً، وَقَدْ وَضَعَ الْأَعْدَاءُ لَهَا الْعَرَاقِيلَ الْمُعَوِّقَةَ؛ فَإِنَّهَا يَسِيرَةٌ -بِتَيْسِيرِ اللهِ- وَقُوَّةِ الْعَمَلِ، مَعَ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ.
وَالْيَوْمَ وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ مُصَابِينَ بِضَعْفٍ شَدِيدٍ، وَالْأَعْدَاءُ يَتَرَبَّصُونَ بِهِمُ الدَّوَائِرَ، وَهَذِهِ الْحَالَةُ قَدْ أَوْجَدَتْ فِي الْمُسْلِمِينَ أُنَاسًا ضَعِيفِي الْإِيمَانِ، ضَعِيفِي الرَّأْيِ وَالْقُوَّةِ وَالشَّجَاعَةِ، قَدْ مَلَكَهُمُ الْيَأْسُ وَالْخَوَرُ، يَتَشَاءَمُونَ بِأَنَّ الْأَمَلَ فِي رِفْعَةِ الْإِسْلَامِ قَدْ ضَاعَ، وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَتَنَقَّلُونَ مِنْ ضَعْفٍ إِلَى ضَعْفٍ؛ فَهَؤُلَاءِ قَدْ غَلِطُوا أَشَدَّ الْغَلَطِ؛ فَإِنَّ هَذَا الضَّعْفَ عَارِضٌ، لَهُ أَسْبَابٌ، وَبِالسَّعْيِ فِي زَوَالِ أَسْبَابِهِ تَعُودُ صِحَّةُ الْإِسْلَامِ كَمَا كَانَتْ، وَتَعُودُ إِلَيْهِ قُوَّتُهُ الَّتِي فَقَدَهَا مُنْذُ أَجْيَالٍ.
مَا ضَعُفَ الْمُسْلِمُونَ إِلَّا لِأَنَّهُمْ خَالَفُوا كِتَابَ رَبِّهِمْ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِمْ ﷺ، وَتَنَكَّبُوا السُّنَنَ الْكَوْنِيَّةَ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ بِحِكْمَتِهِ مَادَّةً لِحَيَاةِ الْأُمَمِ وَرُقِيِّهَا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ.
فَإِذَا رَجَعُوا إِلَى مَا مَهَّدَهُ لَهُمْ دِينُهُمْ، وَإِلَى تَعَالِيمِهِ النَّافِعَةِ وَإِرْشَادَاتِهِ الْعَالِيَةِ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَصِلُوا إِلَى الْغَايَةِ كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا.
وَهَذَا الْمَذْهَبُ الْمَهِينُ -مَذْهَبُ التَّشَاؤُمِ- لَا يَرْتَضِيهِ الْإِسْلَامُ، بَلْ يُحَذِّرُ عَنْهُ أَشَدَّ التَّحْذِيرِ، وَيُبَيِّنُ لِلنَّاسِ أَنَّ النَّجَاحَ مَأْمُولٌ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ إِذَا عَمِلُوا بِتَقْوَى اللهِ، وَبِالْأَسْبَابِ الَّتِي أَرْشَدَهُمُ اللهُ إِلَيْهَا، وَاقْتَدَوْا بِنَبِيِّهِمْ فِيهَا، وَصَبَرُوا؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يُفْلِحُوا وَيَنْجَحُوا.
فَلْيَتَّقِ اللهَ هَؤُلَاءِ الْمُتَشَائِمُونَ، وَلْيَعْلَمُوا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَقْرَبُ الْأُمَمِ إِلَى النَّجَاحِ الْحَقِيقِيِّ وَالرُّقِيِّ الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ دِينَهُمْ كُلَّهُ عُرُوجٌ وَصُعُودٌ فِي عَقَائِدِهِ، وَآدَابِهِ، وَأَخْلَاقِهِ، وَمَقَاصِدِهِ وَأَسْبَابِهِ، وَجَمْعِهِ بَيْنَ مَصَالِحِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنَافِعِ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ.
وَيُقَابِلُ هَؤُلَاءِ طَائِفَةٌ يُؤَمِّلُونَ الْآمَالَ بِلَا قُوَّةٍ وَلَا أَعْمَالٍ، وَيَقُولُونَ وَلَا يَفْعَلُونَ، فَتَرَاهُمْ يَتَحَدَّثُونَ بِمَجْدِ الْإِسْلَامِ وَرِفْعَتِهِ، وَأَنَّ الرَّجَاءَ وَالطَّمَعَ فِي ذَلِكَ غَيْرُ بَعِيدٍ؛ وَلَكِنَّهَا أَقْوَالٌ بِلَا أَفْعَالٍ، وَلَا يَصْحَبُهَا سَعْيٌ؛ لَا قَوِيٌّ وَلَا ضَعِيفٌ، وَلَا يُقَدِّمُونَ لِدِينِهِمْ مَنْفَعَةً بَدَنِيَّةً وَلَا مَالِيَّةً، وَلَا يُسَاعِدُونَ عَلَى مَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ كُلِّيَّةٍ، وَهَذَا كُلُّهُ غُرُورٌ وَاغْتِرَارٌ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَنْوَاعٌ مِنَ الشُّرُورِ وَالْمَضَارِّ.
وَأَمَّا رِجَالُ الدِّينِ الَّذِينَ هُمْ غُرَّةُ الْمُسْلِمِينَ، وَهُمْ رِجَالُ الدُّنْيَا وَالدِّينِ؛ فَهُمُ الَّذِينَ أَبْدَوْا جِدَّهُمْ وَاجْتِهَادَهُمْ، وَقَرَنُوا بَيْنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ، وَأَنْفُسِهِمْ، وَأَقْوَالِهِمْ، وَدِعَايَاتِهِمْ، وَإِنْهَاضِ إِخْوَانِهِمْ، وَتَبَرَّءُوا مِنْ مَذْهَبِ الْمُتَشَائِمِينَ، وَمِنْ أَهْلِ الْأَقْوَالِ الْخَالِيَةِ مِنَ الْأَعْمَالِ، قَدْ نَهَضُوا بِأُمَّتِهِمْ، وَقَصَدُوا فِي سَعْيِهِمُ الْغَايَاتِ الْحَمِيدَةَ، وَسَلَكُوا طَرِيقَ الْمَجْدِ؛ فَهَؤُلَاءِ هُمُ الرِّجَالُ الَّذِينَ يُنَاطُ بِهِمُ الْأَمَلُ، وَتُدْرَكُ الْمَطَالِبُ الْعَالِيَةُ بِمَسَاعِيهِمُ الْمَشْكُورَةِ، وَأَعْمَالِهِمُ الْمَبْرُورَةِ)).
((الِاعْتِنَاءُ بِالتَّرْبِيَةِ وَالتَّعْلِيمِ مِنْ أُصُولِ الْجِهَادِ))
((قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: ٦].
وَذَلِكَ بِالتَّعْلِيمِ، وَالتَّأْدِيبِ، وَالتَّرْبِيَةِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: ٩].
وَذَلِكَ أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ أُصُولِ الْإِصْلَاحِ وَالْجِهَادِ: التَّرْبِيَةَ الدِّينِيَّةَ، وَالِاهْتِمَامَ التَّامَّ وَالِاعْتِنَاءَ الْكَامِلَ بِشَبَابِ الْأُمَّةِ؛ فَإِنَّهُمْ مَحَلُّ رَجَائِهَا، وَمَوْضِعُ أَمَلِهَا، وَمَادَّةُ قُوَّتِهَا وَعِزِّهَا.
وَبِإِصْلَاحِ تَرْبِيَتِهِمْ تَصْلُحُ الْأَحْوَالُ، وَيَكُونُ الْمُسْتَقْبَلُ خَيْرًا مِمَّا قَبْلَهُ.
فَعَلَيْهِمْ أَنْ يُرَبُّوهُمْ تَرْبِيَةً عَالِيَةً، وَيَبُثُّوا فِيهِمْ رُوحَ الدِّينِ، وَأَخْلَاقَهُ الْجَمِيلَةَ، وَالْحَزْمَ وَالْعَزْمَ، وَجَمِيعَ مَبَادِئِ الرُّجُولَةِ وَالْفُتُوَّةِ وَالْمُرُوَّةِ، وَأَنْ يُدَرِّبُوهُمْ عَلَى الصَّبْرِ وَتَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ الَّذِي يُفْضِي إِلَى النَّجَاحِ وَالْمُثَابَرَةِ فِي كُلِّ عَمَلٍ نَافِعٍ، وَيُحَذِّرُوهُمْ مِنَ الْجُبْنِ وَالْكَسَلِ، وَالسَّيْرِ وَرَاءَ الطَّمَعِ وَالْمَادَّةِ، وَالِانْطِلَاقِ فِي الْمُجُونِ وَالْهَزْلِ وَالدَّعَةِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مَدْعَاةٌ لِلتَّأَخُّرِ الْخَطِيرِ.
وَشَبَابُ الْحَاضِرِ هُمْ رِجَالُ الْمُسْتَقْبَلِ، وَبِهِمْ تُعْقَدُ الْآمَالُ، وَتُدْرَكُ الْأُمُورُ الْمُهِمَّةُ، فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَجْتَهِدُوا لِيَكُونُوا فِي خِصَالِ الْخَيْرِ وَالْفَضَائِلِ الْمَثَلَ الْأَعْلَى، وَبِأَوْصَافِ الْحَزْمِ وَالْمُرُوَّةِ وَالْكَمَالِ الْقُدْوَةَ الْمُثْلَى.
وَمِنْ أَعْظَمِ أَرْكَانِ التَّرْبِيَةِ الْعَامَّةِ النَّافِعَةِ: إِصْلَاحُ التَّعْلِيمِ، وَالِاعْتِنَاءُ بِالْمَدَارِسِ الْعِلْمِيَّةِ، وَأَنْ يُخْتَارَ لَهَا الْأَكْفَاءُ مِنَ الْمُعَلِّمِينَ وَالْأَسَاتِذَةِ الصَّالِحِينَ، الَّذِينَ يَتَعَلَّمُ التَّلَامِيذُ مِنْ أَخْلَاقِهِمُ الْفَاضِلَةِ قَبْلَ مَا يَتَلَقَّوْنَ مِنْ مَعْلُومَاتِهِمُ الْعَالِيَةِ، وَأَنْ يُخْتَارَ لَهَا مِنْ فُنُونِ الْعِلْمِ الْأَهَمُّ فَالْأَهَمُّ مِنَ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ؛ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، الْمُؤَيِّدَةِ لِلدِّينِ.
وَأَنْ تَكُونَ الْعُلُومُ الدِّينِيَّةُ هِيَ الْأَصْلَ وَالْأَسَاسَ الْأَقْوَمَ، ويَكُونَ غَيْرُهَا تَبَعًا لَهَا، وَوَسِيلَةً إِلَيْهَا، وَأَنْ يَكُونَ الْغَرَضُ الْوَحِيدُ مِنَ الْمُتَخَرِّجِينَ فِي الْمَدَارِسِ، النَّاجِحِينَ فِي عُلُومِهَا: أَنْ يَكُونُوا صَالِحِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ وَآدَابِهِمْ، مُصْلِحِينَ لِغَيْرِهِمْ، رَاشِدِينَ مُرْشِدِينَ، مُهْتَمِّينَ بِتَرْبِيَةِ الْأُمَّةِ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمَدَارِسِ الْآنَ التَّعْلِيمُ فِيهَا قَاصِرٌ جِدًّا، لَا يُعْتَنَى فِيهِ بِأَخْلَاقِ التَّلَامِيذِ، وَيَكُونُ تَعْلِيمُ الدِّينِ فِيهَا ضَعِيفًا، وَيَكُونُ الْغَرَضُ مِنْهَا الْمَادَّةَ، وَأَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا تَلَامِيذُ يَصْلُحُونَ لِلْوَظَائِفِ الدُّنْيَوِيَّةِ الْمَادِّيَّةِ الْبَحْتَةِ، وَهَذَا ضَرَرُهُ كَبِيرٌ، وَسَبَبٌ لِلضَّعْفِ وَالِانْحِلَالِ.
وَلَا رَيْبَ أَنَّ السَّعْيَ فِي إِصْلَاحِ التَّعْلِيمِ مِنْ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ، وَبِهِ تَرْتَفِعُ الْأُمَّةُ، وَتَنْتَفِعُ بِعُلَمَائِهَا وَعُلُومِهِمْ؛ فَالتَّعَالِيمُ النَّافِعَةُ وَالتَّرْبِيَةُ الصَّالِحَةُ تَقُودُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ وَفَلَاحٍ، وَتَكُونُ الْعُلُومُ مَقْصُودًا بِهَا الصَّلَاحَ وَالْإِصْلَاحَ)).
((مِنَ الْجِهَادِ وَرِعَايَةِ الْأَمَانَةِ
تَخَيُّرُ الْأَكْفَاءِ مِنَ الرِّجَالِ فِي الْوِلَايَاتِ وَالْأَعْمَالِ))
((قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا} [النساء: ٥٨].
وَقَالَ: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: ٢٦].
وَأَعْظَمُ وَأَوْلَى مَا يَدْخُلُ فِي الْأَمَانَاتِ: الْوِلَايَاتُ كُلُّهَا؛ كَبِيرَةً كَانَتْ أَوْ صَغِيرَةً.
وَتَخَيُّرُ الرِّجَالِ الْكُمَّلِ مِنْ أَعْظَمِ التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَمِنْ قَوَاعِدِ الْجِهَادِ وَأُصُولِهِ; فَإِنَّهُ لَا يَتِمُّ الْجِهَادُ إِلَّا بِذَلِكَ؛ بَلْ لَا تَتِمُّ الْأَحْوَالُ كُلُّهَا إِلَّا بِذَلِكَ.
وَكَمَا أَنَّهُ يَلْزَمُ الِاعْتِنَاءُ وَالِاسْتِعْدَادُ بِالْحُصُونِ الْمَنِيعَةِ، وَالسِّلَاحِ الْقَوِيِّ، وَالْجُيُوشِ الْمُنَظَّمَةِ الْعَامِلَةِ، وَالْأُهُبِ الْوَافِرَةِ؛ فَكَذَلِكَ يَلْزَمُ الِاسْتِعْدَادُ بِالرِّجَالِ الْأَكْفَاءِ عَلَى جَمِيعِ الْأَعْمَالِ، وَأَنْ يُوَلَّى فِي الْوِلَايَاتِ كُلِّهَا أَهْلُ الْقُوَّةِ، وَالْكَفَاءَةِ، وَالْعَقْلِ، وَالرَّأْيِ، وَالسِّيَاسَةِ، وَالْحَزْمِ، وَالْعَزْمِ، وَالتَّدْبِيرِ الْمُوَفَّقِ، وَالدِّينِ الْقَوِيِّ، وَالنُّصْحِ الْكَامِلِ، وَأَنْ يَكُونُوا مِنْ أَصْلٍ رَاسِخٍ فِي الْكَمَالِ، وَمِنْ أَهْلِ الشَّجَاعَةِ التَّامَّةِ.
وَإِذَا لَمْ يُدْرَكِ الرَّجُلُ الْكَامِلُ فِي هَذِهِ الْأَوْصَافِ فَيُخْتَارُ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ؛ فَهَؤُلَاءِ الرِّجَالُ هُمُ الَّذِينَ يَقُومُونَ بِشُؤُونِ الْمَمْلَكَةِ، وَيُوَطِّئُونَ بِسَاطَ الْأَمْنِ وَطُرُقَ الرَّاحَةِ، وَيَرْفَعُونَ بِنَاءَ الْمُلْكِ عَلَى طَرِيقِ الْعَدْلِ، وَيُوقِفُونَ الرَّعِيَّةَ عَلَى حُدُودِ الشَّرِيعَةِ، وَيُرَاقِبُونَ مَعَ ذَلِكَ رَوَابِطَ الْمَمْلَكَةِ مَعَ سَائِرِ الْمَمَالِكِ الْأَجْنَبِيَّةِ؛ لِيَحْفَظُوا لَهَا الْمَنْزِلَةَ الَّتِي تَلِيقُ بِهَا بِالْمُعَاهَدَاتِ السِّلْمِيَّةِ وَالِاقْتِصَادِيَّةِ وَغَيْرِهَا.
وَمِنْ أَكْبَرِ الْخِيَانَةِ وَالْخَطَرِ: تَوْلِيَةُ غَيْرِ النَّاصِحِينَ أَوْ غَيْرِ الْأَكْفَاءِ الْعَارِفِينَ؛ فَإِنَّ تَمَامَ الْوِلَايَةِ مَجْمُوعٌ بِشَيْئَيْنِ:
* أَحَدِهِمَا: الْخِبْرَةُ وَالْكِفَايَةُ التَّامَّةُ بِالْقِيَامِ بِشُؤُونِ ذَلِكَ الْعَمَلِ أَيِّ عَمَلٍ كَانَ، فَيُوَلَّى فِي كُلِّ عَمَلٍ أَكْمَلُ مَنْ يَحْصُلُ بِهِ مَقْصُودُ تِلْكَ الْوِلَايَةِ؛ وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْعَمَلِ.
* الثَّانِي: الْأَمَانَةُ وَالنُّصْحُ.
فَمَتَى اجْتَمَعَ الْأَمْرَانِ -الْقُوَّةُ عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ، وَالْأَمَانَةُ التَّامَّةُ-؛ تَمَّتِ الْأُمُورُ، وَاسْتَقَامَتِ الْأَحْوَالُ، وَمَتَى فُقِدَ الْأَمْرَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا وَقَعَ النَّقْصُ وَالْخَلَلُ بِحَسَبِ مَا نَقَصَ مِنْهُمَا.
وَتَتَعَيَّنُ الْمُشَاوَرَةُ فِي انْتِخَابِ الرِّجَالِ الْكُمَّلِ الَّذِينَ أَخَصُّ صِفَاتِهِمْ: الِاقْتِدَاءُ بِنَبِيِّهِمْ، وَالِاهْتِدَاءُ بِسِيرَتِهِ وَهَدْيِهِ فِي الْجِدِّ الْكَامِلِ لِتَقْوِيَةِ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَتَكْوِينِ الْأُمَّةِ وَتَرْبِيَةِ أَخْلَاقِهَا، وَأَنْ يَكُونُوا عَلَى جَانِبٍ مِنَ الْعِلْمِ بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ﷺ، وَمَعْرِفَةِ تَارِيخِ الدُّوَلِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَرِجَالِهَا، وَالْعِلْمِ بِأَسْبَابِ الضَّعْفِ وَالِانْحِلَالِ الدَّاخِلِ عَلَى الْأُمَّةِ، وَالسَّعْيِ بِإِزَالَتِهَا أَوْ تَخْفِيفِهَا مَهْمَا أمْكَنَ الْأَمْرُ.
وَأَنْ يَكُونُوا ذَوِي قُوَّةٍ وَأَمَلٍ وَرَجَاءٍ وَاسِعٍ، لَا يَمْلِكُهُمُ الْيَأْسُ، وَلَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِمُ الْفُتُورُ.
وَأَنْ يَكُونُوا مُتَّصِلِينَ بِأَفْرَادِ الْمُسْلِمِينَ وَجَمِيعِ طَبَقَاتِهِمُ اتِّصَالًا وَثِيقًا، وَيَتَعَرَّفُونَ شُؤُونَهُمْ، وَيَسْأَلونَ عَنْ أَحْوَالِهِمْ، وَيَأْخُذُونَ بِآرَائِهِمُ الصَّائِبَةِ، وَيَسْتَمِدُّونَ مِنْ عُقُولِهِمُ الْقَوِيَّةِ، وَأَنْ يُحِبُّوا لَهُمْ مِنَ الْخَيْرِ مَا يُحِبُّونَ لِأَنْفُسِهِمْ، وَيَسْعَوْا فِي ذَلِكَ الْخَيْرِ لَهُمْ.
وَأَنْ يَكُونُوا أَصْحَابَ فِكْرٍ ثَاقِبٍ، وَسِيَاسَةٍ وَخِبْرَةٍ، وَانْتِهَازٍ لِلْفُرَصِ النَّافِعَةِ، وَكَثْرَةِ مُشَاوَرَةٍ لِلرِّجَالِ النَّاصِحِينَ.
وَأَنْ يَكُونَ لَهُمْ عَلَاقَاتٌ مَعَ جَمِيعِ الْعَامِلِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَنْحَاءِ الْعَالَمِ؛ يُبْدُونَ لَهُمْ وُدَّهُمْ، وَيَسْتَشِيرُونَهُمْ، وَيَسْتَنِيرُونَ بِآرَائِهِمْ، وَيَأْخُذُونَ بِالنَّاضِجِ الْمُصِيبِ مِنْهَا.
وَأَنْ يَكُونُوا مَعَ ذَلِكَ عَارِفِينَ بِسِيَاسَاتِ الْأَجَانِبِ، عَارِفِينَ بِحُقُوقِهِمْ، آخِذِينَ الْحَذَرَ مِنْ مَكْرِهِمْ وَكَيْدِهِمْ وَخِدَاعِهِمْ، يُعَامِلُونَهُمْ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَأْخُذُونَ الْحَذَرَ مِنْهُمْ خَوْفَ الضَّرَرِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
عَمَلُهُمْ كُلُّهُ لِمَصْلَحَةِ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ مُخْلِصُونَ للهِ، مُتَوَكِّلُونَ عَلَيْهِ، مُعْتَمِدُونَ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمْ عَلَيْهِ.
فَهَذِهِ أَوْصَافُ الرِّجَالِ الَّذِينَ يَنْبَغِي تَخَيُّرُهُمْ، وَالْوَاحِدُ مِنْ أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ يَعْدِلُ أُمَّةً.
وَعَلَى أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ أَنْ يَتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَاعُوا، وَيُوَلُّوا الْأَكْمَلَ فَالْأَكْمَلَ، وَاللهُ أَعْلَمُ)).
((شَرْحُ مَحَاسِنِ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ
وَبَيَانُ عَقَائِدِهِ وَأَخْلَاقِهِ وَأَحْكَامِهِ وَإِصْلَاحِهِ مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ))
((قَالَ اللهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} [التوبة: ٧٣].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان: ٥٢].
أَيْ: بِهَذَا الْقُرْآنِ، وَبِمَا جِئْتَ بِهِ مِنَ الدِّينِ، وَذَلِكَ بِالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ، وَتَبْيِينِ أَنَّهُ دِينُ الْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ، وَالْحِكْمَةِ وَالْخَيْرِ، وَالصَّلَاحِ لِلظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، وَالدِّينِ وَالدُّنْيَا.
وَأَعْظَمُ جِهَادِ النَّبِيِّ ﷺ لِلْخَلْقِ بِهَذَا النَّوْعِ؛ فَإِنَّهُ مَكَثَ مُدَّةً طَوِيلَةً يَدْعُو إِلَى اللهِ، وَيُبَيِّنُ لِلْعِبَادِ مَحَاسِنَ الدِّينِ، وَيُقَابِلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ضِدِّهِ مِنْ أَدْيَانِ أَهْلِ الْأَرْضِ الْمُنْحَرِفَةِ، وَمِنْ جَاهِلِيَّتِهِمُ الْجَهْلَاءِ، حَتَّى دَخَلَ الْخَلْقُ الْعَظِيمُ فِيهِ مُتَبَصِّرِينَ، مُقْتَنِعِينَ أَنَّهُ الدِّينُ الْحَقُّ، وَأَنَّ مَا سِوَاهُ بَاطِلٌ، بِالْبَرَاهِينِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْفِطْرِيَّةِ، وَالْآيَاتِ الْأُفُقِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ، قَالَ تَعَالَى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: ٥٣].
وَهَذَا الْجِهَادُ هُوَ الْأَصْلُ -شَرْحُ مَحَاسِنِ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ، بَيَانُ الْعَقِيدَةِ، تَوْضِيحُ الْأَخْلَاقِ، إِظْهَارُ الْأَحْكَامِ، مَعَ تَقْرِيرِ مَا قَرَّرَهُ الدِّينُ مِنْ وَسَائِلِ الْإِصْلَاحِ لِلْعَالَمِ، هَذَا الْجِهَادُ هُوَ الْأَصْلُ-، وَقِتَالُ الْيَدِ وَالسِّلَاحِ تَبَعٌ لِهَذَا لِكُلِّ مُعْتَدٍ عَلَى الدِّينِ، قَالَ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: ٣٩].
فَهَذَا الدِّينُ الْإِسْلَامِيُّ بِعَقَائِدِهِ وَحَقَائِقِهِ وَأَخْلَاقِهِ وَأَعْمَالِهِ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْقُرْآنِ أَكْبَرُ الْبَرَاهِينِ الْقَوَاطِعِ الضَّرُورِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ، وَرَسُولَهُ حَقٌّ، وَدِينَهُ حَقٌّ، وَمَا عَارَضَ ذَلِكَ هُوَ الْبَاطِلُ.
وَهُوَ بِنَفْسِهِ جَذَّابٌ لِكُلِّ مَنْ قَصْدُهُ الْحَقُّ وَمَعَهُ إِنْصَافٌ؛ فَإِنَّهُ إِذَا نَظَرَ وَحَقَّقَ عَقَائِدَهُ فَإِنَّهُ يَدْعُو إِلَى الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ بِاللهِ، وَبِأَوْصَافِهِ الْعَظِيمَةِ، وَأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَبِكُلِّ كِتَابٍ أَنْزَلَهُ اللهُ، وَبِكُلِّ رَسُولٍ أَرْسَلَهُ اللهُ، وَبِكُلِّ حَقٍّ أَخْبَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُولُهُ.
وَبِذَلِكَ تَمْتَلِئُ الْقُلُوبُ إِيمَانًا، وَيَقِينًا، وَنُورًا، وَطُمَأْنِينَةً بِاللهِ، وَقُوَّةَ تَوَكُّلٍ وَاعْتِمَادٍ عَلَيْهِ.
وَذَلِكَ يُوجِبُ كَمَالَ الْإِخْلَاصِ للهِ، وَالْقِيَامَ بِعُبُودِيَّتِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَالتَّبَرِّيَ مِنَ الشِّرْكِ كَبِيرِهِ وَصَغِيرِهِ.
وَإِذَا نَظَرَ إِلَى أَخْلَاقِ الْإِسْلَامِ وَجِدِّهِ رَآهُ يَحُثُّ عَلَى كُلِّ خُلُقٍ جَمِيلٍ، وَيُحَذِّرُ عَنْ كُلِّ خُلُقٍ رَذِيلٍ، وَيَدْعُو إِلَى الْقِيَامِ بِحُقُوقِ اللهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ، وَبِالْمُعَامَلَةِ الْحَسَنَةِ.
وَإِذَا نَظَرَ إِلَى تَعَالِيمِهِ وَإِرْشَادَاتِهِ الْعَالِيَةِ رَآهُ يَحُثُّ عَلَى كُلِّ عِلْمٍ نَافِعٍ مُزَكٍّ لِلْقُلُوبِ، مُطَهِّرٍ لِلْأَخْلَاقِ، نَافِعٍ لِلدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَأَنَّهُ مُرْشِدٌ إِلَى كُلِّ صَلَاحٍ وَإِصْلَاحٍ.
فَشَرْحُ هَذِهِ الْأُمُورِ لِلنَّاسِ مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ؛ فَإِنَّهُ يُقَوِّي إِيمَانَ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَزْدَادُ بِهِ بَصَائِرُهُمْ وَرَغْبَتُهُمْ، وَيَحْمَدُونَ اللهَ الَّذِي مَنَّ عَلَيْهِمْ بِهَذَا الدِّينِ الْكَامِلِ الَّذِي حَوَى كُلَّ خَيْرٍ عِلْمِيٍّ وَعَمَلِيٍّ، وَكُلَّ هِدَايَةٍ وَرَحْمَةٍ، وَهُوَ السَّبَبُ الْوَحِيدُ إِلَى سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَكَذَلِكَ هُوَ أَكْبَرُ دَاعٍ لِمَنْ وَقَفَ عَلَى حَقِيقَةِ الدِّينِ مِنَ الْأَجَانِبِ؛ وَخُصُوصًا الْمُنْصِفِينَ مِنْهُمْ؛ فَمُرِيدُ الْحَقِّ إِذَا وَقَفَ عَلَى حَقِيقَتِهِ لَمْ يَتَوَقَّفْ فِي تَفْضِيلِهِ عَلَى كُلِّ دِينٍ، وَالْمُكَابِرُ يُزَلْزِلُ عَقِيدَتَهُ، وَيُخَفِّفُ شَرَّهُ، وَبِهِ تَنْدَفِعُ شُبَهُ الْمُبْطِلِينَ مِنَ الْمُلْحِدِينَ وَغَيْرِهِمْ؛ فَإِنَّ الْحَقَّ يَسْتَوْلِي عَلَى الْقُلُوبِ، وَيُزْهِقُ الْبَاطِلَ؛ فَإِنَّهُ مَنْ عَرَفَ الْحَقَّ مَعْرِفَةً صَحِيحَةً امْتَنَعَ أَنْ يَقُومَ بِقَلْبِهِ بَاطِلٌ يُقَدِّمُهُ عَلَيْهِ؛ إِلَّا إِذَا عَارَضَ ذَلِكَ غَرَضٌ فَاسِدٌ؛ مِنْ كِبْرٍ، أَوْ حَسَدٍ، أَوْ رِيَاسَةٍ، أَوْ تَعَصُّبٍ، أَوْ غَيْرِهَا.
وَمَنْ تَأَمَّلَ هَذَا الدِّينَ رَآهُ يَدْعُو إِلَى الصَّلَاحِ وَالرُّشْدِ وَالْفَلَاحِ، وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ كَفِيلَانِ بِبَيَانِ ذَلِكَ كَفَالَةً تَامَّةً، فِيهِمَا الْآيَاتُ وَالْبَرَاهِينُ عَلَى أَنَّهُ مُحَالٌ أَنْ يَحْصُلَ الصَّلَاحُ الْحَقِيقِيُّ، وَلَا سَبِيلَ لِلْبَشَرِ إِلَى الْإِصْلَاحِ وَالْخَيْرِ وَالسَّعَادَةِ إِلَّا بِهَذَا الدِّينِ؛ فَإِنَّهُ مَا مِنْ مَصْلَحَةٍ دَقِيقَةٍ وَلَا جَلِيلَةٍ إِلَّا أَرْشَدَ إِلَيْهَا هَذَا الدِّينُ، وَلَا خَيْرٍ إِلَّا دَلَّ عَلَيْهِ، وَلَا شَرٍّ إِلَّا حَذَّرَ عَنْهُ.
يَأْمُرُ بِتَوْحِيدِ اللهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ، وَيَحُثُّ عَلَى الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالْإِذْعَانِ، وَيَأْمُرُ بِالْعَدْلِ، وَالصِّدْقِ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، وَبِالْبِرِّ، وَالصِّلَةِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْأَقَارِبِ، وَالْجِيرَانِ، وَالْأَصْحَابِ، وَالْمُعَامَلِينَ، وَجَمِيعِ الْخَلْقِ.
وَيَنْهَى عَنِ الْكَذِبِ، وَالظُّلْمِ، وَالْقَسْوَةِ، وَالْعُقُوقِ، وَالْبُخْلِ، وَسُوءِ الْخُلُقِ مَعَ الْأَوْلَادِ وَالْأَهْلِ وَالْأَصْحَابِ وَغَيْرِهِمْ.
وَيَأْمُرُ بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ وَالْعُهُودِ وَالْمُحَالَفَاتِ، وَيَنْهَى عَنِ النُّكْثِ وَالْغَدْرِ.
وَيَأْمُرُ بِالنُّصْحِ للهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ، وَيَنْهَى عَنِ الْغِشِّ.
وَيَأْمُرُ بِالِاجْتِمَاعِ وَالتَّآلُفِ وَالتَّحَابُبِ وَالِاتِّفَاقِ، وَيَنْهَى عَنِ التَّعَادِي وَالتَّبَاغُضِ وَالِافْتِرَاقِ.
يَأْمُرُ بِالْمُعَامَلَاتِ الْحَسَنَةِ، وَأَنْ تُوَفِّيَ مَا عَلَيْكَ كَامِلًا مُوَفَّرًا، لَا بَخْسَ فِيهِ، وَلَا نَقْصَ، وَلَا مُمَاطَلَةَ، وَيَنْهَى عَنِ الْمُعَامَلَاتِ السَّيِّئَةِ، وَالْمَطْلِ، وَالْغِشِّ، وَالْبَخْسِ، وَالتَّطْفِيفِ، وَأَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَبِغَيْرِ حَقٍّ.
يَأْمُرُ بِأَدَاءِ الْحُقُوقِ الْخَاصَّةِ وَالْمُشْتَرَكَةِ، يَنْهَى عَنْ ضِدِّهَا، وَعَنِ التَّعَدِّي عَلَى النَّاسِ فِي دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ.
يَأْمُرُ بِكُلِّ مَعْرُوفٍ وَطَيِّبٍ وَنَافِعٍ وَمُسْتَحْسَنٍ شَرْعًا وَعَقْلًا وَفِطْرَةً، وَيَنْهَى عَنْ كُلِّ فَاحِشَةٍ وَمُنْكَرٍ وَخَبِيثٍ شَرْعًا وَعَقْلًا وَفِطْرَةً.
يُبِيحُ كُلَّ طَيِّبٍ، وَيُحَرِّمُ كُلَّ خَبِيثٍ.
يَأْمُرُ بِالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَيَنْهَى عَنِ التَّعَاوُنِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ.
يَأْمُرُ بِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ، وَخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ وَحْدَهُ، وَالطَّمَعِ فِي جُودِهِ وَفَضْلِهِ، وَالتَّنَوُّعِ فِي فِعْلِ الْأَسْبَابِ الْمُحَصِّلَةِ لِخَيْرِهِ وَثَوَابِهِ، وَيَنْهَى عَنِ التَّعَلُّقِ بِالْمَخْلُوقِينَ وَالْعَمَلِ لِأَجْلِهِمْ، يَأْمُرُ بِنَبْذِ الْوَثَنِيَّاتِ وَالْخُرَافَاتِ الْمُفْسِدَةِ لِلْعُقُولِ وَالْأَدْيَانِ.
وَبِالْجُمْلَةِ؛ يَأْمُرُ بِكُلِّ خَيْرٍ وَصَلَاحٍ، وَيَنْهَى عَنْ كُلِّ شَرٍّ وَضَرَرٍ.
فَشَرْحُ الدِّينِ عَلَى نَحْوِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ شَرْحًا وَافِيًا، وَتَطْبِيقُ تَعَالِيمِهِ وَهِدَايَتِهِ عَلَى أَحْوَالِ الْبَشَرِ، وَبَيَانُ أَنَّهَا صَالِحَةٌ لِكُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَلِكُلِّ أُمَّةٍ، وَأَنَّ الِانْحِرَافَ وَالشَّرَّ وَالضَّرَرَ إِنَّمَا يَكُونُ بِفَقْدِ رُوحِ الدِّينِ أَوْ نَقْصِهَا، وَكَذَلِكَ شَرْحُ أَوْصَافِ النَّبِيِّ ﷺ وَنُعُوتِهِ وَأَخْلَاقِهِ الَّتِي مَنْ تَدَبَّرَهَا وَعَرَفَهَا وَفَهِمَهَا حَقَّ الْفَهْمِ؛ عَلِمَ أَنَّهُ ﷺ أَعْلَى الْخَلْقِ فِي كُلِّ صِفَةِ كَمَالٍ، وَأَنَّ كُلَّ صِفَةِ كَمَالٍ لَهُ مِنْهَا أَعْلَاهَا وَأَكْمَلُهَا، وَأَنَّ الْكَمَالَاتِ الْمَوْجُودَةَ فِي الرُّسُلِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ- قَدْ جُمِعَتْ فِي نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي لَا يُمَاثِلُهُ فِيهِ أَحَدٌ، وَبِذَلِكَ صَارَ سَيِّدَ الْخَلْقِ، وَمُقَدَّمَهُمْ، وَإِمَامَهُمْ، وَأَرْفَعَهُمْ عِنْدَ اللهِ قَدْرًا، وَأَعْظَمَهُمْ جَاهًا)).
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلَهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
المصدر: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ