((يَوْمُ بَدْرٍ.. دُرُوسٌ وَعِبَرٌ
وَعِبَادَاتُ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ))
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((بَيْنَ يَدَيْ غَزْوَةِ بَدْرٍ وَبَيَانُ سَبَبِهَا))
((فَفِي أَوَاخِرِ جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ اثْنَتَيْنِ (2هــ) خَرَجَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي خَمْسِينَ وَمِائَةٍ، وَيُقَالُ: فِي مِائَتَيْنِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَلَمْ يُكْرِهْ أَحَدًا عَلَى الْخُرُوجِ، خَرَجُوا عَلَى ثَلَاثِينَ بَعِيرًا يَعْتَقِبُونَهَا، يَعْتَرِضُونَ عِيرًا لِقُرَيْشٍ ذَاهِبَةً إِلَى الشَّامِ، وَقَدْ جَاءَ الْخَبَرُ بِفُصُولِهَا مِنْ مَكَّةَ فِيهَا أَمْوَالٌ لِقُرَيْشٍ، فَبَلَغَ (ذَا الْعُشَيْرَةِ) -وَهِيَ مَوْضِعٌ بِنَاحِيَةِ (يَنْبُعَ)-، فَوَجَدَ الْعِيرَ قَدْ فَاتَتْهُ بِأَيَّامٍ، وَهَذِهِ هِيَ الْعِيرُ الَّتِي خَرَجَ فِي طَلَبِهَا حِينَ رَجَعَتْ مِنَ الشَّامِ؛ فَصَارَتْ سَبَبًا لِغَزْوَةِ بَدْرٍ الْكُبْرَى)).
((وَلَمَّا قَرُبَ رُجُوعُهَا مِنَ الشَّامِ إِلَى مَكَّةَ بَعَثَ رَسُولُ اللهِ ﷺ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللهِ وَسَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ إِلَى الشَّمَالِ؛ لِيَقُومَا بِاكْتِشَافِ خَبَرِهَا، فَوَصَلَا إِلَى (الْحَوْرَاءِ)، وَمَكَثَا حَتَّى مَرَّ بِهِمَا أَبُو سُفْيَانَ بِالْعِيرِ، فَأَسْرَعَا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَأَخْبَرَا رَسُولَ اللهِ ﷺ بِالْخَبَرِ -يُقَالُ: وَكَانَ فِي طَرِيقِهِ إِلَى بَدْرٍ-.
كَانَتِ الْعِيرُ تَحْمِلُ ثَرْوَاتٍ طَائِلَةً مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ؛ أَلْفَ بَعِيرٍ مُوقَرَةٍ بِأَمْوَالٍ لَا تَقِلُّ عَنْ خَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ ذَهَبِيٍّ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهَا مِنَ الْحَرَسِ إِلَّا نَحْوُ أَرْبَعِينَ رَجُلًا.
كَانَتْ فُرْصَةً ذَهَبِيَّةً ثَمِينَةً لِلْمُسْلِمِينَ لِيُصِيبُوا أَهْلَ مَكَّةَ بِضَرْبَةٍ اقْتِصَادِيَّةٍ قَاصِمَةٍ؛ لِذَلِكَ أَعْلَنَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي الْمُسْلِمِينَ قَائِلًا: ((هَذِهِ عِيرُ قُرَيْشٍ فِيهَا أَمْوَالُهُمْ؛ فَاخْرُجُوا إِلَيْهَا لَعَلَّ اللهَ يُنَفِّلُكُمُوهَا)).
وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَى أَحَدٍ بِالْخُرُوجِ، بَلْ تَرَكَ الْأَمْرَ لِلرَّغْبَةِ الْمُطْلَقَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَتَوَقَّعُ عِنْدَ هَذَا الِانْتِدَابِ أَنَّهُ سَيَصْطَدِمُ بِجَيْشِ مَكَّةَ بَدَلَ الْعِيرِ هَذَا الِاصْطِدَامَ الْعَنِيفَ فِي بَدْرٍ؛ وَلِذَلِكَ تَخَلَّفَ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي الْمَدِينَةِ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّ مُضِيَّ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي هَذَا الْوَجْهِ لَنْ يَعْدُوَ مَا أَلِفُوهُ فِي السَّرَايَا الْمَاضِيَةِ؛ وَلِذَلِكَ لَمْ يُنْكِرْ عَلَى أَحَدٍ تَخَلُّفَهُ عَنْ هَذِهِ الْغَزْوَةِ)).
((مَبْلَغُ قُوَّةِ جَيْشِ الرَّسُولِ ﷺ وَتَوْزِيعُ الْمَهَامِّ))
((اسْتَعَدَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِلْخُرُوجِ وَمَعَهُ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا: ((ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَوْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ وَثَلَاثُ مِائَةٍ))؛ اثْنَانِ وَثَمَانُونَ أَوْ ثَلَاثٌ وَثَمَانُونَ أَوْ سَبْعَةٌ وَثَمَانُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَوَاحِدٌ وَسِتُّونَ مِنَ الْأَوْسِ، وَسَبْعُونَ وَمِائَةٍ مِنَ الْخَزْرَجِ، وَلَمْ يَحْتَفِلُوا –أَيْ: لَمْ يَهْتَمُّوا- لِهَذَا الْخُرُوجِ احْتِفَالًا بَلِيغًا، وَلَا اتَّخَذُوا أُهْبَتَهُمُ الْكَامِلَةَ، فَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ إِلَّا فَرَسَانِ؛ فَرَسٌ لِلزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، وَفَرَسٌ لِلْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ الْكِنْدِيِّ.
وَكَانَ مَعَهُمْ سَبْعُونَ بَعِيرًا لِيَعْتَقِبَ الرَّجُلَانِ وَالثَّلَاثَةُ عَلَى بَعِيرٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَعَلِيٌّ وَمَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيُّ يَعْتَقِبُونَ بَعِيرًا وَاحِدًا.
يَعْتَقِبُونَ بَعِيرًا -أَيْ: يَتَبَادَلُونَ الرُّكُوبَ عَلَيْهِ مَرْحَلَةً بَعْدَ مَرْحَلَةٍ-.
وَاسْتَخْلَفَ ﷺ عَلَى الْمَدِينَةِ وَعَلَى الصَّلَاةِ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَلَمَّا كَانَ بِـ(الرَّوْحَاءِ) رَدَّ أَبَا لُبَابَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، وَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ.
وَدَفَعَ لِوَاءَ الْقِيَادَةِ الْعَامَّةِ إِلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ الْقُرَشِيِّ الْعَبْدَرِيِّ، وَكَانَ هَذَا اللِّوَاءُ أَبْيَضَ.
وَقَسَّمَ جَيْشَهُ إِلَى كَتِيبَتَيْنِ؛ كَتِيبَةِ الْمُهَاجِرِينَ، وَأَعْطَى رَايَتَهَا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَيُقَالُ لَهَا: ((الْعُقَابُ))، وَكَتِيبَةِ الْأَنْصَارِ، وَأَعْطَى رَايَتَهَا سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ، وَكَانَتِ الرَّايَتَانِ سَوْدَاوَيْنِ، وَجَعَلَ عَلَى قِيَادَةِ الْمَيْمَنَةِ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ الْمِقْدَادَ بْنَ عَمْرٍو، وَكَانَا هُمَا الْفَارِسَيْنِ الْوَحِيدَيْنِ فِي الْجَيْشِ، وَجَعَلَ عَلَى السَّاقَةِ قَيْسَ بْنَ أَبِي صَعْصَعَةَ، وَظَلَّتِ الْقِيَادَةُ الْعَامَّةُ فِي يَدِهِ ﷺ كَقَائِدٍ أَعْلَى لِلْجَيْشِ)).
((الْجَيْشُ الْإِسْلَامِيُّ يَتَحَرَّكُ نَحْوَ بَدْرٍ))
((سَارَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي هَذَا الْجَيْشِ غَيْرِ الْمُتَأَهِّبِ، فَخَرَجَ مِنْ نَقْبِ الْمَدِينَةِ، وَمَضَى عَلَى الطَّرِيقِ الرَّئِيسِ الْمُؤَدِّي إِلَى مَكَّةَ حَتَّى بَلَغَ (بِئْرَ الرَّوْحَاءِ)، وَلَمَّا ارْتَحَلَ مِنْهَا تَرَكَ طَرِيقَ مَكَّةَ بِيَسَارٍ، وَانْحَرَفَ ذَاتَ الْيَمِينِ عَلَى (النَّازِيَّةِ) يُرِيدُ بَدْرًا، فَسَلَكَ فِي نَاحِيَةٍ مِنْهَا حَتَّى جَزَعَ وَادِيًا يُقَالُ لَهُ (رَحْقَانَ) بَيْنَ (النَّازِيَّةِ) وَبَيْنَ (مَضِيقِ الصَّفْرَاءِ)، ثُمَّ مَرَّ عَلَى الْمَضِيقِ، ثُمَّ انْصَبَّ مِنْهُ حَتَّى قَرُبَ مِنَ (الصَّفْرَاءِ)، وَهُنَالِكَ بَعَثَ بَسْبَسَ بْنَ عَمْرٍو الْجُهَنِيَّ وَعَدِيَّ بْنَ أَبِي الزَّغْبَاءِ الْجُهَنِيَّ إِلَى بَدْرٍ يَتَحَسَّسَانِ لَهُ أَخْبَارَ الْعِيرِ)).
((وَأَمَّا خَبَرُ الْعِيرِ؛ فَإِنَّ أَبَا سُفْيَانَ -وَهُوَ الْمَسْؤُولُ عَنْهَا- كَانَ عَلَى غَايَةٍ مِنَ الْحَيْطَةِ وَالْحَذَرِ؛ فَقَدْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ طَرِيقَ مَكَّةَ مَحْفُوفٌ بِالْأَخْطَارِ، وَكَانَ يَتَحَسَّسُ الْأَخْبَارَ، وَيَسْأَلُ مَنْ لَقِيَ مِنَ الرُّكْبَانِ، وَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ قِيلَ لَهُ: إِنَّ مُحَمَّدًا ﷺ قَدِ اسْتَنْفَرَ أَصْحَابَهُ لِيُوقِعَ بِالْعِيرِ، أَوْ أُبْدِيَ لَهُ هَذَا الْخَطَرُ؛ وَحِينَئِذٍ اسْتَأْجَرَ أَبُو سُفْيَانَ ضَمْضَمَ بْنَ عَمْرٍو الْغِفَارِيَّ إِلَى مَكَّةَ مُسْتَصْرِخًا لِقُرَيْشٍ بِالنَّفِيرِ إِلَى عِيرِهِمْ؛ لِيَمْنَعُوهُ مِنْ مُحَمَّدٍ ﷺ وَأَصْحَابِهِ.
وَخَرَجَ ضَمْضَمُ سَرِيعًا حَتَّى أَتَى مَكَّةَ، فَصَرَخَ بِبَطْنِ الْوَادِي وَاقِفًا عَلَى بَعِيرِهِ وَقَدْ جَدَّعَ أَنْفَهُ، وَحَوَّلَ رَحْلَهُ، وَشَقَّ قَمِيصَهُ وَهُوَ يَقُولُ: ((يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! اللَّطِيمَةَ اللَّطِيمَةَ، أَمْوَالُكُمْ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ قَدْ عَرَضَ لَهَا مُحَمَّدٌ فِي أَصْحَابِهِ، لَا أَرَى أَنْ تُدْرِكُوهَا، الْغَوْثَ الْغَوْثَ!!)))).
(( ((فَتَحَفَّزَ النَّاسُ سِرَاعًا، وَقَالُوا: ((أَيَظُنُّ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ أَنْ تَكُونَ كَعِيرِ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ؟! كَلَّا وَاللهِ، لَيَعْلَمَنَّ غَيْرَ ذَلِكَ)).
فَكَانُوا بَيْنَ رَجُلَيْنِ؛ إِمَّا خَارِجٍ، وَإِمَّا بَاعِثٍ مَكَانَهُ رَجُلًا، وَأَوْعَبُوا فِي الْخُرُوجِ، فَلَمْ يَتَخَلَّفْ مِنْ أَشْرَافِهِمْ أَحَدٌ سِوَى أَبِي لَهَبٍ؛ فَإِنَّهُ عَوَّضَ عَنْهُ رَجُلًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ))، وَحَشَدُوا مَنْ حَوْلَهُمْ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَلَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُمْ أَحَدٌ مِنْ بُطُونِ قُرَيْشٍ إِلَّا بَنِي عَدِيٍّ، فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهُمْ أَحَدٌ)).
((جَيْشُ مَكَّةَ يَتَحَرَّكُ))
((كَانَ قِوَامُ هَذَا الْجَيْشِ نَحْوَ أَلْفٍ وَثَلَاثِ مِائَةِ مُقَاتِلٍ فِي بِدَايَةِ سَيْرِهِ، وَكَانَ مَعَهُ مِائَةُ فَرَسٍ، وَسِتُّ مِائَةِ دِرْعٍ، وَجِمَالٌ كَثِيرَةٌ لَا يُعْرَفُ عَدَدُهَا ضَبْطًا، وَكَانَ قَائِدُهُ الْعَامُّ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، وَكَانَ الْقَائِمُونَ بِتَمْوِينِهِ تِسْعَةَ رِجَالٍ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ؛ فَكَانُوا يَنْحَرُونَ يَوْمًا تِسْعًا وَيَوْمًا عَشْرًا مِنَ الْإِبِلِ)).
((وَلَمَّا أَجْمَعَ هَذَا الْجَيْشُ عَلَى الْمَسِيرِ؛ ذَكَرَتْ قُرَيْشٌ مَا كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ بَنِي بَكْرٍ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالْحَرْبِ، فَخَافُوا أَنْ تَضْرِبَهُمْ هَذِهِ الْقَبَائِلُ مِنَ الْخَلْفِ، فَيَكُونُونَ بَيْنَ نَارَيْنِ، فَكَادَ ذَلِكَ يُثْنِيهِمْ؛ وَلَكِنْ -حِينَئِذٍ- تَبَدَّى لَهُمْ إِبْلِيسُ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكٍ الْمُدْلِجِيِّ، وَكَانَ مِنْ أَشْرَافِ بَنِي كِنَانَةَ، فَقَالَ لَهُمْ: ((أَنَا جَارٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَأْتِيَكُمْ كِنَانَةُ مِنْ خَلْفِكُمْ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ))، فَخَرَجُوا سِرَاعًا)).
(( ((خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال: 47]، وَأَقْبَلُوا كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِحَدِّهِمْ وَحَدِيدِهِمْ، يُحَادُّونَ اللهَ، وَيُحَادُّونَ رَسُولَهُ، {وَغَدَوْا عَلَىٰ حَرْدٍ قَادِرِينَ} [القلم: 25]، وَعَلَى حَمِيَّةٍ وَغَضَبٍ وَحَنَقٍ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ وَأَصْحَابِهِ))؛ لِاجْتِرَاءِ هَؤُلَاءِ عَلَى قَوَافِلِهِمْ.
تَحَرَّكُوا بِسُرْعَةٍ فَائِقَةٍ نَحْوَ الشَّمَالِ فِي تِجَاهِ بَدْرٍ، وَسَلَكُوا فِي طَرِيقِهِمْ (وَادِي عُسْفَانَ)، ثُمَّ (قَدِيدًا)، ثُمَّ (الْجُحْفَةَ)، وَهُنَاكَ تَلَقَّوْا رِسَالَةً جَدِيدَةً مِنْ أَبِي سُفْيَانَ يَقُولُ لَهُمْ فِيهَا: ((إِنَّكُمْ إِنَّمَا خَرَجْتُمْ لِتُحْرِزُوا عِيرَكُمْ وَرِجَالَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ، وَقَدْ نَجَّاهَا اللهُ فَارْجِعُوا)) )).
((وَكَانَ مِنْ قِصَّةِ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّهُ كَانَ يَسِيرُ عَلَى الطَّرِيقِ الرَّئِيسِ؛ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَزَلْ حَذِرًا مُتَيَقِّظًا، وَضَاعَفَ حَرَكَاتِهِ الِاسْتِكْشَافِيَّةَ، وَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْ بَدْرٍ تَقَدَّمَ عِيرَهُ حَتَّى لَقِيَ مَجْدِيَّ بْنَ عَمْرٍو، وَسَأَلَهُ عَنْ جَيْشِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: ((مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أُنْكِرُهُ إِلَّا أَنِّي قَدْ رَأَيْتُ رَاكِبَيْنِ قَدْ أَنَاخَا إِلَى هَذَا التَّلِّ، ثُمَّ اسْتَقَيَا فِي شَنٍّ لَهُمَا، ثُمَّ انْطَلَقَا)).
فَبَادَرَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى مُنَاخِهِمَا، فَأَخَذَ مِنْ أَبْعَارِ بَعِيرِهِمَا، فَفَتَّهُ فَإِذَا فِيهِ النَّوَى، فَقَالَ: ((هَذِهِ -وَاللهِ- عَلَائِفُ يَثْرِبَ)).
فَرَجَعَ إِلَى عِيرِهِ سَرِيعًا، وَضَرَبَ وَجْهَهَا مُحَوِّلًا اتِّجَاهَهَا نَحْوَ السَّاحِلِ غَرْبًا، تَارِكًا الطَّرِيقَ الرَّئِيسَ الَّذِي يَمُرُّ بِبَدْرٍ عَلَى الْيَسَارِ، وَبِهَذَا نَجَا بِالْقَافِلَةِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي قَبْضَةِ جَيْشِ الْمَدِينَةِ، وَأَرْسَلَ رِسَالَتَهُ إِلَى جَيْشِ مَكَّةَ الَّتِي تَلَقَّاهَا فِي (الْجُحْفَةِ) )).
((وَلَمَّا تَلَقَّى هَذِهِ الرِّسَالَةَ جَيْشُ مَكَّةَ هَمَّ بِالرُّجُوعِ؛ وَلَكِنْ قَامَ طَاغِيَةُ قُرَيْشٍ أَبُو جَهْلٍ فِي كِبْرِيَاءَ وَغَطْرَسَةٍ قَائِلًا: ((وَاللهِ! لَا نَرْجِعُ حَتَّى نَرِدَ بَدْرًا، فَنُقِيمَ بِهَا ثَلَاثًا، فَنَنْحَرَ الْجُزُرَ، وَنُطْعِمَ الطَّعَامَ، وَنُسْقَى الْخَمْرَ، وَتَعْزِفَ عَلَيْنَا الْقِيَانُ، وَتَسْمَعَ بِنَا الْعَرَبُ وَبِمَسِيرِنَا وَجَمْعِنَا؛ فَلَا يَزَالُونَ يَهَابُونَنَا أَبَدًا))، بَعْدَهَا فَامْضُوا.
وَلَكِنْ عَلَى رَغْمِ أَبِي جَهْلٍ أَشَارَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ بِالرُّجُوعِ، فَعَصَوْهُ، فَرَجَعَ هُوَ وَبَنُو زُهْرَةَ، وَكَانَ حَلِيفًا لَهُمْ وَرَئِيسًا عَلَيْهِمْ فِي هَذَا النَّفِيرِ، فَلَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا زُهْرِيٌّ وَاحِدٌ، وَكَانُوا حَوَالِيَّ ثَلَاثَ مِائَةِ رَجُلٍ، وَاغْتَبَطَتْ بَنُو زُهْرَةَ بَعْدُ بِرَأْيِ الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ، فَلَمْ يَزَلْ فِيهِمْ مُطَاعًا مُعَظَّمًا، وَأَرَادَتْ بَنُو هَاشِمٍ الرُّجُوعَ، فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ أَبُو جَهْلٍ، وَقَالَ: ((لَا تُفَارِقُنَا هَذِهِ الْعِصَابَةُ حَتَّى نَرْجِعَ)).
فَسَارَ جَيْشُ مَكَّةَ وَقِوَامُهُ أَلْفُ مُقَاتِلٍ بَعْدَ رُجُوعِ بَنِي زُهْرَةَ، وَهُوَ يَقْصِدُ بَدْرًا، فَوَاصَلَ سَيْرَهُ حَتَّى نَزَلَ قَرِيبًا مِنْ بَدْرٍ وَرَاءَ كَثِيبٍ يَقَعُ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى عَلَى حُدُودِ وَادِي بَدْرٍ)).
((مَجْلِسٌ اسْتِشَارِيٌّ لِجَيْشِ النَّبِيِّ ﷺ ))
((أَمَّا اسْتِخْبَارَاتُ جَيْشِ النَّبِيِّ ﷺ؛ فَقَدْ نَقَلَتْ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ وَهُوَ لَا يَزَالُ فِي الطَّرِيقِ بِـ(وَادِي ذِفَرَانَ) خَبَرَ الْعِيرِ وَالنَّفِيرِ، وَتَأَكَّدَ لَدَيْهِ بَعْدَ التَّدَبُّرِ فِي تِلْكَ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَجَالٌ لِلِاجْتِنَابِ عَنْ لِقَاءٍ دَامٍ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إِقْدَامٍ يُبْنَى عَلَى الشَّجَاعَةِ وَالْبَسَالَةِ، وَالْجَرَاءَةِ وَالْجَسَارَةِ؛ فَمِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ: أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ جَيْشَ مَكَّةَ يَجُوسُ خِلَالَ تِلْكَ الْمَنْطِقَةِ يَكُونُ ذَلِكَ تَدْعِيمًا لِمَكَانَةِ قُرَيْشٍ الْعَسْكَرِيَّةِ، وَامْتِدَادًا لِسُلْطَانِهَا السِّيَاسِيِّ، وَإِضْعَافًا لِكَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ وَتَوْهِينًا لَهَا؛ بَلْ رُبَّمَا تَبْقَى الدَّعْوَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ بَعْدَ ذَلِكَ جَسَدًا لَا رُوحَ فِيهِ، وَيَجْرُؤُ عَلَى الشَّرِّ كُلُّ مَنْ فِي قَلْبِهِ حِقْدٌ أَوْ غَيْظٌ عَلَى الْإِسْلَامِ فِي هَذِهِ الْمَنْطِقَةِ.
ثُمَّ هَلْ هُنَاكَ ضَمَانٌ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَمْتَنِعَ جَيْشُ مَكَّةَ عَنْ مُوَاصَلَةِ سَيْرِهِ نَحْوَ الْمَدِينَةِ؛ حَتَّى يَنْقُلَ الْمَعْرَكَةَ إِلَى رُبُوعِهَا وَأَسْوَارِهَا، وَيَغْزُوَ الْمُسْلِمِينَ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ؟
كَلَّا، فَلَوْ حَدَثَ مِنْ جَيْشِ الْمَدِينَةِ نُكُولٌ مَا؛ لَكَانَ لَهُ أَسْوَأُ الْأَثَرِ عَلَى هَيْبَةِ الْمُسْلِمِينَ وَسُمْعَتِهِمْ)).
((وَنَظَرًا إِلَى هَذَا التَّطَوُّرِ الْخَطِيرِ الْمُفَاجِئِ عَقَدَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مَجْلِسًا عَسْكَرِيًّا اسْتِشَارِيًّا أَعْلَى أَشَارَ فِيهِ إِلَى الْوَضْعِ الرَّاهِنِ، وَتَبَادَلَ فِيهِ الرَّأْيَ مَعَ عَامَّةِ جَيْشِهِ وَقَادَتِهِ؛ وَحِينَئِذٍ تَزَعْزَعَ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنَ النَّاسِ، وَخَافُوا اللِّقَاءَ الدَّامِيَ، وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللهُ -تَعَالَى- فِيهِمْ: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ} [الأنفال: 5-6].
وَأَمَّا قَادَةُ الْجَيْشِ؛ فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فَقَالَ وَأَحْسَنَ، ثُمَّ قَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ وَأَحْسَنَ، ثُمَّ قَامَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! امْضِ لِمَا أَرَاكَ اللهُ؛ فَنَحْنُ مَعَكَ، وَاللهِ! لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]، لَكِنِ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا مَعَكُمَا مُقَاتِلُونَ؛ فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوْ سِرْتَ بِنَا إِلَى (بَرْكِ الْغِمَادِ)؛ لَجَالَدْنَا مَعَكَ مِنْ دُونِهِ حَتَّى تَبْلُغَهُ)).
وَ(بَرْكُ الْغِمَادِ): مَوْضِعٌ بِنَاحِيَةِ الْيَمَنِ.
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ خَيْرًا، وَدَعَا لَهُ.
وَهَؤُلَاءِ الْقَادَةُ الثَّلَاثَةُ كَانُوا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَهُمْ أَقَلِّيَّةٌ فِي الْجَيْشِ، فَأَحَبَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَنْ يَعْرِفَ رَأْيَ قَادَةِ الْأَنْصَارِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُمَثِّلُونَ أَغْلَبِيَّةَ الْجَيْشِ، وَلِأَنَّ ثِقَلَ الْمَعْرَكَةِ سَيَدُورُ عَلَى كَوَاهِلِهِمْ، مَعَ أَنَّ نُصُوصَ بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ لَمْ تَكُنْ تُلْزِمُهُمْ بِالْقِتَالِ خَارِجَ دِيَارِهِمْ، فَقَالَ بَعْدَ سَمَاعِ كَلَامِ هَؤُلَاءِ الْقَادَةِ الثَّلَاثَةِ: ((أَشِيرُوا عَلَيَّ أَيُّهَا النَّاسُ)).
وَإِنَّمَا يُرِيدُ الْأَنْصَارَ، وَفَطَنَ إِلَى ذَلِكَ قَائِدُ الْأَنْصَارِ وَحَامِلُ لِوَائِهِمْ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، فَقَالَ: ((وَاللهِ! لَكَأَنَّكَ تُرِيدُنَا يَا رَسُولَ اللهِ؟)).
قَالَ: ((أَجَلْ)).
قَالَ: ((فَقَدْ آمَنَّا بِكَ، وَصَدَّقْنَاكَ، وَشَهِدْنَا أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ، وَأَعْطَيْنَاكَ عَلَى ذَلِكَ عُهُودَنَا وَمَوَاثِيقَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ؛ فَامْضِ يَا رَسُولَ اللهِ لِمَا أَرَدْتَ؛ فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ مَعَكَ، مَا تَخَلَّفَ مِنَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوَّنَا غَدًا، إِنَّا لَصُبُرٌ فِي الْحَرْبِ، صُدُقٌ فِي اللِّقَاءِ، وَلَعَلَّ اللهَ يُرِيكَ مِنَّا مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُكَ؛ فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللهِ)) .
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ قَالَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ: ((لَعَلَّكَ تَخْشَى أَنْ تَكُونَ الْأَنْصَارُ تَرَى حَقًّا عَلَيْهَا أَلَّا تَنْصُرَكَ إِلَّا فِي دِيَارِهِمْ، وَإِنِّي أَقُولُ عَنِ الْأَنْصَارِ وَأُجِيبُ عَنْهُمْ، فَاظْعَنْ حَيْثُ شِئْتَ، وَصِلْ حَبْلَ مَنْ شِئْتَ، وَاقْطَعْ حَبْلَ مَنْ شِئْتَ، وَخُذْ مِنْ أَمْوَالِنَا مَا شِئْتَ، وَأَعْطِنَا مَا شِئْتَ، وَمَا أَخَذْتَ مِنَّا كَانَ أَحَبَّ إِلَيْنَا مِمَّا تَرَكْتَ، وَمَا أَمَرْتَ فِيهِ مِنْ أَمْرٍ فَأَمْرُنَا تَبَعٌ لِأَمْرِكَ؛ فَوَاللهِ لَئِنْ سِرْتَ بِنَا حَتَّى تَبْلُغَ الْبَرْكَ مِنْ (غَمَدَانَ) لَنَسِيرَنَّ مَعَكَ، وَوَاللهِ! لَئِنِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ مَعَكَ)).
فَسُرَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِقَوْلِ سَعْدٍ، وَنَشَّطَهُ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: ((سِيرُوا وَأَبْشِرُوا؛ فَإِنَّ اللهَ -تَعَالَى- قَدْ وَعَدَنِي إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَاللهِ! لَكَأَنِّي الْآنَ أَنْظُرُ إِلَى مَصَارِعِ الْقَوْمِ)))).
((عَمَلِيَّاتٌ اسْتِخْبَارَاتِيَّةٌ مِنْ جَيْشِ النَّبِيِّ ﷺ ))
((ارْتَحَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مِنْ (ذِفَرَانَ)، فَسَلَكَ عَلَى ثَنَايَا يُقَالُ لَهَا (الْأَصَافِرُ)، ثُمَّ انْحَطَّ مِنْهَا إِلَى بَلَدٍ يُقَالُ لَهُ (الدَّبَّةُ)، وَتَرَكَ (الْحَنَّانَ) بِيَمِينٍ -وَهُوَ كَثِيبٌ عَظِيمٌ كَالْجَبَلِ الْعَظِيمِ-، ثُمَّ نَزَلَ قَرِيبًا مِنْ بَدْرٍ)).
((وَهُنَاكَ قَامَ بِنَفْسِهِ بِعَمَلِيَّةِ الِاسْتِكْشَافِ مَعَ رَفِيقِهِ فِي الْغَارِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
وَبَيْنَمَا هُمَا يَتَجَوَّلَانِ حَوْلَ مُعَسْكَرِ مَكَّةَ؛ إِذَا هُمَا بِشَيْخٍ مِنَ الْعَرَبِ، فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَنْ قُرَيْشٍ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، سَأَلَ عَنِ الْجَيْشَيْنِ زِيَادَةً فِي التَّكَتُّمِ؛ وَلَكِنَّ الشَّيْخَ قَالَ: ((لَا أُخْبِرُكُمَا حَتَّى تُخْبِرَانِي مِمَّا أَنْتُمَا؟)).
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِذَا أَخْبَرْتَنَا أَخْبَرْنَاكَ)).
قَالَ: ((أَوْ ذَاكَ بِذَاكَ؟)).
قَالَ: ((نَعَمْ)).
قَالَ الشَّيْخُ: ((فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ خَرَجُوا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كَانَ صَدَقَ الَّذِي أَخْبَرَنِي فَهُوَ الْيَوْمَ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا -لِلْمَكَانِ الَّذِي بِهِ جَيْشُ الْمَدِينَةِ-، وَبَلَغَنِي أَنَّ قُرَيْشًا خَرَجُوا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كَانَ صَدَقَ الَّذِي أَخْبَرَنِي فَهُمُ الْيَوْمَ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا -لِلْمَكَانِ الَّذِي بِهِ جَيْشُ مَكَّةَ-)).
وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ خَبَرِهِ قَالَ: ((مِمَّنْ أَنْتُمَا؟)).
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((نَحْنُ مِنْ مَاءٍ))، ثُمَّ انْصَرَفَا عَنْهُ، وَبَقِيَ الشَّيْخُ يَقُولُ: ((مَا مِنْ مَاءٍ، أَمْ مِنْ مَاءِ الْعِرَاقِ؟)))).
وَفِي مَسَاءِ ذَلِكَ الْيَوْمِ بَعَثَ اسْتِخْبَارَاتِهِ مِنْ جَدِيدٍ؛ لِيَبْحَثَ عَنْ أَخْبَارِ الْعَدُوِّ، وَقَامَ لِهَذِهِ الْعَمَلِيَّةِ الِاسْتِخْبَارَاتِيَّةِ ثَلَاثَةٌ مِنْ قَادَةِ الْمُهَاجِرِينَ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، ذَهَبُوا إِلَى مَاءِ بَدْرٍ، فَوَجَدُوا غُلَامَيْنِ يَسْتَقِيَانِ لِجَيْشِ مَكَّةَ، فَأَلْقَوْا عَلَيْهِمَا الْقَبْضَ، وَجَاءُوا بِهِمَا إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، فَاسْتَخْبَرَهُمَا الْقَوْمُ، قَالَ الْغُلَامَانِ: ((نَحْنُ سُقَاةُ قُرَيْشٍ بَعَثُونَا نَسْقِيهِمْ مِنَ الْمَاءِ)).
فَكَرِهَ الْقَوْمُ وَرَجَوْا أَنْ يَكُونَا لِأَبِي سُفْيَانَ، لَا تَزَالُ فِي نُفُوسِهِمْ بَقَايَا أَمَلٍ فِي الِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْقَافِلَةِ، فَضَرَبُوهُمَا ضَرْبًا مُوجِعًا، حَتَّى اضْطُرَّ الْغُلَامَانِ أَنْ يَقُولَا: ((نَحْنُ لِأَبِي سُفْيَانَ))، فَتَرَكُوهُمَا.
وَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مِنَ الصَّلَاةِ قَالَ لَهُمْ كَالْعَاتِبِ: ((إِذَا صَدَقَاكُمْ ضَرَبْتُمُوهُمَا، وَإِذَا كَذَبَاكُمْ تَرَكْتُمُوهُمَا! صَدَقَا -وَاللهِ- إِنَّهُمَا لِقُرَيْشٍ)).
ثُمَّ خَاطَبَ الْغُلَامَيْنِ قَائِلًا: ((أَخْبِرَانِي عَنْ قُرَيْشٍ)).
قَالَا: ((هُمْ وَرَاءَ هَذَا الْكَثِيبِ الَّذِي تَرَى بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى)).
فَقَالَ لَهُمَا: ((كَمِ الْقَوْمُ؟)).
قَالَا: ((كَثِيرٌ)).
قَالَ: ((مَا عُدَّتُهُمْ؟)).
قَالَا: ((لَا نَدْرِي)).
قَالَ: ((كَمْ يَنْحَرُونَ كُلَّ يَوْمٍ؟)).
قَالَا: ((يَوْمًا تِسْعًا وَيَوْمًا عَشْرًا)).
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الْقَوْمُ فِيمَا بَيْنَ التِّسْعِ مِائَةٍ إِلَى الْأَلْفِ)).
ثُمَّ قَالَ لَهُمَا: ((فَمَنْ فِيهِمْ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ؟)).
قَالَا: ((عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ، وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ بْنُ هِشَامٍ، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَنَوْفَلُ بْنُ خُوَيْلِدٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ عَامِرٍ، وَطُعَيْمَةُ بْنُ عَدِيٍّ، وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَزَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ)) فِي رِجَالٍ سَمَّيَاهُمْ.
فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: ((هَذِهِ مَكَّةُ قَدْ أَلْقَتْ إِلَيْكُمْ أَفْلَاذَ كَبِدِهَا)).
((الْجَيْشُ الْإِسْلَامِيُّ يَسْبِقُ إِلَى أَهَمِّ الْمَرَاكِزِ الْعَسْكَرِيَّةِ))
أَنْزَلَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ مَطَرًا وَاحِدًا، فَكَانَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَابِلًا شَدِيدًا مَنَعَهُمْ مِنَ التَّقَدُّمِ، وَكَانَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طَلًّا طَهَّرَهُمْ بِهِ، وَأَذْهَبَ عَنْهُمْ رِجْسَ الشَّيْطَانِ، وَغَطَّى بِهِ الْأَرْضَ، وَصَلَّبَ بِهِ الرَّمْلَ، وَثَبَّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ، وَمَهَّدَ بِهِ الْمَنْزِلَ، وَرَبَطَ بِهِ عَلَى قُلُوبِهِمْ.
وَتَحَرَّكَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِجَيْشِهِ؛ لِيَسْبِقَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى مَاءِ بَدْرٍ، وَيَحُولَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ، فَنَزَلَ عِشَاءً أَدْنَى مَاءٍ مِنْ مِيَاهِ بَدْرٍ، ثُمَّ نَهَضَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِالْجَيْشِ حَتَّى أَتَى أَقْرَبَ مَاءٍ مِنَ الْعَدُوِّ، فَنَزَلَ عَلَيْهِ شَطْرًا مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ صَنَعُوا الْحِيَاضَ، وَغَوَّرُوا مَا عَدَاهَا مِنَ الْقُلُبِ.
((مَقَرُّ قِيَادَةِ الْجَيْشِ الْإِسْلَامِيِّ))
بَعْدَ أَنْ تَمَّ نُزُولُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمَاءِ اقْتَرَحَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ أَنْ يَبْنِيَ الْمُسْلِمُونَ مَقَرًّا لِقِيَادَتِهِ؛ اسْتِعْدَادًا لِلطَّوَارِئِ، وَتَقْدِيرًا لِلْهَزِيمَةِ قَبْلَ النَّصْرِ؛ حَيْثُ قَالَ: ((يَا نَبِيَّ اللهِ! أَلَا نَبْنِي لَكَ عَرِيشًا تَكُونُ فِيهِ، وَنُعِدُّ عِنْدَكَ رَكَائِبَكَ، ثُمَّ نَلْقَى عَدُوَّنَا، فَإِنْ أَعَزَّنَا اللهُ وَأَظْهَرَنَا عَلَى عَدُوِّنَا؛ كَانَ ذَلِكَ مَا أَحْبَبْنَا، وَإِنْ كَانَتِ الْأُخْرَى؛ جَلَسْتَ عَلَى رَكَائِبِكَ فَلَحِقْتَ بِمَنْ وَرَاءَنَا مِنْ قَوْمِنَا؛ فَقَدْ تَخَلَّفَ عَنْكَ أَقْوَامٌ يَا نَبِيَّ اللهِ مَا نَحْنُ بِأَشَدَّ لَكَ حُبًّا مِنْهُمْ، وَلَوْ ظَنُّوا أَنَّكَ تَلْقَى حَرْبًا مَا تَخَلَّفُوا عَنْكَ، يَمْنَعُكَ اللهُ بِهِمْ، يُنَاصِحُونَكَ وَيُجَاهِدُونَ مَعَكَ)).
فَأَثْنَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ خَيْرًا، وَدَعَا لَهُ بِخَيْرٍ، وَبَنَى الْمُسْلِمُونَ عَرِيشًا عَلَى مُرْتَفَعٍ يَقَعُ فِي الشَّمَالِ الشَّرْقِيِّ لِمَيْدَانِ الْقِتَالِ، وَيُشْرِفُ عَلَى سَاحَةِ الْمَعْرَكَةِ، كَمَا تَمَّ اخْتِيَارُ فِرْقَةٍ مِنْ شَبَابِ الْأَنْصَارِ بِقِيَادَةِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ يَحْرُسُونَ رَسُولَ اللهِ ﷺ حَوْلَ مَقَرِّ قِيَادَتِهِ.
((تَعْبِئَةُ الْجَيْشِ وَقَضَاءُ اللَّيْلِ))
ثُمَّ عَبَّأَ رَسُولُ اللهِ ﷺ جَيْشَهُ، وَمَشَى فِي مَوْضِعِ الْمَعْرَكَةِ، وَجَعَلَ يُشِيرُ بِيَدِهِ: ((هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ غَدًا إِنْ شَاءَ اللهُ، وَهَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ غَدًا إِنْ شَاءَ اللهُ)).
ثُمَّ بَاتَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُصَلِّي إِلَى جِذْعِ شَجَرَةٍ هُنَالِكَ، وَبَاتَ الْمُسْلِمُونَ لَيْلًا هَادِئَ الْأَنْفَاسِ، مُنِيرَ الْآفَاقِ، غَمَرَتِ الثِّقَةُ فِيهِ قُلُوبَهُمْ، وَأَخَذُوا مِنَ الرَّاحَةِ قِسْطَهُمْ، يَأْمُلُونَ أَنْ يَرَوْا بَشَائِرَ رَبِّهِمْ بِعُيُونِهِمْ صَبَاحًا {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ} [الأنفال: 11].
وَكَانَتْ هَذِهِ اللَّيْلَةُ ((لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ))، وَكَانَ خُرُوجُهُ فِي الثَّامِنِ أَوِ الثَّانِيَ عَشَرَ مِنَ الشَّهْرِ نَفْسِهِ، وَظَلَّ النَّبِيُّ ﷺ فِي ذَلِكَ الْعَرِيشِ يَدْعُو رَبَّهُ، وَيَسْتَغِيثُ بِهِ وَيَسْتَنْصِرُهُ.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ لَهُ: ((اللهم إِنِّي أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ، اللهم إِنْ شِئْتَ لَمْ تُعْبَدْ بَعْدَ الْيَوْمِ)).
فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ بِيَدِهِ فَقَالَ: ((حَسْبُكَ يَا رَسُولَ اللهِ؛ فَقَدْ أَلْحَحْتَ عَلَى رَبِّكَ)).
وَهُوَ فِي الدِّرْعِ، فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ: (({سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَىٰ وَأَمَرُّ} [القمر: 45-46])).
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ؛ نَظَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ، وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَاسْتَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ الْقِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: ((اللهم أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللهم آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللهم إِنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ))، فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ، مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ، فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَقَالَ: ((يَا نَبِيَّ اللهِ! كَفَاكَ مُنَاشَدَتَكَ رَبَّكَ؛ فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ وَعْدَكَ))، فَأَنْزَلَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9])). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَظَلَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ لَيْلَةَ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ كَذَلِكَ حَتَّى أَصْبَحَ.
((الْجَيْشُ الْمَكِّيُّ فِي عَرْصَةِ الْقِتَالِ وَوُقُوعُ الِانْشِقَاقِ فِيهِ))
أَمَّا قُرَيْشٌ؛ فَقَضَتْ لَيْلَتَهَا هَذِهِ فِي مُعَسْكَرِهَا بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى، وَلَمَّا أَصْبَحَتْ أَقْبَلَتْ فِي كَتَائِبِهَا، وَنَزَلَتْ مِنَ الْكَثِيبِ إِلَى وَادِي بَدْرٍ، وَأَقْبَلَ نَفَرٌ مِنْهُمْ إِلَى حَوْضِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: ((دَعُوهُمْ))، فَمَا شَرِبَ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ إِلَّا قُتِلَ؛ سِوَى حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ فَإِنَّهُ لَمْ يُقْتَلْ، وَأَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَكَانَ إِذَا اجْتَهَدَ فِي الْيَمِينِ قَالَ: ((لَا وَالَّذِي نَجَّانِي مِنْ يَوْمِ بَدْرٍ)).
فَلَمَّا اطْمَأَنَّتْ قُرَيْشٌ؛ بَعَثَتْ عُمَيْرَ بْنَ وَهْبٍ الْجُمْحِيَّ لِلتَّعَرُّفِ عَلَى مَدَى قُوَّةِ جَيْشِ الْمَدِينَةِ، فَدَارَ عُمَيْرٌ بِفَرَسِهِ حَوْلَ الْعَسْكَرِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: ((ثَلَاثُ مِائَةِ رَجُلٍ، يَزِيدُونَ قَلِيلًا أَوْ يَنْقُصُونَ؛ وَلَكِنْ أَمْهِلُونِي حَتَّى أَنْظُرَ أَلِلْقَوْمِ كَمِينٌ أَوْ مَدَدٌ؟)).
فَضَرَبَ فِي الْوَادِي حَتَّى أَبْعَدَ، فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: ((مَا وَجَدْتُ شَيْئًا؛ وَلَكِنِّي قَدْ رَأَيْتُ -يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ- الْبَلَايَا تَحْمِلُ الْمَنَايَا، نَوَاضِحَ يَثْرِبَ تَحْمِلُ الْمَوْتَ النَّاقِعَ، قَوْمٌ لَيْسَ مَعَهُمْ مَنَعَةٌ وَلَا مَلْجَأٌ سِوَى سُيُوفِهِمْ، وَاللهِ! مَا أَرَى أَنْ يُقْتَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ حَتَّى يَقْتُلَ رَجُلًا مِنْكُمْ، فَإِذَا أَصَابُوا مِنْكُمْ أَعْدَادَهُمْ فَمَا خَيْرُ الْعَيْشِ بَعْدَ ذَلِكَ؟! فَرُوا رَأْيَكُمْ)).
وَحِينَئِذٍ قَامَتْ مُعَارَضَةٌ أُخْرَى ضِدَّ أَبِي جَهْلٍ -الْمُصَمِّمِ عَلَى الْمَعْرَكَةِ- تَدْعُو إِلَى الْعَوْدَةِ بِالْجَيْشِ إِلَى مَكَّةَ دُونَمَا قِتَالٍ؛ فَقَدْ مَشَى حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ فِي النَّاسِ، وَأَتَى عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ فَقَالَ: ((يَا أَبَا الْوَلِيدِ! إِنَّكَ كَبِيرُ قُرَيْشٍ وَسَيِّدُهَا وَالْمُطَاعُ فِيهَا؛ فَهَلْ لَكَ إِلَى خَيْرٍ تُذْكَرُ بِهِ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ؟)).
قَالَ: ((وَمَا ذَاكَ يَا حَكِيمُ؟)).
قَالَ: ((تَرْجِعُ بِالنَّاسِ، وَتَحْمِلُ أَمْرَ حَلِيفِكَ عَمْرِو بْنِ الْحَضْرَمِيِّ الْمَقْتُولِ فِي سَرِيَّةِ نَخْلَةَ)).
فَقَالَ عُتْبَةُ: ((قَدْ فَعَلْتُ، أَنْتَ ضَامِنٌ عَلَيَّ بِذَلِكَ، إِنَّمَا هُوَ حَلِيفِي؛ فَعَلَيَّ دِيَتُهُ وَمَا أُصِيبَ مِنْ مَالِهِ)).
ثُمَّ قَالَ عُتْبَةُ لِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ: ((فَائْتِ ابْنَ الْحَنْظَلِيَّةَ أَبَا جَهْلٍ -وَالْحَنْظَلِيَّةُ: أُمُّهُ-؛ فَإِنِّي لَا أَخْشَى أَنْ يَشْجُرَ أَمْرَ النَّاسِ غَيْرُهُ)).
ثُمَّ قَامَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ خَطِيبًا فَقَالَ: ((يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! إِنَّكُمْ -وَاللهِ- مَا تَصْنَعُونَ بِأَنْ تَلْقَوْا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ شَيْئًا، وَاللهِ! لَئِنْ أَصَبْتُمُوهُ لَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَنْظُرُ إِلَى وَجْهِ رَجُلٍ يَكْرَهُ النَّظَرَ إِلَيْهِ، قَتَلَ ابْنَ عَمِّهِ، أَوِ ابْنَ خَالِهِ، أَوْ رَجُلًا مِنْ عَشِيرَتِهِ؛ فَارْجِعُوا وَخَلُّوا بَيْنَ مُحَمَّدٍ وَبَيْنَ سَائِرِ الْعَرَبِ، فَإِنْ أَصَابُوهُ فَذَاكَ الَّذِي أَرَدْتُمْ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ أَلْفَاكُمْ وَلَمْ تَعْرِضُوا مِنْهُ مَا تُرِيدُونَ)).
وَانْطَلَقَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ إِلَى أَبِي جَهْلٍ وَهُوَ يُهَيِّئُ دِرْعًا لَهُ، قَالَ: ((يَا أَبَا الْحَكَمِ! إِنَّ عُتْبَةَ أَرْسَلَنِي بِكَذَا وَكَذَا)).
فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: ((انْتَفَخَ -وَاللهِ- سَحْرُهُ حِينَ رَأَى مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ، كَلَّا وَاللهِ! لَا نَرْجِعُ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ، وَمَا بِعُتْبَةَ مَا قَالَ، وَلَكِنَّهُ رَأَى أَنَّ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ أَكَلَةُ جَزُورٍ، وَفِيهِمُ ابْنُهُ -وَهُوَ أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ قَدِيمًا وَهَاجَرَ-، فَتَخَوَّفَكُمْ عُتْبَةُ عَلَى ابْنِهِ)).
وَلَمَّا بَلَغَ عُتْبَةَ قَوْلُ أَبِي جَهْلٍ: ((انْتَفَخَ -وَاللهِ- سَحْرُهُ))؛ قَالَ عُتْبَةُ: ((سَيَعْلَمُ مُصَفِّرُ اسْتِهِ مِنَ انْتَفَخَ سَحْرُهُ أَنَا أَمْ هُوَ!!)).
وَتَعَجَّلَ أَبُو جَهْلٍ مَخَافَةَ أَنْ تَقْوَى هَذِهِ الْمُعَارَضَةُ، فَبَعَثَ عَلَى إِثْرِ هَذِهِ الْمُحَاوَرَةِ إِلَى عَامِرِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ أَخِي عَمْرِو بْنِ الْحَضْرَمِيِّ الْمَقْتُولِ فِي سَرِيَّةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَحْشٍ، فَقَالَ: ((هَذَا حَلِيفُكَ -أَيْ: عُتْبَةُ- يُرِيدُ أَنْ يَرْجِعَ بِالنَّاسِ، وَقَدْ رَأَيْتَ ثَأْرَكَ بِعَيْنِكَ؛ فَقُمْ فَانْشُدْ خُفْرَتَكَ وَمَقْتَلَ أَخِيكَ)).
فَقَامَ عَامِرٌ فَكَشَفَ عَنِ اسْتِهِ وَصَرَخَ: ((وَاعَمْرَاهُ! وَاعَمْرَاهُ!))، فَحَمِيَ الْقَوْمُ وَحَقِبَ أَمْرُهُمْ، وَاسْتَوْثَقُوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشَّرِّ، وَأَفْسَدَ عَلَى النَّاسِ الرَّأْيَ الَّذِي دَعَاهُمْ إِلَيْهِ عُتْبَةُ، وَهَكَذَا تَغَلَّبَ الطَّيْشُ عَلَى الْحِكْمَةِ، وَذَهَبَتْ هَذِهِ الْمُعَارَضَةُ دُونَ جَدْوَى.
((مَشَاهِدُ غَزْوَةِ بَدْرٍ الْكُبْرَى))
لَمَّا طَلَعَ الْمُشْرِكُونَ وَتَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((اللهم هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ أَقْبَلَتْ بِخُيَلَائِهَا وَفَخْرِهَا تُحَادُّكَ وَتُكَذِّبُ رَسُولَكَ؛ اللهم فَنَصْرَكَ الَّذِي وَعَدْتَنِي، اللهم أَحْنِهِمُ الْغَدَاةَ)).
وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ -وَرَأَى عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ فِي الْقَوْمِ عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ-: ((إِنْ يَكُنْ فِي أَحَدٍ مِنَ الْقَوْمِ خَيْرٌ فَعِنْدَ صَاحِبِ الْجَمَلِ الْأَحْمَرَ، إِنْ يُطِيعُوهُ يَرْشُدُوا)).
وَلَمَّا تَمَّ تَعْدِيلُ الصُّفُوفِ أَصْدَرَ أَوَامِرَهُ إِلَى جَيْشِهِ بِأَلَّا يَبْدَؤُوا الْقِتَالَ حَتَّى يَتَلَقَّوْا مِنْهُ الْأَوَامِرَ الْأَخِيرَةَ، ثُمَّ أَدْلَى إِلَيْهِمْ بِتَوْجِيهٍ خَاصٍّ فِي أَمْرِ الْحَرْبِ فَقَالَ: ((إِذَا أَكْثَبُوكُمْ -يَعْنِي: اقْتَرَبُوا مِنْكُمْ- إِذَا أَكْثَبُوكُمْ فَارْمُوهُمْ، وَاسْتَبِقُوا نَبْلَكُمْ، وَلَا تَسُلُّوا السُّيُوفَ حَتَّى يَغْشَوْكُمْ)).
ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْعَرِيشِ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ خَاصَّةً، وَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ بِكَتِيبَةِ الْحِرَاسَةِ عَلَى بَابِ الْعَرِيشِ، أَمَّا الْمُشْرِكُونَ؛ فَقَدِ اسْتَفْتَحَ أَبُو جَهْلٍ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَقَالَ: ((اللهم أَقْطَعُنَا لِلرَّحِمِ -أَبُو جَهْلٍ يَقُولُ دَاعِيًا رَبَّهُ- اللهم أَقْطَعُنَا لِلرَّحِمِ، وَآتَانَا بِمَا لَا نَعْرِفُهُ؛ فَأَحْنِهِ الْغَدَاةَ، اللهم أَيُّنَا كَانَ أَحَبَّ إِلَيْكَ وَأَرْضَى عِنْدَكَ فَانْصُرْهُ الْيَوْمَ!!)).
وَفِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِن تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ ۖ وَإِن تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَإِن تَعُودُوا نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 19].
وَكَانَ أَوَّلَ وَقُودِ الْمَعْرَكَةِ الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ الْمَخْزُومِيُّ، وَكَانَ رَجُلًا شَرِسًا سَيِّئَ الْخُلُقِ، خَرَجَ قَائِلًا: ((أُعَاهِدُ اللهَ لَأَشْرَبَنَّ مِنْ حَوْضِهِمْ، أَوْ لَأَهْدِمَنَّهُ، أَوْ لَأَمُوتَنَّ دُونَهُ)).
فَلَمَّا خَرَجَ؛ خَرَجَ إِلَيْهِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَلَمَّا الْتَقَيَا ضَرَبَهُ حَمْزَةُ فَأَطَنَّ قَدَمَهُ بِنِصْفِ سَاقِهِ وَهُوَ دُونَ الْحَوْضِ، فَوَقَعَ عَلَى ظَهْرِهِ تَشْخَبُ رِجْلُهُ دَمًا نَحْوَ أَصْحَابِهِ، ثُمَّ حَبَا إِلَى الْحَوْضِ حَتَّى اقْتَحَمَ فِيهِ، يُرِيدُ أَنْ تَبَرَّ يَمِينُهُ؛ وَلَكِنَّ حَمْزَةَ ثَنَّى عَلَيْهِ بِضَرْبَةٍ أُخْرَى أَتَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ دَاخِلَ الْحَوْضِ.
وَكَانَ هَذَا أَوَّلَ قَتْلٍ أَشْعَلَ نَارَ الْمَعْرَكَةِ؛ فَقَدْ خَرَجَ بَعْدَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ خِيرَةِ فُرْسَانِ قُرَيْشٍ كَانُوا مِنْ عَائِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُمْ: عُتْبَةُ وَأَخُوهُ شَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ، فَلَمَّا انْفَصَلُوا مِنَ الصَّفِّ طَلَبُوا الْمُبَارَزَةَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ ثَلَاثَةٌ مِنْ شَبَابِ الْأَنْصَارِ؛ عَوْفٌ وَمُعَوِّذٌ ابْنَا الْحَارِثِ، وَأُمُّهُمَا عَفْرَاءُ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَقَالُوا: ((مَنْ أَنْتُمْ؟)).
قَالُوا: ((رَهْطٌ مِنَ الْأَنْصَارِ)).
قَالُوا: ((أَكْفَاءٌ كِرَامٌ، مَا لَنَا بِكُمْ حَاجَةٌ، وَإِنَّمَا نُرِيدُ بَنِي عَمِّنَا))، ثُمَّ نَادَى مُنَادِيهِمْ: ((يَا مُحَمَّدُ! أَخْرِجْ إِلَيْنَا أَكْفَاءَنَا مِنْ قَوْمِنَا)).
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((قُمْ يَا عُبَيْدَةُ -هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ-، قُمْ يَا حَمْزَةُ، قُمْ يَا عَلِيُّ)).
فَلَمَّا قَامُوا وَدَنَوْا مِنْهُمْ قَالُوا: ((مَنْ أَنْتُمْ؟)).
فَأَخْبَرُوهُمْ، فَقَالُوا: ((أَنْتُمْ أَكْفَاءٌ كِرَامٌ)).
فَبَارَزَ عُبَيْدَةُ، وَكَانَ أَسَنَّ الْقَوْمِ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَبَارَزَ حَمْزَةُ شَيْبَةَ، وَبَارَزَ عَلِيٌّ الْوَلِيدَ، فَأَمَّا حَمْزَةُ وَعَلِيٌّ؛ فَلَمْ يُمْهِلَا قِرْنَيْهِمَا أَنْ قَتَلَاهُمَا، وَأَمَّا عُبَيْدَةُ فَاخْتَلَفَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قِرْنِهِ ضَرْبَتَانِ، فَأَثْخَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، ثُمَّ كَرَّ عَلِيٌّ وَحَمْزَةُ عَلَى عُتْبَةَ فَقَتَلَاهُ، وَاحْتَمَلَا عُبَيْدَةَ وَقَدْ قُطِعَتْ رِجْلُهُ، فَلَمْ يَزَلْ صَمْتًا حَتَّى مَاتَ بِـ(الصَّفْرَاءِ) بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَوْ خَمْسَةِ أَيَّامٍ مِنْ وَقْعَةِ بَدْرٍ حِينَمَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي طَرِيقِهِمْ فِي الْمَدِينَةِ.
وَكَانَ عَلِيٌّ يُقْسِمُ بِاللهِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمْ: {هَٰذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19].
وَكَانَتْ نِهَايَةُ هَذِهِ الْمُبَارَزَةِ بِدَايَةً سَيِّئَةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، فَفَقَدُوا ثَلَاثَةً مِنْ خِيرَةِ فُرْسَانِهِمْ وَقَادَتِهِمْ دَفْعَةً وَاحِدَةً، فَاسْتَشَاطُوا غَضَبًا، وَكَرُّوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَرَّةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ.
وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ؛ فَبَعْدَ أَنِ اسْتَنْصَرُوا رَبَّهُمْ، وَاسْتَغَاثُوهُ، وَأَخْلَصُوا لَهُ، وَتَضَرَّعُوا إِلَيْهِ؛ تَلَقَّوْا هَجْمَاتِ الْمُشْرِكِينَ الْمُتَوَالِيَةَ وَهُمْ مُرَابِطُونَ فِي مَوَاقِعِهِمْ، وَاقِفُونَ مَوْقِفَ الدِّفَاعِ وَقَدْ أَلْحَقُوا بِالْمُشْرِكِينَ خَسَائِرَ فَادِحَةً وَهُمْ يَقُولُونَ: ((أَحَدٌ أَحَدٌ)).
وَأَمَّا رَسُولُ اللهِ ﷺ؛ فَكَانَ مُنْذُ رُجُوعِهِ بَعْدَ تَعْدِيلِ الصُّفُوفِ يُنَاشِدُ رَبَّهُ مَا وَعَدَهُ مِنَ النَّصْرِ، فَيَقُولُ: ((اللهم أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللهم إِنِّي أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ))، حَتَّى إِذَا حَمِيَ الْوَطِيسُ، وَاسْتَدَارَتْ رَحَى الْحَرْبِ بِشِدَّةٍ، وَاحْتَدَمَ الْقِتَالُ، وَبَلَغَتِ الْمَعْرَكَةُ ذِرْوَتَهَا قَالَ: ((اللهم إِنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ الْيَوْمَ لَا تُعْبَدْ، اللهم إِنْ شِئْتَ لَنْ تُعْبَدَ بَعْدَ الْيَوْمِ أَبَدًا)).
وَبَالَغَ فِي الِابْتِهَالِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ الصِّدِّيقُ وَقَالَ: ((حَسْبُكَ يَا رَسُولَ اللهِ! أَلْحَحْتَ عَلَى رَبِّكَ)).
وَأَوْحَى اللهُ إِلَى الْمَلَائِكَةِ: {أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ۚ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [الأنفال: 12]، وَأَوْحَى إِلَى رَسُولِهِ: {أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9] أَيْ: إِنَّهُمْ رِدْفٌ لَكُمْ، أَيْ: يُرْدِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا أَرْسَالًا، لَا يَأْتُونَ دَفْعَةً وَاحِدَةً.
وَأَغْفَى رَسُولُ اللهِ ﷺ إِغْفَاءَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: ((أَبْشِرْ يَا أَبَا بَكْرٍ! هَذَا جِبْرِيلُ عَلَى ثَنَايَاهُ النَّقْعُ -أَيِ: الْغُبَارُ-)).
وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: ((أَبْشِرْ يَا أَبَا بَكْرٍ! أَتَاكَ نَصْرُ اللهِ، هَذَا جِبْرِيلُ آخِذٌ بِعِنَانِ فَرَسِهِ يَقُودُهُ، عَلَى ثَنَايَاهُ النَّقْعُ)).
ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مِنْ بَابِ الْعَرِيشِ وَهُوَ يَثِبُ فِي الدِّرْعِ وَيَقُولُ: (({سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45]))، ثُمَّ أَخَذَ حَفْنَةً مِنَ الْحَصْبَاءِ فَاسْتَقْبَلَ بِهَا قُرَيْشًا وَقَالَ: ((شَاهَتِ الْوُجُوهُ))، وَرَمَى بِهَا فِي وُجُوهِهِمْ، فَمَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَحَدٌ إِلَّا أَصَابَ عَيْنَهُ وَمَنْخَرَيْهِ وَفَمَهُ مِنْ تِلْكَ الْقَبْضَةِ، وَفِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ} [الأنفال: 17].
وَحِينَئِذٍ أَصْدَرَ إِلَى جَيْشِهِ أَوَامِرَهُ الْأَخِيرَةَ بِالْهَجْمَةِ الْمُضَادَّةِ، فَقَالَ: ((شُدُّوا))، وَحَرَّضَهُمْ عَلَى الْقِتَالِ قَائِلًا: ((وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ! لَا يُقَاتِلُهُمُ الْيَوْمَ رَجُلٌ فَيُقْتَلُ صَابِرًا مُحْتَسِبًا مُقْبِلًا غَيْرَ مُدْبِرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللهُ الْجَنَّةَ)).
وَقَالَ وَهُوَ يَحُضُّهُمْ عَلَى الْقِتَالِ: ((قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ)).
قَالَ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ: ((بَخٍ بَخٍ)).
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ: بَخٍ بَخٍ؟)).
قَالَ: ((لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ! إِلَّا رَجَاءَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا)).
قَالَ: ((فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا)).
فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرْنِهِ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: ((لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمْرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ)).
فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ، وَكَذَلِكَ سَأَلَهُ عَوْفُ بْنُ الْحَارِثِ بْنُ عَفْرَاءَ فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! مَا يُضْحِكُ الرَّبَّ مِنْ عَبْدِهِ؟)).
قَالَ: ((غَمْسُهُ يَدَهُ فِي الْعَدُوِّ حَاسِرًا)).
فَنَزَعَ دِرْعًا كَانَتْ عَلَيْهِ فَقَذَفَهَا، ثُمَّ أَخَذَ سَيْفَهُ فَقَاتَلَ الْقَوْمَ حَتَّى قُتِلَ، وَحِينَ أَصْدَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ الْأَمْرَ بِالْهُجُومِ الْمُضَادِّ كَانَتْ حِدَّةُ هَجْمَاتِ الْعَدُوِّ قَدْ ذَهَبَتْ، وَفَتَرَ حَمَاسُهُ، فَكَانَ لِهَذِهِ الْخُطَّةِ الْحَكِيمَةِ أَثَرٌ كَبِيرٌ فِي تَعْزِيزِ مَوْقِفِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّهُمْ حِينَمَا تَلَقَّوْا أَمْرَ الشَّدِّ وَالْهُجُومِ وَقَدْ كَانَ نَشَاطُهُمُ الْحَرْبِيُّ عَلَى شَبَابِهِ؛ قَامُوا بِهُجُومٍ كَاسِحٍ عَنِيفٍ، فَجَعَلُوا يُقْلِبُونَ الصُّفُوفَ، وَيُقَطِّعُونَ الْأَعْنَاقَ، وَزَادَهُمْ نَشَاطًا وَحِدَّةً أَنْ رَأَوْا رَسُولَ اللهِ ﷺ يَثِبُ فِي الدِّرْعِ وَيَقُولُ فِي حَزْمٍ وَصَرَاحَةٍ: (({سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45]))، فَقَاتَلَ الْمُسْلِمُونَ أَشَدَّ قِتَالٍ، وَنَصَرَهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالْمَلَائِكَةِ.
فِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((بَيْنَمَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَشْتَدُّ فِي إِثْرِ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَمَامَهُ؛ إِذْ سَمِعَ ضَرْبَةً بِالسَّوْطِ فَوْقَهُ، وَصَوْتَ الْفَارِسِ يَقُولُ: أَقْدِمْ حَيْزُومَ، فَنَظَرَ إِلَى الْمُشْرِكِ أَمَامَ فَخَرَّ مُسْتَلْقِيًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ قَدْ خُطِمَ أَنْفُهُ، وَشُقَّ وَجْهُهُ كَضَرْبَةِ السَّوْطِ، فَاخْضَرَّ ذَلِكَ أَجْمَعُ، فَجَاءَ الْأَنْصَارِيُّ فَحَدَّثَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: ((صَدَقْتَ، ذَلِكَ مِنْ مَدَدِ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ)).
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الْمَازِنِيُّ: ((إِنِّي لَأَتْبَعُ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ لِأَضْرِبَهُ؛ إِذْ وَقَعَ رَأْسُهُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ سَيْفِي، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ قَدْ قَتَلَهُ غَيْرِي)).
وَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ بِالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَسِيرًا، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: ((إِنَّ هَذَا -وَاللهِ- مَا أَسَرَنِي، لَقَدْ أَسَرَنِي رَجُلٌ أَجْلَحُ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَجْهًا عَلَى فَرَسٍ أَبْلَقَ، وَمَا أَرَاهُ فِي الْقَوْمِ)).
فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: ((أَنَا أَسَرْتُهُ يَا رَسُولَ اللهِ)).
قَالَ: ((اسْكُتْ؛ فَقَدْ أَيَّدَكَ اللهُ بِمَلَكٍ كَرِيمٍ)).
وَلَمَّا رَأَى إِبْلِيسُ -وَكَانَ قَدْ جَاءَ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكٍ الْمُدْلِجِيَّ، وَلَمْ يَكُنْ فَارَقَهُمْ مُنْذُ ذَلِكَ الْوَقْتِ-، لَمَّا رَأَى مَا يَفْعَلُ الْمَلَائِكَةُ بِالْمُشْرِكِينَ؛ فَرَّ وَنَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَتَشَبَّثَ بِهِ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ وَهُوَ يَظُنُّهُ سُرَاقَةَ، فَوَكَزَ فِي صَدْرِ الْحَارِثِ فَأَلْقَاهُ، ثُمَّ خَرَجَ هَارِبًا مُوَلِّيًا، قَالَ لَهُ الْمُشْرِكُونَ: ((إِلَى أَيْنَ يَا سُرَاقَةُ؟ أَلَمْ تَكُنْ قُلْتَ: إِنَّكَ جَارٌ لَنَا لَا تُفَارِقُنَا؟!!)).
فَقَالَ: ((إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ، إِنِّي أَخَافُ اللهَ، وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ)، حَتَّى فَرَّ مُلْقِيًا نَفْسَهُ فِي الْبَحْرِ.
وَبَدَأَتْ أَمَارَاتُ الْفَشَلِ وَالِاضْطِرَابِ فِي صُفُوفِ الْمُشْرِكِينَ، وَجَعَلَتْ تَتَهَدَّمُ أَمَامَ حَمْلَاتِ الْمُسْلِمِينَ الْعَنِيفَةِ، وَاقْتَرَبَتِ الْمَعْرَكَةُ مِنْ نِهَايَتِهَا، وَأَخَذَتْ جُمُوعُ الْمُشْرِكِينَ فِي الْفِرَارِ وَالِانْسِحَابِ الْمُبَدَّدِ الْمُشَتَّتِ الْمُبَعْثَرِ، وَرَكِبَ الْمُسْلِمُونَ ظُهُورَهُمْ يَأْسِرُونَ وَيَقْتُلُونَ حَتَّى تَمَّتْ عَلَيْهِمُ الْهَزِيمَةُ.
أَمَّا الطَّاغِيَةُ الْأَكْبَرُ أَبُو جَهْلٍ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا رَأَى أَوَّلَ أَمَارَاتِ الِاضْطِرَابِ فِي صُفُوفِهِ؛ حَاوَلَ أَنْ يَصْمُدَ فِي وَجْهِ هَذَا السَّيْلِ، فَجَعَلَ يُشَجِّعُ جَيْشَهُ، وَيَقُولُ لَهُمْ فِي شَرَاسَةٍ وَمُكَابَرَةٍ: ((لَا يَهْزِمَنَّكُمْ خِذْلَانُ سُرَاقَةَ إِيَّاكُمْ؛ فَإِنَّهُ كَانَ عَلَى مِيعَادٍ مِنْ مُحَمَّدٍ، وَلَا يَهُولَنَّكُمْ قَتْلُ عُتْبَةَ وَشَيْبَةَ وَالْوَلِيدِ؛ فَإِنَّهُمْ قَدْ عَجِلُوا؛ فَوَاللَّاتِ وَالْعُزَّى لَا نَرْجِعُ حَتَّى نَقْرِنَهُمْ بِالْحِبَالِ، وَلَأُلْفِيَنَّ رَجُلٌ مِنْكُمْ قَتَلَ مِنْهُمْ رَجُلًا، وَلَكِنْ خُذُوهُمْ أَخْذًا؛ حَتَّى نُعَرِّفَهُمْ سُوءَ صَنِيعِهِمْ)).
وَلَكِنْ سَرْعَانَ مَا تَبَدَّى لَهُ حَقِيقَةُ هَذِهِ الْغَطْرَسَةِ، فَمَا لَبِثَ إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى أَخَذَتِ الصُّفُوفُ تَتَصَدَّعُ أَمَامَ تَيَّارَاتِ هُجُومِ الْمُسْلِمِينَ، نَعَمْ.. بَقِيَ حَوْلَهُ عُصَابَةٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ضَرَبَتْ حَوْلَهُ سِيَاجًا مِنَ السُّيُوفِ، وَغَابَاتٍ مِنَ الرِّمَاحِ؛ وَلَكِنَّ عَاصِفَةَ هُجُومِ الْمُسْلِمِينَ بَدَّدَتْ هَذَا السِّيَاجَ، وَقَلَعَتْ تِلْكَ الْغَابَاتِ؛ وَحِينَئِذٍ ظَهَرَ هَذَا الطَّاغِيَةُ، وَرَآهُ الْمُسْلِمُونَ يَجُولُ عَلَى فَرَسِهِ، وَكَانَ الْمَوْتُ يَنْتَظِرُ أَنْ يَشْرَبَ مِنْ دَمِهِ بِأَيْدِي غُلَامَيْنِ أَنْصَارِيَّيْنِ.
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: ((إِنِّي لَفِي الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ؛ إِذِ الْتَفَتُّ فَإِذَا عَنْ يَمِينِي وَعَنْ يَسَارِي فَتَيَانِ حَدِيثَا السِّنِّ، فَكَأَنِّي لَمْ آمَنْ بِمَكَانِهِمَا؛ إِذْ قَالَ لِي أَحَدُهُمَا سِرًّا مِنْ صَاحِبِهِ: ((يَا عَمُّ! أَرِنِي أَبَا جَهْلٍ)).
فَقُلْتُ: ((يَا ابْنَ أَخِي! فَمَا تَصْنَعُ بِهِ؟)).
قَالَ: ((أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللهِ ﷺ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ رَأَيْتُهُ لَا يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الْأَعْجَلُ مِنَّا)).
فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ، قَالَ: ((وَغَمَزَنِي الْآخَرُ فَقَالَ لِي مِثْلَهَا، فَلَمْ أَنْشِبْ أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ يَجُولُ فِي النَّاسِ، فَقُلْتُ: أَلَا تَرَيَانِ؟!! هَذَا صَاحِبُكُمَا الَّذِي تَسْأَلَانِي عَنْهُ)).
قَالَ: ((فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا، فَضَرَبَاهُ حَتَّى قَتَلَاهُ، ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: ((أَيُّكُمَا قَتَلَهُ؟)).
فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: ((أَنَا قَتَلْتُهُ)).
قَالَ: ((هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟)).
قَالَا: ((لَا)).
فَنَظَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِلَى السَّيْفَيْنِ فَقَالَ: ((كِلَاكُمَا قَتَلَهُ)).
وَقَضَى رَسُولُ اللهِ ﷺ بِسَلَبَهِ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، وَرَجُلَانِ: مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، وَمُعَوِّذُ بْنُ عَفْرَاءَ.
لَمَّا انْتَهَتِ الْمَعْرَكَةُ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ يَنْظُرُ مَا صَنَعَ أَبُو جَهْلٍ؟)).
فَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي طَلَبِهِ، فَوَجَدَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَبِهِ آخِرُ رَمَقٍ، فَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى عُنُقِهِ، وَأَخَذَ لِحْيَتَهُ لِيَحْتَزَّ رَأْسَهُ، وَقَالَ: ((هَلَ أَخْزَاكَ اللهُ يَا عَدُوَّ اللهِ؟)).
قَالَ: ((وَبِمَاذَا أَخْزَانِي؟! أَأَعْمَدُ مِنْ رَجُلٍ قَتَلْتُمُوهُ، أَوْ هَلْ فَوْقَ رَجُلٍ قَتَلْتُمُوهُ؟! وَقَالَ: فَلَوْ غَيْرَ أَكَّارٍ قَتَلَنِي)).
ثُمَّ قَالَ: ((أَخْبِرْنِي لِمَنِ الدَّائِرَةُ الْيَوْمَ؟)).
قَالَ: ((للهِ وَرَسُولِهِ)).
ثُمَّ قَالَ لِابْنِ مَسْعُودٍ -وَكَانَ قَدْ وَضَعَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- رِجْلَهُ عَلَى عُنُقِهِ-: ((لَقَدِ ارْتَقَيْتَ مَرْتَقًى صَعْبًا يَا رُوَيْعِيَ الْغَنَمِ)).
وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ مِنْ رُعَاةِ الْغَنَمِ فِي مَكَّةَ.
بَعْدَ أَنْ دَارَ بَيْنَهُمَا هَذَا الْكَلَامُ احْتَزَّ ابْنُ مَسْعُودٍ رَأْسَهُ، وَجَاءَ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! هَذَا رَأْسُ عَدُوِّ اللهِ أَبِي جَهْلٍ)).
فَقَالَ: ((آللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ))، فَرَدَّدَهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: ((اللهُ أَكْبَرُ، الْحَمْدُ للهِ الَّذِي صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، انْطَلِقْ أَرِنِيهِ))، فَانْطَلَقْنَا فَأَرَيْتُهُ إِيَّاهُ، فَقَالَ: ((هَذَا فِرْعَوْنُ هَذِهِ الْأُمَّةِ)).
بَعْدَ انْتِهَاءِ الْمَعْرَكَةِ مَرَّ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ الْعَبْدَرِيُّ بِأَخِيهِ أَبِي عَزِيزِ بْنِ عُمَيْرٍ الَّذِي خَاضَ الْمَعْرَكَةَ ضِدَّ الْمُسْلِمِينَ، مَرَّ بِهِ وَأَحَدُ الْأَنْصَارِ يَشُدُّ يَدَهُ، فَقَالَ مُصْعَبٌ لِلْأَنْصَارِيِّ: ((شُدَّ يَدَيْكَ بِهِ؛ فَإِنَّ أُمَّهُ ذَاتُ مَتَاعٍ؛ لَعَلَّهَا تَفْدِيهِ مِنْكَ)).
وَقَالَ أَبُو عَزِيزٍ لِأَخِيهِ مُصْعَبٍ: ((أَهَذِهِ وَصَاتُكَ بِي؟!!)).
فَقَالَ مُصْعَبٌ: ((إِنَّهُ -أَيِ: الْأَنْصَارِيَّ- أَخِي دُونَكَ)).
لَمَّا أَمَرَ بِإِلْقَاءِ جِيَفِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْقَلِيبِ، وَأُخِذَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، فَسُحِبَ إِلَى الْقَلِيبِ؛ نَظَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي وَجْهِ ابْنِهِ أَبِي حُذَيْفَةَ، فَإِذَا هُوَ كَئِيبٌ قَدْ تَغَيَّرَ، فَقَالَ: ((يَا أَبَا حُذَيْفَةَ! لَعَلَّكَ قَدْ دَخَلَكَ مِنْ شَأْنِ أَبِيكَ شَيْءٌ؟)).
فَقَالَ: ((لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ! مَا شَكَكْتُ فِي أَبِي وَلَا مَصْرَعِهِ؛ وَلَكِنَّنِي كُنْتُ أَعْرِفُ مِنْ أَبِي رَأْيًا وَحِلْمًا وَفَضْلًا، فَكُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَهْدِيَهِ ذَلِكَ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَلَمَّا رَأَيْتُ مَا أَصَابَهُ، وَذَكَرْتُ مَا مَاتَ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ بَعْدَ الَّذِي كُنْتُ أَرْجُو لَهُ؛ أَحْزَنَنِي ذَلِكَ))، فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِخَيْرٍ، وَقَالَ لَهُ خَيْرًا.
((نِهَايَةُ الْمَعْرَكَةِ وَانْتِصَارُ الْمُسْلِمِينَ))
((انْتَهَتِ الْمَعْرَكَةُ بِهَزِيمَةٍ سَاحِقَةٍ لِلْمُشْرِكِينَ، وَفَتْحٍ مُبِينٍ لِلْمُسْلِمِينَ، وَاسْتُشْهِدَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْمَعْرَكَةِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا؛ سِتَّةٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَثَمَانِيَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ.
وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ؛ فَقَدْ لَحِقَتْهُمْ خَسَائِرُ فَادِحَةٌ، قُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ، وَأُسِرَ سَبْعُونَ، وَعَامَّتُهُمُ الْقَادَةُ وَالزُّعَمَاءُ وَالصَّنَادِيدُ.
وَلَمَّا انْقَضَتِ الْحَرْبُ؛ أَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ حَتَّى وَقَفَ عَلَى الْقَتْلَى، فَقَالَ: ((بِئْسَ الْعَشِيرَةُ كُنْتُمْ لِنَبِيِّكُمْ، كَذَّبْتُمُونِي وَصَدَّقَنِي النَّاسُ، وَخَذَلْتُمُونِي وَنَصَرَنِي النَّاسُ، وَأَخْرَجْتُمُونِي وَآوَانِي النَّاسُ))، ثُمَّ أَمَرَ بِهِمْ فَسُحِبُوا إِلَى قَلِيبٍ مِنْ قُلُبِ بَدْرٍ.
النَّبِيُّ ﷺ أَمَرَ يَوْمَ بَدْرٍ بِأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلًا مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ، فَقُذِفُوا فِي طَوِيٍّ مِنْ أَطْوَاءِ بَدْرٍ خَبِيثٍ مُخْبِثٍ، وَكَانَ إِذَا ظَهَرَ عَلَى قَوْمٍ أَقَامَ بِالْعَرْصَةِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، فَلَمَّا كَانَ بِبَدْرٍ الْيَوْمَ الثَّالِثَ؛ أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَشُدَّ عَلَيْهَا رَحْلُهَا، ثُمَّ مَشَى، وَاتَّبَعَهُ أَصْحَابُهُ، وَقَالُوا: ((مَا نُرَى يَنْطَلِقُ إِلَّا لِبَعْضِ حَاجَتِهِ، حَتَّى قَامَ عَلَى شَفَةِ الرَّكِيِّ، فَجَعَلَ يُنَادِيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ: ((يَا فُلَانُ ابْنَ فُلَانٍ، وَيَا فُلَانُ ابْنَ فُلَانٍ! أَيَسُرُّكُمْ أَنَّكُمْ أَطَعْتُمُ اللهَ وَرَسُولَهُ؛ فَإِنَّا قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا؛ فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟!!)).
فَقَالَ عُمَرُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! مَا تُكَلِّمُ مِنْ أَجْسَادٍ لَا رُوحَ لَهَا!!)).
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ! مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ)).
قَالَ قَتَادَةُ: ((أَحْيَاهُمُ اللهُ حَتَّى أَسْمَعَهُمْ قَوْلَهُ؛ تَوْبِيخًا وَتَصْغِيرًا وَنَقِيمَةً وَحَسْرَةً وَنَدَمًا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ثُمَّ تَحَرَّكَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ بَدْرٍ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ، حَتَّى إِذَا كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِـ(الصَّفْرَاءِ)؛ قُتِلَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، قَتَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِـ(عِرْقِ الظَّبْيَةِ)؛ قُتِلَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ.
فَرَّ الْمُشْرِكُونَ مِنْ سَاحَةِ بَدْرٍ فِي صُورَةٍ غَيْرِ مُنَظَّمَةٍ، تَبَعْثَرُوا فِي الْوِدْيَانِ وَالشِّعَابِ، وَاتَّجَهُوا صَوْبَ مَكَّةَ مَذْعُورِينَ، لَا يَدْرُونَ كَيْفَ يَدْخُلُونَهَا خَجَلًا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ((وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ قَدِمَ بِمُصَابِي قُرَيْشٍ الْحَيْسُمَانُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْخُزَاعِيُّ، فَقَالُوا: مَا وَرَاءَكَ؟
قَالَ: قُتِلَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَأَبُو الْحَكَمِ بْنُ هِشَامٍ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ فِي رِجَالٍ مِنَ الزُّعَمَاءِ سَمَّاهُمْ، فَلَمَّا أَخَذَ يَعُدُّ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ؛ قَالَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ وَهُوَ قَاعِدٌ فِي الْحِجْرِ: وَاللهِ! إِنْ يُعْقَلْ هَذَا فَاسْأَلُوهُ عَنِّي.
قَالُوا: مَا فَعَلَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ؟
قَالَ: هَا هُوَ ذَا جَالِسٌ فِي الْحِجْرِ، وَقَدْ -وَاللهِ- رَأَيْتُ أَبَاهُ وَأَخَاهُ حِينَ قُتِلَا)).
قَالَ أَبُو رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((كُنْتُ غُلَامًا لِلْعَبَّاسِ، وَكَانَ الْإِسْلَامُ قَدْ دَخَلَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ، فَأَسْلَمَ الْعَبَّاسُ، وَأَسْلَمَتْ أُمُّ الْفَضْلِ، وَكَانَ الْعَبَّاسُ يَكْتُمُ إِسْلَامَهُ، وَكَانَ أَبُو لَهَبٍ قَدْ تَخَلَّفَ عَنْ بَدْرٍ، فَلَمَّا جَاءَهُ الْخَبَرُ كَبَتَهُ اللهُ وَأَخْزَاهُ، وَوَجَدْنَا فِي أَنْفُسِنَا قُوَّةً وَعِزًّا، وَكُنْتُ رَجُلًا ضَعِيفًا أَعْمَلُ الْأَقْدَاحَ أَنْحِتُهَا فِي حُجْرَةِ زَمْزَمَ، فَوَاللهِ! إِنِّي لَجَالِسٌ فِيهَا أَنْحِتُ أَقْدَاحِي وَعِنْدِي أُمُّ الْفَضْلِ جَالِسَةً وَقَدْ سَرَّنَا مَا جَاءَنَا مِنَ الْخَبَرِ؛ إِذْ أَقْبَلَ أَبُو لَهَبٍ يَجُرُّ رِجْلَيْهِ بِشَرٍّ حَتَّى جَلَسَ عَلَى طُنُبِ الْحُجْرَةِ، فَكَانَ ظَهْرُهُ إِلَى ظَهْرِي، فَبَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ؛ إِذْ قَالَ النَّاسُ: هَذَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَدْ قَدِمَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو لَهَبٍ: هَلُمَّ إِلَيَّ فَعِنْدَكَ لَعَمْرِي الْخَبَرُ.
قَالَ: فَجَلَسَ إِلَيْهِ وَالنَّاسُ قِيَامٌ عَلَيْهِ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي! أَخْبِرْنِي كَيْفَ كَانَ أَمْرُ النَّاسِ؟
قَالَ: مَا هُوَ إِلَّا أَنْ لَقِينَا الْقَوْمَ فَمَنَحْنَاهُمْ أَكْتَافَنَا، يَقْتُلُونَنَا كَيْفَ شَاءُوا، وَيَأْسِرُونَنَا كَيْفَ شَاءُوا، وَايْمُ اللهِ! مَعَ ذَلِكَ مَا لُمْتُ النَّاسَ، لَقِيَنَا رِجَالٌ بِيضٌ عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَاللهِ! مَا تُلِيقُ شَيْئًا وَلَا يَقُومُ لَهَا شَيْءٌ.
قَالَ أَبُو رَافِعٍ: فَرَفَعْتُ طُنُبَ الْحُجْرَةِ بِيَدِي، ثُمَّ قُلْتُ: تِلْكَ -وَاللهِ- الْمَلَائِكَةُ.
قَالَ: فَرَفَعَ أَبُو لَهَبٍ يَدَهُ فَضَرَبَ بِهَا وَجْهِي ضَرْبَةً شَدِيدَةً فَثَاوَرْتُهُ، فَاحْتَمَلَنِي فَضَرَبَ بِيَ الْأَرْضَ، ثُمَّ بَرَكَ عَلَيَّ يَضْرِبُنِي وَكُنْتُ رَجُلًا ضَعِيفًا، فَقَامَتْ أُمُّ الْفَضْلِ إِلَى عَمُودٍ مِنْ عُمُدِ الْحُجْرَةِ، فَأَخَذَتْهُ فَضَرَبَتْهُ بِهِ ضَرْبَةً فَلَعَتْ فِي رَأْسِهِ شَجَّةً مُنْكَرَةً، وَقَالَتْ: اسْتَضْعَفْتَهُ أَنْ غَابَ عَنْهُ سَيِّدُهُ، فَقَامَ مُوَلِّيًا ذَلِيلًا؛ فَوَاللهِ! مَا عَاشَ إِلَّا سَبْعَ لَيَالٍ حَتَّى رَمَاهُ اللهُ بِالْعَدَسَةِ فَقَتَلَتْهُ -وَهِيَ قَرْحَةٌ تَتَشَاءَمُ بِهَا الْعَرَبُ-، فَتَرَكَهُ بَنُوهُ، وَبَقِيَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا تُقْرَبُ جَنَازَتُهُ، وَلَا يُحَاوَلُ دَفْنُهُ، فَلَمَّا خَافُوا السُّبَّةَ فِي تَرْكِهِ؛ حَفَرُوا لَهُ، ثُمَّ دَفَعُوهُ بِعُودٍ فِي حُفْرَتِهِ، وَقَذَفُوهُ بِالْحِجَارَةِ مِنْ بَعِيدٍ حَتَّى وَارَوْهُ)) )). فِي إِسْنَادِ ابْنِ إِسْحَاقَ حُسْيَنُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ.
هَكَذَا تَلَّقَتْ مَكَّةُ أَنْبَاءَ الْهَزِيمَةِ السَّاحِقَةِ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَقَدْ أَثَّرَ ذَلِكَ فِيهِمْ أَثَرًا سَيِّئًا جِدًّا؛ حَتَّى مَنَعُوا النِّيَاحَةَ عَلَى الْقَتْلَى؛ لِئَلَّا يَشْمَتَ بِهِمُ الْمُسْلِمُونَ.
((وَكَانَ الْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ أُصِيبَ ثَلَاثَةٌ مِنْ أَبْنَائِهِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يَبْكِيَ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ ضَرِيرًا، فَسَمِعَ لَيْلًا صَوْتَ نَائِحَةٍ، فَبَعَثَ غُلَامَهُ فَقَالَ: انْظُرْ هَلْ أُحِلَّ النَّحْبُ؟ هَلْ بَكَتْ قُرَيْشٌ عَلَى قَتْلَاهَا؟ لَعَلِّي أَبْكِي عَلَى أَبِي حَكِيمَةَ -ابْنِهِ-؛ فَإِنَّ جَوْفِي قَدِ احْتَرَقَ.
فَرَجَعَ الْغُلَامُ وَقَالَ: إِنَّمَا هِيَ امْرَأَةٌ تَبْكِي عَلَى بَعِيرٍ لَهَا أَضَلَّتْهُ، فَلَمْ يَتَمَالَكِ الْأَسْوَدُ نَفْسَهُ وَقَالَ:
أَتَبْكِي أَنْ يَضِلَّ لَهَا بَعِيرٌ = وَيَمْنَعُهَا مِنَ النَّوْمِ السُّهُودُ
فَلَا تَبْكِي عَلَى بَكْرٍ وَلَكِنْ = عَلَى بَدْرٍ تَقَاصَرَتِ الْجُدُودُ)).
لَمَّا تَمَّ الْفَتْحُ أَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بَشِيرَيْنِ إِلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ؛ لِيُعَجِّلَ لَهُمُ الْبُشْرَى، أَرْسَلَ عَبْدَ اللهِ بْنَ رَوَاحَةَ بَشِيرًا إِلَى أَهْلِ الْعَالِيَةِ، وَأَرْسَلَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ إِلَى أَهْلِ السَّافِلَةِ، وَكَانَ الْيَهُودُ وَالْمُنَافِقُونَ قَدْ أَرْجَفُوا فِي الْمَدِينَةِ بِإِشَاعَةِ الدِّعَايَاتِ الْكَاذِبَةِ؛ حَتَّى إِنَّهُمْ أَشَاعُوا خَبَرَ مَقْتَلِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَلَمَّا رَأَى أَحَدُ الْمُنَافِقِينَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ رَاكِبًا الْقَصْوَاءَ نَاقَةَ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ قَالَ: ((لَقَدْ قُتِلَ مُحَمَّدٌ، وَهَذِهِ نَاقَتُهُ نَعْرِفُهَا، وَهَذَا زَيْدٌ لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ مِنَ الرُّعْبِ، وَجَاءَ فَلًّا)).
فَلَمَّا بَلَغَ الرَّسُولَانِ؛ أَحَاطَ بِهِمَا الْمُسْلِمُونَ، وَأَخَذُوا يَسْمَعُونَ مِنْهُمَا الْخَبَرَ حَتَّى تَأَكَّدَ لَدَيْهِمْ فَتْحُ الْمُسْلِمِينَ، فَعَمَّتِ الْبَهْجَةُ وَالسُّرُورُ، وَاهْتَزَّتْ أَرْجَاءُ الْمَدِينَةِ تَهْلِيلًا وَتَكْبِيرًا، وَتَقَدَّمَ رُؤُوسُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانُوا بِالْمَدِينَةِ إِلَى طَرِيقِ بَدْرٍ؛ لِيُهَنِّئُوا رَسُولَ اللهِ ﷺ بِهَذَا الْفَتْحِ الْمُبِينِ)).
النَّبِيُّ ﷺ فَادَى أَسْرَى بَدْرٍ وَعَاتَبَهُ رَبُّهُ؛ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّهَا قَالَتْ: ((لَمَّا بَعَثَ أَهْلُ مَكَّةَ فِي فِدَاءِ أَسْرَاهُمْ؛ بَعَثَتْ زَيْنَبُ فِي فِدَاءِ أَبِي الْعَاصِ بِمَالٍ، وَبَعَثَتْ فِيهِ بِقِلَادَةٍ لَهَا كَانَتْ عِنْدَ خَدِيجَةَ أَدْخَلَتْهَا بِهَا عَلَى أَبِي الْعَاصِ، قَالَتْ: فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللهِ -أَيْ: لَمَّا رَأَى الْقِلَادَةَ قِلَادَةَ خَدِيجَةَ-؛ رَقَّ لَهَا رِقَّةً شَدِيدَةً، وَقَالَ: ((إِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقُوا لَهَا أَسِيرَهَا وَتَرُدُّوا عَلَيْهَا الَّذِي لَهَا)).
قَالُوا: ((نَعَمْ)).
وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَخَذَ عَلَيْهِ أَوْ وَعَدَهُ أَنْ يُخَلِّيَ سَبِيلَ زَيْنَبَ إِلَيْهِ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.
فَتَأَمَّلْ فِي حَالِ نَبِيِّكَ، فِي الْمَعْرَكَةِ.. فِي وَسَطِ هَذَا الْهَوْلِ الْهَائِلِ.. فِي وَسَطِ هَذَا الْخِضَمِّ الْمُتَلَاطِمِ تَنْبَعِثُ دَوَاعِي الْمَحَبَّةِ.. لِمَنْ؟!!
لِخَدِيجَةَ، وَقَدْ هَلَكَتْ فِي الدَّهْرِ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-؛ لَكِنْ مَا زَالَتْ لَهَا فِي الْقَلْبِ بَقَايَا، وَإِنَّ لَهَا فِي النَّفْسِ لَزَوَايَا مَعْمُورَةً بِالْمَحَبَّةِ، مُؤَهَّلَةً مُؤَصَّلَةً عَلَى الْمَوَدَّةِ، فَلَمَّا رَأَى الْقِلَادَةَ قِلَادَةَ خَدِيجَةَ؛ رَقَّ لَهَا رِقَّةً شَدِيدَةً ﷺ.
مُحِبٌّ عِنْدَمَا يَنْبَغِي الْحُبُّ = وَلَيْثٌ عَارِمٌ عِنْدَمَا تَحْتَدِمُ الْحَرْبُ
هُوَ رَسُولُ اللهِ ﷺ.
((نَتَائِجُ مَعْرَكَةِ بَدْرٍ الْكُبْرَى))
((لَقَدِ انْتَهَتْ مَعْرَكَةُ بَدْرٍ تِلْكَ النِّهَايَةَ الَّتِي غَيَّرَتْ مَوَازِينَ الْقُوَى الرُّوحِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَالْعَسْكَرِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ فِي الْجَزِيرَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَقَفَزَتْ بِسُمْعَةِ الْمُسْلِمِينَ الْعَسْكَرِيَّةِ إِلَى الذِّرْوَةِ، وَجَعَلَتْهُمْ سَادَةَ الْمَوْقِفِ؛ وَخَاصَّةً فِي مَنْطِقَةِ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ.
كَمَا تَدَهْوَرَتْ بِسَبَبِهَا مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى سُمْعَةُ قُرَيْشٍ الْعَسْكَرِيَّةُ وَالسِّيَاسِيَّةُ فِي أَنْحَاءِ الْجَزِيرَةِ.
وَممَّا لَا جِدَالَ فِيهِ أَنَّ مَعْرَكَةَ بَدْرٍ مَعْرَكَةٌ عَفَوِيَّةٌ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ أَصْلًا مِنْ جَانِبِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا أُجْبِرُوا عَلَى خَوْضِهَا دُونَمَا سَابِقِ اسْتِعْدَادٍ أَوْ قَصْدٍ مُبَيَّتٍ؛ فَهُمْ عِنْدَمَا خَرَجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ كَانَ قَصْدُهُمُ الْعِيرَ، وَهِيَ قَافِلَةٌ لِلْعَدُوِّ آتِيَةٌ مِنَ الشَّامِ إِلَى مَكَّةَ، لَمْ يَزِدْ حَرَسُهَا عَلَى أَرْبَعِينَ مُقَاتِلًا، وَهُوَ أَمْرٌ لَا يَسْتَحِقُّ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ أَكْثَرَ مِمَّا اسْتَعَدَّ بِهِ جَيْشُ الْمَدِينَةِ عِنْدَمَا غَادَرَهَا؛ لِلِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْقَافِلَةِ!
وَلَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ وَخَاصَّةً الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ هَاجَرُوا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ صِفْرُ الْيَدَيْنِ بَعْدَ أَنْ صَادَرَ مُشْرِكُو مَكَّةَ كُلَّ أَمْوَالِهِمْ؛ كَانَ الْمُسْلِمُونَ حَرِيصِينَ كُلَّ الْحِرْصِ عَلَى الِاسْتِيلَاءِ عَلَى تِلْكَ الْقَافِلَةِ الضَّخْمَةِ الَّتِي تَتَأَلَّفُ مِنْ أَلْفِ بَعِيرٍ مُحَمَّلَةٍ بِمُخْتَلِفِ السِّلَعِ وَالْأَرْزَاقِ.
وَكَانَ الصَّحَابَةُ يَوْمَهَا فِي ضِيقٍ مِنَ الْعَيْشِ، يَدُلُّ عَلَى هَذَا: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا فَاتَتْهُ الْعِيرُ، وَانْتَهَى إِلَى بَدْرٍ قَالَ: ((اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ جِيَاعٌ فَأَشْبِعْهُمْ، اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ حُفَاةٌ فَاحْمِلْهُمْ، اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ عُرَاةٌ فَاكْسُهُمْ)).
فَقَدْ كَانُوا يُرِيدُونَ الْعِيرَ؛ وَلَكِنَّ اللهَ أَرَادَ غَيْرَ الَّذِي أَرَادُوا؛ حَيْثُ وَجَدُوا أَنْفُسَهُمْ بَدَلًا مِنَ الْعِيرِ وَمَا تَحْمِلُهُ مِنْ أَرْزَاقٍ وَأَمْوَالٍ يَحْلُمُونَ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا.. وَجَدُوا أَنْفُسَهُمْ أَمَامَ جَيْشٍ لَجِبٍ عَرَمْرَمٍ لَا يَحْمِلُ تِجَارَةً وَلَا أَرْزَاقًا، وَإِنَّمَا يَحْمِلُ أَلْفَ سَيْفٍ يَجُرُّهَا أَلْفُ مُقَاتِلٍ مِنْ صَفْوَةِ شَبَابِ مَكَّةَ وَأَمْهَرِ قَادَتِهَا؛ بَحْثًا عَنِ الْمَوْتِ.
فَأُجْبِرُوا عَلَى خَوْضِ مَعْرَكَةٍ يَفُوقُهُمْ فِيهَا الْعَدُوُّ عَدَدًا وَعُدَّةً أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً! وَهَذَا هُوَ الَّذِي عَنَاهُ اللهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} [الأنفال : 7])).
((لَقَدْ كَانَتْ غَزْوَةُ بَدْرٍ مَعْرَكَةً مِنْ مَعَارِكِ الْعَقِيدَةِ الَّتِي فَرَّقَ اللهُ فِيهَا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنفال : 41].
وَانْتِصَارُ الْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ سُنَّةٌ جَارِيَةٌ، وَوَعْدٌ دَائِمٌ لَا يَتَخَلَّفُ إِلَّا إِذَا أَخْلَفَ النَّاسُ؛ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد : 11].
إِنَّ الِانْتِصَارَ فِي مَعَارِكِ الْعَقِيدَةِ لَا تَحْكُمُهُ الْحِسَابَاتُ الْمَادِّيَّةُ وَحْدَهَا، بَلْ يَخْضَعُ لِتَطْبِيقِ الْمُسْلِمِينَ لِشُرُوطِ النَّصْرِ الْوَارِدَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ مِنْ إِقَامَةِ الدِّينِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ، وَلُزُومِ الطَّاعَةِ، وَالِاجْتِمَاعِ وَعَدَمِ الْفُرْقَةِ، وَالْإِعْدَادِ بِمَا يُسْتَطَاعُ مِنَ الْقُوَّةِ.
قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال : 45-46].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [الأنفال : 60].
وَلِذَلِكَ ظَهَرَتْ عَقِيدَةُ الْوَلَاءِ وَالْبَرَاءِ بِأَوْضَحِ صُوَرِهَا فِي مَعْرَكَةِ بَدْرٍ؛ حَيْثُ تَقَاتَلَ أَبْنَاءُ الْقَبِيلَةِ الْوَاحِدَةِ وَالْأُسْرَةِ الْوَاحِدَةِ؛ بَلِ الْإِخْوَةُ وَالْآبَاءُ وَالْأَبْنَاءُ بِأَسْيَافِهِمْ؛ لِأَنَّ قِيَمَ الْإِيمَانِ جَعَلَتْ وَلَاءَهُمْ للهِ تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ ﷺ، وَأَصْبَحَتْ رَابِطَةُ الْعَقِيدَةِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ تَعْلُو فَوْقَ كُلِّ الرَّوَابِطِ الْأُخْرَى.
فَهِيَ لَيْسَتْ مَعْرَكَةً اقْتِصَادِيَّةً عَلَى مَصالِحَ مَادِّيَّةٍ وَلَا مَعْرَكَةً قَوْمِيَّةً، وَإِنَّمَا كَانَتْ مَعْرَكَةَ عَقِيدَةٍ، وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى الَّذِينَ يُفَسِّرُونَ تَارِيخَ الْمُسْلِمِينَ تَفْسِيرًا قَوْمِيًّا وَاقْتِصَادِيًّا)).
((وَهَكَذَا انْتَهَتْ مَعْرَكَةُ بَدْرٍ بِهَذَا الِانْتِصَارِ الْحَاسِمِ لِلْمُسْلِمِينَ الَّذِي تَدَهْوَرَتْ لَهُ سُمْعَةُ قُرَيْشٍ الْعَسْكَرِيَّةُ وَالسِّيَاسِيَّةُ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ.
لَقَدْ وَجَدَ النَّبِيُّ ﷺ وَصَحْبُهُ أَنْفُسَهُمْ بَعْدَ انْتِصَارِهِمْ فِي بَدْرٍ وَسَطَ دَائِرَةٍ مِنَ الْأَخْطَارِ تُحِيطُ بِهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ؛ فَهُمْ وَإِنْ كَانَ انْتِصَارُهُمْ فِي بَدْرٍ قَدْ عَزَّزَ مَرْكَزَهُمْ فِي الْمَدِينَةِ أَكْثَرَ مِنْ أَيِّ وَقْتٍ مَضَى؛ حَيْثُ أَصْبَحَتْ وَمَا حَوَالَيْهَا خَاضِعَةً لِنُفُوذِهِمْ إِلَّا أَنَّهُمْ أَصْبَحُوا أَكْثَرَ مِنْ ذِي قَبْلُ عُرْضَةً لِشَتَّى الدَّسَائِسِ، وَالْمُؤَامَرَاتِ، وَالِاسْتِفْزَازَاتِ، وَالتَّحَرُّشَاتِ الْعَلَنِيَّةِ مِنَ الْوَثَنِيِّينَ وَالْيَهُودِ الَّذِينَ أَدْرَكُوا بَعْدَ مَعْرَكَةِ بَدْرٍ أَنَّهُمْ أَمَامَ قُوَّةٍ خَطِيرَةٍ تُهَدِّدُ نُفُوذَهُمْ، وَتُزَعْزِعُ سُلْطَانَهُمْ)) .
لَقَدْ كَانَ النَّصْرُ الْأَكْبَرُ الَّذِي نَالَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي بَدْرٍ نِهَايَةً لِأَحْدَاثٍ طَوِيلَةٍ دَامِيَةٍ مَرِيرَةٍ، وَفِيهِ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال :12- 13].
لَقَدْ كَانَتْ غَزْوَةُ بَدْرٍ الْكُبْرَى حَدَثَ الْأَحْدَاثِ فِي تَارِيخِ الْعَالَمِ الْقَدِيمِ؛ فَقَدْ أَنْهَتْ نَظَرِيَّةَ سِيَادَةِ قُرَيْشٍ عَلَى الْجَزِيرَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَأُسْطُورَةَ أَنَّهَا لَا تُغْلَبُ، وَأَنْهَتْ كَذَلِكَ -مَعْرَكَةُ بَدْرٍ الْكُبْرَى- عَهْدًا مِنَ الِاضْطِهَادِ الْوَثَنِيِّ لِلرِّسَالَاتِ السَّمَاوِيَّةِ وَأَتْبَاعِهَا، وَوَضَعَتْ نِهَايَةً لِأَفْكَارِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي الْحَجْرِ عَلَى مَا يُخَالِفُ الْوَثَنِيَّةَ، وَقَرَّرَتْ حَقِيقَةً جَدِيدَةً؛ وَهِيَ أَنَّ الْجَزِيرَةَ الْعَرَبِيَّةَ قَدْ أَصْبَحَ لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ فِيهَا مَكَانٌ رُوحِيٌّ وَسِيَاسِيٌّ كَبِيرٌ لَا يُمْكِنُ تَجَاهُلُهُ.
وَجَعَلَتْ كَذَلِكَ مَعْرَكَةُ بَدْرٍ قُرَيْشًا تُفَكِّرُ أَلْفَ مَرَّةٍ وَمَرَّةً فِي مَصِيرِ قَوَافِلِهَا التِّجَارِيَّةِ الذَّاهِبَةِ إِلَى الشَّامِ؛ حَتَّى إِنَّهَا غَيَّرَتْ طَرِيقَ هَذِهِ الْقَوَافِلِ، فَصَارَتْ تَمُرُّ بِطَرِيقٍ طَوِيلٍ فِي قَلْبِ نَجْدٍ؛ حَتَّى تَسْتَطِيعَ الذَّهَابَ لِلشَّامِ، وَالْإِفْلَاتَ مِنْ قَبْضَةِ الْمُسْلِمِينَ.
وَفِي هَذِهِ الْمَعْرَكَةِ هُزِمَتْ قُرَيْشٌ شَرَّ هَزِيمَةٍ؛ قُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ، وَأُسِرَ سَبْعُونَ، وَهَرَبَ وَفُقِدَ الْبَاقُونَ!
وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ؛ فَقَدِ اسْتُشْهِدَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ مُجَاهِدًا: سِتَّةٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَثَمَانِيَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَبَعْدَ اْلمَعْرَكَةِ بَرَزَتْ بَيْنَ الْقُوَى السِّيَاسِيَّةِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي الْمَنْطِقَةِ دَوْلَةٌ إِسْلَامِيَّةٌ قَوِيَّةٌ، هِيَ دَوْلَةُ الْإِسْلَامِ فِي الْمَدِينَةِ وَمَا حَوَالَيْهَا.
((لَقَدْ كَانَتْ مَوْقِعَةُ بَدْرٍ رَغْمَ صِغَرِ حَجْمِهَا فَاصِلَةً فِي تَارِيخِ الْإِسْلَامِ؛ لِذَلِكَ سَمَّاهَا اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ بِيَوْمِ الْفُرْقَانِ؛ لِأَنَّهُ فَرَقَ بِهَا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَفِيهَا حَقَّقَتِ الْعَقِيدَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ انْتِصَارَاتٍ كَبِيرَةً؛ فَقَدْ ظَهَرَ اسْتِعْلَاؤُهَا عَلَى سَائِرِ الْمَصَالِحِ وَالْمَطَامِحِ وَالْعَلَائِقِ الدُّنْيَوِيَّةِ.
فَهَا هُمُ الْأَنْصَارُ يُعْلِنُونَ قَبْلَ بَدْئِهَا أَنَّ الْتِزَامَاتِهِمْ تِجَاهَ الْعَقِيدَةِ لَا تَحُدُّهَا اللَّوَائِحُ وَالْعُهُودُ الَّتِي قَطَعُوهَا فِي بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ، بَلْ هُمْ جُنْدٌ مُطِيعُونَ وَمُضَحُّونَ مِنْ أَجْلِ عَقِيدَتِهِمْ دُونَ شَرْطٍ وَلَا قَيْدٍ.
وَهَا هُمُ الْمُهَاجِرُونَ يُوَاجِهُونَ أَقَارِبَهُمْ فِي الْمَعْرَكَةِ؛ فَالِابْنُ يَلْقَى أَبَاهُ، وَالْأَخُ يَلْقَى أَخَاهُ، فَلَا تَمْنَعُهُمْ أَوَاصِرُ الْقُرْبَى مِنْ قَتْلِهِمْ؛ لِأَنَّ مَصْلَحَةَ الْعَقِيدَةِ فَوْقَ كُلِّ آصِرَةٍ وَارْتِبَاطٍ.
وَقَدِ اسْتَحَقَّ الْمُقَاتِلُونَ بِبَدْرٍ أَنْ يَنَالُوا التَّقْدِيرَ الْكَبِيرَ الَّذِي صَارَ يُلَازِمُ كَلِمَةَ الْبَدْرِيِّ حَتَّى كَوَّنُوا الطَّبَقَةَ الْأُولَى مِنَ الصَّحَابَةِ فِي سِجِلِّ الْجُنْدِ لِعُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَكَانُوا يَأْخُذُونَ أَعْلَى الْعَطَاءِ، وَاحْتَلُّوا الصَّفَحَاتِ الْأُولَى مِنْ كُتُبِ الطَّبَقَاتِ، وَهَكَذَا نَالَهُمُ التَّكْرِيمُ الْأَدَبِيُّ وَالْمَادِّيُّ عَلَى مَرِّ الدُّهُورِ.
وَقَدْ أَوْضَحَتِ الْأَحَادِيثُ الثَّابِتَةُ الصَّحِيحَةُ فَضْلَ الْبَدْرِيِّينَ، وَعُلُوَّ مَقَامِهِمْ فِي الْجَنَّةِ؛ فَقَدْ أُصِيبَ حَارِثَةُ بْنُ سُرَاقَةَ الْأَنْصَارِيُّ يَوْمَ بَدْرٍ وَهُوَ غُلَامٌ، فَجَاءَتْ أُمُّهُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ! قَدْ عَرَفْتَ مَنْزِلَةَ حَارِثَةَ مِنِّي، فَإِنْ يَكُنْ فِي الْجَنَّةِ أَصْبِرْ وَأَحْتَسِبْ، وَإِنْ تَكُنِ الْأُخْرَى تَرَ مَا أَصْنَعُ!
فَقَالَ: ((وَيْحَكِ! أَوَ هُبِلْتِ! أَوَ جَنَّةٌ وَاحِدَةٌ هِيَ؟! إِنَّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ، وَإِنَّهُ لَفِي جَنَّةِ الفِرْدَوْسِ)).
وَفِي قِصَّةِ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ الَّذِي أَخْبَرَ قُرَيْشًا -أَوْ أَرَادَ- بِخَبَرِ قُدُومِ الْمُسْلِمِينَ لِفَتْحِ مَكَّةَ، فَعَفَا عَنْهُ الرَّسُولُ ﷺ، وَقَالَ: ((لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُمُ الْجَنَّةُ، أَوْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ)).
وَلَمَّا قَالَ عَبْدٌ لِحَاطِبٍ: يَا رَسُولَ اللهِ! لَيَدْخُلَنَّ حَاطِبٌ النَّارَ؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((كَذَبْتَ، لَا يَدْخُلُهَا)) أَيْ: لَا يَدْخُلُهَا حَاطِبٌ؛ ((فَإِنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ)).
وَكَانَتْ أَصْدَاءُ بَدْرٍ عَمِيقَةً فِي الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَأَرْجَاءِ الْجَزِيرَةِ الْعَرَبِيَّةِ؛ فَقَدِ اسْتَعْلَى الْمُؤْمِنُونَ فِي الْمَدِينَةِ عَلَى الْيَهُودِ وَبَقَايَا الْمُشْرِكِينَ، فَانْخَذَلَ الْيَهُودُ، وَظَهَرَتْ أَحْقَادُهُمُ الَّتِي دَفَعَتْ بِهِمْ إِلَى الْمُجَاهَرَةِ بِالْعَدَاءِ، فَقَدْ غَاظَتْهُمُ النَّتِيجَةُ الَّتِي مَا كَانُوا يَتَوَقَّعُونَهَا، فَلَمْ يَعُودُوا يُسَيْطِرُونَ عَلَى أَفْعَالِهِمْ وَلَا أَقْوَالِهِمُ الَّتِي تَنِمُّ عَنِ الْغَضَبِ وَالْحِقْدِ الْمُتَأَجِّجَيْنِ، فَانْدَفَعُوا نَحْوَ الْعُدْوَانِ مِمَّا أَدَّى إِلَى إِجْلَاءِ بَنِي قَيْنُقَاعٍ عَنِ الْمَدِينَةِ.
وَدَخَلَ الْكَثِيرُونَ فِي الْإِسْلَامِ، وَبَعْضُهُمْ دَخَلَ حِمَايَةً لِمَصَالِحِهِ بَعْدَ أَنْ شَعَرَ بِرُجْحَانِ كِفَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَكَوَّنَ هَؤُلَاءِ جَبْهَةَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ وَأَبْطَنُوا الْكُفْرَ، وَعَلَى رَأْسِهِمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ.
وَأَمَّا قُرَيْشٌ فِي مَكَّةَ فَلَمْ تَكَدْ تُصَدِّقُ مَا حَدَثَ، فَقَدْ قُتِلَ سَادَتُهَا وَأَبْطَالُهَا، وَتُشِيرُ رِوَايَةٌ مُرْسَلَةٌ إِلَى أَنَّهَا تَجَلَّدَتْ فَمَنَعَتِ الْبُكَاءَ وَالنِّيَاحَةَ عَلَى قَتْلَاهَا؛ لِئَلَّا يَشْمَتَ بِهِمُ الْمُسْلِمُونَ، وَصَمَّمَتْ عَلَى الِانْتِقَامِ وَالثَّأْرِ، فَأَرَسْلَتْ عُمَيْرَ بْنَ وَهْبٍ الْجُمَحِيَّ لِاغْتِيَالِ النَّبِيِّ ﷺ بَعْدَ أَنْ وَعَدَهُ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ بِإِعَالَةِ أَهْلِهِ إِنْ قُتِلَ.
فَمَضَى إِلَى الْمَدِينَةِ مُتَوَشِّحًا سَيْفَهُ، فَلَمَّا بَلَغَ الْمَسْجِدَ أَمْسَكَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَذَهَبَ بِهِ إِلَى الرَّسُولِ ﷺ فَسَأَلَهُ عَمَّا جَاءَ بِهِ، فَكَذَبَ عَلَيْهِ وَزَعَمَ أَنَّهُ جَاءَ فِي طَلَبِ أَسِيرٍ، وَكَانَ ابْنُهُ أَسِيرًا مِنْ أُسَارَى بَدْرٍ؛ فَأَخْبَرَهُ الرَّسُولُ ﷺ بِمَقْصِدِهِ وَمَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، فَأَعْلَنَ عُمَيْرٌ إِسْلَامَهُ، وَطَلَبَ أَنْ يَأْذَنَ النَّبِيُّ لَهُ ﷺ بِدَعْوَةِ أَهْلِ مَكَّةَ إِلَى الْإِسْلَامِ.
وَمِمَّا فَعَلَتْهُ قُرَيْشٌ لِلثَّأْرِ لِقَتْلَاهَا أَنَّهَا اشْتَرَتِ اثْنَيْنِ مِنْ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ فِي حَادِثَةِ الَّرجِيعِ، وَهُمَا خَبِيبٌ وَزَيْدٌ فَقَتَلَتْهُمَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا وَعَنْ جَمِيعِ أَصْحَابِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ )).
وَيُمْكِنُ تَلْخِيصُ نَتَائِجِ مَوْقَعِةِ بَدْرٍ بِمَا يَلِي:
أَوَّلًا: هَدَّدَتْ طَرِيقَ أَهْلِ مَكَّةَ مَع بِلَادِ الشَّامِ؛ وَالتِّجَارَةُ عَصَبُ حَيَاةِ قُرَيْشٍ.
ثَانِيًا: أَضْعَفَتْ هَيْبَةَ قُرَيْشٍ وَمَكَانَتَهَا بَيْنَ الْعَرَبِ.
ثَالِثًا: عَزَّزَتْ مَكَانَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَرَفَعَتْ مِنْ شَأْنِ نَوَاةِ دَوْلَتِهِمُ الْفَتِيَّةِ فِي الْمَدِينَةِ.
رَابِعًا: أَفْسَحَتِ الْمَجَالَ أَمَامَ نَشْرِ الْإِسْلَامِ بَيْنَ الْقَبَائِلِ بَعْدَ سَمَاعِهِمْ بِهَزِيمَةِ قُرَيْشٍ.
خَامِسًا: زَادَتِ التَّضَامُنَ وَالتَّمَاسُكَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَقَوَّتْهُمَا.
سَادِسًا: كَانَتْ مُنَاسَبَةً لِتَشْرِيعِ خُمْسِ الْغَنَائِمِ لِبَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَدْ نَزَلَتِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَاتُ بِهَذَا التَّشْرِيعِ بَعْدَ بَدْرٍ مُبَاشَرَةً، فَكَانَ الْخُمْسُ تَدْعِيمًا لِمِيزَانِيَّةِ الدَّوْلَةِ الْمُسْلِمَةِ، وَظَلَّ أَكْبَرَ مَصْدَرٍ لِبَيْتِ الْمَالِ حَتَّى نِهَايَةِ الْفُتُوحَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ.
((كَانَ مِنْ نَتَائِجِ غَزْوَةِ بَدْرٍ أَنْ قَوِيَتْ شَوْكَةُ الْمُسْلِمِينَ، وَأَصْبَحُوا مَرْهُوبِينَ فِي الْمَدِينَةِ وَمَا جَاوَرَهَا، وَأَصْبَحَ عَلَى مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَغْزُوَ الْمَدِينَةَ أَوْ يَنَالَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُفَكِّرَ وَيُفَكِّرَ قَبْلَ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى فَعْلَتِهِ)).
وَتَعَزَّزَتْ مَكَانَةُ الرَّسُولِ ﷺ فِي الْمَدِينَةِ، وَارْتَفَعَ نَجْمُ الْإِسْلَامِ فِيهَا، وَلَمْ يَعُدِ الْمُتَشَكِّكُونَ بِالدَّعْوَةِ الْجَدِيدَةِ وَالْمُشْرِكُونَ فِي الْمَدِينَةِ يَتَجَرَّؤُونَ عَلَى إِظْهَارِ كُفْرِهِمْ وَعَدَاوَتِهِمْ لِلْإِسْلَامِ؛ لِذَا ظَهَرَ النِّفَاقُ وَالْمَكْرُ وَالْخِدَاعُ، فَأَعْلَنَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ إِسْلَامَهُمْ ظَاهِرًا أَمَامَ النَّبِيِّ ﷺ وَأَصْحَابِهِ، فَدَخَلُوا فِي عِدَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَبْقَوْا عَلَى الْكُفْرِ بَاطِنًا، فَظَلُّوا فِي عِدَادِ الْكُفَّارِ، لَا هُمْ مُسْلِمُونَ مُخْلِصُونَ فِي إِسْلَامِهِمْ، وَلَا هُمْ كَافِرُونَ ظَاهِرُونَ بِكُفْرِهِمْ وَعَدَاوَتِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ.
قَالَ تَعَالَى: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء : 143].
وَمِنْ أَجْلِ هَذَا الْمَوْقِفِ الْمُتَذَبْذِبِ شَنَّعَ اللهُ عَلَيْهِمْ، وَسَمَّعَ بِهِمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ آيَاتِهِ، وَتَوَعَّدَهُمْ بِأَشَدِّ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء : 145].
وَمِنْ نَتَائِجِ مَوْقِعَةِ بَدْرٍ: ازْدِيَادُ ثِقَةِ الْمُسْلِمِينَ بِاللهِ تَعَالَى وَبِرَسُولِهِ الْكَرِيمِ ﷺ، وَاشْتِدَادُ سَاعِدِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ، وَدُخُولُ عَدَدٍ كَبِيرٍ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ فِي الْإِسْلَامِ، وَقَدْ سَاعَدَ ذَلِكَ عَلَى رَفْعِ مَعْنَوِيَّاتِ الْمُسْلِمِينَ الْمُسْتَضْعَفِينَ، الَّذِينَ كَانُوا مَا يَزَالُونَ فِي مَكَّةَ، فَاغْتَبَطَتْ نُفُوسُهُمْ بِنَصْرِ اللهِ، وَاطْمَأَنَّتْ قُلُوبُهُمْ إِلَى أَنَّ يَوْمَ الْفَرَجِ قَرِيبٌ، فَازْدَادُوا إِيمَانًا عَلَى إِيمَانِهِمْ وَثَبَاتًا عَلَى عَقِيدَتِهِمْ.
وَإِلَى جَانِبِ ذَلِكَ، فَقَدْ كَسَبَ الْمُسْلِمُونَ مَهَارَةً عَسْكَرِيَّةً وَأَسَالِيبَ جَدِيدَةً فِي الْحَرْبِ وَشُهْرَةً وَاسِعَةً فِي دَاخِلِ الْجَزِيرَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَخَارِجَهَا؛ إِذْ أَصْبَحُوا قُوَّةً يُحْسَبُ لَهَا حِسَابُهَا فِي بِلَادِ الْعَرَبِ، فَلَا تُهَدِّدُ زَعَامَةَ قُرَيْشٍ وَحْدَهَا بَلْ تُهَدِّدُ زَعَامَةَ جَمِيعِ الْقَبَائِلِ الْعَرَبِيَّةِ الْمُنْتَشِرَةِ فِي مُخْتَلِفِ الْأَصْقَاعِ وَالْأَمَاكِنِ!
كَمَا أَصْبَحَ لِلدَّوْلَةِ الْجَدِيدَةِ مَصْدَرٌ لِلدَّخْلِ مِنْ غَنَائِمِ الْجِهَادِ، وَبِذَلِكَ انْتَعَشَ حَالُ الْمُسْلِمِينَ الْمَادِّيُّ وَالِاقْتِصَادِيُّ بِمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ غَنَائِمَ بَعْدَ بُؤْسٍ وَفَقْرٍ شَدِيدَيْنِ دَامَا تِسْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا!
أَمَّا قُرَيْشٌ، فَكَانَتْ خَسَارَتُهَا فَادِحَةً، فَإِضَافَةً إِلَى مَقْتَلِ أَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، وَأُمِيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ زُعَمَاءِ الْكُفْرِ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ أَشَدِّ الْقُرَشِيِّينَ شَجَاعَةً وَقُوَّةً وَبَأْسًا، وَلَمْ تَكُنْ غَزْوَةُ بَدْرٍ خَسَارَةً حَرْبِيَّةً لِقُرَيْشٍ فَحَسْبُ! بَلْ كَانَتْ خَسَارَةً مَعْنَوِيَّةً أَيْضًا؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَدِينَةَ لَمْ تَعُدْ تُهَدِّدُ تِجَارَتَهَا فَقَطْ، بَلْ أَصْبَحَتْ تُهَدِّدُ أَيْضًا سِيَادَتَهَا وَنُفُوذَهَا فِي الْحِجَازِ كُلِّهِ!
((لَقَدْ تَرَكَتْ غَزْوَةُ بَدْرٍ بِنُفُوسِ أَهْلِ مَكَّةَ الْمُشْرِكِينَ كَمَدًا وَأَحْزَانًا وَآلَامًا؛ بِسَبَبِ هَزِيمَتِهِمْ وَمَنْ فَقَدُوا وَمَنْ أُسِرُوا، فَهَذَا أَبُو لَهَبٍ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ أُصِيبَ بِعِلَّةٍ وَمَاتَ، وَهَذَا أَبُو سُفْيَانَ فَقَدَ ابْنًا لَهُ وَأُسِرَ لَهُ ابْنٌ آخَرُ، وَمَا مِنْ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ مَكَّةَ إِلَّا وَفِيهِ مَنَاحَةٌ عَلَى قَتْلِ عَزِيزٍ أَوْ فَقْدِ قَرِيبٍ، أَوْ أَسْرِ أَسِيرٍ.
فَلَا عَجَبَ أَنْ كَانُوا صَمَّمُوا فِي أَنْفُسِهِمْ عَلَى الْأَخْذِ بِالثَّأْرِ، حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ الِاغْتِسَالَ حَتَّى يَأْخُذَ بِالثَّأْرِ مِمَّنْ أَذَلُّوهُمْ، وَقَتَلُوا أَشْرَافَهُمْ وَصَنَادِيدَهُمْ، وَانْتَظَرُوا يَتَرَقَّبُونَ الْفُرْصَةَ لِلِقَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَالِانْتِصَافِ مِنْهُمْ، فَكَانَ ذَلِكَ فِي أُحُدٍ)).
وَأَمَّا الْيَهُودُ، فَقَدْ هَالَهُمْ أَنْ يَنْتَصِرَ الْمُسْلِمُونَ فِي بَدْرٍ، وَأَنْ تَقْوَى شَوْكَتُهُمْ فِيهَا، وَأَنْ يُعَزَّ الْإِسْلَامُ وَيَظْهَرَ عَلَى دِينِهِمْ، وَيَكُونَ لِرَسُولِهِ دُونَهُمُ الْحُظْوَةُ وَالْمَكَانَةُ، فَصَمَّمُوا عَلَى نَقْضِ الْعَهْدِ الَّذِي عَاهَدُوا عَلَيْهِ النَّبِيَّ ﷺ عِنْدَمَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ، وَأَظْهَرُوا عَدَاوَتَهُمْ الَّتِي كَانَتْ كَامِنَةً فِي نُفُوسِهِمْ مُغَيَّبَةً فِي صُدُورِهِمْ، وَأَخَذُوا يُجَاهِرُونَ بِهَا الْقَوْمَ وَيُعْلِنُونَ، ثُمَّ رَاحُوا لِلْإِسْلَامِ وَلِرَسُولِهِ يَكِيدُونَ، وَيَعْمَلُونَ لِلْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِكُلِّ الْوَسَائِلِ الْمُتَاحَةِ لَدَيْهِمْ، ((وَبَدَأُوا يتَحَرَّشُونَ بِالنَّبِيِّ ﷺ وَالْمُسْلِمِينَ.
وَمَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ لِيَخْفَى عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْوَحْيِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ كَانَ يُرَاقِبُهُمْ عَنْ حَذَرٍ وَيَقَظَةٍ، حَتَّى اسْتَخَفُّوا بِالْمُقَرَّرَاتِ الْخُلُقِيَّةِ فَغَيَّبُوهَا وَاسْتَخَفُّوا بِهَا، وَبالْحُرُمَاتِ الَّتِي يَعْتَزُّ بِهَا الْمُسْلِمُونَ، وَاسْتَعْلَنُوا بِالْعَدَاوَةِ فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ حَرْبِهِمْ وَإِجْلَائِهِمْ عَنِ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ)).
((دُرُوسٌ وَعِبَرٌ مِنْ يَوْمِ بَدْرٍ))
إِنَّ حَقِيقَةَ النَّصْرِ فِي بَدْرٍ كَانَتْ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى أَنَّ النَّصْرَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ عِنْدِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران : 126].
وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال : 10].
وَفِي هَاتَيْنِ الْآيِتَيْنِ تَأْكِيدٌ عَلَى أَنَّ النَّصْرَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.
وَالْمَعْنَى: لَيْسَ النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَالْعَزِيزُ ذُو الْعِزَّةِ الَّتِي لَا تُرَامُ، وَالْحَكِيمُ فِيمَا شَرَعَ مِنْ قِتَالِ الْكُفَّارِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى دَمَارِهِمْ وَإِهْلَاكِهِمْ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ تَعَالَى.
وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ: تَعْلِيمُ الْمُؤْمِنِينَ الِاعْتِمَادَ عَلَى اللهِ وَحْدَهُ وَتَفْوِيضَ أُمُورِهِمْ إِلَيْهِ مَع التَّأْكِيدِ عَلَى أَنَّ النَّصْرَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَحْدَهُ، وَلَيْسَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَالْأَسْبَابُ يَجِبُ أَنْ يَأْخُذَ بِهَا الْمُسْلِمُونَ لَكِنْ يَجِبُ أَلَّا يَغْتَرُّوا بِهَا، وَأَنْ يَكُونَ اعْتِمَادُهُمْ عَلَى خَالِقِ الْأَسْبَابِ حَتَّى يُمِدَّهُمُ اللهُ بِنَصْرِهِ وَتَوْفِيقِهِ.
ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى مَظَاهِرَ فَضْلِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّ النَّصْرَ الَّذِي كَانَ فِي بَدْرٍ وَقَتْلَهُمُ الْمُشْرِكِينَ وَرَمْيَ النَّبِيِّ ﷺ الْمُشْرِكِينَ بِالتُّرَابِ يَوْمَ بَدْرٍ إِنَّمَا كَانَ فِي الْحَقِيقَةِ بِتَوْفِيقِ اللهِ أَوَّلًا، وَبِفَضْلِهِ وَمَعُونَتِهِ.
وَبِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ يُرَبِّي الْقُرْآنُ الْمُسْلِمِينَ وَيُعَلِّمُهُمُ الِاعْتِمَادَ عَلَى اللهِ وَحْدَهُ، قَالَ تَعَالَى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال : 17].
وَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ النَّصْرَ كَانَ مِنْ عِنْدِهِ وَضَّحَ بَعْضَ الْحِكَمِ مِنْ ذَلِكَ النَّصْرِ فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران : 127- 128].
وَأَمَرَ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَذَكَّرُوا دَائِمًا تِلْكَ النِّعْمَةَ الْعَظِيمَةَ -نِعْمَةَ النَّصْرِ- فِي بَدْرٍ، وَأَلَّا يَنْسُوا كَيْفَ كَانَتْ حَالَتُهُمْ قَبْلَ النَّصْرِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال : 26].
وَلَقَدْ يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ لِأَوَّلِ وَهْلَةٍ أَنَّ نَتِيجَةَ الْمَعْرَكَةِ غَيْرُ طَبِيعِيَّةٍ خَاصَّةً أَنَّ مَجْمُوعَ خَاسِرِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْمَعْرَكَةِ مِائَةٌ وَأَرْبَعُونَ مُقَاتِلًا، وَبِذَلِكَ يَكُونُ عَدَدُ الْمُنْهَزِمِينَ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَانِ مِئَةٍ –أَيْ أَكْثَرَ مِنْ ضِعْفِ عَدَدِ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ-، وَكَانَ الْمَفْرُوضُ أَنْ يَتَرَاجَعَ الْمُشْرِكُونَ، وَيُعِيدُوا تَنْظِيمَ صُفُوفِهِمْ، وَيَسْتَأْنِفُوا الْقِتَالَ بَعْدَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ أَوْ أَكْثَرَ!
لَكِنَّ التَّعَمُّقَ فِي دِرَاسَةِ طَرِيقَةِ قِتَالِ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ فِي الْأَسَالِيبِ الَّتِي طُبِّقَتْ فِي تِلْكَ الْمَعْرَكَةِ، وَهِيَ أَوَّلُ مَعْرَكَةٍ يَخُوضُهَا الْمُسْلِمُونَ، التَّعَمُّقُ فِي ذَلِكَ يُفَسِّرُ لَنَا أَسْبَابَ النَّجَاحِ الَّتِي يُمْكِنُ تَحْدِيدُهَا بِمَا يَلِي:
أَوَّلًا: وِحْدَةُ الْقِيَادَةِ، كَانَ الرَّسُولُ ﷺ الْقَائِدَ الْعَامَّ فِي الْمَعْرَكَةِ، وَكَانَ مِثَالَ الْقَائِدِ النَّاجِحِ يَسْتَشِيرُ أَصْحَابَهُ وَيَأْخُذُ بِالْآرَاءِ السَّلِيمَةِ، وَيَتَقَدَّمُ قُوَّاتِهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ فِي الْقِتَالِ، وَتَوَلَّدَ عَنْ ذَلِكَ انْضِبَاطٌ رَائِعٌ فِي صُفُوفِ الْمُسْلِمِينَ، وَتَقَيُّدٌ كَامِلٌ بِالتَّعْلِيمَاتِ، قَابَلَهُ انْقِسَامٌ فِي الرَّأْيِ فِي صُفُوفِ جَيْشِ الْمُشْرِكِينَ.
ثَانِيًا: الْكَفَاءَةُ الْحَرْبِيَّةُ؛ فَلَقَدْ تَمَيَّزَ الْمُقَاتِلُ الْمُسْلِمُ بِكَفَاءَةٍ قِتَالِيَّةٍ عَالِيَةٍ، وَانْضِبَاطٍ شَدِيدٍ، وَطَاعَةٍ لَا مَثِيلَ لَهَا لِأَوَامِرِ الْقَائِدِ، وَرُوحٍ جَمَاعِيَّةٍ مُثْلَى عَمِلَ الرَّسُولُ ﷺ عَلَى غَرْسِهَا فِي النُّفُوسِ مُنْذُ بَدْءِ الرِّسَالَةِ، وَكَرَّسَهَا فِي الْمُؤَاخَاةِ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، بَيْنَمَا كَانَتِ الرُّوحُ الْفَرْدِيَّةُ –أَيِ الْأَنَانِيَّةُ- سَائِدَةً فِي صُفُوفِ أَعْدَائِهِمْ.
ثَالِثًا: التَّعْبِئَةُ الْجَدِيدَةُ، كَانَتْ مَسِيرَةُ الرَّسُولِ ﷺ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى بَدْرٍ فِي تَشْكِيلَةٍ قِتَالِيَّةٍ تُشْبِهُ التَّشْكِيلَاتِ الْحَرْبِيَّةَ الْحَدِيثَةَ، فَأَرْسَلَ مُقَدِّمَةً وَتَرَكَ مُؤَخِّرَةً، وَأَفَادَ مِنْ دَوْرِيَّاتِ الِاسْتِطْلَاعِ، وَقَامَ بِإِغَارَاتٍ لِأَخْذِ الْأَسْرَى، وَجَمَعَ الْمَعْلُومَاتِ الْكَافِيَةَ قَبْلَ بَدْءِ الْقِتَالِ، وَخَاضَ الْمَعْرَكَةَ بِأُسْلُوبٍ جَدِيدٍ يَعْتَمِدُ عَلَى التَّعَاوُنِ وَهُوَ أُسْلُوبُ الْقِتَالِ بِالصُّفُوفِ الْمُتَرَاصَّةِ، بَيْنَمَا طَبَّقَ الْمُشْرُكِونَ أُسْلُوبَ الْكَرِّ وَالْفَرِّ.
رَابِعًا: الْمَعْنَوِيَّاتُ الْعَالِيَةُ؛ فَقَدْ تَمَتَّعَ الْمُقَاتِلُ الْمُسْلِمُ بِرُوحٍ مَعْنَوِيَّةٍ عَالِيَةٍ نَابِعَةٍ مِنْ عَقِيدَةٍ رَاسِخَةٍ، وَلَقَدْ عَمَدَ الرَّسُولُ ﷺ إِلَى إِذْكَاءِ رُوحِ الْمُقَاتِلِينَ بِكَثْرَةِ الدُّعَاءِ وَدَوَامِ التَّبْشِيرِ بِالنَّصْرِ.
خَامِسًا: وُضُوحُ الْهَدَفِ، كَانَ هَدَفُ الْمُسْلِمِينَ الرَّئِيسُ: الْقَضَاءَ عَلَى رُؤُوسِ الْكُفْرِ، وَإِزَالَةَ الْعَوَائِقِ مِنْ طَرِيقِ الدَّعْوَةِ كَانَ هَدَفًا لَهُمْ كَذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى قَافِلَةِ قُرَيْشٍ سِوَى هَدَفٍ آنِيٍّ مَرْحَلِيٍّ، لِذَلِكَ وَجَدْنَا الرَّسُولَ ﷺ يُقَرِّرُ مُهَاجَمَةَ جَيْشِ الْمُشْرِكِينَ لِتَحْقِيقِ الْهَدَفِ الرَّئِيسِ رَغْمَ هُرُوبِ الْقَافِلَةِ، وَهِيَ الْهَدَفُ الْمَرْحَلِيُّ الْآنِيُّ الَّتِي خَرَجَ الْمُسْلِمُونَ لِاعْتِرَاضِهَا.
سَادِسًا: سُمُوُّ الْغَايَةِ النَّصْرُ أَوِ الشَّهَادَةُ، وَالْأَصْلُ أَنْ يَبْذُلَ الْمُسْلِمُونَ جُهُودَهُمْ كَافَّةً فِي الْإِعْدَادِ لِلْمَعْرَكَةِ، وَفِي مُجَابَهَةِ الْعَدُوِّ، قَالَ تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال : 60].
وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ اللهَ يُؤَيِّدُ جُنْدَهُ بِخَوَارِقَ لِتُعِينَهُمْ عَلَى النَّصْرِ إِذَا كَانُوا أَهْلًا لَهُ، كَمَا حَصَلَ بِإِمْدَادِ الْمَلَائِكَةِ فِي بَدْرٍ، وَبِأَنْ غَشَّى اللهُ بِالنُّعَاسِ أَعْيُنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَطَرَ.
وَنَبَّهَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى حَقِيقَةٍ هَامَّةٍ، وَهِيَ أَلَّا يَجْعَلُوا حُبَّ الْمَالِ يُسَيْطِرُ عَلَيْهِمْ عِنْدَ النَّظَرِ فِي قَضَايَاهُمُ الْكُبْرَى الَّتِي قَامَتْ عَلَى أَسَاسِ النَّظْرَةِ الدِّينِيَّةِ الْعَقَدِيَّةِ وَحْدَهَا، مَهْمَا كَانَتِ الْحَالُ، وَمَهْمَا كَانَتِ الظُّرُوفُ، وَلِذَا عَالَجَ اللهُ تَجْرِبَةَ رُؤْيَةِ الْغَنَائِمِ مَعَ الْحَاجَةِ وَالْفَقْرِ وَاخْتِلَافِهِمْ فِيهَا، وَمَسَأْلَةَ الْأَسْرَى.. عَالَجَهَا بِوَسَائِلَ تَرْبَوِيَّةٍ دَقِيقَةٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال : 1]
{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال : 67].
وَلَا جِدَالَ أَنَّ الْقُوَّتَيْنِ الْمُتَصَادِمَتَيْنِ فِي مَعْرَكَةِ بَدْرٍ قَدْ كَانَتَا غَيْرَ مُتَكَافِئَتَيْنِ مِنْ نَاحِيَةِ الْعَدَدِ وَالِاسْتِعْدَادِ وَالْعُدَدِ، فَقَدْ كَانَ عَدَدُ جَيْشِ مَكَّةَ حَوَالَيْ: أَلْفِ مُقَاتِلٍ خَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ وَهُمْ مُسْتَعِدُّونَ لِلْحَرْبِ، بَيْنَمَا كَانَ عَدَدُ جَيْشِ الْمَدِينَةِ ثَلَاثَ مِائَةِ مُقَاتِلٍ يَزِيدُونَ قَلِيلًا غَادَرُوا الْمَدِينَةَ وَهُمْ عَلَى غَيْرِ اسْتِعْدَادٍ لِلْحَرْبِ؛ إِذْ لَمْ يَدُرْ بِخَلَدِ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ سَيَخُوضُ مِثْلَ هَذِهِ الْمَعْرَكَةِ الرَّهِيبَةِ.
فَمَا هِيَ -إِذنْ- أَسْبَابُ النَّصْرِ الرَّئِيسَةُ فِي تِلْكَ الْمَعْرَكَةِ، وَقَدْ انْعَدَمَتْ فِي جَانِبِ الْمُسْلِمِينَ كُلُّ الْأَسْبَابِ الْمَادِّيَّةِ الَّتِي بِهَا عَادَةً يَتِمُّ النَّصْرُ فِي المْعَارِكِ؟!!
فِي ضَوْءِ الِاطِّلَاعِ عَلَى مَرَاحِلِ الْمَعْرَكَةِ مُنْذُ الْبِدَايَةِ تُلَخَّصُ أَسْبَابُ هَذَا النَّصْرِ بَعْدَ التَّأْيِيدِ الْإِلَهِيِّ فِيمَا يَلِي:
عَدَمُ التَّحَمُّسِ فِي جَيْشِ مَكَّةَ، فَبِالرَّغْمِ مِنْ أَنَّ هَذَا الْجَيْشَ اللَّجْبَ قَدْ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ وَهُوَ يَتَدَفَّقُ حَمَاسَةً لِلْقِتَالِ دِفَاعًا عَنِ الْعِيرِ، وَحِفَاظًا عَلَى سُمْعَةِ قُرَيْشٍ الَّتِي سَيُصِيبُهَا الِانْهِيَارُ لَوْ أَنَّ مُحَمَّدًا ﷺ تَمَكَّنَ مِنَ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى تِلْكَ الْقَافِلَةِ الْقُرَشِيَّةِ الضَّخْمَةِ؛ فَإِنَّ هَذَا الْجَيْشَ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ ذَلِكَ فَتَرَتْ حَمَاسَتُهُ لِلْقِتَالِ عِنْدَمَا بَلَغَتْهُ أَنْبَاءُ نَجَاةِ الْعِيرِ مِنْ قَبْضَةِ جَيْشِ النَّبِيِّ ﷺ، لَاسِيِّمَا بَعْدَ أَنْ جَاهَرَ كَثِيرٌ مِنْ قَادَةِ هَذَا الْجَيْشِ فِي رَابِغَ وَفِي بَدْرٍ نَفْسِهَا بِضَرُورَةِ عَوْدَتِهِ دُونَمَا اصْطِدَامٍ بِجَيْشِ الْمَدِينَةِ؛ حَيْثُ لَمْ يَعُدْ أَيُّ مُبَرِّرٍ لِهَذَا الِاصْطِدَامِ بَعْدَ نَجَاةِ الْعِيرِ الَّتِي خَرَجُوا لِإِنْقَاذِهَا.
وَكَانَ هَذَا رَأْيَ الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيْقٍ الثَّقَفِيِّ الَّذي انْشَقَّ عَلَى جَيْشِ مَكَّةَ فِي رَابِغَ، وَرَجَعَ بِجَمِيعِ حُلَفَائِهِ مِنْ قَبِيلَةِ بَنِي زُهْرَةَ عِنْدَمَا لَمْ يُصْغِ أَبُو جَهْلٍ لِنُصْحِهِ، كَمَا كَانَ هَذَا الرَّأْيُ أَيْضًا رَأْيَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَغَيْرِهِ مِنْ أَشْرَافِ مَكَّةَ الَّذِينَ قَامُوا بِمُحَاوَلَةٍ صَادِقَةٍ وَهُمْ فِي بَدْرٍ لِكَيْ يَتَجَنَّبَ جَيْشُ مَكَّةَ خَوْضَ تِلْكَ الْمَعْرَكَةِ، وَنَادَوْا عَلَنًا دَاخِلَ مُعَسْكَرِ قُرَيْشٍ بِأَنَّهُ مِنْ غَيْرِ الصَّوَابِ خَوْضُ مَعْرَكَةٍ تَصْطَدِمُ فِيهَا الْأُسْرَةُ الْوَاحِدَةُ دُونَمَا دَاعٍ لَهَا وَلَا مُبَرِّرٍ، وَلَكِنَّهُمْ غُلِبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ حَيْثُ تغَلَّبَتِ الرُّعُونَةُ عَلَى الرَّزَانَةِ وَالتَّعَقُّلِ!
وهَذَا يَعْنِي أَنَّ جَيْشَ مَكَّةَ أَوْ أَكْثَرَهُ قَدْ خَاضَ هَذِهِ الْمَعْرَكَةَ عَلَى كُرْهٍ مِنْهُ أَوْ غَيْرَ مُتَحَمِّسٍ لِخَوْضِهَا عَلَى الْأَقَلِّ، وَهَذَا فِي عِلْمِ الْحُرُوبِ وَفَلْسَفَةِ الْمَعَارِكِ مِنْ أَهَمِّ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى الْهَزَائِمِ الْعَاجِلَةِ.
وَكَذَلِكَ الِاعْتِدَاءُ كَانَ سَبَبًا فِي هَزِيمَةِ الْمُشْرِكِينَ وَفِي نَصْرِ الْمُؤْمِنِينَ، لَقَدْ كَانَتِ الْحُرُوبُ مِنْ أَكْرَهِ الْأَشْيَاءِ إِلَى النُّفُوسِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَلِهَذَا كَانَتِ الْكَرِيهَةُ اسْمًا مِنْ أَسْمَائِهَا.
وَإِذَا حُمِلْتُ عَلَى الْكَرِيهَةِ لَمْ أَقُلْ = بَعْدَ الْكَرِيهَةِ لَيْتَنِي لَمْ أَفْعَلِ
وَالْكَرِيهَةُ الْحَرْبُ، فَكَانُوا يَجْعَلُونَ مِنْ أَسْمَاءِ الْحَرْبِ هَذَا الَّذِي أَطْلَقُوهُ عَلَى الْحُرُوبِ مِنْ أَنَّهَا كَرِيهَةٌ.
الْكَرِيهَةُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْحَرْبِ.
كَانَ الْعُقَلَاءُ فِي كُلِّ عَصْرٍ لَا يَخُوضُونَ الْحُرُوبَ إِلَّا لِأَسْبَابٍ مُوجِبَةٍ قَاهِرَةٍ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ تَمَامَ الْعِلْمِ أَنَّ الْبَاغِيَ هُوَ الْمَصْرُوعُ عَادَةً.
وَمَعْرَكَةُ بَدْرٍ هَذِهِ كَانَ الْبَغْيُ وَالْعُدْوَانُ وَالْخُيَلَاءُ وَالْغَطْرَسَةُ بَاعِثَهَا الْأَوَّلَ مِنْ جَانِبِ قَادَةِ قُرَيْشٍ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْ مِنْ جَانِبِ أَبِي جَهْلٍ السَّيِّدِ الْمَشْؤُومِ الْمُطَاعِ، فَقَدْ خَرَجَ جَيْشُ مَكَّةَ وَغَايَتُهُ الرَّئِيسَةُ: الدِّفَاعُ عَنْ أَلْفِ بَعِيرٍ بِأَحْمَالِهَا، وَإِنْقَاذُهَا مِنَ الْوُقُوعِ فِي قَبْضَةِ جَيْشِ الْمَدِينَةِ، وَهَذَا وَحْدَهُ فِي نَظَرِ جَيْشِ مَكَّةَ مِمَّا يُسْبِغُ الشَّرْعِيَّةَ عَلَى الْمَعْرَكَةِ، وَيَنْفِي عُنْصُرَ الْبَغْيِ عَنْهَا، وَيَجْعَلُ هَذَا الْجَيْشَ يَخُوضُهَا وَهُوَ مُقْتَنِعٌ بِضَرُورَةِ خَوْضِهَا.
وَلَكِنَّ هَذَا الْجَيْشَ لَمَّا وَصَلَ إِلَى (رَابِغَ) وَهِيَ تَبْعُدُ عَنْ مَكَانِ الْمَعْرَكَةِ بِحَوَالَيْ مِائَةٍ وَخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ مِيلًا بَلَغَهُ نَبَأُ نَجَاةِ الْقَافِلَةِ؛ فَزَالَ الْمُوجِبُ وَالْمُبَرِّرُ لِلْقِتَالِ، وَنَادَى الْعُقَلَاءُ بِعَوْدَةِ الْجَيْشِ إِلَى مَكَّةَ مِنْ مَكَانِهِ فِي رَابِغَ، كَمَا حَاوَلُوا مَرَّةً أُخْرَى مُوادَعَةَ مُحَمَّدٍ ﷺ وَقَدْ تَقَابَلُوا مَعَهُ وَجْهًا لِوَجْهٍ، وَحَاوَلُوا الْعَوْدَةَ إِلَى مَكَّةَ دُونَمَا قِتَالٍ.
وَلَكِنَّ أَبَا جَهْلٍ أَصَرَّ أَمَامَ كِلَا الْمُحَاوَلَتَيْنِ عَلَى أَنْ تَخُوضَ مَكَّةُ هَذِهِ الْمَعْرَكَةَ بَاغِيَةً مُعْتَدِيَةً، فَخَاضَتْهَا وَكَانَتْ نَتِيجَةً يَتَوَقَّعُهَا الْعُقَلَاءُ دَائِمًا لِكُلِّ جَيْشٍ يُقَاتِلُ بِدَافِعِ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ.
الْعَقِيدَةُ مِنْ أَهَمِّ أَسْبَابِ النَّصْرِ؛ فَقَدْ خَاضَ الْمُسْلِمُونَ هَذِهِ الْمَعْرَكَةَ وَهُمْ عَلَى صِلَةٍ وَثِيقَةٍ بِاللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ فَقَدْ خَاضَهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَهُوَ عَلَى يَقِينٍ بِأَنَّهُ لَا شَكَّ فَائِزٌ بِإِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ؛ إِمَّا الْمَوْتُ وَهُوَ الشَّهَادَةُ الَّتِي بِهَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَيَعِيشُ فِيهَا عِيشَةً أَشْرَفَ وَأَفْضَلَ مِنْ عِيشَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، وَإِمَّا النَّصْرُ الَّذِي بِهِ يَعُودُ مَرْفُوعَ الرَّأْسِ مَوْفُورَ الْكَرَامَةِ، وَقَدْ سَاهَمَ فِي نَشْرِ الْعَقِيدَةِ الَّتِي فِي سَبِيلِ نَشْرِهَا اسْتَطَابَ الْمَوْتَ وَاسْتَعْذَبَ مَوَارِدَهُ، وَهَذَا دُونَمَا شَكٍّ مِنْ أَهَمِّ بَوَاعِثِ الرُّوحِ الْمَعْنَوِيَّةِ الَّتِي يَعْتَبِرُهَا الْعَسْكَرِيُّونَ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ مِنْ أَهَمِّ الْعَنَاصِرِ الَّتِي يَجِبُ أَنْ تَتَوَفَّرَ فِي كُلِّ جَيْشٍ؛ لِضَمَانِ النَّصْرِ فِي أَيَّةِ مَعْرَكَةٍ يَخُوضُهَا.
فَالْعَقِيدَةُ الصَّادِقَةُ مَصْدَرُ الزَّخَمِ وَالْقُوَّةِ لِكُلِّ أُمَّةٍ دَخَلَتِ التَّارِيخَ مِنْ بَابِ الْمَجْدِ، وَاسْتَوَتْ فِي قِمَّةِ الزَّمَانِ عَلَى عَرْشِ السُّؤْدُدِ الْمُقَامَةِ دَعَائِمُهُ عَلَى الْمَحَبَّةِ وَالْعَدْلِ وَالنَّزَاهَةِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي سَجَّلَهُ التَّارِيخُ لِلْعَرَبِ قَبْلَ غَيْرِهِمْ عِنْدَمَا سَارُوا فِي حَرْبِهِمْ وَسِلْمِهِمْ عَلَى هَدْيِ الْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ وَالْمَبْدَأِ الثَّابِتِ السَّلِيمِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ الْعَظِيمُ.
أَمَّا الْمُشْرِكُونَ، فَلَيْسُوا كَالْمُسْلِمِينَ يُدَافِعُونَ عَنْ عَقِيدَةٍ صَحِيحَةٍ أَوْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ مَبْدَأٍ سَلِيمٍ، وَإِنَّمَا يُقَاتِلُونَ بَطَرًا وَرِيَاءً وَسُمْعَةً وَسَفَهًا فَحَسْبُ، وَهَذَا لَا يُمْكِنُ أَلْبَتَّةَ أَنْ يَكُونَ بَاعِثًا لِشَيْءٍ مِنَ الرُّوحِ الْمَعْنَوِيَّةِ الْحَقَّةِ الَّتِي هِيَ النَّصْرُ الضَّرُورِيُّ الَّذِي يَجِبُ تَوَفُّرُهُ؛ لِلْحُصُولِ عَلى النَّصْرِ فِي أَيَّةِ مَعْرَكَةٍ حَرْبِيَّةٍ.
فَالرُّوحُ الْمَعْنَوِيَّةُ الَّتِي مَعْدِنُهَا الْفَيَّاضُ الْعَقِيدَةُ الصَّالِحَةُ إِذَا انْعَدَمَتْ فِي جَيْشٍ، فَإِنَّ أَمَلَ قَادَتِهِ فِي النَّصْرِ عَلَى أَعْدَائِهِمُ الزَّاحِفِينَ تَحْتَ لِوَاءِ الْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ يَكُونُ ضَعِيفًا، وَهَذَا الَّذِي حَدَثَ فِعْلًا فِي بَدْرٍ، وَيَحْدُثُ غَالِبًا فِي كَثِيٍر مِنَ الْمَعَارِكِ حَتَّى يَوْمِنَا!
وَلَقَدْ دَخَلَ الْمُسْلِمُونَ مَعْرَكَةَ بَدْرٍ بِأُسْلُوبٍ جَدِيدٍ لَمْ يَعْرِفْهُ الْعَرَبُ فِي تَارِيخِهِمْ، وَقَدْ فَاجَأَ النَّبِيُّ ﷺ أَعْدَاءَهُ فِي بَدْرٍ بِذَلِكَ الْأُسْلُوبِ، فَكَانَ لِهَذِهِ الْمُفَاجَأَةِ أَثَرٌ كَبِيرٌ فِي انْتِصَارِ الْمُسْلِمِينَ.
وَهَذَا الْأُسْلُوبُ الْمُبْتَكَرُ يُمْكِنُ أَنْ يُلَخَّصَ فِيمَا يَلِي:
أَوَّلًا: الْقِيَادَةُ.
كَانَ النَّبِيُّ ﷺ الْقَائِدَ الْأَعْلَى لِلْجَيْشِ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَعْمَلُونَ فِي الْمَعْرَكَةِ كَيَدٍ وَاحِدَةٍ تَحْتَ قِيَادَةٍ وَاحِدَةٍ يُوَجِّهُهُمْ فِي الْوَقْتِ الْحَاسِمِ لِلْقِيَامِ بِعَمَلٍ حَاسِمٍ، وَهَذَا هُوَ وَاجِبُ الْقَائِدِ الْكُفْءِ.
وَكَانَ ضَبْطُ الْمُسْلِمِينَ تِجَاهَ تَنْفِيذِ أَوَامِرِهِ مِثَالًا رَائِعًا لِلضَّبْطِ الْحَقِيقِيِّ الْمَتِينِ، وَإِذَا كَانَ الضَّبْطُ أَسَاسَ الْجُنْدِيَّةِ، وَإِذَا كَانَ الْجَيْشُ الْمُمْتَازُ هُوَ الَّذِي يَتَحَلَّى بِضَبْطٍ مُمْتَازٍ، فَقَدْ كَانَ جَيْشُ الْمُسْلِمِينَ حِينَذَاكَ جَيْشًا مُمْتَازًا بِكُلِّ مَا تَحْمِلُهُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مِنْ مَعَانٍ.
إِنَّ مَعْنَى الضَّبْطِ هُوَ طَاعَةُ الْأَوَامِرِ، وَتَنْفِيذُهَا بِحِرْصٍ وَأَمَانَةٍ وَعَنْ طِيبِ خَاطِرٍ.
وَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يُنَفِّذُونَ أَوَامِرَ قَائِدِهِمْ بِحِرْصٍ شَدِيدٍ، وَأَمَانَةٍ بَالِغَةٍ رَائِعَةٍ، وَبِشَوْقٍ وَطِيبِ خَاطِرٍ، وَمِنْ حَقِّهِمْ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَائِدَهُمْ يَتَحَلَّى بِصِفَاتِ الْقَائِدِ الْمِثَالِيِّ؛ ضَبْطٌ لِلْأَعْصَابِ فِي الشَّدَائِدِ، وَشَجَاعَةٌ نَادِرَةٌ فِي الْمَوَاقِفِ، وَمُسَاوَاةٌ لِنَفْسِهِ مَعَ أَصْحَابِهِ، وَاسْتِشَارَتُهُمْ فِي كُلِّ عَمَلٍ حَاسِمٍ.
كَمَا أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدْ أَنْشَأَ لَهُ قِيَادَةً جَعَلَ مَقَرَّهَا رَابِيَةً تُشْرِفُ عَلَى سَاحَةِ الْمَعْرَكَةِ، وَجَعَلَ لِهَذَا الْمَقَرِّ حَرَسًا بِقِيَادَةِ قَائِدٍ مَسْؤُولٍ هُوَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
أَمَّا الْمُشْرِكُونَ فِي الْمُقَابِلِ، فَلَمْ تَكُنْ لَهُمْ قِيَادَةٌ عَامَّةٌ، حَيْثُ كَانَ أَكْثَرُ قَادَةِ مَكَّةَ مَعَ جَيْشِ الْمُشْرِكِينَ، وَلَكِنَّ الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ وَعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ كَانَا أَبْرَزَ مَنْ في الْقَادَةِ، وَكَانَ يُمْكُنِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا قَائِدًا عَامًّا لِجَيْشِ مَكَّةَ لَوْلَا الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي وِجْهَاتِ النَّظَرِ، وَكَذَلِكَ لَوْلَا الْعَدَاوَةُ الْعُنْصُرِيَّةُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمَا؛ وَلِهَذا قَاتَلَ جَيْشُ مَكَّةَ قِتَالًا فَوْضَوِيًّا دُونَمَا قِيَادَةٍ مُوَجِّهَةٍ أَوْ تَنْظِيمٍ سَابِقٍ.
كَذَلِكَ التَّعْبِئَةُ الْجَدِيدَةُ؛ فَقَدْ طَبَّقَ الرَّسُولُ ﷺ فِي مَسِيرِ الِاقْتِرَابِ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى بَدْرٍ تَشْكِيلًا جَدِيدًا لَا يَخْتَلِفُ بَتَاتًا عَنِ التَّعْبِئَةِ الْحَدِيثَةِ فِي حَرْبِ الصَّحَرَاءِ، كَانَتْ لَهُ مُقَدِّمَةٌ، وَقِسْمٌ أَكْبَرُ، وَمُؤَخَّرَةٌ، وَاسْتَفَادَ مِنْ دَوْرِيَّاتِ الِاسْتِطْلَاعِ لِلْحُصُولِ عَلَى الْمَعُلْومَاتِ؛ وَتِلْكَ هِيَ الْأَسْاَليُبُ الصَّحِيحَةُ لِتَشْكِيلَاتِ مَسِيرِ الِاقْتِرَابِ فِي حَرْبِ الصَّحَرَاءِ.
أَمَّا فِي الْمَعْرَكَةِ فَقَدْ قَاتَلَ الْمُسْلِمُونَ بِأُسْلُوبِ الصُّفُوفِ، بَيْنَمَا قَاتَلَ الْمُشْرِكُونَ بِأُسْلُوبِ الْكَرِّ وَالْفَرِّ، وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الْفَرقِ بَيْنَ الْأُسلُوبَيْنِ لِمَعْرِفَةِ عَامِلٍ مِنْ أَهَمِّ عَوَامِلِ انْتِصَارِ الْمُسْلِمِينَ.
الْقِتَالُ بِأُسْلوبِ الْكَرِّ وَالْفَرِّ هُوَ أَنْ يَهْجُمَ الْمُقاَتِلُونَ بِكُلِّ قُوَّتِهِمْ عَلَى الْعَدُوِّ، النَّشَّابَةُ مِنْهُمْ وَالَّذِينَ يُقَاتِلُونَ بِالسُّيوفِ وَالَّذِينَ يَطْعَنُونَ بِالرِّمَاحِ مُشَاةً وَفُرْسَانًا، فَإِنْ صَعِدَ لَهُمُ الْعَدُوُّ أَوْ أَحَسُّوا بِالضَّعْفِ نَكَصُوا، ثُمَّ أَعَادُوا تَنْظِيمَهُمْ وَكَرُّوا؛ وَهَكَذَا يَكِرُّونَ وَيَفِرُّونَ حَتَّى يُكْتَبَ لَهُمُ النَّصْرُ أَوِ الْفَشَلُ!
وَالْقِتَالُ بِأُسْلُوبِ الصُّفُوفِ يَكُونُ بِتَرْتِيبِ الْمُقَاتِلِينَ صَفًّا أَوْ ثَلَاثَةً أَوْ أَكْثَرَ عَلَى حَسَبِ عَدَدِهِمْ، وَتَكُونُ الصُّفُوفُ الْأَمَامِيَّةُ مِنَ الْمُسَلَّحِينَ بِالرِّمَاحِ؛ لِصَدِّ هَجَمَاتِ الْفُرْسَانِ، وَتَكُونُ الصُّفُوفُ الْمُتَعَاقِبَةُ الْأُخْرَى مِنَ الْمُسَلَّحِينَ بِالنِّبَالِ؛ لِتَسْدِيدِهَا عَلَى الْمُهَاجِمِينَ مِنَ الْأَعْدَاءِ، وَتَبْقَى الصُّفُوفُ فِي مَوَاضِعِهَا بِسَيْطَرَةِ قَائِدِهَا، حَتَّى يَفْقِدَ زَخَمُ الْمُهَاجِمِينَ بِالْكَرِّ وَالْفَرِّ شِدَّتَهُ، عِنْدَ ذَلِكَ تَتَقَدَّمُ الصُّفُوفُ الْمُتَعَاقِبَةُ لِلزَّحْفِ عَلَى الْعَدُوِّ.
يَظْهَرُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ أُسْلُوبَ الصُّفُوفِ يَمْتَازُ عَلَى أُسْلُوبِ الْكَرِّ وَالْفَرِّ بِأَنَّهُ يُؤَمِّنُ التَّرْتِيبَ بِالْعُمْقِ، فَتَبْقَى دَائِمًا بِيَدِ الْقَائِدِ قُوَّةٌ احْتِيَاطِيَّةٌ يُعَالِجُ بِهَا الْمَوَاقِفَ الَّتِي لَيْسَتْ بِالْحُسْبَانِ، كَأَنْ يَصُدَّ هُجُومًا مُقَاتِلًا لِلْعَدُوِّ، أَوْ يَضْرِبَ كَمِينًا لَمْ يَتَوَقَّعْهُ، أَوْ أَنْ يَحْمِيَ الْأَجْنِحَةَ الَّتِي يُهَدِّدُهَا الْعَدُوُّ بِفُرْسَانِهِ أَوْ بِمُشَاتِهِ، ثُمَّ يَسْتَثْمِرُ الْفَوْزَ بِالِاحْتِيَاطِ مِنَ الصُّفُوفِ الْخَلْفِيَّةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ.
إِنَّ أُسْلُوبَ الصُّفُوفِ يُؤَمِّنُ السَّيْطَرَةَ عَلَى الْقُوَّةِ بِكَامِلِهَا، وَيُؤَمِّنُ احْتِيَاطِيًّا لِلطَّوَارِئِ، وَيَصْلُحُ لِلدِّفَاعِ وَالْهُجُومِ فِي آنٍ وَاحِدٍ.
أَمَّا أُسْلُوبُ الْكَرِّ وَالْفَرِّ، وَهُوَ مَا سَارَتْ عَلَيْهِ قُرَيْشٌ فِي حَرْبِهَا يَوْمَ بَدْرٍ، فَيَجْعَلُ الْقَائِدَ يَفْقِدُ السَّيْطَرَةَ، وَلَا يُؤَمِّنُ لَهُ أَيُّ احْتِيَاطٍ لِلطَّوَارِئِ.
إِنَّ تَطْبِيقَ الرَّسُولِ ﷺ لِأُسْلُوبِ الصُّفُوفِ فِي مَعْرَكَةِ بَدْرٍ عَامِلٌ مُهِمٌّ مِنْ عَوَامِلِ انْتِصَارِهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ.
وَالتَّارِيخُ الْعَسْكَرِيُّ يُخْبِرُنَا بِأَنَّ انْتِصَارَ الْقَادَةِ الْعِظَامِ كَـ(الْإِسْكَنْدَرِ) وَ(هَانِيبَال) قَدِيمًا، وَ(نَابِلْيُون) وَ(مُولْتِكِه) وَ(رُومِل) حَدِيثًا وَأَنَّهُمْ طَبَّقُوا أُسْلُوبًا جَدِيدًا فِي الْقِتَالِ كَانَ غَيْرَ مَعْرُوفٍ، أَوْ قَاتَلُوا بِأَسْلِحَةٍ جَدِيدَةٍ غَيْرِ مَعُرْوفَةٍ.
وَهَكَذَا صَارَ لِلْخُطَّةِ الَّتِي اتَّخَذَهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي التَّعْبِئَةِ وَسَارَ عَلَيْهَا فِي حَرْبِهِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَامْتَازَ بِهَا عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَمْ يَسْبِقْ لَهُمْ أَنْ سَارُوا عَلَى مِثْلِهَا فِي شَيْءٍ مِنْ حُرُوبِهِمْ، صَارَ لِتِلْكَ الْخُطَّةِ أَثَرٌ كَبِيرٌ فِي انْتِصَارِ الْمُسْلِمِينَ فِي تِلْكَ الْمَعْرَكَةِ.
هَذِهِ الْأَسْبَابُ مِنَ النَّاحِيَةِ الْعَسْكَرِيَّةِ هِيَ أَهَمُّ الْأَسْبَابِ الَّتِي أَدَّتْ إِلَى هَزِيمَةِ الْمُشْرِكِينَ فِي تِلْكَ الْمَعْرَكَةِ، تِلْكَ الْهَزِيمَةُ الَّتِي بِهَا بَدَأَ الِانْهِيَارُ فِي صَرْحِ دَوْلَةِ الشِّرْكِ، وَحَقَّقَتْ لِلْمُسْلِمِينَ ذَلِكَ النَّصْرَ الرَّائِعَ الَّذِي بِهِ دَخَلَ الْمُسْلِمُونَ التَّارِيخَ مِنْ بَابِهِ الْخَالِدِ.
وَمِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ:
سِلَاحُ الدُّعَاءِ؛ فَقَدِ اسْتَخْدَمَ رَسُولُ اللهِ ﷺ سِلَاحًا فَتَّاكًا كَانَ لَهُ أَثَرُهُ فِي تَحْقِيقِ النَّصْرِ وَالظَّفَرِ، وَهُوَ سِلَاحُ الدُّعَاءِ، فَبِهِ يُسْتَجْلَبُ النَّصْرُ مِنْ وَاهِبِ النَّصْرِ {إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران: 160].
فَقَدْ بَاتَ ﷺ لَيْلَةَ الْمَعْرَكَةِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ يَدْعُو رَبَّهُ وَيُنَاشِدُهُ النَّصْرَ، وَكَذَا فِي صَبِيحَتِهَا، حَتَّى أَشْفَقَ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! كَفَاكَ مُنَاشَدَتَكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ!)).
وَكَذَلِكَ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يُنَاشِدُونَ رَبَّهُمْ النَّصْرَ فَاسْتَجَابَ اللهُ لِدُعَاءِ نَبِيِّهِ ﷺ وَصَحَابَتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال : 9].
وَكَذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ: مُشَارَكَةُ الْمَلَائِكَةِ.
إِمْدَادُ اللهِ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ فِي مَعْرَكَةِ بَدْرٍ بِالْمَلَائِكَةِ يُثَبِّتُونَ قُلُوبَهُمْ وَيُقَاتِلُونَ مَعَهُمْ عَدُوَّهُمْ، وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَلَى مُشَارَكَةِ الْمَلَائِكَةِ فِي الْقِتَالِ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ.
لَقَدِ انْتَهَتْ مَعْرَكَةُ بَدْرٍ بِالنَّتِيجَةِ الَّتِي أَرَادَهَا اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-، كَمَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [الأنفال :7- 8].
وَكَانَ لِلْحَرْبِ الْإِعْلَامِيَّةِ دَوْرٌ بَارِزٌ فِي الْمُوَاجَهَةِ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالشِّرْكِ، فَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَحُثُّ شُعَرَاءَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْقِيَامِ بِوَاجِبِهِمْ فِي الدِّفَاعِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ وَإِخَافَةِ الْأَعْدَاءِ بِشِعْرِهِمْ، فَقَدْ كَانَ الشِّعْرُ يُمَثِّلُ الْحَمْلَاتِ الْإِعْلَامِيَّةَ الْمُؤَثِّرَةَ فِي دُنْيَا الْعَرَبِ، فَيَرْفَعُ أَقْوَامًا وَيَخْفِضُ آخَرِينَ، وَيُشْعِلُ الْحُرُوبَ وَيُطْفِئُهَا.
وَكَانَتْ بَوَادِرُ الْحَرْبِ الْإِعْلَامِيَّةِ قَدِ انْدَلَعَتْ مُنْذُ الْهِجْرَةِ غَيْرَ أَنَّ ظُهُورَهَا بَدَأَ أَكْثَرَ مَعَ حَرَكَةِ السَّرَايَا قُبَيْلَ بَدْرٍ، لَكِنَّهَا انْفَجَرَتْ انْفِجَارًا ضَخْمًا بَعْدَ بَدْرٍ؛ لِأَنَّ الْجَانِبَ الْإِعْلَامِيَّ لِلْقَبَائِلِ الْمُجَاوِرَةِ كَانَ هَدَفًا مُهِمًّا مِنْ أَهْدَافِ الْفَرِيقَيْنِ.
وَيَظْهَرُ أَنَّ الْقَصَائِدَ سَرْعَانَ مَا تَطِيرُ بِهَا الرُّكْبَانُ بَيْنَ يَثْرِبَ وَمَكَّةَ فَيَأْتِي الرَّدُّ مِنَ الطَّرَفِ الْآخَرِ، فَعِنْدَ النَّصْرِ تَكْثُرُ أَشْعَارُ الْفَرِيقِ الْمُنْتَصِرِ بَيْنَمَا تَكْثُرُ الْمَرَاثِي عِنْدَ الْفَرِيقِ الثَّانِي.
وَكَانَ الصَّفُّ الْإِسْلَامِيُّ يَضُمُّ شُعَرَاءَ مُتَخَصِّصِينَ: كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ، عَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي رَوَاحَةَ ، وَكَانَ أَشَدَّهُمْ عَلَى الْكُفَّارِ: حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
وَقَدْ كَانَ لِتِلْكَ الْغَزْوَةِ الْهَامَّةِ الَّتِي تُعْتَبَرُ، بَلْ هِيَ أَوَّلُ مَعْرَكَةٍ الْتَقَى فِيهَا الْمُسْلِمُونَ مَعَ أَعْدَائِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لِقَاءً مُسَلَّحًا كَانَ لَهُمْ دُرُوسُهَا وَعِبَرُهَا؛ فَالْإِيمَانُ الصَّادِقُ يصْنَعُ الرِّجَالَ الشُّجْعَانَ الَّذِينَ يُضَحُّونَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمِنْ أَجْلِ نُصْرَةِ دِينِهِمْ وَعَقِيدَتِهِمْ، وَالنَّصْرُ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، فَلَا يَرْكَنُ أَحَدٌ إِلَى قُوَّتِهِ فَحَسْبُ، وَلَا إِلَى عُدَّتِهِ، بَلْ لَا بُدَّ مِعَ إِعْدَادِ الْعُدَّةِ مِنْ تَوْثِيقِ الصِّلَةِ بِاللهِ وَإِكْثَارِ دُعَائِهِ وَالِاسْتِغَاثَةِ بِهِ، ثُمَّ مَا يَنْبَغِي عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنَ التَّمَسُّكِ بِدِينِهِمْ وَالدِّفَاعِ عَنْهُ وَتَوْحِيدِ صُفُوفِهِمْ تِجَاهَ أَعْدَائِهِمْ، وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنَ اعْتِصَامِهِمْ جَمِيعًا بِدِينِ اللهِ، كَمَا قَالَ جَلَّ شَأْنُهُ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران : 103].
وَاسْتِجَابَةُ الْمُسْلِمِينَ لِدَعْوَةِ رَسُولِهِمْ ﷺ حِينَ دَعَاهُمْ وَحَرَّضَهُمْ فَهَرَعُوا لِنِدَائِهِ وَآثَرُوهُ عَلَى أَعَزِّ مَا فِي حَيَاتِهِمْ، وَلَمْ يُهْمِلُوا نِدَاءَهُ، وَلَمْ يَتَأَخَّرُوا لَحْظَةً عَنْ تَلْبِيَةِ دَعْوَتِهِ.
مِنْ دُرُوسِ هَذِهِ الْغَزْوَةِ جَانِبُ الْمِثَالِيَّةِ الَّذِي اتَّسَمَتْ بِهِ، مِنْ ذَلِكَ: حُسْنُ مُعَامَلَةِ الْأَسْرَى، وَهِيَ سِمَةٌ تَعَلَّمَهَا الْمُسْلِمُونَ مِنْ كِتَابِ رَبِّهِمْ الَّذِي يَقُولُ {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان : 8].
وَفِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ قَالَ ﷺ لِأَصْحَابِهِ بَعْدَ أَنْ وَزَّعَ بَيْنَهُمُ الْأَسْرَى وَعِنْدَ رُجُوعِهِمْ إِلَى الْمَدِينَةِ قَالَ: ((اسْتَوْصُوا بِهِمْ خَيْرًا)).
قَالَ أَبُو عَزِيزِ بْنُ عُمَيْرٍ -وَكَانَ مِنْ أُولَئِكَ الْأَسْرَى-: ((كُنْتُ فِي رَهْطٍ مِنَ الْأَنْصَارِ حِينَ أَقْبَلُوا بِي مِنْ بَدْرٍ، فَكَانُوا إِذَا قَدَّمُوا غَدَاءَهُمْ وَعَشَاءَهُمْ خَصُّونِي –وَهُوَ الْأَسِيرُ- بِالْخُبْزِ وَأَكَلُوا التَّمْرَ؛ لِوَصِيَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ إِيَّاهُمْ بِنَا، فَمَا تقَعُ فِي يَدِ رَجُلٍ مِنْهُمْ كِسْرَةُ خُبْزٍ إِلَّا نَفَحَنِي بِهَا، فَأَسْتَحْيِي فَأَرَدُّهَا عَلَى أَحَدِهِمْ فَيَرُدُّهَا عَلَيَّ مَا يَمَسُّهَا!!)).
وَمِنْ سَمَاحَةِ الْإِسْلَامِ الَّتِي هِيَ إحْدَى الْعِبَرِ مِنْ تِلْكَ الْغَزْوَةِ: مَنْعُ التَّمْثِيلِ بِالْقَتْلَى، وَمَنْعُ تَعْذِيبِ الْجَرْحَى، بَلْ إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ أَمَرَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ بِدَفْنِ جُثَثِ الْقَتْلَى مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي الْقَلِيبِ -وَهُوَ بِئْرٌ جَافٌّ-، وَدَفَنَهُمْ فِيهِ.
وَمِنْ أَبْرَزِ دُرُوسِ غَزْوَةِ بَدْرٍ: الشُّورَى، وَمَا لَهَا مِنْ أَثَرٍ فِي نَجَاحِ الْقَصْدِ وَالْوُصُولِ إِلَى الْغَايَةِ، وَمِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ الشُّورَى مِنْ سِمَاتِ الْإِيمَانِ؛ لِذَا ذَكَرَهَا اللهُ تَعَالَى بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالْإِنْفَاقِ لِأَهَمِّيَّتِهَا، فَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى : 38].
فَذَكَرَ اللهُ تَعَالَى الشُّورَى بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِذَا اسْتَشَارَ الْإِنْسَانُ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ، فَعَلَى الْمُسْتَشَارِ أَنْ يَكُونَ أَمِينًا فِي مَشُورَتِهِ صَادِقًا فِي نَصِيحَتِهِ، وَلْيَعْلَمْ أَنَّ الشُّورَى عِنْدَئِذٍ أَمَانَةٌ، فَإِنْ لَمْ يُشِرْ بِمَا هُوَ نَافِعٌ فَقَدْ خَانَ الْأَمَانَةَ كَمَا قَالَ ﷺ: ((الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ)).
وَعَلَى الْقِيَادَةِ أَنْ تَسْتَفِيدَ بِخِبْرَةِ أَهْلِ الْخِبْرَةِ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ كَمَا صَنَعَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لَمَّا أَخَذَ بِرَأْيِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مِنْ إِعْدَادِ مَقَرٍّ لِلْقِيَادَةِ -يَعْنِي الْعَرِيشَ-، وَكَذَلِكَ اسْتَجَابَ لَهُ وَقَدِ اسْتَأْذَنَهُ فِي حِرَاسَةِ النَّبِيِّ ﷺ عِنْدَ مَقَرِّ الْقِيَادَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَنْصُرَ الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَأَنْ يُهَيِّئَ لَهُمْ مِنْ أَمْرِهِمْ رَشَدًا.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعيِنَ.
((عِبَادَاتُ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ))
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((نَبِيُّنَا ﷺ الْأُسْوَةُ فِي كُلِّ خَيْرٍ))
فَإِنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- جَعَلَ لَنَا فِي نَبِيِّنَا ﷺ أُسْوَةً، وَقُدْوَةً، وَنُمُوذَجًا، وَمِثَالًا.
وَلَيْسَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ ابْنُ أُنْثَى حُفِظَتْ أَحْوَالُهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً، جَلِّيَّةً وَخَفْيًّةً فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ وَأَقْوَالِهِ، وَحَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ سِوَى مُحَمَّدٍ ﷺ.
وَهَذَا لَوْنٌ مِنْ أَلْوَانِ الْإِعْجَازِ فِيهِ، وَلَوْنٌ مِنْ أَلْوَانِ الدَّلَالَاتِ الْقَاطِعَاتِ عَلَى صِدْقِ نُبُوَّتِهِ، وَصِدْقِهِ فِيْمَا بَلَّغَ عَنْ رَبِّهِ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-؛ إِذْ يَسْتَطِيعُ الْمَرْءُ بِقَلِيلٍ مِنَ الْتَّأَمُّلِ أَنْ يُحْصَيَ أَحْوَالَ نَبِيِّهِ ﷺ.
وَقَدْ جَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَنَا فِي نَبِيِّنَا ﷺ صُوْرَةً تَفْصِيلِيَّةً؛ لِمَا يَنْبَغِي أَنْ نَأْخُذَ بِهِ أَنْفُسَنَا مِنَ الْعِبَادَةِ فِي الْمَوَاسِمِ الْشَّرِيفَةِ، وَالْأَيَّامِ الَّتِي أَكْرَمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهَا خَلْقَهُ، فَضَاعَفَ فِيهَا الْأَجْرَ، وَأَجْزَلَ فِيْهَا الْمَثُوبَةَ.
((إِدْرَاكُ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ))
اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَدْ مَنَّ عَلَيْنَا فَمَدَّ فِي أَعْمَارِنَا، وَقَدْ أَظَلَّتْنَا أَيَّامٌ عَظِيمَةٌ وَسَاعَاتٌ جَلِيلَةٌ، إِنَّهَا أَيَّامُ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَهِيَ بِدَايَةُ نِهَايَةِ الشَّهْرِ الْعَظِيمِ.
وَصِيَامُ رَمَضَانَ مَا يَزَالُ يَرْتَقِي بِالنَّفْسِ فِي مَدَارِجِ الكَمَالِ؛ حَتَّى يَبْلُغَ الصَّائِمُ العَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، وَفِيهَا الِاعْتِكَافُ؛ لِعُكُوفِ الْقَلْبِ عَلَى اللهِ، وَلِجَمْعِيَّةِ القَلْبِ عَلَى سَيِّدِهِ وَمَولَاهُ، وَلِلفِكْرِ فِي تَحْصِيلِ مَرْضَاةِ اللهِ، وَمَا يُقَرِّبُ مِنْهُ تَعَالَى فِي عُلَاهُ.
((عِبَادَاتُ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ))
عِبَادَ اللهِ! النَّبِيُّ ﷺ فِي لَمْحَةٍ عَابِرَةٍ، وَلَكِنَّهَا مُفَصَلَّةٌ، تَقُولُ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ -يَعْنِي مِنْ أَيَّامِ الْعَامِ-)).
فَكَيْفَ كَانَ اجْتِهَادُهُ ﷺ فِي هَذَا الْمَوْسِمِ الْشَّرِيفِ؟
تَقُولُ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- -كَمَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ عَنْهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ أَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَشَدَّ مِئْزَرَهُ)) .
كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ أَيْقَظَ أَهْلَهُ؛ بِإِشَاعَةِ جَوٍّ مِنْ أَجْوَاءِ الْإِيمَانِ اللَّطِيْفِ فِي أَبْيَاتِ أَزْوَاجِهِ -رِضْوَانُ اللهِ عَنْهُنَّ-.
وَبِذَلِكَ يَكُونُ الشَّأْنُ فِي بَيْتِ كُلِّ مُسْلِمٍ يُحِبُّ النَّبِيَّ ﷺ.
فَالنَّبِيُّ ﷺ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ؛ أَحْيَا اللَّيْلَ كُلَّهُ.
وَلَا يُعَارِضُ هَذَا رِوَايَةُ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، وَفِيهَا: ((أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ مَا قَامَ لِلَّهِ لَيْلَةً قَطُّ حَتَّى يُصْبِحَ)) ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي لَيَالِي الْعَشْرِ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْقِيَامِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي حَالِ صَلَاةٍ، وَإِنَّمَا تِلَاوَةٌ، وَمُدَارَسَةٌ لِلْقُرْآنِ، وَذِكْرٌ لِلرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ، وَتَبَتُّلٌ وَتَفَكُّرٌ.
حَتَّى إِنَّ الْنَّبِيَّ ﷺ -كَمَا فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ، عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، وَهِيَ رِوَايَةٌ صَحِيحَةٌ- قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ! أَرَأَيْتَ لَوْ عَلِمْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ أَيُّ لَيْلَةٍ هِيَ، مَاذَا أَقُولُ؟
فَاخْتَارَ النَّبِيُّ ﷺ -لِلْحَبِيبَةِ بِنْتِ الْحَبِيبِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-- اخْتَارَ لَهَا النَّبِيُّ ﷺ دُعَاءً جَامِعًا، قَالَ: ((قَولِي اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي)) .
الرَّسُولُ ﷺ كَانَ يُحْيِي اللَّيْلَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ بِطُولِهِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي مَا شَاءَ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- أَنْ يُصَلِّيَ.
((يُوقِظُ أَهْلَهُ)): وَيُشِيعُ جَوًّا مِنْ أَجْوَاءِ الْإِيمَانِ اللَّطِيفِ، حَتَّى لَيَكَادَ الْمَرْءُ يُبْصِرُ كَفَّهُ فِي ظُلُمَاتٍ مِنْ فَوْقِهَا ظُلُمَاتٌ؛ لِأَنَّ الْأَبْيَاتَ حِينَئِذٍ تَكُونُ مُنِيرَةً بِأَنْوَارِ الْإِيمَانِ.
((مِنْ عِبَادَاتِ النَّبِيِّ ﷺ فِي رَمَضَانَ: مُدَارَسَةُ الْقُرْآنِ))
عِبَادَ اللهِ! لَقَدْ كَانَ جِبْرِيلُ يَلْقَى النَّبِيَّ ﷺ فِي رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَعْرِضُ الْقُرْآنَ عَلَى جِبْرِيلَ، وَجِبْرِيلُ يَتَلَّقَى الْوَحْيَ مِنْ رَبِّ الْعِزَّةِ -عَزَّ وَجَلَّ- يَنْزِلُ بِآيَاتِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنَ السَّمَاءِ عَلَى قَلْبِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ .
فَمُدَارَسَةُ الْقُرْآنِ عِبَادَةٌ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْمَخْصُوصَةِ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ.
((وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ سَنَةٍ فِي رَمَضَانَ، فَيَعْرِضُ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، فَلَمَّا كَانَتِ السَّنَةُ الَّتِي مَاتَ فِيهَا ﷺ عَرَضَ الْقُرْآنَ مَرَّتَيْنِ)) .
فَمُدَارَسَةُ الْقُرْآنِ لَوْنٌ مِنْ أَلْوَانِ إِحْيَاءِ اللَّيْلِ فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ.
((مِنْ عِبَادَاتِ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْعَشْرِ: الِاعْتِكَافُ))
لَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ؛ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ﷺ مُسَافِرًا فِي جِهَادٍ فِي سَبِيلِ اللهِ لِغَزْوٍ، لِالْتِمَاسِ مَرْضَاةِ اللهِ.
فَالِاعْتِكَافُ سُنَّةٌ مِنَ السُّنَنِ الثَّابِتَةِ، دَلَّ عَلَيْهَا كِتَابُ رَبِّنَا، وَسُنَّةُ نَبِيِّنَا، وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ.
وَالْمَقْصِدُ الْأَجَلُّ: تَفْرِيغُ الْقَلْبِ لِلْعُكُوفِ عَلَى الْعِبَادَةِ وَالذِّكْرِ؛ لِالْتِمَاسِ الْأَجْرِ بِتَحَرِّي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَبِالْبُعْدِ عَنِ الدُّنْيَا بِكُلِّ مَا فِيهَا مِنْ مَآسِيهَا وَمَبَاهِرِهَا، بِكُلِّ مَا يَشْغَلُ الْقَلْبَ عَنِ الرَّبِّ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَصِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ وَطَلَبِ الْآخِرَةِ.
فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَخْلُو بِرَبِّهِ فِي مُعْتَكَفِهِ، كَانَ يُضْرَبُ لَهُ خِبَاءٌ هُنَالِكَ، فَلَا كَلَامَ، لَيْسَ الِاعْتِكَافُ سَمَرًا، وَلَيْسَ الِاعْتِكَافُ مُعْتَلَفًا، إِنَّمَا هُوَ مُعْتَكَفٌ لَا مُعْتَلَفٌ!!
وَإِنَّمَا يَتَقَلَّلُ الْعَبْدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنَ الطَّعَامِ واَلشَّرَابِ جِدًّا إِنِ اسْتَطَاعَ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ ﷺ دَلَّنَا عَلَى الْوِصَالِ فِيهِ، فَقَالَ: ((مَنْ كَانَ مُوَاصِلًا فَلْيُوَاصِلْ إِلَى السَّحَرِ))؛ يَعْنِي فَلْيَدَعِ الْفُطُورَ جَانِبًا، ثُمَّ فَلْيَكُنْ طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ عِنْدَ السَّحَرِ الْأَعْلَى سُحُورَا، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الرَّسُولُ ﷺ.
وَيَقُولُ -لِأَنَّهُ هُوَ كَانَ يَطْوِي الْأَيَّامَ وَاللَّيَالِي صَائِمًا، لَا يَطْعَمُ شَيْئًا وَلَا يَشْرَبُهُ- وَلَكِنَّهُ يَقُولُ: ((لَسْتُمْ كَهَيْئَتِي، أَنَا أَبِيتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي)) ﷺ .
اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- جَعَلَ لَنَا هَذِهِ الْعِبَادَةَ فِي لَيَالِي الْعَشْرِ؛ قُرْبَةً إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَتَقَرُّبًا.
ثُمَّ خَلْوَةٌ بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ لِمُرَاجَعَةِ مَا كَانَ هُنَالِكَ مِنْ أَخْطَاءٍ بَلْ مِنْ خَطِيَّاتٍ، مَا كَانَ هُنَالِكَ عَلَى مَدَى الْعَامِ مِنْ تَقْصِيرٍ وَقُصُورٍ، مِنْ كَسَلٍ وَفُتُورٍ؛ بِإِقْبَالٍ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَنَثْرٍ لِلرُّوحِ بِجَنَبَاتِهَا عَلَى عَتَبَاتِ رَحَمَاتِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ أَنْ أَصْلِحْنِي لَا يَقْدِرُ عَلَى إِصْلَاحِي إِلَّا أَنْتَ، وَغَيِّرْ مِنْ حَالِي إِلَى ضَرْبِ الصَّلَاحِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَأْخُذُ بِيَدِي إِلَيْهِ إِلَّا أَنْتَ.
يُقْبِلُ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ طَالِبًا الْعَفْوَ، وَلَا يَطْلَبُ الْعَفْوَ إِلَّا مُقَصِّرٌ مُذْنِبٌ، فَهُوَ اعْتِرَافٌ مُسَبَّقٌ: ((اللهم إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي)).
((الِاجْتِهَادُ فِي الْعَشْرِ لِإِدْرَاكِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ))
فالنَّبِيُّ ﷺ كَانَ يَخُصُّ الْعَشْرَ مِنْ هَذِهِ الْأَلْوَانِ مِنْ أَلْوَانِ الِاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَةِ، وَذَلِكَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ ﷺ كَانَ يَتَحَرَّى لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ.
وَلَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، قَالَ فِيهَا رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- إِنَّهُ أَنْزَلَ فِيهَا كِتَابَهُ الْمَجِيدَ، وَإِنَّهُ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ.
وَعَجَّبَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَعَظَّمَ وَفَخَّمَ مِنْ شَأْنِهَا، فَتَسَاءَلَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} [القدر: ٢].
وَالسُّؤَالُ هَا هُنَا سُؤَالٌ مِنْ أَجْلِ التَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ، فَعَظَّمَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- مِنْ قَدْرِهَا، وَأَعَلَى مِنْ شَرَفِهَا، وَدَلَّ عَلَى عَظِيمِ قَدْرِهَا لَدَيْهِ وَعِنْدَ خَلْقِهِ؛ إِذْ تَتَنَزَّلُ فِيهَا الْمَلَائِكَةُ مَعَ رُوحِ الْقُدُسِ، ثُمَّ هِيَ سَلَامٌ -بِفَضْلِ اللهِ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ.
لَا يَكُونُ لِعَبْدٍ فِيهَا مِنْ إِقْبَالٍ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ إِلَّا أَحَاطَ بِهِ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ غُفْرَانٌ، وَتَنَزَّلَ عَلَيْهِ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ نُورٌ وَبُرْهَانٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ((مَنْ حُرِمَ خَيْرُهَا فَقَدْ حُرِمَ)) .
((مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)) .
وَلَا تَخْتَصُّ لَيْلَةُ الْقَدْرِ بِلَيْلَةٍ مُعيَّنَةٍ فِي جَمِيعِ الْأَعْوَامِ، بَلْ تَنْتَقِلُ، فَتَكُونُ فِي عَامٍ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ مَثَلًا، وَفِي عَامٍ لَيْلَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، وَهَكَذَا...تَبَعًا لِمَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ.
وَدَلِيلُ ذَلِكَ: قَوْلُه ﷺ: «الْتَمِسُوهَا فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى، فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى، فِي خَامِسَةٍ تَبْقَى».
قَالَ الْحَافِظُ فِي «الفَتْحِ»: «الْأَرْجَحُ: أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ، وَأَنَّهَا تَنْتَقِلُ»».
فَالْأَرْجَحُ عَلَى حَسَبِ دَلَالَاتِ النُّصُوصِ: أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَأَنَّهَا فِي أَوْتَارِ الْعَشْرِ، وَأَنَّهَا تَنْتَقِلُ؛ فَلَيْسَتْ فِي لَيْلَةٍ بِعَيْنِهَا، تَكُونُ ثَابِتَةً فِي كُلِّ عَامٍ؛ وَلَكِنَّهَا تَنْتَقِلُ كَمَا هُوَ الْأَرْجَحُ.
عِبَادَ اللهِ! هَذَا هُوَ زُبْدَةُ الْعَامِ، وَمَا يَتَمَخَّضُ عَنْهُ الْعَامُ مِنَ الْخَيْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، ثُمَّ فِي الْأَوْتَارِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، ثُمَّ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ.
نَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يُكْرِمَنَا بِشُهُودِ تِلْكَ اللَّيْلَةِ، وَأَنْ يَجْعَلَنَا فِيهَا مِنْ أَهْلِ الْعِتْقِ مِنَ النَّارِ، وَأَنْ يَجْعَلَنَا فِيهَا مِنَ الْخَالِصِينَ الْمُخْلِصِينَ لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
((الْإِقْبَالُ عَلَى اللهِ بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ دُخُولِ الْعَشْرِ))
إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ -عَبْدَ اللهِ- فَجَدِّدْ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ تَوْبَةً؛ لِأَنَّكَ لَا تَدْرِي لَعَلَّكَ لَا تَلْقَى الْعَشْرَ مِنْ بَعْدِهَا أَبَدًا، حَتَّى يُقِيمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ السَّاعَةَ، وَلَا تَدْرِي لَعَلَّهَا آخِرُ عَشْرٍ تَلْقَاهَا فِي رَمَضَانَ فِي عُمُرِ الدُّنْيَا حَتَّى تَلْقَى وَجْهَ رَبِّكَ الْكَرِيمِ.
إِذَنْ؛ فَأَقْبِلْ عَلَى هَذَا الْمَوْسِمِ تَائِبًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مُنِيبًا، جَدِّدْ للهِ عَزْمًا، أَقْبِلْ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ إِقْبَالًا.
خَلِّ الذُّنُوبَ جَانِبًا، وَضَعِ الدُّنْيَا تَحْتَ الْأَقْدَامِ مَوْطِئًا، ثُمَّ أَقْبِلْ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِجَمْعِيَّةِ الْقَلْبِ، فَفَرِّغْ وِجْهَةَ الْقَلْبِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَاطْرَحْ نَفْسَكَ عَلَى عَتَبَاتِ رَحَمَاتِ سَيِّدِكَ.
قُلْ: يَا سَيِّدِي أَصْلَحْنِي، يَا سَيِّدِي غَيِّرْنِي، يَا سَيِّدِي عَافِنِي وَاعْفُ عَنِّي، وَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَمَا وَصَفَهُ النَّبِيُّ ﷺ وَأَخْبَرَ عَنْهُ: ((حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ، أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ)) .
لَا بُدَّ أَنْ يَضَعَ فِي يَدَيْكَ شَيْئًا، وَعَطَاءُ الْكَرِيمِ عَلَى قَدْرِ كَرَمِهِ، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ، وَأَغْنَى الْأَغْنِيَاءِ، عَطَاؤُهُ كَلَامٌ، وَعَذَابُهُ كَلَامٌ، وَنَعِيمُهُ كَلَامٌ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ لِلشَّيْءِ: كُنْ فَيَكُونُ.
فَسُبْحَانَ رَبِّي، سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ!!
أَقْبِلْ عَلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي الْعَشْرِ، جَدِّدْ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَزْمًا عَلَى مَتَابٍ صَحِيحٍ بِعَزْمٍ أَكِيدٍ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ لِمَا كَانَ هُنَالِكَ.
((الْإِقْبَالُ عَلَى الْعَشْرِ بِرَدِّ الْمَظَالِمِ إِلَى أَهْلِهَا))
عَبْدَ اللهِ! رُدَّ الْمَظَالِمَ قَبْلَ بَدْءِ الْعَشْرِ حَتَّى يَقْبَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْكَ ذَلِكَ، ثُمَّ عَلَيْكَ أَنْ تَتَقَلَّلَ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ جِدًّا؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ هَمُّهُ مَا يَدْخُلُ بَطْنُهُ كَانَتْ قِيمَتُهُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا!!
وَإِنَّهُ لَا يَحْجِزُ الْعَبْدَ عَنِ الْإِحْسَاسِ بِقِيمَةِ مَا يَسْمَعُ مِنْ كَلَامِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَمِنْ مَوَاعِظِ نَبِيِّهِ ﷺ وَهِدَايَتِهِ إِلَّا مَا يَتَرَاكَمُ هُنَالِكَ مِنَ الْأَخْلَاطِ عَلَى تَلَافِيفِ مُخِّهِ، وَمَا يَحْجُبُ وَجْهَ قَلْبِهِ، وَيُغَيِّبُ عَنَّا صَفْحَةَ عَقْلِهِ مَعَ فُؤَادِهِ.
((الْإِقْبَالُ عَلَى الْعَشْرِ بِتَخْلِيَةِ الْقَلْبِ مِنْ آفَاتِهِ))
عِبَادَ اللهِ! مَنْ دَخَلَ الْعَشْرُ بِغِلٍّ وَحِقْدٍ وَحَسَدٍ، وَعِنْدَهُ مِنَ الضِّغْنِ وَالضَّغِينَةِ عَلَى إِخْوَانِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَا يُلَوِّثُ نَهْرًا؛ لَا تَظُنَّنَّ أَنَّهُ يَتَحَصَّلُ فِي الْمُنْتَهَى عَلَى شَيْءٍ.
يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: «رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ»..
إِنَّمَا الصَّوْمُ مَعْنًى بِأَمَانَةٍ يَنْبَغِي أَنْ تُؤَدَّى؛ هُوَ حِفْظُ الْقَلْبِ عَنْ سُوءِ خَطَرَاتِهِ، وَعَنْ وَارِدِ مُعْوَجِّ إرَادَاتِهِ وَوَارِدَاتِهِ.
هُوَ إِقَامَةٌ لِلْقَلْبِ عَلَى السَّوِيَّةِ بِالْمَنْهَجِ؛ حَتَّى يَكُونَ مُشَاهِدًا لِرَبِّهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُشَاهِدًا فَلْيَكُنْ مُرَاقِبًا، كَمَا فِي مَقَامَيِ الْإِحْسَانِ الَّذِي ذَكَرَهُ النَّبِيُّ الْعَدْنَانُ ﷺ، قَالَ ﷺ: ((الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ)) .
ثُمَّ ضَبْطٌ لِتِلْكَ الْجَوَارِحِ عَلَى مَنْهَجِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ بِسَمْعٍ لَا يَسْمَعُ إِلَّا خَيْرًا، وَبِبَصَرٍ لَا يُبْصِرُ إِلَّا خَيْرًا، وَبِيَدٍ لَا تَمْتَدُّ إِلَّا إِلَى مَعْرُوفٍ، وَبِرِجْلٍ لَا تَسْعَى إِلَّا إِلَى بِرٍّ وَخَيْرٍ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُلْقِي الْمَرْءُ بِنَفْسِهِ عَلَى عَتَبَاتِ رَحَمَاتِ رَبِّهِ.
وَمَنْ أَدَامَ الطَّرْقَ فَحَرِيٌّ أَنْ تُفَتَّحَ لَهُ الْأَبْوَابُ، وَرَبِّي -عَزَّ وَجَلَّ- حَيِيٌّ كَرِيمٌ سِتِّيرٌ، يَسْتَحْيِي أَنْ يَرْفَعَ إِلَيْهِ عَبْدُهُ يَدَيْهِ فَيَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبِتَيْنِ.
فَاللهم بَلِّغْنَا الْعَشْرَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ عَلَى خَيْرِ حَالٍ تُحِبُّهَا وَتَرْضَاهَا يَا أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ.
اللهم بَلِّغْنَا الْعَشْرَ، وَاجْعَلَهُ مُنْسَلِخًا عَنَّا مَغْفُورًا لَنَا يَا أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ، مُبَارَكًا لَنَا فِي سَعْيِنَا، مَغْفُورًا لَنَا ذَنْبَنَا؛ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ .
المصدر:
((يَوْمُ بَدْرٍ.. دُرُوسٌ وَعِبَرٌ وَعِبَادَاتُ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ))