مَجْمُوعُ الْخُطَبِ الْمِنْبَرِيَّةِ
((يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ!))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((فَضْلُ طُولِ الْعُمُرِ فِي الطَّاعَاتِ وَإِدْرَاكِ مَوَاسِمِ الْخَيْرَاتِ))
فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى بِسَنَدَيْهِمَا عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَدَّادٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّ نَفَرًا مِنْ بَنِي عُذْرَةَ ثَلَاثَةً أَتَوُا النَّبِيَّ ﷺ فَأَسْلَمُوا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((مَنْ يَكْفِينِيهِمْ؟)).
قَالَ طَلْحَةُ: ((أَنَا)).
فَكَانُوا عِنْدَهُ، فَبَعَثَ النَّبِيُّ ﷺ بَعْثًا، فَخَرَجَ فِيهِ أَحَدُهُمْ، فَاسْتُشْهِدَ، ثُمَّ بَعَثَ بَعْثًا فَخَرَجَ فِيهِ الْآخَرُ، فَاسْتُشْهِدَ، ثُمَّ مَاتَ الثَّالِثُ عَلَى فِرَاشِهِ.
قَالَ طَلْحَةُ: ((فَرَأَيْتُ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ فِي الْجَنَّةِ، وَرَأَيْتُ الْمَيِّتَ عَلَى فِرَاشِهِ أَمَامَهُمْ، وَالَّذِي اسْتُشْهِدَ آخِرًا يَلِيهِ، وَأَوَّلَهُمْ يَلِيهِ، فَدَخَلَنِي مِنْ ذَلِكَ، فَذَكَرْتُ لِلنَّبِيِّ ﷺ ذَلِكَ)).
فَقَالَ: ((وَمَا أَنْكَرْتَ مِنْ ذَلِكَ؟! لَيْسَ أَحَدٌ أَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ مُؤْمِنٍ يُعَمَّرُ فِي الْإِسْلَامِ؛ لِتَسْبِيحِهِ وَتَكْبِيرِهِ وَتَهْلِيلِهِ)).
وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَه: ((أنَّ رَجُلَيْنِ من (بَلِيٍّ) قَدِمَا عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَكَانَ إِسْلَامُهُمَا جَمِيعًا، فَكَانَ أَحَدُهُمَا أَشَدَّ اجْتِهادًا مِنَ الْآخَرِ، فَغَزَا الْمُجْتَهِدُ مِنْهُمَا فَاسْتُشْهِدَ، ثُمَّ مَكَثَ الْآخَرُ بَعْدَهُ سَنَةً، ثُمَّ تُوُفِّيَ)).
قَالَ طَلْحَةُ: ((فَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ بَيْنَا أَنَا عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ إِذَا أَنَا بِهِمَا، فَخَرَجَ خَارِجٌ مِنَ الْجَنَّةِ فَأَذِنَ لِلَّذِي تُوُفِّيَ الْآخِرَ مِنْهُمَا، ثُمَّ خَرَجَ فَأَذِنَ لِلَّذِي اسْتُشْهِدَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيَّ فَقَالَ: ارْجِعْ فَإِنَّكَ لَمْ يَأْنِ لَكَ بَعْدُ)).
فَأَصْبَحَ طَلْحَةُ يُحَدِّثُ بِهِ النَّاسَ، فَعَجِبُوا لِذَلِكَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ ﷺ وَحَدَّثُوهُ الْحَدِيثَ، فَقَالَ: ((مِنْ أَيِّ ذَلِكَ تَعْجَبُونَ؟!)).
فَقَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! هَذَا كَانَ أَشَدَّ الرَّجُلَيْنِ اجْتِهادًا، ثُمَّ اسْتُشْهِدَ، وَدَخَلَ هَذَا الْآخِرُ الْجَنَّةَ قَبْلَهُ!)).
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَلَيْسَ قَدْ مَكَثَ هَذَا بَعْدَهُ سَنَةً؟)).
قَالُوا: ((بَلَى)).
قَالَ: ((وَأَدْرَكَ رَمَضَانَ فَصَامَ وَصَلَّى كَذَا وَكَذَا مِنْ سَجْدَةٍ فِي السَّنَةِ؟!)).
قَالُوا: ((بَلَى)).
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((فَمَا بَيْنَهُمَا أَبْعَدُ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)).
جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ وَمَعَهُ آخَرُ، فَأَمَّا أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ فَإِنَّهُ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَاسْتُشْهِدَ، وَأُخِّرَ الْآخَرُ سَنَةً، ثُمَّ مَاتَ -مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ-، فَرَأَى طَلْحَةُ الْجَنَّةَ فَخَرَجَ مِنْهَا خَارِجٌ فَأَمَرَ بِالَّذِي أُخِّرَ وَمَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ فَدَخَلَ أَوَّلًا، ثُمَّ دَخَلَ بَعْدَهُ الَّذِي اسْتُشْهِدَ، قَالَ: وَأَمَّا أَنْتَ فَلَمْ يُؤْمَرْ بِكَ بَعْدُ!
فَأَصْبَحَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مُحَدِّثًا بِهَا، وَعَجِبَ النَّاسُ مِنْ أَمْرِ هَذِهِ الرُّؤْيَا، فَبَلَغَتْ رَسُولَ اللهِ ﷺ.
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ -لِحَلِّ الْإِشْكَالِ عِنْدَ مَنِ اسْتَشْكَلَ هَذَا الْأَمْرَ الَّذِي يَبْدُو عَظِيمًا فِي ظَاهِرِهِ بَادِيَ الرَّأْيِ؛ مِنْ أَنَّ الَّذِي مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ حَتْفَ أَنْفِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الَّذِي اسْتُشْهِدَ مُقَاتِلًا مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-- فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: أَلَيْسَ قَدْ صَامَ رَمَضَانَ؟! يَعْنِي: بَعْدَ صَاحِبِهِ الَّذِي اسْتُشْهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ.
أَلَيْسَ قَدْ صَامَ رَمَضَانَ؟
قَالُوا: بَلَى.
قَالَ: أَلَيْسَ قَدْ صَلَّى سِتَّةَ آلَافِ رَكْعَةٍ، وَكَذَا وَكَذَا رَكْعَةٍ صَلَاةَ سَنَةٍ؟!
فَقَالُوا: بَلَى.
فَقَالَ ﷺ: ((فَمَا بَيْنَهُمَا أَبْعَدُ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)).
فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ مِنْحَةَ الْعُمُرِ مَعَ صَلَاحِ الْعَمَلِ فِيهِ هِيَ مِنْ أَجَلِّ الْمِنَحِ الَّتِي يُؤْتِيهَا اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عَبْدًا مِنْ عِبَادِهِ.
((فَخَيْرُكُمْ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَصَلَحَ عَمَلُهُ، وَشَرُّكُمْ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ)).
فَخَيْرُ النَّاسِ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ يَغْتَنِمُ الْأَوْقَاتَ فيِ مَرْضَاتِ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ؛ يَصُومُ رَمَضَانَ، وَيَقُومُ بِحَقِّ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَيُؤَدِّي الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَرَضَهُ عَلَيْهِ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-، وَيَفْعَلُ الْخَيْرَاتِ، وَيَتْرُكُ الْمُنْكَرَاتِ، وَيَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ.
((فَضْلُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْفَاضِلَةِ))
النَّبِيُّ ﷺ يُبَيِّنُ فَضْلَ مَا بَيْنَ الْأَوْقَاتِ، فَيَقُولُ ﷺ: ((الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ)).
فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّهُ هُنَالِكَ مِنَ الْأَوْقَاتِ مَا يُغْتَنَمُ اغْتِنَامًا، فَيُؤْتِي اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عَلَيْهِ جَزِيلَ الثَّوَابِ، وَيُعْطِي بَلِيغَ الْعَطَاءِ.
الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ، الْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، رَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ قَدْ بَيَّنَ فَضْلَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْفَاضِلَةِ الَّتِي فَضَّلَهَا اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-؛ فَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((لَمَّا رَجَعَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ حَجَّتِهِ قَالَ لِأُمِّ سِنَانٍ الْأَنْصَارِيَّةِ: ((مَا مَنَعَكِ مِنَ الْحَجِّ؟)).
قَالَتْ: ((أَبُو فُلَانٍ -تَعْنِي: زَوْجَهَا- كَانَ لَهُ نَاضِحَانِ، حَجَّ عَلَى أَحَدِهِمَا، وَالْآخَرُ يَسْقِي أَرْضًا لَنَا)).
قَالَ: ((فَإِنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ تَقْضِي حَجَّةً -أَوْ: حَجَّةً مَعِي-)).
فَإِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فَاعْتَمِرِي؛ فَإِنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ كَحَجَّةٍ، وَفِي رِوَايَة: ((كَحَجَّةٍ مَعِي)).
فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ فَضْلَ الْعُمْرَةِ فِي رَمَضَانَ، وَبَيَّنَ أَنَّهَا إِذَا وَقَعَتْ عَلَى النَّحْوِ الْمَرْضِيِّ لَدَى رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، مُتَابِعًا فِيهَا آتِيَهَا سَيِّدَ الْمُرْسَلِينَ ﷺ؛ فَإِنَّ الْأَجْرَ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ هُوَ كَالْأَجْرِ الَّذِي يَتَحَصَّلُ عَلَيْهِ مَنْ حَجَّ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ؛ ((فَإِنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ كَحَجَّةٍ مَعِي)).
((الْحِكْمَةُ مِنَ الصِّيَامِ وَمَقَاصِدُهُ))
النَّبِيُّ ﷺ قَدْ أَرْشَدَنَا إِلَى مُرَاعَاةِ الْحِكْمَةِ فِيمَا فَرَضَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْنَا مِنْ عِبَادَاتٍ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصِدُ فِي الصِّيَامِ -مَثَلًا- أَنْ يُعَذِّبَ الْمَرْءُ نَفْسَهُ بِالْإِمْسَاكِ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَيُعَانِي الْجُوعَ وَالظَّمَأَ، وَيَتَلَدَّدُ عَلَى مِثْلِ الْجَمْرِ فِي الْيَوْمِ الْقَائِظِ الشَّدِيدِ الْحَرِّ، يُمْسِكُ عَنْ ذَلِكَ وَهُوَ يَأْتِي بِمَا يَجْرَحُ بَلْ بِمَا يَذْبَحُ صِيَامَهُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَيْسَ الصِّيَامُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، إِنَّمَا الصِّيَامُ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ)).
((لَيْسَ الصِّيَامُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ))، فَمَا أَكْثَرَ الَّذِينَ يُمْسِكُونَ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالشَّهْوَةِ؛ وَلَكِنَّهُمْ يُطْلِقُونَ الْعِنَانَ لِأَهْوائِهِمْ وَنَزَعَاتِهِمْ، وَلِأَلْسِنَتِهِمْ تَفْرِي أَعْرَاضَ الْمُسْلِمِينَ فَرْيًا، وَتَقَعُ فِي كُلِّ مَا حَرَّمَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- الْوُقُوعَ فِيهِ!!
فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّهُ لَيْسَ بِصِيَامٍ ذَلِكَ الَّذِي يُمْسِكُ فِيهِ الْمَرْءُ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، ثُمَّ يُطْلِقُ لِسَانَهُ بِاللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، فَيَتَكَلَّمُ بِغَيْرِ مَا يُفِيدُ، أَوْ يَتَكَلَّمُ بِمَا يَقْبُحُ الْكَلَامُ بِهِ، أَوْ يَتَكَلَّمُ بِمَا لَا يَجْمُلُ ذِكْرُهُ مِمَّا يَكُونُ مِنْ أَمْرِ النِّسَاءِ، أَوْ أَنَّهُ يَتَعَهَّرُ فِي مَنْطِقِهِ، أَوْ أَنَّهُ يَأْتِي بِمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَلْفِظَ بِهِ مِنْ آفَاتِ اللِّسَانِ جَمِيعِهَا.
فَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَيْسَ الصِّيَامُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، إِنَّمَا الصِّيَامُ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ؛ فَإِنْ سَابَّكَ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَكَ فَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ، إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ، إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ)).
وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ -كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ))-: ((مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ، وَالْجَهْلَ؛ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ)).
((مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ)): مَنْ لَمْ يَدَعِ الْقَوْلَ بِمَا لَا يَجْمُلُ؛ مِنْ تَغْيِيرِ الْحَقَائِقِ، وَلَبْسِ الْأُمُورِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، ((مَنْ لَمْ يَدَعْ)): مَنْ لَمْ يَتْرُكْ ((قَوْلَ الزُّورِ، وَالْجَهْلَ)): وَهُوَ ضِدُّ الْحِلْمِ، لَيْسَ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا هُوَ الْجَهْلُ الَّذِي بِمَعْنَى السَّفَهِ، ((مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ، وَالْجَهْلَ؛ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ)).
وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ)).
((رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ- وَهَذِهِ رِوَايَةٌ - الْجُوعُ وَالظَّمَأُ، وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ)).
لِأَنَّهُ لَمْ يُرَاقِبْ رَبَّهُ -جَلَّ وَعَلَا-، وَلَمْ يُؤَثِّرِ الصِّيَامُ فِيهِ شَيْئًا.
وَاللَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- إِنَّمَا فَرَضَ الصِّيَامَ لِغَايَاتٍ وَضَّحَ لَنَا بَعْضَهَا.
وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَنَا فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ أَنَّهُ فَرَضَ عَلَيْنَا الصِّيَامَ لِغَايَةٍ مُحَدَّدَةٍ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا- {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
فَهَذَا أَمْرٌ يَتَعَلَّقُ بِالْقَلْبِ، وَيَتَعَلَّقُ بِاللِّسَانِ، وَيَتَعَلَّقُ بِالْجَوَارِحِ فِي تَقْوَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَهِيَ الْمَقْصِدُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي فَرَضَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ لَا يُمْسِكُ لِسَانَهُ عَنْ لَغْوٍ وَلَا رَفَثٍ، وَلَا غِيبَةٍ وَلَا نَمِيمَةٍ، وَلَا كَذِبٍ، إِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ يَهْذِرُ بِلِسَانِهِ، يَضْرِبُ بِهِ بَيْنَ شِدْقَيْهِ، وَلَا يُرَاعِي اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي مَنْطِقِهِ؛ فَأَيُّ صِيَامٍ هَذَا؟!
وَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ لَا يُرَاقِبُ قَلْبَهُ وَضَمِيرَهُ، وَلَا يُرَاقِبُ مَا يَدْخُلُ جَوْفَهُ، وَيَأْكُلُ مِنْ حَرَامٍ؛ غَصْبًا، وَرِشْوَةً، وَسَرِقَةً، وَأَكْلَ مَالِ الْيَتِيمِ، وَمَا أَشْبَهَ مِنْ تِلْكَ الْأُمُورِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ؛ فَأَيُّ صِيَامٍ هَذَا؟!
هَذَا يَصُومُ عَنْ حَلَالِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَهُوَ مُفْطِرٌ عَلَى مَا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- قَدْ جَعَلَ لَهُ حَلَالًا فِي غَيْرِ وَقْتِ الصِّيَامِ طَعَامَهُ الَّذِي حَصَّلَهُ مِنْ حَلَالٍ، وَامْرَأَتَهُ الَّتِي عَقَدَ عَلَيْهَا عَقْدًا صَحِيحًا؛ فَكُلُّ ذَلِكَ يَحِلُّ لَهُ، يُمْسِكُ عَمَّا أَحَلَّ اللهُ لَهُ، ثُمَّ هُوَ يُفْطِرُ عَلَى مَا حَرَّمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِ؛ فَأَيُّ صِيَامٍ هَذَا؟!
فَإِنَّ الْعِبْرَةَ وَالْحِكْمَةَ مِنَ الصِّيَامِ إِذَا لَمْ تَتَحَقَّقْ؛ فَلَيْسَ بِصِيَامٍ فِي مِيزَانِ الشَّرْعِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ.
وَالنَّتِيجَةُ الَّتِي يَتَحَصَّلُ عَلَيْهَا هَذَا الصَّائِمُ الْمُدَّعِي عَلَى الصِّيَامِ بِصِيَامِهِ إِنَّمَا هِيَ جُوعٌ وَظَمَأٌ، وَإِنَّمَا هِيَ عَنَاءٌ وَسَهَرٌ وَنَصَبٌ؛ وَلَكِنَّهُ لَا يُحَصِّلُ شَيْئًا مِنَ النَّتَائِجِ الصَّحِيحَةِ الْحَقِيقِيَّةِ الَّتِي أَرَادَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَحَصَّلَ عَلَيْهَا مِنْ وَرَاءِ الصِّيَامِ.
((أُجُورُ الصِّيَامِ وَالْقِيَامِ الْعَظِيمَةُ فِي رَمَضَانَ الْمُبَارَكِ))
إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ قَدْ جَعَلَ لَنَا هَذَا الْمَوْسِمَ الْعَظِيمَ، وَأَمَرَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِصِيَامِهِ، كَمَا سَنَّ لَنَا النَّبِيُّ ﷺ قِيَامَهُ، وَأَخْبَرَنَا النَّبِيُّ ﷺ أَنَّهُ شَهْرٌ مُبَارَكٌ، فَقَالَ ﷺ: ((أَتَاكُمْ شَهْرُ رَمَضَانَ ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ، فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ)).
وَأَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْمُسْلِمِينَ بِصِيَامِهِ، وَسَنَّ النَّبِيُّ ﷺ لِلْمُسْلِمِينَ قِيَامَهُ، وَأَخْبَرَ عَنِ الْفَضْلِ الَّذِي يُتَحَصَّلُ عَلَيْهِ مِنْ وَرَاءِ الْإِتْيَانِ بِذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ، فَقَالَ ﷺ كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)): ((مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)).
وَ ((مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)).
وَ ((مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)).
فَفِي الْحَدِيثِ: ((وَفِيهِ لَيْلَةٌ هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ))، وَهِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ، خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، أَنْزَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهَا الْقُرْآنَ، وَنَبَّأَ فِيهَا نَبِيَّهُ الْعَدْنَانَ ﷺ.
وَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ مُتَنَزَّلًا لِلرَّحَمَاتِ إِلَى مَطْلَعِ الْفَجْرِ، فَهِيَ لَيْلَةٌ مُبَارَكَةٌ، يَغْفِرُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهَا لِمَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ، وَتَتَنَزَّلُ فِيهَا الْمَلَائِكَةُ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ مِنْ قَائِمٍ، وَتَالٍ، وَذَاكِرٍ رَبَّهُ -جَلَّ وَعَلَا-.
((تَطْهِيرُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ فِي رَمَضَانَ))
إِذَا طَهَّرَ الْإِنْسَانُ قَلْبَهُ فَهَذَا مَقْصِدٌ أَصِيلٌ مِنْ مَقَاصِدِ الصِّيَامِ؛ لِأَنَّ مَقْصِدَ الصِّيَامِ الْأَسْمَى هُوَ تَحْصِيلُ التَّقْوَى، وَلَا يَكُونُ الْمَرْءُ مُتَّقِيًا رَبَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- وَقَلْبُهُ يَرْتَعُ فِي أَوْدِيَةِ الظُّنُونِ وَالْأَوْهَامِ، وَقَلْبُهُ مُنْطَوٍ عَلَى الْغِشِّ وَالْغِلِّ وَالْحَسَدِ وَالْحِقْدِ لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ.
لَا يَكُونُ الْقَلْبُ كَذَلِكَ مُتَّقِيًا أَبَدًا.
وَإِنَّمَا يَكُونُ الْقَلْبُ مُتَّقِيًا لِلَّهِ -جَلَّ وَعَلَا- بِأَنْ يُطَهِّرَ الْمَرْءُ هَذَا الْقَلْبَ مِنْ جَمِيعِ شَوَائِبِهِ، وَأَنْ يَضْبِطَ لِسَانَهُ وَمَنْطِقَهُ عَلَى أَمْرِ الشَّرْعِ الْحَنِيفِ، وَأَنْ تَكُونَ الْجَوَارِحُ مُسَخَّرَةً عَلَى قَانُونِ: (قَالَ اللهُ، قَالَ رَسُولُهُ).
أَمَّا أَنْ يَخْبِطَ الْإِنْسَانُ فِي أَوْدِيَةِ الْهَوَى، وَأَمَّا أَنْ يَسِيرَ الْإِنْسَانُ فِي بُطُونِ أَوْدِيَةِ الظُّنُونِ، وَأَمَّا أَنْ يَرْتَعَ الْمَرْءُ فِي شَهَوَاتِهِ، وَأَنْ يَحْطِبَ فِي تَحْصِيلِ مَلَذَّاتِهِ، ثُمَّ يَدَّعِي بَعْدُ أَنَّهُ صَائِمٌ؛ فَهَذَا أَبْعَدُ الْخَلْقِ عَنْ أَنْ يَكُونَ صَائِمًا، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ.
((تَبْشِيرُ النَّبِيِّ ﷺ أَصْحَابَهُ بِقُدُومِ رَمَضَانَ))
إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يُبَشِّرُ أَصْحَابَهُ بِقُدُومِ رَمَضَانَ: ((أَتَاكُمْ شَهْرُ رَمَضَانَ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ)).
ثُمَّ يَذْكُرُ مِنْ فَضَائِلِهِ دَالًّا عَلَيْهِ، حَاضًّا عَلَى اغْتِنَامِ أَوْقَاتِهِ، مُحَذِّرًا مِنْ تَضْيِيعِ هَذَا الزَّمَانِ الشَّرِيفِ.
فَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُبَشِّرُ بِقُدُومِ هَذَا الْمَوْسِمِ الْعَظِيمِ مِنْ مَوَاسِمِ الطَّاعَةِ.
((رَمَضَانُ مِحْوَرُ حَيَاةِ السَّلَفِ))
وَكَانَ السَّلَفُ -عَلَيْهِمُ الرَّحْمَةُ- يُمَضُّونَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ يَدْعُونَ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- أَنْ يُبَلِّغَهُمْ رَمَضَانَ، فَإِذَا بَلَّغَهُمْ رَمَضَانَ يَدْعُونَ اللهَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ أَنْ يَتَقَبَّلَ مِنْهُمُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ الَّذِي كَانَ فِي رَمَضَانَ؛ فَكَأَنَّمَا جَعَلُوا رَمَضَانَ مِحْوَرًا -مِحْوَرًا زَمَنِيًّا تَدُورُ حَوْلَهُ الْحَيَاةُ-.
سِتَّةُ أَشْهُرٍ تَمُرُّ مُرُورَهَا، وَهُمْ فِي كُلِّ ذَلِكَ مِنْ أَزْمَانِهَا يَسْأَلُونَ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- أَنْ يُبَلِّغَهُمْ رَمَضَانَ، فَإِذَا بَلَغُوهُ، وَعَمِلُوا فِيهِ الصَّالِحَاتِ، وَأَتَوْا فِيهِ بِمَا يُرْضِي رَبَّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ؛ فَإِنَّهُمْ يَسْأَلُونَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ أَنْ يَتَقَبَّلَ مِنْهُمْ أَعْمَالَهُمُ الصَّالِحَاتِ.
((اتِّبَاعُ النَّبِيِّ ﷺ وَسُنَنٌ عَظِيمَةٌ فِي رَمَضَانَ))
عَلَى النَّبِيِّ ﷺ يَدُورُ أَمْرُ الِاتِّبَاعِ.
وَنَبِيُّكُمْ ﷺ يَنْبَغِي أَنْ يُوَحَّدَ فِي اتِّبَاعِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ اتِّبَاعُ أَحَدٍ بِفَرْضٍ سِوَى النَّبِيِّ ﷺ.
وَكُلُّ مَا يَكُونُ بَعْدُ مِنْ أَصْحَابِ الْحُقُوقِ فَحُقُوقُهُمْ تَبَعٌ لِحَقِّ الرَّسُولِ ﷺ فِي الِاتِّبَاعِ؛ لِأَنَّهُ مَنِ اتَّبَعَ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: قَالَ اللهُ، قَالَ رَسُولُهُ، قَالَ الصَّحَابَةُ؛ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى صِرَاطِ الْمُصْطَفَى الْمُخْتَارِ ﷺ.
فَإِنِ اتُّبِعَ فَالِاتِّبَاعُ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ لَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ لِمَنْ دَلَّ عَلَيْهِ، وَهُوَ رَسُولُ اللهِ ﷺ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ أَرْسَلَهُ اللهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، فَعَلَّمَنَا ﷺ مَا يَنْفَعُنَا، وَمَا بِهِ سَعَادَتُنَا فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، وَهُوَ أَرْحَمُ بِنَا مِنَّا، وَمِنْ أُمَّهَاتِنَا اللَّائِي وَلَدْنَنَا، هُوَ أَشْفَقُ عَلَيْنَا مِنْ نُفُوسِنَا الَّتِي بَيْنَ جُنُوبِنَا ﷺ.
أَمَرَنَا بِأَنْ نُعَجِّلَ الْفِطْرَ، وَأَنْ نُؤَخِّرَ السُّحُورَ، وَهَذَا مِنْ سُنَّتِهِ، وَهُوَ فَرْقُ مَا بَيْنَ صِيَامِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَصِيَامِ الْأُمَمِ، وَهُوَ مَوْطِنُ الْعِزَّةِ وَالنَّصْرِ.
فَمَا تَزَالُ الْأُمَّةُ مَنْصُورَةً ظَاهِرَةً غَالِبَةً بِأَمْرِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- مَا عَجَّلَتْ فِطْرَهَا، وَأَخَّرَتْ سُحُورَهَا.
وَهَذَا يَدُلُّ فِي الْمُنْتَهَى عَلَى اتِّبَاعِهَا لِنَبِيِّهَا ﷺ.
فَأَمَرَنَا أَلَّا نُعَذِّبَ أَنْفُسَنَا، عَلَيْنَا أَنْ نُعَجِّلَ فِطْرَنَا، وَأَنْ نُؤَخِّرَ سُحُورَنَا، وَدَلَّنَا عَلَى عِظَمِ الْأَجْرِ فِي ذَلِكَ ﷺ، وَعَلَى الْفَائِدَةِ الْمَرْجُوِّ تَحْصِيلُهَا لِلْأُمَّةِ بِأَسْرِهَا مِنَ اتِّبَاعِ هَذَا النَّهْجِ النَّبَوِيِّ.
وَالرَّسُولُ ﷺ يَقُولُ: ((إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَاهُنَا- وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الْمَشْرِقِ- فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ))، إِذَا غَرُبَتِ الشَّمْسُ.
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي سَفَرٍ وَهُوَ صَائِمٌ، فَلَمَّا غَرَبَتِ الشَّمْسُ قَالَ لِبَعْضِ الْقَوْمِ: ((يَا فُلَانُ! قُمْ فَاجْدَحْ لَنَا)) يَعْنِي: يَخْلِطُ تَمْرًا بِمَاءٍ وَمَا أَشْبَهَ؛ لِكَيْ يُفْطِرَ عَلَيْهِ الصَّائِمُ.
فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَوْ أَمْسَيْتَ)): لَمْ تَغْرُبِ الشَّمْسُ بَعْدُ يَا رَسُولَ اللهِ.
قَالَ: ((انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا)).
قَالَ: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَلَوْ أَمْسَيْتَ)).
قَالَ: ((انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا)).
قَالَ: ((إِنَّ عَلَيْكَ نَهَارًا)).
قَالَ: ((انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا)).
فَنَزَلَ فَجَدَحَ لَهُمْ، فَشَرِبَ النَّبِيُّ ﷺ، ثُمَّ قَالَ: ((إذَا رَأَيْتُمُ اللَّيْلَ قَدْ أَقْبَلَ مِنْ هَاهُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ)).
((إِذَا أقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَاهُنَا، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَاهُنَا، وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ؛ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ)).
يَقُولُ رَاوِي الْحَدِيثِ: ((وَلَوْ قَامَ وَاحِدٌ مِنَّا عَلَى بَعِيرِهِ لَتَرَاءَى الشَّمْسَ طَالِعَةً))، وَلَكِنَّهُ عَلَى الْأَرْضِ يَرَاهَا غَارِبَةً، لَا يَرَاهَا.
إِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ.
وَأَمَّا التَّنَطُّعُ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ فَلَيْسَ مِنْ دِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَالتَّمَسُّكُ بِأُمُورٍ لَمْ يَشْرَعْهَا اللهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ ﷺ تَشْرِيعٌ زَائِدٌ عَلَى التَّشْرِيعِ.
((مِنْ سُنَنِ الْقِيَامِ فِي رَمَضَانَ وَبَعْضُ الْمُخَالَفَاتِ))
رِعَايَةُ الِاجْتِمَاعِ عَلَى الطَّاعَةِ بِكَثْرَةِ عَدَدِ الطَّائِعِينَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ مَقْصِدٌ شَرْعِيٌّ؛ فَصَلَاةُ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ وَحْدَهُ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلَيْنِ أَزْكَى مِنْ صَلَاةِ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ، وَكُلَّمَا كَانَ أَكْثَرَ كَانَ أَفْضَلَ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ.
وَوَضَّحَ لَنَا أَمْرًا عَظِيمًا يَقْطَعُ النِّزَاعَ قَطْعًا؛ فَالْإِمَامُ أَحْمَدُ -رَحِمَهُ اللهُ- كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ يُصَلِّي بِهِ وَبِمَنْ مَعَهُ، فَأَرْشَدَ الْإِمَامُ الْإِمَامَ -أَرْشَدَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَهُوَ إِمَامُ الدُّنْيَا الْإِمَامَ الَّذِي يَؤُمُّهُمْ فِي صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ-، وَقَالَ لَهُ: ((إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ ضُعَفَاءُ، فَخَتَمَ بِهِمْ فِي سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ)).
وَالضَّعْفُ الْآنَ أَشَدُّ وَأَبْلَغُ.
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَإِنَّ مَا يَحْدُثُ فِي مَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْقِيَامِ هُوَ أَبْعَدُ مَا يَكُونُ عَنْ سُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ؛ الصُّرَاخُ! وَالْعَوِيلُ، وَكُلُّ هَذَا الَّذِي يَحْدُثُ مِنَ الْهَرَجِ عِنْدَ الدُّعَاءِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ الْمُبْتَدَعِ مِنَ الْبِدَعِ الْمَرْذُولَةِ، وَمِنَ التَّهْرِيجِ فِي مَسَاجِدِ اللهِ فِي الْوَقْتِ الشَّرِيفِ فِي الشَّهْرِ الشَّرِيفِ وَرَاءَ أَقْوَامٍ لَا يُرَاعُونَ لِلنَّبِيِّ ﷺ سُنَّةً، وَإِنَّمَا يَبْتَدِعُونَ فِي هَذَا الْأَمْرِ ابْتِدَاعًا.
وَأَمَّا أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-؛ فَهُمْ أَبَرُّ قُلُوبًا، وَأَعمَقُ إِيمَانًا، وَأَثْبَتُ يَقِينًا، وَأَحْلَمُ حِلْمًا، وَأَعْظَمُ عَقْلًا مِنْ جَمِيعِ مَنْ أَتَى بَعْدَهُمْ قَطُّ، وَمَعَ ذَلِكَ يَسْمَعُونَ الْقُرْآنَ يَبْكُونَ كَمَا كَانَ يَبْكِي نَبِيُّهُمْ ﷺ؛ لِأَنَّهُ كَانَ إِذَا بَكَى سُمِعَ لَهُ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ، كَمَا تَسْمَعُ صَوْتَ غَلَيَانِ الْمَاءِ، وَلَا يَزِيدُ.
وَكَانَ الصَّحَابَةُ إِذَا مَا وُعِظُوا فَبَكَوْا غَطَّوْا وُجُوهَهُمْ يَبْكُونَ وَلَهُمْ خَنِينٌ، وَلَا يَزِيدُونَ.
مَا يَحْدُثُ فِي مَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ بُعْدٌ عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ!
وَأَمْرٌ آخَرُ؛ مَا يَكُونُ مِنَ التَّهَارُشِ وَالتَّهَارُجِ وَالْخِلَافِ عَلَى الْإِكْثَارِ مِنَ الْآيَاتِ سَمْعًا مِنْ غَيْرِ تَدَبُّرٍ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْيَانِ، هُوَ أَمْرٌ لَيْسَ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
وَقَدْ بَشَّرَنَا ﷺ -كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي ثَبَتَ عَنْهُ- أَنَّهُ: ((مَنْ قَامَ مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كَتَبَ اللهُ لَهُ قِيَامَ لَيْلَةٍ)).
كَثِيرٌ مِمَّنْ يَتَنَطَّعُونَ يُفَارِقُونَ الْإِمَامَ قَبْلَ أَنْ يَنْصَرِفَ؛ بِحُجَّةِ أَنَّهُمْ سَيَذْهَبُونَ إِلَى بُيُوتِهِمْ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُصَلُّوا لِلَّهِ سَائِرَ لَيْلَتِهِمْ، وَلَا يَسْتَطِيعُونَ، وَلَوْ فَعَلُوا فَلَيْسَ عِنْدَهُمُ الضَّمَانُ الَّذِي ضَمِنَهُ الرَّسُولُ ﷺ لِمَنْ صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ؛ لِأَنَّ الَّذِي أَخْبَرَ هُوَ الْمَعْصُومُ الَّذِي لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، ((مَنْ قَامَ مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كَتَبَ اللهُ لَهُ قِيَامَ لَيْلَةٍ)).
كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ يُصَلِّي مَعَ الْإِمَامِ، وَلَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَنْصَرِفَ الْإِمَامُ.
فَكَثِيرٌ مِنَ الْمُتَنَطِّعِينَ لَا يُرَاعُونَ الْعِبَادَاتِ فِي رَمَضَانَ.
((تَنَوُّعُ الْعِبَادَاتِ فِي رَمَضَانَ وَسُنَّةُ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ))
نَبِيُّكُمْ ﷺ تَتَنَوَّعُ عِبَادَاتُهُ فِي رَمَضَانَ.
أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)) بِسَنَدِهِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ)).
مُدَارَسَةُ الْقُرْآنِ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِي رَمَضَانَ يُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، وَكَانَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ عَامٍ فِي رَمَضَانَ مَرَّةً، وَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ عَرَضَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ مَرَّتَيْنِ، يَعْنِي: مَا نَزَلَ مِنْهُ آنِفًا.
هَذِهِ عِبَادَةٌ مِنْ أَجَلِّ الْعِبَادَاتِ؛ عِبَادَةُ الْمُدَارَسَةِ لِكِتَابِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَاسْتِخْرَاجِ كُنُوزِهِ وَنَفَائِسِهِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَعِيَ الْإِنْسَانُ عَنْ رَبِّهِ، لَا أَنْ يَكُونَ أَعْجَمِيًّا أَوْ كَالْأَعْجَمِيِّ حِيَالَ كِتَابِ رَبِّهِ، لَا يَعْرِفُ مَعْنَى آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
وَمَا أَكْثَرَ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْقُرْآنَ يَهُذُّونَهُ هَذًّا، وَالْقُرْآنُ يَلْعَنُهُمْ {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18]، وَهُمْ مِنْ أَظْلَمِ الظَّالِمِينَ، وَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ فِيهِ حَرْفًا!
وَقَدْ نَعَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ عَلَى أَقْوَامٍ لَا يَتَدَبَّرُونَهُ: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [ محمد: ٢٤].
فَهُمَا اثْنَانِ:
- رَجُلٌ عَلَى قَلْبِهِ قُفْلٌ، لَا يَنْفُذُ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ خَيْرٍ، وَقَلْبُهُ أَغْلَفُ لَا يَبُضُّ قَطْرَةً مِنْ خَيْرٍ، وَلَا يَنْفُذُ إِلَيْهِ شُعَاعٌ مِنْ خَيْرٍ.
- وَرَجُلٌ يَتَدَبَّرُ الْقُرْآنَ يَعِيهِ، يَخْشَعُ قَلْبُهُ عِنْدَ آيَاتِ رَبِّهِ، وَلَا يَخْشَعُ الْقَلْبُ إِلَّا عِنْدَ التَّدَبُّرِ.
وَأَمَّا أَنْ يَأْتِيَ بِهِ هَكَذَا!! فَهَذَا فِعْلُ أَصْحَابِ الْبِدَعِ كَالْخَوَارِجِ ((يَقْرَأُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ))، كَمَا قَالَ نَبِيُّكُمْ ﷺ.
فَالَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْقُرْآنَ لَا يَتَدَبَّرُونَهُ كَالْخَوَارِجِ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ؛ لِأَنَّهُمْ يَقْرَأُونَ كِتَابَ اللهِ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، لَا يَتَدَبَّرُونَ فِيهِ.
وَالسَّعَادَةُ كُلُّ السَّعَادَةِ فِي التَّدَبُّرِ فِي كِتَابِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ لِأَنَّ اللهَ جَعَلَهُ هِدَايَةً لِلنَّاسِ وَإِرْشَادًا إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ حَظٌّ مِنَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ تِلَاوَةً وَتَدَبُّرًا وَاتِّعَاظًا وَعَمَلًا فَلَيْسَ لَهُ حَظٌّ فِي الْخَيْرِ قَطُّ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ كَانَ يَتَدَارَسُ الْقُرْآنَ فِي رَمَضَانَ مَعَ جِبْرِيلَ.
فَهَذِهِ عِبَادَةٌ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْجَلِيلَةِ.
ذَكَرُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ؛ تَهْلِيلُهُ، تَسْبِيحُهُ، تَحْمِيدُهُ؛ لِأَنَّ الْقُلُوبَ لَمْ تَسْتَوِ بَعْدُ، فَإِذَا أَرَدْتَ النَّاسَ عَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ كَسَرْتَهُمْ؛ يَنْفُرُونَ نَفْرَةَ الْحُمُرِ، {فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ} [المدثر: 51]، لَا يَتَوَقَّفُونَ.
وَلَابُدَّ مِنَ التَّرَفُّقِ بِهِمْ شَيْئًا.
وَلَابُدَّ مِنَ الْأَخْذِ بِالْأَيْدِي بِهَوَادَةٍ وَرَحْمَةٍ وَلِينٍ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ الْأَمِينُ ﷺ.
((الِاسْتِعْدَادُ لِرَمَضَانَ وَالتَّحْذِيرُ مِنَ الْخُشُوعِ الْكَاذِبِ))
عِبَادَ اللهِ! عَلَيْكُمْ أَنْ تَسْتَعِدُّوا لِدُخُولِ هَذَا الشَّهْرِ، أَمَّا أَنْ تَدْخُلُوا الشَّهْرَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ رِقَابَةِ سِرٍّ، وَأَدَاءِ حَقِّ عَبْدٍ قَدْ ظُلِمَ فَأُخِذَ حَقُّهُ بِغَيْرِ حَقٍّ.
أَمَّا أَنْ يَدْخُلَ الْمَرْءُ رَمَضَانَ وَهَمُّهُ أَنْ يُعِدَّ فِيهِ مَا يُؤْكَلُ وَيُشْرَبُ، وَيُتَنَعَّمُ بِهِ وَيُتَلَذَّذُ بِهِ مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ وَمَا أَشْبَهَ، وَهَذَا لَيْسَ بِفِعْلِ الْمُسْلِمِينَ؛ لَمْ يَكُنِ الصَّحَابَةُ كَذَلِكَ قَطُّ، وَلَمْ يَكُونُوا عِنْدَ سَمَاعِ كَلَامِ رَبِّهِمْ مِنَ الْغَافِلِينَ، وَإِنَّمَا كَانُوا مِنَ الْمُتَدَبِّرِينَ الْخَاشِعِينَ.
وَلِذَلِكَ لَمَّا مَرَّتْ وَاحِدَةٌ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِرَجُلٍ قَدْ سَقَطَ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، وَقَامَ حَوْلَهُ مَنْ قَامَ، قَالَتْ: مَا هَذَا؟
قَالُوا: ((يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ! هَذَا رَجُلٌ سَمِعَ آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَأُغْشِيَ عَلَيْهِ)).
قَالَتْ: ((إِنَّا لَنَسْمَعُ كِتَابَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَلَا يُصِيبُنَا مِثْلُ هَذَا)).
لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَثْبَتَ قُلُوبًا، وَهُمْ خَيْرٌ بِلَا شَكَّ؛ لِذَلِكِ بَعْضُ الْمُتَوَاجِدِينَ عِنْدَ سَمَاعِ الذِّكْرِ أَوْ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ.. وَكَثِيرًا مَا يَحْدُثُ ذَلِكَ فِي حَلْقَاتِ الذِّكْرِ الْبِدْعِيَّةِ الَّتِي يَجْتَمِعُ عَلَيْهَا أَهْلُ الْبِدْعَةِ يَأْتُونَ بِالشِّرْكِ الْأَبْلَقِ فِي اللَّيَالِي الْمُدْلَهِمَّةِ إِلَى السَّحَرِ الْأَعْلَى، ثُمَّ يَنَامُونَ كَالْجِيَفِ وَلَا يُصَلُّونَ لِلَّهِ فَرْضًا، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى خَيْرٍ.
الْفَرْقُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ عِنْدَمَا يَتَوَاجَدُونَ عِنْدَ سَمَاعِ الذِّكْرِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ أَنْ نُقِيمَ مَنْ تَوَاجَدَ مِنْهُمْ وَاصْطَنَعَ إِغْشَاءً وَإِغْمَاءً.. أَنْ نُقِيمَهُ عَلَى حَافَّةِ السَّطْحِ عَلَى سُورٍ، وَنَقْرَأُ عَلَيْهِ الْخَتْمَةَ؛ فَإِنْ أُغْشِيَ عَلَيْهِ فَوَقَعَ عَلَى أُمِّ رَأْسِهِ فَهُوَ صَادِقٌ فِيمَا يَدَّعِيهِ، وَلَنْ يَقَعَ وَلَوْ قَرَأْتَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ!
تَمْثِيلٌ فِي تَمْثِيلٍ!!
ابْحَثُوا عَنِ الْحَقِيقَةِ -حَقِيقَةِ الدِّينِ-، وَدَعُوكُمْ مِنْ تِلْكَ الظَّوَاهِرِ الْخَائِبَةَ وَالتَّنَطُّعَ الْكَاذِبَ، فَلَيْسَ مِنْ دِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
حَقِيقَةُ الْإِسْلَامِ بِالِاسْتِسْلَامِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالطَّاعَةِ وَالِانْقِيَادِ، بِالْمُتَابَعَةِ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ.
حَقِيقَةُ الْإِسْلَامِ: الِاسْتِسْلَامُ لِلَّهِ بِالتَّوْحِيدِ، وَالِانْقِيَادُ لِلنَّبِيِّ ﷺ بِالطَّاعَةِ، وَالْبَرَاءَةُ مِنَ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ، وَمِنَ الْبِدْعَةِ وَأَهْلِهَا؛ لِأَنَّهُ لَابُدَّ مِنَ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الشِّرْكِ وَالْإِسْلَامِ، بَيْنَ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ.
لَابُدَّ مِنَ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمَعْصِيَةِ وَالطَّاعَةِ، لَا يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا بِحَالٍ، وَلَا يَكُونُ الْمُبْتَدِعُ عِنْدَكَ كَالسُّنِّيِّ سَوَاءً بِسَوَاءٍ؛ هَذَا ظُلْمٌ تَظْلِمُهُ لِنَفْسِكَ؛ لِأَنَّ اللهَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَكَيْفَ تُمَاثِلُ أَنْتَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْمُفْتَرِقَيْنِ؛ هَذَا ظُلْمٌ عَظِيمٌ.
نَسْأَلُ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- أَنْ يُبَلِّغَنَا رَمَضَانَ، فَإِذَا بَلَّغَنَا رَمَضَانَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْنَا فِيهِ بِالطَّاعَةِ وَالْإِخْلَاصِ وَالْمُتَابَعَةِ وَالْإِنَابَةِ وَالْخَشْيَةِ، إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
وَصَلَّي اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُﷺ صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((التَّنْبِيهُ عَلَى قِيَامِ رَمَضَانَ كُلِّهِ))
فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ -كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ))-: ((مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)).
لَا يُسَمَّى قَائِمًا رَمَضَانَ حَتَّى يَقُومَ جَمِيعَ لَيِالِيهِ، وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَلْتَفِتُونَ لِلْقِيَامِ فِي اللَّيْلَةِ الْأُولَى، وَيَحْسَبُونَ أَنَّ الْقِيَامَ مُرْتَبِطٌ بِالصِّيَامِ بَعْدَ لَا قَبْلَ، وَهَذَا وَهْمٌ كَبِيرٌ؛ فَإِنَّ الْيَوْمَ فِي الْإِسْلَامِ يَبْدَأُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ، فَإِذَا ثَبَتَتْ رُؤْيَةُ هِلَالِ شَهْرِ رَمَضَانَ فَاللَّيْلَةُ هِيَ أَوَّلُ لَيَالِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَإِذَا فَاتَتْكَ فَلَمْ تَقُمْهَا لَا تَدْخُلُ فِي الْحَدِيثِ: ((مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا)): قَامَهُ كُلَّهُ، وَهَذَا لَمْ يَقُمْ مِنْهُ لَيْلَةً؛ فَهَذَا لَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ.
((مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ )).
عَلَيْنَا أَنْ نَلْتَفِتَ لِهَذَا الْخَطَأِ.
((أَهَمِّيَّةُ النِّيَّةِ فِي عِبَادَةِ الصِّيَامِ))
شَيْءٌ آخَرُ هُوَ أَنَّهُ يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نُبَيِّتَ النِّيَّةَ لِصِيَامِ الْفَرِيضَةِ، لَا بُدَّ مِنْ تَبْيِيتِ النِّيَّةِ لِصِيَامِ الْفَرْضِ.
وَالصِّيَامُ كَمَا بَيَّنَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- لَهُ وَضْعٌ خَاصٌّ فِي الثَّوَابِ وَالْحَسَنَاتِ.
فَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا، إِلَى سَبْع مِائَةِ ضِعْفٍ، قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: إِلَّا الصَّوْمَ؛ فَإِنَّهُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ)) يَعْنِي: بِلَا حَدٍّ وَلَا عَدٍّ.
وَأَمَّا سَائِرُ الْأَعْمَالِ فَحِسَابُ الْحَسَنَاتِ عَلَيْهَا كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ.
وَفِي رِوَايَةٍ -هُوَ يَرْفَعُهَا إِلَى رَبِّ الْعِزَّةِ -جَلَّ وَعَلَا--: )-: ((الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا، إِلَى سَبْع مِائَةِ ضِعْفٍ، قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: إِلَّا الصَّوْمَ؛ فَإِنَّهُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي)).
هَذِهِ النِّيَّةُ؛ إِذْ تَكُونُ امْرَأَتُهُ بِجَانِبِهِ لَا يَمْنَعُهُ مِنْهَا مَانِعٌ -وَقَدْ تَكُونُ مُطَاوِعَةً-، فَيُمْسِكُ عَنْ هَذَا الَّذِي أَحَلَّ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ الصَّادِقِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَيْثُ لَا يَرَاهُ إِلَّا اللهُ .
أَبْلَغُ مِنْ هَذَا: يَكُونُ فِي شِدَّةِ ظَمَأٍ وَقَسْوَةِ جُوعٍ، وَيَكُونُ وَحْدَهُ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ مِنَ الْخَلْقِ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدٌ يَكُونُ وَحْدَهُ لَا يَرَاهُ إِلَّا اللهُ، وَيُمْسِكُ -وَالْمَاءُ الْبَارِدُ عَلَى طَرْفِ بَنَانِهِ- يُمْسِكُ عَنْهُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِرِعَايَةِ السِّرِّ وَرِقَابَةِ الضَّمِيرِ.
هَذَا لَيْسَ بِهَيِّنٍ عِنْدَ اللهِ.
فَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الثَّوَابَ إِلَيْهِ يَجْزِي بِهِ جَزَاءً لَا حَدَّ فِيهِ، وَلَا عَدَّ.
لَوْ أَنَّكَ نَظَرْتَ فِي هَذَا الصِّيَامِ لَوَجَدْتَهُ قَائِمًا عَلَى رُكْنَيْنِ.
النِّيَّةُ وَالْإِمْسَاكُ عَنِ الْمُفَطِّرَاتِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ.
فَالنِيَّةُ رُكْنٌ رَكِينٌ.
الْإِمْسَاكُ أَمْرٌ سَلْبِيٌّ، وَالنِّيَّةُ عَمَلُ الْقَلْبِ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَعُدْ لَدَيْكَ إِلَّا عَمَلُ الْقَلْبِ.
الْإِمْسَاكُ عَمَلٌ سَلْبِيٌّ؛ فَأَنْتَ تَكُفُّ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالشَّهْوَةِ، هَذَا بُعْدٌ وَلَيْسَ بِمُزَاوَلَةٍ وَغِشْيَانٍ وَإِتْيَانٍ، وَإِنَّمَا هُوَ كَفٌّ وَإِمْسَاكٌ.
فَإِذَنْ؛ الصِّيَامُ هَذَا الْإِمْسَاكُ وَهُوَ عَمَلٌ سَلْبِيٌّ بِالْبُعْدِ عَنِ الْمُفَطِّرَاتِ نَهَارَ رَمَضَانَ، وَنِيَّةٌ وَهِيَ عَمَلُ الْقَلْبِ.
لَوْ نَوَى الْفَسْخَ وَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ فَسَدَ صَوْمُهُ، يَعْنِي لَوْ أَنَّ إِنْسَانًا نَوَى بِقَلْبِهِ أَنْ يَفْسَخَ صِيَامَهُ، وَأَنْ يَنْقُضَهُ، وَأَنْ يَأْكُلَ وَيَشْرَبَ، وَيُجَامِعَ، أَوْ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا يُفَطِّرُ الصَّائِمَ، نَوَى وَلَمْ يَفْعَلْ؛ لَمْ يَعُدْ صَائِمًا، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ -عَلَيْهِ الْقَضَاءُ بَعْدَ رَمَضَانَ- صَارَ مُفْطِرًا؛ لِأَنَّهُ هَدَمَ هَذَا الرُّكْنَ الرَّكِينَ، وَلَمْ يَعُدْ صَائِمًا، فَهَذَا أَمْرٌ كَبِيرٌ يُرَبِّي فِيكَ رِعَايَةَ النِّيَّةِ وَمُرَاقَبَةَ الضَّمِيرِ.
وَأَمَّا أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللهِ انْتَهَكُوهَا، فَهَذَا أَمْرٌ عَجِيبٌ.
أَمَّا أَقْوَامٌ فَيُمَضُّونَ اللَّيَالِي، لَا أَقُولُ فِي السَّمَرِ وَإِنْ كَانَ مَنْهِيًا عَنْهُ بَعْدَ الْعِشَاءِ بِنَهْيِ رَسُولِ اللهِ، فَقَدْ نَهَى عَنْ ذَلِكَ النَّبِيُّ ﷺ، وَلَوْ كَانَ سَمَرًا مُبَاحًا.
لَا تُضَيِّعُوا الْأَعْمَارَ؛ فَهِيَ رَأْسُ الْمَالِ.
وَالْإِنْسَانُ إِذَا كَانَ مُتَاجِرًا مَعَ رَبِّهِ، وَرَأْسُ مَالِهِ حَيَاتُهُ وَعُمُرُهُ، ثُمَّ خَسِرَ رَأْسَ الْمَالِ فَهَذَا أَخْيَبُ وَأَفْشَلُ التُّجَّارِ.
فَأَفْشَلُ التُّجَّارِ مَنْ يُغَامِرُ بِرَأْسِ الْمَالِ حَتَّى يَسْتَأْصِلَهُ وَيَذْهَبَ بِهِ، أَيُّ تَاجِرٍ هَذَا؟!
فَالَّذِي يُغَامِرُ بِعُمُرِهِ لَيْسَ مَحْمُودًا حَتَّى عِنْدَ الْعُقَلَاءِ مِنْ بَنِي جِنْسِهِ.
فَاللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- طَلَبَ مِنَّا رِعَايَةَ الضَّمِيرِ وَحِفْظَ السِّرِّ فِي هَذَا الصِّيَامِ لِكَيْ يُرَبّيِ عِنْدَنَا التَّقْوَى.
((سُنَّةُ صَلَاةِ الْقِيَامِ فِي الْمَسَاجِدِ فِي رَمَضَانَ))
النَّبِيُّ ﷺ يَتَدَرَّجُ فِي الْعِبَادَاتِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى يَدْخُلَ الْعَشْرُ الْأَخِيرُ مِنْهُ فَيَدْخُلُ مُعْتَكَفَهُ؛ يَعْتَزِلُ النَّاسَ، يُشَمِّرُ، وَيَعْتَزِلُ النِّسَاءَ، وَيَعْتَزِلُ النَّاسَ فِي مُعْتَكَفِهِ، يَذْكُرُ رَبَّهُ، وَيُقِيمُ لَيْلَهُ ﷺ.
قَدْ يَقُولُ قَائِلٌ: وَهَلْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺكَانَ يُقِيمُ رَمَضَانَ جَمَاعَةً فِي الْمَسْجِدِ وَيُصَلِّي الصَّحَابَةُ خَلْفَهُ؟
نَعَمْ، ثَبَتَ فَإِنَّهُ قَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ -كَمَا عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ-: ((أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ خَرَجَ لَيْلَةً مِنْ لَيَالِي رَمَضَانَ فَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ، فَصَلَّي بِصَلَاتِهِ نَاسٌ، ثُمَّ خَرَجَ اللَّيْلَةَ الثَّانِيَةَ فَكَثُرَ الْعَدَدُ، ثُمَّ صَلَّى اللَّيْلَةَ الثَّالِثَةَ فَفَاضَ بِهِمُ الْمَسْجِدُ، فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ فِي اللَّيْلَةِ الرَّابِعَةِ، ثُمَّ خَرَجَ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ.
قَالَ: ((أَمَا إِنَّهُ لَمْ يَخْفَ عَلَيَّ مَكَانَكُمْ، وَلَكِنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ فَتَعْجِزُوا عَنْهَا)).
فَقَامَ عُذْرٌ مَانِعٌ مِنَ الْإِتْيَانِ بِهَا، يَزُولُ الْعُذْرُ بِقَبْضِ وَوَفَاةِ رَسُولِ اللهِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَشْرِيعَ بَعْدَ مَوْتِ الرَّسُولِ ﷺ.
فَأَمْسَكَ عَنْهَا النَّبِيُّ ﷺ لِهَذَا الْعُذْرِ وَهُوَ خَشْيَةَ الْفَرْضِيَّةِ عَلَى الْأُمَّةِ، وَلَكَ أَنْ تَتَصَوَّرَ أَنَّ الْقِيَامَ قَدْ فُرِضَ عَلَيْنَا، كَيْفَ نَأْتِي بِهِ وَفِينَا مِنَ الضَّعْفِ مَا فِينَا وَالِانْشِغَالِ عَنْ أُمُورِ الشَّرْعِ مَا يَكْفِينَا.
وَاللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.
ثُمَّ قُبِضَ الرَّسُولُ ﷺ، وَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَشُغِلَ بِحَرْبِ الْمُرْتَدِّينَ وَمَانِعِي الزَّكَاةِ عَلَى قِصَرِ مُدَّةِ الْخِلَافَةِ.
ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَكَانَ فِي صَدْرِ خِلَافَتِهِ مَشْغُولًا بِالْفُتُوحَاتِ، فَلَمَّا اسْتَتَبَّ الْأَمْرُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ -مَسْجِدَ النَّبِيِّ ﷺ- لَيْلَةً فِي رَمَضَانَ، فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ؛ يُصَلِّي الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ، وَيُصَلِّي الرَّجُلُ فَيُصَلِّي بِصَلَاتِهِ الرَّهْطُ، فَقَالَ عُمَرُ: ((إِنِّي أَرَى لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلَاءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَمْثَلَ)).
ثُمَّ عَزَمَ، فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، ثُمَّ خَرَجَ لَيْلَةً أُخْرَى وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ قَارِئِهِمْ، قَالَ عُمَرُ: ((نِعْمَ الْبِدْعَةُ هَذِهِ، وَالَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ مِنَ الَّتِي يَقُومُونَ))؛ يُرِيدُ آخِرَ اللَّيْلِ، وَكَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَهُ)).
يَعْنِي: لَوْ أَخَّرُوا الْقِيَامَ شَيْئًا مَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ فِي الْوَقْتِ الْمَشْهُودِ فِي وَقْتِ النُّزُولِ.
النَّبِيُّ ﷺ كَانَ يُؤَخِّرُ الْعِشَاءَ، وَلَكِنِ احْذَرْ فَوَقْتُ الْعِشَاءِ إِلَى مُنْتَصَفِ اللَّيْلِ، كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَظُنُّ أَنَّ وَقْتَ الْعِشَاءِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، هَذَا خَطَأٌ كَبِيرٌ؛ فَإِذَا انْتَصَفَ اللَّيْلُ وَلَمْ تُصَلَّ الْعِشَاءُ فَسَتُصَلِّيهَا قَضَاءً لَا أَدَاءً؛ خَرَجَ وَقْتُهَا.
وَقْتُ الْعِشَاءِ إِلَى مُنْتَصَفِ اللَّيْلِ.
عَلَى كُلِّ حَالٍ وَقَفَ أَقْوَامٌ مِنَ الْمُبْتَدِعَةِ عِنْدَ قَوْلِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْفَارُوقِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((نِعْمَ الْبِدْعَةُ هَذِهِ)).
وَقَالُوا: مِنَ الْبِدَعِ مَا هُوَ حَسَنٌ، فَهُوَ يَسْتَحْسِنُهَا وَيَمْدَحُهَا: ((نِعْمَ الْبِدْعَةُ هَذِهِ)).
وَهَذَا أَمْرٌ عَجِيبٌ يَدُلُّ إِمَّا عَلَى سُوءِ فَهْمٍ، أَوْ عَلَى سُوءِ قَصْدٍ.
وَالْمُبْتَدِعَةُ ضِعَافُ الْعُقُولِ ضِعَافُ الْيَقِينِ وَالْإِيمَانِ يَخْبِطُونَ وَرَاءَ أَهْوَائِهِمْ، زِمَامُ قُلُوبِهِم بِأيْدِي شَيَاطِينِهِمْ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ!
((نِعْمَ الْبِدْعَةُ هَذِهِ)).
مَا هُوَ تَوْصِيفُ الْبِدْعَةِ؟
أَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ ﷺ؟
فَعَلَ ذَلِكَ، ثُمَّ كَفَّ عَنْهُ.
فَهَلْ كَانَ الْفِعْلُ سُنَّةً أَمْ كَانَ بِدْعَةً؟
الْفِعْلُ سُنَّةٌ.
التَّوَقُّفُ الَّذِي تَوَقَّفَهُ النَّبِيُّ ﷺ يُؤَدِّي إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ تَرْكَ الِاجْتِمَاعِ عَلَى صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ وَالْقِيَامِ فِي رَمَضَانَ فِي الْمَسَاجِدِ أَنَّهُ بِدْعَةٌ، وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ؟! حَاشَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ بَيَّنَ الْعُذْرَ ﷺ قَالَ: ((وَلَكِنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ)) يَعْنِي: لَوْ دَاوَمْتُمْ مَعِي عَلَى صَلَاتِهَا فِي الْمَسْجِدِ تُفْرَضُ عَلَيْكُمْ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ، فَتَعْجِزُوا عَنْهَا، فَكَفَّ عَنْهَا لِعُذْرٍ.
لَمَّا زَالَ الْعُذْرُ رَجَعَ الْأَمْرُ إِلَى أَصْلِهِ.
وَلَكِنْ كَانَ أَبُوبَكْرٍ مَشْغُولًا بِالْجِهَادِ؛ جِهَادِ الْمُرْتَدِّينَ وَمَانِعِي الزَّكَاةِ، وَقَمْعِ الْفِتَنِ وَالْبِدَعِ، ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ فَشُغِلَ صَدْرًا مِنْ خِلَافَتِهِ بِالْفُتُوحَاتِ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ رَجَعَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ.
فَلِمَ قَالَ: نِعْمَ الْبِدْعَةُ هَذِهِ؟
هَذَا بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ؛ لِأَنَّ الِانْقِطَاعَ الَّذِي مَرَّ مَا جَاءَ بَعْدَهُ كَأَنَّهُ حَادِثٌ عَلَيْهِ لُغَةً لَا شَرْعًا، فَقَالَ: نِعْمَ الْبِدْعَةُ هَذِهِ.
وَعُمَرُ عَرَبِيٌّ صَلِيبَةً، وَالْعَرَبِيَّةُ سَلِيقَتُهُ، وَكَانَ نَقَّادًا لِلشِّعْرِ عَلِيمًا بِمَوَاطِنِ الْجَمَالِ وَالْقُبْحِ فِيهِ، حَتَّى لَيَقُولَ نُقَّادُ الشِّعْرِ وَالْأُدَبَاءُ إِنَّهُ أَوَّلُ النُّقَّادِ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ أَجَلُّ مِنْ ذَلِكَ، هُوَ ذَوَّاقَةٌ لِهَذِهِ اللُّغَةِ الشَّرِيفَةِ.
وَأَمَّا أَقْوَامٌ الْتَوَتْ أَلْسِنَتُهُمْ، وَدَخَلُوا فِي دِينِ اللهِ، فَصَارُوا عُلَمَاءَ يَتَكَلَّمُونَ فِي الدِّينِ خَبْطَ الْعَشْوَاءِ، بَلْ خَبْطَ الْعَمْيَاءِ، لَا يَدْرِي الْوَاحِدُ مِنْهُمْ مَا يَخْرُجُ مِنْ رَأْسِهِ هُوَ أَعْجَمِيٌّ أَوْ كَالْأَعْجَمِيِّ حِيَالَ هَذِهِ اللُّغَةِ الشَّرِيفَةِ.
أَمَّا أَقْوَامٌ بِهَذِهِ الصُّورَةِ فَدَعْكَ مِنْهُمْ، وَاغْسِلْ مِنْهُمْ يَدَيْكَ، وَكَبِّرْ عَلَيْهِمْ أَرْبَعًا.
وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.
أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَرْحَمَنَا، وَأَنْ يَرْحَمَ مَوْتَانَا، وَأَنْ يَرْحَمَ جَمِيعَ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ.
اللَّهُمَّ ارْحَمْنَا وَارْحَمْ مَوْتَانَا وَارْحَمْ جَمِيعَ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا، وَاغْفِرْ لِمَوْتَانَا، وَاغْفِرْ لِجَمِيعِ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُمْ وَارْحَمْهُمْ، وَعَافِهِمْ وَاعْفُ عَنْهُمْ، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُمْ، وَأَفْسِحْ لَهُمْ فِي قُبُورِهِمْ.
اللَّهُم جَافِ الْأَرْضَ عَنْ جُنُوبِهِمْ، اللَّهُم جَافِ الْأَرْضَ عَنْ جُنُوبِهِمْ، وَامْلَأْ قُبُورَهُمْ نُورًا، اللَّهُمَّ امْلَأْ قُبُورَهُمْ نُورًا، اللَّهُمَّ امْلَأْ قُبُورَهُمْ نُورًا.
اللَّهُمَّ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ أَحْيِنَا مُسْلِمِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ، وَاحْشُرْنَا فِي زُمْرَةِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ ﷺ.
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
المصدر: يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ!