((فَضَائِلُ الْعَشْرِ وَمَفْهُومُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ))
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ؛ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَة، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَة، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((فَضَائِلُ الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ))
فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِوَسِيعِ رَحْمَتِهِ فَضَّلَ بَعْضَ الْأَمَاكِنِ عَلَى بَعْضٍ، وَفَضَّلَ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ عَلَى بَعْضٍ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ لِلْمَسَاجِدِ فِي الْأَرْضِ فَضْلًا، وَفَضَّلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ تَفْضِيلًا، وَجَعَلَ الصَّلَاةَ فِيهِ بِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ؛ أَجْرًا يُضَاعِفُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِيَّاهُ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي بَيْتِهِ الْحَرَامِ، وَفَضَّلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَسْجِدَ النَّبِيِّ ﷺ تَفْضِيلًا، فَجَعَلَ الصَّلَاةَ فِيهِ بِأَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ سِوَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَفَضَّلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَسْجِدَ الْأَقْصَى، وَضَاعَفَ أَجْرَ الصَّلَاةِ فِيهِ إِلَى خَمْسِ مِائَةِ صَلَاةٍ سِوَى الْحَرَمَيْنِ.
فَضَّلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَعْضَ الْأَمْكِنَةِ عَلَى بَعْضٍ، وَفَضَّلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَجَعَلَ مُجَرَّدَ تَوَجُّهِ الْإِرَادَةِ فِيهِ إِلَى إِلْحَادٍ بِظُلْمٍ أَمْرًا عَظِيمًا وَخَطْبًا جَسِيمًا، فَأَنْذَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَنْ أَرَادَ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25].
فَضَّلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَعْضَ الْأَمَاكِنِ عَلَى بَعْضٍ، وَبَعْضَ الْأَزْمَانِ عَلَى بَعْضٍ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَتَدَارَكَ الْمُقَصِّرُ فِي الزَّمَانِ الطَّوِيلِ مَا فَاتَهُ مِنْ ذَلِكَ فِي الزَّمَانِ الْقَصِيرِ؛ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً، وَهُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.
وَفَضَّلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَعْضَ الْأَزْمِنَةِ عَلَى بَعْضٍ، فَفَضَّلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ شَهْرَ رَمَضَانَ، وَفَضَّلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهِ لَيْلَةً عَلَى مَا سِوَاهَا مِنَ اللَّيَالِي، فَجَعَلَ قِيَامَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا.. مَنْ أَصَابَهَا وَأَدْرَكَهَا، وَوُفِّقَ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ فِيهَا؛ كَانَتْ لَهُ خَيْرًا مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ.
وَفَضَّلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَفَضَّلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْعَشْرَ الْأُوَلَ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ -تُكْسَرُ وَتُفْتَحُ- فَضَّلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْعَشْرَ الْأُوَلَ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَأَقْسَمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِلَيَالِيهَا، كَمَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- فِي تَأْوِيلِ قَوْلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1-2].
فَفَضَّلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْعَشْرَ عُمُومًا وَخُصُوصًا.
الْفَجْرُ الَّذِي أَقْسَمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ فِي قَوْلِهِ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {وَالْفَجْرِ} قِيلَ: إِنَّهُ الْفَجْرُ بِإِطْلَاقٍ.
وَقِيلَ: هُوَ فَجْرٌ مَخْصُوصٌ، هُوَ أَوَّلُ فَجْرٍ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنَ الْعَشْرِ، أَوْ هُوَ فَجْرُ آخِرِ يَوْمٍ مِنْهُ.
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَإِنَّهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَكُونُ الْعَشْرُ مُفَضَّلًا -أَيْضًا- بِفَجْرِهِ الَّذِي أَقْسَمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهِ؛ إِذْ إِنَّهُ دَاخِلٌ فِي ذَلِكَ دُخُولًا عُمُومِيًّا أَوَّلِيًا {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ}.
فَأَقْسَمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِلَيَالِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ؛ لِفَضْلِهِنَّ وَعَظِيمِ قَدْرِهِنَّ، وَلِأَنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- جَعَلَ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ أُمَّاتِ الْعِبَادَةِ مَا لَا يَجْتَمِعُ إِلَّا فِيهِ؛ فَفِيهِ صَلَاةٌ، وَصِيَامٌ، وَصَدَقَةٌ، وَحَجٌّ، وَفِيهِ يَخْرُجُ النَّاسُ فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ الَّتِي حَدَّدَهَا لَنَا الشَّرْعُ مِنْ أَجْلِ الْإِتْيَانِ بِالنُّسُكِ عَلَى وَجْهِهِ الصَّحِيحِ؛ فِي يَوْمِ التَّرْوِيَةِ، وَفِي يَوْمِ عَرَفَةَ، وَفِي يَوْمِ النَّحْرِ.
يَوْمُ التَّرْوِيَةِ؛ لِأَنَّ الرَّوَايَا كُنَّ يُحَمَّلْنَ الْمَاءَ مِنْ مَكَّةَ سَعْيًا إِلَى (مِنَى)، أَوْ لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَتَرَوُّونَ فِيهِ تَرَوِيًّا؛ حَيْثُ يَنْزِلُونَ (مِنَى) ضُحًى أَوْ بَعْدَ شُرُوقِ الشَّمْسِ فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحَجَّةِ، فَيُصَلُّونَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ قَصْرًا مِنْ غَيْرِ جَمْعٍ، وَيُصَلُّونَ الْمَغْرِبَ، وَيُصَلُّونَ الْعِشَاءَ قَصْرًا مِنْ غَيْرِ جَمْعٍ مَعَ الْمَغْرِبِ.
وَفِي الْيَوْمِ التَّاسِعِ -وَهُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ- يُصَلُّونَ الصُّبْحَ، ثُمَّ يَرْتَفِعُونَ إِلَى عَرَفَةَ.
فَهَذَا الزَّمَانُ الْجَلِيلُ فَضَّلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ تَفْضِيلًا، وَجَعَلَهُ مِنْ تَمَامِ الْأَرْبَعِينَ الَّتِي وَاعَدَهَا مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي أَوَّلِ الْأَرْبَعِينَ أَوْ فِي آخِرِهَا -عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ-.
وَقَدْ بَيَّنَ لَنَا نَبِيُّنَا ﷺ فَضْلَ الْعَشْرِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((أَفْضَلُ أَيَّامِ الدُّنْيَا أَيَّامُ الْعَشْرِ)).
((أَفْضَلُ أَيَّامِ الدُّنْيَا أَيَّامُ الْعَشْرِ)) يَعْنِي: الْعَشْرَ الْأُوَلَ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحَجَّةِ.
قِيلَ: ((وَلَا مِثْلُهُنَّ جِهَادًا فِي سَبِيلِ اللهِ يَا رَسُولَ اللهِ؟)).
قَالَ: ((وَلَا مِثْلُهُنَّ جِهَادًا فِي سَبِيلِ اللهِ؛ إِلَّا مَنْ عُفِّرَ وَجْهُهُ بِالتُّرَابِ))؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَيَّنَ لَنَا حَالَةً لَا تُلْحَقُ سَبْقًا وَلَا تُدْرَكُ فَضْلًا، فَبَيَّنَ لَنَا نَبِيُّنَا ﷺ ((أَنَّ خَيْرَ الْأَعْمَالِ تَكُونُ مِمَّنْ عُقِرَ جَوَادُهُ وَأُهْرِيقَ دَمُهُ))، وَهِيَ بِعَيْنِهَا الَّتِي اسْتَثْنَاهَا الرَّسُولُ ﷺ فِي حَدِيثِ أَبِي يَعْلَى الَّذِي بَيَّنَ فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ أَفْضَلَ أَيَّامِ الدُّنْيَا عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَضْلًا هِيَ أَيَّامُ الْعَشْرِ.
قِيلَ: ((وَلَا عِدَّتُهُنَّ جِهَادًا فِي سَبِيلِ اللهِ يَا رَسُولَ اللهِ؟)).
قَالَ: ((وَلَا عِدَّتُهُنَّ جِهَادًا فِي سَبِيلِ اللهِ؛ إِلَّا عَفِيرٌ عُفِّرَ وَجْهُهُ فِي التُّرَابِ)).
فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ هُوَ مِنْ أَهَمِّ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْرَصَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُلْتَفَتَ إِلَيْهِ، وَأَلَّا يُضَيَّعَ؛ فَإِنَّ مَنْ ضَيَّعَهُ فَقَدْ ضَيَّعَ فُرْصَةً، وَفَوَّتَ أَجْرًا، وَبَاءَ بِخُسْرَانٍ فَازَ بِضِدِّهِ مَنْ عَمِلَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ.
وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي ((صَحِيحِهِ)) -رَحِمَهُ اللهُ- بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ)) يَعْنِي: أَيَّامَ الْعَشْرِ.
قِيلَ: ((وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ يَا رَسُولَ اللهِ؟)).
قَالَ: ((وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ؛ إِلَّا رَجُلٌ -أَيْ: إِلَّا جِهَادُ رَجُلٍ؛ لِكَيْ يَصِحَّ الرَّفْعُ هَاهُنَا عَلَى الْبَدَلِيَّةِ- إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ)).
هُوَ بِعَيْنِهِ مَا ذَكَرَهُ الرَّسُولُ ﷺ فِي أَعْظَمِ النَّاسِ أَجْرًا، وَأَفْضَلِهِمْ فَضْلًا، وَأَحْسَنِهِمْ عَمَلًا؛ وَهُوَ مَنْ عُقِرَ جَوَادُهُ وَأُهْرِيقَ دَمُهُ، يَعْنِي: فِي الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
((مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ)) يَعْنِي: أَيَّامَ الْعَشْرِ.. الْعَشْرَ الْأُوَلَ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ.
قِيلَ: ((وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ يَا رَسُولَ اللهِ؟)).
قَالَ: ((وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيءٍ)).
وَأَمَّا اسْتِفْسَارُ الْأَصْحَابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَسُؤَالُهُمْ رَسُولَ اللهِ ﷺ: ((وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ يَا رَسُولَ اللهِ؟))؛ فَعَلَى مَعْنَيَيْنِ:
الْمَعْنَى الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَصْحَابَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- رَأَوْا أَنَّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحَجَّةِ يُفَوِّتُ الْحَجَّ غَالِبًا؛ لِأَنَّ الْمُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَكُونُ بَعِيدًا عَنِ الْمَنَاسِكِ، وَعَنِ الْإِتْيَانِ بِهَذَا النُّسُكِ الْعَظِيمِ بِمَكَّةَ، فَقَالَ الْأَصْحَابُ: ((وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ يَا رَسُولَ اللهِ؟)).
قَالَ: ((وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ))؛ إِلَّا مَا اسْتَثْنَى ﷺ، فَاسْتَشْكَلُوا.. فَاسْتَفْسَرُوا.. فَاسْتَفْهَمُوا، فَأَجَابَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ.
الْجِهَادُ فِي الْعَشْرِ يُفَوِّتُ الْحَجَّ غَالِبًا بِعَكْسِ الْجِهَادِ فِي عَشْرٍ سِوَاهُ؛ فَإِنَّهُ لَا يُفَوِّتُ الْحَجَّ غَالِبًا، فَلَمَّا كَانَ الْجِهَادُ فِي الْعَشْرِ مُفَوِّتًا لِذَلِكَ الْأَمْرِ الْكَبِيرِ، وَهُوَ الْإِتْيَانُ بِالنُّسُكِ؛ قَالَ الْأَصْحَابُ: ((وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ يَا رَسُولَ اللهِ؟)).
قَالَ: ((وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ؛ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيءٍ)).
فَهَذَا مَعْنًى.
وَأَمَّا الْمَعْنَى الثَّانِي: فَهُوَ أَنَّ الْأَصْحَابَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يَعْلَمُونَ أَنَّ الْجِهَادَ لَا يَعْدِلُهُ شَيْءٌ، وَأَنَّ نَفْلَ الْجِهَادِ خَيْرٌ مِنْ كُلِّ نَفْلٍ سِوَاهُ، وَأَنَّ فَرْضَ الْجِهَادِ خَيْرٌ مِنْ كُلِّ فَرْضٍ سِوَاهُ، فَمَا كَانَ مِنَ الْجِهَادِ نَفْلًا فَهُوَ خَيْرٌ مِنْ كُلِّ نَفْلٍ عَدَاهُ، وَمَا كَانَ مِنْهُ فَرْضًا فَهُوَ خَيْرٌ مِنْ كُلِّ فَرْضٍ عَدَاهُ؛ فَالْأَصْحَابُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- ظَنُّوا أَنَّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- فِي غَيْرِ الْعَشْرِ إِنَّمَا يَكُونُ عَظِيمَ الْأَجْرِ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، فَالْعَمَلُ الصَّالِحُ دُونَ الْجِهَادِ لَا يَلْحَقُ بِالْجِهَادِ فِيمَا سِوَى الْعَشْرِ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ)).
فَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي سِوَى الْعَشْرِ يَلْحَقُ ثَوَابُهُ وَيَتَخَطَّاهُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِي الْعَشْرِ؛ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ جِهَادًا فِي سَبِيلِ اللهِ، وَهَذَا هُوَ الْأَقْرَبُ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَمَلَ الْمَفْضُولَ فِي الزَّمَانِ الْفَاضِلِ يَزِيدُ عَلَى الْعَمَلِ الْفَاضِلِ فِي الزَّمَانِ الْمَفْضُولِ.
الْعَمَلُ الْمَفْضُولُ فِي الزَّمَانِ الْفَاضِلِ؛ كَأَنْ يَأْتِيَ الْإِنْسَانُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ مِنْ تِلَاوَةٍ فِي كِتَابِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- بِآيَاتِهِ، وَمِنْ صِيَامٍ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ إِخْبَاتًا وَخُشُوعًا وَتَحَسُّبًا، وَكَذَلِكَ مَا يَتَأَتَّى مِنْ صِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَالْبِرِّ بِالْأَيْتَامِ، وَالْعَطْفِ عَلَى الْمُحْتَاجِينَ، مَعَ الصَّدَقَةِ وَمَا يَشْمَلُ ذَلِكَ مِنَ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ مِمَّا يَنْدَرِجُ تَحْتَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَكُلُّ مَا أَتَى مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَرْبُو عَلَى ثَوَابِ الْجِهَادِ فِي غَيْرِ الْعَشْرِ مَا دَامَتْ تِلْكَ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَاتُ قَدْ وَقَعَتْ فِي الْعَشْرِ، كَمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ؛ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ: ((أَنَّ الْعَمَلَ الْمَفْضُولَ فِي الزَّمَانِ الْفَاضِلِ خَيْرٌ وَأَرْبَى أَجْرًا وَأَعْظَمُ ثَوَابًا مِنَ الْعَمَلِ الْفَاضِلِ فِي الزَّمَانِ الْمَفْضُولِ)).
فَبَيَّنَ الرَّسُولُ ﷺ هَذَا الْأَمْرَ الْعَظِيمَ: ((مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ)) يَعْنِي: أَيَّامَ الْعَشْرِ.. الْعَشْرَ الْأُوَلَ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ.
قِيلَ: ((وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ يَا رَسُولَ اللهِ؟)).
قَالَ: ((وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ؛ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ)).
هَذِهِ الْحَالَةُ الْمُسْتَثْنَاةُ لَا تُلْحَقُ وَلَا تُدْرَكُ، بَلْ هِيَ سَابِقَةٌ أَبَدًا، ((إِلَّا عَفِيرٌ عُفِّرَ وَجْهُهُ فِي التُّرَابِ، إِلَّا مَنْ عُقِرَ جَوَادُهُ وَأُهْرِيقَ دَمُهُ))، فَخَرَجَ بِنَفْسِهِ عَلَى كَفِّهِ يُلْقِي بِهَا فِي مَهَاوِي الرَّدَى؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُحْيِيَهَا عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ إِذِ الشُّهَدَاءُ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ.
فَذَهَبَ بِهَا عَلَى كَفِّهِ وَمَعَهُ مَالُهُ، فَعُقِرَ جَوَادُهُ، وَأُخِذَ سَلَبُهُ، ثُمَّ إِنَّهُ فَاضَتْ رُوحُهُ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَائِدَةً فِي جَوْفِ قِنْدِيلٍ أَخْضَرَ، مُعَلَّقَةٌ هِيَ بِسَاقِ الْعَرْشِ؛ إِذْ إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ جَعَلَ هَذِهِ الْحَالَةَ عَلَى هَذَا النَّحْوِ سَابِقَةً غَيْرَ مَسْبُوقَةٍ، فَيَقُولُ ﷺ: ((إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ -يَعْنِي: فِيمَا سِوَى الْعَشْرِ- خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ)).
فَالْحَاصِلُ إِذَنْ؛ أَنَّ كُلَّ نَفْلٍ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ هُوَ خَيْرٌ مِنْ كُلِّ نَفْلٍ فِيمَا سِوَاهُ، وَأَنَّ كُلَّ فَرْضٍ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ هُوَ خَيْرٌ مِنْ كُلِّ فَرْضٍ فِيمَا سِوَاهُ، وَأَمَّا النَّفْلُ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَاوِمَ الْفَرْضَ بِحَالٍ أَبَدًا، فَالنَّفْلُ فِيهَا لَا يَلْحَقُ الْفَرْضَ فِي غَيْرِهَا، وَإِنَّمَا النَّفْلُ فِيهَا يَزِيدُ عَلَى النَّفْلِ فِي غَيْرِهَا، وَكَذَلِكَ الْفَرْضُ فِيهَا يَزِيدُ عَلَى الْفَرْضِ فِي غَيْرِهَا؛ عَطَاءً مِنْ رَبِّكَ وَمَثُوبَةً -وَرَبُّكَ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ-.
النَّبِيُّ ﷺ لَمَّا بَيَّنَ لَنَا أَتَى بِاللَّفْظِ الْمُجْمَلِ، وَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ لِلْيَوْمِ تَدْخُلُ اللَّيْلَةُ فِيهِ، ((مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ أَيَّامِ الْعَشْرِ)).
فَيَقُولُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ -كَمَا ذَكَرَ ابْنُ رَجَبٍ -رَحِمَهُ اللهُ--: ((وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ اللَّيَالِيَ الَّتِي هِيَ لِلْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ هِيَ خَيْرٌ مِنْ لَيَالِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحَجَّةِ؛ لِأَنَّ فِي هَذِهِ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ لَيْلَةً هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ)).
وَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ لَيَالِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحَجَّةِ خَيْرٌ مِنْ لَيَالِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، قَالُوا: لِأَنَّ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ حَدِيثًا هُوَ: أَنَّ لَيَالِيَهُنَّ -أَيِ: الْعَشْرِ الْأُوَلِ- كُلُّ لَيْلَةٍ مِنْهُنَّ خَيْرٌ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَهَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ لَا يَصِحُّ)).
فَبَقِيَ -إِذَنْ- أَنَّ مَجْمُوعَ مَا هُنَالِكَ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ فِي الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَكُونُ فِي عَشْرٍ سِوَاهُ؛ وَلَوْ كَانَتِ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ يُخْبِرُ أَنَّ خَيْرَ أَيَّامِ الدُّنْيَا عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هِيَ هَذِهِ الْأَيَّامُ -يَعْنِي: أَيَّامَ الْعَشْرِ-، وَأَنَّ أَفْضَلَ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمُ الْقَرِّ.
يَقُولُ الرَّسُولُ ﷺ فِي هَذَا الْحَدِيثِ -وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ-: ((أَفْضَلُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- يَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمُ الْقَرِّ))؛ وَهُوَ الْغَدَاةُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، يَعْنِي: هُوَ الْيَوْمُ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحَجَّةِ، وَهُوَ يَوْمُ الْقَرِّ؛ لِأَنَّ الْحَجِيجَ يَقَرُّونَ فِيهِ بِـ(مِنًى)، فَسُمِّيَ بِهَذَا الِاسْمِ (يَوْمُ الْقَرِّ)، وَهُوَ لَيْسَ مِنَ الْعَشْرِ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ-؛ وَلَكِنَّ ((أَفْضَلَ أَيَّامِ الدُّنْيَا -كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ- يَوْمُ النَّحْرِ))، وَهُوَ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحَجَّةِ.
فِيهِ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ، وَفِيهِ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَفِيه يَوْمُ النَّحْرِ.
*مِنْ فَضَائِلِ يَوْمِ عَرَفَةَ وَيَوْمِ الْقَرِّ:
النَّبِيُّ ﷺ قَدْ أَخْبَرَ كَمَا أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) بِسَنَدِهِ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟».
فَهَذَا الْحَدِيثُ قَاضٍ بِأَنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- تَتَنَزَّلُ رَحَمَاتُهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، فَيُعْتِقُ مِنَ النَّارِ جَمًّا غَفِيرًا لَا يُحْصِي عَدَّهُمْ إِلَّا الَّذِي خَلَقَهُمْ، كَمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ.
يَوْمُ عَرَفَةَ.. هَذَا الْيَوْمُ الْكَبِيرُ الْجَلِيلُ الَّذِي سُئِلَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ صِيَامِهِ، كَمَا أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((سُئِلَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ يَوْمِ عَرَفَةَ)) يَعْنِي: عَنْ صِيَامِهِ.
فَقَالَ: ((يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ))، يُكَفِّرُ سَنَتَيْنِ، يَعْنِي: يُكَفِّرُ مِنَ الذُّنُوبِ مَا يَقْبَلُ التَّكْفِيرَ فِي سَنَةٍ مَضَتْ وَسَنَةٍ بَقِيَتْ، يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالسَّنَةَ الْبَاقِيَةَ، يُكَفِّرُ سَنَتَيْنِ، هَذَا الْيَوْمُ الْعَظِيمُ الَّذِي يَصْعَدُ فِيهِ الْحَجِيجُ مِنْ (مِنًى) إِلَى عَرَفَاتٍ، ثُمَّ يُصَلُّونَ هُنَالِكَ مَعَ الْإِمَامِ بِـ(مَسْجِدِ نَمِرَةَ) إِنِ اسْتَطَاعُوا؛ وَإِلَّا فَحَيْثُمَا أَرَادَ اللهُ، يُصَلُّونَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمْعًا مَعَ التَّقْدِيمِ وَالْقَصْرِ، وَالتَّقْدِيمُ هَاهُنَا مِنْ أَجْلِ أَنْ يَتِمَّ أَمْرٌ بِتَوْسِعَةٍ فِيهِ زَمَانًا عَلَى مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ للهِ خَاشِعًا دَاعِيًا مُتَبَتِّلًا مُنِيبًا، فَمِنْ أَجْلِ أَنْ يَتَّسِعَ الْوَقْتُ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ صَلَّى جَمْعًا بِعَرَفَاتٍ، صَلَّى النَّبِيُّ ﷺ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، وَجَمَعَ النَّبِيُّ ﷺ الْعَصْرَ وَالظُّهْرَ جَمْعَ تَقْدِيمٍ، ثُمَّ مَضَى ﷺ إِلَى الصَّخْرَاتِ يَتَوَجَّهُ إِلَى بَيْتِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الْحَرَامِ، يَرْفَعُ يَدَيْهِ ﷺ إِلَى رَبِّهِ زَمَانًا طَوِيلًا إِلَى الْعَشِيِّ إِلَى الْغُرُوبِ، ثُمَّ يَنْزِلُ إِلَى (الْمُزْدَلِفَةِ).
النَّبِيُّ ﷺ أَخْبَرَ ((أَنَّ خَيْرَ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَأَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)).
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ -فِي هَذَا الْوَقْتِ فِي الْعَشِيَّةِ حَيْثُ يَنْزِلُ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- نُزُولًا يَلِيقُ بِذَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ- يَدْنُو، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو حَتَّى يُبَاهِيَ بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ، يَقُولُ: مَاذَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟ مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟))، هَا هُمْ شُعْثٌ غُبْرٌ فِي مِثْلِ الْأَكْفَانِ قَدْ أَتَوْنِي ضَارِعِينَ خَاشِعِينَ مُنِيبِينَ دَاعِينَ، قَدْ رَفَعُوا الْأَكُفَّ إِلَيَّ تَضَرُّعًا وَمَذَلَّةً وَإِخْبَاتًا؛ مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟ لِمَ فَارَقُوا الْأَوْطَانَ، وَغَادَرُوا الْأَهْلِينَ، وَعَانَوْا مَا عَانَوْا مِنَ النَّصَبِ وَالتَّعَبِ؟!!
لِمَ هُمْ وُقُوفٌ هَاهُنَا يَتَوَجَّهُونَ إِلَى الْقِبْلَةِ الْمُبَارَكَةِ وَالْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عِنْدَ الدُّعَاءِ وَقَدْ رَفَعُوا الْأَكُفَّ إِلَى رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ؛ لِكَيْ يَسْتَنْزِلُوا رَحَمَاتِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي هَذَا الْوَقْتِ الْمُبَارَكِ الْعَظِيمِ؟!!
يَقُولُ النَّبِيُّ الْكَرِيمُ ﷺ: ((مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو عَشِيَّةَ عَرَفَةَ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ)).
الْمَلَائِكَةُ كَانُوا قَدِ اسْتَشْكَلُوا عِنْدَمَا أَخْبَرَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنَّهُ سَيَجْعَلُ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}.
مِنْ أَيْنَ عَلِمُوا أَنَّهُ سَيُفْسِدُ فِيهَا هَذَا الْإِنْسَانُ، وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ؟
قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّهُمُ اطَّلَعُوا عَلَى ذَلِكَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُمْ قَاسُوا عَلَى مَنْ كَانُوا قَبْلَ الْإِنْسِ فِي الْأَرْضِ، وَكَانَ الْجِنُّ فِي الْأَرْضِ مُكَلَّفِينَ، فَعَاثُوا فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، فَأَنْزَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْمَلَائِكَةَ الْأَطْهَارَ، فَطَرَدُوهُمْ إِلَى جَزَائِرِ الْبِحَارِ، فَقَاسَ الْمَلَائِكَةُ الْمُكَرَّمُونَ ذَلِكَ عَلَى ذَلِكَ، {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30].
سَيَخْرُجُ مِنْهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ، وَسَيَخْرُجُ مِنْهُمُ الْأَوْلِيَاءُ وَالصَّالِحُونَ، وَسَوْفَ يَعْبُدُونَنِي، وَيَكُونُ مِنْهُمْ مَنْ يَتَبَتَّلُ إِلَيَّ وَيَخْشَعُ عِنْدَ ذِكْرِ اسْمِي، وَيَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالْقَرَابِينِ؛ كَهَؤُلَاءِ الْحَجِيجِ الَّذِينَ يُبَاهِي اللهُ بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، يَقُولُ: ((مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟!)) يَعْنِي: لَمْ يُرِيدُوا إِلَّا الْخَيْرَ، وَلَمْ يَخْرُجُوا إِلَّا لِتَحْصِيلِهِ، وَهُمُ الْآنَ مَاذَا يُرِيدُونَ وَهُمْ وُقُوفٌ فِي صَعِيدِ عَرَفَاتٍ يَرْفَعُونَ الْأَكُفَّ ضَرَاعَةً إِلَى رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَسْتَنْزِلُوا الرَّحَمَاتِ، وَأَنْ يَغْفِرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الزَّلَّاتِ، وَأَنْ يَعْفُوَ عَنْ تِلْكَ السَّيِّئَاتِ، وَيَمْحُوهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَتَى شَاءَ كَيْفَ شَاءَ أَيْنَمَا شَاءَ، إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ بِمَا يُوَفِّقُ إِلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114].
((مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ))، وَهُوَ مِنَ الْعَشْرِ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ- ((فَمَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ)) يَعْنِي: أَيَّامَ الْعَشْرِ.
قِيلَ: ((وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ يَا رَسُولَ اللهِ؟)).
قَالَ: ((وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ؛ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، ثُمَّ لَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ)).
وَهِيَ حَالَةٌ فَرِيدَةٌ غَيْرُ مَسْبُوقَةٍ، لَا تُدْرَكُ وَلَا تُلْحَقُ وَلَا يُشَقُّ لَهَا غُبَارٌ، وَهَذَا وَاضِحٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى مَزِيدِ بَيَانٍ؛ ((إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ))، ((إِلَّا مَنْ عُقِرَ جَوَادُهُ، وَأُهْرِيقَ دَمُهُ))، ((إِلَّا عَفِيرٌ عُفِّرَ وَجْهُهُ فِي التُّرَابِ))، ((إِلَّا مَنْ عُفِّرَ وَجْهُهُ بِالتُّرَابِ))، كُلُّهَا أَلْفَاظُ النَّبِيِّ ﷺ.
فَيَوْمُ عَرَفَةَ هُوَ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ..
((وَيَوْمُ النَّحْرِ -يَوْمُ النَّحْرِ هُوَ: الْيَوْمُ الْعَاشِرُ مِنْ هَذِهِ الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ- أَفْضَلُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- ))، كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ،
وَفِيهِ أَعْمَالُ الْحَجِّ الْكُبْرَى؛ فِيهِ رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، فِيهِ الْحَلْقُ أَوِ التَّقْصِيرُ، فِيهِ نَحْرُ الْهَدَايَا تَقَرُّبًا إِلَى اللهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ، فِيهِ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ، فِيهِ أَعْمَالُ الْحَجِّ الْكُبْرَى تَتَأْتَّى بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ؛ إِذْ هِيَ رُكْنٌ جَلِيلٌ جِدًّا؛ عَرَفَةُ هَذِهِ: ((الْحَجُّ عَرَفَةُ))، كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ.
فِي هَذَا الْيَوْمِ يُقَدِّمُ الْحَجِيجُ الْهَدَايَا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، يَحْلِقُونَ وَيُقَصِّرُونَ، يَتَحَلَّلُونَ التَّحَلُّلَ الْأَصْغَرَ، فَيَحِلُّ لَهُمْ -يَوْمَئِذٍ- كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ، يَأْخُذُونَ مِنْ أَبْشَارِهِمْ، وَيُقَلِّمُونَ أَظَافِرَهُمْ؛ لِكَيْ تَكُونَ التَّضْحِيَةُ بِذَلِكَ جَمِيعِهِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَهُوَ بِعَيْنِهِ مَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ كَمَا فِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ -رَحِمَهُ اللهُ-، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أُمِّنَا أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ تَرْفَعُهُ -يَعْنِي: عَنِ النَّبِيِّ ﷺ-: ((إِذَا أَهَلَّ هِلَالُ الْعَشْرِ -أَوِ الْعَشْرَةِ الْأَيَّامِ الْأُولَى- إِذَا أَهَلَّ هِلَالُ الْعَشْرِ وَكَانَ لِأَحَدِكُمْ ذِبْحٌ يُرِيدُ أَنْ يَذْبَحَهُ؛ فَلَا يَأْخُذُ مِنْ شَعْرِهِ وَلَا مِنْ بَشَرِهِ شَيْئًا)).
((مَفْهُومُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ))
إِنَّ الرَّسُولَ ﷺ بَيَّنَ لَنَا رَبُّنَا عَلَى لِسَانِهِ ﷺ فَضْلَ مَوَاسِمِ الْخَيْرَاتِ، يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ -كَمَا رَوَى ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)) بِسَنَدِهِ عَنْهُ يَرْفَعُهُ- قَالَ: قَالَ الرَّسُولُ ﷺ: ((مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ –يَعْنِي: أَيَّامَ الْعَشْرِ)).
قَالُوا: ((وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ يَا رَسُولَ اللهِ؟)).
قَالَ: ((وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ؛ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، ثُمَّ لَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ)).
فَبَيَّنَ لَنَا النَّبِيُّ ﷺ فَضْلَ الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَبَيَّنَ لَنَا نَبِيُّنَا ﷺ أَنَّ أَلْوَانَ الطَّاعَاتِ، وَضُرُوبَ الْخَيْرَاتِ، وَصُنُوفَ التَّقَرُّبِ لِرَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ هُوَ أَحَبُّ شَيْءٍ إِلَى رَبِّنَا -جَلَّ وَعَلَا- فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ.
يُحِبُّ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هَذِهِ الطَّاعَاتِ، وَيُعْلِي قَدْرَ هَذِهِ الْقُرُبَاتِ عَنْ بَقِيَّةِ الْأَوْقَاتِ فِي سَائِرِ الْعَامِ.
((مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ -يَعْنِي: أَيَّامَ الْعَشْرِ)).
وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ -رَحِمَهُ اللهُ- السَّبَبَ فِي امْتِيَازِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ بِأَنَّ الطَّاعَاتِ فِيهِ أفْضَلُ مِنْهَا فِي غَيْرِهِ فَقَالَ: ((هُوَ لِأَجْلِ اجْتِمَاعِ أُمَّهَاتِ الْعِبَادَةِ فِيهِ وَهِيَ؛ الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ وَالْحَجُّ وَيَوْمُ عَرَفَةَ, وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ)).
((مِنْ أَعْظَمِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فِي الْعَشْرِ:
تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ وَالْعُبُودِيَّةِ للهِ))
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ فِي الْأَيَّامِ الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ كَثِيرٌ وَمُتَنَوِّعٌ، وَأَعْلَى ذَلِكَ وَأَجْلَاهُ أَنْ يُطَهِّرَ الْمَرْءُ اعْتِقَادَهُ للهِ مِنْ دَرَنِ الشِّرْكِ وَالْكُفْرَانِ، وَأَنْ يُحَصِّلَ التَّوْحِيدَ الْحَقَّ مُقْبِلًا عَلَى اللهِ بِالْإِخْلَاصِ، وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَسَّسَ الْمِلَّةَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْعَظِيمِ، وَهُوَ تَوْحِيدُ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَلَا يَصِحُّ عَمَلٌ وَلَا يُقْبَلُ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَمْ يَكُنْ مُؤَسَّسًا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْأَصِيلِ الَّذِي لِأَجْلِهِ خَلَقَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْخَلْقَ؛ فَإِنَّ اللهَ رَبُّ الْعَالَمِينَ خَلَقَ الْخَلْقَ لِتَوْحِيدِهِ بِعِبَادَتِهِ، وَصَرْفِ الْعِبَادَةِ لَهُ وَحْدَهُ -جَلَّ وَعَلَا-.
فَأَعْظَمُ مَا يَأْتِي بِهِ الْعَبْدُ فِي كُلِّ حِينٍ وَحَالٍ، وَيَتَأَكَّدُ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ؛ إِذْ هِيَ أَفْضَلُ أَيَّامِ الدُّنْيَا كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ؛ فَأَفْضَلُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَجْتَهِدُ فِي تَحْرِيرِ اعْتِقَادِهِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ، وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَعَلُّمِ التَّوْحِيدِ, يُقْبِلَ عَلَيْهِ وَيُحَصِّلَهُ، وَفِي مَعْرِفَةِ الشِّرْكِ لِيَبْتَعِدَ عَنْهُ، وَلِيَجْتَنِبَهُ، وَلِيَحْذِّرَ وَيُنَفِّرَ مِنْهُ.
لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَقْبَلَ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنْ غَيْرِ تَوْحِيدٍ؛ فَهَذَا بَانٍ عَلَى غَيْرِ أَسَاسٍ! وَهَذَا كَالَّذِي يُقِيمُ بِنَاءَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ أَوْ كَالَّذِي يَبْنِي لَا عَلَى مُتَحَرِّكِ الرِّمَالِ بَلْ إِنَّهُ يَبْنِي عَلَى الْمَاءِ!! وَهَذَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَأْتِيَ مِنْ عَمَلِهِ خَيْرٌ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ لَا يَكُونُ صَالِحًا مُتَقَبَّلًا عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ إِلَّا إِذَا تَوَفَّرَ فِيهِ الشَّرْطَانُ:
أَنْ يَكُونَ خَالِصًا مَبْنِيًّا عَلَى التَّوْحِيدِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ، بَرِيئًا مِنَ الشِّرْكِ، وَمِنَ الرِّيَاءِ، وَمِنَ السُّمْعَةِ، وَمِنْ مُلَاحَظَةِ الْخَلْقِ بِعَيْنِ الْبَصِيرَةِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ خَالِصًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَيَكُونُ الْعَبْدُ فِيهِ مُتَّبِعًا فِيهِ لِنَبِيِّهِ الْكَرِيمِ ﷺ.
فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُحَرِّرَ هَذَا بَدْءً؛ لِكَيْ يَبْنِيَ عَلَى أَسَاسٍ مَتِينٍ؛ لِأَنَّهُ إِنْ بَنَى عَلَى غَيْرِ هَذَا الْأَسَاسِ؛ فَلَا قِيمَةَ لِعَمَلِهِ بِالْمَرَّةِ، بَلْ إِنَّهُ رُبَّمَا كَانَ مُعَاقَبًا عَلَيْهِ مُؤَاخَذًا بِهِ.
وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِنَّمَا خَلَقَنَا لِتَحْقِيقِ هَذَا الْأَصْلِ الْكَبِيرِ، وَهُوَ إِفْرَادُ اللهِ بِالْعِبَادَةِ وَإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ، وَتَوْحِيدُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
فَالْمِلَّةُ مُؤَسَّسَةٌ عَلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ: أَلَّا يُعْبَدَ إِلَّا اللهُ، وَأَلَّا يُعْبَدَ اللهُ إِلَّا بِمَا شَرَعَ.
أَلَّا يُعْبَدَ إِلَّا اللهُ: ((أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)).
وَأَلَّا يُعْبَدَ اللهُ إِلَّا بِمَا شَرَعَ: ((أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ)).
فَهَذَا هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ يَقُومُ عَلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ: عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْاتِّبَاعِ.
فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَحْقِيقِ هَذَا الْأَصْلِ، ثُمَّ فَلْيَبْنِ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَيْهِ مَا شَاءَ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ عَلَى قَانُونِ مُحَمَّدٍ ﷺ مُتَّبِعًا فِيهِ هَدْيَ نَبِيِّهِ، غَيْرِ مُبْتَدِعٍ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِهِ، وَإِنَّمَا يَسِيرُ خَلْفَ الرَّسُولِ ﷺ يَقْتَفِي أَثَرَهُ.
وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ خَالِصًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَقَدْ خَالَطَهُ الرِّيَاءُ، وَدَاخَلَتْهُ السُّمْعَةُ!
وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ صَالِحًا وَقَدْ مَازَجَتْهُ الْبِدْعَةُ!
أَخْرَجَ الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) بِسَنَدِهِ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: ((كَانَتْ لِي جَارِيَةٌ تَرْعَى غَنَمًا لِي قِبَلَ أُحُدٍ وَالْجَوَّانِيَّةِ، فَاطَّلَعْتُ ذَاتَ يَوْمٍ فَإِذَا الذِّيبُ قَدْ ذَهَبَ بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِهَا، وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي آدَمَ، آسَفُ كَمَا يَأْسَفُونَ، لَكِنِّي صَكَكْتُهَا صَكَّةً، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَعَظَّمَ ذَلِكَ عَلَيَّ.
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَفَلَا أُعْتِقُهَا؟
قَالَ: «ائْتِنِي بِهَا»، فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَقَالَ لَهَا: «أَيْنَ اللهُ؟»
قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ.
قَالَ: «مَنْ أَنَا؟».
قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللهِ.
قَالَ: «أَعْتِقْهَا؛ فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ».
فِي هَذَا الْحَدِيثِ: بَيَانُ أَنَّ الْمُسْلِمَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ صَحِيحَ الِاعْتِقَادِ، سَلِيمَ الْمِنْهَاجِ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ ﷺ سَأَلَهَا عَنْ هَذَا الْأَمْرِ الْكَبِيرِ مِنْ أُمُورِ الِاعْتِقَادِ؛ بِإِثْبَاتِ الْعُلُوِّ لِلْعَلِيِّ الْغَفَّارِ، وَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ ﷺ سَائِلًا إِيَّاهَا عَنْ صِحَّةِ اعْتِقَادِهَا: ((أَيْنَ اللهُ؟)).
قَالَتْ: ((فِي السَّمَاءِ)).
ثُمَّ سَأَلَهَا الرَّسُولُ ﷺ عَنْ أَصْلِ الِاتِّبَاعِ، وَعَنِ الْمِنْهَاجِ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَلْتَزِمَهُ الْمُسْلِمُ فِي حَيَاتِهِ، فَقَالَ: ((مَنْ أَنَا؟)).
وَهِيَ تَعْرِفُ الرَّسُولَ ﷺ بِشَخْصِهِ وَبِصِفَتِهِ، فَتَعْرِفُ الرَّسُولَ ﷺ النَّبِيَّ الْمُرْسَلَ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ، وَتَعْرِفُ حَقَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِ فِيمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْ أَمْرِ اتِّبَاعِ سُنَّتِهِ، وَالْتِزَامِ طَرِيقَتِهِ، وَالْقَصِّ عَلَى أَثَرِهِ، وَالسَّيْرِ مِنْ وَرَائِهِ، وَالْتِزَامِ أَحْوَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، فَقَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللهِ.
لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُ صَحِيحَ الِاعْتِقَادِ، سَلِيمَ الْمِنْهَاجِ، وَلَا يَنْفَعُ الْمُسْلِمَ زُهْدُهُ، وَلَا وَرَعُهُ، وَلَا بُعْدُهُ عَنِ الدَّنَايَا، وَلَا تَنَزُّهُهُ -فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ- مِنَ الْخَطَايَا إِذَا لَمْ يَكُنْ صَحِيحَ الْمِنْهَاجِ سَلِيمَ الْمِنْهَاجِ، عَظِيمَ الِاتِّبَاعِ لِلنَّبِيِّ ﷺ.
لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُ قَائِمًا عَلَى مِنْهَاجِ مُحَمَّدٍ ﷺ.
وَرَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- يُبَيِّنُ لَنَا فِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ الصَّحِيحِ: ((يَا ابْنَ آدَمَ! لَوْ جِئْتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا –يَعْنِي: بِمَا يُقَارِبُ مِلْءَ الْأَرْضِ خَطَايَا وَآثَامًا وَذُنُوبًا وَمُوبِقَاتٍ-، ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا؛ لَأَتَيْتُكَ بِقِرَابِهَا مَغْفِرَةً)) .
لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ صَحِيحًا فِي اعْتِقَادِهِ، غَيْرَ مُلَوَّثٍ بِشِرْكٍ، بَعِيدًا عَنِ التَّدَنُّسِ بِأَيِّ أَمْرٍ يَثْلُمُ اعْتِقَادَهُ -وَلَوْ بِثُلْمَةٍ يَسِيرَةٍ-، أَوْ يَخْدِشُ سَوَادَ حَدَقَةِ عَيْنِ التَّوْحِيدِ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ ﷺ أَرْسَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ كَمَا أَرْسَلَ إِخْوَانَهُ السَّابِقِينَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ مِنْ أَجْلِ كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ؛ هِيَ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)).
لَقَدْ جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ لِحِكَمٍ جَلِيلَاتٍ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا رَبُّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، وَبَيَّنَ لَنَا رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- أَنَّ فِي ثَنَايَا وَتَضَاعِيفِ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُلْحَظَ بِعَيْنِ الرِّعَايَةِ، وَأَنْ يَلْتَفِتَ إِلَيْهِ الْمُسْلِمُ الْتِفَاتًا صَحِيحًا؛ أَلَا وَهُوَ: ذِكْرُ اللهِ.
أَنْ يُكَبِّرَ النَّاسُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَأَنْ يُعَظِّمُوا أَمْرَهُ، وَأَنْ يَلْتَزِمُوا النَّهْجَ الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ عَبْدَهُ وَنَبِيَّهُ ﷺ، {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14].
وَأَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْحَجِيجَ إِذَا مَا أَفَاضُوا أَنْ يَذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِهِمْ آبَاءَهُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا؛ بَلْ جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْأَمْرَ مَبْنِيًّا عَلَى إِقَامَةِ ذِكْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِتَوْحِيدِهِ، وَإِظْهَارِ شَعَائِرِهِ، وَإِعْلَاءِ أَمْرِ دِينِهِ بِأَمْرِهِ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَرْسَلَ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمُرْسَلِينَ جَمِيعًا؛ لِكَيْ يَقُولَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ لِقَوْمِهِ: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ} [هود: 84]، ((قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ تُفْلِحُوا)) .
وَأَخَذَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْخَلْقَ فِي كَثِيرٍ مِنْ عِبَادَاتِهِمْ؛ بَلْ فِي جُمْلَةِ الْعِبَادَاتِ بِإِظْهَارِ الْعُبُودِيَّةِ لِرَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، وَمُكَوِّنِ الْكَائِنَاتِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَكُونُوا أَذِلَّاءَ مُخْبِتِينَ مُنِيبِينَ خَاضِعِينَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَهُوَ مَا أَظْهَرَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي كِتَابِهِ فِي بَيَانِ وَكَشْفِ حَالِ رَسُولِهِ ﷺ.
{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن: ١٩].
فَهَذَا مَقَامُ الدَّعْوَةِ.
{وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: ٢٣].
فَهَذَا مَقَامُ التَّحَدِّي.
{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: ١].
فَهَذَا مَقَامُ إِظْهَارِ عُلُوِّ النَّبِيِّ ﷺ.
فِي ذَلِكَ كُلِّهِ يَنْعَتُهُ بِهَذَا اللَّفْظِ الشَّرِيفِ وَهَذَا الْوَصْفِ الْمُنِيفِ، بِهَذَا الْوَصْفِ وَصْفِ الْعُبُودِيَّةِ؛ إِذْ هُوَ أَعْبَدُ الْخَلْقِ لِرَبِّهِمْ ﷺ.
لَمْ يَسْتَفِزَّهُ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ خَطْبٌ يُخْرِجُهُ -وَلَوْ قِيدَ أُنْمُلَةٍ- عَنْ إِطَارِ الْعُبُودِيَّةِ فِي مَقَامِ النِّعْمَةِ الْعُظْمَى، وَفِي مَقَامِ الْمِنْحَةِ الْجُلَّى، وَقَدْ أَظْهَرَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى الْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ.
وَفَتَحَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ الْفَتْحَ الْأَكْبَرَ، وَدَخَلَ النَّبِيُّ ﷺ مَكَّةَ فِي الْكَتِيبَةِ الْخَضْرَاءِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالْحَدِيدُ عَلَيْهِمْ مِنْ مَفَارِقِ الرُّؤُوسِ إِلَى أَخْمَصِ الْأَقْدَامِ.
دَخَلَ النَّبِيُّ ﷺ مَكَّةَ مُتَوَاضِعًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، ذَلِيلًا لِرَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-، مُنِيبًا وَخَاشِعًا وَمُسْتَكِينًا، وَقَدْ أَحْنَى رَأْسَهُ بِصَدْرِهِ حَتَّى كَانَتْ لِحْيَتُهُ تَمَسُّ مَعْرَفَةَ بَغْلَتِهِ؛ تَوَاضُعًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَإِخْبَاتًا .
وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ لَمَّا قَالَ: «يَا أَبَا سُفْيَانَ! اليَوْمَ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ، اليَوْمَ تُسْتَحَلُّ الكَعْبَةُ)).
فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ لِرَسُول اللَّهِ ﷺ: أَلَمْ تَعْلَمْ مَا قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ؟ قَالَ: «مَا قَالَ؟»
قَالَ: كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: «كَذَبَ سَعْدٌ، وَلَكِنْ هَذَا يَوْمٌ يُعَظِّمُ اللَّهُ فِيهِ الكَعْبَةَ، وَيَوْمٌ تُكْسَى فِيهِ الكَعْبَةُ». الحديث.
لَا يَسْتَفِزُّهُ حَالٌ بِحَالٍ أَبَدًا، وَإِنَّمَا أَمْرُ الْعُبُودِيَّةِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قَائِمٌ بِهِ، لَا يَقُومُ مَقَامُ الْعُبُودِيَّةِ بِمُحَمَّدٍ، وَإِنَّمَا يَقُومُ مُحَمَّدٌ بِمَقَامِ الْعُبُودِيَّةِ ﷺ، كَمَا أَنَّهُ يَقُومُ عَلَى الْخُلُقِ الْعَظِيمِ، وَلَا يَقُومُ بِهِ الْخُلُقُ الْعَظِيمُ؛ لِأَنَّهُ فَوْقَهُ: { وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] ﷺ.
وَهَا هُوَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَإِذَا مَا كَانَ بِبَطْنِ الْوَادِي بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ رَكَضَ رَكْضًا شَدِيدًا، يَدُورُ بِهِ إِزَارُهُ ﷺ حَتَّى لَتَتَكَشَّفَ رُكْبَتَاهُ، ثُمَّ إِنَّهُ يَصْعَدُ يَسْتَقْبِلُ يَدْعُو رَبَّهُ مُنِيبًا ﷺ بِحِلْمِهِ وَتَوَاضُعِهِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ أَعْرَفُ الْخَلْقِ بِمَقَامِ الرَّبِّ -جَلَّ وَعَلَا- .
عِنْدَمَا أَرَادَ الْعَبَّاسُ أَنْ يَسْقِيَهُ مِمَّا لَا يَشْرَبُ مِنْهُ النَّاسُ؛ لِأَنَّ الْمَوْقِفَ الْعَظِيمَ يَجْمَعُ هَذَا وَهَذَا مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ، وَالنَّاسُ طَبَقَاتٌ، وَالنَّاسُ أَحْوَالٌ وَأَشْكَالٌ، وَضُرُوبٌ وَأَلْوَانٌ، فَأَرَادَ أَنْ يُبْعِدَ مَا يَسْقِي بِهِ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ عَنِ الْوُرُودِ الْعَامِّ بِحِيَاضِهِ، فَأَتَاهُ، فَقَالَ: «اسْقُونَا مِمَّا تَسْقُونَ مِنْهُ النَّاسَ» ﷺ .
لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ صَحِيحَ الِاعْتِقَادِ؛ وَإِلَّا فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ عَمَلٌ أَبَدًا: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: 48].
وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ سَوِيَّ الْمِنْهَاجِ، سَوِيَّ الْقَصْدِ بِالْقَصِّ عَلَى أَثَرِ النَّبِيِّ ﷺ؛ وَإِلَّا فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ عَمَلٌ أَبَدًا، وَلَا يَجِدُ الْمَرْءُ حَلَاوَةَ الدِّينِ وَلَا يَجِدُ الْمَرْءُ لَذَّةَ الْيَقِينِ إِلَّا إِذَا كَانَ صَحِيحَ الِاعْتِقَادِ، سَلِيمَ الْمِنْهَاجِ.
وَأَمَّا إِذَا مَا أَخَذَ بِأَلْوَانِ الِاعْتِقَادِ عَلَى أَيِّ مَنْحًى مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَنْحَى عَلَى مِنْهَاجِ مُحَمَّدٍ ﷺ؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ بِكَثْرَةِ الْعَمَلِ مُبْتَعِدًا عَنِ الرَّبِّ الْعَلِيِّ الْأَجَلِّ، وَلَا تَزِيدُهُ كَثْرَةُ الْعِبَادَةِ وَشِدَّتُهَا عَنِ اللهِ إِلَّا بُعْدًا.
((مِنْ أَفْضَلِ أَعْمَالِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ:
الصَّوْمُ))
لَقَدْ بَيَّنَ لَنَا نَبِيُّنَا ﷺ فَضْلَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَالْعَرَبُ يُسَمُّونَ الشَّيْءَ بِنَظِيرِهِ أَحْيَانًا وَبِمُجَاوِرِهِ أَحْيَانًا، وَيَأْخُذُونَ بِالتَّغْلِيبِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ أَحْيَانًا، فَيُسَمُّونَ التِّسْعَ الْأُوَلَ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحَجَّةِ عَشْرًا، وَلَا حَرَجَ فَهَذِهِ إِطْلَاقًا، وَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْبَغِي أَنْ يُحْتَرَزَ حَتَّى لَا يَدْخُلَ فِيمَا أُطْلِقَ مَا لَيْسَ مِنْهُ، وَإِنَّمَا هُوَ مُقَيَّدٌ بِسِوَى الدَّلِيلِ؛ يَعْنِي بِالدَّلِيلِ الظَّاهِرِ بِإِطْلَاقٍ.
وَمِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ بِلَا خِلَافٍ الصِّيَامُ، بَلْ هُوَ مِنْ أَجَلِّ الْأَعْمَالِ وَمِنْ أَعْظَمِهَا أَجْرًا عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، حَتَّى إِنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- جَعَلَ مَنْ صَامَ فِي سَبِيلِهِ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- يَوْمًا جَعَلَ هَذَا الْوَجْهَ -وَجْهَ الصَّائِمِ- بَعِيدًا عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا، فَجَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ خَنْدَقًا، وَهَذَا الْخَنْدَقُ سَبْعِينَ خَرِيفًا؛ أَيْ يَسِيرُ فِيهِ السَّائِرُ سَبْعِينَ عَامًا أَوْ خَنْدَقًا كَمَا بَيْنَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ.
((دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ))؛ إِذْ فَاتَنِي مَا فَاتَنِي مِنَ الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ كَمَا طَلَبَ أَبُو أُمَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مِنَ النَّبِيِّ ﷺ؛ إِذْ وَجَّهَ سَرِيَّةً، فَسَلِمُوا وَغَنِمُوا، وَكَانُوا قَدْ طَلَبُوا مِنْهُ ﷺ أَنْ يَدْعُوَ لَهُمْ بِالشَّهَادَةِ مَرَّةً وَمَرَّةً وَمَرَّةً، ثُمَّ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: ((دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ)).
قَالَ: ((عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا عِدْلَ لَهُ)).
وَفِي رِوَايَةٍ: ((لَا مِثْلَ لَهُ)).
وَالْقَاعِدَةُ عِنْدَ الْعَلَمَاءِ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ- عِنْدَ مَا ظَاهِرُهُ الِاخْتِلَافُ مِنَ النُّصُوصِ؛ أَيْ يَبْدُو عَدَمُ التَّوَافُقِ بَيْنَ النَّصَّيْنِ ظَاهِرًا لَا حَقِيقَةً، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ يَزُولُ عِنْدَ النَّاظِرِينَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الْأَثْبَاتِ، حَيْثُ يَجِدُونَ مَا يُمْكِنُ التَّوْفِيقُ بِهِ، أَوْ يَنْظُرُونَ فِيمَا يُسَمَّى بِالنَّسْخِ، فَإِذَا بِأَحَدِ النَّصَّيْنِ قَدْ سَبَقَ صَاحِبَهُ، وَحِينَئِذٍ يَأْتِي الْمَسْبُوقُ -هَكَذَا- مَنْسُوخًا، أَوْ يُحَاوِلُونَ عَلَى قَدْرِ مَا يَسْتَطِيعُونَ بِمَزِيدِ التَّأَمُّلِ فِي النَّصِّ أَنْ يُزِيلُوا الْخِلَافَ؛ إِذْ لَا تَعَارُضَ هُنَالِكَ يَسْتَوْجِبُ التَّرْجِيحَ بِحَالٍ، أَوْ يَتَوَقَّفُونَ حِينَئِذٍ، وَهَذَا هُوَ مَا يَعْمَلُهُ الْعُلَمَاءُ -عَلَيْهِمُ الرَّحْمَةُ- عِنْدَ مَا ظَاهِرُهُ الِاخْتِلَافُ مِنْ أَحَادِيثِ النَّبِيِّ ﷺ.
عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَفِي ((السُّنَنِ)) أَنَّ حَفْصَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ ﷺ يَدَعُ ثَلَاثًا قَطُّ أَوْ قَالَتْ: ثَلَاثَةً لَمْ يَكُنْ يَدَعُهُنَّ النَّبِيُّ ﷺ قَطُّ؛ صَوْمُ عَاشُورَاءَ، وَصَوْمُ الْعَشْرِ -يَعْنِي الْعَشْرَ الْأُوَلَ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحَجَّةِ، وَصَوْمُ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ)).
وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدِ اخْتُلِفَ عَلَى مَنْ رَوَاهُ.
وَأَيْضًا أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَهُوَ -أَيْضًا- عِنْدَ أَحْمَدَ وَعِنْدَ الْبَيْهَقِيُّ فِي ((السُّنَنِ)) جَمِيعُهُمْ عَنْ هُنَيْدَةَ بْنِ خَالِدٍ، قِيلَ: لَهُ صُحْبَةٌ، وَكَانَ رَبِيبَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
عَنْ هُنَيْدَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنِ امْرَأَتِهِ أَنَّهَا سَمِعَتْ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ -هِيَ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ أُمُّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، قَالَتْ: ((كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَالْعَشْرَ -الْعَشْرَ الْأُوَلَ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحَجَّةِ-)).
وَفِي رِوَايَةِ هُنَيْدَةَ عَنِ امْرَأَتِهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- تَفْصِيلٌ بِتَحْدِيدٍ: ((وَتِسْعِ ذِي الْحَجَّةِ)) -هَكَذَا- ((وَتِسْعِ ذِي الْحَجَّةِ)).
عِنْدَ حَفْصَةَ أَتَتْ بِالتَّغْلِيبِ، فَقَالَتْ: ((وَالْعَشْرَ))؛ عَشْرَ ذِي الْحَجَّةِ؛ تَعْنِي قَالَتْ: ((يَصُومُ الْعَشْرَ))؛ عَشْرَ ذِي الْحَجَّةِ، وَإِنِ اخْتُلِفَ عَلَى مَنْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ.
وَأَمَّا حَدِيثُ هُنَيْدَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنِ امْرَأَتِهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ وَعِنْدَ أَحْمَدَ وَعِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ، جَمِيعُهُمْ عَنْ هُنَيْدَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَا دَامَتْ لَهُ صُحْبَةٌ، وَنَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَرْضَى عَنْهُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ صُحْبَةٌ وَعَنِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ- عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَتِسْعَ ذِي الْحَجَّةِ -يَصُومُ تِسْعَ ذِي الْحَجَّةِ- وَكَانَ يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ أَوَّلَ اثْنَيْنِ فِي الشَّهْرِ وَالْخَمِيسَ وَالْخَمِيسَ الَّذِي يَلِيهِ)).
وَفِي رِوَايَةٍ: ((أَوَّلَ اثْنَيْنِ مِنَ الشَّهْرِ وَخَمِيسَيْنِ))؛ يَعْنِي: وَالْخَمِيسَ الَّذِي يَلِي الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسَ الَّذِي يَلِيهِ.
وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) بِسَنَدَهِ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ صَائِمًا الْعَشْرَ قَطُّ)).
وَفِي رِوَايَةٍ: ((يَصُومُ مِنَ الْعَشْرِ قَطُّ)). هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، بَلْ صَحِيحٌ صَحِيحٌ؛ إِذْ هُوَ فِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) -رَحِمَهُ اللهُ-، مَا الْعَمَلُ؟
قَدْ جَاءَنَا -الْآنَ- حَدِيثَانِ يَتَعَارَضَانِ ظَاهِرًا، فِي أَحَدِهِمَا: ((أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ﷺ يَصُومُ الْعَشْرَ))، وَفِي رِوَايَةٍ: ((يَصُومُ مِنَ الْعَشْرِ قَطُّ))، ((مَا رَأَيْتُ)) -هَكَذَا- وَهِيَ رُؤْيَةُ الْعِلْمِ لَا رُؤْيَةُ الْبَصَرِ.
أَوَّلًا: ((مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَصُومُ)) فَهَذَا عِلْمُهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُثْبِتَ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي، وَمَعْلُومٌ -أَيْضًا- مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مَزِيدُ عِلْمٍ هُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ؛ يَعْنِي فِي الْمَوْضِعِ الْمَذْكُورِ.
وَحَفْصَةُ قَدْ أَخْبَرَتْ، وَهَذَا وَجْهٌ مِنْ وُجُوهِ الْجَمْعِ ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ -رَحِمَهُ اللهُ-، حَفْصَةُ أَخْبَرَتْ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- عَنْ صِيَامِ النَّبِيِّ ﷺ، وَأَمُّ سَلَمَةَ أَخْبَرَتْ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- عَنْ صِيَامِ النَّبِيِّ ﷺ تِسْعَ ذِي الْحَجَّةِ، وَعَائِشَةُ نَفَتْ، فَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي، وَمَنْ عِنْدَهُ مَزِيدُ عِلْمٍ مُقَدَّمٌ عَلَى مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ؛ يَعْنِي فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ.
إِذَنْ؛ فَالْمَصِيرُ إِلَى هَذَا الْأَمْرِ، وَأَمَّا إِذَاعَةُ حَدِيثِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فِي الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا مُعَارِضَ لَهُ يُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُعَارِضِهِ؛ فَهُوَ سَدٌّ لِبَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْخَيْرِ أَمَامَ الْمُسْلِمِينَ الْمَسَاكِينِ مِنْ أَمْثَالِنَا، وَهُوَ لَا يَجُوزُ، وَإِنَّمَا مَسَالِكُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْجَمْعِ، وَهَذِهِ مَسَالِكُهُمْ.
لِذَلِكَ قَالَ النَّوَوِيُّ الْإِمَامُ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((شَرْحِهِ عَلَى مُسْلِمٍ)) عِنْدَ ذِكْرِ حَدِيثِ عَائِشَةَ: ((مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ صَائِمًا الْعَشْرَ قَطُّ، أَو: يَصُومُ مِنَ الْعَشْرِ قَطُّ)) عِنْدَ شَرْحِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ بِرِوَايَتَيْهِ قَالَ: ((وَلَا يُكْرَهُ، بَلْ يُسْتَحَبُّ جِدًّا أَنْ تُصَامَ هَذِهِ الْأَيَّامُ؛ فَإِنَّ الصَّوْمَ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ))؛ يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ)).
فَالصِّيَامُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ مَطْلُوبٌ جِدًّا كَمَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَفْعَلُ فِي حَدِيثِ حَفْصَةَ -وَإِنِ اخْتُلِفَ عَلَى رَاوِيهِ- وَأَيْضًا كَمَا فِي حَدِيثٍ لَمْ يُخْتَلَفْ عَلَى رَاوِيهِ، بَلْ هُوَ صَحِيحٌ وَلَهُ طُرُقٌ، وَهَذَا الْحَدِيثُ مَرْوِيٌّ فِي هَذِهِ الدَّوَاوِينِ الَّتِي ذَكَرْتُ مِنْ دَوَاوِينِ السُّنَّةِ؛ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ وَعِنْدَ أَحْمَدَ وَعِنْدَ الْبَيْهِقِيِّ، كُلُّهُمْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ هُنَيْدَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنِ امْرَأَتِهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ لَا يَدَعُ هَذِهِ الثَّلَاثَ، كَانَ لَا يَدَعُ صَوْمَ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَلَا صِيَامَ التِّسْعِ -التِّسْعِ الْأُوَلِ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ- وَأَيْضًا كَانَ يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ الِاثْنَيْنِ الْأَوَّلِ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَالْخَمِيسَ وَالْخمِيسَ الَّذِي يَلِي الْخَمِيسَ، قَالَ: وَالْخَمِيسَ الَّذِي يَلِيهِ -وَفِي رِوَايَةٍ-: وَخَمِيسَيْنِ)).
وَإِذَنْ؛ فَهَذَا التَّعَارُضُ الظَّاهِرُ -كَمَا تَرَى- يُمْكِنُ أَنْ يَزُولَ مُبَاشَرَةً إِذَا مَا نَظَرَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْحَدِيثَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ، ((مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مَزِيدُ عِلْمٍ فَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ))، وَقَدْ أَخْبَرَتَ كُلٌّ بِعِلْمِهَا -رِضْوَانُ اللهِ عَلَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ جُمَعٌ جَمْعَاوَاتٌ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِنَّ- فَأَيُّ شَيْءِ هُنَالِكَ؟!!
إِنَّمَا أَخْبَرَتْ أَنَّهَا لَمْ تَرَهْ كَذَلِكَ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمْ يَصُومَهُنَّ لِمَرَضٍ، أَوْ لِسَفَرٍ، أَوْ لِجِهَادٍ، أَوْ لِعَارِضٍ عَرَضَ مِمَّا يَعْرِضُ لِلنَّاسِ فِي الْأَرْضِ.
وَأَخْبَرَتْ غَيْرُهَا عَمَّا عَلِمَتْ، فَهَذَا الَّذِي أَخْبَرَ عِنْدَهُ مَزِيدُ عِلْمٍ، فَهُوَ مُقَدَّمٌ، فَلَا حَرَجَ حِينَئِذٍ.
وَشَيْءٌ آخَرُ: يَقُولُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَمِنْهُمُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّمَا أَخْبَرَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُتِمِهُنُّ صَوْمًا، فَلَمْ أَرَهُ صَائِمًا الْعَشْرَ قَطُّ)).
هَذَا الْجَمْعُ يَسْتَقِيمُ مَعَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَلَكِنْ مَا الْعَمَلُ مَعَ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: ((لَمْ يَكُنْ يَصُومُ مِنَ الْعَشْرِ)).
إِذَا كَانَ يُفْطِرُ بَعْضَ الْعَشْرِ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَيَصُومُ بَعْضَهُ، لَوْ أَرَدْتَ الْجَمْعَ لَا يَسْتَقِيمُ.
وَإِذَنْ؛ فَإِنَّ الْحَدِيثَيْنِ إِذَا مَا تَعَارَضَا فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَوْلَى، وَهَذِهِ أَخْبَرَتْ بِعِلْمِهَا، وَهَذِهِ أَخْبَرَتْ بِعِلْمِهَا، وَحِينَئِذٍ لَا بُدَّ أَنْ يُصَارَ إِلَى مَنْ عِنْدَهُ مَزِيدُ عِلْمٍ، وَأَمَّا حَمْلُ النَّاسِ عَلَى الْإِفْطَارِ، مَنْ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَصُومَ فَشَأْنُهُ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ أَنْ يَتَّقِيَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي إِخْوَانِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ مَنْ صَامَ إِنَّمَا يَصُومُ بِعِلْمٍ وَعَلَى عِلْمٍ وَمَعَهُ الدَّلِيلُ، وَأَمَّا مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفْطِرَ فَشَأْنُهُ، وَأَمَّا مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَطِّرَ النَّاسَ فَأَيُّ دَلِيلٍ لَدَيْهِ؟!!
إِنْ قَالَ: حَدِيثُ عَائِشَةَ، نَقُولُ: وَمَا تَصْنَعُ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ وَفِي حَدِيثِ حَفْصَةَ أَيْضًا؟!!
وَحَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ صَحِيحٌ صَحِيحٌ.
إِذَنِ؛ الْعَمَلُ هُوَ الْأَخْذُ بِمَسَالِكِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ النَّصَّيْنِ، وَالْجَمْعُ -كَمَا تَرَى- يَسِيرٌ يَسِيرٌ.
إِذَنْ؛ عَلَيْنَا -عِبَادَ اللهِ- أَنْ نَجْتَهِدَ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَأَنْ نَكُفَّ شُرُورَ أَنْفُسِنَا عَنْ أَنْفُسِنَا حَتَّى لَا نَظْلِمَهَا وَعَنِ النَّاسِ وَعَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ نُحَاوِلَ جَاهِدِينَ أَنْ نَتَرَفَّقَ، وَأَنْ نَأْخُذَ بِالْحِلْمِ وَالْأَنَاةِ.
((مِنْ أَعْمَالِ الْعَشْرِ:
مُحَاسَبَةُ النَّفْسِ))
عِبَادَ اللهِ! الْإِنْسَانُ يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَنْتَهِزَ هَذِهِ الْفُرْصَةَ، وَهِيَ هَذِهِ الْأَيَّامُ الَّتِي هِيَ أَفْضَلُ أَيَّامِ الدُّنْيَا كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ، وَهِيَ الْأَيَّامُ الَّتِي لَا يُضَارِعُهَا أَيَّامٌ فِي وُقُوعِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ فِيهَا؛ فَالْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مِنْ سَائِرِ أَيَّامِ الْعَامِ وَلَيَالِيهِ.
عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَحْصِيلِ هَذَا الْأَمْرِ؛ لِأَنَّهُ حَيَاتُهُ الْبَاقِيَةُ {وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64]؛ فَعَلَيْهِ أَنْ يُقَدَّمَ لِنَفْسِهِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُقْبِلَ عَلَى شَأْنِهِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُفَتِّشَ ضَمِيرَهُ، وَأَنْ يُرَاجِعَ قَلْبَهُ، وَأَنْ يَنْظُرَ فِي أَطْوَاءِ فُؤَادِهِ، وَأَنْ يَتَأَمَّلَ فِي أَخْلَاقِهِ، وَأَنْ يَفْحَصَ فِي حَقِيقَةِ عَقِيدَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ، وَأَنْ يَنْظُرَ فِي أَصْلِ اتِّبَاعِهِ، وَأَنْ يَتَأَمَّلَ فِي مَسِيرَةِ حَيَاتِهِ، وَأَنْ يَتَلَبَّثَ قَلِيلًا مُتَرَوِّيًا مِنْ أَجْلِ أَنْ يَنْظُرَ مَا فَاتَ كَيْفَ فَاتَ؟
وَهَذِهِ السُّنُونُ الْمُتَطَاوِلَاتُ لَا يُحصِّلُ الْمَرْءُ مِنْهَا الْيَوْمَ إِلَّا خَيَالًا عَابِرًا، أَوْ طَيْفًا حَائِلًا، أَوْ بَرْقًا خُلَّبًا؛ فَقَدْ مَضَتْ، فَإِنْ قِسْتَ مَا بَقَى وَهُوَ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا مَضَى، وَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((أَعْمَارُ أُمَّتِي بَيْنَ السِّتِّينَ وَالسَّبْعِينَ، وَقَلِيلٌ مَنْ يُجَاوِزُ)).
فَإِذَا تَأَمَّلَ الْمَرْءُ مَا مَضَى وَقَدْ مَضَى بِمَا فِيهِ مِنْ لَذَّةٍ وَعَذَابٍ، وَسُرُورٍ وَاكْتِئَابٍ، مَرَّ بِمَا فِيهِ مِنْ مُعَانَاةٍ وَتَمَتُّعٍ، مَرَّ بِمَا فِيهِ مِمَّا يُؤْلِمُ الْقَلْبَ وَيُضْنِي الْفُؤَادَ، وَيَلْذَعُ الْكَبِدَ وَيَأْتِي بَالسُّهَادِ، مَرَّ هَذَا كُلُّهُ ثُمَّ صَارَ إِلَى مَاذَا؟!
إِلَى الْمُسَاءَلَةِ وَالْمُحَاسَبَةِ؛ لِأَنَّ اللهَ أَمَرَ الْحَفَظَةَ بِكِتَابَةِ كُلِّ شَيْءٍ، فَذَلِكَ مُقَيَّدٌ {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة: 6].
فَعَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَقِفَ وَقْفَةً مُتَأَنِّيَةً، وَأَنْ يَتَأَمَّلَ فِي مَكْسَبِهِ مَا هُوَ؟ وَكَيْفَ هُوَ؟ أَمِنْ حَلَالٍ هُوَ يُحصِّلُ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ هَذَا الْمَالَ أَمْ مِنْ طَرِيقٍ فِيهِ شُبْهَةً؟ لَا أَقُولُ: مِنْ طَرِيقٍ حَرَامٍ؛ فَهَذَا مَعْلُومٌ يَتَوَرَّعُ عَنْهُ مَنْ كَانَ للهِ مُتَقِّيًا، وَلِعَذَابِ النَّارِ مُتَّقِّيًا، وَمِنْ لَهِيبِهَا خَائِفًا.
وَإِنَّمَا يَتَوَقَّفُ نَاظِرًا: هَذَا الَّذِي أُحَصِّلُهُ مِنْ كَسْبِ هَذِهِ الْحَيَاةِ، مَا فِيهِ؟
أَفِيهِ شُبْهَةٌ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ حَرَامٍ؟!!
فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَحَرَّى مَطْعَمَهُ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَحَرَّى إِنْفَاقَ لَحَظَاتِ حَيَاتِهِ وَثَوَانِيهَا، وَأَنْ يَتَأَمَّلَ فِي أَطْوَائِهَا وَخَفَايَاهَا، وَأَنْ يَنْظُرَ فِي دَوَافِعِهِ وَبَوَاعِثِهِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي أَنْ يُرَكِّزَ فِي قَلْبِهِ، وَضَمِيرِهِ، وَخَاطِرِهِ، وَنَفْسِهِ، حَقِيقَةً لَائِحَةً لَا يَعْشُ عَنْ سَنَاهَا إِلَّا مَنْ طَمَسَ اللهُ عَلَى بَصِيرَتِهِ، وَلَا يَعْمَى عَنْ حَقِيقَتِهَا إِلَّا مَنْ كَانَ خَائِبًا خَاسِرًا فَاشِلًا!!
هَذِهِ الْحَقِيقَةُ هِيَ أَنَّ أَغْمَضَ مَا تُعَالِجُهُ، وَأَصْعَبَ مَا تُزَاوِلُهُ، وَأَعْتَى وَأَعْنَفَ وَأَقْسَى مَا تُعَالِجُهُ فِي الْحَيَاةِ: نِيَّتُكَ، كَمَا قَالَ الصَّالِحُونَ: ((مَا عَالَجْتُ شَيْئًا هُوَ أَشَقُّ عَلَيَّ مِنْ نِيَّتِي)).
وَكَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ إِذَا مَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى عَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ يَتَلَبَّثُ حَتَّى يُحَرِّرَ النِّيَّةَ: يَسْأَلُ نَفْسَهُ، لِمَ تَذْهَبُ؟ كَمَا يَسْأَلُ نَفْسَهُ، لِمَ لَا تَذْهَبُ؟!!
وَيَسْأَلُ نَفْسَهُ لِمَ تَتَكَلَّمُ؟ كَمَا يَسْأَلُ نَفْسَهُ لِمَ لَا تَتَكَلَّمُ؟!!
وَيُفَتِّشُ فِي ضَمِيرِهِ، وَيُنَقِّبُ عَنْ حَقِيقةِ دَوَافِعِهِ؛ لِأَنَّ الدَّوَافِعَ مُعَقَّدَةٌ، وَلِأَنَّ الْأَحْدَاثَ مُتَرَاكِبَةٌ، وَلِأَنَّ خُطَى الْحَيَاةِ مُتَسَارِعَةٌ، وَلِأَنَّ الْوَقَائِعَ فِي الْحَيَاةِ مُتَدَاخِلَةٌ مُتَشَابِكَةٌ، وَلِأَنَّ النَّاسَ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ.
وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَعْدُ، مُحَاسِبٌ كُلِّ أَحَدٍ عَلَى مَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ؛ عَلَى مَا قَدَّمَهُ أَمَامَهُ مِنْ عَمَلٍ، وَمَا أَخَّرَهُ وَرَاءَهُ مِمَّا يَتَّبِعُهُ النَّاسُ فِيهِ مِنْ بِدْعَةٍ ابْتَدَعَهَا، أَوْ أَصْلٍ مُنْحَرِفٍ أَصَّلَهُ، فَمَا تَزَالُ أَوْزَارُ الْقَوْمِ وَآثَامُهُمْ مُنَصَبَّةً عَلَيْهِ حَتَّى يَنْقَطِعَ ذَلِكَ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ.. مَا قَدَّمَ وَمَا أَخَّرَ.
فَهَذِهِ فُرْصَةٌ قَدْ لَا تَعُودُ، إِنْ مَضَتْ قَدْ لَا تَعُودُ، وَالْعَبْدُ دَائِمًا عَلَى وَجَلٍ مِنْ غَدِهِ، لَا يَدْرِي أَتُشْرِقُ عَلَيْهِ شَمْسُهُ أَوْ تَأْتِي وَهُوَ فِي ظَلَامِ رَمْسِهِ؟
((مِنْ أَعْظَمِ عِبَادَاتِ الْعَشْرِ:
التَّوْبَةُ))
إِنَّ أَجَلَّ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ الْعَبْدُ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي الْعَشْرِ: أَنْ يَتُوبَ.. أَنْ يَتُوبَ إِلَى اللهِ مُنْسَلِخًا مِنْ إِهَابِ الذُّنُوبِ، رَاجِعًا بِالْوِلَادَةِ الثَّانِيَةِ بِإِعْلَانِ تَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ، وَتَجْرِيدِ الْمُتَابَعَةِ لِلرَّسُولِ ﷺ.
فَهِيَ الْوِلَادَةُ الثَّانِيَةُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ الَّتِي يَدْفَعُ فِيهَا رَحِمٌ بِشَيْءٍ مِنْ مُضْغَةٍ مِنْ لَحْمٍ وَعَظْمٍ وَعَصَبٍ لَا تَكَادُ تَكُونُ شَيْئًا؛ بَلْ هِيَ كَأَنَّمَا هِيَ أَمْشَاجٌ.
ثُمَّ مَا تَزَالُ تَرْتَقِي حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ رَحِمِ الدُّنْيَا إِلَى سَعَةِ الْآخِرَةِ بِالْوِلَادَةِ الثَّانِيَةِ؛ بِإِعْلَانِ تَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ، وَتَجْرِيدِ الْمُتَابَعَةِ لِلرَّسُولِ ﷺ، بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، يَتُوبُهَا الْعَبْدُ الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّ سَيْفَ الْمَنِيَّةِ مُعَلَّقٌ عَلَى رَقَبَتِهِ، وَكَأَنَّ كَأْسَ الْمَوْتِ الدَّائِرِ عَلَى هَذَا الْخَلْقِ مِمَّنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ بِالْحَيَاةِ سَرْعَانَ مَا يَتَجَرَّعُهُ، وَسَرْعَانَ مَا يَرْتَشِفُ مِنْهُ قَطَرَاتِ الْمَوْتِ.
فَإِذَا مَا جَاءَ الْمَوْتُ، وَضَرَبَ ضَرْبَتَهُ، فَصَارَ مَا لِلسَّمَاءِ لِلسَّمَاءِ، وَصَارَ مَا لِلْأَرْضِ لِلْأَرْضِ؛ بَعْدَ حِينٍ يَصِيرُ مَوَاطِئَ الْأَقْدَامِ، يَصِيرُ مُمْتَهَنًا، يَصِيرُ تُرَابًا، يَصِيرُ رَغَامًا، يَصِيرُ لَا شَيْءَ! ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ كُلَّ أَحَدٍ، وَيُقِيمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْخَلْقَ.
يَتُوبُ الْمَرْءُ إِلَى رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ بِإِعْلَانِ تَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ لِلْعَلِيِّ الْمَجِيدِ، وَبِتَجْرِيدِ الْمُتَابَعَةِ لِسَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ مُحَمَّدٍ ﷺ، بِأَخْذِ الْأَمْرِ بِالْجِدِّ الَّذِي لَا لَعِبَ فِيهِ وَلَا هَزْلَ، بِأَخْذِ الْأَمْرِ بِالْعَزِيمَةِ الَّتِي لَا تُنْقَضُ.
وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْ وَرَاءِ الْقَصْدِ، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يُعْطِي عَلَى النِّيَّةِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعَمَلِ إِذَا مَا صَلُحَتْ.
وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ صَاحِبُ الْمَنِّ وَالْحَوْلِ وَالطَّوْلِ وَالْجُودِ، يَهَبُ مَا يَشَاءُ مَنْ يَشَاءُ كَمَا يَشَاءُ وَقْتَمَا يَشَاءُ، وَأَيْنَمَا يَشَاءُ، لَا رَادَّ لِقَضَائِهِ، وَلَا مَانِعَ لِأَمْرِهِ، بَلْ أَمْرُهُ نَافِذٌ، وَحُكْمُهُ مَاضٍ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
النَّبِيُّ ﷺ جَاءَنَا بِالدِّينِ الْقَيِّمِ، بِالدِّينِ الْقَوِيمِ، بِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، عَقِيدَةٌ صَحِيحَةٌ، وَمِنْهَاجٌ مُسْتَقِيمٌ، وَلَا يَنْفَعُ عَبْدًا -أَبَدًا- زُهْدٌ، وَلَا وَرَعٌ، وَلَا إِقْلَاعٌ عَنْ ذَنْبٍ، وَلَا بُعْدٌ عَنْ خَطِيَّةٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ صَحِيحَ الْمُعْتَقَدِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ سَوِيَّ الْمِنْهَاجِ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ قَضَى بِذَلِكَ وَقَدَّرَهُ.
وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَا يُرِيدُ أَشْبَاحًا مَنْصُوبَةً، وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَرْوَاحًا إِلَى رَحَمَاتِهِ مَصْبُوبَةً.
وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَا يُرِيدُ أَشْبَاحًا، وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَرْوَاحًا.
اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يُرِيدُ جَسَدًا مُتَحَرِّكًا عَلَى مُقْتَضَى يَقِينِ قَلْبٍ وَطَاعَةِ رُوحٍ؛ وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ الْجَسَدُ مُخْبِتًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، يَصِيرُ الْجَسَدُ مُنِيبًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
يُرِيدُ رَبُّنَا تَقْوَى الْقُلُوبِ.
فَاللهم ارْزُقْنَا تَقْوَى الْقُلُوبِ يَا سِتِّيرَ الْعُيُوبِ!
((سُنَّةٌ مَهْجُورَةٌ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ!))
اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ هَذِهِ الْأَيَّامَ خَيْرَ أَيَّامِ الْعَامِ، كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ مُحَمَّدٌ ﷺ.
خَيْرُ أَيَّامِ الْعَامِ.. أَفْضَلُ أَيَّامِ الْعَامِ هِيَ أَيَّامُ الْعَشْرِ؛ يَعْنِي: الْعَشْرَ الْأُوَلَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ.
وَكَانَتِ الْعَشْرُ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى مَنْ سَبَقَنَا مِنْ عُلَمَائِنَا -بَدْءًا مِنْ صَحَابَةِ نَبِيِّنَا ﷺ، مُرُورًا بِالتَّابِعِينَ، وَتَابِعِيهِمْ، وَأَتْبَاعِ تَابِعِيهِمْ، وَالْأَئِمَّةِ، وَمَنْ تَلَا مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ إِلَى يَوْمِ النَّاسِ هَذَا-، إِذَا دَخَلَتِ الْعَشْرُ أَقْبَلُوا عَلَى الْعِبَادَةِ؛ بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُونَ الْمَزِيدَ.
كَانَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يَتَوَخُّونَ فِي الْعَشْرِ سُنَّةَ الرَّسُولِ ﷺ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ مُسْلِمٌ بِسَنَدِهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((مَنْ كَانَ لَهُ ذِبْحٌ يَذْبَحُهُ -يَعْنِي: مَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ-، فَإِذَا أَهَلَّ هِلَالُ ذِي الْحِجَّةِ -يَعْنِي: فَدَخَلَ عَلَيْهِ شَهْرُ ذِي الْحِجَّةِ- فَلَا يَأْخُذَنَّ مِنْ شَعَرِهِ -لَا مِنْ إِبِطِهِ، وَلَا مِنْ عَانَتِهِ، وَلَا مِنْ شَارِبِهِ- فَلَا يَأْخُذَنَّ مِنْ شَعَرِهِ وَلَا مِنْ أَظْفَارِهِ شَيْئًا حَتَّى يُضَحِّيَ)).
وَالنَّبِيُّ ﷺ جَعَلَهَا سُنَّةً مَسْنُونَةً.
هَذَا الْحَدِيثُ قِيلَ لِسُفْيَانَ -كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ مُسْلِمٌ فِي ((الصَّحِيحِ)) -رَحِمَهُ اللهُ-- قِيلَ لِسُفْيَانَ: ((إِنَّ بَعْضَهُمْ لَا يَرْفَعُهُ)).
قَالَ: ((وَلَكِنِّي أَرْفَعُهُ)).
فَبَعْضُهُمْ وَقَفَهُ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، وَلَيْسَ بِصَوَابٍ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ مَرْفُوعٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ: ((إِذَا أَهَلَّ هِلَالُ الْحَجَّةِ -يَعْنِي: إِذَا أَهَلَّ هِلَالُ الْعَشْرِ الْأَوَائِلِ.. الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحَجَّةِ- وَكَانَ لِأَحَدِكُمْ ذِبْحٌ يُرِيدُ أَنْ يَذْبَحَهُ، وَكَانَ لِأَحَدِكُمْ أُضْحِيَةٌ.. وَكَانَ لِأَحَدِكُمْ أُضْحِيَّةٌ يُرِيدُ أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَلْيُمْسِكْ عَنْ شَعْرِهِ وَبَشَرِهِ -فَلَا يَقْلِمُ ظُفُرًا، وَلَا يَأْخُذُ شَعْرًا؛ لَا مِنْ إِبِطٍ، وَلَا مِنْ شَارِبٍ، وَلَا مِنْ رَأْسٍ، وَلَا عَانَةٍ، لَا بِالْمُوسَى، وَلَا بِالنَّتْفِ، وَلَا بِالْحَرْقِ، وَلَا بِالنُّورَةِ -وَهِيَ حَجَرٌ كَلْسِيٌّ يُطْفَئُ بِالْمَاءِ، يُجْعَلُ عَلَى الشَّعْرِ فَيُزِيلُهُ-، وَلَا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ جَمِيعِهِ، أَمَّا مَنْ عَنَّاهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَاضْطُرَّ إِلَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْ شَعْرِهِ؛ كَأَنْ أَصَابَهُ جُرْحٌ فِي رَأْسِهِ يُرَادُ مِنْهُ أَنْ يُخَاطَ جُرْحُهُ؛ فَإِنَّهُ لَا حَرَجَ -حِينَئِذٍ- أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ شَعْرِهِ بِقَدَرٍ، وَكَذَلِكَ مَنْ سَقَطَ ظُفُرُهُ أَوْ أَصَابَهُ شَيءٌ اضْطُرَّ مَعَهُ إِلَى إِزَالَةِ ذَلِكَ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ، وَالنَّهْيُ هَاهُنَا -كَمَا تَرَى- فِي ظَاهِرِهِ مُنْصَرِفٌ إِلَى التَّحْرِيمِ.
((مَنْ كَانَ لَهُ ذِبْحٌ.. مَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ وَأَهَلَّ هِلَالُ ذِي الْحَجَّةِ؛ فَلَا يَأْخُذَنَّ مِنْ شَعْرِهِ وَلَا مِنْ ظُفُرِهِ شَيْئًا)).
عَنْ عَمْرِو بْنِ مُسْلِمٍ -وَهُوَ عُمَرُ بْنُ مُسْلِمٍ أَيْضًا- اللَّيْثِيِّ الْمَذْكُورِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنْ ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) فِي الرِّوَايَةِ جَمْعًا، فَذُكِرَ مَرَّةً أَنَّهُ عُمَرُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَمَرَّةً أَنَّهُ عَمْرُو بْنُ مُسْلِمٍ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُمَا وَاحِدٌ، أَنَّهُ قَالَ: ((كُنَّا فِي الْحَمَّامِ فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحَجَّةِ قُبَيْلَ عِيدِ الْأَضْحَى، أَوْ قُبَيْلَ الْأَضْحَى، فَاطَّلَى أُنَاسٌ هُنَالِكَ -يَعْنِي: أَخَذُوا النُّورَةَ؛ ذَلِكَ الْمَسْحُوقَ الَّذِي يُجْعَلُ عَلَى الشَّعْرِ فَيُزِيلُهُ-، اطَّلَى بَعْضُهُمْ –يَعْنِي: فِي الْحَمَّامِ-.
فَقَالَ قَائِلٌ: إِنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَكْرَهُ ذَلِكَ –يَعْنِي: يَكْرَهُ ذَلِكَ لِمَنْ كَانَ مُضَحِّيًا-.
قَالَ: فَذَهَبْتُ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ -رَحِمَهُ اللهُ-، فَذَكَرْتُ لَهُ.
فَقَالَ: ((يَا ابْنَ أَخِي! هَذَا حَدِيثٌ قَدْ نُسِيَ، وَغَفَلَ النَّاسُ عَنْهُ!!)).
وَهِيَ كَلِمَةٌ فَارِقَةٌ، فَإِذَا كَانَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ الْمُتَقَدِّمِ -وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ خَيْرُ التَّابِعِينَ وَأَفْضَلُهُمْ عِلْمًا، كَمَا أَنَّ أُوَيْسًا -هُوَ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ الْقَرَنِيُّ، مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ- هُوَ أَفْضَلُ التَّابِعِينَ حَالًا، فَلَا تَعَارُضَ، وَلَا تُعَارِضْ إِذَا مَا رَأَيْتَ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَذْكُرُ أَنَّ أَفْضَلَ التَّابِعِينَ أُوَيْسٌ، وَأَحْيَانًا يَذْكُرُ غَيْرُهُمْ أَنَّ أَفْضَلَ التَّابِعِينَ سَعِيدٌ، لَا حَرَجَ؛ هَذَا أَفْضَلُهُمْ عِلْمًا، وَهَذَا أَفْضَلُهُمْ حَالًا-، إِذَا كَانَ النَّاسُ عَلَى زَمَانِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ -رَحِمَهُ اللهُ- قَدْ غَفَلُوا عَنْ بَعْضِ السُّنَنِ وَالْعَهْدُ قَرِيبٌ؛ إِذْ إِنَّهُ مِنْ أَكَابِرِ التَّابِعِينَ، وَهُوَ -أَيْضًا- صِهْرُ أَبِي هُرَيْرَةَ، كَانَتْ بِنْتُ أَبِي هُرَيْرَةَ تَحْتَهُ، فَهُوَ قَرِيبُ عَهْدٍ بِالنَّبِيِّ ﷺ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمَّا ذَهَبَ إِلَيْهِ هَذَا فَقَالَ لَهُ: إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ...؛ قَالَ: ((يَا ابْنَ أَخِي! هَذَا حَدِيثٌ قَدْ غُفِلَ عَنْهُ، وَغَفَلَ النَّاسُ عَنْهُ، وَنُسِيَ))، وَالْعَهْدُ قَرِيبٌ؛ فَكَيْفَ بِنَا نَحْنُ؟!!
وَلِذَلِكَ عِنْدَمَا يُذَاعُ وَيُبَثُّ هَذَا الْحَدِيثُ -وَهُوَ فِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) -رَحِمَهُ اللهُ-- بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ؛ يَسْتَنْكِرُ بَعْضُهُمْ، ((فَلَا يَأْخُذَنَّ مِنْ شَعْرِهِ وَلَا مِنْ ظُفُرِهِ شَيْئًا حَتَّى يُضَحِّيَ)).
هَذَا هُوَ الْحُكْمُ؛ فَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ قَالُوا: إِنَّ النَّهْيَ هَاهُنَا عَلَى أَصْلِهِ، فَلَا يُصْرَفُ عَنْ أَصْلِهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَلَا دَلِيلَ، وَالنَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ- فِي أَصْلِهِ.
وَإِذَنْ؛ ((لَا يَأْخُذَنَّ مِنْ ظُفُرِهِ وَلَا مِنْ شَعْرِهِ شَيْئًا حَتَّى يُضَحِّيَ))، وَلَوْ ضَحَّى فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَإِنَّهُ يَظَلُّ مُمْسِكًا عَنْ شَعْرِهِ وَظُفُرِهِ حَتَّى يُضَحِّيَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
هَذَا عَلَى التَّحْرِيمِ -كَمَا تَرَى-، وَبَعْضُهُمْ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْكَرَاهَةِ.
وَأَمَّا مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ؛ لِعَدَمِ وُرُودِ الدَّلِيلِ بِالْفِدْيَةِ عَمَّنْ صَنَعَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ.
إِذَنْ؛ هَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّحْرِيمِ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَالْأَمْرُ عَلَى ظَاهِرِهِ.
ثُمَّ مَا الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ؟
يَقُولُ أَهْلُ الْعِلْمِ -وَذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ--: ((لَمَّا كَانَ لَهُ ذِبْحٌ يُقَدِّمُهُ أُضْحِيَّةً للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَقَدْ نَاسَبَ ذَلِكَ أَنْ يُمْسِكَ عَنْ شَعْرِهِ وَظُفُرِهِ حَتَّى يُزِيلَ ذَلِكَ مَعَ ذَبْحِ أُضْحِيَّتِهِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَيَكُونُ قَدْ أَتَى بِتَمَامِ التَّضْحِيَةِ)).
فَهَذَا قَوْلٌ.
وَقَالَ آخَرُونَ: ((لِيَكُونَ الْعِتْقُ مِنَ النَّارِ عَلَى حَسَبِ تَمَامِ الْأَعْضَاءِ، فَيَظَلُّ كَذَلِكَ وَمَعَهُ الْأَعْضَاءُ بِتَمَامِهَا حَتَّى يُعْتَقَ مِنَ النَّارِ)).
وَهَذَا الْوَجْهُ مِنْ وُجُوهِ الْحِكْمَةِ لَيْسَ هُنَالِكَ.
وَقَالَ آخَرُونَ: ((إِنَّهُ لَمَّا كَانَ مُشَارِكًا لِلْمُحْرِمِ فِي بَعْضِ النُّسُكِ؛ إِذْ إِنَّ الْمُحْرِمَ غَيْرُ الْمُفْرِدِ يُقَدِّمُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مَا يُقَدِّمُ ذَبْحًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَكَذَلِكَ مَنْ يَسُوقُ الْهَدْيَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَلَمَّا كَانَ مُشَارِكًا لِلْمُحْرِمِ فِي نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ النُّسُكِ -وَهُوَ الْإِمْسَاكُ بِالْإِحْرَامِ عَنِ الظُّفُرِ وَالشَّعْرِ-؛ فَإِنَّهُ نَاسَبَ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي ذَلِكَ، لَمَّا كَانَ مُشَارِكًا لِلْمُحْرِمِ فِي بَعْضِ النُّسُكِ -وَهُوَ الذَّبْحُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أُضْحِيَّةً وَهَدْيًا-؛ نَاسَبَ أَنْ يَكُونَ مُشَارِكًا لِلْمُحْرِمِ فِي هَذَا الْأَمْرِ، وَهُوَ الْإِمْسَاكُ عَنِ الشَّعْرِ وَالظُّفُرِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْمُحْرِمِ فِيمَا لَا يَخْفَى)).
فَهَذَا وَجْهٌ.
وَقَالَ آخَرُونَ: ((إِنَّهُ تَشْمَلُهُ أَحْكَامُ الْمُحْرِمِ، كَمَا أَنَّ الْمُحْرِمَ لَا يَأْخُذُ مِنْ شَعْرِهِ وَلَا مِنْ ظُفُرِهِ؛ فَكَذَلِكَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)).
وَلَيْسَ بِذَلِكَ هَذَا الْوَجْهُ -أَيْضًا-؛ لِأَنَّهُ لَا يُشَارِكُ الْمُحْرِمَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأُمُورِ.
وَإِذَنْ؛ فَالنَّبِيُّ ﷺ قَدْ نَهَى عَنِ الْأَخْذِ مِنَ الشَّعْرِ وَالظُّفُرِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ إِذَا أَهَلَّ هِلَالُ الْحِجَّةِ.
وَلَكِنْ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُرِيدًا لِلتَّضْحِيَةِ وَأَهَلَّ عَلَيْهِ هِلَالُ الْحِجَّةِ، ثُمَّ أَرَادَ فَأَخَذَ قَبْلَ إِرَادَتِهِ شَيْئًا مِنْ شَعْرِهِ وَظُفُرِهِ؛ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
فَظَاهِرُ النَّصِّ: ((مَنْ كَانَ لَهُ ذِبْحٌ، أَوْ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ))، فَإِذَنْ؛ لَا يَأْخُذُ مِنْ شَعْرِهِ وَلَا مِنْ ظُفُرِهِ، وَهُوَ لَمْ يُرِدْ إِلَّا بَعْدَ أَنْ أَهَلَّ هِلَالُ الْحِجَّةِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ هِلَالُ الْحِجَّةِ أَوِ الْحَجَّةِ -عَلَى الْكَسْرِ وَالْفَتْحِ عَلَى سَوَاءٍ، كِلْتَاهُمَا فَصِيحَتَانِ جَلِيلَتَانِ-، فَإِذَا أَهَلَّ هِلَالُ الْحِجَّةِ عَلَيْهِ وَهُوَ غَيْرُ مُرِيدٍ أُضْحِيَةً؛ فَإِنَّهُ إِذَا مَا أَخَذَ مِنْ ظُفُرِهِ وَمِنْ شَعْرِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا مَتَى أَرَادَ فَيَنْبَغِي عَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ عَنْ ذَلِكَ، كَمَا أَمَرَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللهِ ﷺ.
يَشْمَلُ هَذَا الْمُضَحِّيَ وَالْمُضَحَّى عَنْهُ، أَمْ يَشْمَلُ ذَلِكَ الْمُضَحِّيَ وَحْدَهُ؟ هَذَا الْإِمْسَاكُ عَنِ الشَّعْرِ وَالظُّفُرِ يَشْمَلُ الْمُضَحِّيَ وَالْمُضَحَّى عَنْهُ، أَمْ يَشْمَلُ الْمُضَحِّيَ وَحْدَهُ؟
الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَخَالَفَ بَعْضُهُمْ: أَنَّ ذَلِكَ الْإِمْسَاكَ عَنِ الشَّعْرِ وَالظُّفُرِ إِنَّمَا يَشْمَلُ الْمُضَحِّيَ وَحْدَهُ
وَأَمَّا الَّذِينَ يَشْتَرِكُونَ فِي أُضْحِيَّةٍ يَجُوزُ الِاشْتِرَاكُ فِي مِثْلِهَا؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ مِنَ الْغَنَمِ تُجْزِئُ عَنِ الْوَاحِدِ فَقَطْ، الْوَاحِدَةُ مِنَ الْغَنَمِ الضَّأْنِ وَالْمَعْزِ تُجْزِئُ عَنْ وَاحِدٍ فَقَطْ لَا أَكْثَرَ، وَكَذَلِكَ سُبُعُ الْبَعِيرِ.. سُبُعُ الْبَدَنَةِ، وَسُبُعُ الْبَقَرَةِ؛ كُلُّ ذَلِكَ مَا كَانَ مِنْهُ أَسْبَاعًا يُجْزِئُ عَنْ وَاحِدٍ فَقَطْ مِلْكًا.
وَأَمَّا الِاشْتِرَاكُ فِي الْأَجْرِ؛ فَيَشْمَلُ جَمًّا غَفِيرًا وَعَدَدًا كَثِيرًا لَا يُحْصِيهِ إِلَّا اللهُ؛ لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي الْأُضْحِيَةِ عَلَى لَوْنَيْنِ:
الْأَوَّلُ: الِاشْتِرَاكُ فِي الْأُضْحِيَةِ مِنْ حَيْثُ الْمِلْكُ، وَذَلِكَ عِنْدَمَا يَكُونُ فِي وَاحِدَةٍ مِنْ غَنَمَةٍ تُقَدَّمُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَوْ مِنَ الْمَعْزِ تُقَدَّمُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مِلْكًا؛ فَلَا يَجُوزُ التَّشْرِيكُ فِي هَذِهِ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، أَوِ التَّشْرِيكُ يَكُونُ فِي بَدَنَةٍ فِي الْبَعِيرِ أَوْ فِي الْبَقَرَةِ إِلَى سَبْعٍ مِلْكًا.
وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الِاشْتِرَاكُ فِي الْمَثُوبَةِ فَالْمَرْءُ يُشْرِكُ مَعَهُ فِي الثَّوَابِ -ثَوَابِ الْأُضْحِيَّةِ- مَنْ أَرَادَ.
النَّبِيُّ ﷺ كَانَ يُضَحِّي ﷺ عَنْ نَفْسِهِ وَآلِ بَيْتِهِ كَبْشَيْنِ، يَأْتِي بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ -أَحْيَانًا- مَوْجُوءَيْنِ، وَأَحْيَانًا غَيْر خَصِيَّيْنِ غَيْرُ مَوْجُوءَيْنِ، فَأَمَّا الْمَوْجُوءُ وَأَمَّا الْخَصِيُّ فَإِنَّهُ يَكُونُ أَطْيَبَ لَحْمًا، وَأَمَّا الْكَامِلُ الْخِلْقَةِ فَهُوَ بِكَمَالِ خِلْقَتِهِ مَحْبُوبٌ -أَيْضًا- عِنْدَ التَّقْدِيمِ قُرْبَانًا.
فَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُضَحِّي بِأَحَدِهِمَا عَنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ ﷺ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ آلُ مُحَمَّدٍ مَنْ كَانَ حَيًّا مِنْهُمْ وَمَنْ كَانَ مَيِّتًا.
كُلُّ ذَلِكَ مِنْ عَظِيمِ فَضْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ ﷺ أَمَرَ مَنْ يُضَحَّى عَنْهُ من يضحى عنه مِنْ آلِهِ بِأَلَّا يَأْخُذَ مِنْ شَعْرِهِ وَلَا مِنْ ظُفُرِهِ، فَهَذَا دَلِيلٌ -كَمَا تَرَى- لِمَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُضَحِّيَ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي يُلْزَمُ بِالنَّهْيِ عَنِ الْأَخْذِ مِنَ الشَّعْرِ وَالظُّفُرِ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ آخَرُونَ.
وَالْمُشَارَكَةُ فِي الثَّوَابِ -أَيْضًا- إِلَى جَمْعٍ غَفِيرٍ لَا يُحْصَى؛ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يُضَحِّي بِالْكَبْشِ الْآخَرِ عَنْ مَنْ لَمْ يُضَحِّ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ.
إِذَنْ؛ فَالْمُشَارَكَةُ فِي الثَّوَابِ بَابٌ مَفْتُوحٌ لَا يُغْلَقُ وَلَا يُرَدُّ، وَإِنَّمَا هُوَ مَفْتُوحٌ عَلَى مِصْرَاعَيْهِ لِلْمُشَارَكَةِ فِي الثَّوَابِ.
وَأَمَّا الْمُشَارَكَةُ فِي الْمِلْكِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى هَذَا النَّحْوِ، الْوَاحِدَةُ مِنْ تِلْكَ الْأَغْنَامِ مِنَ الضَّأْنِ أَوْ مِنَ الْمَعْزِ لَا تُجْزِئُ إِلَّا عَنْ وَاحِدٍ مِلْكًا، وَيُشْرِكُ فِي الثَّوَابِ مِنْ آلِ بَيْتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَنْ أَرَادَ، أَوِ السُّبُعُ مِنَ الْبَقَرَةِ أَوِ السُّبُعِ مِنَ الْبَدَنَةِ لَا يَكُونُ مِنْ حَيْثُ الْمِلْكِ مُجْزِئًا إِلَّا عَنْ وَاحِدٍ، وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الثَّوَابُ فَالْبَابُ مَفْتُوحٌ.
فَالنَّبِيُّ ﷺ أَمَرَ مَنْ كَانَ لَهُ ذِبْحٌ وَأَرَادَ أَنْ يَذْبَحَ؛ يَعْنِي مَنْ كَانَ عِنْدَهُ حَيَوَانٌ لَهُ شُرُوطُ الْأُضْحِيَّةِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ تَتَوَفَّرَ فِيهِ وَيَكُونُ الْحَيَوَانُ خَالِيًا مِنَ الْعُيُوبِ الَّتِي إِذَا مَا وُجِدَ وَاحِدٌ مِنْهَا فِيمَا يُقَدَّمُ أُضْحِيَّةً لَا تَكُونُ الْأُضْحِيَّةُ مُجْزِئَةً -حِينَئِذٍ- بَلْ لَا تَكُونُ أُضْحِيَّةً بِحَالٍ، إِذَا مَا أَرَادَ أَنْ يَذْبَحَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُمْسِكَ مِنْ شَعْرِهِ، وَلَا يَأْخُذُ شَيْئًا مِنْ أَظْفَارِهِ كَمَا نَهَى عَنِ الْأَخْذِ مِنْ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ ﷺ.
وَيَا لَهُ مِنْ مَظْهَرٍ جَلِيلٍ تَتَوَحَّدُ فِيهِ الْأُمَّةُ بَيْنَ مَنْ كَانَ شَاهِدًا لِلْحَجِّ فِي الْمَوْسِمِ مِنْ عَامِهِ وَمَنْ لَمْ يُقَدِّرْ لَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَشْهَدَهُ، فَإِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ هَذَا الْأَمْرَ بِالِاسْتِطْرَاقِ فِي الْأُمَّةِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ الْجَلِيلِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ إِلَّا فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ.
الَّذِي يُقَدِّمُ الْهَدْيَ هُنَالِكَ مُمْسِكٌ عَنْ شَعْرِهِ وَظُفُرِهِ، آخِذًا بِمَا يَنْبَغِي عَلَى الْمُحْرِمِ أَنْ يَأْخُذَ بِهِ، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ أُضْحِيَّةً يَذْبَحُهَا فِي وَقْتِهَا الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ تُذْبَحَ فِيهِ، وَذَلِكَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ، أَمَّا إِذَا ذَبَحَ قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ يُقَدِّمُهُ لِأَهْلِهِ، وَأَمَّا هُنَالِكَ فَإِنَّهُمْ فِي يَوْمِ الْعِيدِ -أَيْضًا- فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ يُقَدِّمُونَ الْقَرَابِينَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ بِأَجَلِّ شَيْءٍ فِيهِ وَإِنَّمَا سُمِّيَ بِيَوْمِ النَّحْرِ؛ لِأَنَّ الْحَجِيجَ يَنْحَرُونَ وَالْأُنَاسُ الْآخَرُونَ فِي الْأَمْصَارِ وَمِنْ أَهْلِ الْآفَاقِ يَذْبَحُونَ، هَؤُلَاءِ يُقَدِّمُونَ هَدْيًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَهَؤُلَاءِ يُقَدِّمُونَ الْأَضَاحِيَّ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَكُلٌّ يُرِيقُ الدَّمَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162-163].
فَيَا لَهُ مِنْ مَظْهَرٍ تَأْتَلِفُ فِيهِ الْأُمَّةُ.. الْأُمَّةُ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ تَأْتَلِفَ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ؛ لِكَيْ يُعِزَّهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِائْتِلَافِهَا، وَلِكَيْ يُخْرِجَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنَ الذُّلِّ وَالْمَذَلَّةِ بِسَبَبِ اخْتِلَافِهَا.
((اجْتَهِدُوا فِي الْعِبَادَاتِ فِي الْعَشْرِ!))
عِبَادَ اللهِ! النَّبِيُّ ﷺ دَلَّ عَلَى فَضِيلَةِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ، يَدْخُلُ فِيهِ الصَّلَاةُ، وَالذِّكْرُ تَهْلِيلًا، وَتَحْمِيدًا، وَتَسْبِيحًا، وَتَكْبِيرًا، وَيَدْخُلُ فِيهِ تِلَاوَةُ الْقُرْآنِ.
وَيَدْخُلُ فِيهِ طَلَبُ الْعِلْمِ، وَبَثُّهُ وَإِذَاعَتُهُ بَيْنَ النَّاسِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الصِّيَامُ، وَالزَّكَاةُ، وَالصَّدَقَةُ، وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ، وَالْعَطْفُ عَلَى الْأَيْتَامِ وَالْمَسَاكِينِ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ، وَحُسْنُ الْجِوَارِ، وَمَا أَشْبَهَ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ؛ فَيَدْخُلُ الصِّيَامُ.
فَيُسْتَحَبُّ الصَّوْمُ فِي تِسْعِ ذِي الْحِجَّةِ، وَتِلَاوَةُ الْقُرْآنِ، وَأَنْ تَأْتِيَ بِأَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الْعِبَادَةِ حَتَّى تَبْلُغَ فِيهِ غَايَةَ الْجُهْدِ، كَمَا كَانَ السَّابِقُونَ مِنَ الصَّالِحِينَ يَفْعَلُونَ.
فَهَذِهِ فُرْصَةٌ قَدْ لَا تَعُودُ، إِنْ مَضَتْ قَدْ لَا تَعُودُ، وَالْعَبْدُ دَائِمًا عَلَى وَجَلٍ مِنْ غَدِهِ، لَا يَدْرِي أَتُشْرِقُ عَلَيْهِ شَمْسُهُ أَوْ تَأْتِي وَهُوَ فِي ظَلَامِ رَمْسِهِ؟
نَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يُؤَلِّفَ بَيْنَ قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، وَأَنْ يُوَفِّقَنَا جَمِيعًا وَالْمُسْلِمِينَ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا إِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، إِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، إِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَإِلَى الْعِلْمِ النَّافِعِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ، وَأَنْ يَتَقَبَّلَ مِنَّا ذَلِكَ بِرَحْمَتِهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَأَنْ يَجْعَلَنَا فِي هَذِهِ الْعَشْرِ مِمَّنْ يُعْتِقُهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنَ النَّارِ، وَأَنْ يَكْتُبَ لَنَا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الْبَرَاءَةَ مِنَ النَّارِ، وَأَنْ يَعْصِمَنَا جَمِيعًا مِنَ الزَّلَلِ وَالْخَطَأِ الْمُفْضِي إِلَى النَّارِ.
نَسْأَلُ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ- أَنْ يَحْفَظَ فُرُوجَ الْمُسْلِمِينَ، اللهم حَصِّنْ فُرُوجَ الْمُسْلِمِينَ، وَآمِنْ رَوْعَاتِ الْمُسْلِمِينَ، اللهم آمِنْ رَوْعَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَاحْفَظِ الْحَجِيجَ جَمِيعًا بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، اللهم احْفَظِ الْحَجِيجَ جَمِيعَهُمْ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ بِقُدْرَتِكَ، بِحَوْلِكَ وَطَوْلِكَ، بِرَحْمَتِكَ وَكَرَمِكَ، وَأَلْحِقْنَا بِهِمْ؛ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
أَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَجْمَعَنَا جَمِيعًا هَذَا الْعَامَ وَكُلَّ عَامٍ عَلَى صَعِيد عَرَفَاتٍ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، إِذَا قَالَ لِلْأَمْرِ الَّذِي يُرِيدُهُ كُنْ فَإِنَّهُ يَكُونُ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.
المصدر:فَضَائِلُ الْعَشْرِ وَمَفْهُومُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ