((نَصِيحَةٌ إِلَى أَهْلِ الْجَزَائِرِ الْحَبِيبَةِ))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((حُبُّ الْوَطَنِ غَرِيزَةٌ إِنْسَانِيَّةٌ))
فَحُبُّ الْوَطَنِ غَرِيزَةٌ إِنْسَانِيَّةٌ، وَكُلُّ سَوِيٍّ مِنَ الْبَشَرِ يُحِبُّ وَطَنَهُ، وَيَنْتَمِي إِلَيْهِ، وَيُدَافِعُ عَنْهُ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ فِي نَفْسِهِ.. وَمَنْ لَمْ يَجِدْ فِي قَلْبِهِ.. مَنْ لَمْ يَجِدْ فِي ضَمِيرِهِ وَعَقْلِهِ حُبَّ وَطَنِهِ فَهُوَ شَاذٌّ عَنِ الْإِنْسَانِيَّةِ، مُنْحَرِفٌ عَنِ الْفِطْرَةِ السَّوِيَّةِ، وَهُوَ بِحَاجَةٍ إِلَى عِلَاجٍ وَدَوَاءٍ!!
لَمَّا أُخْرِجَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مِنْ مَكَّةَ قَالَ.. وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِمَكَّةَ يَنْظُرُ مِنْ خَلَلِ دُمُوعِهِ كَأَنَّمَا تَغْسِلُ الدُّورَ غَسْلًا، بَعْدَمَا لَوَّثَ الْمُشْرِكُونَ الْأَجْوَاءَ، وَبَعْدَمَا عَاثُوا فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ.. يَقُولُ ﷺ لِمَكَّةَ: ((وَاللهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللهِ إِلَى اللهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللهِ إِلَيَّ، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ)) .
فَرَسُولُ اللهِ يَجِدُ هَذَا الْحُبَّ فِي قَلْبِهِ لِمَكَّةَ -زَادَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- شَرَفًا-، وَالصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- لَمَّا هَاجَرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ كَانَتْ لَوَاعِجُ الْحُبِّ تَلْذَعُ مَا بَيْنَ الضُّلُوعِ لَذْعًا، وَكَانُوا بِاللَّيْلِ يَتَقَلَّبُونَ عَلَى مِثْلِ الْجَمْرِ، أَوْ عَلَى مِثْلِ الْإِبَرِ، لَا يَهْدَأُ لَهُمْ بَالٌ، وَلَا يَسْتَقِرُّ لَهُمْ قَرَارٌ، وَإِنَّمَا هُمْ فِي هَذَا الْجَوَى اللَّاعِجِ كَالنَّارِ الَّتِي تَسْرِي فِي الْعُرُوقِ؛ فَأَشْفَقَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَقَالَ: ((اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَمَا حَبَّبْتَ إِلَيْنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ)) .
فَكَانَ مَا طَلَبَهُ رَسُولُ اللهِ وَمَا دَعَا بِهِ اللهَ.
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ حُبَّ وَطَنِهِ فِي قَلْبِهِ وَضَمِيرِهِ وَنَفْسِهِ وَعَقْلِهِ فَهُوَ شَاذٌّ عَنِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَعَنِ الْفِطْرَةِ السَّوِيَّةِ، فَلْيَبْحَثْ لِنَفْسِهِ عَنْ عِلَاجٍ وَدَوَاءٍ.
((وُجُوبُ الدِّفَاعِ عَنِ الْوَطَنِ الْإِسْلَامِيِّ وَالْحِفَاظِ عَلَيْهِ))
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ بِلَادَنَا بِلَادٌ إِسْلَامِيَّةٌ، وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
قَالَ الشَّيْخُ الْأَلْبَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي بَعْضِ فُصُولِ فَتَاوِيهِ: أَنَّ الْأَرْضَ لَيْسَتْ بِالْجُدْرَانِ، وَإِنَّمَا هِيَ بِالسُّكَّانِ، فَإِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى سُكَّانِ الْبَلَدِ وَنِظَامِهِمُ الْإِسْلَامَ فَهِيَ دَارُ إِسْلَامٍ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ يُحْكَمُونَ بِنِظَامٍ لَيْسَ إِسْلَامِيًّا صِرْفًا أَوْ مَحْضًا)).
وَمَا دَامَتْ بِلَادُنَا إِسْلَامِيَّةً فَيَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَسْعَى لِاسْتِقْرَارِهَا, وَاكْتِمَالِ أَمْنِهَا, وَيَجِبُ حِيَاطَتُهَا بالرِّعَايَةِ، وَالْحِفَاظِ وَالْبَذْلِ.
قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِينٍ -كَمَا فِي شَرْحِهِ عَلَى ((رِيَاضِ الصَّالِحِينَ))-: ((حُبُّ الْوَطَنِ: إِنْ كَانَ إِسْلَامِيًّا فَهَذَا تُحِبُّهُ لِأَنَّهُ إِسْلَامِيٌّ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ وَطَنِكَ الَّذِي هُوَ مَسْقَطُ رَأْسِكَ، وَالوَطَنِ الْبَعِيدِ عَنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ, كُلُّهَا أَوْطَانٌ إِسْلَامِيَّةٌ يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَحْمِيَهَا)).
الْوَطَنُ إِنْ كَانَ إِسْلَاميًّا يَجِبُ أَنْ يُحَبَّ، وَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُشَجِّعَ عَلَى الْخَيْرِ فِي وَطَنِهِ، وَعَلى بَقَائِهِ إِسْلَامِيًّا, وَأَنْ يَسْعَى لِاسْتِقْرَارِ أَوْضَاعِهِ وَأَهْلِهِ, وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ الْمُسْلِمِينَ.
وَمِنْ لَوَازِمِ الْحُبِّ الشَّرْعِيِّ لِلْأَوْطَانِ الْمُسْلِمَةِ: أَنْ يُحَافَظَ عَلَى أَمْنِهَا وَاسْتِقْرَارِهَا، وَأَنْ تُجَنَّبَ الْأَسْبَابَ الْمُفْضِيَةَ إِلَى الْفَوْضَى وَالِاضْطِرَابِ وَالْفَسَادِ؛ فَالْأَمْنُ فِي الْأَوْطَانِ مِنْ أَعْظَمِ مِنَنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ عَلَى الْإِنْسَانِ.
فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَعْرِفَ قَدْرَ بَلَدِهِ الْإِسْلَامِيِّ، وَأَنْ يُدَافِعَ عَنْهُ، وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَحْصِيلِ اِسْتِقْرَارِهِ وَأَمْنِهِ، وبُعْدِهِ وَإِبْعَادِهِ عَنِ الْفَوْضَى، وَعَنْ الِاضْطِرَابِ، وَعَنْ وُقُوعِ الْمُشَاغَبَاتِ.
عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُحِبَّ بَلَدَهُ الْإِسْلَامِيَّ، وَأَنْ يُدَافِعَ عَنْهُ، وَأَنْ يَمُوتَ دُونَهُ؛ فَإِنَّ مَنْ مَاتَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَالْأَرْضُ مَالٌ، فَمَنْ مَاتَ دُونَ مَالِهِ فَهُو شَهِيدٌ.
((رِسَالَةٌ إِلَى الْمُنَادِينَ بِالْخُرُوجِ وَإِحْدَاثِ الْفَوْضَى))
إِنَّ فِي التَّارِيخِ عِبْرَةً، وَالسَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ ؛ فَإِلَى أُولَئِكَ الَّذِينَ يُنَادُونَ بِالْخُرُوجِ: أَلَا فَاعْلَمُوا أَنَّ الْخَارِجَ عَلَى الْحَاكِمِ لَا يَكُونُ جَائِزًا فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَا عَلَى النِّظَامِ فَيَكُونُ جَائِزًا فِي شَرْعِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ، إِلَّا إِذَا رَأَى الْقَوْمُ كُفْرًا بَوَاحًا لَهُمْ وَعِنْدَهُمْ عَلَيْهِ مِنَ اللهِ بُرْهَانٌ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَجِدُوا الْكُفْرَ وَأَنْ يَكُونَ بَوَاحًا، وَأَنْ يَكُونَ عِنْدَهُمْ عَلَيْهِ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بُرْهَانٌ، وَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ!!
وَحَتَّى لَوْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ حَكَمُوا الْمَسْأَلَةَ، فَقَالُوا: لَا يَجُوزُ أَبَدًا أَنْ يُخْرَجَ عَلَى النِّظَامِ، وَلَا عَلَى الْحَاكِمِ، وَلَا عَلَى الْحُكُومَةِ، إِنْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَكَانَ هُنَالِكَ ضَعْفٌ!! أَوَتَخْرُجُ بِسِكِّينِ الْمَطْبَخِ وَعَصَا الرَّاعِي؟!!
فَهَذَا دَمَارٌ وَإِهْلَاكٌ، وَكُلُّ مَنْ تَأَتَّى مِنْهُ إِرَاقَةٌ لِلدِّمَاءِ وَلَوْ كَانَ سَبَبًا وَكَانَ مُتَسَبِّبًا؛ فَالدِّمَاءُ فِي رَقَبَتِهِ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: ((مَنْ جَاءَكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ، يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ وَأَنْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ)) ، وَكَمَا فِي الرِّوَايَةِ : ((فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ))، هَذَا كَلَامُ مُحَمَّدٍ ﷺ.
يَقُولُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11]، فَلَوْ غَيَّرَ النَّاسُ مَا بِأَنْفُسِهِمْ؛ غَيَّرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَا بِهِمْ، وَأَمَّا هَذِهِ الْمُهَارَشَاتُ فَلَيْسَتْ مِنْ دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي شَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ بِالِاعْتِصَامَاتِ، وَبِالْمُظَاهَرَاتِ، وَبِالْعِصْيَانِ الْمَدَنِيِّ، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَلْوَانِ الْخُرُوجِ عَلَى الْحَاكِمِ، وَالْخُرُوجُ عَلَى الْحَاكِمِ لَا يَجُوزُ أَبَدًا إِلَّا أَنْ تَرَى كُفْرًا بَوَاحًا لَيْسَ فِيهِ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَخْتَلِفَ عَلَيْهِ اثْنَانِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِمَّا لَا تَنْتَطِحُ فِيهِ عَنْزَانِ.
وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّكَ -حِينَئِذٍ- وَمَا لَمْ تَرَ كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكَ فِيهِ مِنَ اللهِ بُرْهَانٌ؛ فَالْخَارِجُ لَوْ خَرَجَ فَقُتِلَ فَدَمُهُ هَدَرٌ كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِهِ عَلَى مُسْلِمٍ -رَحِمَهُ اللهُ- ، هُوَ كَلَامُ نَبِيِّكُمْ ﷺ، فَأَدُّوا الَّذِي عَلَيْكُمْ وَاسْأَلُوا اللهَ الَّذِي لَكُمْ.
فَالسَّبِيلُ السَّبِيلُ عِبَادَ اللهِ هُوَ سَبِيلُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَلَيْسَ الشَّأْنُ بِتَجْمِيعِ النَّاسِ كَائِنًا مَا كَانُوا، وَإِنَّمَا الشَّأْنُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْمُ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ بِعَقِيدَةٍ مُسْتَقِرَّةٍ.
فَكَيْفَ بِالَّذِينَ يُحَرِّكُونَ الْفِتَنَ، وَالَّذِينَ يُمَحِّصُونَ الْمِحَنَ، حَتَّى يَصِيرَ الْوَطَنُ كَـ(لَا وَطَنٍ)؟!!
((الْجَزَائِرُ مِنْ بَعْدِ الِاحْتِلَالِ حَتَّى الْعَشْرِيَّةِ السَّوْدَاءِ))
عِبَادَ اللهِ! السَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا آخِذِينَ بِقَوَاعِدِ اعْتِقَادِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَفِي النَّاسِ مَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ بِهَا قَائِمٌ وَلَهَا آخِذٌ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا كَذَلِكَ؛ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ!! وَتَحَمَّلُوا مَسْئُولِيَّتَكُمْ، وَتَأَمَّلُوا فِي أَحْوَالِ أَهْلِ الْأَقْطَارِ وَأَهْلِ الْأَمْصَارِ مِمَّنْ جَرَّ عَلَيْهِمُ الْخُرُوجُ عَلَى قَوَاعِدِ اعْتِقَادِ أَهْلِ السُّنَّةِ الْوَيْلَ وَالثُّبُورَ وَالدَّمَارَ، تَأَمَّلُوا وَاعْتَبِرُوا!!
وَهَذِهِ تَجْرِبَةٌ يَرْوِيهَا رَجُلٌ عَاصَرَهَا وَشَاهَدَهَا فِي الْجَزَائِرِ الْحَبِيبَةِ، وَمَا أَشْبَهَ اللَّيْلَةَ بِالْبَارِحَةِ، وَإِذَا مَنَّ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْكَ فَكَشَفَ عَنْكَ غُلَافَ الْعَقْلِ، وَأَنْفَذَ إِلَى الْقَلْبِ شُعَاعَ الْبَصِيرَةِ لِكَيْ يُذِيبَ مَا هُنَالِكَ مِنْ ثُلُوجِ الْجُمُودِ عَلَى أَقْوَالِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُتَّبَعَ؛ عَلِمْتَ عِلْمَ مَا أَقُولُ وَاقِعًا مَشْهُودًا مَنْظُورًا مَا زَالَ مَحْفُوظًا لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَرَاهُ رَأْيَ الْعَيْنِ بِمَشَاهِدِهِ.
قَالَ: ((لَقَدْ عَاشَتِ الْجَزَائِرُ مُنْذُ اسْتِقْلَالِهَا عَنِ الْعَدُوِّ الْفَرَنْسِيِّ الْكَافِرِ أَيَّامَ فِتْنَةٍ فِي دِينِهَا وَدُنْيَاهَا.
* أَمَّا الدِّينُ: فَلِأَنَّ الِاسْتِعْمَارَ لَمْ يَتْرُكْ لَهَا مِنْهُ سِوَى رَوَاسِبِ الشِّرْكِ، وَشَعَائِرِ الْبِدَعِ، وَلَوْلَا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لِأَهْلِهَا (جَمْعِيَّةَ الْعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ الْجَزَائِرِيِّينَ) -وَكَانَتْ عَلَى مَنْهَجِ أَهْلِ السُّنَّةِ اعْتِقَادًا وَعَمَلًا-؛ لَمَا بَقِيَ فِيهِمْ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ شِرْكٍ وَتَوْحِيدٍ، وَلَا بَيْنَ سُنَّةٍ وَبِدْعَةٍ، إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ.
* وَأَمَّا الدُّنْيَا: فَقَدْ كَانَ لِلسَّرِقَةِ أَثَرٌ مُقْلِقٌ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَحَاشَى أَنْ يَحْمِلَ مَعَهُ فَضْلَ مَالٍ عَلَى نَفَقَتِهِ الْيَوْمِيَّةِ وَهُوَ يُرِيدُ امْتِطَاءَ النَّقْلِ الْجَمَاعِيِّ، وَكَانَ مِنْ غَرَائِبِ الْمَنَاظِرِ أَنْ تَرَى عَلَى الْمَرْأَةِ حِلْيَتَهَا إِذَا خَرَجَتْ مِنْ بَيْتِهَا؛ خَشْيَةَ أَنْ تُغْتَصَبَ مِنْهَا نَهَارًا جَهَارًا.
فَمَا لَبِثَ الْأَمْرُ أَنْ تَدَيَّنَ النَّاسُ حَتَّى أَمِنُوا عَلَى أَمْوَالِهِمْ، وَنَسُوا مَا كَانَ أَقْلَقَهُمْ مِنْ قَبْلُ، لَمَّا عَمِلَتْ جَمْعِيَّةُ الْعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ الْجَزَائِرِيِّينَ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَى عُلَمَائِهَا- فِي الدَّعْوَةِ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَبَيَانِ أُمُورِ الِاعْتِقَادِ الصَّحِيحِ؛ أَصْلَحَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْبِلَادَ وَالْعِبَادَ، وَجَاءَتْ أَيَّامُ رَخَاءٍ وَأَمْنٍ وَتَدَيُّنٍ قَوِيٍّ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَجُوبُ الْبِلَادَ شَرْقًا وَغَرْبًا، لَا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ إِلَّا الذِّئْبَ، بَلْ لَا يُفَكِّرُ أَيْنَ يُؤْوِيهِ الْمَبِيتُ؛ لِأَنَّ الشَّعْبَ الْجَزَائِرِيَّ شَعْبٌ اجْتِمَاعِيٌّ مُتَكَافِلٌ، وَمَرَّ بِهِ زَمَنٌ لَا تَكَادُ تُصَادِفُ فِيهِ فَقِيرًا يَتَسَوَّلُ.
أَمَّا عَنِ الدِّينِ: فَقَدِ انْتَشَرَ فِيهَا قَبْلَ هَذِهِ الْفِتْنَةِ -يَعْنِي مَا وَقَعَ مِنْ أَمْرِ الِاقْتِتَالِ وَإِرَاقَةِ الدِّمَاءِ- التَّوْحِيدُ وَالسُّنَّةُ، وَانْحَسَرَ نَشَاطُ طَرَائِقِ الشِّرْكِ وَالْبِدْعَةِ انْحِسَارًا شَدِيدًا، وَرَجَعَتِ الْمَرْأَةُ إِلَى خِدْرِهَا، وَوَجَدَتْ شَرَفَهَا فِي سِتْرِهَا، وَتُرِكَتِ الْخُمُورُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْيَاءِ، وَازْدَحَمَتِ الْمَسَاجِدُ بِأَهْلِهَا -حَتَّى كَانَ الرَّجُلُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَأْتِيَ بِسُنَّةِ التَّوَرُّكِ فِي الصَّلَاةِ لِشِدَّةِ الزِّحَامِ فِي الْمَسَاجِدِ-، وَدَخَلَ الدِّينُ كُلَّ بَيْتٍ، وَعَضَّ الْعَدُوُّ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ.
ثُمَّ انْتَبَهَ الْعَدُوُّ، فَاسْتَفَزَّ مِنَ الشَّعْبِ أَصْلَبَهُ عُودًا، وَأَشَدَّهُ جُمُودًا، وَأَوْقَدَ نَارَ الْفِتْنَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ دَوْلَتِهِمْ، فَتَقَلَّصَ ظِلُّ الدَّعْوَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَحَلَّ مَحَلَّهَا خُطَبٌ نَارِيَّةٌ تَهْيِيجِيَّةٌ، حَتَّى وُلِدَ مِنْهَا مَوْلُودَانِ لَا يُدْرَى أَيُّهُمَا سَبَقَ الْآخَرَ:
أَحَدُهُمَا: الْخُرُوجُ عَلَى الْحُكَّامِ.
وَثَانِيهُمَا: التَّكْفِيرُ.
وَالتَّكْفِيرُ وَالْخُرُوجُ رَضِيعَا لَبَانٍ وَاحِدٍ، وَرُبِّيَا فِي حِجْرٍ وَاحِدٍ، مَا حَلَّا دِيَارَ قَوْمٍ إِلَّا تَرَكَاهَا بَلَاقِعَ يَا صَاحِبِي، وَهَذَا حَقٌّ أَفَلَا تَتَّعِظُونَ؟!! أَفَلَا تَعْتَبِرُونَ؟!!
يَقُولُ: وَدَخَلْنَا فِتْنَةً طَالَ مِنْهَا الْأَمَدُ، حَتَّى شَابَ مِنْهَا الْوَالِدُ وَمَا وَلَدَ، فَاسْتَحَالَ أَمْنُ الْبِلَادِ إِلَى رُعْبٍ، وَعُمْرَانُهَا إِلَى خَرْبٍ، وَبَاتَتْ مَسَاجِدُهَا الْآمِنَةُ مَسَارِحَ لِلْإِرْهَابِ، وَسَالَتْ مِنْ دِمَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمُسْلِمَةِ أَنْهَارٌ غِزَارٌ!
فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَدْرِي الْقَاتِلُ فِي أَيِّ شَيْءٍ قَتَلَ، وَلَا يَدْرِي الْمَقْتُولُ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ قُتِلَ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
هَذَا مَا حَدَثَ فِي الْجَزَائِرِ فَأَدَّى إِلَى مَا أَدَّى إِلَيْهِ مِنْ إِسَالَةِ الدِّمَاءِ فِي الشَّوَارِعِ أَنْهَارًا، وَمَا كَانَ هُنَالِكَ مِنْ قَتْلٍ بِالْفُئُوسِ وَتَقْطِيعٍ لِلْأَعْضَاءِ بِالْفُئُوسِ أَمَامَ الْعَائِلَةِ وَهِيَ تَنْظُرُ إِلَى عَائِلِهَا يُفْعَلُ بِهِ ذَلِكَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ سَبْيِ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّهُمْ يُكَفِّرُونَ هَؤُلَاءِ النِّسْوَةَ، فَإِذَنْ هُنَّ سَبَايَا وَهُنَّ حَلَالٌ!!
((* فَبَدْءًا: بِالتَّهْيِيجِ السِّيَاسِيِّ عَلَى الْمَنَابِرِ بِاسْمِ التَّوْعِيَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ!
* وَتَثْنِيَةً: بِالتَّعْبِئَةِ الْجَمَاهِيرِيَّةِ بِاسْمِ الْـمُحَافَظَةِ عَلَى الْهُوِيَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ!
* وَتَثْلِيثًا: بِالْخُرُوجِ عَلَى الْحُكَّامِ بِاسْمِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ!
* وَتَرْبِيعًا: بِتَكْفِيرِ الْمُسْلِمِينَ بِاسْمِ الْوَلَاءِ وَالْبَرَاءِ!
* وَتَخْمِيسًا: بِالتَّفْجِيرَاتِ الْعَشْوَائِيَّةِ وَالْـمَجَازِرِ الْجَمَاعِيَّةِ بِاسْمِ الْجِهَادِ!!
هَذَا الَّذِي شَيَّبَ رُءُوسَ الْمُصْلِحِينَ، وَشَابَ بِكَدَرٍ عَظِيمٍ صَفَاءَ دِينِ الْمُسْلِمِينَ! حَتَّى شَوَّهَ صُورَتَهُ لَدَى أَعْدَائِهِ، بِسَبَبِ فَسَادِ تَصَرُّفِ أَدْعِيَائِهِ، وَإِنَّنِي لَأَتَعَجَّبُ كُلَّ الْعَجَبِ مِنْ قَوْمٍ يُبَارِكُونَ الْفِتْنَةَ الْقَائِمَةَ فِي وَطَنِنَا الْعَزِيزِ: الْجَزَائِرِ!)) -يَقُولُ الرَّجُلُ-.
لِأَنَّ أَهْلَ الْفِتْنَةِ وَالتَّهْيِيجِ بِتِلْكَ الْخُطَبِ الْحَمَاسِيَّةِ، وَالْفَتَاوَى غَيْرِ الْمَسْئُولَةِ الَّتِي لَمْ تُبْنَ إِلَّا عَلَى الْجَهْلِ وَالتَّهَوُّرِ مِنْ أَقْوَامٍ أَحْدَاثِ الْأَسْنَانِ، لَيْسُوا بِقَعِيدِينَ فِي الْعِلْمِ، بِحَيْثُ يُسْتَفْتَوْنَ عِنْدَ حُلُولِ النَّوَازِلِ، كَانُوا يُبَارِكُونَ مَا يَحْدُثُ، وَيَقُولُونَ: إِلَى الْأَمَامِ... إِلَى الْأَمَامِ يَا رِجَالُ!!
وَالدِّمَاءُ فِي أَعْنَاقِ هَؤُلَاءِ، يَأْتُونَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنْ شَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
يَقُولُ: ((وَمَا هِيَ إِلَّا دِيَارُ الْمُسْلِمِينَ! تَرَكُوا حَبْلَهَا فِي اضْطِرَابٍ، وَأَبْنَاءَهَا فِي احْتِرَابٍ! وَلَوْ كَانَ هَذَا مِنْ كَافِرٍ وَاضِحٍ لَزَالَ الْعَجَبُ، فَالْعَدُوُّ الْخَارِجِيُّ لَا يَأْلُونَا خَبَالًا، وَلَا يَدَّخِرُ عَنَّا وَبَالًا، تِلْكَ سُنَّةٌ مَعْلُومَةٌ.
إِلَّا أَنَّ الْمُقْلِقَ حَقِيقَةً قَابِلِيَّةُ الْمُسْلِمِينَ لِلتَّآكُلِ الدَّاخِلِيِّ، حَتَّى كَانَتْ كَوَخْزِ الْإِبَرِ فِي الْمَضَاجِعِ!
الْخَـطْـبُ خَـطْـبٌ فَـادِحُ=وَالْعَـيْبُ عَـيْبٌ فَاضِـحُ
وَعَارُنَا فِـي النَّـاسِ لَا=تَـحْـمِـلُـهُ النَّـوَاضِحُ
ثُمَّ لَا غِنَى لِسَائِرِ الْأَقْطَارِ الْإِسْلَامِيَّةِ عَنْ هَذِهِ الرِّسَالَةِ؛ لِأَنَّ الْبَلَاءَ وَاحِدٌ وَالْمُسْلِمِينَ لُحْمَةٌ وَاحِدَةٌ)).
فَهَلْ وَعَى قَوْمِي؟!!
لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ..
((اتِّبَاعُ الْعُلَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ وَالتَّحْذِيرُ مِنَ الْفَوْضَى))
إِنَّ مِنْ دَلَائِلِ نُبُوَّةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ الْحَدِيثَ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ الْهَرْجَ)).
قَالُوا: وَمَا الْهَرْجُ؟
قَالَ: ((الْقَتْلُ؛ إِنَّهُ لَيْسَ بِقَتْلِكُمُ الْمُشْرِكِينَ، وَلَكِنْ قَتْلُ بَعْضِكُمْ بَعْضًا؛ حَتَّى يَقْتُلَ الرَّجُلُ أَخَاهُ، وَحَتَّى يَقْتُلَ الرَّجُلُ جَارَهُ، وَيَقْتُلَ عَمَّهُ، وَيَقْتُلَ ابْنَ عَمِّهِ)).
قَالُوا: وَمَعَنَا عُقُولُنَا يَوْمَئِذٍ؟!!
قَالَ: ((إِنَّهُ لَتُنْزَعُ عُقُولُ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَيَخْلُفُ لَهُ هَبَاءٌ مِنَ النَّاسِ، يَحْسَبُ أَكْثَرُهُمْ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ، وَلَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ)).
إِذَا مَنَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالْعَقْلِ عَلَى عَبْدٍ؛ فَقَدْ أَعْظَمَ لَهُ الْمِنَّةَ.
فَالْعِلْمَ الْعِلْمَ أَيُّهَا الشَّبَابُ!
لَا يُلْهِيَنَّكُمْ عَنْهُ سِمْسَارُ أَحْزَابٍ، يَنْفُخُ فِي مِيزَابٍ، وَلَا دَاعِيَةُ انْتِخَابٍ فِي الْمَجَامِعِ صَخَّابٌ.
وَلَا يَلْفِتَنَّكُمْ عَنْهُ مُعَلِّلٌ بِسَرَابٍ، وَلَا حَاوٍ بِجِرَابٍ، وَلَا عَاوٍ فِي خَرَابٍ، يَأْتَمُّ بِغُرَابٍ.
وَلَا يَفْتِنَنَّكُمْ عَنْهُ مُنْزَوٍ فِي خَنْقَةٍ، وَلَا مُلْتَوٍ فِي زَنَقَةٍ، وَلَا جَالِسٌ فِي سَابَاطٍ عَلَى بِسَاطٍ، يُحَاكِي فِيكُمْ سُنَّةَ اللهِ فِي الْأَسْبَاطِ؛ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ مُشَعْوِذٌ خَلَّابٌ، وَسَاحِرٌ كَذَّابٌ.
إِنَّكُمْ إِنْ أَطَعْتُمْ هَؤُلَاءِ الْغُوَاةَ، وَانْصَعْتُمْ إِلَى هَؤُلَاءِ الْعُوَاةِ؛ خَسِرْتُمْ أَنْفُسَكُمْ، وَخَسِرَكُمْ وَطَنُكُمْ، وَسَتَنْدَمُونَ يَوْمَ يَجْنِي الزَّارِعُونَ مَا حَصَدُوا، وَلَاتَ سَاعَةَ مَنْدَمِ!!
مَنِ الَّذِي يُفْتِي إِذَا جَاءَتِ النَّوازِلُ السِّيَاسِيَّةُ؟!!
الْفَتْوَى فِي النَّوَازِلِ السِّيَاسِيَّةِ قَاصِرَةٌ عَلَى الْمُجْتَهِدِ، قَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83].
قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((الْعَالِمُ بِكِتَابِ اللهِ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ؛ فَهُوَ الْمُجْتَهِدُ فِي أَحْكَامِ النَّوَازِلِ، فَهَذَا النَّوْعُ الَّذِي يَسُوغُ لَهُمُ الْإِفْتَاءُ، وَيَسُوغُ اسْتِفْتَاؤُهُمْ، وَيَتَأَدَّى بِهِمْ فَرْضُ الِاجْتِهَادِ، وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا)) .
لَا يُفْتِي فِي دَقَائِقِ الْجِهَادِ إِلَّا الْمُجْتَهِدُ، وَيَحْرُمُ اسْتِفْتَاءُ طَلَبَةِ الْعِلْمِ فِي تِلْكَ الدَّقَائِقِ -فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمْ- مَهْمَا زَعَمُوا أَنَّهُمْ فُقَهَاءُ الْوَاقِعِ!!
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((وَفِي الْجُمْلَةِ؛ فَالْبَحْثُ فِي هَذِهِ الدَّقَائِقِ -يَعْنِي مَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ الِاجْتِهَادِ- مِنْ وَظِيفَةِ خَوَاصِّ أَهْلِ الْعِلْمِ)).
لَوْ أَفْتَى فِيهَا مَنْ لَيْسَ فِي رُتْبَةِ الْعَالِمِ الْمُجْتَهِدِ أَفْسَدَ الْبِلَادَ، وَأَرْهَقَ الْعِبَادَ؛ لِأَنَّ الْعَالِمَ يَشُمُّ الْفِتْنَةَ قَبْلَ وُقُوعِهَا، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَلَا يَعْرِفُهَا إِلَّا إِذَا وَقَعَ فِيهَا، وَقَدْ لَا يَعْرِفُهَا)).
قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّ هَذِهِ الْفِتْنَةَ إِذَا أَقْبَلَتْ عَرَفَهَا كُلُّ عَالِمٍ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ عَرَفَهَا كُلُّ جَاهِلٍ)) .
يَنْبَغِي أَنْ يُعَادَ إِلَى أَهْلِ الِاجْتِهَادِ الَّذِينَ يُحْسِنُونَ الِاسْتِنْبَاطَ مِنْ كِتَابِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَيُحْسِنُونَ النَّظَرَ فِي سُنَّةِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ ﷺ.
((اتَّقُوا اللهَ فِي الْجَزائِرِ وَاحْذَرُوا الْفَوْضَى!!))
إِنَّ الْعُلَمَاءَ الَّذِينَ يَنْبَغِي أَنْ تُرَدَّ إِلَيْهِمُ الْأُمُورُ عِنْدَ النَّوَازِلِ؛ هُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنَ الْأَثْبَاتِ الثِّقَاتِ -رَحْمَةُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى الْأَمْوَاتِ مِنْهُمْ، وَغُفْرَانُهُ وَتَسْدِيدُهُ لِلْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ-.
هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تُرَدُّ إِلَيْهِمُ الْأُمُورُ عِنْدَ التَّنَازُعِ، فَيَرُدُّونَهَا عِنْدَ التَّنَازُعِ إِلَى كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ لِأَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ الِاسْتِنْبَاطَ مِنَ الْكِتَابِ، وَيُحْسِنُونَ اسْتِنْطَاقَ الْأَحْكَامِ بِالْأَحْكَامِ عِنْدَ وُقُوعِ النَّوَازِلِ.
هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ يَنْبَغِي أَنْ تُرَدَّ إِلَيْهِمُ الْأُمُورُ عِنْدَ النَّوَازِلِ، وَأَنْ يُرْجَعَ إِلَى قَوْلِهِمْ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ إِنَّمَا يَسْتَقُونَهُ مِنْ كِتَابِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَمِنْ سُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ.
وَنَحْنُ إِنَّمَا نُدَنْدِنُ حَوْلَ هَذَا الْأَمْرِ مِرَارًا وَتَكْرَارًا؛ مِنْ أَجْلِ مَقْصِدٍ عَظِيمٍ، وَذَلِكَ أَنَّا رَأَيْنَا انْفِرَاجَةً عَظِيمَةً فِي الدَّعْوَةِ إِلَى سَبِيلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَإِلَى دَعْوَةِ النَّاسِ إِلَى طَرِيقِ اللهِ الْمُسْتَقِيمِ.
ثُمَّ أَتَى مَا أَتَى مِنْ مِثْلِ مَا يَتَأَتَّى الْيَوْمَ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ؛ حَتَّى وَقَعَ مَا وَقَعَ، وَضُيِّقَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا ضُيِّقَ عَلَيْهِمْ.
فَالْخَشْيَةُ هَاهُنَا مِنْ أَنْ يَتَكَرَّرَ مَا تَكَرَّرَ هُنَالِكَ مِنْ ذَلِكَ الصِّدَامِ الْأَهْوَجِ الَّذِي لَا يَحْكُمُهُ وَلَا يَضْبِطُهُ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ، مِنْ غَيْرِ عَوْدَةٍ إِلَى أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ الثِّقَاتِ.
فَإِلَى اللهِ الْمُشْتَكَى مِنْ أَقْوَامٍ يَدْعُونَ إِلَى الْحَاكِمِيَّةِ وَلَا يُحَكِّمُونَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَقَدْ أَمَرَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِذَلِكَ، يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى كِتَابِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ..
فَهَذَا كِتَابُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَهَذِهِ سُنَّةُ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ ﷺ، كِتَابُ اللهِ عَلَى مُرَادِ اللهِ، وَسُنَّةُ رَسُولِ اللهِ عَلَى مُرَادِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
أَمَّا أَنْ تَتَصَدَّى لِمَا لَمْ تُخْلَقْ لَهُ، وَلَمْ تَتَأَهَّلْ لَهُ بِهِ، وَتَتَكَلَّمَ فِي أُمُورِ السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَتُفْتِيَ فِي النَّوَازِلِ!!
وَيَخْرُجُ أُولَئِكَ الْمَمْسُوخُونَ فِي تِلْكَ الْمُظَاهَرَاتِ، يَفْعَلُونَ مَا يَفْعَلُونَ، وَيَدْعُونَ مُلَوِّحِينَ بِالْعِصْيَانِ الْمَدَنِيِّ وَمَا أَشْبَهَ مِنْ تِلْكَ الْأُمُورِ الَّتِي يُنْكِرُهَا دِينُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالَّتِي تُؤَدِّي إِلَى الْفَوْضَى فِي الْمُنْتَهَى.
أَلَا فَلْيَعْلَمِ الْقَوْمُ أَنَّهُ مَا أَشْبَهَ اللَّيْلَةَ بِالْبَارِحَةِ، وَالْفُرْصَةُ مَبْذُولَةٌ الْآنَ، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ هُوَ الْمَسْئُولُ أَنْ يَرْفَعَ الْكَرْبَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَأَنْ يَهْدِيَنَا جَمِيعًا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.
((اتَّقُوا اللهَ فِي أَرْضِ الْإِسْلَامِ!))
اتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! إِنَّا نُحَذِّرُكُمْ -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ-؛ فَإِنَّكُمْ أُمَنَاءُ عَلَى أَرْضِ الْإِسْلَامِ؛ فَلَا تُضَيِّعُوهَا!
وَكُلُّكُمْ -مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ- عَلَى ثَغْرٍ مِنْ ثُغُورِ الْإِسْلَامِ؛ فَحَذَارِ أَنْ يُؤْتَى الْإِسْلَامُ مِنْ قِبَلِكَ!
حَذَارِ -أَخِي- أَنْ يُؤْتَى الْإِسْلَامُ مِنْ قِبَلِكَ!
فَلَا تَتْبَعْ كُلَّ نَاعِقٍ!
وَلَا تَسْمَعْ لِكُلِّ ثَائِرٍ مُثِيرٍ هَائِجٍ!
وَحَذَارِ أَنْ تَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ! اضْرِبْ بِكُلِّ أَمْرٍ عُرْضَ الْحَائِطِ، وَاجْعَلْهُ تَحْتَ مَوَاطِئِ الْأَقْدَامِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُوَافِقًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَكُلُّ مَنْ دَعَاكَ؛ يَدْعُوكَ إِلَى اتِّبَاعِهِ؛ فَقُلْ: أَعْرِضُ كَلَامَكَ -وَاعْرِضْهُ لِي- عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، مِنْ أَيْنَ؟
الْكِتَابُ عَلَى مُرَادِ اللهِ، وَالسُّنَّةُ عَلَى مُرَادِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
إِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ فُزْتُمْ وَسَعِدْتُمْ، وَنَجَحْتُمْ وَأَفْلَحْتُمْ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَقْبَلُ الْإِسْلَامِ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ؛ تُضَيِّعُونَهُ بِأَنْفُسِكُمْ، وَتُدَمِّرُونَ -عَلَى أَبْنَائِكُمْ وَحَفَدَتِكُمْ مِنْ بَعْدِهِمْ- مُسْتَقْبَلَهُمْ؛ لِكَيْ يُسَامُوا الذُّلَّ، وَالْهَوَانَ، وَالْخَسْفَ، وَالطُّغْيَانَ.
يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نُبَيِّنَ التَّوْحِيدَ وَالِاتِّبَاعَ لِلْأُمَّةِ، وَأَنْ نَبْدَأَ بِالْإِصْلَاحِ الْعَقَدِيِّ، لَا بِالْإِصْلَاحِ السِّيَاسِيِّ، وَإِلَّا تَنَكَّبْنَا سَبِيلَ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
وَاللهُ يَرْعَاكَ وَيَحْفَظُكَ.
فَاللَّهُمَّ يَا ذَا الْمَنِّ وَلَا يُمَنُّ عَلَيْهِ! يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ! رُدَّنَا إِلَيْكَ رَدًّا جَمِيلًا، وَاهْدِنَا وَاهْدِ الضَّالِّينَ فِي كُلِّ صَقْعٍ مِنْ أَصْقَاعِ الْأَرْضِ إِلَى صِرَاطِكَ الْمُسْتَقِيمِ، إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَحْسِنْ خِتَامَنَا أَجْمَعِينَ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ.
المصدر:نَصِيحَةٌ إِلَى أَهْلِ الْجَزَائِرِ الْحَبِيبَةِ