مَعَانِي الرِّزْقِ وَمَفَاتِيحُهُ

مَعَانِي الرِّزْقِ وَمَفَاتِيحُهُ

((مَعَانِي الرِّزْقِ وَمَفَاتِيحُهُ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((الرِّزْقُ مِنَ اللهِ))

فَإِنَّهُ مِنِ اعْتِقَادِ الْمُؤْمِنِ: أَنَّهُ لَا يُطْلَبُ الرِّزْقُ إِلَّا مِنَ اللهِ.

قَالَ تَعَالَى: {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [المائدة: 114].

وَقَالَ تَعَالَى: {أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [النمل: 64].

وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [يونس: 31].

وَاعْلَمْ أَنَّ الرِّزْقَ إِنَّمَا يَحْصُلُ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ:

أَمَّا مِنَ السَّمَاءِ؛ فَبِنُزُولِ الْأَمْطَارِ الْمُوَافِقَةِ.

وَأَمَّا مِنَ الْأَرْضِ؛ فَلِأَنَّ الْغِذَاءَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَبَاتًا أَوْ حَيَوَانًا، أَمَّا النَّبَاتُ فَلَا يَنْبُتُ إِلَّا مِنَ الْأَرْضِ، وَأَمَّا الْحَيَوَانُ فَهُوَ مُحْتَاجٌ -أَيْضًا- إِلَى الْغِذَاءِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ غِذَاءُ كُلِّ حَيَوَانٍ حَيَوَانًا آخَرَ؛ وَإِلَّا لَزِمَ الذَّهَابُ إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَهَذَا مُحَالٌk فَثَبَتَ أَنَّ أَغْذِيَةَ الْحَيَوَانَاتِ يَجِبُ انْتِهَاؤُهَا إِلَى النَّبَاتِ، وَثَبَتَ أَنَّ تَوَلُّدَ النَّبَاتِ مِنَ الْأَرْضِ؛ فَلَزِمَ الْقَطْعُ بِأَنَّ الْأَرْزَاقَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُدَبِّرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ لَيْسَ إِلَّا اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.

فَثَبَتَ أَنَّ الرِّزْقَ لَيْسَ إِلَّا مِنَ اللهِ -تَعَالَى-، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِّن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [القصص: 57].

وَاعْلَمْ أَنَّهُ -تَعَالَى- إِنَّمَا بَيَّنَ أَنَّ تِلْكَ الْأَرْزَاقَ مَا وَصَلَتْ إِلَيْهِمْ إِلَّا مِنَ اللهِ -تَعَالَى-؛ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ مَتَى عَلِمُوا ذَلِكَ صَارُوا بِحَيْثُ لَا يَخَافُونَ أَحَدًا سِوَى اللهِ -تَعَالَى-، وَلَا يَرْجُونَ أَحَدًا غَيْرَ اللهِ -تَعَالَى-، فَيَبْقَى نَظَرُهُمْ مُنْقَطِعًا عَنِ الْخَلْقِ مُتَعَلِّقًا بِالْخَالِقِ.

وَذَلِكَ يُوجِبُ كَمَالَ الْإِيمَانِ، وَكَمَالَ الْإِعْرَاضِ بِالْكُلِّيَّةِ عَنْ غَيْرِ اللهِ -تَعَالَى-، وَالْإِقْبَالِ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ -تَعَالَى-.

قَالَ تَعَالَى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82].

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((إِنَّ اللهَ لَيُصَبِّحُ الْقَوْمَ بِالنِّعْمَةِ أَوْ يُمَسِّيهِمْ بِهَا، فَيُصْبِحُ بِهَا قَوْمٌ كَافِرِينَ؛ يَقُولُونَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا)). رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ فِي ((التَّفْسِيرِ))، وَالْحُمَيْدِيُّ فِي ((مُسْنَدِهِ))، وَالطَّحَاوِيُّ فِي ((شَرْحِ الْمُشْكِلِ))، وَأَصْلُهُ فِي ((الصَّحِيحِ)).

قَالَ تَعَالَى: {اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ} [الرعد: 26].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ} [النحل: 71].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ} [النحل: 73].

وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 49].

وَقَالَ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [النحل: 114].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132].

وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِندَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت: 17].

وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة: 63، 64].

وَقَالَ تَعَالَى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32].

وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ قَتَادَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي قَوْلِهِ: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَاقَالَ: ((قَسَمَ بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَا قَسَمَ بَيْنَهُمْ صُوَرَهُمْ وَأَخْلَاقَهُمْ -فَتَعَالَى رَبُّنَا وَتَبَارَكَ-.

{وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ}، قَالَ: ((فَتَلْقَاهُ ضَعِيفَ الْحِيلَةِ، عَيِيَّ اللِّسَانِ، وَهُوَ مَبْسُوطٌ لَهُ فِي الرِّزْقِ، وَتَلْقَاهُ شَدِيدَ الْحِيلَةِ، سَلِيطَ اللِّسَانِ، وَهُوَ مَقْتُورٌ عَلَيْهِ، {لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا})).

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24].

وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((خَرَجَ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنْ مِصْرَ إِلَى مَدْيَنَ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَهَا ثَمَانِ لَيَالٍ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ طَعَامٌ سِوَى وَرَقِ الشَّجَرِ، وَخَرَجَ إِلَيْهَا حَافِيًا، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهَا كَانَ قَدْ وَقَعَ خُفُّ قَدَمِهِ)).

وَفِي قَوْلِهِ: {إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} أَيْ: مِنْ طَعَامٍ.

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فَالْعَبْدُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ رِزْقٍ، وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ، فَإِذَا طَلَبَ رِزْقَهُ مِنَ اللهِ صَارَ عَبْدًا للهِ فَقِيرًا إلَيْهِ، وَإِنْ طَلَبَ رِزْقَهُ مِنْ مَخْلُوقٍ صَارَ عَبْدًا لِذَلِكَ الْمَخْلُوقِ فَقِيرًا إلَيْهِ)).

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- وَكَّلَ بِالرَّحِمِ مَلَكًا فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ؛ نُطْفَةٌ؟ أَيْ رَبِّ؛ عَلَقَةٌ؟ أَيْ رَبِّ؛ مُضْغَةٌ؟ فَإِذَا أَرَادَ اللهُ أَنْ يَقْضِيَ خَلْقَهَا قَالَ: أَيْ رَبِّ؛ أذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ أشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ فَمَا الرِّزْقُ؟ فَمَا الْأَجَلُ؟ فَيُكْتَبُ كَذَلِكَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَا تَسْتَبْطِئُوا الرِّزْقَ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَبْدٌ يَمُوتُ حَتَّى يَبْلُغَهُ آخِرُ رِزْقٍ هُوَ لَهُ؛ فَاتَّقُوا اللهَ، وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ مِنَ الْحَلَالِ وَتَرْكِ الْحَرَامِ)).

عَنْ ثَوْبَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ إِلَّا الْبِرُّ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ -وَاللَّفْظُ لَهُ-، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْكَبِيرِ))، وَفِيهِ مَقَالٌ.

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ، وَالفَرَاغُ)).

عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ كَانَ يَقُولُ: ((مَنْ يَظُنُّ أَنَّ حِرْصَهُ يَزِيدُ فِي رِزْقِهِ فَلْيَزِدْ فِي طُولِهِ أَوْ فِي عَرْضِهِ، أَوْ فِي عَدَدِ بَنَانِهِ، أَوْ فَلْيُغَيِّرْ لَوْنَهُ؛ فَإِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- خَلَقَ الْخَلْقَ، فَمَضَى الْخَلْقُ لِمَا خُلِقَ لَهُ، ثُمَّ قَسَمَ الرِّزْقَ، فَمَضَى الرِّزْقُ لِمَا قُسِمَ، فَلَيْسَتِ الدُّنْيَا بِمُعْطِيَةٍ أَحَدًا شَيْئًا لَيْسَ لَهُ، وَلَيْسَتْ بِمَانِعَةٍ أَحَدًا شَيْئًا هُوَ لَهُ؛ فَعَلَيْكُمْ بِعِبَادَةِ رَبِّكُمْ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ فَإِنَّكُمْ خُلِقْتُمْ لَهَا)).

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97]، قَالَ: ((الرِّزْقُ الطَّيِّبُ فِي الدُّنْيَا)).

فَهُوَ -تَعَالَى- إِنَّمَا يُقْسِمُ عَبْدَهُ الَّذِي يُحِبُّهُ لِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الصِّحَّةُ؛ مَنْ عَلِمَ اللهُ مِنْهُ ضَعْفًا لَا يَحْتَمِلُ السَّقَمَ صَحَّحَهُ؛ لِيَكُونَ لَهُ عَابِدًا، وَبَيْنَ يَدَيْهِ رَاكِعًا وَسَاجِدًا، وَبِفَضْلِ قُوَّتِهِ مُجَاهِدًا، فَيَكُونُ مَاثِلًا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَمُقْبِلًا بِكُلِّيَّتِهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- أَحَبَّهُ، فَجَعَلَهُ نُصْبَ عَيْنَيْهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ، إِنْ كَانَ فَقِيرًا سَأَلَهُ، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا أَقْرَضَهُ، وَأَسْقَمَهُ فَتَضَرَّعَ إِلَيْهِ، وَإِنْ صَحَّحَهُ مَثَلَ بَيْنَ يَدَيْهِ، يُصْلِحُ إِيمَانَهُ لِيَصْلُحَ لَهُ، يُدَبِّرُهُ بِعِلْمِهِ؛ إِنَّهُ عَلِيمٌ خَبِيرٌ، وَعَلَى مَا يَشَاءُ قَدِيرٌ.

فَهُوَ -تَعَالَى- يُحِبُّ لَهُ مَا يَفْعَلُهُ بِهِ، وَمَا يُصَرِّفُهُ بِوَجْهِهِ إِلَيْهِ، وَيُقْبِلُ بِقَلْبِهِ عَلَيْهِ؛ لِيَكُونَ فِي كُلِّ حَالٍ بَيْنَ يَدَيْهِ، مَائِلًا عَنْ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، مَاثِلًا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَفِي كُلِّ الْأَحْوَالِ يَكُونُ إِلَيْهِ نَاظِرًا، وَفِي كُلِّ وَقْتٍ يَكُونُ لَهُ ذَاكِرًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ -تَعَالَى- مُحِبٌّ، وَعَلَيْهِ مُقْبِلٌ، وَلَهُ مُؤْثِرٌ، وَإِلَيْهِ نَاظِرٌ، وَلَهُ ذَاكِرٌ، فَيُحِبُّ أَنْ يَكُونَ حَبِيبُهُ لَهُ كَمَا هُوَ لِحَبِيبِهِ، وَالْعَبْدُ لَا يُطِيقُ ذَلِكَ، وَلَا يَهْتَدِي إِلَيْهِ، فَهُوَ -تَعَالَى- يَفْعَلُ بِهِ مَا يُرِيدُ مِنْهُ أَنْ يَفْعَلَهُ -تَعَالَى-، اللهُ أَكْبَرُ، الْكَرِيمُ اللَّطِيفُ الْعَلِيمُ.

فَهَذَا مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَعْتَقِدَهُ الْمُسْلِمُ اعْتِقَادًا جَازِمًا؛ أَنَّ الرِّزْقَ مِنْ عِنْدِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَحْدَهُ، وَقَدْ كَتَبَهُ اللهُ -تَعَالَى- وَقَدَّرَهُ، كَمَا كَتَبَ وَقَدَّرَ الْعُمُرَ، فَلَا زِيَادَةَ فِي ذَلِكَ وَلَا نُقْصَانَ، وَلَنْ يَمُوتَ أَحَدٌ حَتَّى يَسْتَكْمِلَ عُمُرَهُ، وَيَسْتَوْعِبَ رِزْقَهُ.

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((فَلَا يَحْمِلَنَّ أَحَدَكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ عَلَى أَنْ يَطْلُبَهُ بِمَعْصِيَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ فَإِنَّ مَا عِنْدَ اللهِ لَا يُنَالُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ)).

فَيَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِأَنَّ الرِّزْقَ بِيَدِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَحْدَهُ، وَقَدْ قَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور: 38]: قَيَّدَ رِزْقَهُ -تَعَالَى- بِالْمَشِيئَةِ؛ لِيَتَبَيَّنَ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَأْخُذُ بِأَسْبَابِ تَحْصِيلِ الرِّزْقِ وَلَا يُرْزَقُ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَيَّدَ الرِّزْقَ بِالْمَشِيئَةِ، فَإِذَا شَاءَ رَزَقَ، وَإِذَا لَمْ يَشَأْ مَعَ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ لَا يُرْزَقِ الْعَبْدُ شَيْئًا.

يَمْنَعُ اللهُ -تَعَالَى- عَنْهُ الرِّزْقَ لِحِكْمَةٍ عَظِيمَةٍ بَالِغَةٍ؛ فَإِنَّ مِنْ عِبَادِ اللهِ مَنْ إِذَا رَزَقَهُ اللهُ -تَعَالَى- وَأَغْنَاهُ أَفْسَدَهُ الْغِنَى، وَمِنْهُمْ مَنْ إِذَا قَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ أَفْسَدَهُ الْفَقْرُ، فَاللهُ -جَلَّ وَعَلَا- بِحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ بِالْمُؤْمِنِ يَخْتَارُ لَهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَكْمَلَ الْحَالَاتِ؛ سَوَاءٌ كَانَ فِي كَثْرَةِ الْمَالِ أَوْ فِي قِلَّةِ الْمَالِ، {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.

فَكَمْ تَرَى مِنْ إِنْسَانٍ أَخَذَ بِالْأَسْبَابِ الْكَثِيرَةِ لِتَحْصِيلِ الرِّزْقِ وَلَمْ يَحْصُلْ مِنْ وَرَاءِ الْأَخْذِ بِهَا عَلَى شَيْءٍ!

وَكَمْ مِنْ إِنْسَانٍ حَصَلَ لَهُ الرِّزْقُ بِلَا تَعَبٍ!

لَكِنْ هَذَا لَا يَعْنِي أَنْ يَتَّكِلَ الْإِنْسَانُ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ وَحْدَهُ تَارِكًا لِلْأَسْبَابِ، وَلَا أَنْ يَغُلَّ يَدَهُ عَنْ بَسْطِهَا بِالْعَمَلِ أَخْذًا بِالْأَسْبَابِ لِتَحْصِيلِ الْأَرْزَاقِ، فَيَبْتَغُونَ عِنْدَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- الرِّزْقَ، آخِذِينَ بِالْأَسْبَابِ، عَامِلِينَ بِهَا؛ لَكِنْ إِذَا لَمْ يَصِلُوا إِلَى مُرَادِهِمْ فَلْيَعْلَمُوا أَنَّ الْأَمْرَ بِيَدِ اللهِ وَحْدَهُ، وَأَنَّهُ -تَعَالَى- يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ، فَالْعَبْدُ مَأْمُورٌ بِالْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ، وَأَنْ يَبْسُطَ يَدَهُ بِتِلْكَ الْأَسْبَابِ لِتَحْصِيلِ رِزْقِهِ الَّذِي كَتَبَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ وَشَاءَهُ، فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ الَّذِي كَتَبَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَذَلِكَ خَيْرٌ، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ اللهُ قَدْ قَدَّرَ لَهُ أَنْ يُرْزَقَ مَعَ أَخْذِهِ بِالْأَسْبَابِ فَإِنَّهُ يُؤْمِنُ بِأَنَّ هَذَا الرِّزْقَ بِيَدِ اللهِ وَحْدَهُ، يَبْسُطُهُ لِمَنْ يَشَاءُ، وَيَمْنَعُهُ عَمَّنْ يَشَاءُ، فَيَكُونُ قَدْ أَتَى بِمَا عَلَيْهِ، وَبَذَلَ وُسْعَهُ بِالْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ؛ حَتَّى وَإِنْ لَمْ يُرْزَقْ؛ لِأَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- يَقُولُ: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}، فَقَيَّدَ الرِّزْقَ بِالْمَشِيئَةِ.

فَالْعَبْدُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ رِزْقٍ، وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى ذَلِكَ الرِّزْقِ، فَإِذَا طَلَبَ رِزْقَهُ مِنَ اللهِ صَارَ عَبْدًا للهِ، فَقِيرًا إِلَى اللهِ، وَإِنْ طَلَبَهُ مِنْ مَخْلُوقٍ صَارَ عَبْدًا لِذَلِكَ الْمَخْلُوقِ فَقِيرًا إِلَيْهِ.

قَالَ الْخَلِيلُ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ} [العنكبوت: 17]، وَلَمْ يَقُلْ: فَابْتَغُوا الرِّزْقَ عِنْدَ اللهِ؛ لِأَنَّ تَقْدِيمَ الظَّرْفِ يُشْعِرُ بِالِاخْتِصَاصِ وَالْحَصْرِ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا تَبْتَغُوا الرِّزْقَ إِلَّا عِنْدَ اللهِ، فَهَذَا نَفْيٌ وَاسْتِثْنَاءٌ، وَهُوَ مِنْ أَسَالِيبِ الْحَصْرِ وَالْقَصْرِ.

وَقَدْ قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ} [النساء: 32].

((تَعْلِيقُ الْمُؤْمِنِ قَلْبَهُ فِي أَمْرِ الرِّزْقِ بِاللهِ وَحْدَهُ))

إِنَّ الْإِنْسَانَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ حُصُولِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الرِّزْقِ وَنَحْوِهِ، وَدَفْعِ مَا يَضُرُّهُ، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ شَرَعَ اللهُ لَهُ أَنْ يَطْلُبَ، وَأَنْ يَكُونَ دُعَاؤُهُ فِي ذَلِكَ للهِ -تَعَالَى- وَحْدَهُ، فَلِلْعَبْدِ أَنْ يَسْأَلَ اللهَ، وَأَنْ يَشْتَكِيَ إِلَى اللهِ، كَمَا قَالَ يَعْقُوبُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86]، فَالْإِنْسَانُ يَشْكُو إِلَى رَبِّهِ، لَا يَشْكُو إِلَى سِوَاهُ، فَإِذَا شَكَا بَثَّهُ وَحُزْنَهُ فَلْيَكُنْ مُتَوَجِّهًا بِشَكْوَاهُ إِلَى اللهِ، {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ}، وَإِذَا سَأَلَ وَدَعَا سَأَلَ اللهَ وَحْدَهُ وَدَعَا اللهَ وَحْدَهُ.

وَيَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يُعَلِّقَ رَجَاءَهُ بِاللهِ وَحْدَهُ، وَأَنْ يَعْلَمَ يَقِينًا أَنَّ اللهَ إِذَا قَدَّرَ لَهُ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ الرِّزْقِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحْمَدَ رَبَّهُ عَلَيْهِ، وَأَنْ يَسْأَلَهُ أَنْ يُبَارِكَ لَهُ فِيهِ، فَإِذَا انْقَطَعَ أَوْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ السَّبَبُ فَلَا يَتَشَوَّشَنَّ قَلْبُكَ؛ لِأَنَّكَ إِذَا كُنْتَ مُتَعَلِّقًا بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَأَنْتَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- هُوَ الْحَكِيمُ، وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَفْعَالُهُ كُلُّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْحِكْمَةِ، فَفِي شَرْعِهِ وَفِي قَدَرِهِ يُبْنَى الشَّرْعُ وَالْقَدَرُ عَلَى الْحِكْمَةِ، فَإِذَا مَا قُطِعَ عَنْكَ سَبَبُ رِزْقٍ كَانَ إِلَيْكَ وَاصِلًا أَوْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ السَّبَبُ فَلَا يَتَشَوَّشَنَّ قَلْبُكَ؛ فَإِنَّ هَذَا السَّبَبَ لَا يَتَوَقَّفُ رِزْقُ الْعَبْدِ عَلَيْهِ، بَلْ إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِذَا قُطِعَ ذَلِكَ السَّبَبُ أَوْ تَعَذَّرَ فَتَحَ لَكَ سَبَبًا سِوَاهُ يَكُونُ أَحْسَنَ مِنْهُ وَأَنْفَعَ لَكَ، وَرُبَّمَا قُطِعَ سَبَبٌ أَوْ تَعَذَّرَ فَوَصَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْعَبْدَ بِعِدَّةِ أَسْبَابٍ.

فَعَلَى الْعَبْدِ فِي أَحْوَالِهِ كُلِّهَا أَنْ يَجْعَلَ فَضْلَ رَبِّهِ وَالطَّمَعَ فِي بِرِّهِ نُصْبَ عَيْنَيْهِ وَقِبْلَةَ قَلْبِهِ، وَأَنْ يُكْثِرَ مِنَ الدُّعَاءِ الْمَقْرُونِ بِالرَّجَاءِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37] أَيْ: رِزْقًا وَاسِعًا مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَلَا يَكْتَسِبُ، أَيْ: بِكَثْرَةٍ كَثِيرَةٍ، وَغَزَارَةٍ غَزِيرَةٍ، وَوَفْرَةٍ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.

فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُفَرِّغَ خَاطِرَهُ لِلْهَمِّ بِمَا أُمِرَ بِهِ، وَأَلَّا يَشْغَلَ قَلْبَهُ بِمَا ضُمِنَ لَهُ، فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَشْغَلَ قَلْبَهُ بِمَا طُلِبَ مِنْهُ، وَأَلَّا يُعَنِّيَ نَفْسَهُ بِمَا ضُمِنَ لَهُ؛ فَإِنَّ الرِّزْقَ وَالْأَجَلَ قَرِينَانِ مَضْمُونَانِ، فَمَا دَامَ الْأَجَلُ بَاقِيًا فَالرِّزْقُ آتٍ لَا مَحَالَةَ، مَا دَامَ الْأَجَلُ بَاقِيًا كَانَ الرِّزْقُ آتِيًا، حَيٌّ يُرْزَقُ، وَإِذَا سُدَّ عَلَيْكَ بَابٌ بِحِكْمَةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ فَإِنَّهُ يَفْتَحُ لَكَ بِرَحْمَتِهِ أَبْوَابًا تَكُونُ أَنْفَعَ لَكَ.

وَتَأَمَّلْ -إِذَا مَا ضُيِّقَ عَلَيْكَ فِي الرِّزْقِ- حَالَ الْجَنِينِ يَأْتِيهِ غِذَاؤُهُ مِنْ طَرِيقٍ وَاحِدَةٍ هُوَ الْحَبْلُ السُّرِّيُّ، فَإِذَا خَرَجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ وَانْقَطَعَتْ تِلْكَ الطَّرِيقُ؛ فَتَحَ اللهُ لَهُ طَرِيقَيْنِ اثْنَيْنِ، وَأَجْرَى لَهُ فِيهِمَا رِزْقًا أَطْيَبَ وَأَلَذَّ مِنَ الْأَوَّلِ.. لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا، فَكَانَ رِزْقُهُ يَأْتِيهِ مِنْ طَرِيقٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ الْحَبْلُ السُّرِّيُّ، فَإِذَا خَرَجَ آتَاهُ اللهُ رِزْقَهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ -أَيْ: مِنْ ثَدْيَيْ أُمِّهِ- لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا، فَإِذَا تَمَّتْ مُدَّةُ الرَّضَاعِ، وَانْقَطَعَتِ الطَّرِيقَانِ بِالْفِطَامِ؛ فَتَحَ اللهُ طُرُقًا أَرْبَعَةً هِيَ أَكْمَلُ مِنْ ذَلِكَ وَأَهْنَأُ، طَعَامَانِ وَشَرَابَانِ، فَالطَّعَامَانِ مِنَ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ، وَالشَّرَابَانِ مِنَ الْمِيَاهِ وَالْأَلْبَانِ وَمَا يُضَافُ إِلَيْهِمَا مِنَ الْمَنافِعِ وَالْمَلَاذِّ، فَإِذَا مَاتَ انْقَطَعَتْ عَنْهُ هَذِهِ الطُّرُقُ الْأَرْبَعَةُ؛ وَلَكِنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ- فَتَحَ لَهُ -إِنْ كَانَ سَعِيدًا- طُرُقًا ثَمَانِيَةً، وَهِيَ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ، يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ.

فَهَكَذَا الرَّبُّ -سُبْحَانَهُ- لَا يَمْنَعُ عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ شَيْئًا مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا وَيُؤْتِيهِ أَفْضَلَ مِنْهُ وَأَنْفَعَ لَهُ.

((مِنْ صِفَاتِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الرِّزْقُ))

عِبَادَ اللهِ! مِنْ صِفَاتِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: صِفَةُ الرِّزْقِ؛ فَهُوَ -سُبْحَانَهُ- الرَّزَّاقُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي رِزْقِهِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58].

(({إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ} أَيْ: كَثِيرُ الرِّزْقِ، الَّذِي مَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا، وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا، {ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} أَيِ: الَّذِي لَهُ الْقُوَّةُ وَالْقُدْرَةُ كُلُّهَا، الَّذِي أَوْجَدَ بِهَا الْأَجْرَامَ الْعَظِيمَةَ؛ السُّفْلِيَّةَ وَالْعُلْوِيَّةَ، وَبِهَا تَصَرَّفَ فِي الظَّوَاهِرِ وَالْبَوَاطِنِ، وَنَفَذَتْ مَشِيئَتُهُ فِي جَمِيعِ الْبَرِيَّاتِ، فَمَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَلَا يُعْجِزُهُ هَارِبٌ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ سُلْطَانِهِ أَحَدٌ، وَمِنْ قُوَّتِهِ أَنَّهُ أَوْصَلَ رِزْقَهُ إِلَى جَمِيعِ الْعَالَمِ، وَمِنْ قُدْرَتِهِ وَقُوَّتِهِ أَنَّهُ يَبْعَثُ الْأَمْوَاتَ بَعْدَمَا مَزَّقَهُمُ الْبِلَى، وَعَصَفَتْ بِهِمُ الرِّيَاحُ، وَابْتَلَعَتْهُمُ الطُّيُورُ وَالسِّبَاعُ، وَتَفَرَّقُوا وَتَمَزَّقُوا فِي مَهَامِهِ الْقِفَارِ، وَلُجَجِ الْبِحَارِ، فَلَا يَفُوتُهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَيَعْلَمُ مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ؛ فَسُبْحَانَ الْقَوِيِّ الْمَتِينِ!)).

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39].

خَيْرُ مَنْ رَزَقَ وَأَعْطَى وَمَنَحَ، يَرْزُقُ وَخَزَائِنُهُ لَا تَفْنَى وَلَا تَنْتَهِي.

وَكَلِمَة (الرَّزَّاق) أَبْلَغُ مِنْ كَلِمَة (الرَّازِق)؛ لِأَنَّ الرَّزَّاقَ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ تَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ الرِّزْقِ، وَعَلَى كَثْرَةِ الْمَرْزُوقِ، فَرِزْقُ اللهِ كَثِيرٌ بِاعْتِبَارِ كَثْرَةِ الْمَرْزُوقِينَ، وَلَا تَنْقَطِعُ عَنْهُمْ أَمْدَادُهُ وَفَوَاضِلُهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَمَنِ الَّذِي يُحْصِي الْمَرْزُوقِينَ عَدَدًا؟! لَا أَحَدَ يُحْصِيهِمْ أَبَدًا، وَرِزْقُهُ كَثِيرٌ -سُبْحَانَهُ- بِاعْتِبَارِ الْوَاحِدِ؛ فَكَمْ للهِ عَلَى الْعَبْدِ مِنْ رِزْقٍ كَثِيرٍ لَا يُحْصَى!!

فَرِزْقُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى الْعَبْدِ دَارٌّ عَلَيْهِ لَيْلًا وَنَهَارًا؛ رَزَقَ الْعَبْدَ عَقْلًا، وَصِحَّةً، وَمَالًا، وَوَلَدًا، وَأَمْنًا، وَأُمُورًا لَا يُحْصِيهَا إِلَّا هُوَ، {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18].

وَالنِّعْمَةُ مُفْرَدٌ مُضَافٌ، وَالْمُفْرَدُ الْمُضَافُ يُفِيدُ الْعُمُومَ، {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}؛ فَإِنَّ نِعَمَهُ الظَّاهِرَةَ وَالْبَاطِنَةَ عَلَى الْعِبَادِ بِعَدَدِ الْأَنْفَاسِ وَاللَّحَظَاتِ مِنْ جَمِيعِ أَصْنَافِ النِّعَمِ، مِمَّا يَعْرِفُهُ الْعِبَادُ وَمِمَّا لَا يَعْرِفُونَهُ.

وَالَّذِي يَدْفَعُهُ رَبُّهُمْ عَنْهُمْ مِنَ النِّقَمِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى؛ وَلِهَذَا جَاءَ اسْمُ (الرَّزَّاقِ) بِالتَّشْدِيدِ؛ لِلدَّلَالَةِ عَلَى كَثْرَةِ الرِّزْقِ، وَكَثْرَةِ الْمَرْزُوقِ.

((مَعَانِي الرِّزْقِ وَأَنْوَاعُهُ وَأَلْطَافُ الرِّزْقِ الْخَفِيِّ))

الرِّزْقُ لَهُ مَعَانٍ، وَقَدْ حَصَرَهَا الرَّاغِبُ فِي ((مُفْرَدَاتِ الْقُرْآنِ)) فَقَالَ: ((الرِّزْقُ يُقَالُ لِلْعَطَاءِ الْجَارِي؛ دُنْيَوِيًّا كَانَ أَمْ أُخْرَوِيًّا، وَلِلنَّصِيبِ تَارَةً، وَلِمَا يَصِلُ إِلَى الْجَوْفِ وَيُتَغَذَّى بِهِ تَارَةً، وَيُقَالُ: أَعْطَى السُّلْطَانَ رِزْقَ الْجُنْدِ، وَرُزِقْتَ عِلْمًا، قَالَ تَعَالَى: {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [المنافقون: 10] أَيْ: مِنَ الْمَالِ وَالْجَاهِ وَالْعِلْمِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ} [النساء: 8])).

وَأَعْظَمُ الرِّزْقِ هُوَ رِزْقُ الْهُدَى..

رِزْقُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِعِبَادِهِ نَوْعَانِ:

-عَامٌّ.

-وَخَاصٌّ.

فَالْعَامُّ: إِيصَالُهُ لِجَمِيعِ الْخَلِيقَةِ مَا تَحْتَاجُهُ فِي مَعَاشِهَا وَقِيَامِهَا؛ فَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا، وَالطَّيْر -كَذَا- فِي جَوِّ السَّمَاءِ لَا يُمْسِكُهُ فِي جَوِّ السَّمَاءِ إِلَّا اللهُ، وَلَا يَرْزُقُهُ إِلَّا اللهُ.

وَكُلُّ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ مِنْ آدَمِيٍّ أَوْ حَيَوَانٍ بَرِّيٍّ أَوْ بَحْرِيٍّ فَاللهُ تَكَفَّلَ بِرِزْقِ هَؤُلَاءِ جَمِيعًا وَبِأَقْوَاتِهِمْ.

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود: 6].

وَهَذَا كُلُّهُ مَعَ ضَعْفِ كَثِيرٍ مِنَ الدَّوَابِّ وَعَجْزِهَا عَنِ السَّعْيِ عَنْ طَلَبِ الرِّزْقِ، قَالَ تَعَالَى: {وَكَأَيِّن مِّن دَابَّةٍ لَّا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} أَيْ: لَا تُطِيقُ جَمْعَهُ وَتَحْصِيلَهُ، وَلَا تَدَّخِرُ مِنْهُ شَيْئًا لِغَدٍ، {اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} [العنكبوت: 60] أَيْ: إِنَّ اللهَ -تَعَالَى- يُقَيِّدُ لَهَا رِزْقَهَا عَلَى ضَعْفِهَا، وَيُيَسِّرُهُ لَهَا، فَيَبْعَثُ إِلَى كُلِّ مَخْلُوقٍ مِنَ الرِّزْقِ مَا يُصْلِحُهُ.

رَزَقَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْأَجِنَّةَ فِي بُطُونِ الْأُمَّهَاتِ وَالْحِيتَانَ فِي قَعْرِ الْبِحَارِ وَالْمُحِيطَاتِ، وَرَزَقَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ السِّبَاعَ فِي مَهَامِهِ الْقِفَارِ، وَالطُّيُورَ فِي أَعَالِي الْأَوْكَارِ، وَرَزَقَ كُلَّ حَيَوَانٍ وَهَدَاهُ لِتَحْصِيلِ مَعَاشِهِ، فَأَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى؛ فَسُبْحَانَ مَنْ عَمَّ بِجُودِهِ جَمِيعَ الْمَوْجُودَاتِ، وَتَبَارَكَ الَّذِي وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ جَمِيعَ الْبَرِيَّاتِ.

وَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا مَنْ أَسَاءَ الظَّنَّ بِرَبِّهِ فَقَالَ: لَا تُكْثِرُوا الْأَوْلَادَ؛ حَتَّى لَا تُضَيَّقَ عَلَيْكُمُ الْأَرْزَاقُ، وَقَدْ كَذَبُوا -وَاللهِ-؛ فَإِنَّهُمْ إِذَا أَكْثَرُوا مِنَ الْأَوْلَادِ أَكْثَرَ اللهُ رِزْقَهُمْ؛ لِأَنَّهُ مَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا، فَرِزْقُ الْأَوْلَادِ عَلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، هُوَ الَّذِي يَفْتَحُ لَهُمْ أَبْوَابَ الرِّزْقِ، وَيَفْتَحُ لِعَائِلِهِمْ أَبْوَابَ الرِّزْقِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِمْ؛ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ سَاءَ ظَنُّهُمْ بِرَبِّهِمْ، وَلَمْ تَتَعَدَّ نَظْرَتُهُمْ حُدُودَ الْأُمُورِ الْمَادِّيَّةِ الْمَنْظُورَةِ، وَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى الْمَدَى الْبَعِيدِ، وَلَا إِلَى قُدْرَةِ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْعَبِيدِ، وَأَنَّهُ هُوَ -تَعَالَى- الَّذِي يَرْزُقُ مَهْمَا كَثُرَ عَدَدُ الْمَرْزُوقِينَ، فَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- تَكَفَّلَ بِرِزْقِ الْجَمِيعِ؛ وَلِذَلِكَ صَارَ هَذَا أَمْرًا مُرْتَكِزًا فِي الْفِطَرِ الْإِنْسَانِيَّةِ، فَلَا تَجِدُ أَحَدًا أَبَدًا يَقُولُ: حَيٌّ لَا يُرْزَقُ، وَإِنَّمَا قَرَنُوا الْحَيَاةَ بِالرِّزْقِ، فَمَا دَامَ الْكَائِنُ حَيًّا فَهُوَ مَرْزُوقٌ؛ وَلِذَلِكَ تَجِدُهُمْ يَقُولُونَ: فُلَانٌ حَيٌّ يُرْزَقُ؛ لِأَنَّهُ مَا دَامَ حَيًّا فَلَا بُدَّ أَنْ يُرْزَقَ، وَيَأْتِيَهُ رِزْقُهُ مَهْمَا بَلَغَ ضَعْفُهُ، كَمَا قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَكَأَيِّن مِّن دَابَّةٍ لَّا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ}.

وَمِنْ لَطَائِفِ رِزْقِهِ: أَنَّهُ قَدْ يَرِدُ عَلَى الْإِنْسَانِ عَنْ إِدْرَاكِ رِزْقِهِ قُوَّةُ حَالٍ وَقُوَّةُ تَوَكُّلٍ، فَيُيَسِّرُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ رِزْقًا عَاجِلًا، وَقَدْ يَأْتِيهِ رِزْقُهُ بِسَبَبِ دَعْوَةٍ مُسْتَجَابَةٍ، وَبِخَاصَّةٍ مَا وَقَعَ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ، {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62]، فَكَمَا أَنَّ الْبَارِيَ -جَلَّ وَعَلَا- إِذَا رَأَى عَبْدَهُ مُضْطَرًّا إِلَى كِفَايَتِهِ، مُنْقَطِعًا تَعَلُّقُهُ بِغَيْرِهِ؛ أَجَابَ دَعْوَتَهُ، وَفَرَّجَ كُرْبَتَهُ؛ فَكَذَلِكَ الْمُضْطَرُّ إِلَى طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ، مَتَى وَصَلَ إِلَى حَالَةٍ يَيْأَسُ فِيهَا مِنْ كُلِّ أَحَدٍ، وَيُوقِنُ بِالْهَلَاكِ؛ أَتَاهُ رِزْقُ رَبِّهِ وَأَلْطَافُهُ، وَمَا بِهِ يَعْرِفُ غَايَةَ الْمَعْرِفَةِ أَنَّ اللهَ هُوَ الْمَرْجُوُّ وَحْدَهُ لِكَشْفِ الشَّدَائِدِ وَالْكُرُوبِ؛ فَكَمْ مِنَ الْوَقَائِعِ الْكَثِيرَةِ فِي هَذَا الْبَابِ تَدُلُّ كُلُّهَا عَلَى لُطْفِ الْمَلِيكِ الْوَهَّابِ.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((أَتَى رَجُلٌ أَهْلَهُ فَرَأَى مَا بِهِمْ مِنَ الْحَاجَةِ، فَخَرَجَ إِلَى الْبَرِّيَّةِ، فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ: ((اللهم ارْزُقْنَا مَا نَطْحَنُ أَوْ مَا نَعْجِنُ وَنَخْبِزُ))، فَإِذَا الْجَفْنَةُ مَلْأَى خُبْزًا، وَالرَّحَى تَطْحَنُ، وَالتَّنُّورُ مَلْأَى جَنُوبَ شِوَاءٍ، فَجَاءَ زَوْجُهَا، فَقَالَ: ((عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟)).

قَالَتْ: ((رِزْقُ اللهِ -أَوْ: قَدْ رَزَقَ اللهُ))، فَرَفَعَ الرَّحَى، فَكَنَسَ حَوْلَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَوْ تَرَكَهَا لَطَحَنَتْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)). رَوَاهُ الْبَزَّارُ فِي ((كَشْفِ الْأَسْتَارِ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)).

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((أَتَى رَجُلٌ أَهْلَهُ)) يَعْنِي: جَاءَ إِلَيْهِمْ، فَرَأَى مَا بِهِمْ مِنَ الْحَاجَةِ وَالْعَوَزِ وَالْفَقْرِ، ((فَخَرَجَ إِلَى الْبَرِّيَّةِ)) أَيْ: إِلَى الصَّحْرَاءِ.

* مِنْ أَلْطَافِ رِزْقِهِ -تَعَالَى-: أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمَرْضَى يَبْقُونَ مُدَّةً طَوِيلَةً لَا يَتَنَاوَلُونَ طَعَامًا وَلَا شَرَابًا، وَاللهُ -تَعَالَى- يُعِيدُهُمْ عَلَى تَمَاسُكِ أَبْدَانِهِمْ فَضْلًا مِنْهُ وَكَرَمًا، وَلَوْ بَقِيَ الصَّحِيحُ بَعْضَ هَذِهِ الْمُدَّةِ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ مُمْسِكًا لَهَلَكَ؛ وَلَكِنَّ الْمَرِيضَ مَعَ مَرَضِهِ يُبْقِي اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَيْهِ تَمَاسُكَ بَدَنِهِ فَضْلًا مِنْهُ وَكَرَمًا.

أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ)) عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَا تُكْرِهُوا مَرْضَاكُمْ عَلَى الطَّعَامِ؛ فَإِنَّ اللهَ يُطْعِمُهُمْ وَيَسْقِيهِمْ)).

وَتَنَوُّعُ الْأَرْزَاقِ وَكَثْرَةُ فُنُونِهَا لَا يُحْصِيهَا إِحْصَاءُ الْمُحْصِينَ، وَلَا يُحِيطُ بِهَا وَصْفًا وَصْفُ الْوَاصِفِينَ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَتَنَاوَلَهَا عِبَارَاتُ الْمُعَبِّرِينَ، فَهَذَا كُلُّهُ فِي الرِّزْقِ الْعَامِّ.

وَمِنْ جُودِ رَبِّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَكَرَمِهِ: أَنَّهُ يَرْزُقُ الْكُلَّ؛ يَرْزُقُ الْكَافِرَ وَالْفَاجِرَ كَمَا يَرْزُقُ الْمُؤْمِنَ الْبَارَّ، وَلَا يَمْنَعُ رِزْقَهُ عَنْ حَيٍّ، بَلْ يُوَصِّلُ إِلَيْهِ رِزْقَهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- جُودًا مِنْهُ وَكَرَمًا؛ حَتَّى وَلَوْ كَانَ مِنَ الَّذِينَ يَدَّعُونَ للهِ وَلَدًا، يَشْتُمُونَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، يَقُولُونَ: إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- لَنْ يُعِيدَنَا بَعْدَ مَوْتِنَا وَلَنْ يَبْعَثَنَا، فَكَأَنَّمَا يَصِفُونَ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- بِالْعَجْزِ، وَيَدَّعُونَ أَنَّ للهِ -جَلَّ وَعَلَا- وَلَدًا، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يُطْعِمُهُمْ وَيَسْقِيهِمْ، وَيْكَلَأُهُمْ، وَيَحْفَظُهُمْ، وَيَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ، فَإِنْ آمَنُوا تَلَقَّاهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ قَرِيبٍ، وَقَبِلَ مِنْهُمْ تَوْبَتَهُمْ وَإِيمَانَهُمْ.

هَذَا كُلُّهُ فِي الرِّزْقِ الْعَامِّ.

وَأَمَّا الرِّزْقُ الْخَاصُّ، وَهُوَ الرِّزْقُ النَّافِعُ الْمُسْتَمِرُّ نَفْعُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ فَرِزْقُ الْقُلُوبِ بِالْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْإِيمَانِ الصَّحِيحِ مَعَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ الدَّائِبِ، وَهَذَا أَعْظَمُ رِزْقٍ يَمُنُّ اللهُ بِهِ عَلَى الْعَبْدِ.

{وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2-3].

إِذَا رَزَقَ اللهُ الْعَبْدَ الْعِلْمَ النَّافِعَ، وَالْإِيمَانَ الصَّحِيحَ، وَالرِّزْقَ الْحَلَالَ، وَالْقَنَاعَةَ بِمَا أَعْطَاهُ اللهُ -تَعَالَى- وَمَنَّ بِهِ عَلَيْهِ؛ فَقَدْ تَمَّتْ أُمُورُهُ، وَاسْتَقَامَتْ أَحْوَالُهُ الدِّينِيَّةُ وَالدُّنْيَوِيَّةُ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الرِّزْقِ -وَهُوَ الرِّزْقُ الْخَاصُّ- هُوَ الَّذِي مَدَحَتْهُ النُّصُوصُ النَّبَوِيَّةُ، وَاشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الْأَدْعِيَةُ النَّافِعَةُ.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَا رُزِقَ عَبْدٌ خَيْرًا لَهُ وَلَا أَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ)). رَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ الْجَامِعِ)).

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((إِنَّ اللهَ -تَعَالَى- قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلَاقَكُمْ كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ، وَإِنَّ اللهَ -تَعَالَى- يُعْطِي الْمَالَ مَنْ أَحَبَّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَلَا يُعْطِي الْإِيمَانَ إِلَّا لِمَنْ يُحِبُّ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَقَالَ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ)): ((صَحِيحٌ مَوْقُوفٌ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ)).

قَدْ تَجِدُ الْكَافِرَ وَالْمُلْحِدَ قَدْ آتَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ رِزْقًا وَفِيرًا وَخَيْرًا كَثِيرًا، وَقَدْ تَجِدُ الرَّجُلَ الْمُؤْمِنَ يَعْتَادُ الصَّلَاةَ وَيَفْعَلُ الْخَيْرَ، وَيُحْكِمُ أُصُولَ الْإِيمَانِ، وَلَا يَجِدُ شَرْوَى نَقِيرٍ؛ وَلَكِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَمْ يَحْرِمْهُ مِنَ الْخَيْرِ الدَّائِمِ الْوَفِيرِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَأَبْقَى.

((إِنَّ اللهَ -تَعَالَى- قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلَاقَكُمْ كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ))؛ فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَسْأَلَ رَبَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يَرْزُقَهُ الْخُلُقَ الْحَسَنَ؛ فَإِنَّهُ رِزْقٌ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَنْ يَكُونَ الْمَرْءُ حَسَنَ الْخُلُقِ، وَأَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَحَاسِنَ الْأَخْلَاقِ، فَهَذَا مِنْ رِزْقِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، قَسَمَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَيْنَ الْعِبَادِ، ((وَإِنَّ اللهَ -تَعَالَى- يُعْطِي الْمَالَ مَنْ أَحَبَّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَلَا يُعْطِي الْإِيمَانَ إِلَّا لِمَنْ يُحِبُّ)).

وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كَانَ يَقُولُ: ((اللهم انْفَعْنِي بِمَا عَلَّمْتَنِي، وَعَلِّمْنِي مَا يَنْفَعُنِي، وَارْزُقْنِي عِلْمًا تَنْفَعُنِي بِهِ)). رَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)).

فَيَنْبَغِي لِلْعَبْدِ إِذَا دَعَا رَبَّهُ فِي حُصُولِ الرِّزْقِ أَنْ يَسْتَحْضِرَ بِقَلْبِهِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ: ((اللهم ارْزُقْنِي)) أَيْ: مَا يَصْلُحُ بِهِ قَلْبِي مِنَ الْعِلْمِ وَالْهُدَى وَالْمَعْرِفَةِ، وَمِنَ الْإِيمَانِ الشَّامِلِ لِكُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ وَخُلُقٍ حَسَنٍ، وَمَا بِهِ يَصْلُحُ بَدَنِي مِنَ الرِّزْقِ الْحَلَالِ الْهَنِيءِ الَّذِي لَا صُعُوبَةَ فِيهِ وَلَا تَبِعَةَ تَعْتَرِيهِ.

وَكَذَلِكَ الرَّزَّاقُ مِنْ أَسْمَائِهِ         =         وَالرِّزْقُ مِنْ أَفْعَالِهِ نَوْعَانِ

رِزْقُ الْقُلُوبِ الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ      =         وَالرِّزْقُ الْمُعَدُّ لِهَذِهِ الْأَبْدَانِ

((الْحِرْمَانُ مِنْ بَعْضِ الرِّزْقِ عَيْنُ الْعَطَاءِ))

اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- هُوَ أَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ، وَعَطَاؤُهُ كَلَامٌ، يَقُولُ لِلشَّيْءِ (كُنْ) فَيَكُونُ، وَخَزَائِنُهُ مَلْأَى، لَا تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، وَيَدُهُ -تَعَالَى- سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَانْظُرُوا مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَإِذَا حَرَمَكَ فَلِمَصْلَحَتِكَ إِنْ كُنْتَ مُؤْمِنًا.

تَطْلُبُ مِنَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْأَمْرَ مِنَ الرِّزْقِ مِنْ أُمُورِ الْحَيَاةِ فَلَا يُعْطِيكَ إِيَّاهُ؛ فَقَدْ مَنَعَكَ مِنْ هَذَا الَّذِي تَطْلُبُهُ لِحِكْمَةٍ يَعْلَمُهَا؛ لِأَنَّهُ إِذَا أَمْسَكَ عَنْكَ ذَلِكَ الرِّزْقَ فَهَذَا لَيْسَ بُخْلًا -حَاشَاهُ-، هُوَ أَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ، وَخَزَائِنُهُ مَلْأَى لَا تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ؛ فَلِمَاذَا مَنَعَ -إِذَنْ-؟!!

إِنَّمَا مَنَعَ لِمَصْلَحَتِكَ إِنْ كُنْتَ صَالِحًا، يَعْنِي: لَوْ أَنَّ إِنْسَانًا تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِأَنْ يَمْتَلِكَ سَيَّارَةً -مَثَلًا-، فَيَمْنَعُهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هَذَا الَّذِي تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا إِذَا آتَاهُ ذَلِكَ كَانَ سَبَبًا لِعَجْزِهِ الْعُمُرَ كُلَّهُ.

فَإِذَنْ؛ يَكُونُ الْحِرْمَانُ هُوَ عَيْنَ الْعَطَاءِ، وَإِذَا أَعْطَاهُ يَكُونُ هَذَا الْعَطَاءُ هُوَ عَيْنَ الْحِرْمَانِ.

فَالْإِنْسَانُ يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يُؤْمِنَ بِحِكْمَةِ  اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَبِصِفَةِ الرِّزْقِ للهِ، فَهُوَ الرَّزَّاقُ، وَهُوَ الْحَكِيمُ.

فَإِذَا طَلَبْتَ وَأَلْحَحْتَ فِي الطَّلَبِ آخِذًا بِالسَّبَبِ فَلَمْ تُعْطَهُ؛ فَهَذَا الْحِرْمَانُ هُوَ عَيْنُ الْعَطَاءِ لَوْ تَدَبَّرْتَ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمَرْءُ غَيْرَ صَالِحٍ وَلَا مُوقِنٍ بِصِفَاتِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ تَشَوَّشَ عَلَيْهِ قَلْبُهُ.

((اهْتِمَامُ النَّاسِ بِمَا ضُمِنَ لَهُمْ عَمَّا أُمِرُوا بِهِ!))

إِذَا تَأَمَّلَ الْعَاقِلُ اللَّبِيبُ حَالَ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ؛ وَجَدَهُمْ يَهْتَمُّونَ بِمَا ضَمِنَهُ اللهُ لَهُمْ، وَلَا يَهْتَمُّونَ بِمَا أَمَرَهُمُ اللهُ بِهِ، وَيَفْرَحُونَ بِالدُّنْيَا، وَيَحْزَنُونَ عَلَى فَوَاتِ حَظِّهِمْ مِنْهَا، وَلَا يَحْزَنُونَ عَلَى فَوَاتِ الْجَنَّةِ وَمَا فِيهَا، وَلَا يَفْرَحُونَ بِالْإِيمَانِ فَرَحَهُمْ بِالدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ.

النَّاسُ فِي هَذَا الْعَصْرِ وَفِي عُصُورٍ خَلَتْ لَا يَفْرَحُونَ بِالْإِيمَانِ فَرَحَهُمْ بِالدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ؛ وَلِذَلِكَ لَمَّا جَاءَ بَعْضُ الصَّالِحِينَ إِلَى الصَّلَاةِ مُتَأَخِّرًا، فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ فِي الْجَمَاعَةِ الْأُولَى، فَانْتَحَى نَاحِيَةً يَبْكِي، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ؟ فَقَالَ: فَاتَتْنِي الصَّلَاةُ فِي الْجَمَاعَةِ فَلَمْ يُعَزِّنِي إِلَّا فُلَانٌ، وَلَوْ مَاتَ لِي وَلَدٌ لَعَزَّانِي أَهْلُ الْبَصْرَةِ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ!

فَهَذَا دَلَالَةٌ عَلَى انْعِكَاسِ الْقَضِيَّةِ، لَمَّا فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ وَهُوَ أَمْرٌ أُخْرَوِيٌّ، وَهُوَ يَحْرِصُ عَلَيْهِ فِي الْجَمَاعَةِ الْأُولَى؛ لَمْ يُعَزِّهِ إِلَّا وَاحِدٌ، وَهَذَا الَّذِي عَزَّاهُ هُوَ الَّذِي يَلْتَفِتُ إِلَى أُمُورِ الْآخِرَةِ، وَإِذَا قَرَنَ إِلَيْهَا أُمُورَ الدُّنْيَا عَرَفَ تَفَاوُتَ مَا بَيْنَهُمَا، قَالَ: فَلَمْ يُعَزِّنِي إِلَّا فُلَانٌ، وَلَوْ مَاتَ لِي وَلَدٌ لَعَزَّانِي أَهْلُ الْبَصْرَةِ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ!

فَهَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ النَّاسَ إِنَّمَا يَنْظُرُونَ إِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا وَحُظُوظِهِمْ مِنْهَا، وَأَمَّا الْآخِرَةُ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ فَالنَّاسُ لَا يَحْرِصُونَ عَلَى ذَلِكَ، وَرُبَّمَا لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَيْهِ، وَرُبَّمَا لَا يَعْلَمُونَهُ مِنْ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، يَعْنِي: إِذَا فَاتَ الْإِنْسَانَ أَمْرٌ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ رُبَّمَا لَمْ يَشْغَلْ ذَلِكَ قَلْبَهُ، لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ، وَأَمَّا إِذَا فَاتَهُ أَمْرٌ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا تَشَوَّشَتْ عَلَيْهِ حَيَاتُهُ، وَتَكَدَّرَ عَلَيْهِ خَاطِرُهُ، فَهَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ أَمْرَ الدُّنْيَا وَحَظَّهَا أَعْلَى عِنْدَهُ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ وَشَأْنِهَا، وَهَذَا خَطَرٌ.

وَعَلَيْهِ؛ فَلْتَطْمَئِنَّ الْقُلُوبُ إِلَى كِفَايَةِ مَنْ تَكَفَّلَ بِأَرْزَاقِهَا، وَأَحَاطَ عِلْمًا بِهَا وَبِذَوَاتِهَا وَصِفَاتِهَا.

عَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمُ اللهُ كَمَا يُرْزَقُ الطَّيْرُ -أَوْ: لَرُزِقْتُمْ كَمَا يُرْزَقُ الطَّيْرُ، تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا)). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ كَمَا فِي ((صَحِيحِ سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ)).

الطَّيْرُ تَكُونُ فِي أَعْشَاشِهَا فِي أَوْكَارِهَا وَهِيَ لَا تُبَالِي بِرِزْقِ غَدٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الطُّيُورَ لَا تَجْمَعُ فِي أَعْشَاشِهَا أَرْزَاقَهَا، وَإِنَّمَا هِيَ تَغْدُو -أَيْ: تُفَكِّرُ مَعَ خُيُوطِ الصَّبَاحِ الْأُولَى-، ((تَغْدُو خِمَاصًا)) أَيْ: حَوَاصِلُهَا لَا شَيْءَ فِيهَا، ((تَغْدُو خِمَاصًا، وَتَرُوحُ بِطَانًا)) أَيْ: قَدِ امْتَلَأَتْ وَانْتَفَخَتْ مِنْ رِزْقِ اللهِ حَوَاصِلُهَا.

مَا الَّذِي صَنَعَتْهُ هَذِهِ الطُّيُورُ؟

التَّوَكُّلُ الَّذِي ذَكَرَهُ الرَّسُولُ ﷺ: ((لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمُ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ)).

فَهَذِهِ الطُّيُورُ رِزْقُهَا عَلَى رَبِّهَا؛ وَلَكِنَّهَا مَعَ هَذَا تَأْخُذُ بِالْأَسْبَابِ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ ﷺ قَالَ: ((تَغْدُو.. وَتَرُوحُ))، وَالْغُدُوُّ: الْخُرُوجُ فِي الصَّبَاحِ مُبَكِّرًا، وَالرَّوَاحُ: أَنْ يَعُودَ فِي الْمَسَاءِ مُتَأَخِّرًا، يَعْنِي: تَعُودُ مَعَ الْغُرُوبِ، ((تَغْدُو.. وَتَرُوحُ)).

وَلَا يَكُونُ هَذَا التَّوَكُّلُ تَوَكُّلًا حَقًّا إِلَّا مَعَ ضَمِّ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا مَذْكُورَةٌ فِي الْحَدِيثِ، ((تَغْدُو خِمَاصًا، وَتَرُوحُ بِطَانًا))؛ فَهِيَ آخِذَةٌ بِالْأَسْبَابِ أَخْذًا صَحِيحًا.

لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلْتُمْ هَذَا التَّوَكُّلَ الْحَقَّ، آخِذِينَ بِالْأَسْبَابِ؛ لَرَزَقَكُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ رِزْقًا كَثِيرًا وَفِيرًا لَا مَؤُونَةَ فِيهِ، وَيَكُونُ هَنِيئًا مَرِيئًا، وَلَا تَتَعَنَّى بِسَبَبِ الرِّزْقِ قُلُوبُكُمْ، وَلَا تَتَشَوَّشُ بِسَبَبِ تَحْصِيلِهِ أَفْكَارُكُمْ، وَلَا تَتَشَعَّثُ بِسَبَبِهِ خَوَاطِرُكُمْ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْقَلْبُ مَجْمُوعًا عَلَى كِفَايَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لِلْعَبْدِ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ضَمِنَ الرِّزْقَ لِلْعَبْدِ، مَا دَامَ حَيًّا فَهُوَ مَرْزُوقٌ؛ إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْفَكَّ الرِّزْقُ عَنِ الْحَيَاةِ، فَإِذَا مَا مَاتَ انْقَطَعَ رِزْقُهُ.

((مَفَاتِيحُ الرِّزْقِ وَأَسْبَابُهُ))

((إِنَّ مِمَّا يَشْغَلُ بَالَ كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: طَلَبَ الرِّزْقِ، وَيُلَاحَظُ عَلَى عَدَدٍ كَبِيرٍ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ التَّمَسُّكَ بِالْإِسْلَامِ وَتَعَالِيمِهِ يُقَلِّلُ مِنْ أَرْزَاقِهِمْ، وَلَا يَقْتَصِرُ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا، بَلْ أَدْهَى مِنْ هَذَا وَأَمَرُّ أَنَّ بَعْضَ الْمُحَافِظِينَ عَلَى أَدَاءِ بَعْضِ الْفَرَائِضِ الْإِسْلَامِيَّةِ يَظُنُّونَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْإِغْمَاضِ عَنْ بَعْضِ الْأَحْكَامِ الْإِسْلَامِيَّةِ إِذَا أُرِيدَ الْيُسْرُ الْمَادِّيُّ وَالرَّخَاءُ الِاقْتِصَادِيُّ، وَأُولَئِكَ يَنْسَوْنَ أَوْ يَتَنَاسَوْنَ أَنَّ الْخَالِقَ -جَلَّ جَلَالُهُ- لَمْ يَشْرَعْ دِينَهُ لِيُرْشِدَ الْبَشَرِيَّةَ فِي أُمُورِ مَعَادِهِمْ وَيُسْعِدَهُمْ فِيهَا فَحَسْبُ، بَلْ شَرَعَ اللهُ -تَعَالَى- الدِّينَ كَذَلِكَ لِيُرْشِدَهُمْ فِي أُمُورِ مَعَاشِهِمْ، وَيُسْعِدَهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ.

وَلَقَدْ كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ نَبِيِّ الْإِسْلَامِ خَلِيلِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﷺ، الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ -تَعَالَى- قُدْوَةً لِلْبَشَرِيَّةِ: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201].

وَلَمْ يَتْرُكْ رَبُّنَا -جَلَّ جَلَالُهُ- وَلَا نَبِيُّنَا ﷺ الْأُمَّةَ الْإِسْلَامِيَّةَ تَتَخَبَّطُ فِي الظَّلَامِ، وَتَبْقَى فِي حَيْرَةٍ مِنْ أَمْرِهَا عِنْدَ السَّعْيِ فِي طَلَبِ الْمَعِيشَةِ، بَلْ شُرِعَتْ أَسْبَابُ الرِّزْقِ وَبُيِّنَتْ، لَوْ فَهِمَتْهَا الْأُمَّةُ وَوَعَتْهَا، وَتَمَسَّكَتْ بِهَا، وَأَحْسَنَتِ اسْتِخْدَامَهَا؛ لَيَسَّرَ اللهُ لَهَا الرِّزْقَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَآتَاهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَفُتِحَ عَلَيْهَا بَرَكَاتٌ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)).

وَاللهُ -جَلَّ وَعَلَا- قَسَمَ الْأَرْزَاقَ بِعِلْمِهِ، فَأَعْطَى مَنْ شَاءَ بِحِكْمَتِهِ، وَمَنَعَ مَنْ شَاءَ بِعَدْلِهِ، وَجَعَلَ بَعْضَ النَّاسِ لِبَعْضٍ سُخْرِيًّا، قَالَ تَعَالَى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32].

وَأَمْرُ الْمَالِ أَمْرٌ عَظِيمٌ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ شَدِيدٌ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: ((لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ؛ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ، وَعَنْ عَمَلِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ -وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ-: ((إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ؛ بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَقَدْ دَلَّتِ النُّصُوصُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- كَتَبَ الْآجَالَ وَالْأَرْزَاقَ، فَمَا يَزِيدُ فِيهِمَا حِرْصُ حَرِيصٍ، وَلَا يَرُدُّهُمَا كَرَاهِيَةُ كَارِهٍ.

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَقَدْ أَكَّدَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هَذِهِ الْحَقِيقَةَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، فَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا ۗ وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا ۚ وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 145].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34].

فَمَسْأَلَةُ الْأَجَلِ كَمَسْأَلَةِ الرِّزْقِ مَحْسُومَةٌ، لَا يُزَادُ فِيهَا وَلَا يُنْقَصُ مِنْهَا.

وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ أَنَّ تَأَخُّرَهُمْ عَنِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ وَجُبْنَهُمْ عَنْ مُلَاقَاةِ أَعْدَاءِ اللهِ سَيَكُونُ مَانِعًا لَهُمْ مِنَ الْمَوْتِ، فَقَطَعَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- تِلْكَ الْآمَالَ الْكَاذِبَةَ بِقَوْلِهِ: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا ۗ قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ ۖ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: 154].

وَالْوَقَائِعُ تَشْهَدُ بِأَنَّ الَّذِينَ يُقْتَلُونَ مُدْبِرِينَ أَكْثَرُ بِأَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الَّذِينَ يُقْتَلُونَ مُقْبِلِينَ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

تَأَخَّرْتُ أَسْتَبْقِي الْحَيَاةَ فَلَمْ أَجِدْ    =  لِنَفْسِي حَيَاةً مِثْلَ أَنْ أَتَقَدَّمَ

فَهَذِهِ حَقِيقَةٌ ثَابِتَةٌ، وَمِثْلُهَا -مِثْلُ الْأَجَلِ- الرِّزْقُ؛ فَإِنَّ مَا كُتِبَ لِلْعَبْدِ مِنْهُ سَيَنَالُهُ  لَا مَحَالَةَ.

قَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ۚ كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [هود: 6].

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات: 22-23].

عَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ -وَهُوَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-- نَفَثَ فِي رُوعِي -وَالنَّفْثُ: نَفْخٌ مَعَ رِيقٍ دُونَ التَّفْلِ وَفَوْقَ النَّفْخِ، (فِي رُوعِي) أَيْ: فِي نَفْسِي- أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ أَجَلَهَا وَتَسْتَوْعِبَ رِزْقَهَا؛ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، وَلَا يَحْمِلَنَّ أَحَدَكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ يَطْلُبَهُ بِمَعْصِيَةٍ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَعَالَى- لَا يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ)). أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي ((الْحِلْيَةِ))، وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

فَمَا كُتِبَ لِلْعَبْدِ مِنْ رِزْقٍ وَأَجَلٍ لَا بُدَّ أَنْ يَسْتَكْمِلَهُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ.

وَقَدْ خَلَقَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْإِنْسَانَ، وَجَعَلَهُ فِي دَارِ اخْتِبَارٍ وَابْتِلَاءٍ وَامْتِحَانٍ، {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان: 2].

وَجَبَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْإِنْسَانَ عَلَى حُبِّ الشَّهَوَاتِ وَالْمَلَذَّاتِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَرْزَاقِ، {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران: 14].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، فَالْكَوْنُ مَا هُوَ إِلَّا عَابِدٌ فَقِيرٌ، وَهُوَ الْإِنْسَانُ، وَمَعْبُودٌ غَنِيٌّ كَرِيمٌ، وَهُوَ اللَّطِيفُ الْمَنَّانُ.

وَهُنَا جَاءَ التَّسَاؤُلُ: لِمَ زُيِّلَتْ آيَةُ الْعُبُودِيَّةِ بِقَوْلِهِ: {مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ} [الذاريات: 57]؛ لِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- يَقُولُ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ}؛ لِمَاذَا جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْأَرْزَاقِ بِعَقِبِ آيَةِ الْعِبَادَةِ؟

بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- الْعُبُودِيَّةَ -وَهِيَ الْقَضِيَّةُ الْكُبْرَى فِي الْحَيَاةِ- أَتَى ذِكْرُ الرِّزْقِ، وَمُشْغِلُ الْقُلُوبِ وَالْعُقُولِ، وَهُوَ هَمُّ الْبَشَرِ جَمِيعًا، وَمُفْسِدُ الْعُبُودِيَّةِ ذَاتِهَا، وَهُوَ الصَّارِفُ عَنْ تَحْقِيقِ كَمَالِهَا، فَالْآيَاتُ تَلْفِتُ نَظَرَ الْعَبْدِ إِلَى تَعْظِيمِ أَمْرِ الْعُبُودِيَّةِ، وَأَنَّ الْعِبَادَاتِ مَفَاتِيحُ الْأَرْزَاقِ، أَمَّا التَّعَلُّقُ بِالرِّزْقِ، وَالِانْشِغَالُ الطَّوِيلُ فِي الْبَحْثِ عَنِ الرِّزْقِ؛ فَهُوَ سَبَبُ التَّقْصِيرِ فِي الْعِبَادَاتِ وَسَبَبُ فَسَادِهَا، وَمِنْ ثَمَّ سَبَبُ فَسَادِ الْحَيَاةِ وَخُسْرَانِهَا.

فَالْمَعْبُودُ وَحْدَهُ هُوَ الْغَنِيُّ عَنْ خَلْقِهِ، الرَّزَّاقُ لِلْعَالَمِينَ، الْكَامِلُ فِي قُوَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ، {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58]، وَقَدْ كَتَبَ رِزْقَ الْعِبَادِ وَهُمْ أَجِنَّةٌ.

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ -وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ- قَالَ: ((إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ مَلَكًا فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، وَيُقَالُ لَهُ: اكْتُبْ عَمَلَهُ، وَرِزْقَهُ، وَأَجَلَهُ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ لَيَعَمْلُ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ كِتَابُهُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، وَيَعْمَلُ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ إلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

فَهُنَا تَطْمَئِنُّ النُّفُوسُ، وَتَهْدَأُ الْأَرْوَاحُ، وَيُصْلَحُ الْبَالُ، وَيَرْتَاحُ الضَّمِيرُ.

فَالْعِبَادَاتُ تَجْلِبُ الْأَرْزَاقَ.

وَاللهُ -جَلَّ وَعَلَا- وَحْدَهُ هُوَ الرَّزَّاقُ الَّذِي يَرْزُقُ جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ، يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ كَيْفَ يَشَاءُ مَتَى شَاءَ، فَمَا مِنْ مَخْلُوقٍ حَيٍّ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ أَوِ السُّفْلِيِّ إِلَّا وَهُوَ مُتَمَتِّعٌ بِرِزْقِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَمَغْمُورٌ بِكَرَمِهِ وَفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}.

وَاللهُ وَحْدَهُ الْبَاسِطُ الرَّزَّاقُ الَّذِي تَكَفَّلَ بِالْأَرْزَاقِ وَضَمِنَهَا لِعِبَادِهِ، وَأَوْجَبَهَا عَلَى نَفْسِهِ الْعَلِيَّةِ بِقُدْرَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ وَكَرَمِهِ.

فَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((غَلَا السِّعْرُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! سَعِّرْ لَنَا)).

فَقَالَ: ((إِنَّ اللهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ -الَّذِي يُرَخِّصُ الْأَشْيَاءَ وَيُغْلِيهَا، يَفْعَلُ ذَلِكَ وَحْدَهُ بِإِرَادَتِهِ- إِنَّ اللهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يُطَالِبُنِي بِمَظْلِمَةٍ فِي دَمٍ وَلَا مَالٍ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَه، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

لَقَدْ أَوْدَعَ اللهُ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ الْوَاسِعَةِ خَزَائِنَ عَظِيمَةً؛ لِتَلْبِيَةِ حَاجَاتِ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ وَالْحُشُودِ الْهَائِلَةِ فِي هَذَا الْكَوْنِ الْفَسِيحِ، وَأَوْدَعَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ نَفْسِهَا الْقُدْرَةَ عَلَى اكْتِسَابِ وَجَمْعِ أَرْزَاقِهَا وَالْحُصُولِ عَلَيْهَا؛ مِنْ مَزْرُوعٍ، أَوْ مَصْنُوعٍ، أَوْ مُرَكَّبٍ، أَوْ خَامٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أَفَاءَ وَأَكْرَمَ وَأَنْعَمَ.

{وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ۚ كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [هود: 6].

وَلَوْ كَانَتِ الْأَرْزَاقُ تَجْرِي عَلَى الْحِجَا    =  هَلَكْنَ إِذَنْ مِنْ جَهْلِهِنَّ الْبَهَائِمُ

لَوْ أَنَّ اللهَ يُعْطِي الرِّزْقَ بِحَسَبِ الْعَقْلِ وَالذَّكَاءِ لَهَلَكَتِ الْبَهَائِمُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَعْقِلُ شَيْئًا.

لَقَدْ جَاءَ السِّيَاقُ الْقُرْآنِيُّ صَرِيحًا يُؤَكِّدُ الِابْتِلَاءَ بِالرِّزْقِ؛ سَوَاءٌ فِي السَّعَةِ وَالْبَسْطِ، أَوْ فِي التَّقْدِيرِ وَالتَّضْيِيقِ، كَمَا فِي قَوْلِ رَبِّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا} [الفجر: 15-17].

فَهُنَا يُخْبِرُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عَنْ طَبِيعَةِ الْإِنْسَانِ مِنْ حَيْثُ هُوَ، وَأَنَّهُ جَاهِلٌ ظَلُومٌ لَا عِلْمَ لَهُ بِالْعَوَاقِبِ، يَظُنُّ الْحَالَ الَّتِي تَنْزِلُ بِهِ تَسْتَمِرُّ وَلَا تَزُولُ، {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72]، فَإِذَا مَا اخْتَبَرَهُ اللهُ -تَعَالَى- بِالنِّعْمَةِ، وَبَسَطَ لَهُ رِزْقَهُ، وَجَعَلَهُ فِي أَطْيَبِ عَيْشٍ؛ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ لِكَرَامَتِهِ عِنْدَ رَبِّهِ {فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ}، وَإِذَا مَا اخْتَبَرَهُ رَبُّهُ {فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} أَيْ: ضَيَّقَهُ؛ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ إِهَانَةٌ لَهُ مِنَ اللهِ، فَيَقُولُ -تَعَالَى- مُنْكِرًا عَلَى الْإِنْسَانِ فِي زَعْمِهِ ذَلِكَ وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ: {كَلَّا} أَيْ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمَ الْإِنْسَانُ، لَا فِي هَذَا وَلَا فِي هَذَا، بَلْ هُوَ ابْتِلَاءٌ وَاخْتِبَارٌ وَامْتِحَانٌ؛ فَإِنَّ اللهَ يُعْطِي الْمَالَ مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَيُضَيِّقُ عَلَى مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ ۚ بَل لَّا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 55-56].

إِنَّمَا الْمَدَارُ فِي ذَلِكَ عَلَى طَاعَةِ اللهِ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ، إِذَا كَانَ غَنِيًّا بِأَنْ يَشْكُرَ اللهَ عَلَى الْخَيْرِ وَالْعَطَاءِ، وَإِذَا كَانَ فَقِيرًا بِأَنْ يَصْبِرَ عَلَى الشَّرِّ وَالْعَنَاءِ.

قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((عُنْوَانُ سَعَادَةِ الْمَرْءِ ثَلَاثَةٌ: إِذَا أُعْطِيَ شَكَرَ، وَإِذَا ابْتُلِيَ صَبَرَ، وَإِذَا أَذْنَبَ اسْتَغْفَرَ)).

وَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((لَوْ أَنَّ ابْنَ آدَمَ فَرَّ مِنْ رِزْقِهِ كَمَا يَفِرُّ مِنَ الْمَوْتِ لَأَدْرَكَهُ رِزْقُهُ كَمَا يُدْرِكُهُ الْمَوْتُ)). أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي ((الْحِلْيَةِ)) بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَتَأَمَّلْ هَذَا الْحَدِيثَ فِي أَدَبِ الدُّعَاءِ؛ فَهُوَ يَؤُكِّدُ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ؛ فَعَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّهَا قَالَتْ دَاعِيَةً رَبَّهَا -جَلَّ وَعَلَا-: ((اللهم مَتِّعْنِي بِزَوْجِي رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَبِأَبِي أَبِي سُفْيَانَ، وَبِأَخِي مُعَاوِيَةَ)).

فَدَعَتْ بِهَذَا الدُّعَاءِ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَقَدْ سَأَلْتِ اللهَ لِآجَالٍ مَضْرُوبَةٍ، وَآثَارٍ مَوْطُوءَةٍ، وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ، لَا يُعَجِّلُ شَيْئًا مِنْهَا قَبْلَ حِلِّهِ، وَلَا يُؤَخِّرُ مِنْهَا شَيْئًا بَعْدَ حِلِّهِ، وَلَوْ سَأَلْتِ اللهَ أَنْ يُعَافِيَكِ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ وَعَذَابٍ فِي الْقَبْرِ لَكَانَ خَيْرًا لَكِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

فَيَتَبَيَّنُ مِنْ هَذَا مَا يَلِي:

الْإِيمَانُ بِأَنَّ الْآجَالَ وَالْأَرْزَاقَ مَقْسُومَةٌ مَعْلُومَةٌ، لَا يَجْلِبُهُمَا -يَعْنِي: الرِّزْقَ وَالْأَجَل- حِرْصُ حَرِيصٍ، وَلَا يَرُدُّهُمَا كَرَاهِيَةُ كَارِهٍ.

وَهَذَا لَا يَمْنَعُ فِعْلَ الْأَسْبَابِ الَّتِي شَرَعَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِعِبَادِهِ الْأَخْذَ بِهَا؛ فَقَدْ قَالَ رَبُّنَا: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195].

وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -الَّذِي مَرَّ- إِشَارَةٌ إِلَى أَمْرَيْنِ:

الْأَوَّلُ: أَنْ يَسْعَى الْعَبْدُ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ الْحَلَالِ، وَأَنْ يَجْتَنِبَ الْحَرَامَ، وَأَنْ يَجْتَنِبَ الْأَسْبَابَ الْمُؤَدِّيَةَ إِلَى الْحَرَامِ.

الْأَمْرُ الثَّانِي: أَلَّا يَطْلُبَ الرِّزْقَ بِجَشَعٍ وَحِرْصٍ، وَأَنْ يَسْتَحْضِرَ قَوْلَ النَّبِيِّ ﷺ: ((مَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَرَضَ عَلَى الْعِبَادِ الِاكْتِسَابَ لِطَلَبِ الْمَعَاشِ، يَسْتَعِينُ بِالْمَعَاشِ عَلَى طَاعَتِهِ، فَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10].

فَجَعَلَ -سُبْحَانَهُ- الِاكْتِسَابَ سَبَبًا لِلْعِبَادَةِ.

وَقَالَ -تَعَالَى- عَنِ الْإِنْسَانِ وَمَحَبَّتِهِ لِلْمَالِ: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8].

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ- آمِرًا عِبَادَهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ فَرِيضَةٍ عَظِيمَةٍ، وَهِيَ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ: {فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10].

قَالَ الْبَغَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَيْ: إِذَا فرغ مِنَ الصَّلَاةِ فَانْتَشِرُوا فِي أَرْضِ اللهِ لِلتِّجَارَةِ وَالتَّصَرُّفِ فِي حَوَائِجِكُمْ)).

وَكَانَ عِرَاكُ بْنُ مَالِكٍ إِذَا صَلَّى الْجُمُعَةَ انْصَرَفَ، فَوَقَفَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ: ((اللهم إِنِّي أَجَبْتُ دَعْوَتَكَ، وَصَلَّيْتُ فَرِيضَتَكَ، وَانْتَشَرْتُ كَمَا أَمَرْتَنِي؛ فَارْزُقْنِي مِنْ فَضْلِكَ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)).

وَقَدْ حَثَّ الْإِسْلَامُ عَلَى الْعَمَلِ وَالِاكْتِسَابِ؛ فَالْإِسْلَامُ دِينُ الْعَمَلِ وَالسَّعْيِ فِي الْأَرْضِ لِإِعْمَارِهَا، قَالَ ﷺ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَحْتَطِبُ عَلَى ظَهْرِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ رَجُلًا أَعْطَاهُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَيَسْأَلَهُ، أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَأَثْنَى النَّبِيُّ ﷺ عَلَى الْمَالِ الصَّالِحِ فِي يَدِ الْعَبْدِ الصَّالِحِ، فَقَالَ ﷺ: ((نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ)).

وَالدُّنْيَا لَمْ تُذَمَّ لِذَاتِهَا، إِنَّمَا لِمَا يَقَعُ فِيهَا مِنَ الْمَعَاصِي، وَلِمَا يَكُونُ فِيهَا مِنَ الذُّنُوبِ وَأَكْلِ الْمَالِ الْحَرَامِ، فَالدُّنْيَا الْحَرَامُ هِيَ الصَّارِفَةُ عَنِ الدِّينِ، الْمَجْمُوعَةُ مِنَ الْحَرَامِ، أَيْ: أَنْ تَجْمَعَهَا مِنَ الْحَرَامِ، وَتَجْعَلَهَا فِي الْحَرَامِ.

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ؛ رَجُلٌ جَمَعَ الْمَالَ مِنْ حِلِّهِ، وَأَنْفَقَهُ فِي حَقِّهِ، فَهَذَا بِأَرْفَعِ الْمَنَازِلِ، وَرَجُلٌ جَمَعَ الْمَالَ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ، وَأَنْفَقَهُ فِي حَقِّهِ، فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ، وَرَجُلٌ جَمَعَ الْمَالَ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ، وَأَنْفَقَهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ، فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ، وَرَجُلٌ جَمَعَ الْمَالَ مِنْ حِلِّهِ، وَأَنْفَقَهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ، فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ))  

. وَأَصْلُ الْحَدِيثِ عِنْدَ أَحْمَدَ وَابْنِ مَاجَه بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

فَالْإِسْلَامُ يُحَتِّمُ الْعَمَلَ، وَيُوجِبُ الِاكْتِسَابَ عَلَى مَنْ كَانَ لَهُ عِيَالٌ، أَوْ كَانَتْ عَلَيْهِ مَسْؤُولِيَّةٌ، وَقَدْ جَعَلَ الْإِسْلَامُ التَّقْصِيرَ فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ وَالْأَطْفَالِ وَالْوَالِدَيْنِ مِنَ الذُّنُوبِ الْعَظِيمَةِ.

فَعَنْ وَهْبِ بْنِ جَابِرٍ قَالَ: ((شَهِدْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَأَتَاهُ مَوْلًى لَهُ فَقَالَ: ((إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُقِيمَ هَذَا الشَّهْرَ هَاهُنَا -يَعْنِي: رَمَضَانَ، أَنْ أُقِيمَ شَهْرَ رَمَضَانَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ-)).

فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو: ((هَلْ تَرَكْتَ لِأَهْلِكَ مَا يَقُوتُهُمْ؟)).

قَالَ: ((لَا)).

قَالَ: ((أَمَّا لَا فَارْجِعْ، فَدَعْ لَهُمْ مَا يَقُوتُهُمْ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

وَالْمُسْلِمُ يُؤْجَرُ عَلَى قُوتِ عِيَالِهِ، كَمَا قَالَ ﷺ: ((دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ، دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ -أَيْ: فِي عِتْقِ رَقَبَةٍ-، وَدِينَارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ، أَعْظَمُهَا أَجْرًا الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَرُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: ((عَلَيْكَ بِعَمَلِ الْأَبْطَالِ؛ الْكَسْبُ مِنَ الْحَلَالِ، وَالْإِنْفَاقُ عَلَى الْعِيَالِ)).

هُنَاكَ أَسْبَابٌ شَرْعِيَّةٌ بَيَّنَتْهَا نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي بَيَانِ بَعْضِ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُسْتَجْلَبُ بِهَا الْأَرْزَاقُ؛ فَهِيَ مَفَاتِيحُ الرِّزْقِ، أَيْ: هَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تُسْتَجْلَبُ بِهَا الْأَرْزَاقُ، وَتُسْتَدْفَعُ بِهَا الْمَكَارِهُ.

((مِنْ مَفَاتِيحِ الرِّزْقِ: الِاسْتِغْفَارُ وَالتَّوْبَةُ))

((إِنَّ مِنْ أَهَمِّ مَا يُسْتَنْزَلُ بِهِ الرِّزْقُ: الِاسْتِغْفَارَ وَالتَّوْبَةَ إِلَى اللهِ الْغَفَّارِ التَّوَّابِ.

وَلَكِنْ مَا هِيَ حَقِيقَةُ الِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ؟!

كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَرَى أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ وَالتَّوْبَةَ هُمَا بِاللِّسَانِ وَحْدَهُ، يَقُولُ أَحَدُهُمْ: أَسْتَغْفِرُ اللهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، أَسْتَغْفِرُ اللهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، وَرُبَّمَا كَانَ يُرَدِّدُ ذَلِكَ بِلِسَانِهِ وَهُوَ نَاظِرٌ إِلَى الْمَعَاصِي، أَوْ مُسْتَمِعًا لِكَثِيرٍ مِنَ الْآثَامِ وَالذُّنُوبِ، أَوْ تَكُونُ جَوَارِجُهُ وَالِغَةً فِيمَا حَرَّمَ اللهُ، وَهُوَ يَقُولُ: أَسْتَغْفِرُ اللهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، أَسْتَغْفِرُ اللهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ!

فَلَا يُوجَدُ لِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ أَثَرٌ فِي الْقَلْبِ، وَلَا يُشَاهَدُ لَهَا تَأْثِيرٌ عَلَى الْجَوَارِحِ، مِثْلُ هَذَا الِاسْتِغْفَارِ وَهَذِهِ التَّوْبَةِ؛ عَمَلُ الْكَذَّابِينَ؛ فَقَدْ بَيَّنَ الْعُلَمَاءُ حَقِيقَةَ الِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ.

عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ؛ قَالَ الرَّاغِبُ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((التَّوْبَةُ فِي الشَّرْعِ: تَرْكُ الذَّنْبِ لِقُبْحِهِ، وَالنَّدَمُ عَلَى مَا فَرَطَ مِنْهُ، وَالْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ الْمُعَاوَدَةِ، وَتَدَارُكُ مَا أَمْكَنَهُ أَنْ يُتَدَارَكَ مِنَ الْأَعْمَالِ بِالْإِعَادَةِ، فَمَتَى اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الْأَرْبَعُ فَقَدْ كَمُلَتْ شَرَائِطُ التَّوْبَةِ)).

وَبَيَّنَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- حَقِيقَةَ التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ فَقَالَ: ((قَالَ الْعُلَمَاءُ: التَّوْبَةُ وَاجِبَةٌ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَتَأْخِيرُ التَّوْبَةِ بَعْدَ الذَّنْبِ ذَنْبٌ يَحْتَاجُ إِلَى تَوْبَةٍ)).

قَالَ الرَّاغِبُ عَنْ الِاسْتِغْفَارِ: ((طَلَبُ ذَلِكَ بِالْمَقَالِ وَالْفِعْلِ، قَوْلُهُ: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح: 10]، لَمْ يُؤْمَرُوا بِأَنْ يَسْأَلُوهُ ذَلِكَ بِاللِّسَانِ فَقَطْ، بَلْ بِاللِّسَانِ وَالْفِعْلِ؛ فَقَدْ قِيلَ: الِاسْتِغْفَارُ بِاللِّسَانِ مِنْ دُونِ ذَلِكَ بِالْفَعَالِ فِعْلُ الْكَذَّابِينَ)).

فَهَذِهِ حَقِيقَةُ التَّوْبَةِ وَحَقِيقَةُ الِاسْتِغْفَارِ.

وَالِاسْتِغْفَارُ وَالتَّوْبَةُ مِنْ أَعْظَمِ مَفَاتِيحِ الرِّزْقِ، وَمِنْ أَعْظَمِ مَا تُسْتَجْلَبُ بِهِ الْأَرْزَاقُ وَتَحِلُّ بِهَا الْبَرَكَةُ فِي الْأَرْزَاقِ.

هُنَاكَ نُصُوصٌ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَفِي السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ وَالتَّوْبَةَ مِنْ أَسْبَابِ الرِّزْقِ -بِفَضْلِ اللهِ تَعَالَى-.

مِنْهَا مَا ذَكَرَهُ -تَعَالَى- عَنْ نُوحٍ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10-12].

فَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ بَيَانٌ لِتَحَقُّقِ الْأُمُورِ التَّالِيَةِ بِالِاسْتِغْفَارِ:

- مَغْفِرَةُ اللهِ -تَعَالَى- لِلذُّنُوبِ، {إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا}.

- إِنْزَالُ اللهِ الْمَطَرَ يَتْبَعُ بَعْضُهُ بَعْضًا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: (({مِدْرَارًا} أَيْ: يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا)).

- إِكْثَارُ اللهِ -تَعَالَى- الْأَمْوَالَ وَالْأَوْلَادَ، قَالَ عَطَاءٌ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (({وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ}: يُكَثِّرُ أَمْوَالَكُمْ وَأَوْلَادَكُمْ)).

- وَكَذَلِكَ جَعْلُ اللهِ -تَعَالَى- الْبَسَاتِينَ، وَجَعْلُ اللهِ -تَعَالَى- الْأَنْهَارَ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَالَّتِي فِي سُورَةِ هُودٍ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود: 52].. فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي نُوحٍ وَفِي آيَةِ هُودٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ يُسْتَنْزَلُ بِهِ الرِّزْقُ وَالْأَمْطَارُ)).

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: ((أَيْ: إِذَا تُبْتُمْ إِلَى اللهِ وَاسْتَغْفَرْتُمُوهُ وَأَطَعْتُمُوهُ كَثَّرَ الرِّزْقَ عَلَيْكُمْ، وَأَسْقَاكُمْ مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاءِ، وَأَنْبَتَ لَكُمْ مِنْ بَرَكَاتِ الْأَرْضِ، وَأَنْبَتَ لَكُمُ الزَّرْعَ، وَأَدَرَّ لَكُمُ الضَّرْعَ، وَأَمَدَّكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ، أَيْ: أَعْطَاكُمُ الْأَمْوَالَ وَالْأَوْلَادَ، وَجَعَلَ لَكُمْ جَنَّاتٍ فِيهَا أَنْوَاعُ الثِّمَارِ، وَخَلَّلَهَا بِالْأَنْهَارِ الْجَارِيَةِ بَيْنَهَا)).

وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- تَمَسَّكَ بِمَا جَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَاتِ عِنْدَ طَلَبِهِ الْمَطَرَ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ -يَعْنِي: عِنْدَ الِاسْتِسْقَاءِ-.

رَوَى مُطَرِّفٌ عَنِ الشَّعْبِيِّ: ((أَنَّ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- خَرَجَ يَسْتَسْقِي بِالنَّاسِ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ حَتَّى رَجَعَ)).

كَانَ اسْتِسْقَاؤُهُ اسْتِغْفَارًا للهِ -جَلَّ وَعَلَا-، ((لَمْ يَزِدْ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ حَتَّى رَجَعَ)).

فَقِيلَ لَهُ: ((مَا سَمِعْنَاكَ اسْتَسْقَيْتَ!)).

فَقَالَ: ((طَلَبْتُ الْغَيْثَ بِمَجَادِيحِ السَّمَاءِ الَّتِي يُسْتَنْزَلُ بِهَا الْقَطْرُ، ثُمَّ قَرَأَ: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا})).

الْمَجَادِيحُ: وَاحِدُهَا مِجْدَحٌ، هُوَ نَجْمٌ مِنَ النُّجُومِ، وَهِيَ عِنْدَ الْعَرَبِ مِنَ الْأَنْوَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَطَرِ، فَجَعَلَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الِاسْتِغْفَارَ مُشَبَّهًا بِالْأَنْوَاءِ؛ مُخَاطَبَةً لَهُمْ بِمَا يَعْرِفُونَ، وَكَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ مِنْ شَأْنِهَا الْمَطَرَ، لَا أَنَّهُ يَقُولُ بِالْأَنْوَاءِ، بَلْ أَرَادَ عُمَرُ إِبْطَالَ الْأَنْوَاءِ وَالتَّكْذِيبَ بِهَا؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الِاسْتِغْفَارَ هُوَ الَّذِي يُسْتَسْقَى بِهِ كَالْمَجَادِيحِ وَالْأَنْوَاءِ الَّتِي كَانُوا يَسْتَسْقُونَ بِهَا، فَخَرَجَ يَسْتَسْقِي فَلَمْ يَزِدْ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ.

وَقَدْ أَرْشَدَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- -أَيْضًا- إِلَى الِاسْتِغْفَارِ كُلَّ مَنْ جَاءَ إِلَيْهِ شَاكِيًا الْجَدْبَ، وَالْفَقْرَ، وَقِلَّةَ النَّسْلِ، وَجَفَافَ الْبُسْتَانِ.

فَقَدْ ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ صَبِيحٍ قَالَ: ((شَكَا رَجُلٌ إِلَى الْحَسَنِ الْجُدُوبَةَ)).

فَقَالَ لَهُ: ((اسْتَغْفِرِ اللهَ)).

((وَشَكَا آخَرُ إِلَيْهِ الْفَقْرَ)).

فَقَالَ لَهُ: ((اسْتَغْفِرِ اللهَ)).

وَقَالَ لَهُ آخَرُ: ((ادْعُ اللهَ أَنْ يَرْزُقَنِي وَلَدًا)).

فَقَالَ لَهُ: ((اسْتَغْفِرِ اللهَ)).

((وَشَكَا لَهُ آخَرُ جَفَافَ بُسْتَانِهِ)).

فَقَالَ لَهُ: ((اسْتَغْفِرِ اللهَ)).

فَقُلْنَا لَهُ فِي ذَلِكَ -وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَالَ لَهُ الرَّبِيعُ بْنُ صَبِيحٍ-: ((أَتَاكَ رِجَالٌ يَشْكُونَ أَنْوَاعًا، فَأَمَرْتَهُمْ كُلَّهُمْ بِالِاسْتِغْفَارِ!)).

جَاؤُوا بِحَوَائِجَ مُخْتَلِفَةٍ وَالْجَوَابُ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْأَمْرُ بِالِاسْتِغْفَارِ.

فَقَالَ: ((مَا قُلْتُ مِنْ عِنْدِي شَيْئًا، إِنَّ اللهَ -تَعَالَى- يَقُولُ فِي سُورَةِ نُوحٍ: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10-12])).

مَا جِئْتُ بِشَيْءٍ مِنْ عِنْدِي!

فَمَا أَعْظَمَ ثَمَرَةَ الِاسْتِغْفَارِ وَأَجَلَّهَا وَأَكْبَرَهَا!

مِنَ النُّصُوصِ -أَيْضًا- الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ وَالتَّوْبَةَ مِنْ مَفَاتِيحِ الرِّزْقِ الْعَظِيمَةِ: قَوْلُهُ -جَلَّ وَعَلَا- حِكَايَةً عَنْ دَعْوَةِ هُودٍ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- قَوْمَهُ إِلَى الِاسْتِغْفَارِ: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود: 52].

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((ثُمَّ أَمَرَهُمْ هُودٌ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِالِاسْتِغْفَارِ الَّذِي فِيهِ تَكْفِيرُ الذُّنُوبِ السَّابِقَةِ، وَبِالتَّوْبَةِ عَمَّا يَسْتَقْبِلُونَ، وَمَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ رِزْقَهُ، وَسَهَّلَ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَحَفِظَ شَأْنَهُ، لِهَذَا قَالَ: {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا})).

مِنَ الْأَدِلَّةِ -أَيْضًا-: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ۖ وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [هود: 3].

فَفِي الْآيَةِ: وَعْدٌ مِنَ اللهِ الْقَادِرِ الْمُقْتَدِرِ الْقَدِيرِ.. وَعْدٌ بِالْمَتَاعِ الْحَسَنِ لِمَنِ اسْتَغْفَرَ وَتَابَ.

وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا} كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((يَتَفَضَّلُ عَلَيْكُمْ بِالرِّزْقِ وَالسَّعَةِ)).

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ((هَذِهِ ثَمَرَةُ الِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ، أَيْ: يُمَتِّعُكُمْ بِالْمَنَافِعِ مِنْ سَعَةِ الرِّزْقِ وَرَغَدِ الْعَيْشِ، وَلَا يَسْتَأْصِلُكُمْ بِالْعَذَابِ كَمَا فَعَلَ بِمَنْ أَهْلَكَ قَبْلَكُمْ)).

قَالَ ﷺ: ((طُوبَى لِمَنْ وَجَدَ فِي صَحِيفَتِهِ اسْتِغْفَارًا كَثِيرًا)). رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَقَالَ ﷺ: ((مَنْ أَكْثَرَ الِاسْتِغْفَارَ -أَوْ: مَنْ لَزِمَ الِاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللهُ لَهُ مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَمِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَه، وَالْحَاكِمُ، وَضُعِّفَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ قِبَلِ بَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ وَمِنْهُمُ الشَّيْخُ الْأَلْبَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- بِسَبَبِ أَحَدِ رُوَاتِهِ، لَكِنْ صَحَّحَ إِسْنَادَهُ الْحَاكِمُ، وَقَالَ عَنْهُ الشَّيْخُ شَاكِرٌ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((تَحْقِيقِهِ عَلَى مُسْنَدِ أَحْمَدَ)): ((إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ))، وَأَجَابَ عَمَّا قِيلَ عَنْ أَحَدِ رُوَاتِهِ، وَهُوَ الَّذِي لِأَجْلِهِ ضَعَّفَ الْحَدِيثَ الْأَلْبَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-، فَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ: ((مَنْ أَكْثَرَ الِاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللهُ لَهُ مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا)): الْهَمُّ: هُوَ الْغَمُّ يَهُمُّ الْمَرْءَ، ((مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا)) أَيْ: خَلَاصًا، ((وَمِنْ كُلِّ ضِيقٍ)) أَيْ: شِدَّةٍ وَمِحْنَةٍ ((مَخْرَجًا)): طَرِيقًا وَاسِعًا يُخْرِجُهُ إِلَى سَعَةٍ وَمِنْحَةٍ، ((وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)) أَيْ: حَلَالًا طَيِّبًا مِنْ حَيْثُ لَا يَظُنُّ وَلَا يَرْجُو وَلَا يَخْطُرُ عَلَى بَالٍ.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ: أَخْبَرَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ النَّاطِقُ بِالْوَحْيِ ﷺ عَنْ ثَلَاثِ ثَمَرَاتٍ يَجْنِيهَا مَنْ أَكْثَرَ الِاسْتِغْفَارَ؛ إِحْدَاهَا: الرِّزْقُ مِنَ اللهِ الرَّزَّاقِ ذِي الْقُوَّةِ الْمَتِينِ مِنْ حَيْثُ لَا يَظُنُّ وَلَا يَرْجُو وَلَا يَخْطُرُ بِبَالٍ.

فَعَلَى الرَّاغِبِينَ فِي الرِّزْقِ الْمُسَارَعَةُ إِلَى إِكْثَارِ الِاسْتِغْفَارِ بِالْمَقَالِ وَالْفَعَالِ، وَلَكِنْ حَذَارِ ثُمَّ حَذَارِ مِنَ الِاقْتِصَارِ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ بِاللِّسَانِ دُونَ ذَلِكَ بِالْفَعَالِ؛ فَإِنَّهُ فِعْلُ الْكَذَّابِينَ)).

إِنَّ الِاسْتِغْفَارَ تَطَهُّرٌ وَنَقَاءٌ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْآثَامِ، وَلَا يَخْفَى عَلَى لَبِيبٍ أَثَرُ الذُّنُوبِ وَأَثَرُ الْأَوْزَارِ فِي حِرْمَانِ الْعَبْدِ مِنَ الرِّزْقِ وَالتَّوْفِيقِ لِلْخَيْرِ؛ فَإِنَّهُ مَا يُصِيبُ الْإِنْسَانَ مِنْ شَيْءٍ يَكْرَهُهُ إِلَّا بِذَنْبٍ أَحْدَثَهُ، فَإِذَا تَطَهَّرَتِ النُّفُوسُ، وَتَحَرَّرَتْ مِنْ قُيُودِ الْمَعَاصِي وَأَثْقَالِ الْآثَامِ فَإِنَّهَا سَوْفَ تَنْشَطُ فِي سَعْيِهَا وَبَحْثِهَا عَنْ رِزْقِهَا.

وَطَلَبُ الْمَغْفِرَةِ مِنَ اللهِ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى اعْتِرَافِ الْعَبْدِ بِذَنْبِهِ، وَمَعْرِفَتِهِ بِقَدْرِ رَبِّهِ، لِذَا قَالَ -تَعَالَى- حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10-12].

يُرْسِلُ مَطَرًا مُتَتَابِعًا يَرْوِي الشِّعَابَ وَالْوِهَادَ، وَيُحْيِي الْبِلَادَ وَالْعِبَادَ، وَمَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ رِزْقَهُ، وَسَهَّلَ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَحَفِظَ شَأْنَهُ.

فَأَوَّلُ مِفْتَاحٍ مِنْ مَفَاتِيحِ الرِّزْقِ: الْمُدَاوَمَةُ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ، إِدْمَانُ الِاسْتِغْفَارِ مَعَ التَّوْبَةِ وَالْأَوْبَةِ إِلَى الرَّبِّ الْجَلِيلِ -سُبْحَانَهُ-.

((مِنْ مَفَاتِيحِ الرِّزْقِ: تَوْحِيدُ الْهَمِّ عَلَى اللهِ وَحْدَهُ))

مِنْ مَفَاتِيحِ الرِّزْقِ وَمِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُسْتَجْلَبُ بِهَا الْأَرْزَاقُ: تَوْحِيدُ الْهَمِّ عَلَى اللهِ -تَعَالَى- وَحْدَهُ.

قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ ﷺ يَقُولُ: ((مَنْ جَعَلَ الْهُمُومَ هَمًّا وَاحِدًا هَمَّ آخِرَتِهِ كَفَاهُ اللهُ هَمَّ دُنْيَاهُ، وَمَنْ تَشَعَّبَتْ بِهِ الْهُمُومُ فِي أَحْوَالِ الدُّنْيَا لَمْ يُبَالِ اللهُ فِي أَيِّ أَوْدِيَتِهَا هَلَكَ)). أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((مَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ)).

فَعَلَى الْعَبْدِ أَلَّا يُنْزِلَ حَاجَتَهُ إِلَّا بِاللهِ.

إِذَا كَانَ هَذَا غِنَى مَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ أَكْبَرَ هَمِّهِ؛ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، مَجْمُوعٌ عَلَيْهِ شَمْلُهُ، تَأْتِيهِ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، هَذَا غِنَى مَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ أَكْبَرَ هَمِّهِ؛ فَكَيْفَ مَنْ كَانَ اللهُ أَكْبَرَ هَمِّهِ؟!!

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ نَزَلَتْ بِهِ فَاقَةٌ فَأَنْزَلَهَا بِالنَّاسِ لَمْ تُسَدَّ فَاقَتُهُ، وَمَنْ نَزَلَتْ بِهِ فَاقَةٌ فَأَنْزَلَهَا بِاللهِ فَيُوشِكُ اللهُ لَهُ بِرِزْقٍ عَاجِلٍ أَوْ آجِلٍ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

فَجَمْعُ الْهَمِّ عَلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ تَحْصِيلِ الرِّزْقِ وَمِنْ أَعْظَمِ مَفَاتِحِهِ.

((مِنْ مَفَاتِيحِ الرِّزْقِ: التَّقْوَى وَالتَّوَكُّلُ وَالتَّفَرُّغُ لِلْعِبَادَةِ))

((مِمَّا يُسْتَنْزَلُ بِهِ الرِّزْقُ: التَّقْوَى.

وَقَدْ بَيَّنَ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ الْمُرَادَ بِالتَّقْوَى، فَعَرَّفَ الْأَصْبَهَانِيُّ التَّقْوَى بِقَوْلِهِ: ((حِفْظُ النَّفْسِ عَمَّا يُؤَثِّمُ، وَذَلِكَ بِتَرْكِ الْمَحْظُورِ، وَيُتِمُّ ذَلِكَ بِتَرْكِ بَعْضِ الْمُبَاحَاتِ)).

وَعَرَّفَ النَّوَوِيُّ التَّقْوَى بِقَوْلِهِ: ((امْتِثَالُ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَمَعْنَاهُ: الْوِقَايَةُ مِنْ سَخَطِهِ وَعَذَابِهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- )).

مَنْ لَمْ يَحْفَظْ نَفْسَهُ عَمَّا يُؤَثِّمُ فَلَيْسَ بِمُتَّقٍ؛ مَنْ شَاهَدَ بِعَيْنَيْهِ مَا حَرَّمَ اللهُ -تَعَالَى-، أَوْ سَمِعَ بِأُذُنَيْهِ مَا يُبْغِضُهُ اللهُ -تَعَالَى-، أَوْ بَطَشَ بِيَدَيْهِ مَا لَا يَرْضَاهُ اللهُ -تَعَالَى-، أَوْ مَشَى إِلَى مَا يَمْقُتُهُ اللهُ -تَعَالَى-؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَعْصِمْ نَفْسَهُ مِمَّا يُؤَثِّمُ.

وَمَنْ خَالَفَ أَمْرَهُ -تَعَالَى-، وَارْتَكَبَ مَا نَهَى عَنْهُ؛ فَلَيْسَ مِنَ الْمُتَّقِينَ.

وَمَنْ عَرَّضَ بِالْمَعْصِيَةِ نَفْسَهُ لِسَخَطِ اللهِ -تَعَالَى- وَعُقُوبَتِهِ فَقَدْ أَخْرَجَ نَفْسَهُ مِنْ صَفِّ الْمُتَّقِينَ.

وَرَدَتْ عِدَّةُ نُصُوصٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّقْوَى مِنْ أَسْبَابِ الرِّزْقِ، مِنْهَا:

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2-3].

فَبَيَّنَ -جَلَّ جَلَالُهُ- أَنَّ مَنْ تَحَقَّقَ لَدَيْهِ شَرْطُ التَّقْوَى فَإِنَّ اللهَ -تَعَالَى- يَجْزِيهِ بِأَمْرَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: {يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا} أَيْ: يُنْجِيهِ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((يُنْجِيهِ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)).

الْأَمْرُ الثَّانِي: {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} أَيْ: رَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يُؤَمِّلُ وَلَا يَرْجُو، وَمِنْ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ يَخْطُرُ لَهُ عَلَى بَالٍ أَوْ يَدُورُ لَهُ فِي خَيَالٍ.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَيْ: وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ فِيمَا أَمَرَهُ بِهِ، وَتَرْكِ مَا نَهَاهُ عَنْهُ؛ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ مَخْرَجًا، {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} أَيْ: مِنْ جِهَةٍ لَا تَخْطُرُ بِبَالِهِ)).

وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((إِنَّ أَكْبَرَ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ فَرَجًا: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا})).

وَمِنَ الْأَدِلَّةِ: قَوْلُهُ -جَلَّ جَلَالُهُ-: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96].

 فَبَيَّنَ الرَّبُّ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ لَوْ تَحَقَّقَ فِي أَهْلِ الْقُرَى أَمْرَانِ، وَهُمَا: الْإِيمَانُ وَالتَّقْوَى؛ لَوَسَّعَ اللهُ -تَعَالَى- عَلَيْهِمُ الْخَيْرَ وَيَسَّرَهُ لَهُمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ.

وَمِنَ الْأَدِلَّةِ: قَوْلُ اللهِ -جَلَّ جَلَالُهُ-: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ۚ مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} [المائدة: 66].

فَأَخْبَرَ -جَلَّ وَعَلَا- عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ لَوْ عَمِلُوا بِمَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ -كَمَا قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ- لَأَكْثَرَ -تَعَالَى- بِذَلِكَ الرِّزْقَ النَّازِلَ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالنَّابِتَ لَهُمْ مِنَ الْأَرْضِ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: ((وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2-3]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا} [الجن: 16]، {{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 96]، فَجَعَلَ -تَعَالَى- التُّقَى مِنْ أَسْبَابِ الرِّزْقِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، وَوَعَدَ بِالْمَزِيدِ لِمَنْ شَكَرَ فَقَالَ: {لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7])).

فَكُلُّ مَنْ رَغِبَ فِي السَّعَةِ فِي الرِّزْقِ وَرَغَدِ الْعَيْشِ فَلْيَحْفَظْ نَفْسَهُ مِمَّا يُؤَثِّمُ، وَأَنْ يَمْتَثِلَ أَوَامِرَ اللهِ -تَعَالَى-، وَلْيَجْتَنِبْ نَوَاهِيَهُ، وَلْيَصُنْ نَفْسَهُ عَمَّا تَسْتَحِقُّ بِهِ الْعُقُوبَةَ مِنْ فِعْلِ مُنْكَرٍ أَوْ تَرْكِ مَعْرُوفٍ.

* وَمِمَّا يُسْتَنْزَلُ بِهِ الرِّزْقُ: التَّوَكُّلُ عَلَى اللهِ الْأَحَدِ الصَّمَدِ.

وَقَدْ بَيَّنَ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ مَعْنَى التَّوَكُّلِ، ((التَّوَكُّلُ: إِظْهَارُ الْعَجْزِ، وَالِاعْتِمَادُ عَلَى الْمُتَوَكَّلِ عَلَيْهِ)).

وَمِنَ الْأَدِلَّةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى كَوْنِ التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ -تَعَالَى- مِنْ مَفَاتِيحِ الرِّزْقِ وَمِنْ أَسْبَابِ تَحْصِيلِهِ وَكَثْرَتِهِ: مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَه وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا تُرْزَقُ الطَّيْرُ، تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا)).

فِي هَذَا الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ: بَيَّنَ النَّاطِقُ بِالْوَحْيِ ﷺ أَنَّ الْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللهِ -تَعَالَى- حَقَّ التَّوَكُّلِ مَرْزُوقٌ كَمَا تُرْزَقُ الطَّيْرُ، وَكَيْفَ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ فَقَدْ تَوَكَّلَ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ فَهُوَ حَسْبُهُ، {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3].

التَّوَكُّلُ لَا يَقْتَضِي تَرْكَ الْكَسْبِ، وَعَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ أَنْ يَكِدَّ وَيَجِدَّ وَيَسْعَى لِكَسْبِ الْمَعِيشَةِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَعْتَمِدُ عَلَى كَدِّهِ وَجِدِّهِ وَسَعْيِهِ، بَلْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ للهِ -تَعَالَى-، وَأَنَّ الرِّزْقَ مِنْهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وَحْدَهُ.

* وَمِنْ أَعْجَبِ الْأَسْبَابِ الْجَالِبَةِ لِلرِّزْقِ وَمِنْ عَظِيمِ مَفَاتِحِهِ: التَّفَرُّغُ لِعِبَادَةِ اللهِ؛ فَمَنْ عَبَدَ اللهَ بِإِخْلَاصٍ وَصِدْقٍ وَاتِّبَاعٍ وَسُنَّةٍ؛ أَعَانَهُ اللهُ وَأَيَّدَهُ وَكَفَاهُ، {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36]، عَلَى قَدْرِ عُبُودِيَّتِكَ للهِ -جَلَّ وَعَلَا- تَكُونُ كِفَايَةُ اللهِ لَكَ.

لَا يَنْبَغِي أَنْ يُظَنَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّفَرُّغِ لِلْعِبَادَةِ تَرْكُ السَّعْيِ لِكَسْبِ الْمَعِيشَةِ وَالْجُلُوسُ فِي الْمَسْجِدِ لَيْلًا وَنَهَارًا، بَلِ الْمُرَادُ بِهِ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ حَاضِرَ الْقَلْبِ وَالْجَسَدِ أَثْنَاءَ الْعِبَادَةِ، خَاشِعًا خَاضِعًا للهِ الْأَحَدِ، مُسْتَحْضِرًا عَظَمَةَ الرَّبِّ -تَعَالَى-، مُسْتَشْعِرًا أَنَّهُ يُنَاجِي الْمَلِكَ الْمُقْتَدِرَ، وَيَكُونُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ: ((أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ)).

وَلَا يَكُونُ مِمَّنْ تَكُونُ أَجْسَادُهُمْ فِي الْمَسَاجِدِ وَقُلُوبُهُمْ خَارِجَهَا.

وَرَدَتْ عِدَّةُ نُصُوصٍ تَدُلُّ عَلَى كَوْنِ التَّفَرُّغِ لِعِبَادَةِ اللهِ مِنْ مَفَاتِيحِ الرِّزْقِ:

مِنْهَا: مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَه وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((إِنَّ اللهَ -تَعَالَى- يَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ! تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلَأْ صَدْرَكَ غِنًى، وَأَسُدَّ فَقْرَكَ، وَإِنْ لَا تَفْعَلْ مَلَأْتُ يَدَكَ شُغُلًا، وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ)).

وَمِنَ الْأَدِلَّةِ: مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((يَقُولُ رَبُّكُمْ: يَا ابْنَ آدَمَ! تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلَأْ قَلْبَكَ غِنًى، وَأَمْلَأْ يَدَيْكَ رِزْقًا، يَا ابْنَ آدَمَ! لَا تُبَاعِدْ مِنِّي أَمْلَأْ قَلْبَكَ فَقْرًا، وَأَمْلَأْ يَدَيْكَ شُغُلًا)).

فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ: أَخْبَرَ النَّاطِقُ بِالْوَحْيِ رَسُولُنَا الْكَرِيمُ ﷺ عَنْ وَعْدِ اللهِ -الَّذِي لَيْسَ أَحَدٌ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْهُ- بِثَمَرَتَيْنِ لِمَنْ تَفَرَّغَ لِعِبَادَتِهِ -تَعَالَى-، وَهُمَا: مَلْؤُهُ -تَعَالَى- قَلْبَهُ بِالْغِنَى، وَيَدَيْهِ بِالرِّزْقِ.

وَنَبَّهَ ﷺ عَلَى تَهْدِيدِ الْعَزِيزِ ذِي الِانْتِقَامِ لِمَنْ بَاعَدَ عَنْهُ بِعُقُوبَتَيْنِ وَهُمَا: مَلْؤُهُ -تَعَالَى- قَلْبَهُ فَقْرًا، وَيَدَيْهِ شُغُلًا.

وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ أَغْنَى قَلْبَهُ الْمُغْنِي -جَلَّ جَلَالُهُ- فَلَا يَقْرَبُ مِنْهُ الْفَقْرُ أَبَدًا، وَمَنْ مَلَأَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ يَدَيْهِ رِزْقًا فَلَا يُفْلِسُ أَبَدًا، وَمَنْ مَلَأَ الْقَادِرُ الْمُقْتَدِرُ الْعَزِيزُ قَلْبَهُ فَقْرًا فَلَا أَحَدَ يَسْتَطِيعُ إِغْنَاءَهُ، وَمَنْ أَشْغَلَهُ الْجَبَّارُ الْقَهَّارُ فَلَا أَحَدَ يَسْتَطِيعُ مَنْحَهُ الْفَرَاغَ)).

((مِنْ مَفَاتِيحِ الرِّزْقِ: الْمُتَابَعَةُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَصِلَةُ الرَّحِمِ))

مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ -جَلَّ جَلَالُهُ- مِنْ مَفَاتِيحِ الرِّزْقِ: الْمُتَابَعَةُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ.

وَالْمُرَادُ بِالْمُتَابَعَةِ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ: اجْعَلُوا أَحَدَهُمَا تَابِعًا لِلْآخَرِ وَاقِعًا عَلَى عَقِبِهِ، أَيْ: إِذَا حَجَجْتُمْ فَاعْتَمِرُوا، وَإِذَا اعْتَمَرْتُمْ فَحُجُّوا فَإِنَّهُمَا مُتَتَابِعَانِ.

مِنَ الْأَحَادِيثِ الشَّرِيفَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْمُتَابَعَةَ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ مِنْ مَفَاتِيحِ الرِّزْقِ:

مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ الْمَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إِلَّا الْجَنَّةُ)).

فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ: بَيَّنَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ النَّاطِقُ بِالْوَحْيِ ﷺ أَنَّ ثَمَرَةَ الْمُتَابَعَةِ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ زَوَالُ الْفَقْرِ وَالذُّنُوبِ.

وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ)).

فَعَلَى الرَّاغِبِينَ فِي نَفْيِ الْفَقْرِ وَالذُّنُوبِ عَنْهُمُ الْمُبَادَرَةُ إِلَى الْمُتَابَعَةِ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ.

* وَمِنْ مَفَاتِيحِ الرِّزْقِ: صِلَةُ الرَّحِمِ.

وَالْمُرَادُ بِالرَّحِمِ: الْأَقَارِبُ.

قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: ((الرَّحِمُ -بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ- يُطْلَقُ عَلَى الْأَقَارِبِ، وَهُمْ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآخَرِ نَسَبٌ سَوَاءٌ كَانَ يَرِثُهُ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَا مَحْرَمٍ أَوْ لَا، وَقِيلَ: هُمُ الْمَحَارِمُ فَقَطْ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُرَجَّحُ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ يَسْتَلْزِمُ خُرُوجَ أَوْلَادِ الْأَعْمَامِ وَأَوْلَادِ الْأَخْوَالِ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ)).

صِلَةُ الرَّحِمِ: الْإِحْسَانُ إِلَى الْأَقْرَبِينَ مِنْ ذَوِي النَّسَبِ وَالْأَصْهَارِ، وَالتَّعَطُّفُ عَلَيْهِمْ وَالرِّفْقُ بِهِمْ، وَالرِّعَايَةُ لِأَحْوَالِهِمْ.

وَهُنَاكَ عِدَّةُ أَحَادِيثَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- جَعَلَ صِلَةَ الرَّحِمِ مِنْ أَسْبَابِ السَّعَةِ فِي الرِّزْقِ.

وَمِنَ الْأَدِلَّةِ: مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ)).

فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ: بَيَّنَ النَّبِيُّ الْكَرِيمُ ﷺ أَنَّ لِصِلَةِ الرَّحِمِ ثَمَرَتَيْنِ هُمَا: الْبَسْطُ فِي الرِّزْقِ، وَالزِّيَادَةُ فِي الْعُمُرِ.

وَهَذَا عَرْضٌ مَفْتُوحٌ قَدَّمَهُ أَصْدَقُ خَلْقِ اللهِ -تَعَالَى- النَّاطِقُ بِالْوَحْيِ ﷺ، فَمَنْ رَغِبَ فِي هَاتَيْنِ الثَّمَرَتَيْنِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُقَدِّمَ بِذْرَتَهُمَا وَهِيَ صِلَةُ الرَّحِمِ.

وَمِنَ الْأَدِلَّةِ: مَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ؛ فَإِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ مَحَبَّةٌ فِي الْأَهْلِ -أَيْ: فِي أَهْلِ الرَّحِمِ-، مَثْرَاةٌ فِي الْمَالِ -أَيْ: سَبَبٌ لِكَثْرَةِ الْمَالِ-، مَنْسَأَةٌ فِي الْعُمُرِ)).

فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ: بَيَّنَ النَّبِيُّ الْكَرِيمُ -صَلَوَاتُ رَبِّي وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ- أَنَّ لِصِلَةِ الرَّحِمِ ثَلَاثَ ثَمَرَاتٍ، وَالثَّانِيَةُ مِنْهَا: الْكَثْرَةُ فِي الْمَالِ.

وَمِنَ الْأَدِلَّةِ: مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُمَدَّ لَهُ فِي عُمُرِهِ، وَيُوَسَّعَ عَلَيْهِ فِي رِزْقِهِ، وَيُدْفَعَ عَنْهُ مِيتَةُ السُّوءِ فَلْيَتَّقِ اللهَ، وَلْيَصِلْ رَحِمَهُ)).

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ: بَيَّنَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ -صَلَوَاتُ رَبِّي وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ- أَنَّ ثَلَاثَ فَوَائِدَ تَتَحَقَّقُ -بِفَضْلِ اللهِ تَعَالَى- لِمَنْ وُجِدَتْ فِيهِ خَصْلَتَانِ وَهُمَا: تَقْوَى اللهِ -تَعَالَى-، وَصِلَةُ الرَّحِمِ، وَإِحْدَى تِلْكَ الْفَوَائِدِ: سَعَةُ الرِّزْقِ.

يَحْصُرُ بَعْضُ النَّاسِ مَفْهُومَ صِلَةِ الرَّحِمِ فِيمَا كَانَتْ بِالْمَالِ، وَهَذَا الْحَصْرُ غَيْرُ سَدِيدٍ، إِنَّ مَفْهُومَهَا أَوْسَعُ مِنْ ذَلِكَ، إِنَّهَا السَّعْيُ إِلَى إِيصَالِ الْخَيْرِ إِلَى الْأَقَارِبِ، وَدَفْعِ الشَّرِّ عَنْهُمْ سَوَاءٌ بِالْمَالِ أَوْ بِغَيْرِهِ.

فَالْمَعْنَى الْجَامِعُ: إِيصَالُ مَا أَمْكَنَ مِنَ الْخَيْرِ، وَدَفْعُ مَا أَمْكَنَ مِنَ الشَّرِّ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ.

((مِنْ مَفَاتِيحِ الرِّزْقِ: شُكْرُ النِّعَمِ وَالْإِنْفَاقُ فِي سَبِيلِ اللهِ))

مِنْ مَفَاتِيحِ الرِّزْقِ: شُكْرُ النِّعَمِ.

فَبِالشُّكْرِ تَدُومُ النِّعَمُ وَتَزِيدُ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7].

أَيْ: وَاذْكُرُوا حِينَ أَعْلَمَ رَبُّكُمْ إِعْلَامًا مُؤَكَّدًا: لَئِنْ شَكَرْتُمُوهُ عَلَى نِعَمِهِ لَيَزِيدَنَّكُمْ مِنْ فَضْلِهِ، وَإِنْ جَحَدْتُمْ نِعْمَةَ اللهِ لَيُعَذِّبَنَّكُمْ عَذَابًا شَدِيدًا.

فَالْكُفْرُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ هُوَ كُفْرُ النِّعَمِ وَجُحُودُهَا.

إِنَّ شُكْرَ النِّعْمَةِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِقَامَةِ الْمَقَايِيسِ فِي النّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ، فَالْخَيْرُ يُشْكَرُ؛ لِأَنَّ الشُّكْرَ هُوَ جَزَاؤُهُ الطَّبِيعِيُّ فِي الْفِطْرَةِ الْمُسْتَقِيمَةِ، وَلِأَنَّ النَّفْسَ الَّتِي تَشْكُرُ اللهَ عَلَى نِعْمَتِهِ تُرَاقِبُ اللهَ فِي التَّصَرُّفِ فِي هَذِهِ النِّعْمَةِ بِلَا بَطَرٍ، وَبِلَا اسْتِعْلَاءٍ عَلَى الْخَلْقِ، وَبِلَا اسْتِخْدَامٍ لِلنِّعْمَةِ فِي الْأَذَى وَالشَّرِّ وَالدَّنَسِ وَالْفَسَادِ، وَهَذَا -لَا شَكَّ- مِمَّا يُزَكِّي النَّفْسَ، وَيَدْفَعُهَا لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَالتَّصَرُّفِ الصَّالِحِ فِي النِّعْمَةِ بِمَا يُنَمِّيهَا وَيُبَارِكُ فِيهَا، وَيُرْضِي النَّاسَ عَنْهَا وَعَنْ صَاحِبِهَا، فَيَكُونُونَ لَهُ أَعْوَانًا، وَيُصْلِحُ رَوَابِطَ الْمُجْتَمَعِ، فَتَنْمُو فِيهِ الثَّرْوَاتُ فِي أَمَانٍ، إِلَى آخِرِ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ لَنَا فِي الْحَيَاةِ.

وَإِنْ كَانَ وَعْدُ اللهِ -تَعَالَى- بِذَاتِهِ يَكْفِي لِلِاطْمِئْنَانِ -اطْمِئْنَانِ الْمُؤْمِنِ- أَدْرَكَ الْأَسْبَابَ أَمْ لَمْ يُدْرِكْهَا؛ لِأَنَّهَا حَقٌّ وَوَاقِعٌ، لِأَنَّهُ وَعْدُ اللهِ.

وَمِنْ مَفَاتِيحِ الرِّزْقِ: الْإِنْفَاقُ فِي سَبِيلِ اللهِ -تَعَالَى-.

وَالْمُرَادُ بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ: الْإِنْفَاقُ الْمُرَغَّبُ فِيهِ فِي الدِّينِ؛ كَالْإِنْفَاقِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ لِنَصْرِ الدِّينِ.

وَقَدْ وَرَدَتْ عِدَّةُ نُصُوصٍ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَالْحَدِيثِ الشَّرِيفِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَنْفَقَ فِي سَبِيلِ اللهِ -تَعَالَى- فَإِنَّ اللهَ -جَلَّ جَلَالُهُ- يُخْلِفُهُ فِي الدُّنْيَا، إِلَى جَانِبِ مَا أَعَدَّ لَهُ مِنْ ثَوَابٍ جَزِيلٍ فِي الْآخِرَةِ.

مِنَ الْأَدِلَّةِ: قَوْلُ اللهِ -جَلَّ جَلَالُهُ-: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39].

يَقُولُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: ((أَيْ: مَهْمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَأَبَاحَهُ لَكُمْ فَهُوَ يُخْلِفُهُ عَلَيْكُمْ فِي الدُّنْيَا بِالْبَدَلِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالْجَزَاءِ وَالثَّوَابِ)).

وَمِنَ الْأَدِلَّةِ: قَوْلُهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ ۖ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 268].

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: ((اثْنَانِ مِنَ اللهِ، وَاثْنَانِ مِنَ الشَّيْطَانِ: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ}: يَقُولُ: لَا تُنْفِقْ مَالَكَ وَأَمْسِكْهُ لَكَ فَإِنَّكَ تَحْتَاجُ إِلَيْهِ، {وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ}، {وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ} عَلَى هَذِهِ الْمَعَاصِي {وَفَضْلًا} فِي الرِّزْقِ)).

وَمِنَ الْأَدِلَّةِ: مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: يَا ابْنَ آدَمَ! أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ)).

اللهُ أَكْبَرُ! مَا أَوْثَقَهُ مِنْ ضَمَانٍ لِلْمُنْفِقِ فِي سَبِيلِ اللهِ -تَعَالَى-!

وَمَا أَيْسَرَهُ وَأَسْهَلَهُ مِنْ طَرِيقٍ لِنَيْلِ الرِّزْقِ!

يُنْفِقُ الْعَبْدُ فِي سَبِيلِ اللهِ -تَعَالَى-، وَيُنْفِقُ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ عَلَيْهِ.

وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ يُنْفِقُ عَلَى قَدْرِ اسْتِطَاعَتِهِ فَسَيُنْفِقُ مَنْ لَهُ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ عَلَيْهِ بِمَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ.

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْفَاقَ فِي سَبِيلِ اللهِ -تَعَالَى- مِنْ مَفَاتِيحِ الرِّزْقِ: مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللهم أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللهم أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا)).

فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ: أَخْبَرَ النَّبِيُّ الْكَرِيمُ ﷺ أَنَّ مَلَكًا يَدْعُو كُلَّ يَوْمٍ لِلْمُنْفِقِ أَنْ يُعْطِيَهُ اللهُ خَلَفًا، وَالْمُرَادُ بِهِ: عِوَضًا عَظِيمًا، وَهُوَ الْعِوَضُ الصَّالِحُ، أَوْ عِوَضًا فِي الدُّنْيَا وَبَدَلًا فِي الْعُقْبَى؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39].

وَمَعْلُومٌ أَنَّ دُعَاءَ الْمَلَائِكَةِ مُجَابٌ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَدْعُونَ لِأَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِهِ -جَلَّ جَلَالُهُ-، قَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 28].

وَمِنَ الْأَدِلَّةِ: مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((أَنْفِقْ يَا بِلَالُ وَلَا تَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْلَالًا)).

مَا أَقْوَاهُ مِنْ ضَمَانٍ وَأَمْتَنَهُ لِلْمُنْفِقِ فِي سَبِيلِ اللهِ -تَعَالَى-!

هَلْ سَيَخْذُلُ ذُو الْعَرْشِ -جَلَّ جَلَالُهُ- الَّذِي أَنْفَقَ مَالَهُ فِي سَبِيلِهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فَيَمُوتُ فَقْرًا وَإِعْدَامًا؟!!

كَلَّا -وَعِزَّةِ رَبِّنَا وَجَلَالِهِ-.

وَكَمْ مِنْ شَوَاهِدَ فِي كُتُبِ السُّنَّةِ وَالسِّيرَةِ وَالتَّرَاجِمِ وَالتَّارِيخِ وَحَتَّى فِي وَاقِعِنَا الْمُعَاصِرِ تَدُلُّ عَلَى إِخْلَافِ اللهِ -تَعَالَى- الرِّزْقَ لِلْمُنْفِقِ فِي سَبِيلِهِ.

رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((بَيْنَا رَجُلٌ بِفَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ، فَسَمِعَ صَوْتًا فِي سَحَابَةٍ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ، فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ فَأَفْرَغَ مَاءَهُ فِي حَرَّةٍ، فَإِذَا شَرْجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ قَدِ اسْتَوْعَبَتْ ذَلِكَ الْمَاءَ كُلَّهُ، فَتَتَبَّعَ الْمَاءَ فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِي حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الْمَاءَ بِمِسْحَاتِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ! مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: فُلَانٌ لِلِاسْمِ الَّذِي سَمِعَ فِي السَّحَابَةِ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ! لِمَ تَسْأَلُنِي عَنِ اسْمِي؟ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ صَوْتًا فِي السَّحَابِ الَّذِي هَذَا مَاؤُهُ يَقُولُ اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ لِاسْمِكَ، فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا؟ قَالَ: أَمَا إِذْ قُلْتَ هَذَا فَإِنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا؛ فَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ، وَآكُلُ أَنَا وَعِيَالِي ثُلُثًا، وَأَرُدُّ فِيهَا ثُلُثَهُ)).

((مِنْ مَفَاتِيحِ الرِّزْقِ: الصَّلَاةُ وَالْإِحْسَانُ إِلَى الضُّعَفَاءِ))

مِنْ مَفَاتِيحِ الرِّزْقِ: الصَّلَاةُ.

الصَّلَاةُ أَعْظَمُ اتِّصَالٍ بِالرَّزَّاقِ الْعَلِيمِ وَالْجَوَادِ الْكَرِيمِ، وَفِيهِ مِنَ التَّضَرُّعِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّقْوَى مَا اللهُ بِهِ عَلِيمٌ.

قَالَ تَعَالَى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ۖ لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكَ ۗ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ} [طه: 32].

{وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} أَيْ: عَلَى الصَّلَاةِ بِإِقَامَتِهَا بِحُدُودِهَا وَأَرْكَانِهَا وَآدَابِهَا وَخُشُوعِهَا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ شَاقٌّ عَلَى النُّفُوسِ، لَكِنْ يَنْبَغِي إِكْرَاهُ النَّفْسِ وَجِهَادُهَا عَلَى ذَلِكَ الْأَمْرِ الْكَبِيرِ وَالِاصْطِبَارُ عَلَى الصَّلَاةِ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا قَامَ فَأَقَامَ صَلَاتَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ كَانَ لِمَا سِوَاهَا مِنْ دِينِهِ أَحْفَظَ وَأَقْوَمَ، وَإِذَا ضَيَّعَ الصَّلَاةَ كَانَ لِمَا سِوَاهَا أَضْيَعَ.

ثُمَّ ضَمِنَ -تَعَالَى- لِرَسُولِهِ الْكَرِيمِ ﷺ الرِّزْقَ، وَأَلَّا يَشْغَلَهُ الِاهْتِمَامُ بِهِ عَنْ إِقَامَةِ دِينِهِ، فَقَالَ: {نَّحْنُ نَرْزُقُكَ} أَيْ: رِزْقُكَ عَلَيْنَا، قَدْ تَكَفَّلْنَا بِهِ كَمَا تَكَفَّلْنَا بِأَرْزَاقِ الْخَلَائِقِ كُلِّهِمْ، فَكَيْفَ بِمَنْ قَامَ بِأَمْرِنَا، وَاشْتَغَلَ بِذِكْرِنَا؟! فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَقَامَ الصَّلَاةَ بِحُدُودِهَا وَأَرْكَانِهَا وَشُرُوطِهَا وَخُشُوعِهَا آتَاهُ اللهُ الرِّزْقَ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ.

قَالَ الثَّوْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: (({لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا} أَيْ: لَا نُكَلِّفُكَ الطَّلَبَ)).

وَرِزْقُ اللهِ عَامٌّ لِلْمُتَّقِي وَغَيْرِهِ، فَيَنْبَغِي الِاهْتِمَامُ بِمَا يَجْلِبُ السَّعَادَةَ الْأَبَدِيَّةَ وَهُوَ التَّقْوَى، وَلِهَذَا قَالَ: {والعاقبة} فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِلتَّقْوَى الَّتِي هِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيِّ، فَمَنْ قَامَ بِهَا كَانَ لَهُ حُسْنُ الْعَاقِبَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهِيَ الْجَنَّةُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ}.

قَالَ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَكَانَ الْأَنْبِيَاءُ إِذَا نَزَلَ بِهِمْ أَمْرٌ فَزِعُوا إِلَى الصَّلَاةِ)).

وَمِنْ مَفَاتِيحِ الرِّزْقِ: الْإِحْسَانُ إِلَى الْفُقَرَاءِ؛ فَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ الْكَرِيمُ ﷺ أَنَّ الْعِبَادَ يُنْصَرُونَ وَيُرْزَقُونَ بِسَبَبِ ضُعَفَائِهِمْ.

رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: رَأَى سَعْدٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ لَهُ فَضْلًا عَلَى مَنْ دُونَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ)).

وَبَيَّنَ النَّبِيُّ الْكَرِيمُ ﷺ -أَيْضًا- أَنَّ رِضَاءَهُ ﷺ يُطْلَبُ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْفُقَرَاءِ؛ فَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((ابْغُونِي فِي ضُعَفَائِكُمْ، فَإِنَّمَا تُرْزَقُونَ وَتُنْصَرُونَ بِضُعَفَائِكُمْ)).

((مِنْ مَفَاتِيحِ الرِّزْقِ: الْهِجْرَةُ فِي سَبِيلِ اللهِ))

لَقَدْ جَعَلَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- الْمُهَاجَرَةَ فِي سَبِيلِهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مِفْتَاحًا مِنْ مَفَاتِيحِ الرِّزْقِ.

وَالْمُهَاجَرَةُ -كَمَا يَقُولُ الرَّاغِبُ الْأَصْفَهَانِيُّ-: ((الْخُرُوجُ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ إِلَى دَارِ الْإِيمَانِ، كَمَنْ هَاجَرَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ)).

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْمُهَاجَرَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ -تَعَالَى- مِنْ أَسْبَابِ الرِّزْقِ: قَوْلُهُ -جَلَّ جَلَالُهُ-: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} [النساء: 100].

((مَنْ يَخْرُجْ مِنْ أَرْضِ الشِّرْكِ إِلَى أَرْضِ الْإِسْلَامِ فِرَارًا بِدِينِهِ، رَاجِيًا فَضْلَ رَبِّهِ، قَاصِدًا نُصْرَةَ دِينِهِ؛ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مَكَانًا وَمُتَحَوَّلًا يَنْعَمُ فِيهِ بِمَا يَكُونُ سَبَبًا فِي قُوَّتِهِ وَذِلَّةِ أَعْدَائِهِ، مَعَ السَّعَةِ فِي رِزْقِهِ وَعَيْشِهِ)).

فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَعْدُ اللهِ -تَعَالَى- أَنَّ مَنْ هَاجَرَ فِي سَبِيلِهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- سَيَجِدُ أَمْرَيْنِ:

أَوَّلُهُمَا: {مُرَاغَمًا كَثِيرًا}.

وَثَانِيهِمَا: سَعَةٌ.

وَالْمُرَادُ بِالْأَمْرِ الثَّانِي: السَّعَةُ فِي الرِّزْقِ.

((مِنْ مَفَاتِيحِ الرِّزْقِ: طَلَبُ الْعِلْمِ وَالْقَنَاعَةُ وَالذِّكْرُ))

مِنْ مَفَاتِيحِ الرِّزْقِ: طَلَبُ الْعِلْمِ.

فَلَا يَخْفَى عَلَى لَبِيبٍ فَضْلُ الْعِلْمِ وَبَرَكَتُهُ، وَكَيْفَ لَا؛ وَاللهُ -تَعَالَى- قَدْ وَصَفَ نَفْسَهُ بِالْعِلْمِ؛ بَلْ وَأَمَرَ بِالْعِلْمِ فِي أَعْظَمِ قَضِيَّةٍ وَهِيَ وَحْدَانِيَّتُهُ -جَلَّ وَعَلَا-، قَالَ تَعَالَى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [محمد: 19].

فَثَمَرَةُ الْعِلْمِ مَعْرِفَةُ اللهِ الرَّزَّاقِ، وَمَعْرِفَةُ أَسْبَابِ الرِّزْقِ وَفَضَائِلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ وَبَرَكَتِهَا وَأَثَرِهَا فِي سَعَةِ الرِّزْقِ.

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَانَ أَخَوَانِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ فَكَانَ أَحَدُهُمَا يَأْتِي النَّبِيَّ ﷺ وَالْآخَرُ يَحْتَرِفُ -يَعْنِي: لَهُ حِرْفَةٌ، فَكَانَ يَجِدُّ وَيَتْعَبُ لِتَحْصِيلِ الرِّزْقِ مِنْهَا، وَأَمَّا أَخُوهُ فَكَانَ يَأْتِي النَّبِيَّ ﷺ يَطْلُبُ الْعِلْمَ عِنْدَهُ-، فَشَكَى الْمُحْتَرِفُ أَخَاهُ -أَيِ: الَّذِي يَذْهَبُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ وَيَتَعَلَّمُ- شَكَى الْمُحْتَرِفُ أَخَاهُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ: ((لَعَلَّكَ تُرْزَقُ بِهِ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

مِنْ مَفَاتِيحِ الرِّزْقِ: الرِّضَا وَالْقَنَاعَةُ.

وَالْقَنَاعَةُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ التَّقْوَى؛ فَقَدْ جَاءَ عَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي تَعْرِيفِ التَّقْوَى: ((أَنَّهَا الْخَوْفُ مِنَ الْجَلِيلِ، وَالْعَمَلُ بِالتَّنْزِيلِ، وَالْقَنَاعَةُ بِالْقَلِيلِ، وَالِاسْتِعْدَادُ لِيَوْمِ الرَّحِيلِ)).

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

 ((وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ))، لَا سِيَّمَا وَاللهُ -تَعَالَى- قَسَّمَ الْأَرْزَاقَ، وَقَدَّرَ الْمَقَادِيرَ، فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يُحْسِنَ الطَّلَبَ.

عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((أَجْمِلُوا فِي طَلَبِ الدُّنْيَا فَإِنَّ كُلًّا مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ)). أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه، وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي ((السُّنَّةِ))، وَالْحَاكِمُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

((أَجْمِلُوا فِي طَلَبِ الدُّنْيَا فَإِنَّ كُلًّا مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ)) أَيِ: اطْلُبُوا الرِّزْقَ طَلَبًا جَمِيلًا بِأَنْ تَرَفَّقُوا، أَيْ: تُحْسِنُوا السّعْيَ فِي نَصِيبِكُمْ، بِلَا كَدٍّ وَلَا تَعَبٍ وَلَا تَكَالُبٍ وَإِشْفَاقٍ .

وَمِنْ إِجْمَالِ الطَّلَبِ: اعْتِمَادُ الْجِهَةِ الَّتِي هَيَّأَهَا اللهُ وَيَسَّرَهَا لَهُ وَيَسَّرَهُ لَهَا فَيَقْنَعُ بِهَا وَلَا يَتَعَدَّاهَا.

وَمِنْهُ: أَلَّا يَطْلُبَ بِحِرْصٍ وَقَلَقٍ وَشَرَهٍ وَوَلَهٍ حَتَّى لَا يَنْسَى ذِكْرَ رَبِّهِ، وَلَا يَتَوَرَّطَ فِي شُبَهٍ فَيَدْخُلُ -حِينَئِذٍ- فِيمَنْ أَثْنَى اللهُ -تَعَالَى- عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ} [النور: 37].

ثُمَّ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ وَجْهَ الْأَمْرِ بِذَلِكَ فَقَالَ: (فَإِنَّ كُلًّا مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ)) أَيْ: كُلُّ أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ مُهَيَّأٌ وَمَصْرُوفٌ لِمَا قُدِّرَ لَهُ مِنَ الرِّزْقِ، وَرِزْقُهُ سَيَأْتِيهِ لَا مَحَالَةَ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَعَالَى- قَسَّمَ الرِّزْقَ وَقَدَّرَهُ لِكُلِّ أَحَدٍ وَفْقَ حِكْمَتِهِ لَا يَتَقَدَّمُ الرِّزْقُ وَلَا يَتَأَخَّرُ وَلَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ، بَلْ بِحَسَبِ إِرَادَةِ اللهِ وَعِلْمِهِ الْأَزَلِيِّ.

وَالنِّعَمُ وَالْفَضْلُ وَالْإِحْسَانُ جَمِيعُهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ الْمَنَّانِ، {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ۚ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 32-34].

* وَمِنْ مَفَاتِيحِ الرِّزْقِ: ذِكْرُ اللهِ.

عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((قَالَ نُوحٌ لِابْنِهِ: إِنِّي مُوصِيَك بِوَصِيَّةٍ وَقَاصِرُهَا كَيْ لَا تَنْسَاهَا، أُوصِيكَ بِاثْنَتَيْنِ وَأَنْهَاكَ عَنِ اثْنَتَيْنِ، أَمَّا اللَّتَانِ أُوصِيكَ بِهِمَا فَيَسْتَبْشِرُ اللهُ بِهِمَا وَصَالِحُ خَلْقِهِ، وَهُمَا يُكْثِرَانِ الْوُلُوجَ عَلَى اللهِ، أُوصِيكَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ فَإِنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَوْ كَانَتَا حَلْقَةً قَصَمَتْهُمَا، وَلَوْ كَانَتَا فِي كِفَّةٍ وَزَنَتْهُمَا -أَيْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ-، وَأُوصِيكَ بِسُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ فَإِنَّهَا صَلَاةُ الْخَلْقِ، وَبِهِمَا يُرْزَقُ الْخَلْقُ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا، وَأَمَّا اللَّتَانِ أَنْهَاكَ عَنْهُمَا فَيَحْتَجِبُ اللهُ مِنْهُمَا وَصَالِحُ خَلْقِهِ، أَنْهَاكَ عَنِ الشِّرْكِ وَالْكِبْرِ)). أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

الذِّكْرُ قُوَّةٌ لِلرُّوحِ وَالْبَدَنِ، يَبْعَثُ عَلَى الْهِمَّةِ وَالنَّشَاطِ، فَيُسَاعِدُ ذَلِكَ فِي الْجِدِّ فِي الْعَمَلِ وَطَلَبِ الْكَسْبِ، وَمِنْ ثَمَّ الْحُصُولُ عَلَى الرِّزْقِ، لِذَلِكَ كَانَ تَوْجِيهُ النَّبِيِّ ﷺ لِعَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنْ يَجْعَلَا خِتَامَ يَوْمِهِمَا ذِكْرَ اللهِ؛ فَعَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ فَاطِمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَتَتِ النَّبِيَّ ﷺ تَشْكُو إِلَيْهِ مَا تَلْقَى فِي يَدِهَا مِنَ الرَّحَى، وَبَلَغَهَا أَنَّهُ جَاءَهُ رَقِيقٌ، فَلَمْ تُصَادِفْهُ، فَذَكَرَتْ حَاجَتَهَا -ذَكَرَتْ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ-، فَلَمَّا جَاءَ أَخْبَرَتْهُ عَائِشَةُ، قَالَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((فَجَاءَنَا -أَيِ: النَّبِيُّ ﷺ- وَقَدْ أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا، فَذَهَبْنَا نَقُومُ -يَعْنِي: لَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ ﷺ وَدَخَلَ عَلَيْهِمَا ذَهَبْنَا نَقُومُ-)).

فَقَالَ: ((عَلَى مَكَانِكُمَا)).

((فَجَاءَ فَقَعَدَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا -أَيْ: بَيْنَهُ وَبَيْنَ فَاطِمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-- حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى بَطْنِي)).

فَقَالَ: ((أَلَا أَدُلُّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَا؛ إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا -أَوْ: أَوَيْتُمَا إِلَى فِرَاشِكُمَا فَسَبِّحَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَاحْمَدَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَكَبِّرَا أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ؛ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

((مِنْ مَفَاتِيحِ الرِّزْقِ: الْعَمَلُ بِطَاعَةِ اللهِ وَالصِّدْقُ))

مِنْ مَفَاتِيحِ الرِّزْقِ: الْعَمَلُ بِطَاعَةِ اللهِ، وَالْإِكْثَارُ مِنَ الْحَسَنَاتِ؛ فَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الْآخِرَةِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ بِهَا للهِ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الْآخِرَةِ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

أَيْ: لَا يَضِيعُ أَجْرُ حَسَنَةِ الْمُؤْمِنِ وَلَا يُنْقَصُهَا، بَلْ يُعْطَى الْمُؤْمِنُ بِتِلْكَ الْحَسَنَةِ أَجْرًا فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ دَفْعُ الْبَلَاءِ، وَتَوْسِعَةُ الرِّزْقِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَيُجَازِيهِ عَلَيْهَا بِرَفْعِ دَرَجَاتِهِ فِي الْجَنَّةِ؛ فَهُوَ يُجَازَى عَلَى حَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، الْمُؤْمِنُ يُجَازَى عَلَى حَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ إِذَا عَمِلَ حَسَنَةً فِي الدُّنْيَا؛ كَأَنْ فَكَّ أَسِيرًا، أَوْ أَنْقَذَ غَرِيقًا، أَوْ أَطْعَمَ جَائِعًا؛ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ بِهَا للهِ فِي الدُّنْيَا؛ أَيْ: يُجَازَى فِيهَا عَلَى فِعْلِهِ مِنَ الْقُرَبِ الَّتِي لَا تَحْتَاجُ لِنِيَّةٍ؛ بِنَحْوِ تَوْسِعَةٍ لِرِزْقِهِ، وَدَفْعِ مُصِيبَةٍ عَنْهُ، وَنَصْرٍ عَلَى عَدُوٍّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((إِنَّ لِلْحَسَنَةِ لَنُورًا فِي الْقَلْبِ، وَضِيَاءً فِي الْوَجْهِ، وَقُوَّةً فِي الْبَدَنِ، وَسَعَةً فِي الرِّزْقِ، وَمَحَبَّةً فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ، وَإِنَّ لِلسَّيِّئَةِ لَظُلْمَةً فِي الْقَلْبِ، وَسَوَادًا فِي الْوَجْهِ، وَوَهَنًا فِي الْبَدَنِ، وَضِيقًا فِي الرِّزْقِ، وَبِغْضَةً فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ)).

قَالَ تَعَالَى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا ۚ كَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} [الأعراف: 58].

مِنْ مَفَاتِيحِ الرِّزْقِ: الصِّدْقُ.

الصِّدْقُ طُمَأْنِينَةٌ وَمَنْجَاةٌ تَجْلِبُ الرِّضَا وَالْبَرَكَةَ مِنَ اللهِ، وَتَقِي مِنْ مَحْقِ بَرَكَةِ الرِّزْقِ؛ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

((صَدَقَا وَبَيَّنَا)): هَذَانِ أَمْرَانِ؛ صِدْقٌ وَبَيَانٌ، الصِّدْقُ فِيمَا يَكُونَ مَرْغُوبًا مِنَ الصِّفَاتِ، وَضِدُّهُ: وَصْفُ السِّلْعَةِ بِمَا لَيْسَ فِيهَا، وَالْبَيَانُ فِيمَا يَكُونُ مَكْرُوهًا مِنَ الصِّفَاتِ، وَضِدُّهُ: كِتْمَانُ الْعَيْبِ.

((بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا)) وَشِرَائِهِمَا؛ بِتَسْهِيلِ الْأَسْبَابِ الْمُقْتَضِيَةِ لِزِيَادَةِ الرِّبْحِ؛ مِنْ كَثْرَةِ الرَّاغِبِينَ، وَحُسْنِ الْمُعَامِلِ، وَمَنْعِ الْخِيَانَةِ فِي الْمُبْتَاعِ، وَالْحَسَدِ، وَالْعَدَاوَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْخُسْرَانِ.

((وَإِنْ كَتَمَا)): مَا فِي السِّلْعَةِ مِنَ الْعُيُوبِ وَنَحْوِهَا، ((وَكَذَبَا)): فِيمَا يَمْدَحَانِهَا، ((مُحِقَتْ)) أَيْ: ذَهَبَتْ وَتَلَفَتْ ((بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا))، فَلَمْ يَحْصُلَا مِنْهُ إِلَّا عَلَى مُجَرَّدِ التَّعَبِ.

((مِنْ مَفَاتِيحِ الرِّزْقِ: الدُّعَاءُ وَالزَّوَاجُ وَالِاسْتِقَامَةُ))

مِنْ مَفَاتِيحِ الرِّزْقِ: الدُّعَاءُ، وَتَعَلُّقُ الْقَلْبِ بِالْكَرِيمِ الْوَهَّابِ.

عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ؛ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ؛ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَمِنَ الْأَدِلَّةِ: مَا ذَكَرَهُ اللهُ -تَعَالَى- عَنْ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- حِينَمَا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ، ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ، وَالْتَجَأَ إِلَى اللهِ بِالدُّعَاءِ قَائِلًا: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24].

وَلِهَذَا كَانَ فِي شَرْعِ رَسُولِ اللهِ مُحَمَّدٍ ﷺ؛ فِي الصَّلَاةِ فِي الْجِلْسَةِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ: ((رَبِّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَاجْبُرْنِي، وَعَافِنِي، وَارْزُقْنِي، وَاهْدِنِي، وَارْفَعْنِي)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَه بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَمَعْنَى: ((اللهم ارْزُقْنِي)) أَيْ: مَا يَصْلُحُ بِهِ قَلْبِي مِنَ الْعِلْمِ، وَالْهُدَى، وَالْمَعْرِفَةِ، وَالْإِيمَانِ الشَّامِلِ لِكُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ وَخُلُقٍ حَسَنٍ، وَمَا بِهِ يَصْلُحُ بَدَنِي مِنَ الرِّزْقِ الْحَلَالِ الْهَنِيءِ الَّذِي لَا صُعُوبَةَ فِيهِ، وَلَا تَبِعَةَ تَعْتَرِيهِ.

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {ابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ ۖ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت: 17].

اطْلُبُوا الرِّزْقَ مِنَ اللهِ، لَا مِنْ غَيْرِهِ؛ فَإِنَّهُ الْقَادِرُ عَلَى ذَلِكَ، وَغَيْرُهُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا، فَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ، وَاعْبُدُوهُ وَحْدَهُ، وَاشْكُرُوا لَهُ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ.

مِنْ مَفَاتِيحِ الرِّزْقِ: الزَّوَاجُ.

قَالَ تَعَالَى: {وَأَنكِحُوا الْأَيَامَىٰ مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ ۚ إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور: 32].

وَزَوِّجُوا -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- مَنْ لَا زَوْجَ لَهُ مِنَ الْأَحْرَارِ وَالْحَرَائِرِ، وَالصَّالِحِينَ مِنْ عَبِيدِكُمْ وَجَوارِيكُمْ، وَيَسِّرُوا -أَيُّهَا الْأَوْلِيَاءُ- لِلشَّبَابِ أُمُورَ الِالْتِقَاءِ الْحَلَالِ، وَمَهِّدُوا لَهُمْ سَبِيلَ الْإِعْفَافِ، إِنْ يَكُنِ الرَّاغِبُ فِي الزَّوَاجِ لِلْعِفَّةِ فَقِيرًا يُغْنِهِ اللهُ مِنْ وَاسِعِ رِزْقِهِ، وَاللهُ وَاسِعٌ كَثِيرُ الْخَيْرِ، عَظِيمُ الْفَضْلِ، عَلِيمٌ بِأَحْوَالِ عِبَادِهِ، وَلَا يُثْقِلُهُ إِغْنَاءُ النَّاسِ؛ فَعَطَاءُ اللهِ دَائِمٌ لَا يَنْقَطِعُ؛ لِأَنَّ خَزَائِنَهُ لَا تَنْفَدُ وَلَا تَنْقُصُ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُتَزَوِّجَ الَّذِي وَعَدَهُ اللهُ بِالْغِنَى هُوَ الَّذِي يُرِيدُ بِتَزْوِيجِهِ الْإِعَانَةَ عَلَى طَاعَةِ اللهِ بِغَضِّ الْبَصَرِ، وَحِفْظِ الْفَرْجِ.

قِيلَ: الْغِنَى هَاهُنَا الْقَنَاعَةُ، {إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ}.

وَقِيلَ: اجْتِمَاعُ الرِّزْقَيْنِ؛ رِزْقِ الزَّوْجَةِ وَرِزْقِ الزَّوْجِ.

قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((عَجِبْتُ لِمَنِ ابْتَغَى الْغِنَى بِغَيْرِ النِّكَاحِ، وَاللهُ -جَلَّ وَعَلَا- يَقُولُ: {إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ}).

كَثِيرًا مَا تُغْلَقُ الْأَبْوَابُ فِي وَجْهِ الْعَزَبِ، أَوْ يَتَعَسَّرُ عَلَيْهِ الْبَحْثُ عَنْ عَمَلٍ يُغْنِيهِ عَنِ النَّاسِ، أَوْ يَكُونُ عَامِلًا يَجْتَهِدُ وَيَكْدَحُ وَيَكْسَبُ رِزْقَهُ؛ لَكِنْ كَثِيرًا مَا يُنْفِقُ أَمْوَالَهُ وَيُبَعْثِرُهَا وَيُبَدِّدُهَا، وَحِينَ يَتَزَوَّجُ يُبَارِكُ اللهُ لَهُ فِي مَالِهِ وَفِي نَفَقَاتِهِ، وَيُرْزَقُ رُشْدًا وَحِكْمَةً فِي صَرْفِهِ وَإِنْفَاقِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى مَنْ يَعُولُ.

مِنْ مَفَاتِيحِ الرِّزْقِ: الِاسْتِقَامَةُ.

وَقَدْ أَمَرَ اللهُ عِبَادَهُ بِالِاسْتِقَامَةِ عَلَى شَرْعِهِ، وَسُؤَالِ اللهِ الْهِدَايَةَ لِطَرِيقِ الِاسْتِقَامَةِ وَالثَّبَاتِ عَلَيْهِ؛ فَفِي كُلِّ صَلَاةٍ وَفِي كُلِّ رَكْعَةٍ يُرَدِّدُ الْمُصَلِّي قَوْلَهُ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6].

وَكَذَلِكَ هِيَ وَصِيَّةٌ نَبَوِيَّةٌ عَظِيمَةٌ؛ حَيْثُ جَاءَ فِي حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللهِ الثَّقَفِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا غَيْرَكَ)).

قَالَ ﷺ: ((قُلْ: آمَنْتُ بِاللهِ، ثُمَّ اسْتَقِمْ)).

فَبَعْدَ تَحْقِيقِ الْإِيمَانِ لَا بُدَّ مِنَ الِاسْتِقَامَةِ الَّتِي تَعْنِي لُزُومَ الطَّاعَةِ، وَالِاسْتِجَابَةَ لِأَمْرِ اللهِ وَرَسُولِهِ.

وَالِاسْتِقَامَةُ تَكْفُلُ لِلْعَبْدِ جَلْبَ الْأَرْزَاقِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا} [الجن: 16].

هُوَ الَّذِي قَالَ؛ الْكَرِيمُ الْوَهَّابُ، إِنِ اسْتَقَمْتَ رُزِقْتَ!

{وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا}.

لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ وَالْإِيمَانِ وَالْهُدَى لَبَسَطْنَا لَهُمْ فِي الرِّزْقِ، وَوَسَّعْنَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا.

((مِنْ مَفَاتِيحِ الرِّزْقِ: النِّيَّةُ الصَّالِحَةُ وَإِقَامَةُ شَرْعِ اللهِ))

مِنْ مَفَاتِيحِ الرِّزْقِ: النِّيَّةُ الصَّالِحَةُ.

وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُسْلِمَ يَسِيرُ فِي حَيَاتِهِ عَابِدًا للهِ، مُسْتَشْعِرًا مَرْضَاةَ رَبِّهِ الرَّزَّاقِ، وَتِلْكَ الْعِبَادَةُ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ قَصْدٍ وَنِيَّةٍ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ.

نِيَّةُ الْمَرْءِ مَطِيَّتُهُ نَحْوَ الْخَيْرِ وَالْهُدَى، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ النِّيَّةُ صَادِقَةً وَصَالِحَةً وَخَالِصَةً للهِ -تَعَالَى-؛ حَتَّى فِي التَّعَامُلِ مَعَ النَّاسِ، وَمَعَ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، وَهُنَا تَحْصُلُ الْبَرَكَةُ فِي كَسْبِ قُلُوبِ النَّاسِ، وَفِي كَسْبِ الْأَمْوَالِ.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللهُ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

فَانْظُرْ كَيْفَ جَعَلَ النِّيَّةَ الصَّالِحَةَ سَبَبًا قَوِيًّا لِلرِّزْقِ وَأَدَاءِ اللهِ عَنِ الْعَبْدِ، وَجَعَلَ النِّيَّةَ السَّيِّئَةَ سَبَبًا لِلتَّلَفِ وَالْإِتْلَافِ، وَخَسَارَةِ الْأَمْوَالِ وَالْأَرْزَاقِ، وَرُبَّمَا كَانَ سَبَبًا فِي فَسَادِ وَتَلَفِ الْعَافِيَةِ، وَقِلَّةِ التَّوْفِيقِ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا.

مِنْ مَفَاتِيحِ الرِّزْقِ: إِقَامَةُ شَرْعِ اللهِ.. تَحْكِيمُ الشَّرِيعَةِ، وَالْقِيَامُ بِكُلِّ مَا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ مِنَ الْعَقَائِدِ، وَالْأَخْلَاقِ، وَالْعِبَادَاتِ، وَالْمُعَامَلَاتِ؛ كُلُّ ذَلِكَ مِنْ مَفَاتِيحِ الرِّزْقِ.

{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} [المائدة: 66].

فَلَا صِحَّةَ وَلَا حُجَّةَ لِعَاقِلٍ فِي تَغَيُّرِ الزَّمَانِ، أَوْ تَطَوُّرِ الْإِنْسَانِ، وَتَفَرُّعِ الْحَيَاةِ وَاشْتِبَاكِ الْأُمُورِ، حُكْمُ اللهِ سَائِدٌ فِي كُلِّ مَنْهَجٍ أَوْ قَانُونٍ، فَبِحِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ أَنْزَلَ شَرْعَهُ مَنْهَجًا لِلنَّاسِ فِي كُلِّ عَصْرٍ، فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَجَعَلَهُ تَامًّا كَامِلًا، {أَلَايَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14].

((الرِّزْقُ يَطْلُبُ صَاحِبَهُ كَمَا أَنَّ أَجَلَهُ يَطْلُبُهُ!))

عَبْدَ اللهِ! إِذَا أَعْوَزَكَ الرِّزْقُ فَلَا تَطْلُبْهُ بِكَثْرَةِ الْحِرْصِ، فَلَنْ يَزِيدَكَ فِي الرِّزْقِ الْمُقَدَّرِ شَيْئًا، وَلَنْ يَأْتِيَكَ إِلَّا مَا قَسَمَهُ اللهُ -تَعَالَى- لَكَ، فَاطْلُبْ مِنْهُ أَعْلَاهُ وَأَجَلَّهُ، وَأَصْفَاهُ وَأَحَلَّهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ الرِّزْقَ يَطْلُبُ صَاحِبَهُ كَمَا أَنَّ أَجَلَهُ يَطْلُبُهُ، بَلْ أَكْثَرُ؛ فَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: ((الرِّزْقُ أَشَدُّ طَلَبًا لِلْعَبْدِ مِنْ أَجَلِهِ)). رَوَاهُ فِي ((مُسْنَدِ الشِّهَابِ))، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ الْجَامِعِ)).

((الرِّزْقُ أَشَدُّ طَلَبًا لِلْعَبْدِ مِنْ أَجَلِهِ))، وَأَجَلُهُ يَطْلُبُهُ، وَكَذَلِكَ الرِّزْقُ يَطْلُبُهُ طَلَبًا هُوَ أَشَدُّ مِنَ الْأَجَلِ كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ.

فَمَا كُتِبَ لِلْعَبْدِ مِنْ رِزْقٍ وَأَجَلٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَسْتَكْمِلَهُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ، عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَوْ أَنَّ ابْنَ آدَمَ هَرَبَ مِنْ رِزْقِهِ كَمَا يَهْرَبُ مِنَ الْمَوْتِ لَأَدْرَكَهُ رِزْقُهُ كَمَا يُدْرِكُهُ الْمَوْتُ)). أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي ((الْحِلْيَةِ))، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ الْجَامِعِ)).

وَأَيْنَ يَمْضِي هَارِبٌ مِنْ دَمِهِ؟!

يَعْنِي: لَوْ أَنَّ الْإِنْسَانَ أَرَادَ أَنْ يَهْرَبَ مِنْ أَجَلِهِ فَأَيْنَ يَمْضِي؟!! أَيْنَ يَخْتَبِئُ؟!! أَيْنَ يَذْهَبُ؟!!

لَا بُدَّ أَنْ يُدْرِكَهُ أَجَلُهُ، وَكَذَلِكَ الرِّزْقُ يَطْلُبُهُ كَمَا يَطْلُبُهُ الْأَجَلُ، وَهُوَ مُدْرِكُهُ لَا مَحَالَةَ.

فَالْإِنْسَانُ يُجْمِلُ الطَّلَبَ؛ فَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَيُّهَا النَّاسُ! اتَّقُوا اللهَ، وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ؛ فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا، وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، خُذُوا مَا حَلَّ، وَدَعُوا مَا حَرُمَ)). الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ سُنَنِ ابْنِ مَاجَه)).

فَالرِّزْقُ -رِزْقُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-- لَا يَجُرُّهُ حِرْصُ حَرِيصٍ، وَلَا يَرُدُّهُ كَرَاهِيَةُ كَارِهٍ، كَالْمَوْتِ كَالْأَجَلِ لَا بُدَّ أَنْ يَصِلَ إِلَى صَاحِبِهِ.

وَكَيْفَ أَخَافُ الْفَقْرَ وَاللهُ رَازِقِي   =  وَرَازِقُ هَذَا الْخَلْقِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ

تَكَفَّلَ بِالْأَرْزَاقِ لِلْخَلْقِ كُلِّهِمِ  =   وَلِلضَّبِّ فِي الْبَيْدَاءِ وَالْحُوتِ فِي الْبَحْرِ

فَاللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- تَكَفَّلَ بِرِزْقِ الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ فِي جَوْفِ الظُّلُمَاتِ؛ ظُلْمَةِ الْبَحْرِ وَظُلْمَةِ اللَّيْلِ، فَتَكَفَّلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِلْحُوتِ بِالرِّزْقِ فِي ظُلْمَةِ الْبَحْرِ، وَتَكَفَّلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِلضَّبِّ فِي الْبَيْدَاءِ بِالرِّزْقِ.

وَكَيْفَ أَخَافُ الْفَقْرَ وَاللهُ رَازِقِي   =  وَرَازِقُ هَذَا الْخَلْقِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ

تَكَفَّلَ بِالْأَرْزَاقِ لِلْخَلْقِ كُلِّهِمِ  =   وَلِلضَّبِّ فِي الْبَيْدَاءِ وَالْحُوتِ فِي الْبَحْرِ

إِذَا سَلَكْتَ هَذَا الطَّرِيقَ كُنْتَ مُتَعَلِّقًا بِالرَّزَّاقِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَانْتَفَعْتَ بِالرِّزْقِ وَانْتَفَعَ بِكَ غَيْرُكَ، وَضُوعِفَ لَكَ الرِّزْقُ الْبَاطِنُ وَالرِّزْقُ الظَّاهِرُ فِي الْمَنْزِلِ الطَّاهِرِ فِي الْمَقْعَدِ الصِّدْقِ عِنْدَ الْمَلِيكِ الْمُقْتَدِرِ.

وَرِزْقُ الْعِبَادِ لِبَعْضِهِمُ الْبَعْضَ إِنَّمَا هُوَ بِتَيْسِيرِ اللهِ وَتَقْدِيرِهِ، وَلَيْسُوا بِرَازِقِينَ عَلَى الْحَقِيقَةِ، فَالرَّزَّاقُ عَلَى الْحَقِيقَةِ هُوَ اللهُ، وَلَكِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ بَعْضَهُمْ مَرْزُوقًا مِنْ بَعْضٍ بِرِزْقِهِ هُوَ؛ إِذْ هُوَ الرَّزَّاقُ حَقِيقَةً وَبِتَقْدِيرِهِ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ.

فَإِذَنْ؛ تَقُولُ: الْعَبْدُ يَرْزُقُ عِيَالَهُ، وَتَقُولُ: الْأَمِيرُ يَرْزُقُ جُنْدَهُ، وَالرَّزَّاقُ لِلْأَمِيرِ وَالْمَأْمُورِ وَالْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ هُوَ الرَّزَّاقُ الْكَرِيمُ وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ، وَهُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الْعِبَادَ مِنَ الْعَدَمِ، وَهُوَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَخْرَجَ مِنَ الْعِبَادِ إِلَى الْعِبَادِ مَا يَشَاءُ بِتَقْدِيرِهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، فَكُلُّ مَا وَصَلَ إِلَيْهِمْ مِنْهُمْ فَهُوَ مِنْ رِزْقِهِ أَجْرَاهُ عَلَى أَيْدِيهِمْ، وَهَذَا الرِّزْقُ مِنْهُ هُوَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

فَاللهُ جَعَلَ رِزْقَ الْخَلْقِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، وَالرَّزَّاقُ هُوَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَإِذَا كَانَ الرِّزْقُ بِيَدِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَمِنْهُ فَإِنَّ قَوْلَ بَعْضِ النَّاسِ: إِنَّ الرِّزْقَ لِلشَّاطِرِ -وَفِي اللُّغَةِ: أَنَّ الشَّاطِرَ هُوَ اللِّصُّ، وَالشُّطَّارُ هُمُ اللُّصُوصُ-، النَّاسُ يَقُولُونَ كَلَامًا يُنَافِي التَّوْحِيدَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْيَانِ، وَيَرْبِطُونَ الْأَسْبَابَ بِالرِّزْقِ ارْتِبَاطًا أَوَّلِيًّا، وَهَذَا خَطَأٌ.. فَيَقُولُونَ: إِنَّ الشُّطَّارَ وَحْدَهُمْ هُمُ الَّذِينَ تَكْثُرُ أَرْزَاقُهُمْ، لَيْسَ بِالْحِيلَةِ -وَاللهِ-، وَإِنَّمَا بِالتَّوَكُّلِ وَبَذْلِ الْمَجْهُودِ، وَيُؤْتِي اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَنْ شَاءَ مَا شَاءَ مَتَى شَاءَ وَكَيْفَ شَاءَ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فَلَيْسَ بِالْحِيلَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ بِالتَّوَكُّلِ وَالْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ، يَتَوَكَّلُ عَلَى رَبِّ الْأَرْبَابِ، وَيَأْخُذُ بِالْأَسْبَابِ، فَيُؤْتِيهِ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَا يَشَاءُ.

وَقَدْ يَأْخُذُ بِالْأَسْبَابِ مُتَوَكِّلًا عَلَى الْكَرِيمِ الْوَهَّابِ وَلَا يُؤْتِيهِ شَيْئًا، وَيَكُونُ الْمَنْعُ عَيْنَ الْعَطَاءِ.. يَكُونُ مَنْعُهُ مَا طَلَبَ عَيْنَ عَطَائِهِ، كَمَا يَكُونُ -أَحْيَانًا- عَطَاؤُهُ عَيْنَ حِرْمَانِهِ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَدْ يُؤْتِيكَ.. تَطْلُبُ الرِّزْقَ وَلَكَ هِمَّةٌ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، وَتُقْبِلُ عَلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مُتَبَتِّلًا أَنْ يَرْزُقَكَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، فَإِذَا آتَاكَ الرِّزْقَ انْقَطَعْتَ عَنْ طَلَبِ الْعِلْمِ، فَتَكُونُ قَدْ حُرِمْتَ، أَوْ تَكُونُ لَكَ عِبَادَةٌ، وَتَطْلُبُ الدُّنْيَا، فَإِذَا مَا دَخَلَتْ عَلَيْكَ الدُّنْيَا انْقَطَعَتْ عَنْكَ أَسْبَابُ الْآخِرَةِ، لَيْسَ هَذَا شَرْطًا، أَنْ تَكُونَ الدُّنْيَا فِي الْيَدِ، لَا فِي الْقَلْبِ، وَيَكُونُ الْقَلْبُ مُعَلَّقًا بِالرَّبِّ، لَيْسَ شَرْطًا؛ فَقَدْ يُؤْتِي اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الصَّالِحَ الْمُنِيبَ الْمُخْبِتَ دُنْيَا وَاسِعَةً، فَتَكُونُ فِي يَدِهِ وَلَا تَكُونُ فِي قَلْبِهِ، وَمِنْ دُعَاءِ الصَّالِحِينَ: اللهم اجْعَلِ الدُّنْيَا فِي أَيْدِينَا وَلَا تَجْعَلْهَا فِي قُلُوبِنَا، فَإِذَا كَانَتْ فِي أَيْدِينَا وَلَمْ تَتَعَلَّقْ بِهَا قُلُوبُنَا أَنْفَقْنَاهَا فِيمَا يُحِبُّهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَيَرْضَاهُ، وَحُفِظَتْ عَلَيْنَا كَرَامَتُنَا الْإِسْلَامِيَّةُ، وَحُفِظَ عَلَيْنَا مَاءُ وُجُوهِنَا، وَوَصَلْنَا أَرْحَامَنَا، وَأَعْطَيْنَا الْأَيْتَامَ وَالثَّكَالَى وَالْمُحْتَاجِينَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الْبِرِّ، وَ ((نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ))، فَيَكُونُ فِي يَدِهِ وَلَا يَكُونُ فِي قَلْبِهِ.

وَلَكِنِ الْآنَ نَتَأَمَّلْ.. لِأَنَّ الْإِنْسَانَ رُبَّمَا آتَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ شَيْئًا يَطْلُبُهُ وَيَكُونُ عَطَاؤُهُ عَيْنَ حِرْمَانِهِ، وَرُبَّمَا يَحْرِمُهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَا طَلَبَ وَيَكُونُ حِرْمَانُهُ عَيْنَ عَطَائِهِ، فَسَلِّمْ لِرَبِّكَ، وَأَقْبِلْ عَلَيْهِ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ -تَعَالَى- بِقَلْبِكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- خَزَائِنُهُ مَلْأَى، لَا تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، وَأَنَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هُوَ أَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ، وَهُوَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ، فَإِذَا طَلَبْتَ فَمَنَعَ فَالْمَنْعُ هُوَ الْعَطَاءُ، فَاللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- إِنَّمَا يُعْطِيكَ عَلَى حَسَبِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، فَإِذَا كُنْتَ صَالِحًا أَعْطَاكَ مَا يُصْلِحُكَ، فَرُبَّمَا طَلَبْتَ وَأَنْتَ لَا تَدْرِي شَيْئًا لَا يَكُونُ فِيهِ سِوَى طَلَاحِكَ، فَاللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- -حِينَئِذٍ- إِذَا حَرَمَكَ فَإِنَّهُ إِنَّمَا قَدْ أَعْطَاكَ.

((رِسَالَةُ طُمَأْنِينَةٍ لِكُلِّ النَّاسِ فِي أَمْرِ الرِّزْقِ))

عِبَادَ اللهِ! يَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۚ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ} [طه: 131].

لَا تَنْظُرْ مُعْجَبًا إِلَى هَؤُلَاءِ الْمُتْرَفِينَ وَأَشْبَاهِهِمْ وَنُظَرَائِهِمْ وَمَا هُمْ فِيهِ مِنَ النِّعَمِ، لَا تَنْكَسِرْ؛ إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا وَرَاءَ الظَّوَاهِرِ، وَكَمَا قِيلَ: إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْعَمَ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ بِنِعَمٍ كَثِيرَةٍ مُتَفَاوِتَةٍ، حَاصِلُهَا مُتَسَاوٍ عِنْدَ الْجَمِيعِ؛ يَعْنِي: أَنْعَمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى عَبْدٍ بِالْغِنَى وَالصِّحَّةِ، حَرَمَهُ الْوَلَدَ، حَرَمَهُ التَّوْفِيقَ وَالْهِدَايَةَ، حَرَمَهُ طَاعَةَ الزَّوْجَةِ، حَرَمَهُ مِنْ أُمُورٍ وَأَعْطَاهُ أُمُورًا، لَوْ كَانَ لِكُلِّ مَا أُعْطِيَ نِسْبَةٌ مِئَوِيَّةٌ، ثُمَّ جُمِعَ هَذَا؛ لَكَانَ مِائَةً بِالْمِائَةِ -مَثَلًا-، وَهَذَا يُسَاوِي آخَرَ لَمْ يُعْطَ مَالًا وَأُعْطِيَ صِحَّةً، الْأَوَّلُ أُعْطِيَ عَافِيَةً وَلَمْ يُعْطَ مَالًا، هَذَا يُعْطَى مَالًا وَلَا يُعْطَى عَافِيَةً، هَذَا يُعْطَى وَلَدًا وَهَذَا لَا يُعْطَى، وَهَذَا يُعْطَى وَلَدًا وَلَا يُرْزَقُ النَّجَابَةَ فِي الْوَلَدِ، بَلْ يَكُونُ نَكَدًا عَلَيْهِ وَحَسْرَةً فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، فَإِذَا مَا جَمَعْتَ هَذَا الْمَحْصُولَ فِي نِهَايَةِ الْأَمْرِ؛ وَجَدْتَكَ مُسَاوٍ لِمَنْ تَسْتَعْظِمُ حَالَهُ.

ثُمَّ أَنْتَ لَا تَدْرِي مَا وَرَاءَ الظَّوَاهِرِ، النَّاسُ عِنْدَهَا مِنَ الْهُمُومِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ وَمَا هُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ.

اقْنَعْ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ!

وَلَا تَنْظُرْ وَلَا تَمُدَّ عَيْنَكَ إِلَى مَا مَتَّعَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهِ غَيْرَكَ مِنَ الْمُتْرَفِينَ وَأَشْبَاهِهِمْ وَنُظَرَائِهِمْ!

انْكَفِأْ عَلَى نَفْسِكَ فِيمَا آتَاكَ اللهُ، قَانِعًا بِهِ رَاضِيًا بِهِ!

وَإِذَا أَرَدْتَ الزِّيَادَةَ فَهَذِهِ طُرُقُ الزِّيَادَةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا؛ مَفَاتِيحُ الرِّزْقِ دَلَّتْ عَلَيْهَا الشَّرِيعَةُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَكَذَلِكَ مِنْ هَدْيِ سَلَفِ الْأُمَّةِ، فَالطَّرِيقُ أَمَامَكَ مُعَبَّدٌ، اسْلُكْهُ إِنْ شِئْتَ؛ وَلَكِنْ لَا تَنْظُرَنَّ إِلَى أَحَدٍ، وَلَا تَحْسِدَنَّ أَحَدًا، وَلَا تَحْقِدَنَّ عَلَى أَحَدٍ!

أَسْأَلُ اللهَ -تَعَالَى- أَنْ يَرْزُقَنَا رِزْقًا حَلَالًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ مُوَسَّعًا فِيهِ، لَا حُرْمَةَ فِيهِ وَلَا شُبْهَةَ، وَأَنْ يُحْسِنَ خِتَامَنَا أَجْمَعِينَ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

المصدر: مَعَانِي الرِّزْقِ وَمَفَاتِيحُهُ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  مظاهر التوحيد في عبادة الحج
  مِنْ مَظَاهِرِ الْعَظَمَةِ فِي الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ السَّمَاحَةُ وَالتَّيْسِيرُ
  طَلَاقَةُ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ فِي الْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ
  مَفْهُومُ الشَّهَادَةِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالِادِّعَاءِ
  أَدَبُ الْحِوَارِ وَالتَّعْبِيرِ عَنِ الرَّأْيِ
  الْمَفَاهِيمُ الصَّحِيحَةُ لِلْهِجْرَةِ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ
  فضل الصيام وسلوك الصائمين
  أَهَمِّيَّةُ الِاسْتِثْمَارِ فِي حَيَاتِنَا
  التَّأَسِّي بِأَخْلَاقِ الرَّسُولِ الْكَرِيمِ ﷺ
  قُوا أنفسَكم وأهليكم نارًا
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان