أَهْلُ الِاسْتِجَابَةِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ

أَهْلُ الِاسْتِجَابَةِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ

((أَهْلُ الِاسْتِجَابَةِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ َّ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ))

فَإِنَّ الِاسْتِجَابَةَ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَالِاسْتِجَابَةَ لِنَبِيِّهِ ﷺ أَمْرٌ عَظِيمٌ فِي دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَمَرَ بِهِ فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ، وَحَضَّ عَلَيْهِ نَبِيُّهُ الْكَرِيمُ ﷺ.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 24-25].

((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَّقُوا بِاللهِ رَبًّا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا وَرَسُولًا! اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ بِالطَّاعَةِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ مِنَ الْحَقِّ؛ فَفِي الِاسْتِجَابَةِ إِصْلَاحُ حَيَاتِكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاعْلَمُوا -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، وَالْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَحُولَ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَمَا يَشْتَهِيهِ قَلْبُهُ؛ فَهُوَ -سُبْحَانَهُ- الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَجَابَ لَهُ إِذَا دَعَاكُمْ؛ إِذْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ تُجْمَعُونَ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ، فَيُجَازِي كُلًّا بِمَا يَسْتَحِقُّ)): {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24].

((يَأْمُرُ -تَعَالَى- عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا يَقْتَضِيهِ الْإِيمَانُ مِنْهُمْ وَهُوَ الِاسْتِجَابَةُ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ، أَيْ: الِانْقِيَادُ لِمَا أَمَرَا بِهِ وَالْمُبَادَرَةُ إِلَى ذَلِكَ وَالدَّعْوَةُ إِلَيْهِ، وَالِاجْتِنَابُ لِمَا نَهَيَا عَنْهُ، وَالِانْكِفَافُ عَنْهُ وَالنَّهْيُ عَنْهُ.

وَقَوْلُهُ: {إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} وَصْفٌ مُلَازِمٌ لِكُلِّ مَا دَعَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَيْهِ، وَبَيَانٌ لِفَائِدَتِهِ وَحِكْمَتِهِ؛ فَإِنَّ حَيَاةَ الْقَلْبِ وَالرُّوْحِ بِعُبُودِيَّةِ اللَّهِ -تَعَالَى- وَلُزُومِ طَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ عَلَى الدَّوَامِ.

ثُمَّ حَذَّرَ عَنْ عَدَمِ الِاسْتِجَابَةِ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ فَقَالَ: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} فَإِيَّاكُمْ أَنْ تَرُدُّوا أَمْرَ اللَّهِ أَوَّلَ مَا يَأْتِيكُمْ، فَيُحَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ إِذَا أَرَدْتُمُوهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ، يُقَلِّبُ الْقُلُوبَ حَيْثُ شَاءَ وَيُصَرِّفُهَا أَنَّى شَاءَ.

فَلْيُكْثِرِ الْعَبْدُ مِنْ قَوْلِ: يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ، يَا مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ، اصْرِفْ قَلْبِي إِلَى طَاعَتِك..

{وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أَيْ: تُجْمَعُونَ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ، فَيُجَازِي الْمُحْسِنَ بِإِحْسَانِهِ، وَالْمُسِيءَ بِعِصْيَانِهِ)).

فَبَيَّنَ لَنَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ هَذَا الْأَمْرَ الْجَلِيلَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ نَلْحَظَهُ بِعَيْنِ الرِّعَايَةِ، وَأَنْ نُقْبِلَ عَلَيْهِ بِلَحْظِ الْعِنَايَةِ، وَأَنْ يَكُونَ دَائِمًا مَاثِلًا لَنَا تَحْتَ أَبْصَارِنَا، يَدُورُ فِي دِمَائِنَا، وَتَتَلَقَّفُهُ الْأَلْسُنُ حَضًّا عَلَيْهِ وَمُثَابَرَةً لِفِعْلِهِ، وَهُوَ الِاسْتِجَابَةُ للهِ وَلِرَسُولِهِ ﷺ.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}: يُنَادِيهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهَذَا الْوَصْفِ الشَّفِيفِ وَالنِّدَاءِ الْكَرِيمِ؛ فَيَقُولُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَاصِفًا إِيَّاهُمْ بِالْإِيمَانِ: إِنَّهُ إِذَا مَا كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ حَقًّا فَإِنَّ مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ أَنْ تَسْتَجِيبُوا للهِ، وَأَنْ تَسْتَجِيبُوا لِرَسُولِهِ ﷺ.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ}: وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِالْخَيْرِ، وَالنَّبِيُّ ﷺ لَا يَدُلُّ إِلَّا عَلَى الْبِرِّ، فَإِذَا مَا دَعَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَى فِعْلِ شَيْءٍ فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ إِلَّا الْخَيْرُ، وَكَذَلِكَ إِذَا مَا أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِشَيْءٍ فَإِنَّهُ لَا يُتَحَصَّلُ مِنْ وَرَائِهِ إِلَّا عَلَى الْبِرِّ.

 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَرْسَلَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ؛ لِيُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمِنَ الْغِوَايَةِ إِلَى الْهِدَايَةِ وَمِنَ الضَّلَالِ إِلَى الرَّشَادِ، أَرْسَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ لِيُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ؛ مِنْ مَوْتِ الْقُلُوبِ إِلَى حَيَاتِهَا بِصَفَائِهَا وَإِقْبَالِهَا عَلَى رَبِّهَا -جَلَّ وَعَلَا-.

{اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}، إِذَا دَعَاكُمْ إِلَى تِلْكَ الْعَقِيدَةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا ﷺ؛ لِتُحْيِيَ الْقُلُوبَ مِنْ بَعْدِ مَمَاتِهَا، فَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهَا فُرْقَانًا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَبَيْنَ الضَّلَالِ وَالْهُدَى وَبَيْنَ الظَّلَامِ وَالنُّورِ.

{اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}: مِنْ تِلْكَ الْعِبَادَةِ الَّتِي يُخْلِصُهَا الْمَرْءُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَيَكُونُ عَابِدًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَقًّا.

{اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} مِنْ شَرِيعَتِهِ الَّتِي تَجْعَلُكُمْ أَحْرَارًا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ، فَلَا سُلْطَانَ لِعَبْدٍ عَلَى عَبْدٍ، وَإِنَّمَا الْجَمِيعُ سَوَاءٌ أَمَامَ وَإِزَاءَ شَرِيعَةِ اللهِ.

{اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} لِمَا يُحْيِيكُمْ فِي أَمْرِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ، مِنْ أَجْلِ إِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- فِي أَرْضِهِ، مِنْ أَجْلِ أَنْ تَكُونَ الرَّايَةُ خَافِقَةً خَفَّاقَةً فِي عُلْيَا السَّمَاوَاتِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَلَا مَعْبُودَ بِحَقٍّ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ هُوَ رَسُولُهُ حَقًّا وَنَبِيُّهُ صِدْقًا ﷺ.

وَلَا يَضُرُّ النَّبِيَّ ﷺ بِحَالٍ أَبَدًا مَا لَمَزَهُ بِهِ اللَّامِزُونَ، وَلَا مَا تَهَكَّمَ عَلَيْهِ بِه الْمُتَهَكِّمُونَ، وَلَا مَا أَثَارَهُ اللَّاغِطُونَ حَوْلَ جَنَابِهِ الرَّفِيعِ ﷺ.. مَا أَثَارَهُ اللَّاغِطُونَ مِنْ تِلْكَ الْهَنَاتِ الَّتِي لَا تَخْرُجُ إِلَّا مِنْ تِلْكَ الْأَلْسِنَةِ الْفَاجِرَةِ وَالْقُلُوبِ الْكَافِرَةِ، فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَقُولُ لِنَبِيِّهِ ﷺ: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 95].

فَمَاذَا تَفْعَلُ الْكِلَابُ إِزَاءَ السَّحَابِ؟!!

وَمَاذَا تَفْعَلُ الْكِلَابُ إِذَا كَانَتِ الْقَافِلَةُ تَسِيرُ؟!!

وَمَا عُوَاءُ الْكِلَابِ فِي الْمُنْتَهَى إِلَّا عُوَاؤُهَا، وَمَا نِبَاحُهَا إِلَّا نَبِيحُهَا، وَالنَّبِيُّ ﷺ لَا يَضُرُّهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ -بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي وَنَفْسِي ﷺ-.

اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- دَعَانَا إِلَى الِاسْتِجَابَةِ إِلَيْهِ وَإِلَى نَبِيِّهِ ﷺ إِذَا دَعَانَا لِمَا يُحْيِينَا، وَهَذَا الشَّرْعُ الْأَغَرُّ هُوَ الرُّوحُ الَّتِي إِذَا مَا فَقَدَهَا الْعَبْدُ صَارَ جَسَدًا بِلَا رُوحٍ، وَمَاذَا يَصْنَعُ الْجَسَدُ بِلَا رُوحٍ؟!! وَمَا هُوَ إِلَّا رِمَّةٌ بَعْدُ وَجِيفَةٌ مُنْتِنَةٌ، وَأَمَّا الْحَيَاةُ الْحَقِيقِيَّةُ فَهِيَ الَّتِي تَكُونُ فِي طَاعَةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَفِي الِاسْتِجَابَةِ لِأَمْرِ نَبِيِّهِ ﷺ.

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ)).

النَّبِيُّ ﷺ أَمَرَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالِاسْتِجَابَةِ لَهُ فِي كُلِّ أَمْرٍ، وَفِي الِانْتِهَاءِ عَمَّا نَهَانَا عَنْهُ ﷺ.

وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)) بِسَنَدِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كُنْتُ أُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ وَالنَّبِيُّ ﷺ حَاضِرٌ، فَنَادَانِي، فَلَمْ أُجِبْهُ حَتَّى فَرَغْتُ مِنَ الصَّلَاةِ ثُمَّ أَقْبَلْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ لِي: ((مَا مَنَعَكَ أَنْ تُجِيبَنِي إِذْ دَعَوْتُكَ؟)).

قَالَ: قُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي كُنْتُ فِي صَلَاةٍ)).

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}؟)).

ثُمَّ قَالَ لَهُ ﷺ -لِيُؤْنِسَهُ مِنْ وَحْشَتِهِ فِي الْمُرَاجَعَةِ الَّتِي رَاجَعَهُ إِيَّاهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا لَمْ يُجِبْهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُعَلَّى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -وَكَانَ فِي الصَّلَاةِ-، وَكَانَ الْأَوْلَى وَالْأَجْدَرُ أَنْ يُجِيبَ رَسُولَ اللهِ حَتَّى وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، فَيَقُولُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ خَاصًّا بِرَسُولِ اللهِ ﷺ، وَلَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ إِجَابَةُ الْمُصَلِّي رَسُولَ اللهِ ﷺ فِي تِلْكَ الْحَالِ، فَلَمَّا دَعَاهُ النَّبِيُّ ﷺ فَمَضَى فِي صَلَاتِهِ وَلَمْ يُجِبِ النَّبِيَّ ﷺ حَتَّى فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ، رَاجَعَهُ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَا مَنَعَكَ أَنْ تُجِيبَنِي إِذْ دَعَوْتُكَ؟)).

فَقَالَ إِنَّهُ كَانَ فِي صَلَاةٍ، وَالنَّبِيُّ يَعْلَمُ أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ})).

اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَأْمُرُنَا بِأَنْ نَسْتَجِيبَ لِنَبِيِّنَا ﷺ؛ لِأَنَّهُ لَنْ يَأْمُرَنَا إِلَّا بِخَيْرٍ وَلَنْ يَنْهَانَا إِلَّا عَنْ شَرٍّ، وَفِي الْأَمْرِ بِالْخَيْرِ وَالنَّهْيِ عَنِ الشَّرِّ حَيَاةٌ لِلْقُلُوبِ، حَيَاةٌ لِلْأَرْوَاحِ، وَاسْتِمْرَارٌ لِلطُّهْرِ وَالْعَفَافِ فِي تِلْكَ الْقُلُوبِ وَفِي تِلْكَ الْأَرْوَاحِ.

ثُمَّ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ لِيُؤْنِسَهُ: ((لَأُخْبِرَنَّكَ بِأَعْظَمِ سُورَةٍ فِي كِتَابِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَبْلَ أَنْ أَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ)).

قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُعَلَّى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((ثُمَّ مَضَى النَّبِيُّ ﷺ لِيَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا أَنْ كَانَ مِنَ الْخُرُوجِ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ذَكَّرْتُهُ -وَمَا كَانَ نَاسِيًا ﷺ-، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّكَ قُلْتَ إِنَّكَ سَتُخْبِرُنِي بِأَعْظَمِ سُورَةٍ فِي كِتَابِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِد))؛ يَعْنِي فَالْآنَ أَخْبِرْنِي فَإِنَّكَ بِصَدَدِ الْخُرُوجِ.

فَقَالَ لَهُ الرَّسُولُ ﷺ: ((الْفَاتِحَةُ، الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي))، أَنْزَلَهَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى قَلْبِ نَبِيِّهِ ﷺ وَهِيَ حَاوِيَةٌ لِمَقَاصِدِ الشَّرْعِ، وَهِيَ فَاتِحَةٌ لِكُلِّ خَيْرٍ، وَهِيَ فَاتِحَةُ الْفَوَاتِحِ.

أَخْبَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ بِأَعْظَمِ سُورَةٍ فِي كِتَابِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ.

وَالشَّاهِدُ فِي الْحَدِيثِ -وَكُلُّهُ شَاهِدٌ- قَوْلُهُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى: ((أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ})).

وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يُحَذِّرُنَا وَيُنْذِرُنَا فِي هَذَا الْجُزْءِ مِنَ الْآيَةِ بِتَحْذِيرٍ شَدِيدٍ وَإِنْذَارٍ أَكِيدٍ: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}: {وَأَنَّهُ}: الضَّمِيرُ فِيهَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ ضَمِيرَ الشَّأْنِ، وَالشَّأْنُ أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ، أَوْ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، {وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}: وَأَنَّكُمْ سَتَعُودُونَ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَمَا خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ حُفَاةً غُرْلًا غَيْرَ مَخْتُونِينَ لَا يَنْقُصُ مِنْ خِلْقَتِكُمْ شَيْءٌ كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ.

وَأَمَّا فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَلْيَحْذَرِ الْمَرْءُ مِنْ أَنْ يَحُولَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَلْبِهِ، بَيْنَ قَلْبِهِ وَالْهِدَايَةِ، بَيْنَ قَلْبِهِ وَالرَّشَادِ، بَيْنَ قَلْبِهِ وَالصَّلَاحِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَأْخُذْ بِأَسْبَابِ الْهِدَايَةِ، وَإِذَا لَمْ يَأْخُذْ بِأَسْبَابِ الرَّشَادِ، وَإِذَا لَمْ يَلْتَمِسْ مَفَاتِحَ الصَّلَاحِ وَمَفَاتِيحَ الْهُدَى وَالرَّشَادِ؛ فَإِنَّهُ -حِينَئِذٍ- يَرْتَكِسُ فِي الْحَمْأَةِ، وَيَعُودُ إِلَى الضَّلَالِ وَالْغِوَايَةِ -عِيَاذًا بِاللهِ وَلِيَاذًا بِجَنَابِهِ الرَّحِيمِ-.

فَيَقُولُ لَنَا رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} يَعْنِي: أَنَّكُمْ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا قَدْ يَحُولُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ وَالْهُدَى وَالرَّشَادِ وَالصَّلَاحِ، ثُمَّ فِي الْآخِرَةِ تُحْشَرُونَ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَيُؤَاخِذُكُمْ عَلَى مَا فَرَطْتُمْ فِي جَنْبِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

وَهَذَا الْجُزْءُ مِنَ الْآيَةِ مُنْذِرٌ جِدًّا، مُحَذِّرٌ جِدًّا، مُرْعِبٌ لِمَنْ كَانَ عِنْدَهُ ذَرَّةٌ مِنْ تَقْوَى؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَضْمَنُ أَنْ يَظَلَّ عَلَى صَلَاحِ حَالٍ وَلَا عَلَى اسْتِقَامَةِ مِنْهَاجٍ، وَالنَّبِيُّ ﷺ يُخْبِرُنَا بِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَعْمَلُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ وَيَأْخُذُ بِعَمَلِ الصَّالِحَاتِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَدْخُلَ النَّارَ -نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ-.

فَلَا يَغْتَرَّنَّ أَحَدٌ بِصَلَاحٍ يَأْتِي مِنْهُ، وَلَا بِعَمَلٍ صَالِحٍ يَعْمَلُهُ؛ فَإِنَّ الْعِبْرَةَ فِي هَذَا جَمِيعِهِ هُوَ الدَّافِعُ وَالنِّيَّةُ، وَالَّذِي يَتَحَرَّكُ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْإِقْبَالِ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْإِخْلَاصِ لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ.

وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَا يُرِيدُ تِلْكَ الْأَشْبَاحَ ظَاهِرَةً مِنْ غَيْرِ مَا رُوحٍ بَاطِنٍ يُحَرِّكُهَا؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَخْبَرَنَا فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ الْجَلِيلِ، فَقَالَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ} [الحج: 37].

لَا يَنَالُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- تِلْكَ الْقَرَابِينُ وَلَا تِلْكَ الدِّمَاءُ الْمَسْفُوحَةُ، وَإِنَّمَا الَّذِي يُرِيدُهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْكُمْ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ هُوَ تَقْوَى الْقُلُوبِ، تَقْوَى الْقُلُوبِ مُعَظَّمَةٌ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَتَعْظِيمُ شَعَائِرِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ.

((وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ))، مَتَى مَا تَرَاخَتْ قَبْضَةُ الشَّرْعِ عَنِ النَّاسِ، مَتَى مَا تَرَاخَتْ قَبْضَةُ الشَّرْعِ عَنِ الْأَرْضِ وَسَاكِنِيهَا إِلَّا وَقَعَ فِيهَا الْخَلَلُ وَنَزَلَ بِهَا مَا نَزَلَ مِنْ أَمْرِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

((وَقَدْ جَلَسَ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ لَمَّا فُتِحَتْ قُبْرُسُ.. جَلَسَ نَاحِيَةً يَبْكِي، فَقِيلَ: ((أَتَبْكِي فِي هَذَا الْيَوْمِ الَّذِي أَعَزَّ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهِ الْمُسْلِمِينَ وَرَفَعَ رَايَتَهُمْ خَفَّاقَةً فِي السَّمَاءِ؟!!)).

فَقَالَ: إِنَّهُ أَخَذَ عِبْرَةً مِنَ الَّذِي كَانَ.

فَيَقُولُ: ((بَيْنَمَا هِيَ أُمَّةٌ ظَاهِرَةٌ قَاهِرَةٌ لَهُمُ الْأَمْرُ؛ إِذْ خَالَفُوا أَمْرَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- -فَنَزَلَ بِهِمْ هَذَا الَّذِي تَرَوْنَ؛ مِنَ الذُّلِّ، وَمِنْ سَبْيِ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ، وَمِنْ قَتْلِ الْمُقَاتِلَةِ، وَمِنَ اسْتِبَاحَةِ الدِّيَارِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَرْضِ؛ مِنْ أَجْلِ إِعْزَازِ دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-- بَيْنَمَا هِيَ أُمَّةٌ ظَاهِرَةٌ قَاهِرَةٌ لَهُمُ الْأَمْرُ؛ إِذْ خَالَفُوا عَنْ أَمْرِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ فَأَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ عَذَابَ اللهِ)).

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ: ((وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ -كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي دِيَارِ الْمُسْلِمِينَ- إِلَّا سَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ)).

فَحَذَّرَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ نَقْضِ عَهْدِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِطَاعَتِهِ وَتَقْوَاهُ بِفِعْلِ الْمَأْمُورَاتِ، وَتَرْكِ الْمَنْهِيَّاتِ وَالْمَحْذُورَاتِ، وَالِاسْتِقَامَةِ عَلَى أَمْرِ رَسُولِ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ ﷺ.

((وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ)).

فَاللهم سَلِّمْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ فِي بَيَانِ الْخَصْلَةِ الْخَامِسَةِ مِنَ الْخِصَالِ الْخَمْسِ الَّتِي حَذَّرَ فِيهَا النَّبِيُّ ﷺ الْمُهَاجِرِينَ أَنْ تَنْزِلَ بِهِمْ، أَوْ أَنْ يُدْرِكُوهَا فِي زَمَنِهِمْ وَعَصْرِهِمْ، يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَيَتَخَيَّرُوا فِيمَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَّا جَعَلَ اللهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ)).

فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ النَّاسَ إِذَا مَا خَرَجُوا مِنْ إِطَارِ كِتَابِهِ -جَلَّ وَعَلَا- وَإِطَارِ سُنَّةِ نَبِيِّهِ ﷺ فَقَدْ جَعَلُوا بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ، فَبَيْنَ سَابٍّ لِأَخِيهِ وَقَاتِلٍ وَسَافِكٍ لِدَمِهِ، وَمُسْتَبِيحٍ لِعِرْضِهِ، وَنَاهِبٍ لِمَالِهِ، وَمُحَطِّمٍ لِدَارِهِ، كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ: ((وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَيَتَخَيَّرُوا فِيمَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَّا جَعَلَ اللهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ)) كَمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ، وَاسْتَشْرَى بَيْنَهُمُ الظُّلْمُ، وَعَلَا بَيْنَهُمُ الْجَوْرُ، وَتَبَاعَدَ عَنْهُمُ الْعَدْلُ.

مَعْلُومٌ -كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ- أَنَّ الْعَدْلَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَامَ فِي الْأَرْضِ، وَأَنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((مُسْنَدِهِ)) فِي جُزْءٍ مِنْ حَدِيثٍ ثَابِتٍ صَحِيحٍ: ((أَنَّهُ قَدْ وُجِدَ فِي بَعْضِ خَزَائِنِ بَنِي أُمَيَّةَ صُرَّةٌ فِيهَا حَبُّ حِنْطَةٍ -حَبُّ بُرٍّ- الْحَبَّةُ كَقَدْرِ نَوَاةِ التَّمْرَةِ، يَقُولُ: ((وُجِدَ فِي بَعْضِ خَزَائِنِ بَنِي أُمَيَّةَ حَبُّ بُرٍّ فِي صُرَّةٍ مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا: هَذَا كَانَ يَنْبُتُ فِي زَمَنِ الْعَدْلِ)).

وَكَمَا أَخْبَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((إِنَّ الْحُبَارَى -إِنَّ ذَلِكَ الطَّيْرَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-- لَتَحْتَرِقُ لَتَمُوتُ- فِي أَعْشَاشِهَا مِنْ ظُلْمِ الظَّالِمِ)).

فَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ فِي التَّحْذِيرِ مِنَ الْخِصْلَةِ الْخَامِسَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الثَّابِتِ الصَّحِيحِ: ((وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَيَتَخَيَّرُوا فِيمَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَّا جَعَلَ اللهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ)).

وَهُوَ وَاقِعٌ كَمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ.

اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَمَرَنَا بِالِاسْتِجَابَةِ لَهُ، وَبِالِاسْتِجَابَةِ لِنَبِيِّهِ ﷺ إِذَا دَعَانَا لِمَا يُحْيِينَا، وَحَذَّرَنَا أَنَّهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ، فَلَا يبْصِرُ الْحَقَّ حَقًّا، وَلَا يُرْزَقُ اتِّبَاعَهُ، وَلَا يُبْصِرُ الْبَاطِلَ بَاطِلًا، وَلَا يُرْزَقُ اجْتِنَابَهُ، وَإِنَّمَا تَخْتَلِطُ عَلَيْهِ الْمَرَائِي، وَتَشْتَبِهُ أَمَامَهُ السُّبُلُ، وَتَخْتَلِطُ الْأَقْدَامُ فِي سَيْرِهَا عَلَى الطَّرِيقِ، فَلَا يَكَادُ يَصِلُ إِلَى شَيْءٍ يُفِيدُهُ شَيْئًا فِي الْآخِرَةِ وَلَا فِي الدُّنْيَا، {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.

اتَّقُوا فِتْنَةً إِذَا مَا نَزَلَتْ بَيْنَكُمْ، ثُمَّ لَمْ تَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَلَمْ تَنْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، فَنَزَلَ الْعَذَابُ بِكُمْ -حِينَئِذٍ-؛ فَإِنَّهُ لَا يُفَرِّقُ هَذَا الْعَذَابُ بَيْنَ طَائِعٍ وَعَاصٍ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي عَلَيْكُمْ أَنْ تَكُونُوا آمَّارِينَ بِالْمَعْرُوفِ، نَهَّائِينَ عَنِ الْمُنْكَرِ، آخِذِينَ بِحُدُودِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَإِلَّا فَإِنَّ الْفِتْنَةَ إِذَا مَا ادْلَهَمَّتْ ظُلُمَاتُهَا وَنَزَلَتْ بِسَاحَاتِ الْقَوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَا تَفْرِقَةَ -حِينَئِذٍ- بَيْنَ صَالِحٍ يَسْكُتُ لَا يَأْمُرُ بِمَعْرُوفٍ وَلَا يَنْهَى عَنْ مُنْكَرٍ بِضَوَابِطِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، كَمَا بَيَّنَهَا لَنَا الدِّينُ الْحَنِيفُ وَالشَّرْعُ الْأَغَرُّ، مَتَى مَا لَمْ يَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَمَا لَمْ يَنْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ إِلَّا نَزَلَتِ الْفِتْنَةُ بِهِمْ، وَوَقَعَ الْعَذَابُ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ مَا تَفْرِقَةٍ بَيْنَ صَالِحٍ وَطَالِحٍ.

وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ أَنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- أَرْسَلَ جِبْرِيلَ بِالْعَذَابِ عَلَى قَرْيَةٍ، فَرَجَعَ جِبْرِيلُ إِلَى رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا- -وَهُوَ أَعْلَمُ- يَقُولُ: ((يَا رَبِّ! فِيهِمْ فُلَانٌ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ)).

فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ -جَلَّ وَعَلَا-: ((فَبِهِ فَابْدَأْ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَمَعَّرْ وَجْهُهُ مِنْ أَجْلِي يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ)).

قَالَ: ((فَبِهِ فَابْدَأْ))؛ بِإِنْزَالِ الْعَذَابِ وَصَبِّهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَتَمَعَّرْ وَجْهُهُ، وَلَمْ تَخْتَلِجْ فِيهِ عَضَلَةٌ، وَلَمْ تَقِفْ فِيهِ شَعْرَةٌ عِنْدَ مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ ((فَبِهِ فَابْدَأْ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَمَعَّرْ وَجْهُهُ مِنْ أَجْلِي يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ)).

النَّبِيُّ ﷺ حَذَّرَنَا مِنْ تِلْكَ الْخِصَالِ وَفِيهَا مَا فِيهَا مِنْ هَذَا الْبَيَانِ النَّبَوِيِّ الشَّرِيفِ، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَمَرَنَا بِالِاسْتِجَابَةِ لَهُ، وَالِاسْتِجَابَةِ لِنَبِيِّهِ ﷺ؛ إِذْ إِنَّهُ لَا يَأْمُرُنَا إِلَّا بِالْخَيْرِ، وَلَا يَنْهَانَا إِلَّا عَنِ الشَّرِّ.

((أَهْلُ الِاسْتِجَابَةِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ))

إِنَّ الِاسْتِجَابَةَ للهِ -تَعَالَى- وَلِرَسُولِهِ ﷺ حَيَاةُ الْقُلُوبِ، وَدَلِيلُ الْإِيمَانِ وَالْمَحَبَّةِ الصَّادِقَةِ، حَيْثُ يَقُولُ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24].

لَقَدْ ذَكَرَ اللهُ أَهْلَ الِاسْتِجَابَةِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَأَخْبَرَنَا بِصِفَاتِهِمْ وَخِصَالِهِمْ، قَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ} [الشورى: 26].

((يَسْتَجِيبُونَ لِرَبِّهِمْ لِمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ وَيَنْقَادُونَ لَهُ وَيُلَبُّونَ دَعْوَتَهُ؛ لِأَنَّ مَا مَعَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ يَحْمِلُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَإِذَا اسْتَجَابُوا لَهُ؛ شَكَرَ اللَّهُ لَهُمْ، وَهُوَ الْغَفُورُ الشَّكُورُ.

وَزَادَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ تَوْفِيقًا وَنَشَاطًا عَلَى الْعَمَلِ، وَزَادَهُمْ مُضَاعَفَةً فِي الْأَجْرِ زِيَادَةً عَنْ مَا تَسْتَحِقُّهُ أَعْمَالُهُمْ مِنَ الثَّوَابِ وَالْفَوْزِ الْعَظِيمِ)).

وَقَدْ جَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ثَمَرَةً لِأَهْلِ الِاسْتِجَابَةِ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ وَهِيَ مَحَبَّةُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [آل عمران: 31].

((قُلْ -أَيُّهَا الرَّسُولُ-: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ حَقًّا فَاتَّبِعُونِي وَآمِنُوا بِي ظَاهِرًا وَبَاطِنًا؛ يُحْبِبْكُمُ اللهُ، وَيَمْحُ ذُنُوبَكُمْ، فَإِنَّهُ غَفُورٌ لِذُنُوبِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، رَحِيمٌ بِهِمْ.

وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ حَاكِمَةٌ عَلَى كُلِّ مَنِ ادَّعَى مَحَبَّةَ اللهِ -تَعَالَى- وَلَيْسَ مُتَّبِعًا لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ حَقَّ الِاتِّبَاعِ، مُطِيعًا لَهُ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ؛ فَإِنَّهُ كَاذِبٌ فِي دَعْوَاهُ حَتَّى يُتَابِعَ الرَّسُولَ ﷺ حَقَّ الِاتِّبَاعِ)).

الْمُسْتَجِيبُونَ للهِ وَرَسُولِهِ هُمْ أَهْلُ الْفَلَاحِ، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا، الْفَائِزُونَ بِالْمَطْلُوبِ، النَّاجُونَ مِنَ الْكُرُوبِ، فَتَقَرُّ أَعْيُنُهُمْ، وَتَسْعَدُ أَرْوَاحُهُمْ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور: 51].

((إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ حَقِيقَةً، الَّذِينَ صَدَّقُوا إِيمَانَهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ حِينَ يُدْعَوْنَ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، سَوَاءً وَافَقَ أَهْوَاءَهُمْ أَوْ خَالَفَهَا، {أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} أَيْ: سَمِعْنَا حُكْمَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأَجَبْنَا مَنْ دَعَانَا إِلَيْهِ، وَأَطَعْنَا طَاعَةً تَامَّةً سَالِمَةً مِنَ الْحَرَجِ، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} حَصَرَ الْفَلَاحَ فِيهِمْ؛ لِأَنَّ الْفَلَاحَ الْفَوْزُ بِالْمَطْلُوبِ، وَالنَّجَاةُ مِنَ الْمَكْرُوهِ ، وَلَا يُفْلِحُ إِلَّا مَنْ حَكَّمَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَأَطَاعَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} [الأحزاب: 36].

((أَيْ: لَا يَنْبَغِي وَلَا يَلِيقُ بِمَنِ اتَّصَفَ بِالْإِيمَانِ إِلَّا الْإِسْرَاعُ فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالْهَرَبُ مِنْ سُخْطِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَامْتِثَالُ أَمْرِهِمَا، وَاجْتِنَابُ نَهْيِهِمَا، فَلَا يَلِيقُ بِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا مِنَ الْأُمُورِ، وَحَتَّمَا بِهِ وَأَلْزَمَا بِهِ {أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} أَيِ: الْخِيَارُ، هَلْ يَفْعَلُونَهُ أَمْ لَا؟ بَلْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ وَالْمُؤْمِنَةُ أَنَّ الرَّسُولَ أَوْلَى بِهِ مِنْ نَفْسِهِ، فَلَا يَجْعَلُ بَعْضَ أَهْوَاءِ نَفْسِهِ حِجَابًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.

{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا} أَيْ: بَيِّنًا، لِأَنَّهُ تَرَكَ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ الْمُوَصِّلَةَ إِلَى كَرَامَةِ اللَّهِ إِلَى غَيْرِهَا مِنَ الطُّرُقِ الْمُوَصِّلَةِ لِلْعَذَابِ الْأَلِيمِ، فَذَكَرَ أَوَّلًا السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِعَدَمِ مُعَارَضَةِ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَهُوَ الْإِيمَانُ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمَانِعَ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ التَّخْوِيفُ بِالضَّلَالِ الدَّالِّ عَلَى الْعُقُوبَةِ وَالنَّكَالِ)).

وَأَهْلُ الِاسْتِجَابَةِ مُوَفَّقُونَ لِشُكْرِ نِعَمِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ بِاسْتِعْمَالِ الْجَوَارِحِ الَّتِي وَهَبَهَا اللهُ إِيَّاهُمْ فِي سَمَاعِ الْحَقِّ وَالِاسْتِجَابَةِ لَهُ، يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: { إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ ۘ وَالْمَوْتَىٰ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [الأنعام: 36].

((يَقُولُ -تَعَالَى- لِنَبِيِّهِ ﷺ: إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ لِدَعْوَتِكَ، وَيُلَبِّي رِسَالَتَكَ، وَيَنْقَادُ لِأَمْرِكَ وَنَهْيِكَ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ بِقُلُوبِهِمْ مَا يَنْفَعُهُمْ، وَهُمْ أُولُوا الْأَلْبَابِ وَالْأَسْمَاعِ.

وَالْمُرَادُ بِالسَّمَاعِ هُنَا: سَمَاعُ الْقَلْبِ وَالِاسْتِجَابَةِ، وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ سَمَاعِ الْأُذُنِ يَشْتَرِكُ فِيهِ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، فَكُلُّ الْمُكَلَّفِينَ قَدْ قَامَتْ عَلَيْهِمْ حُجَّةُ اللَّهِ -تَعَالَى- بِاسْتِمَاعِ آيَاتِهِ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ عُذْرٌ فِي عَدَمِ الْقَبُول.

{وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}: يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمَعْنَى مُقَابِلٌ لِلْمَعْنَى الْمَذْكُورِ؛ أَيْ: إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ لَكَ أَحْيَاءُ الْقُلُوبِ، وَأَمَّا أَمْوَاتُ الْقُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَشْعُرُونَ بِسَعَادَتِهِمْ، وَلَا يُحِسُّونَ بِمَا يُنْجِيهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَكَ، وَلَا يَنْقَادُونَ، وَمَوْعِدُهُمُ الْقِيَامَةُ، يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ، عَلَى ظَاهِرِهَا، وَأَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- يُقَرِّرُ الْمَعَادَ، وَأَنَّهُ سَيَبْعَثُ الْأَمْوَاتَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.

وَيَكُونُ هَذَا مُتَضَمِّنًا لِلتَّرْغِيبِ فِي الِاسْتِجَابَةِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالتَّرْهِيبِ مِنْ عَدَمِ ذَلِكَ)).

 ((مِنْ عَلَامَاتِ الِاسْتِجَابَةِ للهِ وَلِلرَّسُولِ ﷺ ))

عِبَادَ اللهِ! لِلِاسْتِجَابَةِ للهِ وَلِرَسُولِهِ ﷺ عَلَامَاتٌ، أَبْرَزُهَا: السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عِنْدَ الدَّعْوَةِ إِلَى التَّحَاكُمِ فِي الْخُصُومَاتِ إِلَى كِتَابِ اللهِ وَحُكْمِ رَسُولِهِ، قال الله -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 51-52].

((إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ حَقِيقَةً الَّذِينَ صَدَّقُوا إِيمَانَهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ حِينَ يُدْعَوْنَ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، سَوَاءً وَافَقَ أَهْوَاءَهُمْ أَوْ خَالَفَهَا {أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} أَيْ: سَمِعْنَا حُكْمَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأَجَبْنَا مَنْ دَعَانَا إِلَيْهِ، وَأَطَعْنَا طَاعَةً تَامَّةً سَالِمَةً مِنَ الْحَرَجِ، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} حَصَرَ الْفَلَاحَ فِيهِمْ؛ لِأَنَّ الْفَلَاحَ الْفَوْزُ بِالْمَطْلُوبِ، وَالنَّجَاةُ مِنَ الْمَكْرُوهِ، وَلَا يُفْلِحُ إِلَّا مَنْ حَكَّمَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَأَطَاعَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.

وَلَمَّا ذَكَرَ فَضْلَ الطَّاعَةِ فِي الْحُكْمِ خُصُوصًا؛ ذَكَرَ فَضْلَهَا عُمُومًا فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، فَقَالَ: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فَيُصَدِّقُ خَبَرَهُمَا، وَيَمْتَثِلُ أَمْرَهُمَا، {وَيَخْشَ اللَّهَ} أَيْ: يَخَافُهُ خَوْفًا مَقْرُونًا بِمَعْرِفَةٍ، فَيَتْرُكُ مَا نَهَى عَنْهُ، وَيَكُفُّ نَفْسَهُ عَمَّا تَهْوَى، وَلِهَذَا قَالَ: {وَيَتَّقْهِ} بِتَرْكِ الْمَحْظُورِ؛ لِأَنَّ التَّقْوَى -عِنْدَ الْإِطْلَاقِ- يَدْخُلُ فِيهَا فِعْلُ الْمَأْمُورِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَعِنْدَ اقْتِرَانِهَا بِالْبِرِّ أَوِ الطَّاعَةِ -كَمَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ - تُفَسَّرُ بِتَوَقِّي عَذَابِ اللَّهِ؛ بِتَرْكِ مَعَاصِيهِ، فَأُولَئِكَ الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَخَشْيَةِ اللَّهِ وَتَقْوَاهُ هُمُ الْفَائِزُونَ بِنَجَاتِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ؛ لِتَرْكِهِمْ أَسْبَابَهُ، وَوُصُولِهِمْ إِلَى الثَّوَابِ؛ لِفِعْلِهِمْ أَسْبَابَهُ، فَالْفَوْزُ مَحْصُورٌ فِيهِمْ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِوَصْفِهِمْ فَإِنَّهُ يَفُوتُهُ مِنَ الْفَوْزِ بِحَسَبِ مَا قَصَّرَ عَنْهُ مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ الْحَمِيدَةِ.

وَاشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى الْحَقِّ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ رَسُولِهِ، وَهُوَ الطَّاعَةُ الْمُسْتَلْزِمَةُ لِلْإِيمَانِ، وَالْحَقِّ الْمُخْتَصِّ بِاللَّهِ، وَهُوَ الْخَشْيَةُ وَالتَّقْوَى، وَبَقِيَ الْحَقُّ الثَّالِثُ الْمُخْتَصُّ بِالرَّسُولِ، وَهُوَ التَّعْزِيرُ وَالتَّوْقِيرُ، كَمَا جَمَعَ بَيْنَ الْحُقُوقِ الثَّلَاثَةِ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ فِي قَوْلِهِ: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا})).

وَمِنْ عَلَامَاتِ الِاسْتِجَابَةِ للهِ وَلِرَسُولِهِ ﷺ: إِقَامَةُ الصَّلَاةِ، وَالشُّورَى فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَالْإِنْفَاقُ فِي سَبِيلِ اللهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى: 38].

(({وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ} أَيِ: انْقَادُوا لِطَاعَتِهِ، وَلَبَّوْا دَعْوَتَهُ، وَصَارَ قَصْدُهُمْ رِضْوَانَهُ، وَغَايَتُهُمُ الْفَوْزَ بِقُرْبِهِ.

وَمِنَ الِاسْتِجَابَةِ لِلَّهِ: إِقَامَةُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، فَلِذَلِكَ عَطَفَهُمَا عَلَى ذَلِكَ، مِنْ بَابِ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ، الدَّالِّ عَلَى شَرَفِهِ وَفَضْلِهِ فَقَالَ: {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} أَيْ: ظَاهِرَهَا وَبَاطِنَهَا، فَرْضَهَا وَنَفْلَهَا، {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} مِنَ النَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةِ؛ كَالزَّكَاةِ وَالنَّفَقَةِ عَلَى الْأَقَارِبِ وَنَحْوِهِمْ، وَالْمُسْتَحَبَّةِ، كَالصَّدَقَاتِ عَلَى عُمُومِ الْخَلْقِ.

وَأَمْرُهُمْ الدِّينِيُّ وَالدُّنْيَوِيُّ شُورَى بَيْنَهُمْ أَيْ: لَا يَسْتَبِدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِرَأْيِهِ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَهُمْ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا فَرْعًا عَنِ اجْتِمَاعِهِمْ وَتَوَالُفِهِمْ وَتَوَادُدِهِمْ وَتَحَابُبِهِمْ وَكَمَالِ عُقُولِهِمْ، أَنَّهُمْ إِذَا أَرَادُوا أَمْرًا مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى إِعْمَالِ الْفِكْرِ وَالرَّأْيِ فِيهَا اجْتَمَعُوا لَهَا وَتَشَاوَرُوا وَبَحَثُوا فِيهَا، حَتَّى إِذَا تَبَيَّنَتْ لَهُمُ الْمَصْلَحَةُ انْتَهَزُوهَا وَبَادَرُوهَا، وَذَلِكَ كَالرَّأْيِ فِي الْغَزْوِ وَالْجِهَادِ، وَتَوْلِيَةِ الْمُوَظَّفِينَ لِإِمَارَةٍ أَوْ قَضَاءٍ، أَوْ غَيْرِهِ، وَكَالْبَحْثِ فِي الْمَسَائِلِ الدِّينِيَّةِ عُمُومًا؛ فَإِنَّهَا مِنَ الْأُمُورِ الْمُشْتَرِكَةِ، وَالْبَحْثِ فِيهَا لِبَيَانِ الصَّوَابِ مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ، وَهُوَ دَاخِلٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ)).

((نَمَاذِجُ عَظِيمَةٌ فِي الِاسْتِجَابَةِ للهِ وَرَسُولِهِ ﷺ ))

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! فِي سُرْعَةِ الِاسْتِجَابَةِ سَطَّرَ الْأَوَائِلُ مَوَاقِفَ خَالِدَةً، يَتَلَقَّى أَحَدُهُمُ الْأَمْرَ أَوِ النَّهْيَ، فَيَسْتَجِيبُ فِي الْحَالِ دُونَ تَرَدُّدٍ، يُحَوِّلُهُ إِلَى وَاقِعٍ مَلْمُوسٍ وَفِعْلٍ مَحْسُوسٍ، وَهَذَا يُنْبِأُ عَنْ إِيمَانٍ رَاسِخٍ وَمَحَبَّةٍ صَادِقَةٍ.

وَالْأَنْبِيَاءُ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- أَعْظَمُ النَّاسِ وَأَسْرَعُهُمُ اسْتِجَابَةً إِلَى أَوَامِرِ اللهِ؛ فَقَدْ قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- حِكَايَةً عَنْ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-:  {وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَىٰ (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَىٰ أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ} [طه: 83-84].

((كَانَ اللَّهُ -تَعَالَى - قَدْ وَاعَدَ مُوسَى أَنْ يَأْتِيَهُ لِيُنْزِلَ عَلَيْهِ التَّوْرَاةَ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً، فَأَتَمَّهَا بِعَشْرٍ، فَلَمَّا تَمَّ الْمِيقَاتُ بَادَرَ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِلَى الْحُضُورِ لِلْمَوْعِدِ؛ شَوْقًا لِرَبِّهِ، وَحِرْصًا عَلَى مَوْعُودِهِ، فَقَالَ اللَّهُ لَهُ: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى} أَيْ: مَا الَّذِي قَدَّمَكَ عَلَيْهِمْ؟ وَلِمَ لَمْ تَصْبِرْ حَتَّى تَقْدَمَ أَنْتَ وَهُمْ؟

{قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَىٰ أَثَرِي} أَيْ: قَرِيبًا مِنِّي، وَسَيَصِلُونَ فِي أَثَرِي، وَالَّذِي عَجَّلَنِي إِلَيْكَ يَا رَبِّ الطَّلَبُ لِقُرْبِكَ وَالْمُسَارَعَةُ فِي رِضَاكَ، وَشَوْقًا إِلَيْكَ)).

وَلْنَنْظُرْ -أَيْضًا- إِلَى سُرْعَةِ اسْتِجَابَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ لِأَوَامِرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عندما أَمَرَهُ رَبُّهُ أَنْ يُنْذِرَ قَوْمَهُ الْأَقْرَبِينَ إِلَيْهِ قَرَابَةً؛ فَفِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)) فِي رِوَايَاتٍ فِي مَوَاضِعَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- -: لَمَّا أَنْزَلَ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]؛ صَعِدَ الصَّفَا -وَهُوَ الْجَبَلُ الْمَعْرُوفُ بِإِزَاءِ الْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ، يَقِفُ عَلَيْهِ الْحَاجُّ وَالْمُعْتَمِرُ عِنْدَ بَدْءِ السَّعْيِ فِي شَوْطِهِ الْأَوَّلِ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْكَعْبَةِ دَاعِيًا مُتَأَمِّلًا مُسْتَمْتِعًا لِلْآمَالِ الْقَدِيمَةِ الْبَعِيدَةِ لِلْبِنَاءِ الْأَوَّلِ الشَّامِخِ الْعَظِيمِ، الَّذِي وُلِدَ جَبَلًا وَوُلِدَ رَمْزًا، وَلَمْ يُولَدْ قِزْمًا وَلَا قَزْمًا، وَلَمْ يُولَدْ ضَئِيلًا وَلَا صَغِيرًا يَكْبُرُ مَعَ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي، وَإِنَّمَا وُلِدَ شَامِخًا يَتَحَدَّى الدَّهْرَ كُلَّهُ، يَتَحَدَّى الْأَيَّامَ وَاللَّيَالِيَ، هُوَ يَقِفُ عَلَى قِمَّةِ الْجَبَلِ؛ ((وَاصَبَاحَاهُ!))؛ فَيَخْرُجُونَ أَرْسَالًا، مَاذَا هُنَالِكَ؟

يَقُولُ: ((يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! لَوْ أَنِّي أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ بِالْوَادِي مَنْ يُغِيرُ عَلَيْكُمْ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟)).

يَقُولُ ﷺ: ((لَوْ أَنِّي أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ وَرَاءَكُمْ بِالْوَادِي عَدُوًّا يُرِيدُ أَنْ يُغِيرَ عَلَيْكُمْ))، فَالْأَمْرُ جِدٌّ، حَيَاةٌ وَمَوْتٌ، الْأَمْرُ جِدٌّ؛ أَنْ تَكُونَ أَوْ لَا تَكُونَ، فَمَا الْحَلُّ إِذَنْ؟!!

((أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟!!))، أَمْ تُرِيدُونَ بُرْهَانًا؟!! أَمْ تُرِيدُونَ دَلَائِلَ وَيَقِينًا؟!!

فَقَالُوا: ((مَا عَهِدْنَا عَلَيْكَ وَلَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا قَطُّ)).

فَلِمَ لَا نُصَدِّقُكَ؟!! أَنْتَ عِنْدَنَا مُصَدَّقٌ، بَلْ أَنْتَ الصِّدْقُ نَفْسُهُ ﷺ. قَالَ: ((إِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ)).

فَمَاذَا قَالُوا؟!!

أُبْلِسُوا، وَأَمَّا النَّاطِقُ الرَّسْمِيُّ أَشْقَاهَا يَنْتَدِبُ نَفْسَهُ لِكَيْ يَرُدَّ عَلَيْهِ، عَمُّهُ أَبُو لَهَبٍ هُوَ الَّذِي يَنْتَدِبُ نَفْسَهُ لِيَكُونَ النَّاطِقَ الرَّسْمِيَّ بِاسْمِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، يَقُولُ: ((تَبًّا لَكَ -يَعْنِي هَلَاكًا لَكَ مِنْ بَعْدِ هَلَاكٍ-! تَبًّا لَكَ! أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟!!)).

وَيَنْزِلُ قَوْلُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1]؛ دُعَاءٌ عَلَيْهِ وَإِخْبَارٌ عَنْهُ، الْأُولَى دُعَاءٌ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}، وَتَب الثَّانِيَةُ إِخْبَارٌ عَنْهُ؛ يَعْنِي: وَقَدْ وَقَعَ.

مِنْ هَذِهِ النَّمَاذِجِ الرَّائِعَةِ: سُرْعَةُ اسْتِجَابَةِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- لِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ؛ فَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَمَّا تَدَرَّجَ بِهِمْ فِي أَمْرِ الْخَمْرِ حَتَّى حَرَّمَهَا {فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ ذَهَبَ الِاعْتِمَادُ مِنَ الْخَلَايَا الْعَصَبِيَّةِ، مِنْ خَلَايَا الْمُخِّ، فَصَارُوا أَبْعَدَ النَّاسِ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ، وَقَامُوا لِتَوِّهِمْ، لِسَاعَتِهِمْ، لِفَوْرِهِمْ، فَأَرَاقُوهَا وَأَمَرُوا بِإِرَاقَتِهَا فِي الشَّوَارِعِ -شَوَارِعِ مَدِينَةِ رَسُولِ اللهِ-، فَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَصْبَحَ وَلَمَّا أَصْبَحَ إِذَا مَضَى فِي شَوَارِعِ الْمَدِينَةِ، يَظُنُّ أَنَّهُ قَدْ أَصَابَهَا مَطَرٌ بِلَيْلٍ؛ لِكَثْرَةِ مَا أُرِيقَ مِنَ الْخَمْرِ فِي شَوَارِعِهَا، بِكَلِمَةٍ!

قَالَ أَنَسٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((كُنْتُ سَاقِيَ الْقَوْمِ فِي مَنْزِلِ أَبِي طَلْحَةَ، فَنَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، فَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: اخْرُجْ فَانْظُرْ مَا هَذَا الصَّوْتُ، قَالَ: فَخَرَجْتُ فَقُلتُ: هَذَا مُنَادٍ يُنَادِي: أَلَا إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ، فَقَالَ لِي: اذْهَبْ فَأَهْرِقْهَا، قَالَ: فَجَرَتْ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ، قَالَ: وَكَانَتْ خَمْرُهُمْ يَوْمَئِذٍ الْفَضِيخَ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: قُتِلَ قَوْمٌ وَهِيَ فِي بُطُونِهِمْ، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93])).

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90].

((يَذُمُّ -تَعَالَى- هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الْقَبِيحَةَ، وَيُخْبِرُ أَنَّهَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ، وَأَنَّهَا رِجْسٌ {فَاجْتَنِبُوهُ} أَيِ: اتْرُكُوهُ {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فَإِنَّ الْفَلَاحَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِتَرْكِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، خُصُوصًا هَذِهِ الْفَوَاحِشَ الْمَذْكُورَةَ، وَهِيَ الْخَمْرُ وَهِيَ: كُلُّ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ أَيْ: غَطَّاهُ بِسُكْرِهِ، وَالْمَيْسِرُ، وَهُوَ: جَمِيعُ الْمُغَالَبَاتِ الَّتِي فِيهَا عِوَضٌ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، كَالْمُرَاهَنَةِ وَنَحْوِهَا، وَالْأَنْصَابِ الَّتِي هِيَ: الْأَصْنَامُ وَالْأَنْدَادُ وَنَحْوُهَا، مِمَّا يُنْصَبُ وَيُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَالْأَزْلَامُ الَّتِي يَسْتَقْسِمُونَ بِهَا، فَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ نَهَى اللَّهُ عَنْهَا وَزَجَرَ، وَأَخْبَرَ عَنْ مَفَاسِدِهَا الدَّاعِيَةِ إِلَى تَرْكِهَا وَاجْتِنَابِهَا.

فَمِنْهَا: أَنَّهَا رِجْسٌ أَيْ: نَجَسٌ خَبَثٌ مَعْنًى، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَجِسَةً حِسًّا، وَالْأُمُورُ الْخَبِيثَةُ مِمَّا يَنْبَغِي اجْتِنَابُهَا وَعَدَمُ التَّدَنُّسِ بِأَوْضَارِهَا، وَمِنْهَا: أَنَّهَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ، الَّذِي هُوَ أَعْدَى الْأَعْدَاءِ لِلْإِنْسَانِ)).

{فَاجْتَنِبُوهُ}.. كَيْفَ تُحَوِّلُ الْكَلِمَةُ هَذَا الِاعْتِمَادَ فِي الْخَلَايَا الْمُخِّيَّةِ، فِي الْخَلَايَا الْعَصَبِيَّةِ، كَيْفَ تُحَوِّلُهَا إِلَى لَا شَيْءَ؟!!

كَيْفَ تُعِيدُهُ إِلَى السَّوَاءِ نَفْسِيًّا وَجَسَدِيًّا وَعَصَبِيًّا، حَتَّى يَصِيرَ كَمَا أَرَادَ اللهُ؟!!

إِنَّهُ الْإِيمَانُ!!

وَمِنَ النَّمَاذِجِ الْعَظِيمَةِ فِي سُرْعَةِ الِاسْتِجَابَةِ للهِ وَرَسُولِهِ ﷺ: اسْتِجَابَةُ نِسَاءِ الْمُهَاجِرَاتِ وَالْأَنْصَارِ الْأُوَلِ فِي امْتِثَالِ أَمْرِ اللهِ بِلُبْسِ الْحِجَابِ؛ فَعَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((يَرْحَمُ اللَّهُ نِسَاءَ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلَ لَمَّا أَنْزَلَ اللهُ: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}؛ شَقَقْنَ مُرُوطَهُنَّ فَاخْتَمَرْنَ بِهَا)).

وَعَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ قَالَتْ: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ عَائِشَةَ قَالَتْ: فَذَكَرْنَا نِسَاءَ قُرَيْشٍ وَفَضْلَهُنَّ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((إِنَّ لِنِسَاءِ قُرَيْشٍ لَفَضْلًا، وَإِنِّي -وَاللَّهِ- مَا رَأَيْتُ أَفْضَلَ مِنْ نِسَاءِ الْأَنْصَارِ أَشَدَّ تَصْدِيقًا بِكِتَابِ اللَّهِ وَلَا إِيمَانًا بِالتَّنْزِيلِ، لَقَدْ أُنْزِلَتْ سُورَةُ النُّورِ: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ}؛ انْقَلَبَ إِلَيْهِنَّ رِجَالُهُنَّ يَتْلُونَ عَلَيْهِنَّ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ فِيهَا وَيَتْلُو الرَّجُلُ عَلَى امْرَأَتِهِ وَابْنَتِهِ وَأُخْتِهِ وَعَلَى كُلِّ ذِي قَرَابَتِهِ، فَمَا مِنْهُنَّ امْرَأَةٌ إِلَّا قَامَتْ إِلَى مِرْطِهَا الْمُرَحَّلِ فَاعْتَجَرَتْ بِهِ تَصْدِيقًا وَإِيمَانًا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابِهِ، فَأَصْبَحْنَ وَرَاءَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مُعْتَجِرَاتٍ كَأَنَّ عَلَى رُؤُوسِهِنَّ الْغِرْبَانَ)).

وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((لَمَّا نَزَلَتْ: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} خَرَجَ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ كَأَنَّ عَلَى رُؤُوسِهِنَّ الْغِرْبَانَ مِنَ الْأَكْسِيَةِ)).

وَمِنَ النَّمَاذِجِ: سُرْعَةُ اسْتِجَابَةِ الصَّحَابِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لِلنَّبِيِّ ﷺ عِنْدَمَا أَخْبَرَهُ عَنْ حُرْمَةِ لُبْسِ خَاتَمِ الذَّهَبِ أَوِ الْحَدِيدِ؛ فَقَدْ رَأَى النَّبِيُّ ﷺ يَوْمًا رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ وَبِيَدِهِ خَاتَمٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَلَمَّا رَآهُ فِي يَدِهِ ﷺ نَزَعَهُ، وَقَالَ: ((إِنَّ الذَّهَبَ وَالْحَرِيرَ حَرَامٌ عَلَى رِجَالِ أُمَّتِي، حَلَالٌ لِنِسَائِهَا)).

فَأَلْقَاهُ، وَقَامَ النَّبِيُّ ﷺ فَدَخَلَ، فَقَالَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ لِلصَّحَابِيِّ: ((خُذْهُ فَانْتَفِعْ بِهِ)).

قَالَ: ((مَا كُنْتُ لِآخُذَهُ بَعْدَ إِذْ أَلْقَاهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ!!)).

وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: ((كَانَ أَحَدُهُمْ جَعَلَ فِي أُصْبُعِهِ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، فَأَخَذَهُ النَّبِيُّ ﷺ فَأَلْقَاهُ، وَقَالَ: ((يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ إِلَى جَمْرَةٍ مِنْ نَارٍ فَيَجْعَلُهَا فِي أُصْبُعِهِ)).

فَلَمَّا قَامَ قَالَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((وَاللهِ! مَا كُنْتُ لِآخُذَ شَيْئًا طَرَحَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ )).

وَهَذَا حَنْظَلَةُ غَسِيلُ الْمَلَائِكَةِ الَّذِي كَانَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِعُرْسٍ، يَسْمَعُ نِدَاءَ الْجِهَادِ فَيَنْطَلِقُ مَلَبِّيًا النِّدَاءَ مُسْرِعًا مُسْتَجِيبًا لِدَاعِي اللهِ، وَلَمْ يَتَمَهَّلْ حَتَّى يَغْتَسِلَ مِنْ جَنَابَتِهِ، وَيَنْطَلِقُ نَحْوَ الْمَعْرَكَةِ؛ فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي «صَحِيحِهِ»، وَالْحَاكِمُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((كَانَ النَّاسُ انْهَزَمُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ حَتَّى انْتَهَى بَعْضُهُمْ إِلَى دُونِ الْأَعْرَاضِ -وَأَعْرَاضُ الْمَدِينَةِ: هِيَ قُرَاهَا الَّتِي فِي أَوْدِيَتِهَا، وَقِيلَ: أَعْرَاضُ الْمَدِينَةِ: بُطُونُ سَوَادِهَا حَيْثُ الزَّرْعُ وَالنَّخْلُ-، كَانَ النَّاسُ قَدِ انْهَزَمُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ حَتَّى انْتَهَى بَعْضُهُمْ إِلَى دُونِ الْأَعْرَاضِ إِلَى جَبَلٍ بِنَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَقَدْ كَانَ حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ الْتَقَى هُوَ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، فَلَمَّا اسْتَعْلَاهُ حَنْظَلَةُ رَآهُ شَدَّادُ بْنُ الْأَسْوَدِ، فَعَلَاهُ شَدَّادٌ بِالسَّيْفِ حَتَّى قَتَلَهُ، وَقَدْ كَادَ يَقْتُلُ أَبَا سُفْيَانَ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ صَاحِبَكُمْ حَنْظَلَةَ تُغَسِّلُهُ الْمَلَائِكَةُ؛ فَسَلُوا صَاحِبَتَهُ)) أَيْ: زَوْجَتَهُ، وَهِيَ جَمِيلَةُ بِنْتُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ الْمُنَافِقِ، وَكَانَتِ امْرَأَةً مُؤْمِنَةً صَالِحَةً -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، ((فَسَلُوا صَاحِبَتَهُ)).

فَقَالَتْ: ((خَرَجَ وَهُوَ جُنُبٌ لَمَّا سَمِعَ الْهَائِعَ -وَالْهَائِعُ: صَوْتُ الصَّارِخِ بِالْفَزَعِ-)).

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((فَذَاكَ قَدْ غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ)).

وَمِنَ النَّمَاذِجِ: اسْتِجَابَةُ الْجَارِيَةِ الْأَنْصَارِيَّةِ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ عِنْدَمَا خَطَبَهَا النَّبِيُّ ﷺ لِجُلَيْبِيبَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ فَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((خَطَبَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى جُلَيْبِيبٍ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ إِلَى أَبِيهَا، فَقَالَ: حَتَّى أَسْتَأْمِرَ أُمَّهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((فَنَعَمْ إِذنْ)).

قَالَ: ((فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ إِلَى امْرَأَتِهِ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهَا، فَقَالَتْ: ((لَهَا اللهُ إِذَنْ، مَا وَجَدَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِلَّا جُلَيْبِيبًا وَقَدْ مَنَعْنَاهَا مِنْ فُلَانٍ وَفُلَانٍ؟!!)).

قَالَ: ((وَالْجَارِيَةُ فِي سِتْرِهَا تَسْتَمِعُ. قَالَ: فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ يُرِيدُ أَنْ يُخْبِرَ النَّبِيَّ ﷺ بِذَلِكَ، فَقَالَتِ الْجَارِيَةُ: ((أَتُرِيدُونَ أَنْ تَرُدُّوا عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ أَمْرَهُ؟ إِنْ كَانَ قَدْ رَضِيَهُ لَكُمْ فَأَنْكِحُوهُ)).

قَالَ: ((فَكَأَنَّهَا جَلَّتْ عَنْ أَبَوَيْهَا، وَقَالَا: صَدَقْتِ، فَذَهَبَ أَبُوهَا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: ((إِنْ كُنْتَ قَدْ رَضِيتَهُ فَقَدْ رَضِينَاهُ)).

قَالَ: ((فَإِنِّي قَدْ رَضِيتُهُ)).

فَزَوَّجَهَا، ثُمَّ فُزِّعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، فَرَكِبَ جُلَيْبِيبٌ فَوَجَدُوهُ قَدْ قُتِلَ، وَحَوْلَهُ نَاسٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ قَتَلَهُمْ، قَالَ أَنَسٌ: ((فَلَقَدْ رَأَيْتُهَا وَإِنَّهَا لَمِنْ أَنْفَقِ ثَيِّبٍ فِي الْمَدِينَةِ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي ((مُسْنَدِهِ)).

وَعَنْ أَبِي بَرْزَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ فِي مَغْزًى لَهُ، فَأَفَاءَ اللهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: «هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ؟».

قَالُوا: ((نَعَمْ، فُلَانًا، وَفُلَانًا، وَفُلَانًا)).

ثُمَّ قَالَ: «هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ؟».

قَالُوا: ((نَعَمْ، فُلَانًا، وَفُلَانًا، وَفُلَانًا)).

ثُمَّ قَالَ: «هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ؟».

قَالُوا: ((لَا)).

قَالَ: «لَكِنِّي أَفْقِدُ جُلَيْبِيبًا، فَاطْلُبُوهُ».

فَطُلِبَ فِي الْقَتْلَى، فَوَجَدُوهُ إِلَى جَنْبِ سَبْعَةٍ قَدْ قَتَلَهُمْ، ثُمَّ قَتَلُوهُ، فَأَتَى النَّبِيُّ ﷺ فَوَقَفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: «قَتَلَ سَبْعَةً، ثُمَّ قَتَلُوهُ، هَذَا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، هَذَا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ».

قَالَ: ((فَوَضَعَهُ عَلَى سَاعِدَيْهِ لَيْسَ لَهُ إِلَّا سَاعِدَا النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ: فَحُفِرَ لَهُ وَوُضِعَ فِي قَبْرِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ غُسْلًا)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَمِنْ أَعْظَمِ الْأَمْثِلَةِ عَلَى سُرْعَةِ الِاسْتِجَابَةِ لِأَمْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: اسْتِجَابَةُ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَمَا أَمَرَهُمُ اللهُ بِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ؛ فَعَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ صَلَّى إلَى بَيْتِ المَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ البَيْتِ، وَأَنَّهُ صَلَّى أَوْ صَلَّاهَا صَلَاةَ العَصْرِ، وَصَلَّى مَعَهُ قَوْمٌ.

فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ صَلَّى مَعَهُ، فَمَرَّ عَلَى أَهْلِ المَسْجِدِ وَهُمْ رَاكِعُونَ، قَالَ: أَشْهَدُ بِاللهِ؛ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ قِبَلَ مَكَّةَ، فَدَارُوا كَمَا هُمْ قِبَلَ البَيْتِ، وكَانَ الذي مَاتَ علَى القِبْلَةِ قَبْلَ أنْ تُحَوَّلَ قِبَلَ البَيْتِ رِجَالٌ قُتِلُوا، لم نَدْرِ ما نَقولُ فيهم، فَأَنْزَلَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [البقرة: 143])). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: «بَيْنَا النَّاسُ يُصَلُّونَ الصُّبْحَ فِي مَسْجدِ قُبَاءٍ، إِذْ جَاءَ جَاءٍ؛ فَقَالَ: أَنْزَلَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ قُرْآنًا أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ؛ فَاسْتَقْبِلُوهَا، فتَوَجَّهُوا إِلَى الْكَعْبَةِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ: «كَانَ يُصَلِّي نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَنَزَلَتْ: ﴿قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [البقرة: 144].

فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ وَهُمْ رُكُوعٌ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَقَدْ صَلَّوْا رَكْعَةً، فَنَادَى: أَلَا إِنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ، فَمَالُوا كَمَا هُمْ نَحْوَ الْقِبْلَةِ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَهَذِهِ اسْتِجَابَةُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لِلرَّسُولِ ﷺ لَمَّا أَمَرَهُمْ بِعَدَمِ الْحَلِفِ بِالْآبَاءِ، وَالْمُدَاوَمَةُ عَلَى هَذِهِ الِاسْتِجَابَةِ؛ فَعَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ)).

قَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((فَوَاللَّهِ! مَا حَلَفْتُ بِهَا مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ نَهَى عَنْهَا ذَاكِرًا، وَلَا آثِرًا)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

وَهَذَا نَمُوذَجٌ آخَرُ مُضِيءٌ فِي سُرْعَةِ الِاسْتِجَابَةِ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَلِرَسُولِهِ ﷺ، أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ أَنْصَارِيٍّ بِالْمَدِينَةِ نَخْلًا، وَكَانَ أَحَبَّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءُ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَدْخُلُهَا، وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، فَلَمَّا نَزَلَتْ: {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَقَامَ أَبُو طَلْحَةَ فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ اللهَ يَقُولُ: {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}، وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءُ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللهِ؛ فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللهُ!!)).

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((ذَلِكَ مَالٌ رَايِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَايِحٌ -أَيْ: أَنَّ أَجْرَهَا يَرُوحُ وَيَغْدُو عَلَيْكَ-، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ)).

فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: ((أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللهِ!!)).

فَقَسَّمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ.

فَللهِ دَرُّ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ؛ فَمَا أَسْرَعَ اسْتِجَابَتَهُمْ لله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَلِرَسُولِهِ ﷺ.

 ((مُعَوِّقَاتُ الِاسْتِجَابَةِ وَمَوَانِعُهَا))

إِنَّ لِلِاسْتِجَابَةِ للهِ وَرَسُولِهِ مُعَوِّقَاتٍ وَمَوَانِعَ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَحْذَرَهَا، وَمِنْ أَكْبَرِ تِلْكَ الْمُعَوِّقَاتِ وَالْمَوَانِعِ: اتِّبَاعُ الْهَوَى، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50].

(({فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} أَيْ: فَاعْلَمْ أَنَّ تَرْكَهُمُ اتِّبَاعَكَ لَيْسُوا ذَاهِبِينَ إِلَى حَقٍّ يَعْرِفُونَهُ، وَلَا إِلَى هُدًى، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مُجَرَّدُ اتِّبَاعٍ لِأَهْوَائِهِمْ، وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ فَهَذَا مِنْ أَضَلِّ النَّاسِ، حَيْثُ عُرِضَ عَلَيْهِ الْهُدَى وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الْمُوَصِّلُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى دَارِ كَرَامَتِهِ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ وَلَمْ يُقْبِلْ عَلَيْهِ، وَدَعَاهُ هَوَاهُ إِلَى سُلُوكِ الطُّرُقِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الْهَلَاكِ وَالشَّقَاءِ فَاتَّبَعَهُ وَتَرَكَ الْهُدَى، فَهَلْ أَحَدٌ أَضَلُّ مِمَّنْ هَذَا وَصْفُهُ؟ وَلَكِنَّ ظُلْمَهُ وَعُدْوَانَهُ، وَعَدَمَ مَحَبَّتِهِ لِلْحَقِّ هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ لَهُ أَنْ يَبْقَى عَلَى ضَلَالِهِ وَلَا يَهْدِيَهُ اللَّهُ، فَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} أَيِ: الَّذِينَ صَارَ الظُّلْمُ لَهُمْ وَصْفًا وَالْعِنَادُ لَهُمْ نَعْتًا، جَاءَهُمُ الْهُدَى فَرَفَضُوهُ، وَعَرَضَ لَهُمُ الْهَوَى فَتَبِعُوهُ، سَدُّوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَبْوَابَ الْهِدَايَةِ وَطُرُقَهَا، وَفَتَحُوا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ الْغِوَايَةِ وَسُبُلَهَا، فَهُمْ فِي غَيِّهِمْ وَظُلْمِهِمْ يَعْمَهُونَ، وَفِي شَقَائِهِمْ وَهَلَاكِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ.

وَفِي قَوْلِهِ: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَسْتَجِبْ لِلرَّسُولِ، وَذَهَبَ إِلَى قَوْلٍ مُخَالِفٍ لِقَوْلِ الرَّسُولِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ إِلَى هُدًى، وَإِنَّمَا ذَهَبَ إِلَى هَوًى)).

كُلُّ مَنْ لَمْ يَسْتَجِبْ لِلرَّسُولِ وَذَهَبَ إِلَى قَوْلٍ مُخَالِفٍ لِقَوْلِ الرَّسُولِ ﷺ فَإِنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ إِلَى هُدًى، وَإِنَّمَا ذَهَبَ إِلَى هَوًى، وَالْقِسْمَةُ ثُنَائِيَّةٌ؛ إِمَّا اتِّبَاعُ الرَّسُولِ ﷺ وَإِمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى.

وَمِنْ أَسْبَابِ وَمَوَانِعِ الِاسْتِجَابَةِ لِأَمْرِ اللهِ وَأَمْرِ رَسُولِهِ ﷺ: الْكِبْرُ؛ فَمَا مَنَعَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ وَقَوْمَ نُوحٍ مِنَ الِاسْتِجَابَةِ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَلِرُسُلِهِمْ إِلَّا الْكِبْرُ وَالْمُعَانَدَةُ، قال الله -جَلَّ وَعَلَا-: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (45) إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون: 45-47].

(({ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى}: ابْنَ عِمْرَانَ كَلِيمَ الرَّحْمَنِ وَأَخَاهُ هَارُونَ -حِينَ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُشْرِكَهُ فِي أَمْرِهِ فَأَجَابَ سُؤْلَهُ- بِآيَاتِنَا الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِمَا وَصِحَّةِ مَا جَاءَا بِهِ وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ؛ أَيْ: حُجَّةٍ بَيِّنَةٍ مِنْ قُوَّتِهَا أَنْ تَقْهَرَ الْقُلُوبَ وَتَتَسَلَّطَ عَلَيْهَا لِقُوَّتِهَا فَتَنْقَادَ لَهَا قُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ وَتَقُومَ الْحُجَّةُ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُعَانِدِينَ وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ}، وَلِهَذَا رَئِيسُ الْمُعَانِدِينَ عَرَفَ الْحَقَّ وَعَانَدَ {فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ} أَيْ: بِتِلْكَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ: {إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا}، فَقَالَ مُوسَى: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}، وَقَالَ هُنَا: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} كَهَامَانَ وَغَيْرِهِ مِنْ رُؤَسَائِهِمْ {فَاسْتَكْبَرُوا} أَيْ: تَكَبَّرُوا عَنِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَاسْتَكْبَرُوا عَلَى أَنْبِيَائِهِ {وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ} أَيْ: وَصْفُهُمُ الْعُلُوُّ وَالْقَهْرُ وَالْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ، فَلِهَذَا صَدَرَ مِنْهُمْ الِاسْتِكْبَارُ، ذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَكْثَرٍ مِنْهُمْ.

فَقَالُوا كِبْرًا وَتِيهًا وَتَحْذِيرًا لِضُعَفَاءِ الْعُقُولِ وَتَمْوِيهًا: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} كَمَا قَالَهُ مَنْ قَبْلَهُمْ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ فِي الْكُفْرِ فَتَشَابَهَتْ أَقْوَالُهُمْ وَأَفْعَالُهُمْ، وَجَحَدُوا مِنَّةَ اللَّهِ عَلَيْهِمَا بِالرِّسَالَةِ، {وَقَوْمُهُمَا} أَيْ: بَنُو إِسْرَائِيلَ {لَنَا عَابِدُونَ} أَيْ: مُعَبَّدُونَ بِالْأَعْمَالِ وَالْأَشْغَالِ الشَّاقَّةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ}؛ فَكَيْفَ نَكُونُ تَابِعِينَ بَعْدَ أَنْ كُنَّا مَتْبُوعِينَ؟! وَكَيْفَ يَكُونُ هَؤُلَاءِ رُؤَسَاءَ عَلَيْنَا؟!

وَنَظِيرُ قَوْلِهِمْ قَوْلُ قَوْمِ نُوحٍ: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ})).

وَهَذَا رَجُلٌ تَرَكَ الِاسْتِجَابَةَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ كِبْرًا، فَانْظُرْ عَاقِبَتَهُ، أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) مِنْ رِوَايَةِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ أَنَّ رَجُلًا أَكَلَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ بِشِمَالِهِ، فَقَالَ: ((كُلْ بِيَمِينِكَ)).

قَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ.

قَالَ: ((لَا اسْتَطَعْتَ))، مَا مَنَعَهُ إِلَّا الْكِبْرُ.

قَالَ: فَمَا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ)).

يَبُسَتْ يَدُهُ، وَلَمْ يَسْتَطِعْ رَفْعَهَا إِلَى فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ عُقُوبَةً لَهُ.

فَهَذِهِ عُقُوبَةٌ عَاجِلَةٌ.

وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ خَالَفَ سُنَّةَ الرَّسُولِ ﷺ تَكَبُّرًا مُعَرَّضٌ لِلْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا.

وَمِنْ مَوَانِعِ وَمُعَوِّقَاتِ الِاسْتِجَابَةِ: الْحَسَدُ؛ فَهُوَ الَّذِي مَنَعَ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الِاسْتِجَابَةِ لِلْإِسْلَامِ، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: ١٠٩].

((أَخْبَرَ -تَعَالَى- عَنْ حَسَدِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَأَنَّهُمْ بَلَغَتْ بِهِمُ الْحَالُ أَنَّهُمْ وَدُّوا لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا وَسَعَوْا فِي ذَلِكَ، وَأَعْمَلُوا الْمَكَايِدَ، وَكَيْدُهُمْ رَاجِعٌ عَلَيْهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} وَهَذَا مِنْ حَسَدِهِمُ الصَّادِرِ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ.

فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ بِمُقَابَلَةِ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهِمْ غَايَةَ الْإِسَاءَةِ بِالْعَفْوِ عَنْهُمْ وَالصَّفْحِ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ.

ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَتَى اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِيَّاهُمْ بِالْجِهَادِ، فَشَفَى اللَّهُ أَنْفُسَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ، فَقَتَلُوا مَنْ قَتَلُوا، وَاسْتَرَقُوا مَنِ اسْتَرَقُوا، وَأَجْلَوْا مَنْ أَجْلَوْا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )).

وَمِنْ مَوَانِعِ الِاسْتِجَابَةِ للهِ وَرَسُولِهِ ﷺ: التَّقْلِيدُ الْأَعْمَى لِلْآبَاءِ والْأَجْدَادِ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [البقرة: ١٧٠].

((أَخْبَرَ -تَعَالَى- عَنْ حَالِ الْمُشْرِكِينَ إِذَا أُمِرُوا بِاتِّبَاعِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ  رَغِبُوا عَنْ ذَلِكَ، وَقَالُوا: {بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} فَاكْتَفَوْا بِتَقْلِيدِ الْآبَاءِ، وَزَهِدُوا فِي الْإِيمَانِ بِالْأَنْبِيَاءِ، وَمَعَ هَذَا فَآبَاؤُهُمْ أَجْهَلُ النَّاسِ وَأَشَدُّهُمْ ضَلَالًا، وَهَذِهِ شُبْهَةٌ لِرَدِّ الْحَقِّ وَاهِيَةٌ، فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْحَقِّ وَرَغْبَتِهِمْ عَنْهُ وَعَدَمِ إِنْصَافِهِمْ، فَلَوْ هُدُوا لِرُشْدِهِمْ وَحَسُنَ قَصْدُهُمْ لَكَانَ الْحَقُّ هُوَ الْقَصْدَ، وَمَنْ جَعَلَ الْحَقَّ قَصْدَهُ، وَوَازَنَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، تَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ قَطْعًا، وَاتَّبَعَهُ إِنْ كَانَ مُنْصِفًا)).

وَمِنْ مُعَوِّقَاتِ الِاسْتِجَابَةِ: الْخَوْفُ وَسُوءُ الظَّنِّ بِاللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، فَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَعْرِفُ الْحَقَّ وَيُوقِنُ بِهِ، لَكِنْ يَمْنَعُهُ مِنَ الِاسْتِجَابَةِ لَهُ الْخَوْفُ عَلَى النَّفْسِ أَوِ الْأَهْلِ أَوِ الْمَصَالِحِ، وَهَذَا مِنْ أَسْبَابِ امْتِنَاعِ قُرَيْشٍ عَنْ الِاسْتِجَابَةِ، قَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [القصص: ٥٧].

((يُخْبِرُ -تَعَالَى- أَنَّ الْمُكَذِّبِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَأَهْلِ مَكَّةَ يَقُولُونَ لِلرَّسُولِ ﷺ: {إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} بِالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ وَنَهْبِ الْأَمْوَالِ؛ فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ عَادَوْكَ وَخَالَفُوكَ، فَلَوْ تَابَعْنَاكَ لَتَعَرَّضْنَا لِمُعَادَاةِ النَّاسِ كُلِّهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ لَنَا بِهِمْ طَاقَةٌ.

وَهَذَا الْكَلَامُ مِنْهُمْ يَدُلُّ عَلَى سُوءِ الظَّنِّ بِاللَّهِ -تَعَالَى-، وَأَنَّهُ لَا يَنْصُرُ دِينَهُ، وَلَا يُعْلِي كَلِمَتَهُ، بَلْ يُمَكِّنُ النَّاسَ مِنْ أَهْلِ دِينِهِ، فَيَسُومُونَهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ، وَظَنُّوا أَنَّ الْبَاطِلَ سَيَعْلُو عَلَى الْحَقِّ)).

((ثَمَرَاتُ الِاسْتِجَابَةِ للهِ وَلِلرَّسُولِ ﷺ ))

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! إِنَّ فِي الِاسْتِجَابَةِ للهِ وَالرَّسُولِ ﷺ حَيَاةَ الْقَلْبِ وَالْعَقْلِ، حَيَاةَ النَّفْسِ وَالْمُجْتَمَعِ، حَيَاةَ الْأُمَّةِ كُلِّهَا، وَلِهَذَا كَانَ أَكْمَلُ النَّاسِ حَيَاةً أَكْمَلَهُمُ اسْتِجَابَةً، وَمَنْ ضعُفَتِ اسْتِجَابَتُهُ ضَعُفَ قَلْبُهُ وَنَقُصَتْ حَيَاةُ قَلْبِهِ، وَأَمَّا مَنْ مَاتَ قَلْبُهُ فَلَا اسْتِجَابَةَ عِنْدَهُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [النمل: 80].

((إِنَّكَ -أَيُّهَا الرَّسُولُ- لَا تَقْدِرُ أَنْ تُسْمِعَ الْحَقَّ مَنْ طَبَعَ اللهُ عَلَى قَلْبِهِ فَأَمَاتَهُ، وَلَا تُسْمِعَ دَعْوَتَكَ مَنْ أَصَمَّ اللهُ سَمْعَهُ عَنْ سَمَاعِ الْحَقِّ عِنْدَ إِدْبَارِهِمْ مُعْرِضِينَ عَنْكَ؛ فَإِنَّ الْأَصَمَّ لَا يَسْمَعُ الدُّعَاءَ إِذَا كَانَ مُقْبِلًا، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ مُعْرِضًا عَنْهُ مُوَلِّيًا مُدْبِرًا؟!!)).

قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فَائِدَةٌ جَلِيلَةٌ: قَالَ اللهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24].

فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أُمُورًا:

أَحَدُهَا: الْحَيَاةُ النَّافِعَةُ إِنَّمَا تَحْصُلُ بِالِاسْتِجَابَةِ للهِ وَرَسُولِهِ، فَمَنْ لَمْ تَحْصُلْ لَهُ هَذِهِ الِاسْتِجَابَةُ فَلَا حَيَاةَ لَهُ وَإِنْ كَانَتْ لَهُ حَيَاةٌ بَهِيمِيَّةٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَرْذَلِ الْحَيَوَانَاتِ، فَالْحَيَاةُ الْحَقِيقِيَّةُ الطَّيِّبَةُ هِيَ حَيَاةُ مَنِ اسْتَجَابَ للهِ وَالرَّسُولِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، فَهَؤُلَاءِ هُمُ الْأَحْيَاءُ وَإِنْ مَاتُوا، وَغَيْرُهُمْ أَمْوَاتٌ وَإِنْ كَانُوا أَحْيَاءَ الْأَبْدَانِ، وَلِهَذَا كَانَ أَكْمَلَ النَّاسِ حَيَاةً أَكْمَلُهُمُ اسْتِجَابَةً لِدَعْوَةِ الرَّسُولِ.

فَإِنْ كَانَ مَا دَعَا إِلَيْهِ فَفِيهِ الْحَيَاةُ؛ فَمَنْ فَاتَهُ جُزْءٌ مِنْهُ فَاتَهُ جُزْءٌ مِنَ الْحَيَاةِ، وَفِيهِ مِنَ الْحَيَاةِ بِحَسَبِ مَا اسْتَجَابَ لِلرَّسُولِ.

قَالَ مُجَاهِدٌ: (({لِمَا يُحْيِيكُمْ} يَعْنِي: لِلْحَقِّ)).

وَقَالَ قَتَادَةُ: ((هُوَ هَذَا الْقُرْآنُ، فِيهِ الْحَيَاةُ وَالنَّجَاةُ وَالْعِصْمَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)).

وَقَالَ السُّدِّيُّ: ((هُوَ الْإِسْلَامُ، أَحْيَاهُمْ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِمْ بِالْكُفْرِ)).

وَقَالَ ابْن إِسْحَاقَ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ -وَاللَّفْظُ لَهُ-: (({لِمَا يُحْيِيكُمْ} يَعْنِي: لِلْحَرْبِ الَّتِي أَعَزَّكُمُ اللهُ بِهَا بَعْدَ الذُّلِّ، وَقَوَّاكُمْ بَعْدَ الضَّعْفِ، وَمَنَعَكُمْ بِهَا مِنْ عَدُوِّكُمْ بَعْدَ الْقَهْرِ مِنْهُمْ لَكُمْ)).

وَهَذِهِ كُلُّهَا عِبَارَاتٌ عَنْ حَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِي الْقِيَامُ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.

 وَالْآيَةُ تَتَنَاوَلُ هَذَا كُلَّهُ؛ فَإِنَّ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ وَالْقُرْآنَ وَالْجِهَادَ يُحْيِي الْقُلُوبَ الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ، وَكَمَالُ الْحَيَاةِ فِي الْجَنَّةِ، وَالرَّسُولُ دَاعٍ إِلَى الْإِيمَانِ وَإِلَى الْجنَّةِ، فَهُوَ دَاعٍ إِلَى الْحَيَاةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْإِنْسَانُ مُضْطَرٌّ إِلَى نَوْعَيْنِ مِنَ الْحَيَاةِ؛ حَيَاةِ بَدَنِهِ الَّتِي بِهَا يُدْرِكُ النَّافِعَ وَالضَّارَّ، وَيُؤْثِرُ مَا يَنْفَعُهُ عَلَى مَا يَضُرُّهُ، وَمَتَى نَقَصَتْ فِيهِ هَذِهِ الْحَيَاةُ نَالَهُ مِنَ الْأَلَمِ وَالضَّعْفِ بِحَسَبِ ذَلِكَ.

وَلذَلِكَ كَانَتْ حَيَاةُ الْمَرِيضِ وَالْمَحْزُونِ وَصَاحِبِ الْهَمِّ وَالْغَمِّ وَالْخَوْفِ وَالْفَقْرِ وَالذُّلِّ دُونَ حَيَاةِ مَنْ هُوَ مُعَافًى مِنْ ذَلِكَ، وَحَيَاةِ قَلْبِهِ وَرُوحِهِ الَّتِي بهَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْغَيِّ وَالرَّشَادِ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ، فَيَخْتَارُ الْحَقَّ عَلَى ضِدِّهِ، فَتُفِيدُهُ هَذِهِ الْحَيَاةُ قُوَّةَ التَّمْيِيزِ بَيْنَ النَّافِعِ وَالضَّارِّ فِي الْعُلُومِ وَالْإِرَادَاتِ وَالْأَعْمَالِ، وَتُفيدُهُ قُوَّةَ الْإِيمَانِ وَالْإِرَادَةِ وَالْحُبِّ لِلْحَقِّ وَقُوَّةَ الْبُغْضِ وَالْكَرَاهَةِ لِلْبَاطِلِ، فَشُعُورُهُ وَتَمْيِيزُهُ وَحُبُّهُ وَنُفْرَتُهُ بِحَسَبِ نَصِيبِهِ مِنْ هَذِهِ الْحَيَاةِ، كَمَا أَنَّ الْبَدَنَ الْحَيَّ يَكُونُ شُعُورُهُ وَإِحْسَاسُهُ بِالنَّافِعِ وَالْمُؤْلِمِ أَتَمَّ، وَيَكُونُ مَيْلُهُ إِلَى النَّافِعِ وَنُفْرَتُهُ عَنِ الْمُؤْلِمِ أَعْظَمَ.

فَهَذَا بِحَسَبِ حَيَاةِ الْبَدَنِ وَذَاكَ بِحَسَبِ حَيَاةِ الْقَلْبِ، فَإِذَا بَطُلَتْ حَيَاتُهُ بَطُلَ تَمْيِيزُهُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ نَوْعُ تَمْيِيزٍ لَمْ يَكُنْ فِيهِ قُوَّةٌ يُؤْثِرُ بهَا النَّافِعَ عَلَى الضَّارِّ، كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا حَيَاةَ لَهُ حَتَّى يَنْفُخَ فِيهِ الْمَلَكُ الَّذِي هُوَ رَسُولُ اللهِ مِنْ رُوحِهِ، فَيَصِيرُ حَيًّا بِذَلِكَ النَّفْخِ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَمْوَاتِ، فَكَذَلِكَ لَا حَيَاةَ لِرُوحِهِ وَقَلْبِهِ حَتَّى يَنْفُخَ فِيهِ الرَّسُولُ ﷺ مِنَ الرُّوحِ الَّذِي أُلْقِيَ إِلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [النحل: 2].

وَقَالَ: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [غافر: 15].

وَقَالَ: {وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52].

فَأَخْبَرَ أَنَّ وَحْيَهُ رُوحٌ وَنُورٌ، فَالْحَيَاةُ وَالِاسْتِنَارَةُ مَوْقُوفَةٌ عَلَى نَفْخِ الرَّسُولِ الْمَلَكِيِّ وَالرَّسُولِ الْبَشَرِيِّ، فَمَنْ أَصَابَهُ نَفْخُ الرَّسُولِ الْمَلَكِيِّ وَنَفْخُ الرَّسُولِ الْبَشَرِيِّ حَصَلَتْ لَهُ الْحَيَاتَانِ، وَمَنْ حَصَلَ لَهُ نَفْخُ الْمَلَكِ دُونَ نَفْخِ الرَّسُولِ حَصَلَتْ لَهُ إِحْدَى الْحَيَاتَيْنِ وَفَاتَتْهُ الْأُخْرَى، قَالَ تَعَالَى: {أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا} [الأنعام: 122].

فَجَمَعَ لَهُ بَيْنَ النُّورِ وَالْحَيَاةِ كَمَا جَمَعَ لِمَنْ أَعْرَضَ عَنْ كِتَابِهِ بَيْنَ الْمَوْتِ وَالظُّلْمَةِ.

 قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَمِيعُ الْمُفَسِّرِينَ: ((كَانَ كَافِرًا ضَالًّا فَهَدَيْنَاهُ)).

وَقَوْلُهُ: {وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} يَتَضَمَّنُ أُمُورًا:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَمْشِي فِي النَّاسِ بِالنُّورِ وَهُمْ فِي الظُّلْمَةِ، فَمَثَلُهُ وَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ قَوْمٍ أَظْلَمَ عَلَيْهِمُ اللَّيْلُ، فَضَلُّوا وَلَمْ يَهْتَدُوا لِلطَّرِيقِ، وَآخَرُ مَعَهُ نُورٌ يَمْشِي بِهِ فِي الطَّرِيقِ وَيَرَاهَا وَيَرَى مَا يَحْذَرُهُ فِيهَا.

الْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَمْشِي فِيهِمْ بِنُورِهِ، فَهُمْ يَقْتَبِسُونَ مِنْهُ؛ لِحَاجَتِهِمْ إِلَى النُّورِ.

الْأَمْرُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَمْشِي بِنُورِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى الصِّرَاطِ إِذَا بَقِيَ أَهْلُ الشِّرْكِ وَالنِّفَاقِ فِي ظُلُمَاتِ شِرْكِهِمْ وَنِفَاقِهِمْ.

وَقَوْلُهُ: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ}: الْمَشْهُورُ فِي الْآيَةِ أَنَّهُ يَحُولُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ، وَبَيْنَ الْكَافِرِ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ، وَيَحُولُ بَيْنَ أَهْلِ طَاعَتِهِ وَبَيْنَ مَعْصِيَتِهِ، وَبَيْنَ أَهْلِ مَعْصِيَتِهِ وَبَيْنَ طَاعَتِهِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ.

وَفِي الْآيَةِ قَوْلٌ آخَرُ: أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ -سُبْحَانَهُ- قَرِيبٌ مِنْ قَلْبِهِ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ؛ فَهُوَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَلْبِهِ، ذَكَرَهُ الْوَاحِدِيُّ عَنْ قَتَادَةَ.

وَكَانَ هَذَا أَنْسَبَ بِالسِّيَاقِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِجَابَةَ أَصْلُهَا بِالْقَلْبِ، فَلَا تَنْفَعُ الِاسْتِجَابَةُ بِالْبَدَنِ دُونَ الْقَلْبِ، فَإِنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ- بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ قَلْبِهِ، فَيَعْلَمُ هَلِ اسْتَجَابَ لَهُ قَلْبُهُ وَهَلْ أَضْمَرَ ذَلِكَ أَوْ أَضْمَرَ خِلَافَهُ.

وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَوَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ أَنَّكُمْ إِنْ تَثَاقَلْتُمْ عَنْ الِاسْتِجَابَةِ وَأَبْطَأْتُمْ عَنْهَا فَلَا تَأْمَنُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ قُلُوبِكُمْ، فَلَا يُمَكِّنُكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الِاسْتِجَابَةِ؛ عُقُوبَةً لَكُمْ عَلَى تَرْكِهَا بَعْدَ وُضُوحِ الْحَقِّ وَاسْتِبَانَتِهِ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ: { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110].

وَقَوْلِهِ: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5].

وَقَوْلِهِ: {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِن قَبْلُ} [الأعراف: 101].

فَفِي الْآيَةِ تَحْذِيرٌ عَنْ تَرْكِ الِاسْتِجَابَةِ بِالْقَلْبِ وَإِنِ اسْتَجَابَ بِالْجَوَارِحِ.

وَفِي الْآيَةِ سِرٌّ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّهُ جَمَعَ لَهُمْ بَيْنَ الشَّرْعِ وَالْأَمْرِ بِهِ، وَهُوَ الِاسْتِجَابَةُ، وَبَيْنَ الْقَدَرِ وَالْإِيمَانِ بِهِ، فَهِيَ كَقَوْلِهِ: {لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [عبس: 28-29].

وَقَوْلِهِ: {فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ} [المدثر: 55-56])).

مَنِ اسْتَجَابَ للهِ نَالَ الْحُسْنَى، وَهِيَ الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ فِي الدُّنْيَا، وَالْجَنَّةُ الَّتِي هِيَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ فِي الْآخِرَةِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى} [الرعد: 18].

((لَمَّا بَيَّنَ -تَعَالَى- الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ ذَكَرَ أَنَّ النَّاسَ عَلَى قِسْمَيْنِ: مُسْتَجِيبٌ لِرَبِّهِ فَذَكَرَ ثَوَابَهُ، وَغَيْرُ مُسْتَجِيبٍ فَذَكَرَ عِقَابَهُ، فَقَالَ: {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ} أَيِ: انْقَادَتْ قُلُوبُهُمْ لِلْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ، وَجَوَارِحُهُمْ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَصَارُوا مُوَافِقِينَ لِرَبِّهِمْ فِيمَا يُرِيدُهُ مِنْهُمْ؛ فَلَهُمُ الْحُسْنَى؛ أَيِ: الْحَالَةُ الْحَسَنَةُ وَالثَّوَابُ الْحَسَنُ، فَلَهُمْ مِنَ الصِّفَاتِ أَجَلُّهَا، وَمِنَ الْمَنَاقِبِ أَفْضَلُهَا، وَمِنَ الثَّوَابِ الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ)).

وَمِنْ أَعْظَمِ ثَمَرَاتِ الِاسْتِجَابَةِ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: الْعِلْمُ وَالْهِدَايَةُ لِلْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186].

((فَمَنْ دَعَا رَبَّهُ بِقَلْبٍ حَاضِرٍ وَدُعَاءٍ مَشْرُوعٍ، وَلَمْ يَمْنَعْ مَانِعٌ مِنْ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ، كَأَكْلِ الْحَرَامِ وَنَحْوِهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ وَعَدَهُ بِالْإِجَابَةِ، وَخُصُوصًا إِذَا أَتَى بِأَسْبَابِ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ، وَهِيَ الِاسْتِجَابَةُ لِلَّهِ -تَعَالَى- بِالِانْقِيَادِ لِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ، وَالْإِيمَانِ بِهِ الْمُوجِبِ لِلِاسْتِجَابَةِ، فَلِهَذَا قَالَ: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} أَيْ: يَحْصُلُ لَهُمُ الرُّشْدُ الَّذِي هُوَ الْهِدَايَةُ لِلْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَيَزُولُ عَنْهُمُ الْغَيُّ الْمُنَافِي لِلْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَلِأَنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ وَالِاسْتِجَابَةَ لِأَمْرِهِ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْعِلْمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا})).

وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ؛ فَمَنِ اسْتَجَابَ للهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بِفِعْلِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ؛ اسْتَجَابَ اللهُ دُعَاءَهُ، وَوَعَدَ اللهُ الْمُسْتَجِيبِينَ لَهُ -سُبْحَانَهُ- بِتَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ وَدُخُولِ الْجَنَّاتِ، حَيْثُ يَقُولُ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ-: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ ۖ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ۖ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [آل عمران: 195].

(( أَيْ: أَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُمْ؛ دُعَاءَ الْعِبَادَةِ، وَدُعَاءَ الطَّلَبِ، وَقَالَ: {أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} فَالْجَمِيعُ سَيَلْقَوْنَ ثَوَابَ أَعْمَالِهِمْ كَامِلًا مُوَفَّرًا، {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} أَيْ: كُلُّكُمْ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا} فَجَمَعُوا بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ، وَمُفَارَقَةِ الْمَحْبُوبَاتِ مِنَ الْأَوْطَانِ وَالْأَمْوَالِ؛ طَلَبًا لِمَرْضَاةِ رَبِّهِمْ، وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ.

{لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} الَّذِي يُعْطِي عَبْدَهُ الثَّوَابَ الْجَزِيلَ عَلَى الْعَمَلِ الْقَلِيلِ.

{وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، فَمَنْ أَرَادَ ذَلِكَ فَلْيَطْلُبْهُ مِنَ اللَّهِ بِطَاعَتِهِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ)).

وَلَمَّا بَلَغَ الْأَنْبِيَاءُ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- الْغَايَةَ فِي الِاسْتِجَابَةِ للهِ -عَزَّ وَجَلَّ- كَانَ دُعَاؤُهُمْ أَوْلَى بِالْإِجَابَةِ، يَقُولُ -سُبْحَانَهُ- فِي شَأْنِ نَبِيِّهِ نُوحٍ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {وَنُوحًا إِذْ نَادَىٰ مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الأنبياء: 76].

وَيَقُولُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي شَأْنِ نَبِيِّهِ أَيُّوبَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ ۖ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَىٰ لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء: 83-84].

وَيَقُولُ -سُبْحَانَهُ- فِي شَأْنِ زَكَرِيَّا -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىٰ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ۖ وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 89-90].

الِاسْتِجَابَةُ عَلَامَةٌ لِلْإِيمَانِ؛ فَأَهْلُ الِاسْتِجَابَةِ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا، الْمُفْلِحُونَ الْمُبَشَّرُونَ بِجَنَّاتِ النَّعِيمِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور: 51].

((أَمَّا الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا فَدَأْبُهُمْ إِذَا دُعُوا إِلَى التَّحَاكُمِ فِي خُصُومَاتِهِمْ إِلَى كِتَابِ اللهِ وَحُكْمِ رَسُولِهِ أَنْ يَقْبَلُوا الْحُكْمَ وَيَقُولُوا: سَمِعْنَا مَا قِيلَ لَنَا وَأَطَعْنَا مَنْ دَعَانَا إِلَى ذَلِكَ، وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الْفَائِزُونَ بِمَطْلُوبِهِمْ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ)).

مِنْ ثَمَرَاتِ الِاسْتِجَابَةِ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَلِرَسُولِهِ ﷺ: حَيَاةُ الْقَلْبِ وَسَلَامَتُهُ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْكُفْرِ وَالْفِتَنِ؛ فَقَدْ حَذَّرَ اللهُ مِنْ أَنْ يَحُولَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَقَلْبِهِ، فَلَا يَنْتَفِعُ بِمَوْعِظَةٍ وَلَا ذِكْرٍ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24].

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((يَحُولُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ، وَبَيْنَ الْكَافِرِ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ)).

الِاسْتِجَابَةُ لِأَوَامِرِ اللهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- نَجَاةٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ هَوْلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ۚ مَا لَكُم مِّن مَّلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ} [الشورى: 47].

وَأَهْلُ الِاسْتِجَابَةِ مَوْعُودُونَ بِالْمَغْفِرَةِ وَالنَّجَاةِ وَالْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ تَعَالَى: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف: 31].

(({يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ -تَعَالَى- أَرْسَلَ مُحَمَّدًا -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ- إِلَى الثَّقَلَيْنِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، حَيْثُ دَعَاهُمْ إِلَى اللهِ، {يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} أَيْ: وَيَقِيكُمْ مِنْ عَذَابِهِ الْأَلِيمِ)).

(({يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} أَيِ: الَّذِي لَا يَدْعُو إِلَّا إِلَى رَبِّهِ لَا يَدْعُوكُمْ إِلَى غَرَضٍ مِنْ أَغْرَاضِهِ وَلَا هَوًى وَإِنَّمَا يَدْعُوكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ لِيُثِيبَكُمْ وَيُزِيلَ عَنْكُمْ كُلَّ شَرٍّ وَمَكْرُوهٍ، وَلِهَذَا قَالُوا: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}، وَإِذَا أَجَارَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ فَمَا ثَمَّ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا النَّعِيمُ، فَهَذَا جَزَاءُ مَنْ أَجَابَ دَاعِيَ اللَّهِ)).

((الْإِعْرَاضُ عَنْ أَمْرِ اللهِ وَعَوَاقِبُهُ))

إِنَّ أَعْظَمَ سَبَبٍ لِلسَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ يَكْمُنُ فِي الْإِقْبَالِ عَلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَالِاسْتِجَابَةِ لَهُ -جَلَّ وَعَلَا- وَلِرَسُولِهِ ﷺ، وَأَعْظَمُ سَبَبٍ لِلشَّقَاءِ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ الْإِعْرَاضُ عَنْ أَمْرِ اللهِ -تَعَالَى-، وَعَدَمُ الِاسْتِجَابَةِ لِأَحْكَامِهِ وَأَوَامِرِهِ.

إِنَّ الْإِعْرَاضَ عَنِ الْحَقِّ مِنْ أَسْوَأِ مَا يَكُونُ أَثَرًا.

وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الْحَقِّ هُوَ: التَّوَلِّي عَنْهُ وَعَدَمُ قَبُولِهِ, وَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ:

الْأَوَّلُ: الْإِعْرَاضُ بِمَعْنَى الْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ.

الثَّانِي: الْإِعْرَاضُ بِمَعْنَى تَرْكِ الْعَمَلِ بِالْحَقِّ.

وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ خُطُورَةَ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْحَقِّ، قَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ-: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 146].

فَأَخْبَرَ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْعَظِيمَةِ أَنَّهُ يَمْنَعُ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الْحَقَّ فَهْمَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَيَصْرِفُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَمْتَنِعُونَ مِنْ قَبُولِ الْحَقِّ عَنْ آيَاتِهِ الْبَيِّنَاتِ.

لِذَلِكَ قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (({سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} قَالَ: أَمْنَعُ عَنْهُمْ فَهْمَ الْقُرْآنِ، وَأَصْرِفُهُمْ عَنْ آيَاتِي)).

مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ حَرَمَهُ اللهُ خَيْرًا كَثِيرًا وَخَتَلَهُ، وَلَمْ يَفْقَهْ مِنْ آيَاتِ اللهِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ، وَرُبَّمَا انْقَلَبَتِ الْحَقَائِقُ فَاسْتَحْسَنَ الْقَبِيحَ، وَاسْتَقْبَحَ الْحَسَنَ.

وَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ-: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَٰذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32].

وَهَذَا مِنْ عُتُوِّهِمْ، وَشِدَّةِ جَهْلِهِمْ، وَعِظَمِ عِنَادِهِمْ، وَشِدَّةِ تَكْذِيبِهِمْ، فَهَلَّا قَالُوا: فَاهْدِنَا إِلَيْهِ، {إِن كَانَ هَٰذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.

الْإِعْرَاضُ عَنِ اللهِ -تَعَالَى- وَعَنْ أَوَامِرِهِ سَبَبٌ لِنُزُولِ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا، وَرَفْعِ الْعَافِيَةِ، وَإِبْدَالِ النِّعَمِ نِقَمًا، كَمَا أَخْبَرَ اللهُ -تَعَالَى- عَنْ قَوْمِ سَبَأٍ وَمَا هُمْ فِيهِ مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا، ثُمَّ تَحَوَّلَتِ الْعَافِيَةُ عَنْهُمْ، وَأُبْدِلَ حَالُهُمْ مِنَ النِّعْمَةِ إِلَى النِّقْمَةِ بِسَبَبِ إِعْرَاضِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ۖ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ ۖ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ ۚ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا ۖ وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ: 15-17].

((سَبَأٌ قَبِيلَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي أَدَانِيِّ الْيَمَنِ، وَمَسْكَنُهُمْ بَلْدَةٌ يُقَالُ لَهَا (مَأْرِبُ)، وَمِنْ نِعَمِ اللَّهِ وَلُطْفِهِ بِالنَّاسِ عُمُومًا وَبِالْعَرَبِ خُصُوصًا أَنَّهُ قَصَّ فِي الْقُرْآنِ أَخْبَارَ الْمُهْلَكِينَ وَالْمُعَاقَبِينَ مِمَّنْ كَانَ يُجَاوِرُ الْعَرَبَ، وَيُشَاهِدُ آثَارَهُ، وَيَتَنَاقَلُ النَّاسُ أَخْبَارَهُ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَدْعَى إِلَى التَّصْدِيقِ، وَأَقْرَبَ لِلْمَوْعِظَةِ فَقَالَ: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ} أَيْ: مَحَلِّهِمُ الَّذِي يَسْكُنُونَ فِيهِ آيَةٌ، وَالْآيَةُ هُنَا: مَا أَدَرَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النِّعَمِ، وَصَرَفَ عَنْهُمْ مِنَ النِّقَمِ الَّذِي يَقْتَضِي ذَلِكَ مِنْهُمْ أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ وَيَشْكُرُوهُ.

ثُمَّ فَسَّرَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: {جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ} وَكَانَ لَهُمْ وَادٍ عَظِيمٌ تَأْتِيهِ سُيُولٌ كَثِيرَةٌ، وَكَانُوا بَنَوْا سَدًّا مُحْكَمًا يَكُونُ مُجَمِّعًا لِلْمَاءِ، فَكَانَتِ السُّيُولُ تَأْتِيهِ، فَيَجْتَمِعُ هُنَاكَ مَاءٌ عَظِيمٌ، فَيُفَرِّقُونَهُ عَلَى بَسَاتِينِهِمُ الَّتِي عَنْ يَمِينِ ذَلِكَ الْوَادِي وَشَمَالِهِ، وَتُغِلُّ لَهُمْ تِلْكَ الْجَنَّتَانِ الْعَظِيمَتَانِ مِنَ الثِّمَارِ مَا يَكْفِيهِمْ، وَيَحْصُلُ لَهُمْ بِهِ الْغِبْطَةُ وَالسُّرُورُ، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ بِشُكْرِ نِعَمِهِ الَّتِي أَدَرَّهَا عَلَيْهِمْ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ؛ مِنْهَا: هَاتَانِ الْجَنَّتَانِ اللَّتَانِ غَالِبُ أَقْوَاتِهِمْ مِنْهُمَا.

وَمِنْهَا: أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ بَلَدَهُمْ بَلْدَةً طَيِّبَةً لِحُسْنِ هَوَائِهَا، وَقِلَّةِ وَخَمِهَا، وَحُصُولِ الرِّزْقِ الرَّغْدِ فِيهَا.

وَمِنْهَا: أَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- وَعَدَهُمْ -إِنْ شَكَرُوهُ- أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ وَيَرْحَمَهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ}.

وَمِنْهَا: أَنَّ اللَّهَ لَمَّا عَلِمَ احْتِيَاجَهُمْ فِي تِجَارَاتِهِمْ وَمَكَاسِبِهِمْ إِلَى الْأَرْضِ الْمُبَارَكَةِ -الظَّاهِرُ أَنَّهَا: قُرَى صَنْعَاءَ، قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا الشَّامُ- هَيَّأَ لَهُمْ مِنَ الْأَسْبَابِ مَا بِهِ يَتَيَسَّرُ وُصُولُهُمْ إِلَيْهَا بِغَايَةِ السُّهُولَةِ، مِنَ الْأَمْنِ وَعَدَمِ الْخَوْفِ، وَتَوَاصُلِ الْقُرَى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا بِحَيْثُ لَا يَكُونُ عَلَيْهِمْ مَشَقَّةٌ بِحَمْلِ الزَّادِ وَالْمَزَادِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ} أَيْ: سَيْرًا مُقَدَّرًا يَعْرِفُونَهُ، وَيَحْكُمُونَ عَلَيْهِ، بِحَيْثُ لَا يَتِيهُونَ عَنْهُ لَيَالِيَ وَأَيَّامًا {آمِنِينَ} أَيْ: مُطْمَئِنِّينَ فِي السَّيْرِ فِي تِلْكَ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ غَيْرَ خَائِفِينَ، وَهَذَا مِنْ تَمَامِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَنْ أَمَّنَهُمْ مِنَ الْخَوْفِ.

فَأَعْرَضُوا عَنِ الْمُنْعِمِ، وَعَنْ عِبَادَتِهِ، وَبَطَرُوا النِّعْمَةَ وَمَلُّوهَا، حَتَّى إِنَّهُمْ طَلَبُوا وَتَمَنَّوْا أَنْ تَتَبَاعَدَ أَسْفَارُهُمْ بَيْنَ تِلْكَ الْقُرَى الَّتِي كَانَ السَّيْرُ فِيهَا مُتَيَسِّرًا.

وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِكُفْرِهِمْ بِاللَّهِ وَبِنِعْمَتِهِ، فَعَاقَبَهُمُ اللَّهُ -تَعَالَى- بِهَذِهِ النِّعْمَةِ الَّتِي أَطْغَتْهُمْ، فَأَبَادَهَا عَلَيْهِمْ، فَأَرْسَلَ عَلَيْهَا سَيْلَ الْعَرِمِ؛ أَيِ: السَّيْلَ الْمُتَوَعِّرَ الَّذِي خَرَّبَ سَدَّهُمْ، وَأَتْلَفَ جَنَّاتِهِمْ، وَخَرَّبَ بَسَاتِينَهُمْ، فَتَبَدَّلَتْ تِلْكَ الْجَنَّاتُ ذَاتُ الْحَدَائِقِ الْمُعْجِبَةِ، وَالْأَشْجَارِ الْمُثْمِرَةِ، وَصَارَ بَدَلَهَا أَشْجَارٌ لَا نَفْعَ فِيهَا، وَلِهَذَا قَالَ: {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ} أَيْ: شَيْءٍ قَلِيلٍ مِنَ الْأَكْلِ الَّذِي لَا يَقَعُ مِنْهُمْ مَوْقِعًا خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ وَهَذَا كُلُّهُ شَجَرٌ مَعْرُوفٌ، وَهَذَا مِنْ جِنْسِ عَمَلِهِمْ، فَكَمَا بَدَّلُوا الشُّكْرَ الْحَسَنَ بِالْكُفْرِ الْقَبِيحِ؛ بُدِّلُوا تِلْكَ النِّعْمَةَ بِمَا ذَكَرَ، وَلِهَذَا قَالَ: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ} أَيْ: وَهَلْ نُجَازِي جَزَاءَ الْعُقُوبَةِ -بِدَلِيلِ السِّيَاقِ- إِلَّا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَبَطِرَ النِّعْمَةَ؟!!

فَلَمَّا أَصَابَهُمْ مَا أَصَابَهُمْ تَفَرَّقُوا وَتَمَزَّقُوا بَعْدَمَا كَانُوا مُجْتَمِعِينَ، وَجَعَلَهُمُ اللَّهُ أَحَادِيثَ يُتَحَدَّثُ بِهِمْ، وَأَسْمَارًا لِلنَّاسِ، وَكَانَ يُضْرَبُ بِهِمُ الْمَثَلُ فَيُقَالُ: ((تَفَرَّقُوا أَيْدِيَ سَبَأٍ))، فَكُلُّ أَحَدٍ يَتَحَدَّثُ بِمَا جَرَى لَهُمْ، وَلَكِنْ لَا يَنْتَفِعُ بِالْعِبْرَةِ فِيهِمْ إِلَّا مَنْ قَالَ اللَّهُ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}: صَبَّارٍ عَلَى الْمَكَارِهِ وَالشَّدَائِدِ، يَتَحَمَّلُهَا لِوَجْهِ اللَّهِ، وَلَا يَتَسَخَّطُهَا بَلْ يَصْبِرُ عَلَيْهَا، شَكُورٍ لِنِعْمَةِ اللَّهِ -تَعَالَى- يُقِرُّ بِهَا، وَيَعْتَرِفُ، وَيُثْنِي عَلَى مَنْ أَوْلَاهَا، وَيُصَرِّفُهَا فِي طَاعَتِهِ

فَهَذَا إِذَا سَمِعَ بِقِصَّتِهِمْ وَمَا جَرَى مِنْهُمْ وَعَلَيْهِمْ؛ عَرَفَ بِذَلِكَ أَنَّ تِلكَ الْعُقُوبَةَ جَزَاءٌ لِكُفْرِهِمْ نِعْمَةَ اللَّهِ، وَأَنَّ مَنْ فَعَلَ مِثْلَهُمْ فُعِلَ بِهِ كَمَا فُعِلَ بِهِمْ، وَأَنَّ شُكْرَ اللَّهِ -تَعَالَى- حَافِظٌ لِلنِّعْمَةِ، دَافِعٌ لِلنِّقْمَةِ، وَأَنَّ رُسُلَ اللَّهِ صَادِقُونَ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ، وَأَنَّ الْجَزَاءَ حَقٌّ، كَمَا رَأَى أُنْمُوذَجَهُ فِي دَارِ الدُّنْيَا)).

لَا شَكَّ أَنَّ الْإِعْرَاضَ عَنْ أَمْرِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَعَدَمَ الِاسْتِجَابَةِ لَهُ مِنْ أَبْرَزِ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ، الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِقَوْلِهِ: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ (48) وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ ۚ بَلْ أُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [النور: 48-50].

((يُخْبِرُ -تَعَالَى- عَنْ حَالَةِ الظَّالِمِينَ، مِمَّنْ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَضَعْفُ إِيمَانٍ أَوْ نِفَاقٌ وَرَيْبٌ وَضَعْفُ عِلْمٍ، أَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَيَلْتَزِمُونَ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ وَالطَّاعَةَ، ثُمَّ لَا يَقُومُونَ بِمَا قَالُوا، وَيَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ عَنِ الطَّاعَةِ تَوَلِّيًا عَظِيمًا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ}؛ فَإِنَّ الْمُتَوَلِّيَ قَدْ يَكُونُ لَهُ نِيَّةُ عَوْدٍ وَرُجُوعٍ إِلَى مَا تَوَلَّى عَنْهُ، وَهَذَا الْمُتَوَلِّي مُعْرِضٌ، لَا الْتِفَاتَ لَهُ، وَلَا نَظَرَ لِمَا تَوَلَّى عَنْهُ، وَتَجِدُ هَذِهِ الْحَالَةَ مُطَابِقَةً لِحَالِ كَثِيرٍ مِمَّنْ يَدَّعِي الْإِيمَانَ وَالطَّاعَةَ لِلَّهِ وَهُوَ ضَعِيفُ الْإِيمَانِ، وَتَجِدُهُ لَا يَقُومُ بِكَثِيرٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ، خُصُوصًا الْعِبَادَاتِ الَّتِي تَشُقُّ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النُّفُوسِ؛ كَالزَّكَوَاتِ، وَالنَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةِ وَالْمُسْتَحَبَّةِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

{وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} أَيْ: إِذَا صَارَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَحَدٍ حُكُومَةٌ، وَدُعُوا إِلَى حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ يُرِيدُونَ أَحْكَامَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَيُفَضِّلُونَ أَحْكَامَ الْقَوَانِينِ غَيْرِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ؛ لِعِلْمِهِمْ أَنَّ الْحَقَّ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّ الشَّرْعَ لَا يَحْكُمُ إِلَّا بِمَا يُطَابِقُ الْوَاقِعَ.

{وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ} أَيْ: إِلَى حُكْمِ الشَّرْعِ {مُذْعِنِينَ}، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَجْلِ أَنَّهُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِأَجْلِ مُوَافَقَةِ أَهْوَائِهِمْ، فَلَيْسُوا مَمْدُوحِينَ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَلَوْ أَتَوْا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ حَقِيقَةً مَنْ يَتَّبِعُ الْحَقَّ فِيمَا يُحِبُّ وَيَكْرَهُ، وَفِيمَا يَسُرُّهُ وَيُحْزِنُهُ، وَأَمَّا الَّذِي يَتَّبِعُ الشَّرْعَ عِنْدَ مُوَافَقَةِ هَوَاهُ وَيَنْبِذُهُ عِنْدَ مُخَالَفَتِهِ وَيُقَدِّمُ الْهَوَى عَلَى الشَّرْعِ فَلَيْسَ بِعَبْدٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ.

قَالَ اللَّهُ فِي لَوْمِهِمْ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} أَيْ: عِلَّةٌ أَخْرَجَتِ الْقَلْبَ عَنْ صِحَّتِهِ وَأَزَالَتْ حَاسَّتَهُ، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمَرِيضِ الَّذِي يُعْرِضُ عَمَّا يَنْفَعُهُ وَيُقْبِلُ عَلَى مَا يَضُرُّهُ، {أَمِ ارْتَابُوا} أَيْ: شَكُّوا، وَقَلِقَتْ قُلُوبُهُمْ مِنْ حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَاتَّهَمُوهُ أَنَّهُ لَا يَحْكُمُ بِالْحَقِّ، {أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} أَيْ: يَحْكُمُ عَلَيْهِمْ حُكْمًا ظَالِمًا جَائِرًا، وَإِنَّمَا هَذَا وَصْفُهُمْ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، وَأَمَّا حُكْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَفِي غَايَةِ الْعَدَالَةِ وَالْقِسْطِ، وَمُوَافَقَةِ الْحِكْمَةِ، وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ.

وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ هُوَ مُجَرَّدَ الْقَوْلِ حَتَّى يَقْتَرِنَ بِهِ الْعَمَلُ، وَلِهَذَا نَفَى الْإِيمَانَ عَمَّنْ تَوَلَّى عَنِ الطَّاعَةِ وَوُجُوبِ الِانْقِيَادِ لِحُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي كُلِّ حَالٍ، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَنْقَدْ لَهُ دَلَّ عَلَى مَرَضٍ فِي قَلْبِهِ، وَرَيْبٍ فِي إِيمَانِهِ، وَأَنَّهُ يَحْرُمُ إِسَاءَةُ الظَّنِّ بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، وَأَنْ يُظَنَّ بِهَا خِلَافُ الْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا} [النساء: 61].

((وَإِذَا نُصِحَ هَؤُلَاءِ، وَقِيلَ لَهُمْ: تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَهَدْيِهِ؛ أَبْصَرْتَ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ وَيُبْطِنُونَ الْكُفْرَ يُعْرِضُونَ عَنْكَ إِعْرَاضًا)).

وَمَنْ أَعْرَضَ وَعَصَى وَلَمْ يَسْتَجِبْ فَبِئْسَ الْمَآلُ، وَلَنْ يُغْنِيَ عَنْهُ جَمْعُهُ وَلَا مَالُهُ وَلَوْ أَتَى بِمِلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَمِثْلِهِ مَعَهُ لِيَفْتَدِيَ بِهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [الرعد: 18].

(({وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ}: بَعْدَمَا ضَرَبَ لَهُمُ الْأَمْثَالَ وَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقَّ لَهُمُ الْحَالَةُ غَيْرُ الْحَسَنَةِ، فَـ {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ وَغَيْرِهِمَا، {وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ}: مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ، وَأَنَّى لَهُمْ ذَلِكَ؟!!

{أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ}: وَهُوَ الْحِسَابُ الَّذِي يَأْتِي عَلَى كُلِّ مَا أَسْلَفُوهُ مِنْ عَمَلٍ سَيِّئٍ وَمَا ضَيَّعُوهُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ، قَدْ كُتِبَ ذَلِكَ وَسُطِرَ عَلَيْهِمْ وَقَالُوا: {يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}، وَبَعْدَ هَذَا الْحِسَابِ السَّيِّئِ  مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ الْجَامِعَةُ لِكُلِّ عَذَابٍ؛ مِنَ الْجُوعِ الشَّدِيدِ، وَالْعَطَشِ الْوَجِيعِ، وَالنَّارِ الْحَامِيَةِ، وَالزَّقُّومِ، وَالزَّمْهَرِيرِ، وَالضَّرِيعِ، وَجَمِيعِ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ مِنْ أَصْنَافِ الْعَذَابِ، {وَبِئْسَ الْمِهَادُ} أَيِ : الْمَقَرُّ وَالْمَسْكَنُ مَسْكَنُهُمْ)).

عَاقِبَةُ الْمُعْرِضِينَ عَنِ الْحَقِّ تَؤُولُ إِلَى الْخُسْرَانِ الْمُبِينِ وَالْعَذَابِ الْعَظِيمِ.

الْإِعْرَاضُ عَنِ الْحَقِّ مُصِيبَةٌ عَظِيمَةٌ، وَكُرْبَةٌ جَسِيمَةٌ، وَاللهِ! مَا أَعْرَضَ عَنِ الْحَقِّ مَنْ ذَكَرَ رَبَّهُ فَأَحْدَثَ ذِكْرُ رَبِّهِ فِي قَلْبِهِ تُقَاةً!

مَا أَعْرَضَ أَحَدٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ إِلَّا أَظْلَمَ عَلَيْهِ وَقْتُهُ، وَتَشَوَّشَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَكَانَ فِي عِيشَةٍ هِيَ الضَّنْكُ -نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ-.

لِلْإِعْرَاضِ عَنِ الْحَقِّ مِنَ النَّتَائِجِ السَّيِّئَةِ مَا لَا يُحْصَى عَدَدًا، وَمِنَ الْعَوَاقِبِ الْوَخِيمَةِ مَا لَا يُسْتَقْصَى أَبَدًا، وَعَوَاقِبُهُ وَنَتَائِجُهُ السَّيِّئَةُ تَكُونُ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ.

((الِاسْتِجَابَةُ للهِ وَلِلرَّسُولِ ﷺ سَبِيلُ عِزَّةِ الْأُمَّةِ))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- جَعَلَ حَيَاةَ الْقَلْبِ فِي الِاسْتِجَابَةِ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ، وَهُوَ قَدْ جَاءَ بِالْوَحْيَيْنِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24].

أَعْظَمُ الْحَيَاتَيْنِ حَيَاةُ الْقَلْبِ، وَأَحْيَا النَّاسِ أَتْبَعُهُمْ لِلْوَحْيِ.

إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ الْإِسْلَامَ لَنَا عِزًّا، وَمَنَّ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ عَلَيْنَا مِنْ غَيْرِ أَنْ نَسْأَلَهُ، فَهَذِهِ الْمِنَّةُ الْعَظِيمَةُ الْجَلِيلَةُ يَنْبَغِي أَنْ تُشْكَرَ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ تَقْوَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَرْضٌ لَازِمٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، وَتَقْوَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى، وَأَنْ يُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرُ، وَأَنْ يُؤْتَى بِأَمْرِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ، وَأَنْ يُنْتَهَى عَنْ نَهْيِهِ؛ لِأَنَّ التَّقْوَى هِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ، وَاجْتِنَابُ الْمَحْظُورَاتِ، فَهَذِهِ التَّقْوَى الَّتِي أَرَادَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَنَا، وَطَلَبَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنَّا، هِيَ وَصِيَّةُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لِلْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ.

فَهَذَا الدِّينُ الْمَتِينُ الْعَزِيزُ الْغَالِبُ الظَّاهِرُ مَنَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْنَا بِهِ نِعْمَةً مِنْهُ وَمِنَّةً، فَللهِ الْحَمْدُ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى نِعْمَةِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، هِيَ أَجَلُّ نِعْمَةٍ وَأَعْظَمُهَا، وَلَوْ أَنَّ إِنْسَانًا احْتُرِقَ حَتَّى صَارَ فَحْمَةً، ثُمَّ ذُرِّيَ تُرَابُهُ فِي الْهَوَاءِ لَكَانَ ذَلِكَ قَلِيلًا فِي جَنْبِ شُكْرِ تِلْكَ النِّعْمَةِ، وَكَانَ السَّابِقُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَ هَذِهِ الْأُمَّةِ -كَمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ-: ((كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ -بِفِلْقَتَيْنِ، بِشِقَّيْنِ-، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ)).

وَهَؤُلَاءِ أَصْحَابُ النَّبِيِّ ﷺ فِي صَبْرِهِمْ وَتَحَمُّلِهِمْ وَجِهَادِهِمْ وَدَعْوَتِهِمْ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، يَنْشُرُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِمُ الْإِسْلَامَ فِي الْآفَاقِ.

هَذَا الدِّينُ الْعَظِيمُ مَهْمَا طَلَبْنَا الْعِزَّ بِغَيْرِهِ أَذَلَّنَا اللهُ، كَمَا قَالَ الْفَارُوقُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَهُوَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَدْ خَرَجَ يَوْمًا مِنْ بَيْتِهِ، وَقَدْ أَخَذَ أُهْبَتَهُ؛ لِكَيْ يَخْطُبَ الْخُطْبَةَ يَسْمَعُهَا مِنْهُ الْمُسْلِمُونَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، فَمَرَّ بِبَيْتِ الْعَبَّاسِ، وَكَانَ هُنَالِكَ مِيزَابٌ -وَهُوَ تِلْكَ الْأُنْبُوبَةُ الَّتِي تَكُونُ فَوْقَ سَطْحِ الْمَنْزِلِ، إِذَا مَا نَزَلَ الْمَطَرُ فَتَجَمَّعَ جَعَلَتْهُ بَعِيدًا عَنْ سَطْحِ الْمَنْزِلِ وَعَنْ جِدَارِهِ، حَتَّى يُلْقَى بِمَبْعَدَةٍ فِي الطَّرِيقِ- كَانَ الْمِيزَابُ هُنَالِكَ فِي بَيْتِ الْعَبَّاسِ عَمِّ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَكَانَ قَدْ ذُبِحَ فَرْخَانِ لِلْعَبَّاسِ، ثُمَّ جُعِلَ دَمُهُمَا مَعَ بَعْضِ الْمَاءِ هُنَالِكَ فِي الْمِيزَابِ، فَنَزَلَ عَلَى أُمِّ رَأْسِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ فَثَارَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَأَمَرَ بِقَلْعِ الْمِيزَابِ فِي الْحَالِ، فَجَاءَهُ الْعَبَّاسُ، فَقَالَ لَهُ: ((يَا عُمَرُ! وَاللهِ! إِنَّهُ لَلْمِيزَابُ الَّذِي وَضَعَهُ  النَّبِيُّ ﷺ فِي مَوْضِعِهِ بِيَدِهِ)).

وَكَانَ عُمَرُ قَدْ رَجَعَ إِلَى بَيْتِهِ، فَأَخَذَ بِثِيَابٍ أُخْرَى نَظِيفَةٍ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَتَحَمَّلَ، وَتِلْكَ الْمُوَاجَهَةُ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى مِنْبَرِ الرَّسُولِ ﷺ، فَقَالَ: ((وَاللهِ! يَا عَبَّاسُ لَتَقِفَنَّ عَلَى ظَهْرِي حَتَّى تَجْعَلَ الْمِيزَابَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي جَعَلَهُ فِيهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ )).

انْظُرْ إِلَى هَذَا الَّذِي جَاءَ بِهِ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مَعَ بَعْضِ رَعِيَّتِهِ، وَقَدْ وَقَعَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَذَى مَا وَقَعَ، ثُمَّ يَأْتِي لَنَا بِالْقَانُونِ الَّذِي يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَلْتَفِتَ إِلَيْهِ، وَأَنْ نَعْلَمَ أَنَّ فِيهِ الْمَخْرَجَ مِنَ التِّيهِ، وَالْخُرُوجَ مِنَ الْمَتَاهَةِ، وَالْعَوْدَةَ إِلَى مَا تُحِبُّهُ الْأَنْفُسُ، وَتَرْضَاهُ الْأَرْوَاحُ.

عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَمَّا ذَهَبَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَحُمِلَ عَلى بِرْذَوْنَ وَبِثَوْبِهِ مِنَ الرُّقَعِ مَا بِهِ، مِمَّا تَجَاوَزَ بِضْعَ عَشْرَةَ رُقْعَةً، ثُمَّ إِنَّهُ كَانَ عَلَى ذَلِكَ الْبِرْذَوْنِ فَجَاءَتْ مَخَاضَةٌ -وَهُوَ مَاءٌ يَكُونُ إِلَى الْكُعُوبِ فِي الطَّرِيقِ-، فَنَزَلَ فَخَلَعَ خُفَّيْهِ، ثُمَّ حَمَلَ الْخُفَّيْنِ بِيَدِهِ، ثُمَّ أَخَذَ يَخُوضُ فِي الْمَخَاضَةِ، يَقُودُ دَابَّتَهُ، فَقَالَ لَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ: ((أَنْتَ تَفْعَلُ ذَلِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟!!)).

فَقَالَ: ((لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ لَجَعَلْتُهُ نَكَالًا لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، إِنَّا كُنَّا أَذَلَّ قَوْمٍ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ فَأَعَزَّنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالْإِسْلَامِ، فَمَهْمَا طَلَبْنَا الْعِزَّ بِغَيْرِ الدِّينِ بِغَيْرِ الْإِسْلَامِ أَذَلَّنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)).

مَهْمَا طَلَبْنَا الْعِزَّ بِغَيْرِ دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَمَهْمَا الْتَمَسْنَا الْوُصُولَ إِلَى الْعِزَّةِ مِنْ غَيْرِ سَبِيلِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَنَهْجِ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ ﷺ؛ انْعَكَسَ الْأَمْرُ عَلَيْنَا، وَانْقَلَبَتِ الْأُمُورُ لَدَيْنَا، وَصَارَ الْعِزُّ الْمَبْحُوثُ عَنْهُ ذُلًّا يَقَعُ عَلَيْنَا كَمَا أَخْبَرَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((كُنَّا أَذَلَّ قَوْمٍ فِي الْأَرْضِ، فَأَعَزَّنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالْإِسْلَامِ، فَمَهْمَا طَلَبْنَا الْعِزَّ بِغَيْرِ الْإِسْلَامِ أَذَلَّنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)).

{اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}، الْزَمُوا نَهْجَهُ، وَقُصُّوا عَلَى أَثَرِهِ ﷺ!

تَعَلَّمُوا دِينَ اللهِ!

أَقْبِلُوا عَلَى كِتَابِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- تَالِينَ مُرَتِّلِينَ!

أَقْبِلُوا عَلَى كِتَابِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مُتَفَهِّمِينَ مُتَفَقِّهِينَ!

أَقْبِلُوا عَلَى كِتَابِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَامِلِينَ مُطَبِّقِينَ!

أَقْبِلُوا عَلَى سُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ، فَوَاللهِ! لَوْ أَنَّ النَّاسَ أَخَذُوا بِأَمْرِ طَاعَةِ النَّبِيِّ ﷺ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا مَا وُجِدَ فِي الدُّنْيَا شَرٌّ قَطُّ، وَإِنَّمَا يُوجَدُ الشَّرُّ فِي كُلِّ مَحَلَّةٍ، وَيُوجَدُ فِي كُلِّ مَكَانٍ عَلَى حَسَبِ الْبُعْدِ مِنْ طَاعَةِ النَّبِيِّ ﷺ، وَعَلَى حَسَبِ عَدَمِ الِاسْتِجَابَةِ لِأَمْرِهِ ﷺ.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}، وَاحْذَرُوا {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}، فَخَافُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَعَلَى قُلُوبِكُمْ -عِبَادَ اللهِ-؛ فَإِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ، وَحِينَئِذٍ يَنْتَكِسُ وَيَرْتَكِسُ فِي الْحَمْأَةِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، وَمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَدْخُلَ النَّارَ)).

عِبَادَ اللهِ! مَا أَحْوَجَنَا إِلَى الِاسْتِجَابَةِ للهِ وَرَسُولِهِ ﷺ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَفَرَّ مِنْهُ وَلَا مَرَدَّ، يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ۚ مَا لَكُم مِّن مَّلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ} [الشورى: 47].

((يَأْمُرُ -تَعَالَى- عِبَادَهُ بِالِاسْتِجَابَةِ لَهُ، بِامْتِثَالِ مَا أَمَرَ بِهِ، وَاجْتِنَابِ مَا نَهَى عَنْهُ، وَبِالْمُبَادَرَةِ بِذَلِكَ وَعَدَمِ التَّسْوِيفِ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ الَّذِي إِذَا جَاءَ لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ وَاسْتِدْرَاكُ الْفَائِتِ، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مَلْجَأٌ يَلْجَأُ إِلَيْهِ فَيَفُوتُ رَبَّهُ وَيَهْرَبُ مِنْهُ.

بَلْ قَدْ أَحَاطَتِ الْمَلَائِكَةُ بِالْخَلِيقَةِ مِنْ خَلْفِهِمْ، وَنُودُوا: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ}، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ نَكِيرٌ لِمَا اقْتَرَفَهُ وَأَجْرَمَهُ، بَلْ لَوْ أَنْكَرَ لَشَهِدَتْ عَلَيْهِ جَوَارِحُهُ.

وَهَذِهِ الْآيَةُ وَنَحْوُهَا فِيهَا ذَمُّ الْأَمَلِ، وَالْأَمْرُ بِانْتِهَازِ الْفُرْصَةِ فِي كُلِّ عَمَلٍ يُعْرَضُ لِلْعَبْدِ، فَإِنَّ لِلتَّأْخِيرِ آفَاتٍ)).

نَسْأَلُ اللهَ الثَّبَاتَ عَلَى الْأَمْرِ وَالْعَزِيمَةَ فِي الرُّشْدِ، إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.   

نَسْأَلُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يَرْزُقَنَا الْإِجَابَةَ، وَأَنْ يَمُنَّ عَلَيْنَا بِالِاسْتِجَابَةِ، وَأَنْ يَجْعَلَنَا طَائِعِينَ لِأَمْرِهِ مُنْتَهِينَ عِنْدَ نَهْيِهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وَأَنْ يَحْشُرَنَا فِي زُمْرَةِ نَبِيِّهِ ﷺ.

وَصَلَّى اللهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

المصدر: أَهْلُ الِاسْتِجَابَةِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  مَخَاطِرُ الطَّلَاقِ
  التَّكَاتُفُ الْوَطَنِيُّ فِي التَّعَامُلِ مَعَ الْأَزْمَاتِ
  الرد على الملحدين:تتمة أسباب انتشار الإلحاد في العصر الحديث، وبيان شرك الملحدين
  حب الوطن الإسلامي، وفضل الدفاع عنه، ومنزلة الشهادة في سبيل الله
  ((دُرُوسٌ وَعِظَاتٌ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ)) ​((الدَّرْسُ الثَّانِي: أُصُولُ التَّوْحِيدِ وَمَعَالِمُهُ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ))
  التَّاجِرُ الْأَمِينُ
  فروضُ الكِفَايَات ودَوْرُهَا في تحقيقِ التَّوَازُنِ المُجْتَمَعِيِّ
  الْقِيَمُ الْإِنْسَانِيَّةُ فِي سُورَةِ الْحُجُرَاتِ
  النَّفْعُ الْعَامُّ فِي مِيزَانِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ
  فِقْهُ بِنَاءِ الدُّوَلِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان