حَدِيثُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ عَنِ الصِّدْقِ وَالصَّادِقِينَ

حَدِيثُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ عَنِ الصِّدْقِ وَالصَّادِقِينَ

((حَدِيثُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ عَنِ الصِّدْقِ وَالصَّادِقِينَ))

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ؛ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَة، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَة، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((مَنْزِلَةُ الصِّدْقِ))

((فَمَنْزِلَةُ الصِّدْقِ هِيَ مَنْزِلَةُ الْقَوْمِ الْأَعْظَمُ الَّذِي مِنْهُ تَنْشَأُ جَمِيعُ مَنَازِلِ السَّالِكِينَ، وَالطَّرِيقُ الْأَقْوَمُ الَّذِي مَنْ لَمْ يَسِرْ عَلَيْهِ فَهُوَ مِنَ الْمُنْقَطِعِينَ الْهَالِكِينَ، وَبِهِ تَمَيَّزَ أَهْلُ النِّفَاقِ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَسُكَّانُ الْجِنَانِ مِنْ أَهْلِ النِّيرَانِ.

وَالصِّدْقُ سَيْفُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ الَّذِي مَا وَقَعَ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا قَطَعَهُ، وَلَا وَاجَهَ بَاطِلًا إِلَّا أَرْدَاهُ وَصَرَعَهُ، مَنْ صَالَ بِهِ لَمْ تُرَدَّ صَوْلَتُهُ، وَمَنْ نَطَقَ بِهِ عَلَتِ الْخُصُومَ كَلِمَتُهُ، فَهُوَ رُوحُ الْأَعْمَالِ، وَمَحَكُّ الْأَحْوَالِ، وَالْحَامِلُ عَلَى اقْتِحَامِ الْأَهْوَالِ، وَالْبَابُ الَّذِي مِنْهُ دَخَلَ الْوَاصِلُونَ إِلَى حَضْرَةِ ذِي الْجَلَالِ، وَهُوَ أَسَاسُ بِنَاءِ الدِّينِ، وَعَمُودُ فُسْطَاطِ الْيَقِينِ، وَدَرَجَتُهُ تَالِيَةٌ لِدَرَجَةِ النُّبُوَّةِ الَّتِي هِيَ أَرْفَعُ دَرَجَاتِ الْعَالَمِينَ.

وَمِنْ مَسَاكِنِ الصَّادِقِينَ فِي الْجِنانِ تُجْرَى الْعُيُونُ وَالْأَنْهَارُ كَمَا هِيَ إِلَى مَسَاكِنِ الصِّدِّيقِينَ، كَمَا كَانَ مِنْ قُلُوبِهِمْ إِلَى قُلُوبِهِمْ فِي هَذِهِ الدَّارِ مَدَدٌ مُتَّصِلٌ وَمَعِينٌ.

وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ -تَعَالَى- أَهْلَ الْإِيمَانِ أَنْ يَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ، وَخَصَّ الْمُنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِالنَّبِيِّينَ، وَالصِّدِّيقِينَ، وَالشُّهَدَاءِ، وَالصَّالِحِينَ، فَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} فَهُمْ أَهْلُ الرَّفِيقِ الْأَعْلَى {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69].

وَلَا يَزَالُ اللَّهُ يُمِدُّهُمْ بِنِعَمِهِ، وَأَلْطَافِهِ، وَمَزِيدِهِ؛ إِحْسَانًا مِنْهُ وَتَوْفِيقًا، وَلَهُمْ مَزِيَّةُ الْمَعِيَّةِ مَعَ اللَّهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّادِقِينَ، وَلَهُمْ مَنْزِلَةُ الْقُرْبِ مِنْهُ؛ إِذْ دَرَجَتُهُمْ مِنْهُ ثَانِي دَرَجَةِ النَّبِيِّينَ.

وَأَخْبَرَ -تَعَالَى- أَنَّ مَنْ صَدَقَهُ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ، فَقَالَ: {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد: 21].

وَأَخْبَرَ -تَعَالَى- عَنْ أَهْلِ الْبِرِّ وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ بِأَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ؛ مِنَ الْإِيمَانِ، وَالْإِسْلَامِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالصَّبْرِ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ الصِّدْقِ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177].

وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الصِّدْقَ بِالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَأَنَّ الصِّدْقَ هُوَ مَقَامُ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ.

وَقَسَّمَ اللَّهُ -تَعَالَى- النَّاسَ إِلَى صَادِقٍ وَمُنَافِقٍ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [الأحزاب: 24].

وَالْإِيمَانُ أَسَاسُهُ الصِّدْقُ، وَالنِّفَاقُ أَسَاسُهُ الْكَذِبُ، فَلَا يَجْتَمِعُ كَذِبٌ وَإِيمَانٌ إِلَّا وَأَحَدُهُمَا مُحَارِبٌ الْآخَرَ.

وَأَخْبَرَ -تَعَالَى- أَنَّهُ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يَنْفَعُ الْعَبْدَ وَيُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِهِ إِلَّا صِدْقُهُ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [المائدة: 119].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ۚ ذَٰلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الزمر: 33-35].

فَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ هُوَ مِنْ شَأْنِهِ الصِّدْقُ فِي قَوْلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَحَالِهِ؛ فَالصِّدْقُ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ.

فَالصِّدْقُ فِي الْأَقْوَالِ: اسْتِوَاءُ اللِّسَانِ عَلَى الْأَقْوَالِ كَاسْتِوَاءِ السُّنْبُلَةِ عَلَى سَاقِهَا.

وَالصِّدْقُ فِي الْأَعْمَالِ: اسْتِوَاءُ الْأَعْمَالِ عَلَى الْأَمْرِ وَالْمُتَابَعَةِ كَاسْتِوَاءِ الرَّأْسِ عَلَى الْجَسَدِ.

وَالصِّدْقُ فِي الْأَحْوَالِ: اسْتِوَاءُ أَعْمَالِ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ عَلَى الْإِخْلَاصِ، وَاسْتِفْرَاغُ الْوُسْعِ، وَبَذْلُ الطَّاقَةِ، فَبِذَلِكَ يَكُونُ الْعَبْدُ مِنَ الَّذِينَ جَاءُوا بِالصِّدْقِ.

وَبِحَسَبِ كَمَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ فِيهِ وَقِيَامِهَا بِهِ تَكُونُ صِدِّيقِيَّتُهُ؛ وَلِذَلِكَ كَانَ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ- ذِرْوَةُ سَنَامِ الصِّدِّيقِيَّةِ؛ حَتَّى سُمِّيَ الصِّدِّيقَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَالصِّدِّيقُ أَبْلَغُ مِنَ الصَّدُوقِ، وَالصَّدُوقُ أَبْلَغُ مِنَ الصَّادِقِ، فَأَعْلَى مَرَاتِبِ الصِّدْقِ: مَرْتَبَةُ الصِّدِّيقِيَّةِ، وَهِيَ كَمَالُ الِانْقِيَادِ لِلرَّسُولِ ﷺ، مَعَ كَمَالِ الْإِخْلَاصِ لِلْمُرْسِلِ.

وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ -تَعَالَى- رَسُولَهُ ﷺ أَنْ يَسْأَلَهُ أَنْ يَجْعَلَ مُدْخَلَهُ وَمُخْرَجَهُ عَلَى الصِّدْقِ، فَقَالَ: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} [الإسراء: 80].

وَأَخْبَرَ عَنْ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنَّهُ سَأَلَهُ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ لِسَانَ صِدْقٍ فِي النَّاسِ، فَقَالَ: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء: 84].

وَبَشَّرَ عِبَادَهُ بِأَنَّ لَهُمْ عِنْدَهُ قَدَمَ صِدْقٍ، وَمَقْعَدَ صِدْقٍ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يونس: 2].

وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 54-55].

فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ: مُدْخَلُ الصِّدْقِ، وَمُخْرَجُ الصِّدْقِ، وَلِسَانُ الصِّدْقِ، وَقَدَمُ الصِّدْقِ، وَمَقْعَدُ الصِّدْقِ.

وَحَقِيقَةُ الصِّدْقِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ: هُوَ الْحَقُّ الثَّابِتُ الْمُتَّصِلُ بِاللَّهِ، الْمُوصِلُ إِلَى اللهِ، وَهُوَ مَا كَانَ بِهِ وَلَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ، وَجَزَاءُ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)).

((حَدِيثُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ عَنِ الصِّدْقِ وَالصَّادِقِينَ))

إِنَّ مِنْ عَظَمَةِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ: أَنَّهَا دَعَتْ إِلَى الْقِيَمِ النَّبِيلَةِ، وَالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ الَّتِي تُقَرِّبُ الْإِنْسَانَ إِلَى رَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَتُسْهِمُ فِي بِنَاءِ الْمُجْتَمَعَاتِ الرَّاقِيَةِ، وَمِنْهَا: خُلُقُ الصِّدْقِ الَّذِي جَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي مَوَاضِعِ التَّكْرِيمِ وَالتَّشْرِيفِ وَالْإِجْلَالِ، وَلَيْسَ هُنَاكَ أَدَلُّ عَلَى شَرَفِ الصِّدْقِ وَفَضْلِهِ وَمَكَانَتِهِ مِنْ أَنْ يَصِفَ اللهُ -تَعَالَى- نَفْسَهُ بِهِ، قَدْ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ} [آل عمران: 95].

وَقَالَ -جَلَّ شَأْنُهُ-: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء: 122].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87].

وَالصِّدْقُ صِفَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ؛ فَقَدْ وَصَفَ اللهُ -تَعَالَى- بِهِ خَلِيلَهُ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَقَالَ: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا} [مريم: 41].

وَقَالَ -تَعَالَى- فِي شَأْنِ نَبِيِّهِ إِسْمَاعِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم: 54].

وَفِي شَأْنِ نَبِيِّهِ إِدْرِيسَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا} [مريم: 56].

وَقَالَ -تَعَالَى- فِي وَصْفِ يَحْيَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 39].

وَفِي مَعْرِضِ التَّزْكِيَةِ لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- مَادِحًا صِدْقَهُ ﷺ: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ} [النجم: 3-4].

وَقَالَ -تَعَالَى- فِي الثَّنَاءِ عَلَيْهِ ﷺ: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 37].

وَلَقَدْ عَاشَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ حَيَاتَهُ قَبْلَ الْبِعْثَةِ وَبَعْدَهَا أُنْمُوذَجًا لِلْإِنْسَانِ الْكَامِلِ الَّذِي يُرِيدُهُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-، فَكَانَ ﷺ يُلَقَّبُ بَيْنَ قَوْمِهِ بِالصَّادِقِ الْأَمِينِ؛ حَتَّى إِنَّهُ ﷺ اتَّخَذَ مِنَ الصِّدْقِ مَدْخَلًا؛ لِيَكُونَ بِدَايَةً لِإِعْلَانِ رِسَالَتِهِ لِلنَّاسِ، فَعِنْدَمَا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]؛ صَعِدَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى الصَّفَا، فَجَعَلَ يُنَادِي: ((يَا بَنِي فِهْرٍ! يَا بَنِي عَدِيٍّ!)) لِبُطُونِ قُرَيْشٍ، حَتَّى اجْتَمَعُوا.

فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ؛ أَرْسَلَ رَسُولًا لِيَنْظُرَ مَا هُوَ، فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ، فَقَالَ ﷺ: ((أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ؛ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟)).

قَالُوا: ((نَعَمْ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقًا)).

قَالَ: ((فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَوَصَفَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ، فَقَالَ -تَعَالَى- بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ جُمْلَةً مِنْ إِيمَانِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ: {أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177].

{أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا}: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَنَعَتَهُمُ النَّعْتَ الَّذِي نَعَتَهُمْ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ}.

فَمَنْ فَعَلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ؛ فَهُمُ الَّذِينَ صَدَقُوا اللَّهَ فِي إِيمَانِهِمْ، وَحَقَّقُوا قَوْلَهُمْ بِأَفْعَالِهِمْ، لَا مَنْ وَلَّى وَجْهَهُ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَهُوَ يُخَالِفُ اللَّهَ فِي أَمْرِهِ، وَيَنْقُضُ عَهْدَهُ وَمِيثَاقَهُ، وَيَكْتُمُ النَّاسَ بَيَانَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِبَيَانِهِ، وَيُكَذِّبُ رُسُلَهُ.

{وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}: وَأُولَئِكَ الَّذِينَ اتَّقَوْا عِقَابَ اللَّهِ؛ فَتَجَنَّبُوا عِصْيَانَهُ، وَحَذِرُوا وَعْدَهُ، فَلَمْ يَتَعَدَّوْا حُدُودَهُ، وَخَافُوهُ، فَقَامُوا بِأَدَاءِ فَرَائِضِهِ.

كَانَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ يَقُولُ: (({أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا}: فَتَكَلَّمُوا بِكَلَامِ الْإِيمَانِ، فَكَانَتْ حَقِيقَتُهُ الْعَمَلَ، صَدَقُوا اللهَ. قَالَ: وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: هَذَا كَلَامُ الْإِيمَانِ، وَحَقِيقَتُهُ الْعَمَلُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ الْقَوْلِ عَمَلٌ فَلَا شَيْءَ)))).

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23].

مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ قَامُوا بِمَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ، وَوَفَّوْا بِهِ، فَبَعْضُ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ مَنْ وَفَّى بِعَهْدِهِ مَعَ اللهِ، وَأَدَّى نَذْرَهُ، وَصَبَرَ عَلَى الْجِهَادِ حَتَّى اسْتُشْهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَنْ بَقِيَ بَعْدَ هَؤُلَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَنْتَظِرُونَ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ؛ إِمَّا الشَّهَادَةُ، أَوِ النَّصْرُ عَلَى الْأَعْدَاءِ.

وَكِلَا الْفَرِيقَيْنِ -الَّذِينَ قَضَوْا نَحْبَهُمْ، وَالَّذِينَ يَنْتَظِرُونَ قَضَاءَهُ حَتَّى غَايَتِهِ- مَا بَدَّلُوا فِيمَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ تَبْدِيلًا مَا، بَلْ حَافَظُوا عَلَى عُهُودِهِمْ، وَنَفَّذُوهَا، وَوَفَّوْا بِهَا.

وَقَالَ تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 8].

((ذَكَرَ -تَعَالَى- الْحِكْمَةَ وَالسَّبَبَ الْمُوجِبَ لِجَعْلِهِ -تَعَالَى- أَمْوَالَ الْفَيْءِ لِمَنْ قَدَّرَهَا لَهُ، وَأَنَّهُمْ حَقِيقُونَ بِالْإِعَانَةِ، مُسْتَحِقُّونَ لِأَنْ تُجْعَلَ لَهُمْ، وَأَنَّهُمْ مَا بَيْنَ مُهَاجِرِينَ قَدْ هَجَرُوا الْمَحْبُوبَاتِ وَالْمَأْلُوفَاتِ مِنَ الدِّيَارِ، وَالْأَوْطَانِ، وَالْأَحْبَابِ، وَالْخِلَّانِ، وَالْأَمْوَالِ؛ رَغْبَةً فِي اللَّهِ، وَنُصْرَةً لِدِينِ اللَّهِ، وَمَحَبَّةً لِرَسُولِ اللَّهِ؛ فَهَؤُلَاءِ هُمُ الصَّادِقُونَ الَّذِينَ عَمِلُوا بِمُقْتَضَى إِيمَانِهِمْ، وَصَدَّقُوا إِيمَانَهُمْ بِأَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ، وَالْعِبَادَاتِ الشَّاقَّةِ؛ بِخِلَافِ مَنِ ادَّعَى الْإِيمَانَ وَهُوَ لَمْ يُصَدِّقْهُ بِالْجِهَادِ، وَالْهِجْرَةِ، وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْعِبَادَاتِ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15].

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} أَيْ: مَا الْمُؤْمِنُونَ إِلَّا هَؤُلَاءِ، وَالْمُرَادُ: الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا، الَّذِينَ تَمَّ إِيمَانُهُمْ؛ إِلَّا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ، آمَنُوا: أَقَرُّوا إِقْرَارًا مُسْتَلْزِمًا لِلْقَبُولِ وَالْإِذْعَانِ، وَلَيْسَ مُجَرَّدُ الْإِقْرَارِ كَافِيًا، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ قَبُولٍ وَإِذْعَانٍ، فَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ هُمُ الَّذِينَ أَقَرُّوا إِقْرَارًا تَامًّا بِمَا يَسْتَحِقُّ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَبِمَا يَسْتَحِقُّ الرَّسُولُ ﷺ، وَقَبِلُوا بِذَلِكَ وَأَذْعَنُوا، {ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا}، كَلِمَةُ: {ثُمَّ} هُنَا فِي مَوْقِعٍ مِنْ أَحْسَنِ الْمَوَاقِعِ؛ لِأَنَّ (ثُمَّ) تَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ وَالْمُهْلَةِ، ثُمَّ اسْتَقَرُّوا وَثَبَتُوا عَلَى الْإِيمَانِ مَعَ طُولِ الْمُدَّةِ، {لَمْ يَرْتَابُوا} أَيْ: لَمْ يَلْحَقْهُمْ شَكٌّ فِي الْإِيمَانِ بِاللهِ وَرَسُولِهِ.

{وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ}: هَذَا -أَيْضًا- مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: {آمَنُوا} أَيْ: هُمْ مَعَ إِيمَانِهِمْ بِاللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَيَقِينِهِمْ، وَعَدَمِ ارْتِيَابِهِمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُصْلِحُوا عِبَادَ اللهِ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، يُجَاهِدُونَ أَعْدَاءَ اللهِ؛ لِيَرْجِعُوا إِلَى دِينِ اللهِ، وَيَسْتَقِيمُوا عَلَيْهِ، لَا لِلِانْتِقَامِ مِنْهُمْ، وَلَا لِلِانْتِصَارِ لِأَنْفُسِهِمْ، وَلَكِنْ لِيَدْخُلُوا فِي دِينِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

{أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} فِي إِيمَانِهِمْ، وَعَدَمِ ارْتِيَابِهِمْ.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَٰئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} [الحديد: 19].

((الْإِيمَانُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ: هُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، هُوَ قَوْلُ الْقَلْبِ، وَاللِّسَانِ، وَعَمَلُ الْقَلْبِ، وَاللِّسَانِ، وَالْجَوَارِحِ، فَيَشْمَلُ ذَلِكَ جَمِيعَ شَرَائِعِ الدِّينِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، فَالَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ هَذِهِ الْأُمُورِ {هُمُ الصِّدِّيقُونُ} أَيِ: الَّذِينَ مَرْتَبَتُهُمْ فَوْقَ مَرْتَبَةِ عُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ، وَدُونَ مَرْتَبَةِ الْأَنْبِيَاءِ)).

وَأَمَرَ اللهُ -تَعَالَى- الْمُؤْمِنِينَ بِتَقْوَاهُ، وَأَنْ يَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ} [محمد: 21].

لَقَدْ أَمَرَ اللهُ بِالصِّدْقِ، وَمَدَحَ الصَّادِقِينَ، وَأَخْبَرَ أَنَّ الصِّدْقَ يَنْفَعُ أَهْلَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَنَّ لَهُمُ الْمَغْفِرَةَ وَالْأَجْرَ الْعَظِيمَ.

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَّقُوا بِأَرْكَانِ الْإِيمَانِ، وَاتَّبَعُوا شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ! الْتَزِمُوا طَاعَةَ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَلَا تَعْصُوا بِتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ، وَفِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ؛ لِتَتَّقُوا عِقَابَ اللهِ الْعَاجِلَ وَالْآجِلَ.

وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ الَّذِينَ صَدَقُوا فِي إِيمَانِهِمْ، وَإِسْلَامِهِمْ، وَأَقْوَالِهِمْ، وَأَعْمَالِهِمُ الَّتِي تُعَبِّرُ عَنْ إِيمَانِهِمْ تَعْبِيرًا صَادِقًا لَا رِيَاءَ فِيهِ وَلَا سُمْعَةَ.

وَكُونُوا مَعَ مَنْ صَدَقَ النَّبِيَّ ﷺ وَأَصْحَابَهُ فِي الْغَزَوَاتِ، وَلَا تَكُونُوا مَعَ الْمُتَخَلِّفِينَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ قَعَدُوا فِي الْبُيُوتِ، وَتَرَكُوا الْغَزْوَ.

وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ ذِكْرِ قِصَّةِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَمِنْهُمْ: كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَكَانَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ حِينَ رَجَعَ النَّبِيُّ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ.. وَكَانُوا قَدْ تَخَلَّفُوا عَنْهَا بِلَا عُذْرٍ، وَأَخْبَرُوا النَّبِيَّ ﷺ أَنَّهُمْ لَا عُذْرَ لَهُمْ، فَخَلَّفَهُمْ، أَيْ: تَرَكَهُمْ.

فَمَعْنَى: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 118] أَيْ: تُرِكُوا، فَلَمْ يُبَتَّ فِي شَأْنِهِمْ؛ لِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ؛ جَاءُوا إِلَيْهِ يَعْتَذِرُونَ، وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ مَعْذُورُونَ، وَفِيهِمْ أَنْزَلَ اللهُ -تَعَالَى- هَذِهِ الْآيَةَ: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ ۖ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ ۖ إِنَّهُمْ رِجْسٌ ۖ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ ۖ فَإِن تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَىٰ عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 95-96].

أَمَّا هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ؛ فَصَدَقُوا الرَّسُولَ ، وَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ عُذْرٌ؛ فَأَرْجَأَهُمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ خَمْسِينَ لَيْلَةً؛ {حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ} [التوبة: 118].

ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ تَوْبَتَهُ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119].

 فَأَمَرَ اللهُ -تَعَالَى- الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَتَّقُوا اللهَ، وَأَنْ يَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ، لَا مَعَ الْكَاذِبِينَ.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر: 33].

(({وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ} فِي قَوْلِهِ وَعَمَلِهِ، فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ وَمَنْ قَامَ مَقَامَهُمْ مِمَّنْ صَدَقَ فِيمَا قَالَهُ عَنْ خَبَرِ اللَّهِ وَأَحْكَامِهِ، وَفِيمَا فَعَلَهُ مِنْ خِصَالِ الصِّدْقِ.

{وَصَدَّقَ بِهِ} أَيْ: بِالصِّدْقِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَجِيءُ الْإِنْسَانُ بِالصِّدْقِ؛ وَلَكِنْ قَدْ لَا يُصَدِّقُ بِهِ بِسَبَبِ اسْتِكْبَارِهِ، أَوِ احْتِقَارِهِ لِمَنْ قَالَهُ وَأَتَى بِهِ؛ فَلَا بُدَّ فِي الْمَدْحِ مِنَ الصِّدْقِ وَالتَّصْدِيقِ، فَصِدْقُهُ يَدُلُّ عَلَى عِلْمِهِ وَعَدْلِهِ، وَتَصْدِيقُهُ يَدُلُّ عَلَى تَوَاضُعِهِ وَعَدَمِ اسْتِكْبَارِهِ.

{أُولَئِكَ} أَيِ: الَّذِينَ وُفِّقُوا لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ {هُمُ الْمُتَّقُونَ}؛ فَإِنَّ جَمِيعَ خِصَالِ التَّقْوَى تَرْجِعُ إِلَى الصِّدْقِ بِالْحَقِّ، وَالتَّصْدِيقِ بِهِ)).

وَقَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة: 119].

(({هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ}: وَالصَّادِقُونَ هُمُ الَّذِينَ اسْتَقَامَتْ أَعْمَالُهُمْ وَأَقْوَالُهُمْ وَنِيَّاتُهُمْ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَالْهَدْيِ الْقَوِيمِ، فَيَوْمُ الْقِيَامَةِ يَجِدُونَ ثَمَرَةَ ذَلِكَ الصِّدْقِ إِذَا أَحَلَّهُمُ اللهُ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ)).

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ} [الأحزاب:35]، وَهَذَا فِي جُمْلَةِ الْآيَةِ الطَّوِيلَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}... إِلَى أَنْ قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ}... إِلَى قَوْلِهِ: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35]، فَذَكَرَ اللهُ الصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ فِي مَقَامِ الثَّنَاءِ، وَفِي بَيَانِ مَا لَهُمْ عِنْدَهُ مِنَ الْأَجْرِ الْعَظِيمِ.

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ} [محمد:21] أَيْ: لَوْ عَامَلُوا اللهَ بِالصِّدْقِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ؛ وَلَكِنْ عَامَلُوا اللهَ بِالْكَذِبِ، فَنَافَقُوا، وَأَظْهَرُوا خِلَافَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ، وَعَامَلُوا النَّبِيَّ ﷺ بِالْكَذِبِ، فَأَظْهَرُوا أَنَّهُمْ مُتَّبِعُونَ لَهُ وَهُمْ مُخَالِفُونَ لَهُ، فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ بِقُلُوبِهِمْ، وَأَعْمَالِهِمْ، وَأَقْوَالِهِمْ؛ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ كَذَبُوا اللهَ -جَلَّ وَعَلَا-؛ فَكَانَ شَرًّا لَهُمْ.

وَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [الأحزاب:24].

فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الصِّدْقَ أَمْرُهُ عَظِيمٌ، وَأَنَّهُ مَحَلٌّ لِلْجَزَاءِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

إِذَنْ؛ عَلَيْنَا أَنْ نَصْدُقَ، وَعَلَيْنَا أَنْ نَكُونَ مِنَ الصَّادِقِينَ، وَعَلَيْنَا أَنْ نَكُونَ صُرَحَاءَ، وَعَلَيْنَا أَلَّا نُخْفِيَ الْأَمْرَ عَنْ غَيْرِنَا مُدَاهَنَةً أَوْ رِيَاءً؛ فَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إِذَا حُدِّثَ عَنْ شَيْءٍ فَعَلَهُ، وَكَانَ لَا يُدْرَى فَعَلَهُ أَمْ لَا؛ فَإِنَّهُ يَكْذِبُ، وَيَقُولُ: مَا فَعَلْتُ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحْيِي مِنَ الْخَلْقِ، فَيُبَارِزُ الْخَالِقَ بِالْكَذِبِ!!

قُلِ الصِّدْقَ وَلَا يُهِمَّنَّكَ أَحَدٌ، وَأَنْتَ إِذَا عَوَّدْتَ نَفْسَكَ الصِّدْقَ؛ فَإِنَّكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ سَوْفَ تُصْلِحُ حَالَكَ.

أَمَّا إِذَا أَخْبَرْتَ بِالْكَذِبِ، وَصِرْتَ تَكْتُمُ عَنِ النَّاسِ، وَتَكْذِبُ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّكَ سَوْفَ تَسْتَمِرُّ فِي غَيِّكَ، وَلَكِنْ إِذَا صَدَقْتَ؛ فَإِنَّكَ تُعَدِّلُ مَسِيرَكَ، وَتُصْلِحُ مِنْهَاجَكَ.

فَعَلَيْكَ بِالصِّدْقِ فِيمَا لَكَ، وَفِيمَا عَلَيْكَ؛ حَتَّى تَكُونَ مَعَ الصَّادِقِينَ الَّذِينَ أَمَرَكَ اللهُ أَنْ تَكُونَ مَعَهُمْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119].

وَالْآيَاتُ فِي مَدْحِ الصِّدْقِ كَثِيرَةٌ جِدًّا.

((التَّرْغِيبُ فِي الصِّدْقِ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ))

لَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي الصِّدْقِ الْكَثِيرَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي تُبَيِّنُ لَنَا مَنْزِلَةَ التَّحَلِّي بِالصِّدْقِ فِي الْإِسْلَامِ؛ فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ؛ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ يَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ؛ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَالْفُجُورُ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا». وَالْحَدِيثُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ».

هَذَا الْحَدِيثُ ذَكَرَ فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ الصِّدْقَ، وَرَغَّبَ فِيهِ، وَذَكَرَ التَّحْذِيرَ مِنَ الْكَذِبِ، وَالتَّسَاهُلَ فِيهِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الصِّدْقَ سَبَبٌ لِكُلِّ خَيْرٍ، وَلِأَنَّ الْكَذِبَ سَبَبٌ لِكُلِّ شَرٍّ.

وَمَنْ تَحَرَّى الصِّدْقَ؛ صَارَ الصِّدْقُ سَجِيَّةً لَهُ، وَمَنْ قَصَدَ الْكَذِبَ؛ صَارَ الْكَذِبُ خُلُقًا لَهُ.

وَ«الْبِرُّ»: اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ الْخَيْرَاتِ، وَ«الْفُجُورُ»: الْأَعْمَالُ السَّيِّئَةُ.

«عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ؛ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ»؛ فَيَكُونُ الصِّدْقُ هَادِيًا إِلَى الْجَنَّةِ.

«وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ؛ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَالْفُجُورُ يَهْدِي إِلَى النَّارِ»؛ فَيَكُونُ الْكَذِبُ هَادِيًا إِلَى النَّارِ.

«وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا»: فَمَنْ قَصَدَ الْكَذِبَ وَتَحَرَّاهُ؛ صَارَ الْكَذِبُ خُلُقًا لَهُ.

«وَإِنَّ الرَّجُلَ يَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا»، وَمَنْ قَصَدَ الصِّدْقَ وَتَحَرَّاهُ؛ صَارَ الصِّدْقُ سَجِيَّةً لَهُ.

«عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ» أَيِ: الْزَمُوا الصِّدْقَ، وَدَاوِمُوا عَلَيْهِ؛ «فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ»: يَهْدِي صَاحِبَهُ، مِنَ الْهِدَايَةِ، وَهِيَ: الدَّلَالَةُ الْمُوصِلَةُ إِلَى الْمَطْلُوبِ.

«الْبِرُّ»: الطَّاعَةُ، وَأَصْلُ كُلِّ شَيْءٍ حَسَنٍ، فَأَصْلُهُ: التَّوَسُّعُ فِي فِعْلِ الْخَيْرِ، وَهُوَ اسْمٌ جَامِعٌ لِلْخَيْرَاتِ كُلِّهَا، وَيُطْلَقُ عَلَى الْعَمَلِ الْخَالِصِ الدَّائِمِ، فَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْعَمَلِ الْخَالِصِ مِنْ كُلِّ مَذْمُومٍ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ: أَنَّهُ مَنْ تَحَرَّى الصِّدْقَ؛ وُفِّقَ لِحُسْنِ الْخِتَامِ، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: «فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ».

«وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ»: وَمِصْدَاقُهُ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [الانفطار: 13].

«يُكْتَبُ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا»: (الصِّدِّيقُ) مِنْ أَبْنِيَةِ الْمُبَالَغَةِ، فَمَنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ الصِّدْقُ حَتَّى يَصِيرَ سَجِيَّةً لَهُ وَخُلُقًا؛ يَصْدُقُ فِي قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ حَتَّى يَسْتَحِقَّ اسْمَ الْمُبَالَغَةِ فِي الصِّدْقِ.

«إِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ»: اجْتَنِبُوهُ، وَاحْذَرُوا الْوُقُوعَ فِيهِ؛ «فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ»: أَصْلُ الْفُجُورِ مِنَ الشَّقِّ؛ فَأَصْلُ الْفَجْرِ الشَّقُّ، وَالْفُجُورُ شَقُّ سِتْرِ الدِّيَانَةِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْمَيْلِ إِلَى الْفَسَادِ، وَالْمَيْلِ عَنْ الِاسْتِقَامَةِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الِانْبِعَاثِ فِي الْمَعَاصِي، وَالْفُجُورُ: اسْمٌ جَامِعٌ لِلشَّرِّ، كَمَا أَنَّ الْبِرَّ اسْمٌ جَامِعٌ لِلْخَيْرِ.

فَإِذَا كَرَّرَ الرَّجُلُ الْكَذِبَ حَتَّى اسْتَحَقَّ اسْمَ الْمُبَالَغَةِ بِالْوَصْفِ بِالْكَذِبِ؛ لَمْ يَكُنْ مِنْ صِفَاتِ كَمَلَةِ الْمُؤْمِنِينَ، بَلْ مِنْ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ.

«الْفُجُورُ يَهْدِي إِلَى النَّارِ» أَيْ: يُوَصِّلُ إِلَيْهَا -عِيَاذًا بِاللَّهِ-، وَهَذَا مِمَّا يُنْذِرُ بِسُوءِ الْخَاتِمَةِ.

«يُكْتَبُ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا»: يُكْتَبُ لَهُ ذَلِكَ، وَيُحْكَمُ بِهِ عَلَيْهِ، وَيَسْتَحِقُّ الْوَصْفَ بِهِ.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ: الْحَثُّ عَلَى التَّحَرِّي لِلصِّدْقِ، وَهُوَ قَصْدُهُ وَالِاعْتِنَاءُ بِهِ، وَالتَّحْذِيرُ مِنَ الْكَذِبِ، وَالتَّسَاهُلِ فِيهِ؛ فَإِنَّهُ إِذَا تَسَاهَلَ فِيهِ؛ كَثُرَ مِنْهُ، وَعُرِفَ بِهِ، وَكَتَبَهُ اللهُ كَذَّابًا إِنِ اعْتَادَهُ، أَوْ صِدِّيقًا إِنِ اعْتَادَ الصِّدْقَ.

فَلْيَكُنِ الْمَرْءُ صَادِقَ اللَّهْجَةِ، وَلْيَتَحَرَّ الصِّدْقَ مَا أَمْكَنَهُ، وَلْيَجْتَنِبِ الْمَرْءُ الْكَذِبَ، وَأَنْ يَكُونَ بَعِيدًا عَنْهُ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ؛ حَتَّى لَا يَتَلَبَّسَ بِخَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِ النِّفَاقِ؛ فَإِنَّ الْمُنَافِقَ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ.

وَعَنْ أَوْسَطَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: قَامَ النَّبِيُّ ﷺ عَامَ أَوَّلَ مَقَامِي هَذَا، ثُمَّ بَكَى أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ قَالَ: «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ؛ فَإِنَّهُ مَعَ الْبِرِّ، وَهُمَا فِي الْجَنَّةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ؛ فَإِنَّهُ مَعَ الْفُجُورِ، وَهُمَا فِي النَّارِ، وَسَلُوا اللَّهَ الْمُعَافَاةَ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُؤْتَ بَعْدَ الْيَقِينِ خَيْرٌ مِنَ الْمُعَافَاةِ، وَلَا تَقَاطَعُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا». هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَه.

«ثُمَّ بَكَى أَبُو بَكْرٍ»: تَأَثُّرًا لِمَوْتِ النَّبِيِّ ﷺ.

قَوْلُهُ ﷺ: «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ»: الْزَمُوا الصِّدْقَ، وَدَاوِمُوا عَلَيْهِ.

«الْبِرُّ»: اسْمٌ جَامِعٌ لِلْخَيْرِ كُلِّهِ.

«إِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ»: اجْتَنِبُوهُ، وَاحْذَرُوا الْوُقُوعَ فِيهِ.

«الْفُجُورُ»: الِانْبِعَاثُ فِي الْمَحَارِمِ، وَالْمَعَاصِي، وَالشُّرُورِ.

«وَسَلُوا اللهَ الْمُعَافَاةَ»: كَمَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: فَأَتَى النَّبِيَّ ﷺ رَجُلٌ، فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَيُّ الدُّعَاءِ أَفْضَلُ؟)).

قَالَ: «سَلِ اللهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ».

ثُمَّ أَتَاهُ الْغَدَ، فَقَالَ: ((يَا نَبِيَّ اللهِ! أَيُّ الدُّعَاءِ أَفْضَلُ؟)).

قَالَ: «سَلِ اللهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَإِذَا أُعْطِيتَ الْعَافِيَةَ فَقَدْ أَفْلَحْتَ».

فَاللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْمُعَافَاةَ؛ فَمُنَّ عَلَيْنَا بِهَا، وَبِكَمَالِهَا، وَدَوَامِهَا، وَتَمَامِهَا.

وَ«الْعَفْوُ»: مَحْوُ الذَّنْبِ، وَ«الْعَافِيَةُ»: مَعْنَاهَا السَّلَامَةُ مِنَ الْأَسْقَامِ، وَالْبَلَاءِ.

وَجَمَعَ بَيْنَ عَافِيَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ لِأَنَّ صَلَاحَ الْعَبْدِ لَا يَتِمُّ فِي الدَّارَيْنِ إِلَّا بِالْعَفْوِ وَالْيَقِينِ، فَالْيَقِينُ يَدْفَعُ عَنْهُ عُقُوبَةَ الْآخِرَةِ، وَالْعَافِيَةُ تَدْفَعُ عَنْهُ أَمْرَاضَ الدُّنْيَا فِي قَلْبِهِ وَبَدَنِهِ.

فَاحْذَرُوا سُؤَالَ اللهِ الْبَلَاءَ؛ وَإِنْ كَانَ الْبَلَاءُ نِعْمَةً، وَمَا تَسْمَعُهُ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ مِمَّا يَسْتَلِذُّهُ بَعْضُ النَّاسِ عِنْدَ سَمَاعِهِ؛ فَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِصَحِيحٍ وَلَا حَسَنٍ، وَإِنَّمَا يَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَتَذَكَّرْ مَا كَانَ مِنْ قَوْلِ سُحْنُونٍ:

لَيْسَ لِي فِي سِوَاكَ حَظٌّ

 

فَكَيْفَمَا شِئْتَ فَاخْتَبِرْنِي

فَابْتَلَاهُ اللهُ -تَعَالَى- بِحَصْرِ الْبَوْلِ، فَصَارَ يَطُوفُ، وَيَقُولُ لِأَطْفَالِ الْكُتَّابِ: ادْعُوا لِعَمِّكُمُ الْكَذَّابِ.

فَلَا يَلِيقُ أَنْ يَسْأَلَ الْعَبْدُ رَبَّهُ الْبَلَاءَ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْأَلَ اللهَ -تَعَالَى- الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِمَّا يُعْمَلُ لِلْآخِرَةِ  يُتَلَقَّى إِلَّا بِالْيَقِينِ، وَلَيْسَ شَيْءٌ يَهْنَأُ لِلْعَبْدِ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا إِلَّا مَعَ الْعَافِيَةِ، وَهِيَ الْأَمْنُ، وَالصِّحَّةُ، وَفَرَاغُ الْقَلْبِ.

فَجَمَعَ أَمْرَ الْآخِرَةِ كُلَّهُ فِي كَلِمَةٍ، وَجَمَعَ الدُّنْيَا كُلَّهَا فِي كَلِمَةٍ.

اشْتَمَلَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى عَدَدٍ مِنَ الْوَصَايَا النَّافِعَةِ فِي مَوْعِظَةٍ جَامِعَةٍ، كَيْفَ لَا وَهُوَ مِنْ أَنْصَحِ النَّاسِ، وَأَعْلَمِهِمْ بِاللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَبِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَهُوَ الرَّسُولُ ﷺ؛ فَبَيَّنَ لَنَا أَنَّ الصِّدْقَ وَالْبِرَّ أَهْلُهُ فِي الْجَنَّةِ، وَهُمَا مِنْ أَسْبَابِ دُخُولِهَا، وَمَا اجْتَمَعَ الْبِرُّ وَالصِّدْقُ فِي شَخْصٍ إِلَّا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ.

وَالْبِرُّ: اسْمٌ جَامِعٌ لِجَمِيعِ فِعْلِ الْخَيْرَاتِ، وَالصِّدْقُ: اسْمٌ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ صِدْقَ الْعَبْدِ مَعَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي الْقِيَامِ بِالتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ، أَمْرًا وَنَهْيًا، وَتَحْلِيلًا وَتَحْرِيمًا، وَأَحْكَامًا وَتَصْدِيقًا بِالْأَخْبَارِ الظَّاهِرَةِ وَالْغَائِبَةِ، وَصِدْقَهُ مَعَ النَّاسِ عَلَى اخْتِلَافِ طَبَقَاتِهِمْ؛ صِدْقُهُ مَعَ الْوَالِدَيْنِ يَتَجَلَّى فِي بِرِّهِمَا، وَمَعَ الْأَرْحَامِ، وَيَتَجَلَّى فِي الصِّلَةِ، وَصِدْقُهُ مَعَ الْجِيرَانِ فِي حُسْنِ الْجِوَارِ، وَكَفِّ الْأَذَى، وَصِدْقُهُ مَعَ مَنْ يَتَعَامَلُ مَعَهُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَالْأَخْذِ وَالْعَطَاءِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.

فَالصِّدْقُ يَشْمَلُ أَيْضًا جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْبِرِّ؛ لِذَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ؛ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ؛ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا».

فَالْجَزَاءُ عِنْدَ اللهِ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، فَمَنْ سَلَكَ طَرِيقَ الصِّدْقِ فِي التَّعَامُلِ مَعَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَفِي التَّعَامُلِ مَعَ الْخَلْقِ؛ فَقَدْ سَلَكَ طَرِيقَ النَّجَاةِ، وَنَجَا مِنْ غَضَبِ اللهِ وَأَلِيمِ عَذَابِهِ، وَسَعِدَ بِجَنَّتِهِ وَرِضَاهُ، وَالْعَكْسُ بِالْعَكْسِ، فَمَنْ سَلَكَ طَرِيقَ الْكَذِبِ؛ هَدَاهُ إِلَى الْفُجُورِ، وَالْفُجُورُ أَهْلُهُ فِي النَّارِ -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ-.

ثُمَّ أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ خَيْرَ مَا يَسْأَلُ الْعَبْدُ رَبَّهُ الْعَفْوُ وَالْمُعَافَاةُ الدَّائِمَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ فَإِنَّ مَنْ أُعْطِيَ الْعَافِيَةَ فِي دِينِهِ بِالدَّرَجَةِ الْأُولَى -أَيِ: اسْتَقَامَ فِي دِينِهِ-؛ فَقَدْ عُوفِيَ مِنَ الشِّرْكِ، وَمِنَ الْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ، وَمِنَ الْمُوبِقَاتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مُوجِبَاتِ سَخَطِ اللهِ وَأَلِيمِ عَذَابهِ.

وَعَافَاهُ اللهُ -أَيْضًا- فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِدُنْيَاهُ، فَلَا يُصِيبُ مِنْ دُنْيَاهُ إِلَّا مَا كَانَ خَيْرًا مِنْ حَلَالٍ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا أَبَاحَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ لِذَا فَإِنَّ هَذَا الدُّعَاءَ مِنْ خَيْرِ الْأَدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، وَهُوَ سُؤَالُ اللهِ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْبَرْزَخِ وَالْآخِرَةِ؛ فَهِيَ عَافِيَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ وَعَافِيَةٌ حِسِّيَّةٌ، عَافِيَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ مِنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ الَّتِي تُهْلِكُ صَاحِبَهَا فِي النَّارِ، وَعَافِيَةٌ حِسِّيَّةٌ، وَهِيَ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ الَّتِي يَسْتَعِينُ بِهَا الْعَبْدُ عَلَى طَاعَةِ مَوْلَاهُ، فَيَكْسِبُ مِنْ وَرَائِهَا رِضَاهُ وَجَنَّتَهُ.

وَهِيَ جُمْلَةٌ قَصِيرَةٌ؛ وَلَكِنَّهَا جَامِعَةٌ لِخِصَالِ الْخَيْرِ..

صِدْقُ اللَّهْجَةِ وَصِدْقُ اللِّسَانِ مِنْ أَعْظَمِ الصِّفَاتِ الَّتِي يَتَّصِفُ بِهَا الْإِنْسَانُ؛ لِأَنَّ صِدْقَ اللَّهْجَةِ وصِدْقَ اللِّسَانِ فَرْعٌ عَلَى صِدْقِ الْقَلْبِ، فَالْإِنْسَانُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي قَلْبِهِ دَغَلٌ، وَلَا فِي قَلْبِهِ نِفَاقٌ، وَلَا فِي نَفْسِهِ رِيَاءٌ، ثُمَّ يَكُونُ لِسَانُهُ صَادِقًا، وَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ الظِّلُّ وَالْعُودُ أعَوْجُ؟!!

فَصِدْقُ اللِّسَانِ فَرْعٌ عَلَى صِدْقِ الْقَلْبِ، وَكَذَلِكَ اسْتِقَامَةُ اللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ فَرْعٌ عَلَى اسْتِقَامَةِ الْقَلْبِ وَالْفُؤَادِ، فَإِنِ اسْتَقَامَ قَلْبُ الْمَرْءِ؛ اسْتَقَامَ لِسَانُهُ، وَاسْتَقَامَتْ جَوَارِحُهُ.

((مَقَامَاتُ الصِّدْقِ وَحَقِيقَتُهُ))

((عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ؛ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَقَالَ بِشْرٌ: ((مَنْ عَامَلَ اللهَ بِالصِّدْقِ؛ اسْتَوْحَشَ مِنَ النَّاسِ)).

وَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ الصِّدْقِ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي مَعَانٍ:

أَحَدُهُا: الصِّدْقُ فِي الْقَوْلِ؛ فَحَقٌّ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ أَنْ يَحْفَظَ أَلْفَاظَهُ، وَلَا يَتَكَلَّمَ إِلَّا بِالصِّدْقِ، وَالصِّدْقُ بِاللِّسَانِ هُوَ أَشْهَرُ أَنْوَاعِ الصِّدْقِ وَأَظْهَرُهَا.

وَيَنْبَغِي أَنْ يَحْتَرِزَ عَنِ الْمَعَارِيضِ، وَهُوَ خِلَافُ التَّصْرِيحِ مِنَ الْقَوْلِ؛ فَإِنَّهَا تُجَانِسُ الْكَذِبَ؛ إِلَّا أَنْ تَمَسَّ الْحَاجَةُ إِلَيْهَا، وَتَقْتَضِيهَا الْمَصْلَحَةُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا أَرَادَ غَزْوَةً وَرَّى بِغَيْرِهَا؛ لِئَلَّا يَنْتَهِيَ الْخَبَرُ إِلَى الْأَعْدَاءِ فَيَتَهَيَّئُوا لِقِتَالِهِ، وَقَالَ ﷺ: ((لَيْسَ بِكَاذِبٍ مَنْ أَصْلَحَ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَقَالَ خَيْرًا، أَوْ نَمَى خَيْرًا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَيَنْبَغِي أَنْ يُرَاعِيَ مَعْنَى الصِّدْقِ فِي أَلْفَاظِهِ الَّتِي يُنَاجِي بِهَا رَبَّهُ؛ كَقَوْلِهِ: ((وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ))، فَإِنْ كَانَ قَلْبُهُ مُنْصَرِفًا عَنِ اللهِ، مَشْغُولًا بِالدُّنْيَا؛ فَهُوَ كَاذِبٌ.

الثَّانِي: الصِّدْقُ فِي النِّيَّةِ وَالْإِرَادَةِ: وَذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى الْإِخْلَاصِ، فَإِنْ مَازَجَ عَمَلَهُ شَوْبٌ مِنْ حُظُوظِ النَّفْسِ؛ بَطَلَ صِدْقُ النِّيَّةِ، وَصَاحِبُهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا، كَمَا فِي حَدِيثِ الثَّلَاثَةِ: الْعَالِمِ، وَالْقَارِئِ، وَالْمُجَاهِدِ، لَمَّا قَالَ الْقَارِئُ: قَرَأْتُ الْقُرْآنَ إِلَى آخِرِهِ، فَكَذَّبَهُ، وَإِنَّمَا كَذَّبَهُ فِي إِرَادَتِهِ وَنِيَّتِهِ، لَا فِي نَفْسِ الْقِرَاءَةِ، وَكَذَلِكَ صَاحِبَاهُ.

الثَّالِثُ: الصِّدْقُ فِي الْعَزْمِ وَالْوَفَاءِ بِهِ.

أَمَّا الْأَوَّلُ: فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ: إِنْ آتَانِي اللهُ مَالًا؛ تَصَدَّقْتُ بِجَمِيعِهِ، فَهَذِهِ الْعَزِيمَةُ قَدْ تَكُونُ صَادِقَةً، وَقَدْ يَكُونُ فِيهَا تَرَدُّدٌ.

وَأَمَّا الثَّانِي: فَنَحْوُ أَنْ يَصْدُقَ فِي الْعَزْمِ، وَتَسْخُوَ النَّفْسُ بِالْوَعْدِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَشَقَّةَ فِيهِ إِلَّا إِذَا تَحَقَّقَتِ الْحَقَائِقُ، وَانْجَلَتِ الْعَزِيمَةُ، وَغَلَبَتِ الشَّهْوَةُ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} إِلَى قَوْلِهِ {وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 75-77].

الرَّابِعُ: الصِّدْقُ فِي الْأَعْمَالِ، وَهُوَ أَنْ تَسْتَوِيَ سَرِيرَتُهُ وَعَلَانِيَتُهُ؛ حَتَّى لَا تَدُلَّ أَعْمَالُهُ الظَّاهِرَةُ -مِنَ الْخُشُوعِ، وَنَحْوِهِ- عَلَى أَمْرٍ فِي بَاطِنِهِ، وَيَكُونُ الْبَاطِنُ بِخِلَافِ ذَلِكَ.

قَالَ مُطَرِّفٌ: ((إِذَا اسْتَوَتْ سَرِيرَةُ الْعَبْدِ وَعَلَانِيَتُهُ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: هَذَا عَبْدِي حَقًّا)).

الْخَامِسُ: الصِّدْقُ فِي مَقَامَاتِ الدِّينِ، وَهُوَ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ؛ كَالصِّدْقِ فِي الْخَوْفِ، وَالرَّجَاءِ، وَالزُّهْدِ، وَالرِّضَا، وَالْحُبِّ، وَالتَّوَكُّلِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ لَهَا مَبَادِئُ يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا الِاسْمُ بِظُهُورِهَا، ثُمَّ لَهَا غَايَاتٌ وَحَقَائِقُ، فَالصَّادِقُ الْمُحَقِّقُ مَنْ نَالَ حَقِيقَتَهَا، وَإِذَا غَلَبَ الشَّيْءُ وَتَمَّتْ حَقِيقَتُهُ؛ سُمِّيَ صَاحِبُهُ صَادِقًا، قَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ..} إِلَى قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177].

وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15].

وَلْنَضْرِبْ لِلْخَوْفِ مَثَلًا، فَنَقُولُ: مَا مِنْ عَبْدٍ يُؤْمِنُ بِاللهِ إِلَّا وَهُوَ خَائِفٌ مِنَ اللهِ خَوْفًا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، وَهُوَ غَيْرُ بَالِغٍ إِلَى دَرَجَةِ الْحَقِيقَةِ، أَلَا تَرَاهُ إِذَا خَافَ سُلْطَانًا؛ كَيْفَ يَصْفَرُّ وَيَرْتَعِدُ خَوْفًا مِنْ وُقُوعِ الْمَحْذُورِ؟! ثُمَّ إِنَّهُ يَخَافُ النَّارَ وَلَا يَظْهَرُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ فِعْلِ الْمُصِيبَةِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ قَيْسٍ: ((عَجِبْتُ لِلجَنَّةِ؛ نَامَ طَالِبُهَا، وَعَجِبْتُ لِلنَّارِ؛ نَامَ هَارِبُهَا)).

وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ عَزِيزٌ جِدًّا، فَلَا غَايَةَ لِهَذِهِ الْمَقَامَاتِ حَتَّى يُنَالَ تَمَامُهَا؛ وَلَكِنْ لِكُلٍّ حَظٌّ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ؛ إِمَّا ضَعِيفٌ، وَإِمَّا قَوِيٌّ، فَإِذَا قَوِيَ سُمِّيَ صَادِقًا، وَإِذَا عَلِمَ اللهُ مِنْ عَبْدٍ صِدْقًا؛ يُصْغِي لَهُ، وَالصَّادِقُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَقَامَاتِ عَزِيزٌ، وَقَدْ يَكُونُ لِلْعَبْدِ صِدْقٌ فِي بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ.

وَمِنْ عَلَامَاتِ الصِّدْقِ: كِتْمَانُ الْمَصَائِبِ وَالطَّاعَاتِ جَمِيعًا، وَكَرَاهَةُ اطِّلَاعِ الْخَلْقِ عَلَى ذَلِكَ)).

((إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا، وإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)).

نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنَا مِنَ الصَّادِقِينَ؛ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الْكَرِيمُ، وَالْجَوَادُ الرَّحِيمُ.

((شُمُولِيَّةُ الصِّدْقِ))

الصِّدْقُ: هُوَ اسْتِوَاءُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.

وَالصِّدْقُ يَدْخُلُ فِي الِاعْتِقَادَاتِ، وَيَدْخُلُ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ.

فَالصِّدْقُ فِي الْعَقَائِدِ: أَنْ تَكُونَ عَقِيدَةُ الْعَبْدِ صَادِقَةً سَلَفِيَّةً، مُتَلَقَّاةً عَنْ كِتَابِ اللهِ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ.

وَالصِّدْقُ فِي الْأَخْلَاقِ: أَنْ يَكُونَ الْقَلْبُ مَلْآنًا مِنَ الْإِيمَانِ، وَالْإِخْلَاصِ، وَالرَّغْبَةِ، وَالنَّصِيحَةِ لِعِبَادِ اللهِ، وَمَحَبَّةِ الْخَيْرِ لَهُمْ.

وَالصِّدْقُ فِي الْأَقْوَالِ: أَنْ يَكُونَ قَائِلًا لِلصِّدْقِ مُصَدِّقًا بِهِ.

وَالصِّدْقُ فِي الْأَعْمَالِ: الِاجْتِهَادُ فِي تَكْمِيلِهَا وَإِتْقَانِهَا.

وَالْكَذِبُ: مَا نَاقَضَ ذَلِكَ كُلَّهُ؛ وَلِذَلِكَ كَانَ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ مَرَاتِبَ، وَلَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَلَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا.

((كُلُّ أَعْمَالِ الْبِرِّ وَالْخَيْرِ فِي الصِّدْقِ))

لَقَدْ جَاءَ الصِّدْقُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ شَامِلًا لِكُلِّ أَعْمَالِ الْبِرِّ وَالْخَيْرِ؛ حَيْثُ يَقُولُ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177].

((اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى جُمَلٍ عَظِيمَةٍ، وَقَوَاعِدَ عَمِيمَةٍ، وَعَقِيدَةٍ مُسْتَقِيمَةٍ.

إِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- لَمَّا أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ أَوَّلًا بِالتَّوَجُّهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ حَوَّلَهُمْ إِلَى الْكَعْبَةِ؛ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى نُفُوسِ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَبَعْضِ الْمُسْلِمِينَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ -تَعَالَى- بَيَانَ حِكْمَتِهِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ إِنَّمَا هُوَ طَاعَةُ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَامْتِثَالُ أَوَامِرِهِ، وَالتَّوَجُّهُ حَيْثُمَا وَجَّهَ، وَاتِّبَاعُ مَا شَرَعَ، فَهَذَا هُوَ الْبِرُّ وَالتَّقْوَى، وَالْإِيمَانُ الْكَامِلُ، وَلَيْسَ فِي لُزُومِ التَّوَجُّهِ إِلَى جِهَةٍ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ بِرٌّ وَلَا طَاعَةٌ إِنْ لَمْ يَكُنْ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ وَشَرْعِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} الْآيَةَ، كَمَا قَالَ فِي الْأَضَاحِيِّ وَالْهَدَايَا: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الْحَجِّ: 37].

وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ((لَيْسَ الْبَرَّ أَنْ تُصَلُّوا وَلَا تَعْمَلُوا، فَهَذَا حِينَ تَحَوَّلَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَنَزَلَتِ الْفَرَائِضُ وَالْحُدُودُ، فَأَمَرَ اللَّهُ بِالْفَرَائِضِ، وَالْعَمَلِ بِهَا)).

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ((وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَا ثَبَتَ فِي الْقُلُوبِ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- )).

وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: (({وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} الْآيَةَ، قَالَ: هَذِهِ أَنْوَاعُ الْبِرِّ كُلُّهَا)).

وَصَدَقَ -رَحِمَهُ اللَّهُ-؛ فَإِنَّ مَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الْآيَةِ؛ فَقَدْ دَخَلَ فِي عُرَى الْإِسْلَامِ كُلِّهَا، وَأَخَذَ بِمَجَامِعِ الْخَيْرِ كُلِّهِ، وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَصَدَّقَ بِوُجُودِ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ هُمْ سَفَرَةٌ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَالْكِتَابِ: وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ يَشْمَلُ الْكُتُبَ الْمُنَزَّلَةَ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ حَتَّى خُتِمَتْ بِأَشْرَفِهَا، وَهُوَ الْقُرْآنُ الْمُهَيْمِنُ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ، الَّذِي انْتَهَى إِلَيْهِ كُلُّ خَيْرٍ، وَاشْتَمَلَ عَلَى كُلِّ سَعَادَةٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَنَسَخَ اللَّهُ بِهِ كُلَّ مَا سِوَاهُ مِنَ الْكُتُبِ قَبْلَهُ، وَآمَنَ بِأَنْبِيَاءِ اللَّهِ كُلِّهِمْ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى خَاتَمِهِمْ مُحَمَّدٍ -صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ-)).

(({لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} أَيْ: لَيْسَ هَذَا هُوَ الْبِرُّ الْمَقْصُودُ مِنَ الْعِبَادِ، فَيَكُونُ كَثْرَةُ الْبَحْثِ فِيهِ وَالْجِدَالِ مِنَ الْعَنَاءِ الَّذِي لَيْسَ تَحْتَهُ إِلَّا الشِّقَاقُ وَالْخِلَافُ، وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ ﷺ: ((لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرْعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ))، وَنَحْوُ ذَلِكَ.

{وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} أَيْ: بِأَنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ مَوْصُوفٌ بِكُلِّ صِفَةِ كَمَالٍ، مُنَزَّهٌ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ، {وَالْيَوْمِ الآخِرِ}: وَهُوَ كُلُّ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ، أَوْ أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ مِمَّا يَكُونُ بَعْدَ الْمَوْتِ، {وَالْمَلائِكَةِ} الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ لَنَا فِي كِتَابِهِ، وَوَصَفَهُمْ رَسُولُهُ ﷺ، {وَالْكِتَابِ} أَيْ: جِنْسِ الْكُتُبِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، وَأَعْظَمُهَا الْقُرْآنُ، فَيُؤْمِنُ بِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْأَحْكَامِ، وَالنَّبِيِّينَ عُمُومًا؛ خُصُوصًا خَاتَمَهُمْ وَأَفْضَلَهُمْ مُحَمَّدًا ﷺ.

{وَآتَى الْمَالَ}: وَهُوَ كُلُّ مَا يَتَمَوَّلُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ مَالٍ؛ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، أَيْ: أَعْطَى الْمَالَ {عَلَى حُبِّهِ} أَيْ: حُبِّ الْمَالِ، بَيَّنَ بِهِ أَنَّ الْمَالَ مَحْبُوبٌ لِلنُّفُوسِ، فَلَا يَكَادُ يُخْرِجُهُ الْعَبْدُ، فَمَنْ أَخْرَجَهُ مَعَ حُبِّهِ لَهُ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ -تَعَالَى-؛ كَانَ هَذَا بُرْهَانًا لِإِيمَانِهِ، وَمِنْ إِيتَاءِ الْمَالِ عَلَى حُبِّهِ: أَنْ يَتَصَدَّقَ وَهُوَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ، يَأْمُلُ الْغِنَى، وَيَخْشَى الْفَقْرَ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَتِ الصَّدَقَةُ عَنْ قِلَّةٍ كَانَتْ أَفْضَلَ؛ لِأَنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ يُحِبُّ إِمْسَاكَهُ؛ لِمَا يَتَوَهَّمُهُ مِنَ الْعُدْمِ وَالْفَقْرِ، وَكَذَلِكَ إِخْرَاجُ النَّفِيسِ مِنَ الْمَالِ وَمَا يُحِبُّهُ مِنْ مَالِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}؛ فَكُلُّ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ آتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُنْفَقَ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِبِرِّكَ وَإِحْسَانِكَ؛ مِنَ الْأَقَارِبِ الَّذِينَ تَتَوَجَّعُ لِمُصَابِهِمْ، وَتَفْرَحُ بِسُرُورِهِمْ، الَّذِينَ يَتَنَاصَرُونَ وَيَتَعَاقَلُونَ، فَمِنْ أَحْسَنِ الْبِرِّ وَأَوْفَقِهِ: تَعَاهُدُ الْأَقَارِبِ بِالْإِحْسَانِ الْمَالِيِّ وَالْقَوْلِيِّ، عَلَى حَسَبِ قُرْبِهِمْ وَحَاجَتِهِمْ.

وَمِنَ الْيَتَامَى الَّذِينَ لَا كَاسِبَ لَهُمْ، وَلَيْسَ لَهُمْ قُوَّةٌ يَسْتَغْنُونَ بِهَا، وَهَذَا مِنْ رَحْمَتِهِ تَعَالَى- بِالْعِبَادِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ -تَعَالَى- أَرْحَمُ بِهِمْ مِنَ الْوَالِدِ بِوَلَدِهِ، فَاللَّهُ قَدْ أَوْصَى الْعِبَادَ، وَفَرَضَ عَلَيْهِمْ فِي أَمْوَالِهِمُ الْإِحْسَانَ إِلَى مَنْ فُقِدَ آبَاؤُهُمْ؛ لِيَصِيرُوا كَمَنْ لَمْ يَفْقِدْ وَالِدَيْهِ، وَلِأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، فَمَنْ رَحِمَ يَتِيمَ غَيْرِهِ؛ رُحِمَ يَتِيمُهُ.

{وَالْمَسَاكِينَ}: وَهُمُ الَّذِينَ أَسْكَنَتْهُمُ الْحَاجَةُ، وَأَذَلَّهُمُ الْفَقْرُ، فَلَهُمْ حَقٌّ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ بِمَا يَدْفَعُ مَسْكَنَتَهُمْ، أَوْ يُخَفِّفُهَا، بِمَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ وَبِمَا يَتَيَسَّرُ.

{وَابْنَ السَّبِيلِ}: وَهُوَ الْغَرِيبُ الْمُنْقَطِعُ بِهِ فِي غَيْرِ بَلَدِهِ، فَحَثَّ اللَّهُ عِبَادَهُ عَلَى إِعْطَائِهِ مِنَ الْمَالِ مَا يُعِينُهُ عَلَى سَفَرِهِ؛ لِكَوْنِهِ مَظِنَّةَ الْحَاجَةِ، وَكَثْرَةِ الْمَصَارِفِ؛ فَعَلَى مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِوَطَنِهِ وَرَاحَتِهِ، وَخَوَّلَهُ مِنْ نِعْمَتِهِ أَنْ يَرْحَمَ أَخَاهُ الْغَرِيبَ الَّذِي بِهَذِهِ الصِّفَةِ عَلَى حَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِ؛ وَلَوْ بِتَزْوِيدِهِ، أَوْ إِعْطَائِهِ آلَةً لِسَفَرِهِ، أَوْ دَفْعِ مَا يَنُوبُهُ مِنَ الْمَظَالِمِ وَغَيْرِهَا.

{وَالسَّائِلِينَ} أَيِ: الَّذِينَ تَعْرِضُ لَهُمْ حَاجَةٌ مِنَ الْحَوَائِجِ تُوجِبُ السُّؤَالَ؛ كَمَنِ ابْتُلِيَ بِأَرْشِ جِنَايَةٍ، أَوْ ضَرِيبَةٍ عَلَيْهِ مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ، أَوْ يَسْأَلُ النَّاسَ لِتَعْمِيرِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ؛ كَالْمَسَاجِدِ، وَالْمَدَارِسِ، وَالْقَنَاطِرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذَا لَهُ حَقٌّ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا.

{وَفِي الرِّقَابِ}؛ فَيَدْخُلُ فِيهِ الْعِتْقُ، وَالْإِعَانَةُ عَلَيْهِ، وَبَذْلُ مَالٍ لِلْمُكَاتَبِ؛ لِيُوَفِّيَ سَيِّدَهُ، وَفِدَاءُ الْأَسْرَى عِنْدَ الْكُفَّارِ أَوْ عِنْدَ الظَّلَمَةِ.

{وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ}: اللَّهُ -تَعَالَى- يَقْرِنُ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ؛ لِكَوْنِهِمَا أَفْضَلَ الْعِبَادَاتِ، وَأَكْمَلَ الْقُرُبَاتِ؛ عِبَادَاتٍ قَلْبِيَّةٍ، وَبَدَنِيَّةٍ، وَمَالِيَّةٍ، وَبِهِمَا يُوزَنُ الْإِيمَانُ، وَيُعْرَفُ مَا مَعَ صَاحِبِهِ مِنَ الْإِيقَانِ.

{وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} وَالْعَهْدُ: هُوَ الِالْتِزَامُ بِإِلْزَامِ اللَّهِ أَوْ إِلْزَامِ الْعَبْدِ لِنَفْسِهِ، فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ حُقُوقُ اللَّهِ كُلُّهَا؛ لِكَوْنِ اللَّهِ أَلْزَمَ بِهَا عِبَادَهُ، وَالْتَزَمُوهَا، وَدَخَلُوا تَحْتَ عُهْدَتِهَا، وَوَجَبَ عَلَيْهِمْ أَدَاؤُهَا، وَحُقُوقُ الْعِبَادِ الَّتِي أَوْجَبَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَالْحُقُوقُ الَّتِي الْتَزَمَهَا الْعَبْدُ؛ كَالْأَيْمَانِ، وَالنُّذُورِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

{وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ} أَيِ: الْفَقْرِ؛ لِأَنَّ الْفَقِيرَ يَحْتَاجُ إِلَى الصَّبْرِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ؛ لِكَوْنِهِ يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الْآلَامِ الْقَلْبِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ الْمُسْتَمِرَّةِ مَا لَا يَحْصُلُ لِغَيْرِهِ، فَإِنْ تَنَعَّمَ الْأَغْنِيَاءُ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ تَأَلَّمَ، وَإِنْ جَاعَ أَوْ جَاعَتْ عِيَالُهُ تَأَلَّمَ، وَإِنْ أَكَلَ طَعَامًا غَيْرَ مُوَافِقٍ لِهَوَاهُ تَأَلَّمَ، وَإِنْ عُرِّيَ أَوْ كَادَ تَأَلَّمَ، وَإِنْ نَظَرَ إِلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَمَا يَتَوَهَّمُهُ مِنَ الْمُسْتَقْبَلِ الَّذِي يَسْتَعِدُّ لَهُ تَأَلَّمَ، وَإِنْ أَصَابَهُ الْبَرْدُ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِ تَأَلَّمَ، فَكُلُّ هَذِهِ وَنَحْوِهَا مَصَائِبُ يُؤْمَرُ بِالصَّبْرِ عَلَيْهَا، وَالِاحْتِسَابِ وَرَجَاءِ الثَّوَابِ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهَا.

{وَالضَّرَّاءِ} أَيِ: الْمَرَضِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ؛ مِنْ حُمَّى، وَقُرُوحٍ، وَرِيَاحٍ، وَوَجَعِ عُضْوٍ؛ حَتَّى الضِّرْسِ، وَالْإِصْبَعِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ يُحْتَاجُ إِلَى الصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ تَضْعُفُ، وَالْبَدَنَ يَأْلَمُ، وَذَلِكَ فِي غَايَةِ الْمَشَقَّةِ عَلَى النُّفُوسِ؛ خُصُوصًا مَعَ تَطَاوُلِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِالصَّبْرِ؛ احْتِسَابًا لِثَوَابِ اللَّهِ -تَعَالى-.

{وَحِينَ الْبَأْسِ} أَيْ: وَقْتَ الْقِتَالِ لِلْأَعْدَاءِ الْمَأْمُورِ بِقِتَالِهِمْ؛ لِأَنَّ الْجِلَادَ يَشُقُّ غَايَةَ الْمَشَقَّةِ عَلَى النَّفْسِ، وَيَجْزَعُ الْإِنْسَانُ مِنَ الْقَتْلِ، أَوِ الْجِرَاحِ، أَوِ الْأَسْرِ، فَاحْتِيجَ إِلَى الصَّبْرِ فِي ذَلِكَ؛ احْتِسَابًا وَرَجَاءً لِثَوَابِ اللَّهِ -تَعَالَى- الَّذِي مِنْهُ النَّصْرُ وَالْمَعُونَةُ الَّتِي وَعَدَهَا الصَّابِرِينَ.

{أُولَئِكَ} أَيِ: الْمُتَّصِفُونَ بِمَا ذَكَرَ مِنَ الْعَقَائِدِ الْحَسَنَةِ، وَالْأَعْمَالِ الَّتِي هِيَ آثَارُ الْإِيمَانِ وَبُرْهَانُهُ وَنُورُهُ، وَالْأَخْلَاقِ الَّتِي هِيَ جِمَالُ الْإِنْسَانِ وَحَقِيقَةُ الْإِنْسَانِيَّةِ، فَأُولَئِكَ هُمُ الَّذِينَ صَدَقُوا فِي إِيمَانِهِمْ؛ لِأَنَّ أَعْمَالَهُمْ صَدَّقَتْ إِيمَانَهُمْ، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}؛ لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا الْمَحْظُورَ، وَفَعَلُوا الْمَأْمُورَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى كُلِّ خِصَالِ الْخَيْرِ تَضَمُّنًا وَلُزُومًا؛ لِأَنَّ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ يَدْخُلُ فِيهِ الدِّينُ كُلُّهُ، وَلِأَنَّ الْعِبَادَاتِ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَكْبَرُ الْعِبَادَاتِ، وَمَنْ قَامَ بِهَا؛ كَانَ بِمَا سِوَاهَا أَقْوَمُ، فَهَؤُلَاءِ هُمُ الْأَبْرَارُ الصَّادِقُونَ الْمُتَّقُونَ)).

((التَّحْذِيرُ مِنَ الْكَذِبِ))

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! كَمَا رَغَّبَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الصِّدْقِ، وَبَيَّنَ لَنَا فَضَائِلَهُ؛ حَذَّرَ مِنَ الْكَذِبِ، وَوَضَّحَ لَنَا مَخَاطِرَهُ، قَالَ ﷺ: ((((آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ)).

وَقَالَ ﷺ: ((أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ؛ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

فَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ الْكَذِبَ عَلَامَةً مِنْ عَلَامَاتِ النِّفَاقِ، وَأَمَارَةً مِنْ أَمَارَاتِهِ؛ فَحَرِيٌّ بِالْمُسْلِمِ الْحَقِيقِيِّ أَنْ يَضْبِطَ لِسَانَهُ، وَأَنْ يَتَحَرَّى الصِّدْقَ فِيمَا يَقُولُ وَفِيمَا يَكْتُبُ؛ لِأَنَّ الْكَلِمَةَ أَمَانَةٌ وَمَسْؤُولِيَّةٌ عَظِيمَةٌ؛ سَوَاءٌ أَكَانَتْ مَقْرُوءَةً، أَمْ مَسْمُوعَةً، أَمْ مَرْئِيَّةً، فَلَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يُرَدِّدَ كُلَّ مَا يَسْمَعُ دُونَ تَثَبُّتٍ أَوْ عِلْمٍ، فَلَيْسَ كُلُّ مَا يُقَالُ يُصَدَّقُ، وَلَيْسَ كُلُّ مَا يُسْمَعُ يُقَالُ؛ حَيْثُ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6].

وَقَالَ تَعَالَى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36].

وَقَالَ نَبِيُّنَا ﷺ: ((كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

وَلَمَّا كَانَتِ الْكَلِمَةُ أَمَانَةً، وَلَهَا تَأْثِيرُهَا فِي حَيَاةِ الْأَفْرَادِ وَالْمُجْتَمَعَاتِ؛ جَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ الْكَلِمَةَ الطَّيِّبَةَ دَلِيلًا عَلَى إِيمَانِ صَاحِبِهَا، فَقَالَ ﷺ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؛ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ)).

وَفِي حَدِيثِ مُعَاذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَرَائِضَ الْإِسْلَامِ، وَأَبْوَابَ الْخَيْرِ قَالَ لَهُ: ((وَإِنْ شِئْتَ أَنْبَأْتُكَ بِرَأْسِ الْأَمْرِ، وَعَمُودِهِ، وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ)).

قَالَ مُعَاذٌ: ((أَجَلْ يَا رَسُولَ اللهِ)).

قَالَ: «رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ».

((وَإِنْ شِئْتَ أَنْبَأْتُكَ بِمِلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ».

قَالَ: ((مَا هُوَ يا رَسُولَ اللهِ؟)). فَأَهْوَى بِإِصْبَعِهِ إِلَى فِيهِ.

قَالَ: فُقُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! وَإِنَّا لَنُؤَاخَذُ بِمَا تَقُولُ أَلْسِنَتُنَا؟!!)).

قَالَ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ! هَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟!».

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((لَا يَصْلُحُ الْكَذِبُ فِي جِدٍّ وَلَا هَزْلٍ، وَلَا أَنْ يَعِدَ أَحَدُكُمْ وَلَدَهُ شَيْئًا ثُمَّ لَا يُنْجِزَ لَهُ)). وَالْحَدِيثُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَقَدْ أَخْرَجَهُ -أَيْضًا- ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي «الْمُصَنَّفِ»، وَوَكِيعٌ فِي «الزُّهْدِ»، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي «الْكَبِيرِ».

قَوْلُهُ: «لَا يُنْجِزُ لَهُ» أَيْ: لَا يَفِي لَهُ.

«لَا يَصْلُحُ الْكَذِبُ فِي جِدٍّ وَلَا هَزْلٍ»؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ مَفْسَدَةٌ لِلْحَيَاةِ؛ إِذْ هُوَ تَغْيِيرٌ لِلْحَقَائِقِ، وَقَلْبٌ لَهَا، وَإِذَا غُيِّرَتِ الْحَقَائِقُ وَبُدِّلَتْ؛ لَمْ تَسْتَقِمِ الْحَيَاةُ بِحَالٍ أَبَدًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُدْرَي حِينَئِذٍ أَيْنَ الصَّوَابُ مِنَ الْخَطَأِ، وَلَا أَيْنَ الْهُدَي مِنَ الضَّلَالِ، وَلَا أَيْنَ الْهِدَايَةُ مِنَ الْغِوَايَةِ؟

وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ  أَنَّ الْكَذِبَ إِذَا اسْتَشْرَى، وَصَارَ عَلَامَةً فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ؛ فَهَذَا مِنْ عَلَامَاتِ السَّاعَةِ؛ فَإِنَّهُ ﷺ ذَكَرَ أَنَّ: «بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتٌ يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ».

قِيلَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟)).

قَالَ: «الرَّجُلُ التَّافِهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ».

فَالْكَذِبُ لَا يَصْلُحُ فِي جِدٍّ وَلَا هَزْلٍ.

قَوْلُ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «لَا يَصْلُحُ الْكَذِبُ فِي جِدٍّ وَلَا هَزْلٍ».

لِذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ لَا يَقُولُ إِلَّا حَقًّا؛ فِي جِدٍّ أَوْ مُدَاعَبَةٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّكَ تُدَاعِبُنَا)).

قَالَ: «إِنِّي لَا أَقُولُ إِلَّا حَقًّا».

وَحَذَّرَ النَّبِيُّ ﷺ مِمَّنْ يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ؛ لِيُضْحِكَ قَوْمَهُ، فَقَالَ: «وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ؛ لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ، وَيْلٌ لَهُ، وَيْلٌ لَهُ». أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ.

قَوْلُهُ: «وَلَا أَنْ يَعِدَ أَحَدُكُمْ وَلَدَهُ شَيْئًا ثُمَّ لَا يُنْجِزَ لَهُ».

إِذْ هُوَ حَرَامٌ، لَمْ يُرَخِّصْ فِيهِ  النَّبِيُّ ﷺ؛ بَلْ وَرَدَ تَصْرِيحُ تَحْرِيمِهِ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((دَعَتْنِي أُمِّي يَوْمًا وَرَسُولُ اللهِ ﷺ قَاعِدٌ فِي بَيْتِنَا، فَقَالَتْ: هَا! تَعَالَ أُعْطِيَكَ)).

فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ: «وَمَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيهِ»؟

فَقَالَتْ: ((أُعْطِيهِ تَمْرًا)).

فَقَالَ لَهَا ﷺ: «أَمَا إِنَّكِ لَوْ لَمْ تُعْطِيهِ شَيْئًا؛ كُتِبَتْ عَلَيْكِ كَذِبَةٌ». أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَقَدْ خَرَّجَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي «الصَّحِيحَةِ».

وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبْزَى: «قَالَ دَاوُدُ: إِذَا وَعَدْتَ صَاحِبَكَ؛ فَأَنْجِزْ لَهُ مَا وَعَدْتَهُ، فَإِلَّا تَفْعَلْ يُورِثْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةً».

فَلَا يَصْلُحُ الْكَذِبُ فِي شَيْءٍ؛ لَا فِي جِدٍّ وَلَا هَزْلٍ.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ: عَدَمُ جَوَازِ الْكَذِبِ؛ وَلَوْ عَلَى سَبِيلِ الْمِزَاحِ، وَلَوْ لِإِرْضَاءِ طِفْلٍ وَمُدَارَاتِهِ؛ غَيْرَ خِصَالٍ ثَلَاثٍ:

*أَنْ يُصْلِحَ الْمَرْءُ بَيْنَ مُتَخَاصِمَيْنِ.

*أَنْ يَكُونَ فِي حَدِيثٍ مَعَ امْرَأَتِهِ.

*أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي الْحَرْبِ.

وَأَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ؛ فَلَيْسَ الْكَذِبُ بِمُبَاحٍ بِحَالٍ، فَالْكَذِبُ لَا يَجُوزُ أَبَدًا؛ وَلَوْ عَلَى سَبِيلِ الْمِزَاحِ.

الْكَذِبُ لَيْسَ مِنَ الْمُرُوءَةِ، الرَّجُلُ إِذَا كَانَ رَجُلًا؛ لَا يَكْذِبُ وَلَوْ كَانَ كَافِرًا، تَذْكُرُونَ قِصَّةَ أَبِي سُفْيَانَ مَعَ هِرَقْلَ.. لِأَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَسْتَنْطِقَهُ -وَكَانَ هِرَقْلُ حَكِيمًا-، لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَسْتَنْطِقَ أَبَا سُفْيَانَ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ مِمَّنْ يُعَادِي وَيُعَانِدُ رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَأَتَى بِهِ فَقَدَّمَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَجَعَلَ مَنْ كَانَ مَعَهُ فِي تِلْكَ السَّفْرَةِ مِنْ وَرَائِهِ -أَيْ: مِنْ وَرَاءِ أَبِي سُفْيَانَ-، يَرَاهُمْ هِرَقْلُ وَيَرَوْنَهُ، وَلَا يَرَاهُمْ أَبُو سُفْيَانَ، ثُمَّ قَالَ لِلْمُتَرْجِمِ: ((قُلْ لَهُمْ: إِنِّي سَائِلُهُ عَنْ أُمُورٍ، فَإِنْ كَذَبَنِي فَأَشِيرُوا إِلَيَّ)).. لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا تَحْتَ عَيْنَيْهِ؛ لَرُبَّمَا هَابُوهُ أَوِ اسْتَحْيَوْا مِنْهُ، فَلَوْ كَذَبَ مَرَّرُوا كَذِبَهُ؛ وَلَكِنْ إِذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ؛ فَمَا أَيْسَرَ أَنْ يُشِيرَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ وَلَوْ بِرَأْسِهِ.. وَلَوْ بِإِيمَاءَةٍ خَفِيفَةٍ.

فَلَمَّا سُئِلَ؛ لَمْ يَأْتِ إِلَّا بِالصِّدْقِ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَزِيدَ شَيْئًا قَالَ: ((وَنَحْنُ مَعَهُ فِي مُوَادَعَةٍ، فَلَا نَدْرِ مَا وَقَعَ مِنْهُ)).

قَالَ: ((وَاللهِ! مَا اسْتَطَعْتُ أَنْ أَزِيدَ إِلَّا هَذِهِ، وَلَوْ لَا خَوْفَ أَنْ يُؤْثَرَ عَنِّي كَذِبَةٌ لَفَعَلْتُ!!)).

وَهُوَ كَافِرٌ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَسْلَمَ بَعْدُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

وَلَكِنْ يُقَالُ: الرَّجُلُ يَكْذِبُ؟!! هُنَاكَ رَجُلٌ يَكْذِبُ؟!!

الرَّجُلُ لَا يَكْذِبُ، لَا أَقُولُ: الْمُسْلِمُ، الرَّجُلُ لَا يَكْذِبُ!!

الصِّدْقُ يَهْدِي إِلَى كُلِّ بِرٍّ وَخَيْرٍ، كَمَا أَنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى كُلِّ شَرٍّ وَفُجُورٍ.

وَالصَّادِقُ حَبِيبٌ إِلَى اللهِ، حَبِيبٌ إِلَى عِبَادِ اللهِ، مُعْتَبَرٌ فِي شَرَفِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ؛ بَلْ عُنْوَانُ الشَّرَفِ وَالِاعْتِبَارِ وَعُلُوِّ الْمَنْزِلَةِ: الصِّدْقُ.

وَلِذَلِكَ كَانَ وَصْفَ رَسُولِ اللهِ قَبْلَ أَنْ يُنَبَّأَ قَبْلَ الرِّسَالَةِ، كَانَ نَعْتُهُ الصَّادِقَ الْأَمِينَ ﷺ.

قَالُوا: ((مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا قَطُّ)).

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلَامٍ: ((فَلَمَّا نَظَرْتُ فِي وَجْهِهِ؛ عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ)).

((جُمْلَةٌ مِنْ فَوَائِدِ الصِّدْقِ))

إِنَّ الصِّدْقَ دَلِيلُ الْإِيمَانِ وَلِبَاسُهُ، وَلُبُّهُ وَرُوحُهُ، وَالسَّعَادَةُ دَائِرَةٌ مَعَ الصِّدْقِ وَالتَّصْدِيقِ، وَلِلصِّدْقِ فَوَائِدُ عَظِيمَةٌ، مِنْهَا: امْتِثَالُ أَمْرِ اللهِ، وَحُصُولُ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ الْعَظِيمِ وَالْمَغْفِرَةِ، وَأَنَّ الصَّادِقَ يَنْتَفِعُ بِصِدْقِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَنَّهُ يَدْعُو إِلَى الْبِرِّ، وَالْبِرُّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا فِي أَعْلَى الدَّرَجَاتِ وَأَرْفَعِ الْمَقَامَاتِ.

وَمَنْ عُرِفَ تَحَرِّيهِ لِلصِّدْقِ؛ ارْتَفَعَ مَقَامُهُ عِنْدَ الْخَلْقِ، كَمَا كَانَ مُرْتَفِعًا عِنْدَ الْخَالِقِ، وَاطْمَأَنَّ النَّاسُ لِأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَصَارَ لَهُ مَرْتَبَةٌ عَالِيَةٌ فِي الشَّرَفِ، وَحُسْنِ الِاعْتِبَارِ، وَالثَّنَاءِ الْجَمِيلِ، وَأَمِنَ النَّاسُ مِنْ بَوَائِقِهِ وَمَكْرِهِ وَغَدْرِهِ.

فَفِي جَمِيعِ الْمَقَامَاتِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ لَا تَجِدُ الصَّادِقَ إِلَّا فِي الذِّرْوَةِ الْعُلْيَا، إِنْ كَانَ فِي مَقَامِ الْإِفْتَاءِ وَالتَّعْلِيمِ وَالْإِرْشَادِ؛ لَمْ يَعْدِلِ النَّاسُ بِقَوْلِهِ لِقَوْلِ أَحَدٍ، وَاطْمَأَنُّوا إِلَى إِرْشَادَاتِهِ وَتَعْلِيمِهِ وَتَفْهِيمِهِ؛ لِأَنَّهُ مُؤَسَّسٌ عَلَى الصِّدْقِ، وَإِنْ شَهِدَ شَهَادَةً عَامَّةً أَوْ شَهَادَةً خَاصَّةً؛ ثَبَتَتِ الْأَحْكَامُ بِشَهَادَتِهِ، وَإِنْ أَخْبَرَ بِخَبَرٍ خَاصٍّ أَوْ عَامٍّ؛ وَثِقَ النَّاسُ لِخَبَرِهِ، وَعَظَّمُوهُ وَاحْتَرَمُوهُ؛ حَتَّى لَوْ أَخْطَأَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لَوَجَدُوا لَهُ مَحْمَلًا صَالِحًا، وَإِنْ عَامَلَ النَّاسَ مُعَامَلَةً دُنْيَوِيَّةً بِبَيْعٍ، أَوْ شِرَاءٍ، أَوْ إِجَارَةٍ، أَوْ تِجَارَةٍ، أَوْ حَقٍّ مِنَ الْحُقُوقِ الْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ؛ تَسَابَقَ النَّاسُ إِلَى مُعَامَلَتِهِ، وَاطْمَأَنُّوا لِذَلِكَ غَيْرَ مُرْتَابِينَ.

وَحَسْبُكَ بِهَذَا الْخُلُقِ الَّذِي يَخْضَعُ لِحُسْنِهِ وَكَمَالِهِ أَلِبَّاءُ الرِّجَالِ، وَيَعْتَرِفُ بِكَمَالِهِ أَهْلُ الْفَضْلِ وَالْكَمَالِ، فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْبَرَاهِينِ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ، وَكَمَالِ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ هَذَا الدِّينِ الْقَيِّمِ الَّذِي هَذَا الْخُلُقُ الْعَظِيمُ مِنْ أَخْلَاقِهِ، وَكُلُّ أَخْلَاقِهِ عَلَى هَذَا النَّمَطِ، وَاللهُ -تَعَالَى- أَعْلَمُ.

((ثَمَرَاتُ الصِّدْقِ وَثَوَابُهُ))

لَقَدْ أَمَرَ اللهُ بِالصِّدْقِ، وَأَثْنَى عَلَى الصَّادِقِينَ، وَذَكَرَ جَزَاءَ الصَّادِقِينَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَالْمُرَادُ بِالصِّدْقِ: أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ صَادِقًا فِي عَقِيدَتِهِ، صَادِقًا فِي خُلُقِهِ، صَادِقًا فِي قَوْلِهِ وَعَمَلِهِ، فَهُوَ الَّذِي يَجِيءُ بِالصِّدْقِ فِي ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ، وَيُصَدِّقُ بِالصِّدْقِ لِمَنْ جَاءَ بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر: 33].

وَلَمَّا كَانَ مَنْ هَذَا وَصْفُهُ هُوَ أَعْلَى الْخَلْقِ فِي كُلِّ حَالَةٍ؛ ذَكَرَ جَزَاءَهُ أَعْلَى الْجَزَاءِ وَأَفْضَلَهُ، فَقَالَ: {لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ۚ ذَٰلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الزمر: 34-35].

وَمِنْ أَعْظَمِ ثَمَرَاتِ الصِّدْقِ: النَّجَاةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَنَيْلُ رِضْوَانِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ حَيْثُ يَقُولُ سُبْحَانَهُ: {قَالَ اللَّهُ هَٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ۚ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [المائدة: 119].

قَالَ اللهُ -تَعَالَى- يَوْمَ الْقِيَامَةِ: هَذَا يَوْمُ الْجَزَاءِ الَّذِي يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ -فِي إِيمَانِهِمْ، وَأَعْمَالِهِمْ، وَأَقْوَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا- صِدْقُهُمْ فِي الْآخِرَةِ.

لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِ قُصُورِهَا وَأَشْجَارِهَا الْأَنْهَارُ، خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ بِطَاعَتِهِمْ لَهُ، وَقَبُولِ حَسَنَاتِهِمْ، وَرَضُوا عَنْهُ بِمَا أَعْطَاهُمْ مِنْ ثَوَابٍ عَظِيمٍ وَرِضْوَانٍ كَبِيرٍ، ذَلِكَ الْجَزَاءُ وَالرِّضَا مِنْهُ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.

وَجَعَلَ الْحَقُّ (سبح) مَرْتَبَةَ الصِّدِّيقِينَ بَعْدَ مَرْتَبَةِ النَّبِيِّينَ، وَأَخْبَرَ -جَلَّ شَأْنُهُ- أَنَّ أَهْلَ الصِّدْقِ مِنْ عِبَادِهِ فِي صُحْبَةِ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ، وَالشُّهَدَاءِ، وَالصَّالِحِينَ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ}، فَهُمْ أَهْلُ الْمَكَانَةِ الْأَسْمَى وَالرَّفِيقِ الْأَعْلَى {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69].

وَمَنْ يُطِعِ اللهَ دَوَامًا فِي أَدَاءِ الْفَرَائِضِ، وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي، وَيُطِعِ الرَّسُولَ فِي السُّنَنِ الَّتِي سَنَّهَا؛ فَأُولَئِكَ الْفُضَلَاءُ ذَوُو الْمَنْزِلَةِ الرَّفِيعَةِ، الْمُطِيعُونَ لِلهِ وَرَسُولِهِ فِي صُحْبَةِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ بِالْهِدَايَةِ وَالتَّوْفِيقِ فِي الدُّنْيَا، وَبِدُخُولِ الْجَنَّةِ فِي الْآخِرَةِ فِي مَنَازِلِ الْفِرْدَوْسِ الْأَعْلَى؛ مِنَ النَّبِيِّينَ الَّذِينَ أَنْبَأَهُمُ اللهُ وَاخْتَارَهُمْ؛ لِيُخْبِرُوا عَنْهُ -سُبْحَانَهُ-، وَيُبَلِّغُوا شَرْعَهُ.

وَمَعَ كَثِيرِي الصِّدْقِ فِي إِيمَانِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ مِنْ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ الَّذِينَ صَدَّقُوا بِكُلِّ الدِّينِ.

وَالشُّهَدَاءِ الَّذِينَ شَهِدُوا الْحَقَّ وَعَلِمُوهُ كَعِلْمِ الْمُعَايَنَةِ وَالْمُشَاهَدَةِ، وَاسْتُشْهِدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ، وَبَذَلُوا أَرْوَاحَهُمْ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ.

وَالصَّالِحِينَ الَّذِينَ صَلَحَتْ أَحْوَالُهُمْ، وَحَسُنَتْ أَعْمَالُهُمْ، وَنِعْمَتِ الصُّحْبَةُ صُحْبَةُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنَ النَّبِيِّينَ، وَالصِّدِّيقِينَ، وَالشُّهَدَاءِ، وَالصَّالِحِينَ فِي مَنَازِلِ الْفِرْدَوْسِ الْأَعْلَى مِنْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ.

إِنَّ لِلصِّدْقِ فَضَائِلَ عَظِيمَةً، دُنْيَا وَآخِرَةً، وَأَعْظَمُ ثَمَرَاتِ الصِّدْقِ: الْجَنَّةُ؛ فَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ.. عِنْدَمَا أَمَرَ بِالصِّدْقِ بَيَّنَ عَاقِبَتَهُ، فَقَالَ : ((إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الجَنَّةِ)) .

فَصَاحِبُ الْبِرِّ يَهْدِيهِ بِرُّهُ إِلَى الْجَنَّةِ، وَالْجَنَّةُ غَايَةُ كُلِّ مَطْلَبٍ.

*وَمِنْ ثَمَرَاتِ الصِّدْقِ الْعَظِيمَةِ: إِجَابَةُ الدُّعَاءِ، وَرَفْعُ الدَّرَجَاتِ فِي الْجَنَّةِ؛ فَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ))  بِسَنَدِهِ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: ((مَنْ سَأَلَ اللهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ؛ بَلَّغَهُ اللهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ؛ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ)).

*وَمِنْ ثَمَرَاتِ الصِّدْقِ: أَنَّ مَنْ صَدَقَ اللهَ صَدَقَهُ اللهُ؛ فَعَنْ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -فِيمَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ الْجَامِعِ))، وَغَيْرِهِ-: أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَعْرَابِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَآمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ، ثُمَّ قَالَ: أُهَاجِرُ مَعَكَ.

فَأَوْصَى بِهِ النَّبِيُّ ﷺ بَعْضَ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا كَانَتْ غَزْوَةٌ، غَنِمَ النَّبِيُّ ﷺ سَبْيًا، فَقَسَمَهُ وَقَسَمَ لَهُ، فَأَعْطَى أَصْحَابَهُ مَا قَسَمَ لَهُ، وَكَانَ يَرْعَى ظَهْرَهُمْ -كَانَ فِي إِبِلِهِمْ يَرْعَاهَا، فَلَمْ يَكُنْ حَاضِرًا-، فَأَعْطَى أَصْحَابَهُ مَا قَسَمَ لَهُ، فَلَمَّا جَاءَ دَفَعُوهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟!!

قَالُوا: قَسْمٌ قَسَمَهُ لَكَ النَّبِيُّ ﷺ. فَأَخَذَهُ، فَجَاءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟!

قَالَ: ((قَسَمْتُهُ لَكَ)).

قَالَ: مَا عَلَى هَذَا اتَّبَعْتُكَ! وَلَكِنِّي اتَّبَعْتُكَ عَلَى أَنْ أُرْمَى إِلَى هَاهُنَا -وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ- بِسَهْمٍ؛ فَأَمُوتَ فَأَدْخُلَ الجَنَّةَ.

فَقَالَ: ((إِنْ تَصْدُقِ اللَّهَ يَصْدُقْكَ)).

فَلَبِثُوا قَلِيلًا، ثُمَّ نَهَضُوا فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ، فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ يُحْمَلُ، قَدْ أَصَابَهُ سَهْمٌ حَيْثُ أَشَارَ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَهُوَ هُوَ؟!!)).

قَالُوا: نَعَمْ.

قَالَ: ((صَدَقَ اللَّهَ، فَصَدَقَهُ اللَّهُ)).

ثُمَّ كَفَّنَهُ النَّبِيُّ ﷺ فِي جُبَّتِهِ، ثُمَّ قَدَّمَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ، فَكَانَ فِيمَا ظَهَرَ مِنْ صَلَاتِهِ -أَيْ مِنْ دُعَائِهِ-: ((اللَّهُمَّ إِنَّ هَذَا عَبْدُكَ خَرَجَ مُهَاجِرًا فِي سَبِيلِكَ، فَقُتِلَ شَهِيدًا، أَنَا شَهِيدٌ عَلَى ذَلِكَ)).

خُذْ هَذَا السَّبْيَ! فَقَالَ: مَا عَلَى هَذَا اتَّبَعْتُكَ! لَمْ أَتَّبِعْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى أَنْ أُحَصِّلَ فِي الدُّنْيَا مَغْنَمًا، وَلَا أَنْ أُفِيدَ فِيهَا فَائِدَةً؛ وَإِنَّمَا اتَّبَعْتُكَ عَلَى أَنْ أُرْمَى بِسَهْمٍ هَاهُنَا، يَخْتَارُ مِيتَةً يُؤتِيهِ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِيَّاهَا كَمَا اخْتَارَهَا، وَيُشِيرُ بِأُصْبُعِهِ إِلَى حَلْقِهِ، أَنْ أُرْمَى بِسَهْمٍ هَاهُنَا -وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ-؛ فَأَمُوتَ فَأَدْخُلَ الجَنَّةَ، فَوَكَلَهُ الرَّسُولُ إِلَى صِدْقِهِ مَعَ رَبِّهِ؛ قَالَ: ((إِنْ تَصْدُقِ اللَّهَ يَصْدُقْكَ)).

فَجِيءَ بِهِ مَحْمُولًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَتَأَكَّدَ مِنْهُ: ((أَهُوَ هُوَ؟!!))

قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ.

السَّهْمُ فِي حَلْقِهِ، فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ بِأُصْبُعِهِ، فَقَالَ: ((صَدَقَ اللَّهَ، فَصَدَقَهُ اللَّهُ))، ثُمَّ شَهِدَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ بَمَا كَانَ مِنْهُ.

هَذِهِ حَقِيقَةُ الدِّينِ، حَقِيقَةُ الْإِخْلَاصِ، حَقِيقَةُ الْعَمَلِ لِخِدْمَةِ دِينِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَيْسَ هَاهُنَا شَيْءٌ، الْفَائِدَةُ هُنَاكَ، الْأَجْرُ هُنَاكَ، الْمَثُوبَةُ هُنَاكَ، وَأَمَّا هَاهُنَا فِي الدُّنْيَا؛ فَتَعَبٌ، وَنَصَبٌ، وَعَنَاءٌ، وَبَلَاءٌ، وَأَلَمٌ، وَمَشَقَّةٌ، وَاللَّهُ يَشْرَحُ الصَّدْرَ، وَيُصْلِحُ الْبَالَ، وَيُطَمْئِنُ الْقَلْبَ.

وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.

*وَمِنْ ثَمَرَاتِ الصِّدْقِ: أَنَّ الصَّادِقَ مِنْ أَفْضَلِ النَّاسِ؛ فَفِي «صَحِيحِ سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ»  عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: قِيلَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: مَنْ أَفْضَلُ النَّاسِ؟

فَقَالَ ﷺ: ((كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ))، كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ.. هَذَا أَفْضَلُ النَّاسِ.

فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! صَدُوقُ اللِّسَانِ عَرَفْنَاهُ؛ فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ الَّذِي لَا إِثْمَ فِيهِ، وَلَا بَغْيَ، وَلَا غِلَّ فِيهِ، وَلَا حَسَدَ» .

فَأَفْضَلُ الْأَعْمَالِ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَفْضَلُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: سَلَامَةُ الصَّدْرِ، وَمَنْ كَانَ عَنِ الْغِلِّ وَالْحَسَدِ مُنَزَّهًا، وَمِنْ ذَلِكَ مُبَرَّءًا.

فَهَذَا حَدِيثٌ ثَابِتٌ عَنْ نَبِيِّكُمْ ﷺ يُوَضِّحُ أَفْضَلَ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ وَأَكْرَمَ النَّاسِ فِي مِيزَانِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ مَنْ هَذَّبَ النَّفْسَ وَصَفَّاهَا، وَرَقَّقَ الْقَلْبَ وَأَعْلَاهُ عَلَى مَنْهَجِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ كِتَابًا وَسُنَّةً، وَأَمَّا مَنْ دَسَّاهَا فَقَدْ خَابَ، كَمَا قَرَّرَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ.

وَمِنْ أَعْظَمِ ثَمَرَاتِ الصِّدْقِ: الْبَرَكَةُ فِي الْمُعَامَلَاتِ التِّجَارِيَّةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ؛ ((فَصِدْقُ الْمُتَبَايِعِينَ يُحِلُّ الْبَرَكَةَ فِي بَيْعِهِمْ، كَمَا أَنَّ كَذِبَهُمَا يَمْحَقُ بَرَكَةَ بَيْعِهِمْ))  ؛ فَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا؛ فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا)).

((الْبَيِّعَانِ: الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي، أُطْلِقَ عَلَيْهِمَا اسْمُ الْبَيْعِ مِنْ بَابِ التَّغْلِيبِ؛ كَمَا يُقَالُ الْقَمَرَانِ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَكَمَا يُقَالُ الْعُمَرَانِ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- )) .

*وَمِنْ ثَمَرَاتِ الصِّدْقِ الْجَلِيلَةِ: أَنَّهُ سَبَبُ تَفْرِيجِ الْكُرُبَاتِ، وَالنَّجَاةِ فِي الْمُلِمَّاتِ فِي الدُّنْيَا؛ فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((بَيْنَمَا ثَلَاثَةُ نَفَرٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يَمْشُونَ إِذْ أَصَابَهُمْ مَطَرٌ، فَأَوَوْا إِلَى غَارٍ، فَانْطَبَقَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّهُ وَاللَّهِ يَا هَؤُلَاءِ لَا يُنْجِيكُمْ إِلَّا الصِّدْقُ؛ فَلْيَدْعُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ صَدَقَ فِيهِ.

فَقَالَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ لِي أَجِيرٌ عَمِلَ لِي عَلَى فَرَقٍ مِنْ أَرُزٍّ، فَذَهَبَ وَتَرَكَهُ، وَأَنِّي عَمَدْتُ إِلَى ذَلِكَ الْفَرَقِ فَزَرَعْتُهُ، فَصَارَ مِنْ أَمْرِهِ أَنِّي اشْتَرَيْتُ مِنْهُ بَقَرًا، وَأَنَّهُ أَتَانِي يَطْلُبُ أَجْرَهُ، فَقُلْتُ لَهُ: اعْمِدْ إِلَى تِلْكَ الْبَقَرِ فَسُقْهَا.

فَقَالَ لِي: إِنَّمَا لِي عِنْدَكَ فَرَقٌ مِنْ أَرُزٍّ!

فَقُلْتُ لَهُ: اعْمِدْ إِلَى تِلْكَ الْبَقَرِ؛ فَإِنَّهَا مِنْ ذَلِكَ الْفَرَقِ، فَسَاقَهَا، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا، فَانْسَاحَتْ عَنْهُمُ الصَّخْرَةُ.

فَقَالَ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، وَكُنْتُ آتِيهِمَا كُلَّ لَيْلَةٍ بِلَبَنِ غَنَمٍ لِي، فَأَبْطَأْتُ عَلَيْهِمَا لَيْلَةً، فَجِئْتُ وَقَدْ رَقَدَا، وَأَهْلِي وَعِيَالِي يَتَضَاغَوْنَ مِنَ الْجُوعِ،  وَكُنْتُ لَا أَسْقِيهِمْ حَتَّى يَشْرَبَ أَبَوَايَ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَهُمَا، وَكَرِهْتُ أَنْ أَدَعَهُمَا فَيَسْتَكِنَّا لِشَرْبَتِهِمَا، فَلَمْ أَزَلْ أَنْتَظِرُ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا، فَانْسَاحَتْ عَنْهُمُ الصَّخْرَةُ حَتَّى نَظَرُوا إِلَى السَّمَاءِ.

فَقَالَ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ لِي ابْنَةُ عَمٍّ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَأَنِّي رَاوَدْتُهَا عَنْ نَفْسِهَا، فَأَبَتْ إِلَّا أَنْ آتِيَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَطَلَبْتُهَا حَتَّى قَدَرْتُ، فَأَتَيْتُهَا بِهَا فَدَفَعْتُهَا إِلَيْهَا، فَأَمْكَنَتْنِي مِنْ نَفْسِهَا، فَلَمَّا قَعَدْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا قَالَتْ : اتَّقِ اللَّهَ، وَلَا تَفُضَّ الْخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ، فَقُمْتُ، وَتَرَكْتُ الْمِائَةَ دِينَارٍ، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا، فَفَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَخَرَجُوا)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ -وَاللَّفْظُ لَهُ-، وَمُسْلِمٌ.

((وَاللَّهِ يَا هَؤُلَاءِ لَا يُنْجِيكُمْ إِلَّا الصِّدْقُ..)).

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى عِظَمِ الصِّدْقِ عِنْدَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَعَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ لَيْسَتْ بِكَثْرَتِهَا، وَإِنَّمَا بِالصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ فِيهَا، بِتَخْلِيصِهَا مِنَ الشَّوَائِبِ، وَمِمَّا يُحْبِطُهَا.

فَمَهْمَا حَاوَلَ الْإِنْسَانُ أَنْ يَتَقَرَّبَ إِلَى اللهِ بِعَمَلٍ لَمْ يَصْدُقْ فِيهِ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ لِلهِ مُخْلِصًا؛ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يُحْبِطُ عَمَلَهُ، وَيَرُدُّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مُشْرِكًا فِيهِ عَذَّبَهُ عَلَيْهِ.

وَمِنْ ثَمَرَاتِ الصِّدْقِ: طُمَأْنِينَةُ النَّفْسِ، وَرَاحَةُ الْقَلْبِ، وَسُكُونُ الرُّوحِ وَالضَّمِيرِ؛ قال ﷺ: ((دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ؛ فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ، وَإِنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ))؛ فَالْخَيْرُ تَطْمَئِنُّ بِهِ الْقُلُوبُ، وَالشَّرُّ تَرْتَابُ بِهِ، وَلَا تَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ، وَعَلَامَةُ الصِّدْقِ أَنَّهُ تَطْمَئِنُّ بِهِ الْقُلُوبُ، وَعَلَامَةُ الْكَذِبِ أَنَّهُ تَحْصُلُ بِهِ الرِّيبَةُ، فَلَا تَسْكُنُ الْقُلُوبُ إِلَيْهِ، بَلْ تَنْفِرُ الْقُلُوبُ مِنْهُ.

الصِّدْقُ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْكَذِبُ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُنَافِقِينَ الْفَاجِرِينَ؛ فَعَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَتَحَرَّى الصِّدْقَ، وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي طَلَبِهِ، وَأَنْ يَلْزَمَهُ؛ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا.

وَيَنْبَغِي أَلَّا يُتَهَاوَنَ فِي أَمْرِ الْكَذِبِ؛ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَكْذِبُ، قَدْ يَقَعُ فِي أُمُورٍ؛ وَلَكِنَّهُ لَا يَكْذِبُ.

فَعَلَيْنَا أَنْ نَجْتَهِدَ فِي هَذَا، وَعَلَيْنَا أَنْ نَثْبُتَ؛ حَتَّى لَا يَسْتَفِزَّنَا كَذِبُ الْكَاذِبِينَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ يَكْذِبُونَ، فَلَا نُقَابِلُ كَذِبًا بِكَذِبٍ، فَإِنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ؛ بَلْ نَدْفَعُ كَذِبَهُمْ بِالصِّدْقِ، نَتَحَرَّاهُ، وَنَثْبُتُ عَلَيْهِ، وَلَا نُفَارِقُهُ، وَلَا نُبَالِي بِكَذِبِ الْكَاذِبِينَ؛ فَـ {إِنَّ اللهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ}، أَمَّا أَنْ نُقَابِلَ كَذِبًا بِكَذِبٍ؛ فَهَذَا لَا يَرْضَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.

وَاعْلَمْ أَنَّكَ مَا عَاقَبْتَ مَنْ عَصَى اللهَ فِيكَ بِمِثْلِ أَنْ تُطِيعَ اللهَ فِيهِ.

((وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا)).. وَالصِّدِّيقِيَّةُ شَجَرَةٌ أَصْلُهَا الْعُلُومُ الصَّحِيحَةُ، وَالْعَقَائِدُ السَّلَفِيَّةُ الْمَأْخُوذَةُ مِنْ كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَقِوَامُهَا وَرُوحُهَا الْإِخْلَاصُ الْكَامِلُ للهِ، وَالْإِنَابَةُ إِلَيْهِ، وَالرُّجُوعُ إِلَيْهِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ رَغْبَةً وَرَهْبَةً، وَمَحَبَّةً وَتَعْظِيمًا، وَخُضُوعًا وَذُلًّا للهِ، وَثَمَرَاتُهَا الْأَخْلَاقُ الْحَمِيدَةُ، وَالْأَقْوَالُ السَّدِيدَةُ، وَالْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ، وَالْإِحْسَانُ فِي عِبَادَةِ الْخَالِقِ، وَالْإِحْسَانُ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ بِجَمِيعِ وُجُوهِ الْإِحْسَانِ، وَجِهَادُ جَمِيعِ أَصْنَافِ الْمُنْحَرِفِينَ، فَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ الْقِيَامُ بِالدِّينِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَحَالًا، وَدَعْوَةً إِلَى اللهِ، وَاللهُ هُوَ الْمُوَفِّقُ، وَهُوَ الْمُعِينُ لِكُلِّ مَنِ اسْتَعَانَ بِهِ صِدْقًا.

((اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ!))

اتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ! وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ، وَأَحْسِنُوا فِي مُعَامَلَةِ الْخَالِقِ وَمُعَامَلَةِ الْخَلْقِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، فَـ((عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ؛ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا)).

وَالصَّادِقُونَ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ مَحْبُوبُونَ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ النَّاسِ، تَطِيبُ الْمَجَالِسُ إِذَا ذُكِرُوا، وَتَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ بِأَخْبَارِهِمْ إِذَا أَخْبَرُوا، وَيَجِدُونَ ثَمَرَةَ صِدْقِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْقُبُورِ، وَإِذَا حُشِرُوا تَلْهَجُ لَهُمُ الْأَلْسِنَةُ بِالثَّنَاءِ، وَتُصَافِيهِمُ الْقُلُوبُ بِالْمَوَدَّةِ وَالْإِخَاءِ.

نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنَا جَمِيعًا مِنَ الصَّادِقِينَ، وَأَنْ يُحْسِنَ لَنَا الْخِتَامَ أَجْمَعِينَ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

المصدر: حَدِيثُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ عَنِ الصِّدْقِ وَالصَّادِقِينَ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  عَالَمِيَّةُ الرِّسَالَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ كَمَا يَجِبُ أَنْ نَفْهَمَهَا
  الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ وَأَثَرُهُ فِي زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَتَرْسِيخِ الْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ
  الْإِسْرَاءُ وَالْمِعْرَاجُ وَآيَاتُ اللهِ الْكُبْرَى
  نِدَاءَاتُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ لِلْمُؤْمِنِينَ
  عَلَى أَبْوَابِ رَمَضَانَ
  عُلُوُّ الْهِمَّةِ سَبِيلُ الْأُمَمِ الْمُتَحَضِّرَةِ
  نِعْمَةُ الْمَاءِ وَضَرُورَةُ الْحِفَاظِ عَلَيْهَا
  الأمن من مكر الله
  الْحَيَاءُ مِنَ اللهِ وَمِنَ الْخَلْقِ وَمِنَ النَّفْسِ شِيمَةُ الْكِرَامِ وَفِطْرَةٌ إِنْسَانِيَّةٌ سَوِيَّةٌ
  تَقْدِيرُ الْمَصْلَحَةِ وَتَنْظِيمُ الْمُبَاحِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان