اسْمُ اللهِ الْوَلِيُّ

اسْمُ اللهِ الْوَلِيُّ

((اسْمُ اللهِ الْوَلِيُّ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((اللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ))

فَقَدْ قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ۗ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 257].

((اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- يَتَوَلَّى الْمُؤْمِنِينَ بِنَصْرِهِ، وَتَوْفِيقِهِ، وَحِفْظِهِ، يُخْرِجُهُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ)).

فَأَخْبَرَ -تَعَالَى- أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ، وَصَدَّقُوا إِيمَانَهُمْ بِالْقِيَامِ بِوَاجِبَاتِ الْإِيمَانِ، وَتَرْكِ كُلِّ مَا يُنَافِيهِ أَنَّهُ وَلِيُّهُمْ، يَتَوَلَّاهُمْ بِوِلَايَتِهِ الْخَاصَّةِ، وَيَتَوَلَّى تَرْبِيَتَهُمْ، فَيُخْرِجُهُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْجَهْلِ وَالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي وَالْغَفْلَةِ وَالْإِعْرَاضِ إِلَى نُورِ الْعِلْمِ وَالْيَقِينِ وَالْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ، وَالْإِقْبَالِ الْكَامِلِ عَلَى رَبِّهِمْ، وَيُنَوِّرُ قُلُوبَهُمْ بِمَا يَقْذِفُهُ فِيهَا مِنْ نُورِ الْوَحْيِ وَالْإِيمَانِ، وَيُيَسِّرُهُمْ لِلْيُسْرَى، وَيُجَنِّبُهُمُ الْعُسْرَى.

وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا؛ فَإِنَّهُمْ لَمَّا تَوَلَّوْا غَيْرَ وَلِيِّهِمْ وَلَّاهُمُ اللَّهُ مَا تَوَلَّوْا لِأَنْفُسِهِمْ، وَخَذَلَهُمْ، وَوَكَلَهُمْ إِلَى رِعَايَةِ مَنْ تَوَلَّاهُمْ مِمَّنْ لَيْسَ عِنْدَهُ نَفْعٌ وَلَا ضُرٌّ، فَأَضَلُّوهُمْ وَأَشْقَوْهُمْ، وَحَرَمُوهُمْ هِدَايَةَ الْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَحَرَمُوهُمُ السَّعَادَةَ، وَصَارَتِ النَّارُ مَثْوَاهُمْ، خَالِدِينَ فِيهَا مُخَلَّدِينَ -اللَّهُمَّ تَوَلَّنَا فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ-.

 ((مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ الْحُسْنَى: الْوَلِيُّ وَالْمَوْلَى))

مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْحُسْنَى: اسْمُهُ -جَلَّ جَلَالُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ- (الْوَلِيُّ)، وَاسْمُهُ -جَلَّ جَلَالُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ-: (الْمَوْلَى).

(الْوَلِيُّ) وَ(الْمَوْلَى).

(الْوَلْيُ) فِي اللُّغَةِ: الْقُرْبُ وَالدُّنُوُّ.

وَمِنْ ذَلِكَ: قَوْلُهُ ﷺ: ((وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ)) يَعْنِي: مِمَّا يُقَرِّبُ لَكَ، مِمَّا يُقَارِبُكَ.

وَالْوَلِيُّ ضِدُّ الْعَدُوِّ، وَالْمُوَالَاةُ ضِدُّ الْمُعَادَاةِ.

وَأَمَّا (الْمَوْلَى) فَلَا يَلْتَبِسَنَّ عَلَيْكَ؛ فَإِنَّهُ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ مَعْنًى؛ كَالْعَيْنِ؛ فَمِنْهَا: الْعَيْنُ الْبَاصِرَةُ، وَمِنْهَا: الْعَيْنُ الْجَارِيَةُ، وَمِنْهَا: الْعَيْنُ بِمَعْنَى الذَّاتِ، وَمِنْهَا: الْعَيْنُ بِمَعْنَى الْجَاسُوسِ وَالرَّبِيئَةِ وَالطَّلِيعَةِ الَّذِي يَقْدُمُ الْجَيْشَ لِيَعْلَمَ خَبَرَ الْقَوْمِ، وَيَكُونُ تَحْدِيدُ الْمَعْنَى عَلَى حَسَبِ السِّيَاقِ.

(الْمَوْلَى): الْمُعْتِقُ وَالْمُعْتَقُ، وَابْنُ الْعَمِّ، وَالنَّاصِرُ، وَالْجَارُ، وَالصَّدِيقُ، وَالتَّابِعُ، وَالْمُحِبُّ، وَالْحَبِيبُ، وَالشَّرِيكُ، وَابْنُ الْأُخْتِ؛ كُلُّ ذَلِكَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ: مَوْلًى.

وَالْوَلِيُّ: الصِّهْرُ، وَكُلُّ مَنْ وَلِيَ أَمْرَ أَحَدٍ فَهُوَ وَلِيُّهُ.

وَوَلَّاهُ عَمَلَ كَذَا، وَوَلَّاهُ بَيْعَ الشَّيْءِ، وَتَوَلَّى الْعَمَلَ، يَعْنِي: تَقَلَّدَهُ.

وَالْوِلَايَةُ -بِالْكَسْرِ-: السُّلْطَانُ.

وَالْوَلَايَةُ -بِالْفَتْحِ-: النُّصْرَةُ، وَكَذَلِكَ -بِالْكَسْرِ- هِيَ؛ فَالْوَلَايَةُ وَالْوِلَايَةُ: النُّصْرَةُ.

وَأَمَّا مَعْنَى الِاسْمَيْنِ فِي حَقِّ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-:

فَـ(الْوَلِيُّ): قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: (({اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 257]: نَصِيرُهُمْ -فَـ(الْوَلِيُّ): النَّصِيرُ- وَظَهِيرُهُمْ، وَالظَّهِيرُ يَتَوَلَّاهُمْ بِعَوْنِهِ وَتَوْفِيقِهِ.

{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 257] يَعْنِي بِذَلِكَ: يُخْرِجُهُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ)).

وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (({وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَلِيًّا} [النساء: 45]: وَكَفَاكُمْ وَحَسْبُكُمْ بِاللهِ رَبُّكُمْ وَلِيًّا، يَلِيكُمْ وَيَلِي أُمُورَكُمْ بِالْحِيَاطَةِ وَالْحِرَاسَةِ مِنْ أَنْ يَسْتَفِزَّكُمْ أَعْدَاؤُكُمْ عَنْ دِينِكُمْ، أَوْ يَصُدُّوكُمْ عَنِ اتِّبَاعِ نَبِيِّكُمْ ﷺ )).

وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (({إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ ۖ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف: 196]: يَقُولُ -تَعَالَى ذِكْرُهُ- لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلْمُشْرِكِينَ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ: إِنَّ وَلِيِّي وَنَصِيرِي وَمُعِينِي وَظَهِيرِي اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ عَلَيَّ بِالْحَقِّ، وَهُوَ يَتَوَلَّى مَنْ صَلُحَ عَمَلُهُ بِطَاعَتِهِ مِنْ خَلْقِهِ)).

(الْوَلِيُّ): فَعِيلٌ مِنَ الْمُوَالَاةِ، وَ(الْوَلِيُّ): النَّاصِرُ، قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 257]: وَلِيُّهُمُ الَّذِي يَتَوَلَّى نَصْرَهُمْ وَإِرْشَادَهُمْ، كَمَا يَتَوَلَّى يَوْمَ الْحِسَابِ ثَوَابَهُمْ وَجَزَاءَهُمْ.

فَـ(الْوَلِيُّ): الْمُتَوَلِّي لِلْأَمْرِ وَالْقَائِمُ بِهِ؛ كَوَلِيِّ الْيَتِيمِ، وَكَوَلِيِّ الْمَرْأَةِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ، وَأَصْلَهُ مِنَ (الْوَلْيِ): وَهُوَ الْقُرْبُ.

(الْوَلِيُّ): مَالِكُ التَّدْبِيرِ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ لِلْقَيِّمِ عَلَى الْيَتِيمِ: وَلِيُّ الْيَتِيمِ، وَيُقَالُ لِلْأَمِيرِ: الْوَالِي.

وَ(الْوَلِيُّ): الْمُحِبُّ النَّاصِرُ.

هَذَا كُلُّهُ فِي مَعْنَى اسْمِهِ -تَعَالَى- (الْوَلِيّ).

وَأَمَّا اسْمُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: (الْمَوْلَى)؛ فَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (({أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 286]: أَنْتَ وَلِيُّنَا بِنَصْرِكَ دُونَ مَنْ عَادَاكَ وَكَفَرَ بِكَ؛ لِأَنَّا مُؤْمِنُونَ بِكَ، وَمُطِيعُونَ فِيمَا أَمَرْتَنَا وَنَهَيْتَنَا؛ فَأَنْتَ وَلِيُّ مَنْ أَطَاعَكَ، وَعَدُوُّ مَنْ كَفَرَ بِكَ فَعَصَاكَ، {أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا} لِأَنَّا حِزْبُكَ {عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} الَّذِينَ جَحَدُوا وَحْدَانِيَّتَكَ، وَعَبَدُوا الْآلِهَةَ وَالْأَنْدَادَ دُونَكَ، وَأَطَاعُوا فِي مَعْصِيَتِكَ الشَّيْطَانَ)).

(الْمَوْلَى): النَّاصِرُ وَالْمُعِينُ، وَكَذَلِكَ النَّصِيرُ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ؛ كَمَا تَقُولُ: قَدِيرٌ وَقَادِرٌ، وَعَلِيمٌ وَعَالِمٌ؛ كَقَوْلِهِ -تَعَالَى-: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ ۖ فَنِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 78].

وَأَيْضًا (الْمَوْلَى): هُوَ الْمَأْمُولُ فِي النَّصْرِ وَالْمَعُونَةِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَالِكُ، وَلَا مَفْزَعَ لِلْمَمْلُوكِ إِلَّا مَالِكُهُ، فَإِذَا مَا نَزَلَ بِهِ أَمْرٌ أَهَمَّهُ، أَوْ خَطْبٌ ادْلَهَمَّ عَلَيْهِ بِظُلُمَاتِهِ وَجْهُ الصَّوَابِ فِيهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَجِدُ مَفْزَعًا هَذَا الْمَمْلُوكُ إِلَّا أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَى مَالِكِهِ.

فَاللهم اكْشِفِ الضُّرَّ، وَارْحَمْ؛ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.

((الْوَلِيُّ وَالْمَوْلَى فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ))

لَقَدْ وَرَدَ الِاسْمَانِ فِي كِتَابِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، فَوَرَدَ اسْمُهُ -تَعَالَى- (الْوَلِيُّ) فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، مِنْهَا:

قَوْلُهُ تَعَالَى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 257].

((يُخْبِرُ -تَعَالَى- أَنَّهُ يَهْدِي مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ، فَيُخْرِجُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ وَالشَّكِّ وَالرَّيْبِ إِلَى نُورِ الْحَقِّ الْوَاضِحِ الْجَلِيِّ الْمُبِينِ السَّهْلِ الْمُنِيرِ)).

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَىٰ بِاللَّهِ نَصِيرًا} [النساء: 45].

(({وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ} أَيْ : هُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ، وَيُحَذِّرُكُمْ مِنْهُمْ {وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا} أَيْ : كَفَى بِهِ وَلِيًّا لِمَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ، وَنَصِيرًا لِمَنِ اسْتَنْصَرَهُ)).

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 55].

((لَيْسَ الْيَهُودُ بِأَوْلِيَائِكُمْ، بَلْ وِلَايَتُكُمْ رَاجِعَةٌ إِلَى اللَّهِ، وَرَسُولِهِ، وَالْمُؤْمِنِينَ)).

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى: 28].

((وَهُوَ الْمُتَصَرِّفُ لِخَلْقِهِ بِمَا يَنْفَعُهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ، وَهُوَ الْمَحْمُودُ الْعَاقِبَةِ فِي جَمِيعِ مَا يُقَدِّرُهُ وَيَفْعَلُهُ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ۖ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الشورى: 9].

((يَقُولُ -تَعَالَى- مُنْكِرًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي اتِّخَاذِهِمْ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَمُخْبِرًا أَنَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ الْحَقُّ الَّذِي لَا تَنْبَغِي الْعِبَادَةُ إِلَّا لَهُ وَحْدَهُ؛ فَإِنَّهُ الْقَادِرُ عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)).

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۗ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 107].

((يُرْشِدُ -تَعَالَى- بِهَذَا إِلَى أَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ فِي خَلْقِهِ بِمَا يَشَاءُ؛ فَلَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، وَهُوَ الْمُتَصَرِّفُ، فَكَمَا خَلَقَهُمْ كَمَا يَشَاءُ، وَيُسْعِدُ مَنْ يَشَاءُ، وَيُشْقِي مَنْ يَشَاءُ، وَيُصِحُّ مَنْ يَشَاءُ، وَيُمْرِضُ مَنْ يَشَاءُ، وَيُوَفِّقُ مَنْ يَشَاءُ، وَيَخْذُلُ مَنْ يَشَاءُ؛ كَذَلِكَ يَحْكُمُ فِي عِبَادِهِ بِمَا يَشَاءُ؛ فَيُحِلُّ مَا يَشَاءُ، وَيُحَرِّمُ مَا يَشَاءُ، وَيُبِيحُ مَا يَشَاءُ، وَيَحْظُرُ مَا يَشَاءُ، وَهُوَ الذِي يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ.

وَيَخْتَبِرُ عِبَادَهُ وَطَاعَتَهُمْ لِرُسُلِهِ بِالنَّسْخِ، فَيَأْمُرُ بِالشَّيْءِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ التِي يَعْلَمُهَا -تَعَالَى-، ثُمَّ يَنْهَى عَنْهُ لِمَا يَعْلَمُهُ -تَعَالَى-؛ فَالطَّاعَةُ كُلُّ الطَّاعَةِ فِي امْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَاتِّبَاعِ رُسُلِهِ فِي تَصْدِيقِ مَا أَخْبَرُوا، وَامْتِثَالِ مَا أَمَرُوا، وَتَرْكِ مَا عَنْهُ زَجَرُوا)).

وَأَمَّا اسْمُهُ -تَعَالَى- (الْمَوْلَى)؛ فَقَدْ وَرَدَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَرَّةً، مِنْهَا:

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 286].

(({وَاعْفُ عَنَّا} أَيْ: فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مِمَّا تَعْلَمُهُ مِنْ تَقْصِيرِنَا وَزَلَلِنَا، {وَاغْفِرْ لَنَا} أَيْ: فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ عِبَادِكَ، فَلَا تُظْهِرْهُمْ عَلَى مَسَاوِينَا وَأَعْمَالِنَا الْقَبِيحَةِ، {وَارْحَمْنَا} أَيْ: فِيمَا يُسْتَقْبَلُ، فَلَا تُوقِعْنَا بِتَوْفِيقِكَ فِي ذَنْبٍ آخَرَ؛ وَلِهَذَا قَالُوا: إِنَّ الْمُذْنِبَ مُحْتَاجٌ إِلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَأَنْ يَسْتُرَهُ عَنْ عِبَادِهِ فَلَا يَفْضَحَهُ بِهِ بَيْنَهُمْ، وَأَنْ يَعْصِمَهُ فَلَا يُوقِعَهُ فِي نَظِيرِهِ.

{أَنْتَ مَوْلَانَا} أَيْ: أَنْتَ وَلِيُّنَا وَنَاصِرُنَا، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَأَنْتَ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْكَ التُّكْلَانُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ لَنَا إِلَّا بِكَ {فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} أَيِ: الَّذِينَ جَحَدُوا دِينَكَ، وَأَنْكَرُوا وَحْدَانِيَّتَكَ وَرِسَالَةَ نَبِيِّكَ، وَعَبَدُوا غَيْرَكَ، وَأَشْرَكُوا مَعَكَ مِنْ عِبَادِكَ؛ فَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ، وَاجْعَلْ لَنَا الْعَاقِبَةَ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

قَالَ اللَّهُ: ((نَعَمْ)).

وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ((قَالَ اللَّهُ: قَدْ فَعَلْتُ)))).

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ ۖ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} [آل عمران: 150].

((أَمَرَ اللهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِطَاعَتِهِ وَمُوَالَاتِهِ، وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ)).

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ ۚ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام: 62].

((ثُمَّ أُعِيدَ هَؤُلَاءِ الْمُتَوَفَّوْنَ إِلَى اللهِ -تَعَالَى- مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ؛ أَلَا لَهُ الْقَضَاءُ وَالْفَصْلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ عِبَادِهِ {وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ})).

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ ۖ فَنِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 78].

(({وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ} أَيِ: امْتَنِعُوا بِهِ، وَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وَلَا تَتَّكِلُوا عَلَى حَوْلِكُمْ وَقُوَّتِكُمْ، {هُوَ مَوْلَاكُمْ} الَّذِي يَتَوَلَّى أُمُورَكُمْ، فَيُدَبِّرُكُمْ بِحُسْنِ تَدْبِيرِهِ، وَيُصَرِّفُكُمْ عَلَى أَحْسَنِ تَقْدِيرِهِ؛ {فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} أَيْ: نِعْمَ الْمَوْلَى لِمَنْ تَوَلَّاهُ، فَحَصَلَ لَهُ مَطْلُوبُهُ {وَنِعْمَ النَّصِيرُ} لِمَنِ اسْتَنْصَرَهُ فَدَفَعَ عَنْهُ الْمَكْرُوهَ)).

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ ۚ نِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ}.

فَوَرَدَ الِاسْمَانِ الشَّرِيفَانِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ فِي كِتَابِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

وَأَمَّا ذِكْرُ اسْمَيِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- (الْوَلِيِّ) وَ(الْمَوْلَى) فِي السُّنَّةِ؛ فَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((لَا أَقُولُ لَكُمْ إِلَّا كَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَقُولُ؛ كَانَ يَقُولُ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ، وَالْبُخْلِ، وَالْهَرَمِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ، اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)) أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ قَالَ يَوْمَ أُحُدٍ: ((اعْلُ هُبَل، اعْلُ هُبَل)).

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَلَا تُجِيبُوا لَهُ؟)).

قَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا نَقُولُ؟)).

قَالَ: قُولُوا: ((اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ)).

قَالَ: ((إِنَّ لَنَا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ)).

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَلَا تُجِيبُوا لَهُ؟)).

قَالَ: قَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا نَقُولُ؟)).

قَالَ: قُولُوا: ((اللَّهُ مَوْلَانَا، وَلَا مَوْلَى لَكُمْ)).

وَثَبَتَ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ عَمْرِو بْنِ العَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ جِهَارًا مِنْ غَيْرِ سِرٍّ: ((إنَّ آلَ فُلَانٍ لَيْسُوا لِي بِأَوْلِيَاءَ -يَعْنِي: طَائِفَةً مِنْ أَقَارِبِهِ-، إنَّمَا وَلِيِّيَ اللَّهُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ)).

وَهَذَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} الْآيَةَ.

وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((لَمَّا وَقَفَ الزُّبَيْرُ يَوْمَ الْجَمَلِ دَعَانِي، فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ فَقَالَ: يَا بُنَيِّ! إِنَّهُ لَا يُقْتَلُ الْيَوْمَ إِلَّا ظَالِمٌ أَوْ مَظْلُومٌ، وَإِنِّي لَا أُرَانِي إِلَّا سَأُقْتَلُ الْيَوْمَ مَظْلُومًا، وَإِنَّ مِنْ أَكْبَرِ هَمِّي لَدَيْنِي؛ أَفَتُرَى يُبْقِي دَيْنُنَا مِنْ مَالِنَا شَيْئًا؟

فَقَالَ: يا بُنَيِّ بِعْ مَالَنَا فَاقْضِ دَيْنِي.

يَا بُنَيِّ! إِنْ عَجَزْتَ عَنْهُ فِي شَيْءٍ فَاسْتَعِنْ عَلَيْهِ مَوْلَايَ)).

قَالَ: ((فَوَاللَّهِ! مَا دَرَيْتُ مَا أَرَادَ حَتَّى قُلْتُ: يَا أَبَةِ مَنْ مَوْلَاكَ؟)).

قَالَ: ((اللَّهُ)).

قَالَ: ((فَوَاللَّهِ! مَا وَقَعْتُ فِي كُرْبَةٍ مِنْ دَيْنِهِ إلَّا قُلْتُ: يَا مَوْلَى الزُّبَيْرِ! اقْضِ عَنْهُ دَيْنَهُ، فَيَقْضِيهِ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

((وَعَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: عَلَّمَنِي رَسُولُ اللهِ ﷺ كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ فِي الْوِتْرِ -فِي قُنُوتِ الْوِتْرِ-: ((اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ؛ إِنَّكَ تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ، وَإِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ)). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

((وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ)): مِنَ (الْوَلْيِ) -بِفَتْحِ الْوَاوِ وَسُكُونِ اللَّامِ مُخَفَّفَةً- بِمَعْنَى الْقُرْبِ، أَوْ هِيَ مِنَ (التَّوَلِّي) بِمَعْنَى الْوِلَايَةِ وَالنُّصْرَةِ.

عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ: اجْعَلْنِي قَرِيبًا مِنْكَ، كَمَا يُقَالُ: وَلِيَ فُلَانٌ فُلَانًا، وَقَالَ النَّبِيُّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: «لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى»  أَيْ: مِنَ الْوَلْيِ، وَهُوَ الْقُرْبُ.

وَعَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي: اعْتَنِ بِي؛ فَكُنْ لِي وَلِيًّا وَنَاصِرًا وَمُعِينًا لِي فِي أُمُورِي، فَيَشْمَلُ الْأَمْرَيْنِ؛ وَإِنْ كَانَ الْمُتَبَادِرُ إِلَى الذِّهْنِ أَنَّهُ مِنَ الْمُوَالَاةِ، وَهِيَ النُّصْرَةُ.

وَالْمُرَادُ بِالْوِلَايَةِ هُنَا: الْوِلَايَةُ الْخَاصَّةُ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ الْعَامَّةَ شَامِلَةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ؛ بَرٍّ وَفَاجِرٍ؛ فَكُلُّ أَحَدٍ فَاللهُ -تَعَالَى- مَوْلَاهُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام].

فَقَوْلُهُ: {رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} يَشْمَلُ كُلَّ مَنْ مَاتَ مِنْ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، وَبَرٍّ وَفَاجِرٍ، وَهَذِهِ هِيَ الْوِلَايَةُ الْعَامَّةُ؛ لِأَنَّ اللهَ يَتَوَلَّى شُؤُونَ جَمِيعِ الْخَلْقِ.

أَمَّا الْوِلَايَةُ الْخَاصَّةُ فَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: ٢٥٧].

وَفِي قَوْلِهِ: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62-63].

وَالسَّائِلُ الَّذِي قَالَ: «تَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ» يُرِيدُ الْوِلَايَةَ الْخَاصَّةَ)).

 ((نَوْعَا وِلَايَةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِعِبَادِهِ))

((وِلَايَةُ اللهِ -تَعَالَى- وَتَوَلِّيهِ لِعِبَادِهِ نَوْعَانِ:

النَّوْعُ الْأَوَّلُ: وِلَايَةٌ عَامَّةٌ: وَهِيَ تَصْرِيفُهُ -سُبْحَانَهُ- وَتَدْبِيرُهُ لِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ، وَتَقْدِيرُهُ عَلَى الْعِبَادِ مَا يُرِيدُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَنَفْعٍ وَضُرٍّ، وَإِثْبَاتُ مَعَانِي الْمُلْكِ كُلِّهِ للهِ -تَعَالَى-، وَأَنَّ الْعِبَادَ كُلَّهُمْ طَوْعُ تَدْبِيرِهِ، لَا خُرُوجَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ عَنْ نُفُوذِ مَشِيئَتِهِ وَشُمُولِ قُدْرَتِهِ، وَهَذَا أَمْرٌ يَشْمَلُ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ، وَالْبَرَّ وَالْفَاجِرَ، يَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ ۚ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام: 62]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [يونس: 30].

وَمَعْنَى كَوْنِهِ -سُبْحَانَهُ- مَوْلَى الْكَافِرِينَ أَيْ: أَنَّهُ مَالِكُهُمُ الْمُتَصَرِّفُ فِيهِمْ بِمَا شَاءَ، وَلَا يُعَارِضُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد: 11]؛ إِذِ الْوِلَايَةُ الْمَنْفِيَّةُ هُنَا هِيَ وِلَايَةُ الْمَحَبَّةِ، وَالتَّوْفِيقِ، وَالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ، وَهِيَ خَاصَّةٌ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَلَيْسَ لِلْكَافِرِينَ مِنْهَا نَصِيبٌ، بَلْ حَظُّهُمُ الْخُسْرَانُ، وَنَصِيبُهُمُ الْحِرْمَانُ، وَوَلِيُّهُمُ الشَّيْطَانُ، وَمَوْلَاهُمُ النَّارُ، وَبِئْسَ الْمَصِيرُ، قَالَ تَعَالَى: {فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل: 63].

وَقَالَ تَعَالَى: {فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحديد: 15].

النَّوْعُ الثَّانِي: الْوِلَايَةُ الْخَاصَّةُ وَالتَّوَلِّي الْخَاصُّ، وَهَذَا أَكْثَرُ مَا يَرِدُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَفِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، وَهِيَ وِلَايَةٌ عَظِيمَةٌ وَتَوَلٍّ كَرِيمٌ، اخْتَصَّ اللهُ بِهِ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ، وَحِزْبَهُ الْمُطِيعِينَ، وَأَوْلِيَاءَهُ الْمُتَّقِينَ.

وَهَذَا التَّوَلِّي الْخَاصُّ يَقْتَضِي عِنَايَتَهُ وَلُطْفَهُ بِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَوْفِيقَهُمْ بِالتَّرْبِيَةِ عَلَى الْإِيمَانِ، وَالْبُعْدِ عَنْ سُبُلِ الضَّلَالِ وَالْخُسْرَانِ، قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَـٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 257].

وَتَقْتَضِي غُفْرَانَ ذُنُوبِهِمْ وَرَحْمَتَهُمْ، قَالَ تَعَالَى: {أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} [الأعراف: 155].

وَتَقْتَضِي التَّأْيِيدَ وَالنَّصْرَ عَلَى الْأَعْدَاءِ، قَالَ تَعَالَى: {أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 286].

وَقَالَ تَعَالَى: {بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ ۖ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} [آل عمران: 150].

وَتَقْتَضِي كَذَلِكَ مَنَّهُ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِدُخُولِ الْجِنَانِ، وَالنَّجَاةِ مِنَ النِّيرَانِ، قَالَ تَعَالَى: {لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِندَ رَبِّهِمْ ۖ وَهُوَ وَلِيُّهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 127].

وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ -سُبْحَانَهُ- فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ الْأَسْبَابَ الَّتِي نَالَ بِهَا هَؤُلَاءِ وِلَايَةَ اللهِ لَهُمْ، وَتَوَلِّيَهُ إِيَّاهُمْ بِتَوْفِيقِهِ وَتَسْدِيدِهِ، وَعَوْنِهِ وَتَأْيِيدِهِ، قَالَ تَعَالَى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۚ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس: 62-64].

فَلَا تُنَالُ وِلَايَةُ اللهِ إِلَّا بِالْإِيمَانِ الصَّادِقِ، وَتَقْوَى اللهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَالِاجْتِهَادِ فِي التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِفَرَائِضِ الْإِسْلَامِ وَرَغَائِبِ الدِّينِ)).

 ((سُبُلُ نَيْلِ وِلَايَةِ اللهِ الْخَاصَّةِ))

((لَقَدْ جَعَلَ اللهُ لِنَيْلِ وِلَايَةِ اللهِ الْخَاصَّةِ أَسْبَابًا، وَلِأَهْلِهَا أَوْصَافًا:

-وَالَّتِي مِنْهَا: الْإِيمَانُ بِهِ -جَلَّ جَلَالُهُ-، وَبِمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَبِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: ٢٥٧].

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد: ١١].

-التَّقْوَى الَّتِي تُصَدِّقُ الْإِيمَانَ؛ وَذَلِكَ بِامْتِثَالِ الْأَوَامِرِ، وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي، قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: ١٩].

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: ٦٢-٦٣].

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ-: «فَكُلُّ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا تَقِيًّا كَانَ للهِ وَلِيًّا».

-مَحَبَّةُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَرَسُولِهِ ﷺ، وَمَحَبَّةُ مَا يُحِبُّ اللهُ وَرَسُولُهُ ﷺ، وَبُغْضُ مَا يُبْغِضُ اللهُ وَرَسُولُهُ ﷺ، قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} إِلَى أَنْ قَالَ: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (٥٥) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: ٥٤-٥٦].

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: «فَالْوِلَايَةُ أَصْلُهَا الْحُبُّ، فَلَا مُوَالَاةَ إِلَّا بِحُبٍّ، كَمَا أَنَّ الْعَدَاوَةَ أَصْلُهَا الْبُغْضُ، وَاللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا، وَهُمْ أَوْلِيَاؤُهُ، فَهُمْ يُوَالُونَهُ بِمَحَبَّتِهِمْ لَهُ، وَهُوَ يُوَالِيهِمْ بِمَحَبَّتِهِ لَهُمْ؛ فَاللهُ يُوَالِي عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ بِحَسَبِ مَحَبَّتِهِ لَهُ؛ وَلِهَذَا أَنْكَرَ -سُبْحَانَهُ- عَلَى مَنِ اتَّخَذَ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ، بِخِلَافِ مَنْ وَالَى أَوْلِيَاءَهُ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَّخِذْهُمْ مِنْ دُونِهِ، بَلْ مُوَالَاتُهُ لَهُمْ مِنْ تَمَامِ مُوَالَاتِهِ».

-«اتِّبَاعُ رَسُولِهِ ﷺ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ؛ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، فِي أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ، فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ».

قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: ٣١].

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: «هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ حَاكِمَةٌ عَلَى كُلِّ مَنِ ادَّعَى مَحَبَّةَ اللهِ، وَلَيْسَ هُوَ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ؛ فَإِنَّهُ كَاذِبٌ فِي دَعْوَاهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ حَتَّى يَتَّبِعَ الشَّرْعَ الْمُحَمَّدِيَّ وَالدِّينَ النَّبَوِيَّ فِي جَمِيعِ أَقْوَالِهِ وَأَحْوَالِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} أَيْ: يَحْصُلُ لَكُمْ فَوْقَ مَا طَلَبْتُمْ مِنْ مَحَبَّتِكُمْ إِيَّاهُ؛ وَهُوَ مَحَبَّتُهُ إِيَّاكُمْ، وَهُوَ أَعْظَمُ مِنَ الْأَوَّلِ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ السَّلَفِ: زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ اللهَ، فَابْتَلَاهُمُ اللهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ».

وَبِحَسَبِ الْمُتَابَعَةِ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ تَكُونُ الْوِلَايَةُ، قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: «وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ بِحَسَبِ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ تَكُونُ الْعِزَّةُ وَالْكِفَايَةُ وَالنُّصْرَةُ، كَمَا أَنَّ بِحَسَبِ مُتَابَعَتِهِ تَكُونُ الْهِدَايَةُ وَالْفَلَاحُ وَالنَّجَاةُ؛ فَاللهُ -سُبْحَانَهُ- عَلَّقَ سَعَادَةَ الدَّارَيْنِ بِمُتَابَعَتِهِ، وَجَعَلَ شَقَاوَةَ الدَّارَيْنِ فِي مُخَالَفَتِهِ، فَلِأَتْبَاعِهِ الْهُدَى، وَالْأَمْنُ، وَالْفَلَاحُ، وَالْعِزَّةُ، وَالْكِفَايَةُ، وَالنُّصْرَةُ، وَالْوِلَايَةُ، وَالتَّأْيِيدُ، وَطِيبُ الْعَيْشِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلِمُخَالِفِيهِ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ، وَالْخَوْفُ وَالضَّلَالُ، وَالْخِذْلَانُ وَالشَّقَاءُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ».

-الصَّلَاحُ، وَالْقِيَامُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مِنَ الْفَرَائِضِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف: ١٩٦].

قَالَ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «الَّذِينَ صَلُحَتْ نِيَّاتُهُمْ، وَأَعْمَالُهُمْ، وَأَقْوَالُهُمْ».

 وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة: ٥٥].

وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ  عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ».

-الْقِيَامُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مِنَ النَّوَافِلِ، قَالَ تَعَالَى: {لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: ١٢٧].

وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ».

-التَّقَرُّبُ بِعِبَادَاتِ السِّرِّ؛ فَعَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ قَالَ: كَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فِي إِبِلِهِ، فَجَاءَهُ ابْنُهُ عُمَرُ، فَلَمَّا رَآهُ سَعْدٌ قَالَ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شَرِّ هَذَا الرَّاكِبِ، فَنَزَلَ فَقَالَ لَهُ: أَنَزَلْتَ فِي إِبِلِكَ وَغَنَمِكَ، وَتَرَكْتَ النَّاسَ يَتَنَازَعُونَ الْمُلْكَ بَيْنَهُمْ؟! فَضَرَبَ سَعْدٌ فِي صَدْرِهِ فَقَالَ: اسْكُتْ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ)).

-تَعَلُّمُ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ وَتَعْلِيمُهُ؛ فَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ- أَنَّهُ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} الْآيَةَ [فصلت: ٣٣] فَقَالَ: «هَذَا وَلِيُّ اللهِ، هَذَا صَفْوَةُ اللهِ، هَذَا خِيرَةُ اللهِ، هَذَا أَحَبُّ أَهْلِ الْأَرْضِ إِلَى اللهِ، أَجَابَ اللهَ فِي دَعْوَتِهِ، وَدَعَا النَّاسَ إِلَى مَا أَجَابَ اللهَ فِيهِ مِنْ دَعْوَتِهِ، وَعَمِلَ صَالِحًا فِي إِجَابَتِهِ، وَقَالَ: إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ، هَذَا خَلِيفَةُ اللهِ».

وَيُرْوَى عَنِ الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ -يَعْنِي: أَهْلَ الْعِلْمِ- أَوْلِيَاءَ اللهِ فَلَيْسَ للهِ وَلِيٌّ».

فَبِهَذَا تُنَالُ وِلَايَةُ اللهِ، لَا بِمُجَرَّدِ الدَّعَاوَى وَالْأَمَانِيِّ؛ فَهَؤُلَاءِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ادَّعَوْا أَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، فَرَدَّ اللهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ -سُبْحَانَهُ-: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة: ١٨].

وَادَّعَاهَا مُشْرِكُو الْعَرَبِ؛ لِسُكْنِهِمْ مَكَّةَ، فَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأنفال: ٣٤].

فَلَيْسَ كُلُّ مَنِ ادَّعَى الْوِلَايَةَ وَتَظَاهَرَ بِهَا يُعَدُّ وَلِيًّا للهِ؛ بَلْ قَدْ يُعَدُّ وَلِيًّا لِلشَّيْطَانِ، كَمَا هُوَ الْحَالُ فِي أَهْلِ الزَّيْغِ وَالضَّلَالِ الَّذِينَ تَرَكُوا الْفَرَائِضَ، وَقَارَفُوا الْمُحَرَّمَاتِ، وَزَعَمُوا أَنَّ التَّكَالِيفَ سَقَطَتْ عَنْهُمْ؛ لِوَلَايَتِهِمْ، فَهَؤُلَاءِ فِي الْحَقِيقَةِ أَوْلِيَاءُ لِلشَّيْطَانِ، وَلَيْسُوا مِنْ أَهْلِ وِلَايَةِ اللهِ فِي شَيْءٍ، قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: ٢٥٧])).

 ((هَلْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: اللهُ وَلِيُّ الْكَافِرِينَ؟!!))

اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ بِإِنْعَامِهِ عَلَيْهِمْ، وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ، وَتَوَلِّيهِ سَائِرَ مَصَالِحِهِمْ؛ فَهُوَ وَلِيُّ نِعْمَتِهِمْ.

هَلْ يَصِحُّ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْكُفَّارِ -يَعْنِي: هَلْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: وَلِيُّ الْكَافِرِينَ-؟

إِذَا قَالَ قَائِلٌ: إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَدْ أَنْعَمَ عَلَى الْكَافِرِينَ كَمَا أَنْعَمَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، إِذَا كَانَ مُقْتَضَى الْإِطْلَاقِ إِنَّمَا هُوَ دَائِرٌ عَلَى الْإِنْعَامِ؛ فَقَدْ أَنْعَمَ عَلَى الْكَافِرِينَ كَمَا أَنْعَمَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ؛ فَهَلْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: هُوَ وَلِيُّ الْكَافِرِينَ كَمَا يُقَالُ: وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ؟

-لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: إِنَّهُ لَا مَعْنَى لِلْوَلِيِّ إِلَّا الْإِنْعَامُ؛ فَإِنَّ هَذَا أَحَدُ وُجُوهِ الْوَلِيِّ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- لَمَّا أَنْعَمَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، فَقَابَلُوا إِنْعَامَهُ بِالشُّكْرِ وَالْإِقْرَارِ، وَالطَّاعَةِ وَالتَّوْحِيدِ؛ جَازَ أَنْ يُقَالَ: اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا بِإِنْعَامِهِ عَلَيْهِمْ، وَقَبُولِهِمْ، وَشُكْرِهِمْ لِرَبِّهِمْ عَلَى ذَلِكَ.

وَإِنْ كَانَ قَدْ أَنْعَمَ عَلَى الْكُفَّارِ فَلَا يُقَالُ: هُوَ وَلِيُّهُمْ؛ لِجُحُودِهِمْ.

هُمْ يَجْحَدُونَ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْهِمْ، وَيَتْرُكُونَ الْإِقْرَارَ بِذَلِكَ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا- لِنَبِيِّهِ ﷺ: {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا} [النازعات: 45]، وَقَدْ أَنْذَرَ مَنْ لَمْ يَخْشَهَا -أَيْضًا-، فَإِذَنْ؛ لَمْ يَتَوَقَّفِ الْإِنْذَارُ عِنْدَ حُدُودِ مَنْ يَخْشَى، وَإِنَّمَا أَنْذَرَ النَّبِيُّ ﷺ مَنْ يَخْشَى وَمَنْ لَمْ يَخْشَ، وَإِنَّمَا أَتَى هَاهُنَا بِذِكْرِ مَنْ يَخْشَاهَا؛ لِأَنَّهُ اسْتَفَادَ مِنَ الْإِنْذَارِ.

فَكَذَلِكَ مَنْ أَنْعَمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِ، فَشَكَرَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَلَمْ يَجْحَدْ نِعْمَةَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِ؛ فَاللهُ وَلِيُّهُ، وَلَا يُقَالُ: إِنَّهُ أَنْعَمَ عَلَى الْكُفَّارِ فَهُوَ وَلِيُّ الْكَافِرِينَ؛ لِأَنَّهُمْ قَابَلُوا الْإِنْعَامَ عَلَيْهِمْ بِالْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ.

-وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمَّا كَانَ (الْوَلِيُّ) قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى النَّاصِرِ وَالْمُوَالِي وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ: اللهُ وَلِيُّ الْكَافِرِينَ، فَيَسْبِقُ إِلَى ظَنِّ السَّامِعِ أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ أَهْلُ تِلْكَ الْأَوْجُهِ؛ إِذْ كَانَتْ أَشْهَرَ وَأَعْرَفَ، وَأَكْثَرَ اسْتِعْمَالًا.

-وَمَنَعَ مِنْ إِطْلَاقِ ذَلِكَ لِلْكُفَّارِ التَّنْزِيلُ؛ لِأَنَّهُ قَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة: 257].

-وَفَصْلُ الْخِطَابِ فِي الْمَسْأَلَةِ: هُوَ مُلَاحَظَةُ الْفَرْقِ بَيْنَ النِّعْمَةِ الْمُطْلَقَةِ وَمُطْلَقِ النِّعْمَةِ؛ تَمَامًا كَالْمَسْأَلَةِ الْمَشْهُورَةِ عِنْدَ الْبَاحِثِينَ فِي مَسَائِلِ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ؛ مِنَ الْإِيمَانِ الْمُطْلَقِ، وَمُطْلَقِ الْإِيمَانِ.

فَإِذَا مَا نَظَرْنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْعَمَ عَلَى الْكَافِرِينَ كَمَا أَنْعَمَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ؛ فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: وَلِيُّ الكَافِرِينَ كَمَا يُقَالُ: وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ؟

((فَصْلُ الْخِطَابِ فِي الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ النِّعْمَةَ الْمُطْلَقَةَ مُخْتَصَّةٌ بِأَهْلِ الْإِيمَانِ، لَا يَشْرَكُهُمْ فِيهَا سِوَاهُمْ، وَمُطْلَقَ النِّعْمَةِ عَامٌّ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهِمْ؛ بَرِّهِمْ وَفَاجِرِهِمْ، مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ؛ فَالنِّعْمَةُ الْمُطْلَقَةُ التَّامَّةُ هِيَ الْمُتَّصِلَةُ بِسَعَادَةِ الْأَبَدِ وَبِالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، فَهَذِهِ غَيْرُ مُشْتَرَكَةٍ، وَمُطْلَقُ النِّعْمَةِ عَامٌّ مُشْتَرَكٌ.

فَإِذَا أَرَادَ النَّافِي سَلْبَ النِّعْمَةِ الْمُطْلَقَةِ أَصَابَ، وَإِنْ أَرَادَ سَلْبَ مُطْلَقِ النِّعْمَةِ أَخْطَأَ، وَإِنْ أَرَادَ الْمُثْبِتُ إِثْبَاتَ النِّعْمَةِ الْمُطْلَقَةِ لِلْكَافِرِ أَخْطَأَ، وَإِنْ أَرَادَ إِثْبَاتَ مُطْلَقِ النِّعْمَةِ أَصَابَ؛ وَبِهَذَا تَتَّفِقُ الْأَدِلَّةُ، وَيَزُولُ النِّزَاعُ، وَيَتَبَيَّنُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ مَعَهُ خَطَأٌ وَصَوَابٌ، وَاللهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ)).

وَلَا يُنَافِي مَا سَبَقَ أَنْ تَقُولَ: إِنَّ اللهَ -جَلَّ شَأْنُهُ- مَوْلَى الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، بِمَعْنَى: أَنَّهُ سَيِّدُهُمْ، وَمَالِكُهُمْ، وَخَالِقُهُمْ، وَمَعْبُودُهُمْ، كَمَا قَالَ -تَعَالَى- فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: {ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام: 62].

((فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ}: هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللهَ مَوْلَى الْكَافِرِينَ -بِمَعْنَى: أَنَّهُ سَيِّدُهُمْ وَمَالِكُهُمْ وَخَالِقُهُمْ-، وَنَظِيرُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} [يونس: 30].

وَقَدْ جَاءَ فِي آيَةٍ أُخْرَى مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ؛ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد: 11] عَلَى حَسَبِ السِّيَاقِ؛ فَالْمَوْلَى هَاهُنَا: الْمُعِينُ وَالنَّاصِرُ وَالنَّصِيرُ، هُنَالِكَ: السَّيِّدُ وَالْمَالِكُ وَالْمَعْبُودُ بِالْحَقِّ -سُبْحَانَهُ-.

فَمَعْنَى كَوْنِهِ مَوْلَى الْكَافِرِينَ: أَنَّهُ مَالِكُهُمُ الْمُتَصَرِّفُ فِيهِمْ بِمَا شَاءَ، وَمَعْنَى كَوْنِهِ مَوْلَى الْمَؤْمِنِينَ دُونَ الْكَافِرِينَ: هِيَ وَلَايَةُ الْمَحَبَّةِ وَالتَّوْفِيقِ وَالنَّصْرِ، وَالْعِلْمُ مِنْ عِنْدِ اللهِ -تَعَالَى-)).

-وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يُحِبُّ أَوْلِيَاءَهُ؛ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَالصِّدِّيقِينَ، وَالشُّهَدَاءِ، وَالصَّالِحِينَ: {لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 127] يَعْنِي: هُوَ وَلِيُّهُمْ بِسَبَبِ أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ الَّتِي قَدَّمُوهَا، وَتَقَرَّبُوا بِهَا إِلَى رَبِّهِمْ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ يَصِحُّ إِطْلَاقُ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ عَلَى الْعِبَادِ، وَنَطَقَ بِذَلِكَ التَّنْزِيلُ: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} [التوبة: 71]. وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} [النساء: 33].

((الْفَرْقُ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ))

أَوْلِيَاءُ اللهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هُمْ: مُحِبُّوهُ، وَنَاصِرُو دِينِهِ.

وَكُلُّ مُؤْمِنٍ تَقِيٍّ هُوَ للهِ وَلِيٌّ.. كُلُّ مُؤْمِنٍ تَقِيٍّ هُوَ للهِ وَلِيٌّ.

{أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۚ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس: 62-64].

مِنْ صِفَةِ الْوَلِيِّ مِنْ عِبَادِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: أَنَّهُ يُحِبُّ اللهَ -سُبْحَانَهُ-، وَيُحِبُّ رَسُولَهُ ﷺ، وَيُحِبُّ مَنْ يُحِبُّ اللهَ، وَيُحِبُّ مَنْ يُحِبُّ رَسُولَ اللهِ، وَيُبْغِضُ مَنْ يُبْغِضُ اللهَ، وَيُبْغِضُ مَنْ يُبْغِضُ رَسُولَ اللهِ، وَيُوَالِي مَنْ يُوَالِي اللهَ، وَيُوَالِي مَنْ يُوَالِي رَسُولَ اللهِ، وَيُعَادِي مَنْ يُعَادِي اللهَ، وَيُعَادِي مَنْ يُعَادِي رَسُولَ اللهِ، وَيَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللهِ، وَيَنْتَهِي عَنْ مَعْصِيَتِهِ.

وَتُنَالُ الْوَلَايَةُ بِالْإِيمَانِ الصَّادِقِ، وَالْعِلْمِ الرَّاسِخِ، وَالْعَمَلِ الْمُتَوَاصِلِ الثَّابِتِ، وَالِاهْتِدَاءِ بِهَدْيِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَعَمَلِ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَلَيْسَ بِمَا تَرَسَّبَ فِي الْأَذْهَانِ عَلَى مَدَارِ التَّارِيخِ مِنْ أَنَّ الْكَرَامَاتِ هِيَ شَرْطٌ لَازِمٌ لِكَيْ يَكُونَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ وَلِيًّا للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْكَرَامَاتِ إِنَّمَا يُجْرِيهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى يَدَيْ مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ؛ وَلَكِنْ هِيَ نُصْرَةٌ لِدِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَإِثْبَاتٌ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ الصَّالِحَ مِنْ أَتْبَاعِ سَيِّدِ الْخَلْقِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَلَا يَكُونُ حَائِزًا لِذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ إِلَّا إِذَا كَانَ تَامَّ الْمُتَابَعَةِ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ، كَمَا قَالَ شَيْخُ الطَّائِفَةِ الْجُنَيْدُ: ((مَنْ جَاءَكُمْ وَهُوَ يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ، أَوْ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ، وَلَا يَقُولُ بِكَلَامِ اللهِ وَكَلامِ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ فَاعْلَمُوا أَنَّهُ شَيْطَانٌ)).

 وَكَثِيرٌ مِنَ الْخَلْقِ يَعْبُدُونَ الرَّبَّ الْخَالِقَ الْخَلَّاقَ الْعَظِيمَ؛ لِكَيْ يُجْرِيَ عَلَى أَيْدِيهِمْ كَرَامَاتٍ، فَهَؤُلَاءِ عُبَّادُ الْكَرَامَاتِ، وَمَا أَكْثَرَ مَا يَسْتَجْرِي الشَّيْطَانُ أَحَدَهُمْ بِأَمْثَالِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ؛ لِكَيْ يُثْبِتَ أُمُورًا لَا تَثْبُتُ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَنْزَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ ﷺ بِأَحَدٍ وَثَمَانِينَ يَوْمًا: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]؛ فَمَا لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ دِينًا فَلَنْ يَكُونَ يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ دِينًا، وَيَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَهُمْ فِي مَنَامِهِ يَعْبَثُ بِهِ، وَيَلْعَبُ بِهِ كَمَا يَلْعَبُ الصِّبْيَانُ بِالْكُرَةِ، وَيَأْمُرُهُ بِإِسْقَاطِ أُمُورٍ مِمَّا فَرَضَهَا اللهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ ﷺ؛ فَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ؟!!

إِذَا كَانَ ذَلِكَ لَا يُقَالُ فِي حَالِ الْيَقَظَةِ؛ فَكَيْفَ يُسْتَقَى مِنْ حَالِ مَنَامٍ رُبَّمَا كَانَ كَثِيرَ التَّقَلُّبِ فِي فِرَاشِهِ، فَأَزَاحَ غِطَاءَهُ فَكَانَ شَيْءٌ؟!!

وَلَايَةُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَسْبِيَّةٌ، لَا وَهْبِيَّةٌ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا وَهْبِيَّةٌ بِلَا سَبَبٍ وَلَا عَمَلٍ، كَمَا يَتَفَوَّهُ بِهِ جُهَّالُ الْمُتَصَوِّفَةِ وَزَنَادِقَتُهُمْ، فَنَسَبُوا الْوَلَايَةَ لِلْمَجَانِينِ، وَالْفَسَقَةِ، وَالظَّلَمَةِ، وَالزَّنَادِقَةِ مِنْ أَهْلِ وَحْدَةِ الْوُجُودِ وَالِاتِّحَادِ بِمُجَرَّدِ حُصُولِ بَعْضِ الْخَوَارِقِ مِنَ الشَّعْوَذَاتِ الشَّيْطَانِيَّةِ، وَالْأَعْمَالِ السِّحْرِيَّةِ عَلَى أَيْدِي هَؤُلَاءِ؛ كَالدُّخُولِ فِي النِّيرَانِ، وَحَمْلِ الْأَفْاعِي، وَالضَّرْبِ بِالشِّيشِ لِيَخْرُجَ مِنَ الشِّقِّ الْآخَرِ، وَبِالسُّيُوفِ وَالْخَنَاجِرِ لِكَيْ تَدْخُلَ مِنْ قُبُلِهِ لِتَخْرُجَ مِنْ دُبُرِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَفْعَالِ السَّحَرَةِ الْفَجَرَةِ.

كَسْبِيَّةٌ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْعِلْمِ النَّافِعِ ، كَمَا قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}.

((إِذَا عُرِفَ أَنَّ النَّاسَ فِيهِمْ أَوْلِيَاءُ الرَّحْمَنِ، وَأَوْلِيَاءُ الشَّيْطَانِ؛ فَيَجِبُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ كَمَا فَرَّقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بَيْنَهُمَا؛ فَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62-63].

وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((يَقُولُ اللَّهُ -تَعَالَى-: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ -أَوْ: فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ-، وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا؛ فَبِي يَسْمَعُ، وَبِي يُبْصِرُ، وَبِي يَبْطِشُ، وَبِي يَمْشِي، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَ بِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ، وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ)).

وَهَذَا أَصَحُّ حَدِيثٍ يُرْوَى فِي الْأَوْلِيَاءِ؛ فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّهُ مَنْ عَادَى وَلِيًّا لِلَّهِ فَقَدْ بَارَزَ اللَّهَ بِالْمُحَارَبَةِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ هُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ، وَوَالَوْهُ؛ فَأَحَبُّوا مَا يُحِبُّ، وَأَبْغَضُوا مَا يُبْغِضُ، وَرَضُوا بِمَا يَرْضَى، وَسَخِطُوا بِمَا يَسْخَطُ، وَأَمَرُوا بِمَا يَأْمُرُ، وَنَهَوْا عَمَّا نَهَى، وَأَعْطَوْا لِمَنْ يُحِبُّ أَنْ يُعْطَى، وَمَنَعُوا مَنْ يُحِبُّ أَنْ يُمْنَعَ، كَمَا عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ قَالَ ﷺ: ((مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ، وَأَبْغَضَ لِلَّهِ، وَأَعْطَى لِلَّهِ، وَمَنَعَ لِلَّهِ؛ فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ)).

وَ(الْوَلَايَةُ) ضِدُّ الْعَدَاوَةِ، وَأَصْلُ الْوَلَايَةِ: الْمَحَبَّةُ وَالْقُرْبُ، وَأَصْلُ الْعَدَاوَةِ: الْبُغْضُ وَالْبُعْدُ.

إِذَا كَانَ وَلِيُّ اللَّهِ هُوَ الْمُوَافِقَ الْمُتَابِعَ لَهُ فِيمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَيُبْغِضُهُ وَيُسْخِطُهُ وَيَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ؛ كَانَ الْمُعَادِي لِوَلِيِّهِ مُعَادِيًا لَهُ، كَمَا قَالَ -تَعَالَى-: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة: 1].

فَمَنْ عَادَى أَوْلِيَاءَ اللَّهِ فَقَدْ عَادَاهُ، وَمَنْ عَادَاهُ فَقَدْ حَارَبَهُ؛ فَلِهَذَا قَالَ: ((مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ)).

وَأَفْضَلُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ هُمْ أَنْبِيَاؤُهُ، وَأَفْضَلُ أَنْبِيَائِهِ هُمُ الْمُرْسَلُونَ مِنْهُمْ، وَأَفْضَلُ الْمُرْسَلِينَ أُولُو الْعَزْمِ: نُوحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى، وَعِيسَى، وَمُحَمَّدٌ ﷺ، قَالَ تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13].

وَأَفْضَلُ أُولِي الْعَزْمِ مُحَمَّدٌ ﷺ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَإِمَامُ الْمُتَّقِينَ، وَسَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ، وَإِمَامُ الْأَنْبِيَاءِ إذَا اجْتَمَعُوا، وَخَطِيبُهُمْ إذَا وَفَدُوا، صَاحِبُ الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ الَّذِي يَغْبِطُهُ بِهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ، وَصَاحِبُ لِوَاءِ الْحَمْدِ، وَصَاحِبُ الْحَوْضِ الْمَوْرُودِ، وَشَفِيعُ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَصَاحِبُ الْوَسِيلَةِ وَالْفَضِيلَةِ، الَّذِي بَعَثَهُ بِأَفْضَلِ كُتُبِهِ، وَشَرَعَ لَهُ أَفْضَلَ شَرَائِعِ دِينِهِ، وَجَعَلَ أُمَّتَهُ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، وَجَمَعَ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ مِنَ الْفَضَائِلِ وَالْمَحَاسِنِ مَا فَرَّقَهُ فِيمَنْ قَبْلَهُمْ، وَهُمْ آخِرُ الْأُمَمِ خَلْقًا، وَأَوَّلُ الْأُمَمِ بَعْثًا، كَمَا قَالَ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: ((نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا، وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ؛ فَهَذَا يَوْمُهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ -يَعْنِي: يَوْمَ الْجُمُعَةِ-، فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ، النَّاسُ لَنَا تَبَعٌ فِيهِ، غَدًا لِلْيَهُودِ، وَبَعْدَ غَدٍ لِلنَّصَارَى)).

وَقَالَ ﷺ: ((أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ)).

وَقَالَ ﷺ: ((آتِي بَابَ الْجَنَّةِ فَأَسْتَفْتِحُ، فَيَقُولُ الْخَازِنُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَأَقُولُ: أَنَا مُحَمَّدٌ، فَيَقُولُ: بِكَ أُمِرْتُ أَلَّا أَفْتَحَ لِأَحَدٍ قَبْلَكَ)).

وَفَضَائِلُهُ ﷺ وَفَضَائِلُ أُمَّتِهِ كَثِيرَةٌ.

وَمِنْ حِينِ بَعَثَهُ اللَّهُ جَعَلَهُ اللَّهُ الْفَارِقَ بَيْنَ أَوْلِيَائِهِ وَبَيْنَ أَعْدَائِهِ، فَلَا يَكُونُ وَلِيًّا لِلَّهِ إلَّا مَنْ آمَنَ بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ، وَاتَّبَعَهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَمَنِ ادَّعَى مَحَبَّةَ اللَّهِ وَوَلَايَتَهُ وَهُوَ لَمْ يَتَّبِعْهُ فَلَيْسَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ؛ بَلْ مَنْ خَالَفَهُ كَانَ مِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ، قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31].

قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((ادَّعَى قَوْمٌ أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ اللَّهَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ مِحْنَةً لَهُمْ)).

وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ فِيهَا أَنَّ مَنِ اتَّبَعَ الرَّسُولَ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ، وَمَنِ ادَّعَى مَحَبَّةَ اللَّهِ، وَلَمْ يَتَّبِعِ الرَّسُولَ ﷺ؛ فَلَيْسَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَظُنُّونَ فِي أَنْفُسِهِمْ أَوْ فِي غَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، وَلَا يَكُونُونَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ؛ فَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ۚ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ۖ بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ ۚ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ۚ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [المائدة: 18] الْآيَةَ.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ ۗ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ۗ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 111-112].

وَكَانَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ أَهْلُ اللَّهِ؛ لِسُكْنَاهُمْ مَكَّةَ، وَمُجَاوَرَتِهِمُ الْبَيْتَ، وَكَانُوا يَسْتَكْبِرُونَ بِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ} [المؤمنون: 66-67].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ} إلَى قَوْلِهِ { وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ ۚ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} [الأنفال: 30-34].

فَبَيَّنَ -سُبْحَانَهُ- أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَيْسُوا أَوْلِيَاءَهُ، وَلَا أَوْلِيَاءَ بَيْتِهِ، إنَّمَا أَوْلِيَاؤُهُ الْمُتَّقُونَ.

وَثَبَتَ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ عَمْرِو بْنِ العَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ جِهَارًا مِنْ غَيْرِ سِرٍّ: ((إنَّ آلَ فُلَانٍ لَيْسُوا لِي بِأَوْلِيَاءَ -يَعْنِي: طَائِفَةً مِنْ أَقَارِبِهِ-، إنَّمَا وَلِيِّيَ اللَّهُ، وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ)).

وَهَذَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} [التحريم: 4] الْآيَةَ.

{وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ}: هُوَ كُلُّ مَنْ كَانَ صَالِحًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ، وَدَخَلَ فِي ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَسَائِرُ أَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ الَّذِينَ بَايَعُوا تَحْتَ الشَّجَرَةِ، وَكَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَ مِائَةٍ، وَكُلُّهُمْ فِي الْجَنَّةِ، كَمَا ثَبَتَ فِي ((الصَّحِيحِ)) عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ)).

وَمِثْلُ هَذَا الْحَدِيثُ الْآخَرُ: ((إنَّ أَوْلِيَائِي الْمُتَّقُونَ أَيًّا كَانُوا وَحَيْثُ كَانُوا)).

أَوْلِيَاءُ اللَّهِ هُمُ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ -تَعَالَى- بِوَلَايَتِهِ بِقَوْلِهِ: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62-63].

وَلَا بُدَّ فِي الْإِيمَانِ مِنْ أَنْ يُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَيُؤْمِنَ بِكُلِّ رَسُولٍ أَرْسَلَهُ اللَّهُ، وَكُلِّ كِتَابٍ أَنْزَلَهُ اللَّهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا ۖ وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ ۖ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ ۚ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 136-137].

وَقَالَ تَعَالَى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} [البقرة: 285] إلَى آخِرِ السُّورَةِ.  

وَقَالَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ: {الم (1) ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 1-5].

فَلَا بُدَّ فِي الْإِيمَانِ مِنْ أَنْ تُؤْمِنَ أَنَّ مُحَمَّدًا ﷺ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، وَأَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ إلَى جَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ: الْجِنِّ وَالْإِنْسِ؛ فَكُلُّ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِمَا جَاءَ بِهِ فَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ، وَمَنْ آمَنَ بِبَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ، وَكَفَرَ بِبَعْضٍ؛ فَهُوَ كَافِرٌ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا ۚ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُولَٰئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [النساء: 150-152].

وَمِنَ الْإِيمَانِ بِهِ: الْإِيمَانُ بِأَنَّهُ الْوَاسِطَةُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ فِي تَبْلِيغِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، وَحَلَالِهِ وَحَرَامِهِ؛ فَالْحَلَالُ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَالدِّينُ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ﷺ، فَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ طَرِيقًا إلَى اللَّهِ مِنْ غَيْرِ مُتَابَعَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ؛ فَهُوَ كَافِرٌ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ.

وَأَمَّا خَلْقُ اللَّهِ تَعَالَى لِلْخَلْقِ، وَرِزْقُهُ إيَّاهُمْ، وَإِجَابَتُهُ لِدُعَائِهِمْ، وَهِدَايَتُهُ لِقُلُوبِهِمْ، وَنَصْرُهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ؛ فَهَذَا لِلَّهِ وَحْدَهُ، يَفْعَلُهُ بِمَا يَشَاءُ مِنَ الْأَسْبَابِ، لَا يَدْخُلُ فِي مِثْلِ هَذَا وَاسِطَةُ الرُّسُلِ.

ثُمَّ لَوْ بَلَغَ الرَّجُلُ فِي الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ وَالْعِلْمِ مَا بَلَغَ، وَلَمْ يُؤْمِنْ بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ؛ فَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ وَلَا وَلِيٍّ لِلَّهِ -تَعَالَى-؛ كَالْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ مِنْ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَعُبَّادِهِمْ، وَكَذَلِكَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ؛ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالتُّرْكِ وَالْهِنْدِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ كَانَ مِنْ حُكَمَاءِ الْهِنْدِ وَالتُّرْكِ، وَلَهُ عِلْمٌ أَوْ زُهْدٌ وَعِبَادَةٌ فِي دِينِهِ، وَلَيْسَ مُؤْمِنًا بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ؛ فَهُوَ كَافِرٌ عَدُوٌّ لِلَّهِ وَإِنْ ظَنَّ طَائِفَةٌ أَنَّهُ وَلِيٌّ لِلَّهِ.

وَفِي أَصْنَافِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَمُشْرِكِي الْهِنْدِ وَالتُّرْكِ وَالْيُونَانِ وَغَيْرِهِمْ مَنْ لَهُ اجْتِهَادٌ فِي الْعِلْمِ وَالزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ؛ وَلَكِنْ لَيْسَ بِمُتَّبِعٍ لِلرُّسُلِ، وَلَا يُؤْمِنُ بِمَا جَاءُوا بِهِ، وَلَا يُصَدِّقُهُمْ بِمَا أَخْبَرُوا بِهِ، وَلَا يُطِيعُهُمْ فِيمَا أَمَرُوا؛ فَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ وَلَا أَوْلِيَاءٍ لِلَّهِ، وَهَؤُلَاءِ تَقْتَرِنُ بِهِمُ الشَّيَاطِينُ، وَتَنْزِلُ عَلَيْهِمْ، فَيُكَاشِفُونَ النَّاسَ بِبَعْضِ الْأُمُورِ، وَلَهُمْ تَصَرُّفَاتٌ خَارِقَةٌ مِنْ جِنْسِ السِّحْرِ، وَهُمْ مِنْ جِنْسِ الْكُهَّانِ وَالسَّحَرَةِ الَّذِينَ تَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الشَّيَاطِينُ، قَالَ تَعَالَى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَىٰ مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَىٰ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} [الشعراء: 221-223].

وَهَؤُلَاءِ جَمِيعُهُمُ الَّذِينَ يَنْتَسِبُونَ إلَى الْمُكَاشَفَاتِ وَخَوَارِقِ الْعَادَاتِ إذَا لَمْ يَكُونُوا مُتَّبِعِينَ لِلرُّسُلِ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكْذِبُوا وَتُكَذِّبَهُمْ شَيَاطِينُهُمْ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي أَعْمَالِهِمْ مَا هُوَ إثْمٌ وَفُجُورٌ؛ مِثْلُ نَوْعٍ مِنَ الشِّرْكِ، أَوِ الظُّلْمِ، أَوِ الْفَوَاحِشِ، أَوِ الْغُلُوِّ، أَوِ الْبِدَعِ فِي الْعِبَادَةِ؛ وَلِهَذَا تَنَزَّلَتْ عَلَيْهِمُ الشَّيَاطِينُ، وَاقْتَرَنَتْ بِهِمْ، فَصَارُوا مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ، لَا مِنْ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36].

وَذِكْرُ الرَّحْمَنِ هُوَ الذِّكْرُ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ ﷺ؛ مِثْلُ الْقُرْآنِ، فَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِالْقُرْآنِ، وَلَمْ يُصَدِّقْ خَبَرَهُ، وَلَمْ يَعْتَقِدْ وُجُوبَ أَمْرِهِ؛ فَقَدْ أَعْرَضَ عَنْهُ، فَيُقَيِّضُ لَهُ الشَّيْطَانَ فَيَقْتَرِنُ بِهِ.

 قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ۖ وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ} [طه: 124-126].

فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ ذِكْرَهُ هُوَ آيَاتُهُ الَّتِي أَنْزَلَهَا؛ وَلِهَذَا لَوْ ذَكَرَ الرَّجُلُ اللَّهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- دَائِمًا لَيْلًا وَنَهَارًا مَعَ غَايَةِ الزُّهْدِ، وَعَبَدَهُ مُجْتَهِدًا فِي عِبَادَتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ مُتَّبِعًا لِذِكْرِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ -وَهُوَ الْقُرْآنُ-؛ كَانَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ؛ وَلَوْ طَارَ فِي الْهَوَاءِ، أَوْ مَشَى عَلَى الْمَاءِ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَحْمِلُهُ فِي الْهَوَاءِ وَعَلَى الْمَاءِ.

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ فِيهِ إيمَانٌ، وَفِيهِ شُعْبَةٌ مِنْ نِفَاقٍ، كَمَا جَاءَ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ)).

وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) -أَيْضًا- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، أَعْلَاهَا: قَوْلُ (لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ)، وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ)).

فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ مَنْ كَانَ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ فَفِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا.

*وَإِذَا كَانَ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ هُمُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ؛ فَبِحَسَبِ إيمَانِ الْعَبْدِ وَتَقْوَاهُ تَكُونُ وَلَايَتُهُ لِلَّهِ -تَعَالَى-، فَمَنْ كَانَ أَكْمَلَ إيمَانًا وَتَقْوَى؛ كَانَ أَكْمَلَ وَلَايَةً لِلَّهِ.

فَالنَّاسُ مُتَفَاضِلُونَ فِي وَلَايَةِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- بِحَسَبِ تَفَاضُلِهِمْ فِي الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى، وَكَذَلِكَ يَتَفَاضَلُونَ فِي عَدَاوَةِ اللَّهِ بِحَسَبِ تَفَاضُلِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِ إِيمَانًا ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 124-125].

*وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ لَا يَكُونُ وَلِيًّا لِلَّهِ إلَّا إذَا كَانَ مُؤْمِنًا تَقِيًّا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62-63]، وَلَا يَكُونُ مُؤْمِنًا تَقِيًّا حَتَّى يَتَقَرَّبَ إلَى اللَّهِ بِالْفَرَائِضِ، فَيَكُونُ مِنَ الْأَبْرَارِ أَهْلِ الْيَمِينِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَزَالُ يَتَقَرَّبُ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى يَكُونَ مِنَ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ؛ فَمَعْلُومٌ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ لَا يَكُونُ وَلِيًّا لِلَّهِ، وَكَذَلِكَ مَنْ لَا يَصِحُّ إيمَانُهُ وَعِبَادَاتُهُ وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ لَا إثْمَ عَلَيْهِ؛ مِثْلُ أَطْفَالِ الْكُفَّارِ، وَمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ -وَإِنْ قِيلَ: إنَّهُمْ لَا يُعَذَّبُونَ حَتَّى يُرْسَلَ إلَيْهِمْ رَسُولٌ-؛ فَلَا يَكُونُونَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ إِذْ لَمْ يَكُونُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ؛ فَمَنْ لَمْ يَتَقَرَّبْ إلَى اللَّهِ لَا بِفِعْلِ الْحَسَنَاتِ، وَلَا بِتَرْكِ السَّيِّئَاتِ؛ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ.

وَكَذَلِكَ الْمَجَانِينُ وَالْأَطْفَالُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ)).

لَكِنَّ الصَّبِيَّ الْمُمَيِّزَ تَصِحُّ عِبَادَاتُهُ، وَيُثَابُ عَلَيْهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَأَمَّا الْمَجْنُونُ الَّذِي رُفِعَ عَنْهُ الْقَلَمُ فَلَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْ عِبَادَاتِهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ إيمَانٌ، وَلَا كُفْرٌ، وَلَا صَلَاةٌ، وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَادَاتِ؛ بَلْ لَا يَصْلُحُ هُوَ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُقَلَاءِ لِأُمُورِ الدُّنْيَا؛ كَالتِّجَارَةِ، وَالصِّنَاعَةِ؛ بَلْ أَقْوَالُهُ كُلُّهَا لَغْوٌ، لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَلَا ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ.

وَإِذَا كَانَ الْمَجْنُونُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ الْإِيمَانُ، وَلَا التَّقْوَى، وَلَا التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ بِالْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ، وَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا؛ فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ وَلِيٌّ لِلَّهِ؛ لَا سِيَّمَا أَنْ تَكُونَ حُجَّتُهُ عَلَى ذَلِكَ إمَّا مُكَاشَفَةُ سَمْعِهَا مِنْهُ، أَوْ نَوْعٌ مِنْ تَصَرُّفٍ؛ مِثْلُ أَنْ يَرَاهُ قَدْ أَشَارَ إلَى وَاحِدٍ فَمَاتَ أَوْ صُرِعَ؛ فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ لَهُمْ مُكَاشَفَاتٌ وَتَصَرُّفَاتٌ شَيْطَانِيَّةٌ، كَالْكُهَّانِ وَالسَّحَرَةِ، وَعُبَّادِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ.

فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ عَلَى كَوْنِ الشَّخْصِ وَلِيًّا لِلَّهِ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ مَا يُنَاقِضُ وَلَايَةَ اللَّهِ؛ فَكَيْفَ إذَا عُلِمَ مِنْهُ مَا يُنَاقِضُ وَلَايَةَ اللَّهِ؛ مِثْلُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُ وُجُوبَ اتِّبَاعِ النَّبِيِّ ﷺ بَاطِنًا وَظَاهِرًا؛ بَلْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَتَّبِعُ الشَّرْعَ الظَّاهِرَ دُونَ الْحَقِيقَةِ الْبَاطِنَةِ، أَوْ يَعْتَقِدُ أَنَّ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ طَرِيقًا إلَى اللَّهِ غَيْرَ طَرِيقِ الْأَنْبِيَاءِ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ-، أَوْ يَقُولُ: إنَّ الْأَنْبِيَاءَ ضَيَّقُوا الطَّرِيقَ، أَوْ هُمْ قُدْوَةُ الْعَامَّةِ دُونَ الْخَاصَّةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَقُولُهُ بَعْضُ مَنْ يَدَّعِي الْوَلَايَةَ؟!!

فَهَؤُلَاءِ فِيهِمْ مِنَ الْكُفْرِ مَا يُنَاقِضُ الْإِيمَانَ؛ فَضْلًا عَنْ وَلَايَةِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ فَمَنِ احْتَجَّ بِمَا يَصْدُرُ عَنْ أَحَدِهِمْ مِنْ خَرْقِ عَادَةٍ عَلَى وَلَايَتِهِمْ؛ كَانَ أَضَلَّ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.

وَلَيْسَ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ شَيْءٌ يَتَمَيَّزُونَ بِهِ عَنِ النَّاسِ فِي الظَّاهِرِ مِنَ الْأُمُورِ الْمُبَاحَاتِ، فَلَا يَتَمَيَّزُونَ بِلِبَاسٍ دُونَ لِبَاسٍ إذَا كَانَ كِلَاهُمَا مُبَاحًا، وَلَا بِحَلْقِ شَعْرٍ أَوْ تَقْصِيرِهِ أَوْ ضَفْرِهِ إذَا كَانَ مُبَاحًا، بَلْ يُوجَدُونَ فِي جَمِيعِ أَصْنَافِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ إذَا لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ الظَّاهِرَةِ وَالْفُجُورِ، فَيُوجَدُونَ فِي أَهْلِ الْقُرْآنِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ، وَيُوجَدُونَ فِي أَهْلِ الْجِهَادِ وَالسَّيْفِ، وَيُوجَدُونَ فِي التُّجَّارِ، وَالصُّنَّاعِ، وَالزُّرَّاعِ.

وَكَانَ السَّلَفُ يُسَمُّونَ أَهْلَ الدِّينِ وَالْعِلْمِ (الْقُرَّاءَ)، فَيَدْخُلُ فِيهِمُ الْعُلَمَاءُ وَالنُّسَّاكُ.

*وَلَيْسَ مَنْ شَرْطِ وَلِيِّ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا لَا يَغْلَطُ وَلَا يُخْطِئُ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ بَعْضُ عِلْمِ الشَّرِيعَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَبِهَ عَلَيْهِ بَعْضُ أُمُورِ الدِّينِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- تَجَاوَزَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَنِ الْخَطَأِ، وَالنِّسْيَانِ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ.

مِنَ الْفُرُوقِ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ -صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ- يَجِبُ لَهُمُ الْإِيمَانُ بِجَمِيعِ مَا يُخْبِرُونَ بِهِ عَنِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَتَجِبُ طَاعَتُهُمْ فِيمَا يَأْمُرُونَ بِهِ؛ بِخِلَافِ الْأَوْلِيَاءِ، فَإِنَّهُمْ لَا تَجِبُ طَاعَتُهُمْ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُونَ بِهِ، وَلَا الْإِيمَانُ بِجَمِيعِ مَا يُخْبِرُونَ بِهِ، بَلْ يُعْرَضُ أَمْرُهُمْ وَخَبَرُهُمْ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَمَا وَافَقَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَجَبَ قَبُولُهُ، وَمَا خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ كَانَ مَرْدُودًا وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، وَكَانَ مُجْتَهِدًا مَعْذُورًا فِيمَا قَالَهُ، لَهُ أَجْرٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ؛ لَكِنَّهُ إذَا خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ كَانَ مُخْطِئًا، وَكَانَ مِنْ الْخَطَأِ الْمَغْفُورِ إذَا كَانَ صَاحِبُهُ قَدِ اتَّقَى اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- يَقُولُ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].

وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْتُهُ مِنْ أَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ يَجِبُ عَلَيْهِمْ الِاعْتِصَامُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمْ مَعْصُومٌ يَسُوغُ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ اتِّبَاعُ مَا يَقَعُ فِي قَلْبِهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.. هُوَ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، مَنْ خَالَفَ فِي هَذَا فَلَيْسَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ -سُبْحَانَهُ- الَّذِينَ أَمَرَ اللَّهُ بِاتِّبَاعِهِمْ؛ بَلْ إمَّا أَنْ يَكُونَ كَافِرًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُفْرِطًا فِي الْجَهْلِ.

قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْجُنَيْدُ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((عِلْمُنَا هَذَا مُقَيَّدٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَمَنْ لَمْ يَقْرَأِ الْقُرْآنَ وَيَكْتُبِ الْحَدِيثَ؛ لَا يَصْلُحُ لَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي عِلْمِنَا، أَوْ قَالَ: لَا يُقْتَدَى بِهِ)).

وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّيْسَابُورِيُّ: ((مَنْ أَمَّرَ السُّنَّةَ عَلَى نَفْسِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا نَطَقَ بِالْحِكْمَةِ، وَمَنْ أَمَّرَ الْهَوَى عَلَى نَفْسِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا نَطَقَ بِالْبِدْعَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- يَقُولُ: {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54])).

 وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَغْلَطُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَيَظُنُّ فِي شَخْصٍ أَنَّهُ وَلِيٌّ لِلَّهِ، وَيَظُنُّ أَنَّ وَلِيَّ اللَّهِ يُقْبَلُ مِنْهُ كُلُّ مَا يَقُولُهُ، وَيُسَلَّمُ إلَيْهِ كُلُّ مَا يَفْعَلُهُ وَإِنْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، فَيُوَافِقُ ذَلِكَ الشَّخْصُ لَهُ، وَيُخَالِفُ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ تَصْدِيقَهُ فِيمَا أَخْبَرَ، وَطَاعَتَهُ فِيمَا أَمَرَ، وَجَعَلَهُ الْفَارِقَ بَيْن أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ، وَبَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ، وَبَيْنَ السُّعَدَاءِ وَالْأَشْقِيَاءِ، فَمَنِ اتَّبَعَهُ كَانَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ، وَجُنْدِهِ الْمُفْلِحِينَ، وَعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ، وَمَنْ لَمْ يَتَّبِعْهُ كَانَ مِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ الْخَاسِرِينَ الْمُجْرِمِينَ، فَتَجُرُّهُ مُخَالَفَةُ الرَّسُولِ وَمُوَافَقَةُ ذَلِكَ الشَّخْصِ أَوَّلًا إلَى الْبِدْعَةِ وَالضَّلَالِ، وَآخِرًا إلَى الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ.

 وَكُلُّ مَنْ خَالَفَ شَيْئًا مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مُقَلِّدًا فِي ذَلِكَ لِمَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ وَلِيُّ اللَّهِ؛ فَإِنَّهُ بَنَى أَمْرَهُ عَلَى أَنَّهُ وَلِيٌّ لِلَّهِ، وَأَنَّ وَلِيَّ اللَّهِ لَا يُخَالَفُ فِي شَيْءٍ؛ وَلَوْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ مِنْ أَكْبَرِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ؛ كَأَكَابِرِ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ؛ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ مَا خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ؛ فَكَيْفَ إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ؟!

وَتَجِدُ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ عُمْدَتُهُمْ فِي اعْتِقَادِ كَوْنِهِ وَلِيًّا لِلَّهِ: أَنَّهُ قَدْ صَدَرَ عَنْهُ مُكَاشَفَةٌ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، أَوْ بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ؛ مِثْلَ أَنْ يُشِيرَ إلَى شَخْصٍ فَيَمُوتَ، أَوْ يَطِيرَ فِي الْهَوَاءِ إلَى مَكَّةَ أَوْ غَيْرِهَا، أَوْ يَمْشِيَ عَلَى الْمَاءِ أَحْيَانًا، أَوْ يَمْلَأَ إبْرِيقًا مِنَ الْهَوَاءِ، أَوْ يُنْفِقَ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ مِنَ الْغَيْبِ، أَوْ أَنْ يَخْتَفِيَ أَحْيَانًا عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ، أَوْ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ اسْتَغَاثَ بِهِ وَهُوَ غَائِبٌ أَوْ مَيِّتٌ، فَرَآهُ قَدْ جَاءَهُ فَقَضَى حَاجَتَهُ، أَوْ يُخْبِرَ النَّاسَ بِمَا سُرِقَ لَهُمْ، أَوْ بِحَالِ غَائِبٍ لَهُمْ، أَوْ مَرِيضٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَاحِبَهَا وَلِيٌّ لِلَّهِ.

 بَلْ قَدِ اتَّفَقَ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ لَوْ طَارَ فِي الْهَوَاءِ، أَوْ مَشَى عَلَى الْمَاءِ؛ لَمْ يُغْتَرَّ بِهِ حَتَّى يُنْظَرَ مُتَابَعَتُهُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَمُوَافَقَتُهُ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ.

وَكَرَامَاتُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ -تَعَالَى- أَعْظَمُ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ الْخَارِقَةُ لِلْعَادَةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَكُونُ صَاحِبُهَا وَلِيًّا لِلَّهِ فَقَدْ يَكُونُ عَدُوًّا لِلَّهِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْخَوَارِقَ تَكُونُ لِكَثِيرٍ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ، وَأَهْلِ الْكِتَابِ، وَالْمُنَافِقِينَ، وَتَكُونُ لِأَهْلِ الْبِدَعِ، وَتَكُونُ مِنَ الشَّيَاطِينِ؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ أَنَّهُ وَلِيٌّ لِلَّهِ، بَلْ يُعْتَبَرُ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ بِصِفَاتِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَأَحْوَالِهِمُ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَيُعْرَفُونَ بِنُورِ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ، وَبِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ الْبَاطِنَةِ، وَشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ.

مِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ الْمَذْكُورَةَ وَأَمْثَالَهَا قَدْ تُوجَدُ فِي أَشْخَاصٍ، وَيَكُونُ أَحَدُهُمْ لَا يَتَوَضَّأُ، وَلَا يُصَلِّي الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةَ؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ مُلَابِسًا لِلنَّجَاسَاتِ، مُعَاشِرًا لِلْكِلَابِ، يَأْوِي إلَى الْحَمَّامَاتِ، والقُمَامَينَ -جَمْعُ الْقُمَامِ؛ وَالْقُمَامُ: جَمْعُ الْقُمَامَةِ-، وَالْمَقَابِرِ، وَالْمَزَابِلِ، رَائِحَتُهُ خَبِيثَةٌ، لَا يَتَطَهَّرُ الطَّهَارَةَ الشَّرْعِيَّةَ، وَلَا يَتَنَظَّفُ.

((أَفْضَلُ النَّاسِ الْأَنْبِيَاءُ، وَأَفْضَلُ الْأَوْلِيَاءِ الصَّحَابَةُ))
*وَقَدِ اتَّفَقَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَسَائِرُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ -تَعَالَى- عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَفْضَلُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ الَّذِينَ لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ، وَقَدْ رَتَّبَ اللَّهُ عِبَادَهُ السُّعَدَاءَ الْمُنْعَمَ عَلَيْهِمْ أَرْبَعَ مَرَاتِبَ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ
ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69].

وَأَفْضَلُ الْأُمَمِ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ ﷺ، قَالَ تَعَالَى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110].

وَقَالَ ﷺ: ((خَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْتُ فِيهِمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ)). وَهَذَا ثَابِتٌ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) -أَيْضًا- عَنْهُ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي؛ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ)).

وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ أَفْضَلُ مِنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ، قَالَ تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا ۚ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ} [الحديد: 10].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100].

 وَأَفْضَلُ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ: ((الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ))، وَأَفْضَلُهُمْ: أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ.

 وَلَا يَكُونُ مَنْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَأَفْضَلُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ -تَعَالَى-: أَعْظَمُهُمْ مَعْرِفَةً بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ، وَاتِّبَاعًا لَهُ؛ كَالصَّحَابَةِ الَّذِينَ هُمْ أَكْمَلُ الْأُمَّةِ فِي مَعْرِفَةِ دِينِهِ، وَاتِّبَاعِهِ، وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ أَكْمَلُ مَعْرِفَةً بِمَا جَاءَ بِهِ وَعَمَلًا بِهِ، فَهُوَ أَفْضَلُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ؛ إذْ كَانَتْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ ﷺ أَفْضَلَ الْأُمَمِ، وَأَفْضَلُهَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَأَفْضَلُهُمْ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

((كَرَامَاتُ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَتَلْبِيسَاتُ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ))

أَوْلِيَاءُ اللَّهِ الْمُتَّقُونَ هُمُ الْمُقْتَدُونَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ، فَيَفْعَلُونَ مَا أَمَرَ بِهِ، وَيَنْتَهُونَ عَمَّا عَنْهُ زَجَرَ، وَيَقْتَدُونَ بِهِ فِيمَا بَيَّنَ لَهُمْ أَنْ يَتَّبِعُوهُ فِيهِ، فَيُؤَيِّدُهُمْ بِمَلَائِكَتِهِ وَرُوحٍ مِنْهُ، وَيَقْذِفُ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ أَنْوَارِهِ، وَلَهُمُ الْكَرَامَاتُ الَّتِي يُكْرِمُ اللَّهُ بِهَا أَوْلِيَاءَهُ الْمُتَّقِينَ.

وَخِيَارُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ؛ كَرَامَاتُهُمْ لِحُجَّة فِي الدِّينِ أَوْ لِحَاجَة بِالْمُسْلِمِينَ كَمَا كَانَتْ مُعْجِزَاتُ نَبِيِّهِمْ ﷺ كَذَلِكَ.

وَكَرَامَاتُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ إنَّمَا حَصَلَتْ بِبَرَكَةِ اتِّبَاعِ رَسُولِهِ ﷺ، فَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ تَدْخُلُ فِي مُعْجِزَاتِ الرَّسُولِ ﷺ؛ مِثْلُ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ، وَتَسْبِيحِ الْحَصَا فِي كَفِّهِ، وَإِتْيَانِ الشَّجَرِ إلَيْهِ، وَحَنِينِ الْجِذْعِ إلَيْهِ، وَإِخْبَارِهِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ بِصِفَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَإِخْبَارِهِ بِمَا كَانَ وَمَا يَكُونُ، وَإِتْيَانِهِ بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَتَكْثِيرِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ مَرَّاتٍ كَثِيرَةً، كَمَا أَشْبَعَ فِي الْخَنْدَقِ الْعَسْكَرَ مِنْ قِدْرِ طَعَامٍ وَهُوَ لَمْ يَنْقُصْ -فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ الْمَشْهُورِ-، وَرَوَى الْعَسْكَرَ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ مِنْ مَزَادَةِ مَاءٍ وَلَمْ تَنْقُصْ، وَمَلَأ أَوْعِيَةَ الْعَسْكَرِ عَامَ تَبُوكٍ مِنْ طَعَامٍ قَلِيلٍ وَلَمْ يَنْقُصْ، وَهُمْ نَحْوُ ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَنَبَعَ الْمَاءُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةً حَتَّى كَفَى النَّاسَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ، كَمَا كَانُوا فِي غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةِ نَحْوُ أَلْفٍ وَأَرْبَعِ مِائَةٍ أَوْ خَمْسُ مِائَةٍ، وَرَدِّهِ لِعَيْنِ أَبِي قَتَادَةَ حِينَ سَالَتْ عَلَى خَدِّهِ، فَرَجَعَتْ أَحْسَنَ عَيْنَيْهِ.

وَكَرَامَاتُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ بَعْدَهُمْ وَسَائِرِ الصَّالِحِينَ كَثِيرَةٌ جِدًّا؛ مِثْلُ مَا كَانَ (أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ) يَقْرَأُ سُورَةَ الْكَهْفِ، فَنَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مِثْلُ الظُّلَّةِ فِيهَا أَمْثَالُ السُّرُجِ -وَهِيَ الْمَلَائِكَةُ-، نَزَلَتْ تَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِهِ.

وَكَانَتِ الْمَلَائِكَةُ تُسَلِّمُ عَلَى (عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ).

وَكَانَ (سَلْمَانُ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ) يَأْكُلَانِ فِي صَحْفَةٍ، فَسَبَّحَتِ الصَّحْفَةُ، أَوْ سَبَّحَ مَا فِيهَا.

وَ(عَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ) خَرَجَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، فَأَضَاءَ لَهُمَا نُورٌ مِثْلُ طَرَفِ السَّوْطِ، فَلَمَّا افْتَرَقَا افْتَرَقَ الضَّوْءُ مَعَهُمَا.

رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ.

وَقِصَّةُ الصِّدِّيقِ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)): ((لَمَّا ذَهَبَ بِثَلَاثَةِ أَضْيَافٍ مَعَهُ إلَى بَيْتِهِ، وَجَعَلَ لَا يَأْكُلُ لُقْمَةً إلَّا رَبَى مِنْ أَسْفَلِهَا أَكْثَرَ مِنْهَا، فَشَبِعُوا وَصَارَتْ أَكْثَرَ مِمَّا هِيَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَنَظَرَ إلَيْهَا أَبُو بَكْرٍ وَامْرَأَتُهُ، فَإِذَا هِيَ أَكْثَرُ مِمَّا كَانَتْ، فَرَفَعَهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَجَاءَ إلَيْهِ أَقْوَامٌ كَثِيرُونَ، فَأَكَلُوا مِنْهَا وَشَبِعُوا)).

وَ(خُبَيْبُ بْنُ عَدِيٍّ) كَانَ أَسِيرًا عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ -شَرَّفَهَا اللَّهُ تَعَالَى-، وَكَانَ يُؤْتَى بِعِنَبٍ يَأْكُلُهُ، وَلَيْسَ بِمَكَّةَ عِنَبَةٌ.

وَ(عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ) قُتِلَ شَهِيدًا، فَالْتَمَسُوا جَسَدَهُ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَكَانَ لَمَّا قُتِلَ رُفِعَ، فَرَآهُ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ وَقَدْ رُفِعَ، وَقَالَ عُرْوَةُ: فَيَرَوْنَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ رَفَعَتْهُ.

وَخَرَجَتْ (أُمُّ أَيْمَنَ) مُهَاجِرَةً وَلَيْسَ مَعَهَا زَادٌ وَلَا مَاءٌ، فَكَادَتْ تَمُوتُ مِنَ الْعَطَشِ، فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ الْفِطْرِ وَكَانَتْ صَائِمَةً سَمِعَتْ حِسًّا عَلَى رَأْسِهَا، فَرَفَعَتْهُ فَإِذَا دَلْوٌ مُعَلَّقٌ، فَشَرِبَتْ مِنْهُ حَتَّى رُوِيَتْ، وَمَا عَطِشَتْ بَقِيَّةَ عُمْرِهَا.

وَ(سَفِينَةُ) مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَخْبَرَ الْأَسَدَ بِأَنَّهُ رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَمَشَى مَعَهُ الْأَسَدُ حَتَّى أَوْصَلَهُ مَقْصِدَهُ.

وَ(الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ) كَانَ إذَا أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ -تَعَالَى- أَبَرَّ قَسَمَهُ، وَكَانَتِ الْحَرْبُ إذَا اشْتَدَّتْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْجِهَادِ يَقُولُونَ: يَا بَرَاءُ! أَقْسِمْ عَلَى رَبِّكَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ! أَقْسَمْتُ عَلَيْك لَمَا مَنَحْتنَا أَكْتَافَهُمْ، فَيُهْزَمُ الْعَدُوُّ، فَلَمَّا كَانَ (يَوْمُ الْقَادِسِيَّةِ) قَالَ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ يَا رَبِّ لَمَا مَنَحْتنَا أَكْتَافَهُمْ، وَجَعَلْتَنِي أَوَّلَ شَهِيدٍ، فَمُنِحُوا أَكْتَافَهُمْ، وَقُتِلَ الْبَرَاءُ شَهِيدًا.

وَ(سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ) كَانَ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ، مَا دَعَا قَطُّ إلَّا اسْتُجِيبَ لَهُ، وَهُوَ الَّذِي هَزَمَ جُنُودَ كِسْرَى، وَفَتَحَ الْعِرَاقَ.

وَ(عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) لَمَّا أَرْسَلَ جَيْشًا أَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا يُسَمَّى (سَارِيَةَ)، فَبَيْنَمَا عُمَرُ يَخْطُبُ، فَجَعَلَ يَصِيحُ عَلَى الْمِنْبَرِ: يَا سَارِيَةُ! الْجَبَلَ، يَا سَارِيَةُ! الْجَبَلَ، فَقَدِمَ رَسُولُ الْجَيْشِ فَسَأَلَ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! لَقِينَا عَدُوَّنَا فَهَزَمُونَا، فَإِذَا بِصَائِحٍ: يَا سَارِيَةُ! الْجَبَلَ، يَا سَارِيَةُ! الْجَبَلَ، فَأَسْنَدْنَا ظُهُورَنَا بِالْجَبَلِ، فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ.

وَلَمَّا عُذِّبَتِ (الزِّنِيرَةُ) -وَهِيَ زِنِّيرَةُ الرُّومِيَّةُ- عَلَى الْإِسْلَامِ فِي اللَّهِ، فَأَبَتْ إلَّا الْإِسْلَامَ، وَذَهَبَ بَصَرُهَا؛ قَالَ الْمُشْرِكُونَ: أَصَابَ بَصَرَهَا اللَّاتُ وَالْعُزَّى، قَالَتْ: كَلَّا وَاللَّهِ! فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهَا بَصَرَهَا.

وَدَعَا (سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ) عَلَى أَرْوَى بِنْتِ الْحَكَمِ، فَأُعْمِيَ بَصَرُهَا لَمَّا كَذَبَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: ((اللَّهُمَّ إنْ كَانَتْ كَاذِبَةً فَأَعْمِ بَصَرَهَا، وَاقْتُلْهَا فِي أَرْضِهَا، فَعَمِيَتْ، وَوَقَعَتْ فِي حُفْرَةٍ مِنْ أَرْضِهَا فَمَاتَتْ)).

وَ(الْعَلَاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ) كَانَ عَامِلَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَلَى الْبَحْرَيْنِ، وَكَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: ((يَا عَلِيمُ يَا حَلِيمُ يَا عَلِيُّ يَا عَظِيمُ))، فَيُسْتَجَابُ لَهُ، وَدَعَا اللَّهَ بِأَنْ يُسْقَوْا وَيَتَوَضَّؤُوا لَمَّا عَدِمُوا الْمَاءَ وَلَا يَبْقَى الْمَاءَ بَعْدَهُمْ، فَأُجِيبَ، وَدَعَا اللَّهَ لَمَّا اعْتَرَضَهُمُ الْبَحْرُ، وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْمُرُورِ بِخُيُولِهِمْ، فَمَرُّوا كُلُّهُمْ عَلَى الْمَاءِ، مَا ابْتَلَّتْ سُرُوجُ خُيُولِهِمْ، وَدَعَا اللَّهَ أَلَّا يَرَوْا جَسَدَهُ إذَا مَاتَ، فَلَمْ يَجِدُوهُ فِي اللَّحْدِ.

وَجَرَى مِثْلُ ذَلِكَ لِـ(أَبِي مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيِّ) الَّذِي أُلْقِيَ فِي النَّارِ؛ فَإِنَّهُ مَشَى هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْعَسْكَرِ عَلَى دِجْلَةَ وَهِيَ تُرْمَى بِالْخَشَبِ مِنْ مَدِّهَا، ثُمَّ الْتَفَتَ إلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: تَفْقِدُونَ مِنْ مَتَاعِكُمْ شَيْئًا حَتَّى أَدْعُوَ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- فِيهِ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَقَدْتُ مِخْلَاةً، فَقَالَ: اتْبَعْنِي، فَتَبِعَهُ، فَوَجَدَهَا قَدْ تَعَلَّقَتْ بِشَيْءٍ، فَأَخَذَهَا.

وَطَلَبَهُ الْأَسْوَدُ الْعَنْسِيُّ لَمَّا ادَّعَى النُّبُوَّةَ فَقَالَ لَهُ: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟

قَالَ: مَا أَسْمَعُ.

قَالَ: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟

قَالَ: نَعَمْ.

فَأُمِرَ بِنَارٍ فَأُلْقِيَ فِيهَا، فَوَجَدُوهُ قَائِمًا يُصَلِّي فِيهَا، وَقَدْ صَارَتْ عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا.

وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ ﷺ، فَأَجْلَسَهُ عُمَرُ بَيْنَهُ وَبَيْن أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، وَقَالَ: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يُمِتْنِي حَتَّى أَرَى مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ مَنْ فُعِلَ بِهِ كَمَا فُعِلَ بِإِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ)).

وَوَضَعَتْ لَهُ جَارِيَتُهُ السُّمَّ فِي طَعَامِهِ فَلَمْ يَضُرَّهُ، وَخَبَّبَتِ امْرَأَةٌ عَلَيْهِ زَوْجَتَهُ -أَيْ: أَفْسَدَتْهَا عَلَيْهِ-، فَدَعَا عَلَيْهَا، فَعَمِيَتْ وَجَاءَتْ وَتَابَتْ، فَدَعَا لَهَا فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهَا بَصَرَهَا.

وَكَانَ (عَامِرُ بْنُ عَبْدِ قَيْسٍ) يَأْخُذُ عَطَاءَهُ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ فِي كُمِّهِ، وَمَا يَلْقَاهُ سَائِلٌ فِي طَرِيقِهِ إلَّا أَعْطَاهُ بِغَيْرِ عَدَدٍ، ثُمَّ يَجِيءُ إلَى بَيْتِهِ فَلَا يَتَغَيَّرُ عَدَدُهَا وَلَا وَزْنُهَا.

وَمَرَّ بِقَافِلَةٍ قَدْ حَبَسَهُمُ الْأَسَدُ، فَجَاءَ حَتَّى مَسَّ بِثِيَابِهِ فَمَ الْأَسَدِ، ثُمَّ وَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى عُنُقِهِ وَقَالَ: إنَّمَا أَنْتَ كَلْبٌ، وَإِنِّي أَسْتَحِي مِنَ اللهِ أَنْ أَخَافَ شَيْئًا غَيْرَه، وَمَرَّتِ الْقَافِلَةُ.

وَدَعَا اللَّهَ -تَعَالَى- أَنْ يُهَوِّنَ عَلَيْهِ الطُّهُورَ فِي الشِّتَاءِ، فَكَانَ يُؤْتَى بِالْمَاءِ لَهُ بُخَارٌ.

وَدَعَا رَبَّهُ أَنْ يَمْنَعَ قَلْبَهُ مِنَ الشَّيْطَانِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ.

وَتَغَيَّبَ (الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ) عَنِ الْحَجَّاجِ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ سِتَّ مَرَّاتٍ، فَدَعَا اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- فَلَمْ يَرَوْهُ، وَدَعَا عَلَى بَعْضِ الْخَوَارِجِ كَانَ يُؤْذِيهِ فَخَرَّ مَيِّتًا.

وَ(صِلَةُ بْنُ أَشْيَمَ) مَاتَ فَرَسُهُ وَهُوَ فِي الْغَزْوِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ لِمَخْلُوقٍ عَلَيَّ مِنَّةً، وَدَعَا اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- فَأَحْيَا لَهُ فَرَسَهُ، فَلَمَّا وَصَلَ إلَى بَيْتِهِ قَالَ: يَا بُنَيَّ! خُذْ سَرْجَ الْفَرَسِ فَإِنَّهُ عَارِيَةٌ، فَأَخَذَ سَرْجَهُ فَمَاتَ الْفَرَسُ.

وَجَاعَ مَرَّةً بِـ(الْأَهْوَازِ)، فَدَعَا اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- وَاسْتَطْعَمَهُ، فَوَقَعَتْ خَلْفَهُ دَوْخَلَةُ رُطَبٍ فِي ثَوْبٍ حَرِيرٍ، فَأَكَلَ التَّمْرَ، وَبَقِيَ الثَّوْبُ عِنْدَ زَوْجَتِهِ زَمَانًا.

وَجَاءَهُ الْأَسَدُ وَهُوَ يُصَلِّي فِي غَيْضَةٍ بِاللَّيْلِ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ لَهُ: اطْلُبِ الرِّزْقَ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَوَلَّى الْأَسَدُ وَلَهُ زَئِيرٌ.

وَكَانَ (سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ) فِي أَيَّامِ الْحَرَّةِ يَسْمَعُ الْأَذَانَ مِنْ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَوْقَاتَ الصَّلَوَاتِ، وَكَانَ الْمَسْجِدُ قَدْ خَلَا، فَلَمْ يَبْقَ غَيْرُهُ.

وَرَجُلٌ مِنَ (النَّخْعِ) كَانَ لَهُ حِمَارٌ فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: هَلُمَّ نَتَوَزَّعُ مَتَاعَك عَلَى رِحَالِنَا، فَقَالَ لَهُمْ: أَمْهِلُونِي هُنَيْهَةً، ثُمَّ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَدَعَا اللَّهَ -تَعَالَى- فَأَحْيَا لَهُ حِمَارَهُ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ مَتَاعَهُ.

وَلَمَّا مَاتَ (أُوَيْسٌ الْقَرْنِيُّ) وَجَدُوا فِي ثِيَابِهِ أَكْفَانًا لَمْ تَكُنْ مَعَهُ قَبْلُ، وَوَجَدُوا لَهُ قَبْرًا مَحْفُورًا فِيهِ لَحْدٌ فِي صَخْرَةٍ، فَدَفَنُوهُ فِيهِ، وَكَفَّنُوهُ فِي تِلْكَ الْأَثْوَابِ.

وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ، قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.

وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ: أَنَّ الْكَرَامَاتِ قَدْ تَكُونُ بِحَسَبِ حَاجَةِ الرَّجُلِ، فَإِذَا احْتَاجَ إلَيْهَا الضَّعِيفُ الْإِيمَانِ أَوِ الْمُحْتَاجُ؛ أَتَاهُ مِنْهَا مَا يُقَوِّي إيمَانَهُ، وَيَسُدُّ حَاجَتَهُ، وَيَكُونُ مَنْ هُوَ أَكْمَلُ وَلَايَةً لِلَّهِ مِنْهُ مُسْتَغْنِيًا عَنْ ذَلِكَ، فَلَا يَأْتِيهِ مِثْلُ ذَلِكَ؛ لِعُلُوِّ دَرَجَتِهِ، وَغِنَاهُ عَنْهَا، لَا لِنَقْصِ وَلَايَتِهِ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ فِي التَّابِعِينَ أَكْثَرَ مِنْهَا فِي الصَّحَابَةِ، بِخِلَافِ مَنْ يُجْرِي عَلَى يَدَيْهِ الْخَوَارِقُ لِهَدْيِ الْخَلْقِ وَلِحَاجَتِهِمْ، فَهَؤُلَاءِ أَعْظَمُ دَرَجَةً.

وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ؛ مِثْلُ حَالِ (عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيَّادٍ) الَّذِي ظَهَرَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ ﷺ، وَكَانَ قَدْ ظَنَّ بَعْضُ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ الدَّجَّالُ، وَتَوَقَّفَ النَّبِيُّ ﷺ فِي أَمْرِهِ حَتَّى تَبَيَّنَ لَهُ فِيمَا بَعْدُ أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ الدَّجَّالَ؛ لَكِنَّهُ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْكُهَّانِ، قَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: ((قَدْ خَبَّأْتُ لَك خَبْئًا)).

قَالَ: ((الدُّخُّ الدُّخُّ)).

وَقَدْ كَانَ خَبَّأَ لَهُ سُورَةَ الدُّخَانِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: ((اخْسَأْ فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَك)) يَعْنِي: إنَّمَا أَنْتَ مِنْ إخْوَانِ الْكُهَّانِ، وَالْكُهَّانُ كَانَ يَكُونُ لِأَحَدِهِمُ الْقَرِينُ مِنَ الشَّيَاطِينِ، يُخْبِرُهُ بِكَثِيرٍ مِنَ الْمُغَيَّبَاتِ بِمَا يَسْتَرِقُهُ مِنَ السَّمْعِ، وَكَانُوا يَخْلِطُونَ الصِّدْقَ بِالْكَذِبِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((إنَّ الْمَلَائِكَةَ تَنْزِلُ فِي الْعَنَانِ -وَهُوَ السَّحَابُ-، فَتَذْكُرُ الْأَمْرَ قُضِيَ فِي السَّمَاءِ، فَتَسْتَرِقُ الشَّيَاطِينُ السَّمْعَ فَتُوحِيهِ إلَى الْكُهَّانِ، فَيَكْذِبُونَ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ)).

وَ (الْأَسْوَدُ الْعَنْسِيُّ) الَّذِي ادَّعَى النُّبُوَّةَ كَانَ لَهُ مِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يُخْبِرُهُ بِبَعْضِ الْأُمُورِ الْمُغَيَّبَةِ، فَلَمَّا قَاتَلَهُ الْمُسْلِمُونَ كَانُوا يَخَافُونَ مِنَ الشَّيَاطِينِ أَنْ يُخْبِرُوهُ بِمَا يَقُولُونَ فِيهِ، حَتَّى أَعَانَتْهُمْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ لَمَّا تَبَيَّنَ لَهَا كُفْرُهُ، فَقَتَلُوهُ.

وَكَذَلِكَ (مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ) كَانَ مَعَهُ مِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يُخْبِرُهُ بِالْمُغَيَّبَاتِ، وَيُعِينُهُ عَلَى بَعْضِ الْأُمُورِ.

وَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ كَثِيرُونَ؛ مِثْلُ الْحَارِثِ الدِّمَشْقِيِّ الَّذِي خَرَجَ بِالشَّامِ زَمَنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَادَّعَى النُّبُوَّةَ، وَكَانَتِ الشَّيَاطِينُ يُخْرِجُونَ رِجْلَيْهِ مِنَ الْقَيْدِ، وَتَمْنَعُ السِّلَاحَ أَنْ يَنْفُذَ فِيهِ، وَتُسَبِّحُ الرَّخَامَةُ إذَا مَسَحَهَا بِيَدِهِ، وَكَانَ يَرَى النَّاسَ رِجَالًا وَرُكْبَانًا عَلَى خَيْلٍ فِي الْهَوَاءِ، وَيَقُولُ: هِيَ الْمَلَائِكَةُ، وَإِنَّمَا كَانُوا جِنًّا، وَلَمَّا أَمْسَكَهُ الْمُسْلِمُونَ لِيَقْتُلُوهُ طَعَنَهُ الطَّاعِنُ بِالرُّمْحِ فَلَمْ يَنْفُذْ فِيهِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ: إنَّكَ لَمْ تُسَمِّ اللَّهَ، فَسَمَّى اللَّهَ فَطَعَنَهُ فَقَتَلَهُ.

وَهَكَذَا أَهْلُ (الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ)؛ تَنْصَرِفُ عَنْهُمْ شَيَاطِينُهُمْ إذَا ذُكِرَ عِنْدَهُمْ مَا يَطْرُدُهَا؛ مِثْلُ آيَةِ الْكُرْسِيِّ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي ((الصَّحِيحِ)) عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَمَّا وَكَّلَهُ النَّبِيُّ ﷺ بِحِفْظِ زَكَاةِ الْفِطْرِ، فَسَرَقَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ لَيْلَةً بَعْدَ لَيْلَةٍ، وَهُوَ يُمْسِكُهُ فَيَتُوبُ فَيُطْلِقُهُ، فَيَقُولُ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ؟)).

فَيَقُولُ: ((زَعَمَ أَنَّهُ لَا يَعُودُ)).

فَيَقُولُ: ((كَذَبَكَ، وَإِنَّهُ سَيَعُودُ)).

فَلَمَّا كَانَ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ قَالَ: ((دَعْنِي حَتَّى أُعَلِّمَكَ مَا يَنْفَعُكَ: إذَا أَوَيْتَ إلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ: {اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} إلَى آخِرِهَا؛ فَإِنَّهُ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ، وَلَا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ)).

فَلَمَّا أَخْبَرَ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ))، وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ شَيْطَانٌ)).

وَلِهَذَا إذَا قَرَأَهَا الْإِنْسَانُ عِنْدَ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ بِصِدْقٍ أَبْطَلَتْهَا؛ مِثْلُ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ بِحَالٍ شَيْطَانِيٍّ، أَوْ يَحْضُرُ سَمَاعَ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ، فَتَنَزَّلُ عَلَيْهِ الشَّيَاطِينُ، وَتَتَكَلَّمُ عَلَى لِسَانِهِ كَلَامًا لَا يُعْلَمُ، وَرُبَّمَا لَا يُفْقَهُ، وَرُبَّمَا كَاشَفَ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ بِمَا فِي قَلْبِهِ، وَرُبَّمَا تَكَلَّمَ بِأَلْسِنَةٍ مُخْتَلِفَةٍ كَمَا يَتَكَلَّمُ الْجِنِّيُّ عَلَى لِسَانِ الْمَصْرُوعِ، وَالْإِنْسَانُ الَّذِي حَصَلَ لَهُ الْحَالُ لَا يَدْرِي بِذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمَصْرُوعِ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ، وَلَبِسَهُ وَتَكَلَّمَ عَلَى لِسَانِهِ، فَإِذَا أَفَاقَ لَمْ يَشْعُرْ بِشَيْءٍ مِمَّا قَالَ؛ وَلِهَذَا قَدْ يُضْرَبُ الْمَصْرُوعُ، وَذَلِكَ الضَّرْبُ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْإِنْسِيِّ، وَيُخْبِرُ إذَا أَفَاقَ أَنَّهُ لَمْ يَشْعُرْ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الضَّرْبَ كَانَ عَلَى الْجِنِّيِّ الَّذِي لَبِسَهُ.

وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَأْتِيهِ الشَّيْطَانُ بِأَطْعِمَةٍ، وَفَوَاكِهَ، وَحَلْوَى، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَطِيرُ بِهِمُ الْجِنِّيُّ إلَى مَكَّةَ، أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، أَوْ غَيْرِهِمَا.

وَمِنْهُمْ مَنْ تَحْمِلُهُ الْجِنُّ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، ثُمَّ تُعِيدُهُ مِنْ لَيْلَتِهِ، فَلَا يَحُجُّ حَجًّا شَرْعِيًّا، بَلْ يَذْهَبُ بِثِيَابِهِ، وَلَا يُحْرِمُ إذَا حَاذَى الْمِيقَاتَ، وَلَا يُلَبِّي، وَلَا يَقِفُ بِمُزْدَلِفَةَ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، وَلَا يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلَا يَرْمِي الْجِمَارَ، بَلْ يَقِفُ بِعَرَفَةَ بِثِيَابِهِ، ثُمَّ يَرْجِعُ مِنْ لَيْلَتِهِ، وَهَذَا لَيْسَ بِحَجٍّ مَشْرُوعٍ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ؛ وَلِهَذَا رَأَى بَعْضُ هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةَ تَكْتُبُ الْحُجَّاجَ، فَقَالَ: أَلَا تَكْتُبُونِي؟ فَقَالُوا: لَسْتَ مِنَ الْحُجَّاجِ -يَعْنِي: حَجًّا شَرْعِيًّا-.

وَبَيْنَ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ وَمَا يُشْبِهُهَا مِنَ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ فُرُوقٌ مُتَعَدِّدَةٌ:
مِنْهَا: أَنَّ ((كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ)) سَبَبُهَا الْإِيمَانُ وَالتَّقْوَى، وَ((الْأَحْوَالَ الشَّيْطَانِيَّةَ )) سَبَبُهَا مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:
{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33].

فَالْقَوْلُ عَلَى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَالشِّرْكُ، وَالظُّلْمُ، وَالْفَوَاحِشُ قَدْ حَرَّمَهَا اللَّهُ -تَعَالَى- وَرَسُولُهُ، فَلَا تَكُونُ سَبَبًا لِكَرَامَةِ اللَّهِ -تَعَالَى-، فَإِذَا كَانَتْ لَا تَحْصُلُ بِالصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، بَلْ تَحْصُلُ بِمَا يُحِبُّهُ الشَّيْطَانُ، وَبِالْأُمُورِ الَّتِي فِيهَا شِرْكٌ؛ كَالِاسْتِغَاثَةِ بِالْمَخْلُوقَاتِ، أَوْ كَانَتْ مِمَّا يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى ظُلْمِ الْخَلْقِ، وَفِعْلِ الْفَوَاحِشِ؛ فَهِيَ مِنَ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ، لَا مِنَ الْكَرَامَاتِ الرَّحْمَانِيَّةِ.

وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ إذَا حَضَرَ سَمَاعَ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ يَنْزِلُ عَلَيْهِ شَيْطَانُهُ؛ حَتَّى يَحْمِلَهُ فِي الْهَوَاءِ، وَيُخْرِجَهُ مِنْ تِلْكَ الدَّارِ، فَإِذَا حَضَرَ رَجُلٌ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ -تَعَالَى- طَرَدَ شَيْطَانَهُ فَيَسْقُطُ، كَمَا جَرَى هَذَا لِغَيْرِ وَاحِدٍ.

وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَسْتَغِيثُ بِمَخْلُوقٍ -إمَّا حَيٌّ أَوْ مَيِّتٌ-؛ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْحَيُّ مُسْلِمًا، أَوْ نَصْرَانِيًّا، أَوْ مُشْرِكًا، فَيَتَصَوَّرُ الشَّيْطَانُ بِصُورَةِ ذَلِكَ الْمُسْتَغَاثِ بِهِ، وَيَقْضِي بَعْضَ حَاجَةِ ذَلِكَ الْمُسْتَغِيثِ، فَيَظُنُّ أَنَّهُ ذَلِكَ الشَّخْصُ، أَوْ هُوَ مَلَكٌ عَلَى صُورَتِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ أَضَلَّهُ لَمَّا أَشْرَكَ بِاللَّهِ، كَمَا كَانَتِ الشَّيَاطِينُ تَدْخُلُ الْأَصْنَامَ، وَتُكَلِّمُ الْمُشْرِكِينَ.

وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَتَصَوَّرُ لَهُ الشَّيْطَانُ وَيَقُولُ لَهُ: أَنَا الْخَضِرُ، وَرُبَّمَا أَخْبَرَهُ بِبَعْضِ الْأُمُورِ، وَأَعَانَهُ عَلَى بَعْضِ مَطَالِبِهِ، كَمَا قَدْ جَرَى ذَلِكَ لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَكَثِيرٍ مِنَ الْكُفَّارِ بِأَرْضِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ؛ يَمُوتُ لَهُمُ الْمَيِّتُ، فَيَأْتِي الشَّيْطَانُ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى صُورَتِهِ، وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ ذَلِكَ الْمَيِّتُ، وَيَقْضِي الدُّيُونَ، وَيَرُدُّ الْوَدَائِعَ، وَيَفْعَلُ أَشْيَاءَ تَتَعَلَّقُ بِالْمَيِّتِ، وَيَدْخُلُ عَلَى زَوْجَتِهِ، وَيَذْهَبُ، وَرُبَّمَا يَكُونُونَ قَدْ أَحْرَقُوا مَيِّتَهُمْ بِالنَّارِ كَمَا تَصْنَعُ كُفَّارُ الْهِنْدِ، فَيَظُنُّونَ أَنَّهُ عَاشَ بَعْدَ مَوْتِهِ.

وَمِنْ هَؤُلَاءِ: شَيْخٌ كَانَ بِمِصْرَ، أَوْصَى خَادِمَهُ فَقَالَ: إذَا أَنَا مُتُّ فَلَا تَدَعْ أَحَدًا يُغَسِّلُنِي؛ فَأَنَا أَجِيءُ وَأُغَسِّلُ نَفْسِي، فَلَمَّا مَاتَ رَأَى خَادِمُهُ شَخْصًا فِي صُورَتِهِ، فَاعْتَقَدَ أَنَّهُ هُوَ دَخَلَ وَغَسَّلَ نَفْسَهُ، فَلَمَّا قَضَى ذَلِكَ الدَّاخِلُ غَسْلَهُ -أَيْ: غَسْلَ الْمَيِّتِ- غَابَ، وَكَانَ ذَلِكَ شَيْطَانًا، وَكَانَ قَدْ أَضَلَّ الْمَيِّتَ، وَقَالَ: إنَّكَ بَعْدَ الْمَوْتِ تَجِيءُ فَتُغَسِّلُ نَفْسَكَ، فَلَمَّا مَاتَ جَاءَ -أَيْضًا- فِي صُورَتِهِ لِيُغْوِيَ الْأَحْيَاءَ كَمَا أَغْوَى الْمَيِّتَ قَبْلَ ذَلِكَ.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى عَرْشًا فِي الْهَوَاءِ، وَفَوْقَهُ نُورٌ، وَيَسْمَعُ مَنْ يُخَاطِبُهُ وَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكَ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ عَلِمَ أَنَّهُ شَيْطَانٌ، فَزَجَرَهُ، وَاسْتَعَاذَ بِاللَّهِ مِنْهُ فَيَزُولُ.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَشْخَاصًا فِي الْيَقَظَةِ يَدَّعِي أَحَدُهُمْ أَنَّهُ نَبِيٌّ، أَوْ صِدِّيقٌ، أَوْ شَيْخٌ مِنَ الصَّالِحِينَ -وَيَكُونُ مِنَ الشَّيَاطِينِ-، وَقَدْ جَرَى هَذَا لِغَيْرِ وَاحِدٍ.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى فِي مَنَامِهِ أَنَّ بَعْضَ الْأَكَابِرِ -إمَّا الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَوْ غَيْرُهُ- قَدْ قَصَّ شَعْرَهُ، أَوْ حَلَقَهُ، أَوْ أَلْبَسَهُ طَاقِيَّتَهُ أَوْ ثَوْبَهُ، فَيُصْبِحُ وَعَلَى رَأْسِهِ طَاقِيَّةٌ، وَشَعْرُهُ مَحْلُوقٌ أَوْ مُقَصَّرٌ، وَإِنَّمَا الْجِنُّ قَدْ حَلَقُوا شَعْرَهُ أَوْ قَصَّرُوهُ.

وَهَذِهِ الْأَحْوَالُ الشَّيْطَانِيَّةُ تَحْصُلُ لِمَنْ خَرَجَ عَنِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهُمْ دَرَجَاتٌ، وَالْجِنُّ الَّذِينَ يَقْتَرِنُونَ بِهِمْ مِنْ جِنْسِهِمْ، وَهُمْ عَلَى مَذْهَبِهِمْ، وَالْجِنُّ فِيهِمُ الْكَافِرُ، وَالْفَاسِقُ، وَالْمُخْطِئُ، فَإِنْ كَانَ الْإِنْسِيُّ كَافِرًا، أَوْ فَاسِقًا، أَوْ جَاهِلًا؛ دَخَلُوا مَعَهُ فِي الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالضَّلَالِ، وَقَدْ يُعَاوِنُونَهُ إذَا وَافَقَهُمْ عَلَى مَا يَخْتَارُونَهُ مِنَ الْكُفْرِ؛ مِثْلُ الْإِقْسَامِ عَلَيْهِمْ بِأَسْمَاءِ مَنْ يُعَظِّمُونَهُ مِنَ الْجِنِّ وَغَيْرِهِمْ، وَمِثْلُ أَنْ يَكْتُبَ أَسْمَاءَ اللَّهِ أَوْ بَعْضَ كَلَامِهِ بِالنَّجَاسَةِ، أَوْ يَقْلِبَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ، أَوْ سُورَةَ الْإِخْلَاصِ، أَوْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ، أَوْ غَيْرَهُنَّ، وَيَكْتُبَهُنَّ بِنَجَاسَةٍ، فَيُغَوِّرُونَ لَهُ الْمَاءَ، وَيَنْقُلُونَهُ بِسَبَبِ مَا يُرْضِيهِمْ بِهِ مِنَ الْكُفْرِ.

وَقَدْ يَأْتُونَهُ بِمَا يَهْوَاهُ مِنِ امْرَأَةٍ أَوْ صَبِيٍّ، إمَّا فِي الْهَوَاءِ، وَإِمَّا مَدْفُوعًا مُلْجَأً إلَيْهِ، إلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي يَطُولُ وَصْفُهَا، وَالْإِيمَانُ بِهَا إيمَانٌ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ، وَالْجِبْتُ: السِّحْرُ، وَالطَّاغُوتُ: الشَّيَاطِينُ وَالْأَصْنَامُ.

وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ مُطِيعًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا؛ لَمْ يُمْكِنْهُمُ الدُّخُولُ مَعَهُ فِي ذَلِكَ أَوْ مُسَالَمَتُهُ؛ وَلِهَذَا لَمَّا كَانَتْ عِبَادَةُ الْمُسْلِمِينَ الْمَشْرُوعَةُ فِي الْمَسَاجِدِ الَّتِي هِيَ بُيُوتُ اللَّهِ؛ كَانَ عُمَّارُ الْمَسَاجِدِ أَبْعَدَ عَنِ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ، وَكَانَ أَهْلُ الشِّرْكِ وَالْبِدَعِ الَّذِينَ يُعَظِّمُونَ الْقُبُورَ وَمَشَاهِدَ الْمَوْتَى، فَيَدْعُونَ الْمَيِّتَ، أَوْ يَدْعُونَ بِهِ، أَوْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الدُّعَاءَ عِنْدَهُ مُسْتَجَابٌ أَقْرَبَ إلَى الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ؛ فَإِنَّهُ ثَبَتَ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؛ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ)).

وَثَبَتَ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسِ لَيَالٍ:  ((إنَّ مِنْ أَمَنِّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَذَاتِ يَدِهِ أَبَا بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا؛ وَلَكِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ، لَا يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ خَوْخَةٌ إلَّا سُدَّتْ؛ إِلَّا خَوْخَةَ أَبِي بَكْرٍ، إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ؛ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ)).

وَفِي ((الصَّحِيحِ)) عَنْهُ أَنَّهُ ذُكِرَ لَهُ فِي مَرَضِهِ كَنِيسَةٌ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَذَكَرُوا مِنْ حُسْنِهَا وَتَصَاوِيرَ فِيهَا، فَقَالَ: ((إنَّ أُولَئِكَ إذَا مَاتَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهَا تِلْكَ التَّصَاوِيرَ، أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).

وَفِي ((الْمُسْنَدِ)) عَنْهُ ﷺ قَالَ: ((إنَّ مِنْ شِرَارِ الْخَلْقِ مَنْ تُدْرِكُهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ)).

وَفِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) عَنْهُ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ، وَلَا تُصَلُّوا إلَيْهَا)).

وَفِي ((الْمُوَطَّأِ)) عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: ((اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ، اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ)).

وَفِي ((السُّنَنِ)) عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: ((لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا، وَصَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ؛ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي)).

وَقَدْ قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى- فِي كِتَابِهِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23].

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنَ السَّلَفِ: ((هَؤُلَاءِ قَوْمٌ كَانُوا صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ، فَلَمَّا مَاتُوا عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِمْ، ثُمَّ صَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ فَعَبَدُوهُمْ، فَكَانَ هَذَا مَبْدَأَ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ)).

فَنَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنِ اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ؛ لِيَسُدَّ بَابَ الشِّرْكِ، كَمَا نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَوَقْتَ غُرُوبِهَا؛ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ -حِينَئِذٍ-، وَالشَّيْطَانُ يُقَارِنُهَا وَقْتَ الطُّلُوعِ وَوَقْتَ الْغُرُوبِ، فَتَكُونُ فِي الصَّلَاةِ -حِينَئِذٍ- مُشَابَهَةٌ لِصَلَاةِ الْمُشْرِكِينَ، فَسَدَّ هَذَا الْبَابَ.

وَالشَّيْطَانُ يُضِلُّ بَنِي آدَمَ بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ، فَمَنْ عَبَدَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْكَوَاكِبَ، وَدَعَاهَا -كَمَا يَفْعَلُ أَهْلُ دَعْوَةِ الْكَوَاكِبِ-؛ فَإِنَّهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ شَيْطَانٌ يُخَاطِبُهُ، وَيُحَدِّثُهُ بِبَعْضِ الْأُمُورِ، وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ رُوحَانِيَّةَ الْكَوَاكِبِ، وَهُوَ شَيْطَانٌ، وَالشَّيْطَانُ وَإِنْ أَعَانَ الْإِنْسَانَ عَلَى بَعْضِ مَقَاصِدِهِ فَإِنَّهُ يَضُرُّهُ أَضْعَافَ مَا يَنْفَعُهُ، وَعَاقِبَةُ مَنْ أَطَاعَهُ إلَى شَرٍّ إلَّا أَنْ يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ عُبَّادُ الْأَصْنَامِ قَدْ تُخَاطِبُهُمُ الشَّيَاطِينُ، وَكَذَلِكَ مَنِ اسْتَغَاثَ بِمَيِّتٍ أَوْ غَائِبٍ، وَكَذَلِكَ مَنْ دَعَا الْمَيِّتَ، أَوْ دَعَا بِهِ، أَوْ ظَنَّ أَنَّ الدُّعَاءَ عِنْدَ قَبْرِهِ أَفْضَلُ مِنْهُ فِي الْبُيُوتِ وَالْمَسَاجِدِ، وَيَرْوُونَ حَدِيثًا هُوَ كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ؛ وَهُوَ: ((إذَا أَعْيَتْكُمُ الْأُمُورُ فَعَلَيْكُمْ بِأَصْحَابِ الْقُبُورِ))، وَإِنَّمَا هَذَا وَضْعُ مَنْ فَتَحَ بَابَ الشِّرْكِ.

وَيُوجَدُ لِأَهْلِ الْبِدَعِ وَأَهْلِ الشِّرْكِ الْمُتَشَبِّهِينَ بِهِمْ مِنْ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ وَالنَّصَارَى وَالضُّلَّالِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَحْوَالٌ عِنْدَ الْمَشَاهِدِ يَظُنُّونَهَا كَرَامَاتٍ، وَهِيَ مِنَ الشَّيَاطِينِ؛ مِثْلُ أَنْ يَضَعُوا سَرَاوِيلَ عِنْدَ الْقَبْرِ، فَيَجِدُونَهُ قَدِ انْعَقَدَ، أَوْ يُوضَعُ عِنْدَهُ مَصْرُوعٌ، فَيَرَوْنَ شَيْطَانَهُ قَدْ فَارَقَهُ.

يَفْعَلُ الشَّيْطَانُ هَذَا لِيُضِلَّهُمْ، وَإِذَا قُرِأْتَ آيَةُ الْكُرْسِيِّ هُنَاكَ بِصِدْقٍ بَطَلَ هَذَا؛ فَإِنَّ التَّوْحِيدَ يَطْرُدُ الشَّيْطَانَ؛ وَلِهَذَا حَمَلَ بَعْضَهُمْ فِي الْهَوَاءِ، فَقَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فَسَقَطَ، وَمِثْلُ أَنْ يَرَى أَحَدُهُمْ أَنَّ الْقَبْرَ قَدِ انْشَقَّ، وَخَرَجَ مِنْهُ إنْسَانٌ، فَيَظُنُّهُ الْمَيِّتَ، وَهُوَ شَيْطَانٌ.

وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ.

وَالنَّاسُ فِي خَوَارِقِ الْعَادَاتِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:

-قِسْمٌ يُكَذِّبُ بِوُجُودِ ذَلِكَ لِغَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَرُبَّمَا صَدَّقَ بِهِ مُجْمَلًا، وَكَذَّبَ مَا يُذْكَرُ لَهُ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ؛ لِكَوْنِهِ عِنْدَهُ لَيْسَ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ.

-وَمِنْهُمْ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ لَهُ نَوْعٌ مِنْ خَرْقِ الْعَادَةِ كَانَ وَلِيًّا لِلَّهِ.

وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ خَطَأٌ؛ وَلِهَذَا تَجِدُ أَنَّ هَؤُلَاءِ يَذْكُرُونَ أَنَّ لِلْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ نُصَرَاءَ يُعِينُونَهُمْ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، وَأُولَئِكَ يُكَذِّبُونَ أَنْ يَكُونَ مَعَهُمْ مَنْ لَهُ خَرْقُ عَادَةٍ.

-وَالصَّوَابُ: الْقَوْلُ الثَّالِثُ؛ وَهُوَ أَنَّ مَعَهُمْ مَنْ يَنْصُرُهُمْ مِنْ جِنْسِهِمْ، لَا مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ ۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51].

وَهَؤُلَاءِ الْعُبَّادُ وَالزُّهَّادُ الَّذِينَ لَيْسُوا مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ الْمُتَّبِعِينَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَقْتَرِنُ بِهِمُ الشَّيَاطِينُ، فَيَكُونُ لِأَحَدِهِمْ مِنَ الْخَوَارِقِ مَا يُنَاسِبُ حَالَهُ؛ لَكِنَّ خَوَارِقَ هَؤُلَاءِ يُعَارِضُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَإِذَا حَصَلَ مَنْ لَهُ تَمَكُّنٌ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ -تَعَالَى- أَبْطَلَهَا عَلَيْهِمْ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي أَحَدِهِمْ مِنَ الْكَذِبِ جَهْلًا أَوْ عَمْدًا، وَمِنَ الْإِثْمِ مَا يُنَاسِبُ حَالَ الشَّيَاطِينِ الْمُقْتَرِنَةِ بِهِمْ؛ لِيُفَرِّقَ اللَّهُ بِذَلِكَ بَيْنَ أَوْلِيَائِهِ الْمُتَّقِينَ، وَبَيْنَ الْمُتَشَبِّهِينَ بِهِمْ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيَاطِينِ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَىٰ مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَىٰ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء: 221-222].

وَالْأَفَّاكُ: الْكَذَّابُ، وَالْأَثِيمُ: الْفَاجِرُ.

وَمِنْ أَعْظَمِ مَا يُقَوِّي الْأَحْوَالَ الشَّيْطَانِيَّةَ: سَمَاعُ الْغِنَاءِ وَالْمَلَاهِي، وَهُوَ سَمَاعُ الْمُشْرِكِينَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35].

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَغَيْرُهُمَا مِنَ السَّلَفِ: ((التَّصْدِيَةُ: التَّصْفِيقُ بِالْيَدِ، وَالْمُكَاءُ: مِثْلُ الصَّفِيرِ، فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَتَّخِذُونَ هَذَا عِبَادَةً، وَأَمَّا النَّبِيُّ ﷺ وَأَصْحَابُهُ فَعِبَادَتُهُمْ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ؛ مِنَ الصَّلَاةِ، وَالْقِرَاءَةِ، وَالذِّكْرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالِاجْتِمَاعَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلَمْ يَجْتَمِعِ النَّبِيُّ ﷺ وَأَصْحَابُهُ عَلَى اسْتِمَاعِ غِنَاءٍ قَطُّ؛ لَا بِكَفٍّ، وَلَا بِدُفٍّ، وَلَا تَوَاجَدَ، وَلَا سَقَطَتْ بُرْدَتُهُ، بَلْ كُلُّ ذَلِكَ كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِحَدِيثِهِ)).

وَكَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ ﷺ إذَا اجْتَمَعُوا أَمَرُوا وَاحِدًا مِنْهُمْ أَنْ يَقْرَأَ، وَالْبَاقُونَ يَسْتَمِعُونَ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَقُولُ لِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: ذَكِّرْنَا رَبَّنَا، فَيَقْرَأُ وَهُمْ يَسْتَمِعُونَ، وَمَرَّ النَّبِيُّ ﷺ بِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَهُوَ يَقْرَأُ، فَقَالَ لَهُ: ((مَرَرْتُ بِكَ الْبَارِحَةَ وَأَنْتَ تَقْرَأُ، فَجَعَلْتُ أَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِكَ)).

فَقَالَ: ((لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكَ تَسْتَمِعُ لَحَبَّرْتُهُ لَكَ تَحْبِيرًا)) أَيْ: لَحَسَّنْتُهُ لَكَ تَحْسِينًا، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ)).

وَقَالَ ﷺ لِابْنِ مَسْعُودٍ: ((اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ)).

فَقَالَ: ((أَقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟!)).

فَقَالَ: ((إنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي)).

((فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى انْتَهَيْتُ إلَى هَذِهِ الْآيَةِ: { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41])).

قَالَ: ((حَسْبُكَ، فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ مِنَ الْبُكَاءِ)).

وَمِثْلُ هَذَا السَّمَاعِ هُوَ سَمَاعُ النَّبِيِّينَ وَأَتْبَاعِهِمْ، كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ فَقَالَ: {أُولَٰئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا ۚ إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَٰنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ۩} [مريم: 58].

وَمَدَحَ -سُبْحَانَهُ- أَهْلَ هَذَا السَّمَاعِ بِمَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ، وَاقْشِعْرَارِ الْجِلْدِ، وَدَمْعِ الْعَيْنِ، فَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23].

وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ۚ لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 2-4].

وَأَمَّا السَّمَاعُ الْمُحْدَثُ، سَمَاعُ الْكَفِّ وَالدُّفِّ وَالْقَصَبِ؛ فَلَمْ يَكُنِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَسَائِرُ الْأَكَابِرِ مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ يَجْعَلُونَ هَذَا طَرِيقًا إلَى اللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَلَا يَعُدُّونَهُ مِنَ الْقُرَبِ وَالطَّاعَاتِ، بَلْ يَعُدُّونَهُ مِنَ الْبِدَعِ الْمَذْمُومَةِ؛ حَتَّى قَالَ الشَّافِعِيُّ: ((خَلَّفْتُ بِبَغْدَادَ شَيْئًا أَحْدَثَتْهُ الزَّنَادِقَةُ يُسَمُّونَهُ التَّغْبِيرَ، يَصُدُّونَ بِهِ النَّاسَ عَنِ الْقُرْآنِ)).

وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ الْعَارِفُونَ يَعْرِفُونَ ذَلِكَ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّ لِلشَّيْطَانِ فِيهِ نَصِيبًا وَافِرًا؛ وَلِهَذَا تَابَ مِنْهُ خِيَارُ مَنْ حَضَرَهُ مِنْهُمْ.

وَمَنْ كَانَ أَبْعَدَ عَنِ الْمَعْرِفَةِ، وَعَنْ كَمَالِ وَلَايَةِ اللَّهِ؛ كَانَ نَصِيبُ الشَّيْطَانِ مِنْهُ أَكْثَرَ، وَهُوَ -يَعْنِي: السَّمَاعَ الْمُحْدَثَ- بِمَنْزِلَةِ الْخَمْرِ، يُؤَثِّرُ فِي النُّفُوسِ أَعْظَمَ مِنْ تَأْثِيرِ الْخَمْرِ؛ وَلِهَذَا إذَا قَوِيَتْ سَكْرَةُ أَهْلِهِ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ الشَّيَاطِينُ، وَتَكَلَّمَتْ عَلَى أَلْسِنَةِ بَعْضِهِمْ، وَحَمَلَتْ بَعْضَهُمْ فِي الْهَوَاءِ، وَقَدْ تَحْصُلُ عَدَاوَةٌ بَيْنَهُمْ كَمَا تَحْصُلُ بَيْنَ شُرَّابِ الْخَمْرِ، فَتَكُونُ شَيَاطِينُ أَحَدِهِمْ أَقْوَى مِنْ شَيَاطِينِ الْآخَرِ، فَيَقْتُلُونَهُ، وَيَظُنُّ الْجُهَّالُ أَنَّ هَذَا مِنْ كَرَامَاتِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ، وَإِنَّمَا هَذَا مُبْعِدٌ لِصَاحِبِهِ عَنِ اللَّهِ، وَهُوَ مِنْ أَحْوَالِ الشَّيَاطِينِ؛ فَإِنَّ قَتْلَ الْمُسْلِمِ لَا يَحِلُّ إلَّا بِمَا أَحَلَّهُ اللَّهُ؛ فَكَيْفَ يَكُونُ قَتْلُ مَعْصُومِ الدَّمِ مِمَّا يُكْرِمُ اللَّهُ بِهِ أَوْلِيَاءَهُ؟!! وَإِنَّمَا (غَايَةُ الْكَرَامَةِ لُزُومُ الِاسْتِقَامَةِ)، فَلَمْ يُكْرِمِ اللَّهُ عَبْدًا بِمِثْلِ أَنْ يُعِينَهُ عَلَى مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَيَزِيدُهُ مِمَّا يُقَرِّبُهُ إلَيْهِ، وَيَرْفَعُ بِهِ دَرَجَتَهُ.

وَذَلِكَ أَنَّ الْخَوَارِقَ مِنْهَا مَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الْعِلْمِ؛ كَالْمُكَاشَفَاتِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الْقُدْرَةِ وَالْمُلْكِ؛ كَالتَّصَرُّفَاتِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَاتِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الْغِنَى عَنْ جِنْسِ مَا يُعْطَاهُ النَّاسُ فِي الظَّاهِرِ؛ مِنَ الْعِلْمِ، وَالسُّلْطَانِ، وَالْمَالِ، وَالْغِنَى.

وَجَمِيعُ مَا يُؤْتِيهِ اللَّهُ لِعَبْدِهِ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ إنِ اسْتَعَانَ بِهِ عَلَى مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ، وَيُقَرِّبُهُ إلَيْهِ، وَيَرْفَعُ دَرَجَتَهُ، وَيَأْمُرُهُ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ؛ ازْدَادَ بِذَلِكَ رِفْعَةً وَقُرْبًا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَعَلَتْ دَرَجَتُهُ، وَإِنِ اسْتَعَانَ بِهِ عَلَى مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ؛ كَالشِّرْكِ، وَالظُّلْمِ، وَالْفَوَاحِشِ؛ اسْتَحَقَّ بِذَلِكَ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ، فَإِنْ لَمْ يَتَدَارَكْهُ اللَّهُ -تَعَالَى- بِتَوْبَةٍ، أَوْ حَسَنَاتٍ مَاحِيَةٍ؛ وَإِلَّا كَانَ كَأَمْثَالِهِ مِنَ الْمُذْنِبِينَ؛ وَلِهَذَا كَثِيرًا مَا يُعَاقَبُ أَصْحَابُ الْخَوَارِقِ تَارَةً بِسَلْبِهَا، كَمَا يُعْزَلُ الْمَلِكُ عَنْ مُلْكِهِ، وَيُسْلَبُ الْعَالِمُ عِلْمَهُ، وَتَارَةً بِسَلْبِ التَّطَوُّعَاتِ، فَيُنْقَلُ مِنَ الْوَلَايَةِ الْخَاصَّةِ إلَى الْعَامَّةِ، وَتَارَةً يَنْزِلُ إلَى دَرَجَةِ الْفُسَّاقِ، وَتَارَةً يَرْتَدُّ عَنِ الْإِسْلَامِ.

وَهَذَا يَكُونُ فِيمَنْ لَهُ خَوَارِقُ شَيْطَانِيَّةٌ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ يَرْتَدُّ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ لَا يَعْرِفُ أَنَّ هَذِهِ شَيْطَانِيَّةٌ؛ بَلْ يَظُنُّهَا مِنْ كَرَامَاتِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، وَيَظُنُّ مَنْ يَظُنُّ مِنْهُمْ أَنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- إذَا أَعْطَى عَبْدًا خَرْقَ عَادَةٍ لَمْ يُحَاسِبْهُ عَلَى ذَلِكَ؛ كَمَنْ يَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ إذَا أَعْطَى عَبْدًا مُلْكًا وَمَالًا وَتَصَرُّفًا لَمْ يُحَاسِبْهُ عَلَيْهِ.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَعِينُ بِالْخَوَارِقِ عَلَى أُمُورٍ مُبَاحَةٍ، لَا مَأْمُورٍ بِهَا وَلَا مَنْهِيٍّ عَنْهَا، فَهَذَا يَكُونُ مِنْ عُمُومِ الْأَوْلِيَاءِ، وَهُمُ الْأَبْرَارُ الْمُقْتَصِدُونَ، وَأَمَّا السَّابِقُونَ الْمُقَرَّبُونَ فَأَعْلَى مِنْ هَؤُلَاءِ.

كَرَامَاتُ الْأَوْلِيَاءِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ سَبَبُهَا الْإِيمَانَ وَالتَّقْوَى، فَمَا كَانَ سَبَبُهُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ فَهُوَ مِنْ خَوَارِقِ أَعْدَاءِ اللَّهِ، لَا مِنْ كَرَامَاتِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، فَمَنْ كَانَتْ خَوَارِقُهُ لَا تَحْصُلُ بِالصَّلَاةِ، وَالْقِرَاءَةِ، وَالذِّكْرِ، وَقِيَامِ اللَّيْلِ، وَالدُّعَاءِ، وَإِنَّمَا تَحْصُلُ عِنْدَ الشِّرْكِ؛ مِثْلَ دُعَاءِ الْمَيِّتِ وَالْغَائِبِ، أَوْ بِالْفِسْقِ وَالْعِصْيَانِ، وَأَكْلِ الْمُحَرَّمَاتِ؛ كَالْحَيَّاتِ، وَالزَّنَابِيرِ، وَالْخَنَافِسِ، وَالدَّمِ، وَغَيْرِهِ مِنَ النَّجَاسَاتِ، وَمِثْلَ الْغِنَاءِ وَالرَّقْصِ؛ لَا سِيَّمَا مَعَ النِّسْوَةِ الْأَجَانِبِ وَالْمُرْدَانِ، وَحَالَةُ خَوَارِقِهِ تَنْقُصُ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ، وَتَقْوَى عِنْدَ سَمَاعِ مَزَامِيرِ الشَّيْطَانِ، فَيَرْقُصُ لَيْلًا طَوِيلًا، فَإِذَا جَاءَتِ الصَّلَاةُ صَلَّى قَاعِدًا، أَوْ يَنْقُرُ الصَّلَاةَ نَقْرَ الدِّيكِ، وَهُوَ يَبْغُضُ سَمَاعَ الْقُرْآنِ، وَيَنْفِرُ عَنْهُ وَيَتَكَلَّفُهُ، لَيْسَ لَهُ فِيهِ مَحَبَّةٌ وَلَا ذَوْقٌ وَلَا لَذَّةٌ عِنْدَ وَجْدِهِ، وَيُحِبُّ سَمَاعَ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ، وَيَجِدُ عِنْدَهُ مَوَاجِيدَ؛ فَهَذِهِ أَحْوَالٌ شَيْطَانِيَّةٌ، وَهُوَ مِمَّنْ يَتَنَاوَلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36].

فَالْقُرْآنُ هُوَ ذِكْرُ الرَّحْمَنِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ۖ وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ} [طه: 124-126].

يَعْنِي: تَرَكْتَ الْعَمَلَ بِهَا.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ قَرَأَ كِتَابَهُ، وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ أَلَّا يَضِلَّ فِي الدُّنْيَا، وَلَا يَشْقَى فِي الْآخِرَةِ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ)).

وَمِمَّا يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ: أَنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا ﷺ إلَى جَمِيعِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، فَلَمْ يَبْقَ إنْسِيٌّ وَلَا جِنِّيٌّ إلَّا وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِيمَانُ بِمُحَمَّدٍ ﷺ، وَاتِّبَاعُهُ؛ فَعَلَيْهِ أَنْ يُصَدِّقَهُ فِيمَا أَخْبَرَ، وَيُطِيعَهُ فِيمَا أَمَرَ، وَمَنْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ بِرِسَالَتِهِ فَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ؛ سَوَاءٌ كَانَ إنْسِيًّا أَوْ جِنِّيًّا.

وَمُحَمَّدٌ ﷺ مَبْعُوثٌ إلَى الثَّقَلَيْنِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدِ اسْتَمَعَتِ الْجِنُّ الْقُرْآنَ، وَوَلَّوْا إلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ، لَمَّا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ بِبَطْنِ (نَخْلَةٍ) لَمَّا رَجَعَ مِنَ الطَّائِفِ، وَأَخْبَرَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا ۖ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءُ ۚ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [الأحقاف: 29-32].

وَأَنْزَلَ اللَّهُ -تَعَالَى- بَعْدَ ذَلِكَ: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ ۖ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 1-6] أَيِ: السَّفِيهُ مِنَّا -فِي أَظْهَرِ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ-، وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: كَانَ الرَّجُلُ مِنَ الْإِنْسِ إذَا نَزَلَ بِالْوَادِي قَالَ: أَعُوذُ بِعَظِيمِ هَذَا الْوَادِي مِنْ شَرِّ سُفَهَاءِ قَوْمِهِ، فَلَمَّا اسْتَغَاثَتِ الْإِنْسُ بِالْجِنِّ ازْدَادَتِ الْجِنُّ طُغْيَانًا وَكُفْرًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا} [الجن: 6-8].

وَكَانَتِ الشَّيَاطِينُ تُرْمَى بِالشُّهُبِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ الْقُرْآنُ؛ لَكِنْ كَانُوا أَحْيَانًا يَسْتَرِقُونَ السَّمْعَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ الشِّهَابُ إلَى أَحَدِهِمْ، فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ ﷺ مُلِئَتِ السَّمَاءُ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا، وَصَارَتِ الشُّهُبُ مُرْصَدَةً لَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَسْمَعُوا، كَمَا قَالُوا: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ ۖ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا} [الجن: 9].

وَقَالَ -تَعَالَى- فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء: 210-212].

قَالُوا: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَٰلِكَ ۖ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} [الجن: 10-11] أَيْ: عَلَى مَذَاهِبَ شَتَّى، كَمَا قَالَ الْعُلَمَاءُ: مِنْهُمُ الْمُسْلِمُ، وَالْمُشْرِكُ، وَالنَّصْرَانِيُّ، وَالسُّنِّيُّ، وَالْبِدْعِيُّ.  

وَمُحَمَّدٌ ﷺ أُرْسِلَ إلَى جَمِيعِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَهَذَا أَعْظَمُ قَدْرًا عِنْدَ اللَّهِ -تَعَالَى- مِنْ كَوْنِ الْجِنِّ سُخِّرُوا لِسُلَيْمَانَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؛ فَإِنَّهُمْ سُخِّرُوا لَهُ يَتَصَرَّفُ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمَلِكِ، وَمُحَمَّدٌ ﷺ أُرْسِلَ إلَيْهِمْ، يَأْمُرُهُمْ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ؛ لِأَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَمَنْزِلَةُ الْعَبْدِ الرَّسُولِ فَوْقَ مَنْزِلَةِ النَّبِيِّ الْمَلِكِ.

وَكُفَّارُ الْجِنِّ يَدْخُلُونَ النَّارَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا مُؤْمِنُوهُمْ فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ.

وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الرُّسُلَ مِنَ الْإِنْسِ، وَلَمْ يُبْعَثْ مِنَ الْجِنِّ رَسُولٌ، لَكِنْ مِنْهُمُ النُّذُرُ.

 وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ الْجِنَّ مَعَ الْإِنْسِ عَلَى أَحْوَالٍ؛ فَمَنْ كَانَ مِنَ الْإِنْسِ يَأْمُرُ الْجِنَّ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ؛ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ، وَطَاعَةِ نَبِيِّهِ، وَيَأْمُرُ الْإِنْسَ بِذَلِكَ؛ فَهَذَا مِنْ أَفْضَلِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَهُوَ فِي ذَلِكَ مِنْ خُلَفَاءِ الرَّسُولِ وَنُوَّابِهِ.

وَمَنْ كَانَ يَسْتَعْمِلُ الْجِنَّ فِي أُمُورٍ مُبَاحَةٍ لَهُ؛ فَهُوَ كَمَنِ اسْتَعْمَلَ الْإِنْسَ فِي أُمُورٍ مُبَاحَةٍ لَهُ؛ وَهَذَا كَأَنْ يَأْمُرَهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ، وَيَنْهَاهُمْ عَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ، وَيَسْتَعْمِلَهُمْ فِي مُبَاحَاتٍ لَهُ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمُلُوكِ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَهَذَا إذَا قُدِّرَ أَنَّهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ -تَعَالَى- فَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ فِي عُمُومِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ.

 وَمَنْ كَانَ يَسْتَعْمِلُ الْجِنَّ فِيمَا يَنْهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ، إمَّا فِي الشِّرْكِ، وَإِمَّا فِي قَتْلِ مَعْصُومِ الدَّمِ، أَوْ فِي الْعُدْوَانِ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ الْقَتْلِ؛ كَتَمْرِيضِهِ، وَإِنْسَائِهِ الْعِلْمَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الظُّلْمِ، وَإِمَّا فِي فَاحِشَةٍ؛ كَجَلْبِ مَنْ يُطْلَبُ مِنْهُ الْفَاحِشَةُ؛ فَهَذَا قَدِ اسْتَعَانَ بِهِمْ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، ثُمَّ إنِ اسْتَعَانَ بِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَإِنِ اسْتَعَانَ بِهِمْ عَلَى الْمَعَاصِي فَهُوَ عَاصٍ؛ إمَّا فَاسِقٌ، وَإِمَّا مُذْنِبٌ غَيْرُ فَاسِقٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَامَّ الْعِلْمِ بِالشَّرِيعَةِ، فَاسْتَعَانَ بِهِمْ فِيمَا يَظُنُّ أَنَّهُ مِنَ الْكَرَامَاتِ؛ مِثْلَ أَنْ يَسْتَعِينَ بِهِمْ عَلَى الْحَجِّ، أَوْ أَنْ يَطِيرُوا بِهِ عِنْدَ السَّمَاعِ الْبِدْعِيِّ، أَوْ أَنْ يَحْمِلُوهُ إلَى عَرَفَاتٍ وَلَا يَحُجَّ الْحَجَّ الشَّرْعِيَّ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، وَأَنْ يَحْمِلُوهُ مِنْ مَدِينَةٍ إلَى مَدِينَةٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَهَذَا مَغْرُورٌ قَدْ مَكَرُوا بِهِ.

وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ قَدْ لَا يَعْرِفُ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْجِنِّ، بَلْ قَدْ سَمِعَ أَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَهُمْ كَرَامَاتٌ وَخَوَارِقُ لِلْعَادَاتِ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ مِنْ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ وَمَعْرِفَةِ الْقُرْآنِ مَا يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ الْكَرَامَاتِ الرَّحْمَانِيَّةِ وَبَيْنَ التَّلْبِيسَاتِ الشَّيْطَانِيَّةِ، فَيَمْكُرُونَ بِهِ بِحَسَبِ اعْتِقَادِهِ، فَإِنْ كَانَ مُشْرِكًا يَعْبُدُ الْكَوَاكِبَ أَوِ الْأَوْثَانَ؛ أَوْهَمُوهُ أَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِتِلْكَ الْعِبَادَةِ، وَيَكُونُ قَصْدُهُ الِاسْتِشْفَاعَ وَالتَّوَسُّلَ بِمَنْ صُوِّرَ ذَلِكَ الصَّنَمَ عَلَى صُورَتِهِ؛ مِنْ مَلَكٍ، أَوْ نَبِيٍّ، أَوْ شَيْخٍ صَالِحٍ، فَيَظُنُّ أَنَّهُ صَالِحٌ، وَتَكُونُ عِبَادَتُهُ فِي الْحَقِيقَةِ لِلشَّيْطَانِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَٰؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم ۖ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ ۖ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ} [سبأ: 40-41].

وَلِهَذَا كَانَ الَّذِينَ يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ يَقْصِدُونَ السُّجُودَ لَهَا فَيُقَارِنُهَا الشَّيْطَانُ عِنْدَ سُجُودِهِمْ لِيَكُونَ سُجُودُهُمْ لَهُ؛ وَلِهَذَا يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِصُورَةِ مَنْ يَسْتَغِيثُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ؛ فَإِنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا، وَاسْتَغَاثَ بِجِرْجِس أَوْ غَيْرِهِ؛ جَاءَ الشَّيْطَانُ فِي صُورَةِ جِرْجِس أَوْ مَنْ يَسْتَغِيثُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مُنْتَسِبًا إلَى الْإِسْلَامِ، وَاسْتَغَاثَ بِشَيْخٍ يُحْسَنُ الظَّنُّ بِهِ مِنْ شُيُوخِ الْمُسْلِمِينَ؛ جَاءَ فِي صُورَةِ ذَلِكَ الشَّيْخِ.

وَكَانَ كَثِيرٌ مِنَ الشُّيُوخِ الَّذِينَ حَصَلَ لَهُمْ كَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ الْخَوَارِقِ إذَا كَذَّبَ بِهَا مَنْ لَمْ يَعْرِفْهَا، وَقَالَ: إنَّكُمْ تَفْعَلُونَ هَذَا بِطَرِيقِ الْحِيلَةِ، كَمَنْ يَدْخُلُ النَّارَ بِحَجَرِ الطَّلْقِ، وَقُشُورِ النَّارَنْجِ، وَدُهْنِ الضَّفَادِعِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحِيَلِ الطَّبِيعِيَّةِ؛ فَيَعْجَبُ هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخُ، وَيَقُولُونَ: نَحْنُ وَاللَّهِ! لَا نَعْرِفُ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْحِيَلِ.

فَلَمَّا ذَكَرَ لَهُمُ الْخَبِيرُ إنَّكُمْ لَصَادِقُونَ فِي ذَلِكَ، وَلَكِنْ هَذِهِ أَحْوَالٌ شَيْطَانِيَّةٌ؛ أَقَرُّوا بِذَلِكَ، وَتَابَ مِنْهُمْ مَنْ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ لَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ، وَتَبَيَّنَ لَهُمْ مِنْ وُجُوهٍ أَنَّهَا مِنَ الشَّيْطَانِ، وَرَأَوْا أَنَّهَا مِنَ الشَّيَاطِينِ لَمَّا رَأَوْا أَنَّهَا تَحْصُلُ بِمِثْلِ الْبِدَعِ الْمَذْمُومَةِ فِي الشَّرْعِ، وَعِنْدَ الْمَعَاصِي لِلَّهِ، فَلَا تَحْصُلُ عِنْدَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ الشَّرْعِيَّةِ؛ فَعَلِمُوا أَنَّهَا -حِينَئِذٍ- مِنْ مَخَارِقِ الشَّيْطَانِ لِأَوْلِيَائِهِ، لَا مِنْ كَرَامَاتِ الرَّحْمَنِ لِأَوْلِيَائِهِ)).

((آثَارُ الْإِيمَانِ بِاسْمَيِ اللهِ (الْوَلِيِّ) وَ(الْمَوْلَى) ))

(الْوَلِيُّ) وَ(الْمَوْلَى) إِذَا آمَنَ الْمُسْلِمُ بِهِمَا؛ أَوْرَثَهُ الْإِيمَانُ بِهَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْحُسْنَى آثَارًا عَجِيبَةً.

((*الْأَثَرُ الْأَوَّلُ: إِثْبَاتُ مَا يَتَضَمَّنُهُ اسْمَا اللهِ (الْوَلِيُّ - الْمَوْلَى) مِنَ الصِّفَاتِ:

اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- الْوَلِيُّ الْمَوْلَى الَّذِي خَلَقَ الْخَلْقَ، فَلَمْ يَتْرُكْهُمْ هَمَلًا، بَلْ تَوَلَّاهُمْ.

قَالَ تَعَالَى: {فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الشورى: ٩].

((فَاللهُ وَحْدَهُ هُوَ الْوَلِيُّ، يَتَوَلَّاهُ عَبْدُهُ بِالْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ، وَيَتَوَلَّى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِإِخْرَاجِهِمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَإِعَانَتِهِمْ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمْ، وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى عِنْدَ الْبَعْثِ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ)).

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} [الأنعام: ٦٢].

وَوَلَايَتُهُ -جَلَّ جَلَالُهُ- لِخَلْقِهِ عَلَى نَوْعَيْنِ:

١ - وَلَايَةٌ عَامَّةٌ.

٢ - وَلَايَةٌ خَاصَّةٌ.

فَالنَّوْعُ الْأَوَّلُ: الْوَلَايَةُ الْعَامَّةُ:

اللهُ -جَلَّ جَلَالُهُ- الْوَلِيُّ الْمَوْلَى، الَّذِي عَمَّتْ وِلَايَتُهُ جَمِيعَ الْخَلْقِ؛ مُؤْمِنَهُمْ وَكَافِرَهُمْ، بَرَّهُمْ وَفَاجِرَهُمْ، صَغِيرَهُمْ وَكَبِيرَهُمْ، ذَكَرَهُمْ وَأُنْثَاهُمْ، الْعَاقِلَ مِنْهُمْ وَغَيْرَ الْعَاقِلِ، قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى: ٢٨].

فَتَوَلَّى السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَمَا فِيهِنَّ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَالْأَجْرَامِ؛ شَمْسًا، وَقَمَرًا، وَنَجْمًا، وَمَا يَتْبَعُهَا مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، قَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد: ٢].

وَتَوَلَّى الْأَرَضِينَ السَّبْعَ وَمَنْ فِيهِنَّ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، يَقُولُ تَعَالَى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (١٥) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: ١٤-١٦].

وَتَوَلَّى الْأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ هُمْ أَتْقَى الْخَلْقِ، كَمَا تَوَلَّى الطُّغَاةَ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ هُمْ أَفْجَرُ الْخَلْقِ، وَتَوَلَّى الشَّابَّ الْقَوِيَّ الْقَادِرَ كَمَا تَوَلَّى الرَّضِيعَ الْعَاجِزَ الَّذِي لَا يَمْلِكُ حَوْلًا وَلَا قُوَّةً، وَتَوَلَّى الصَّحِيحَ الْمُعَافَى كَمَا تَوَلَّى الْمَرِيضَ الطَّرِيحَ، وَتَوَلَّى الْغَنِيَّ الْفَرِحَ كَمَا تَوَلَّى الْفَقِيرَ الْكَسِيرَ، قَالَ تَعَالَى: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: ٢٩].

فَالْكُلُّ تَوَلَّاهُ الْوَلِيُّ الْمَوْلَى بِحُكْمِهِ الْقَدَرِيِّ، فَنَفَذَ فِيهِ مَا شَاءَ مِنْ أَنْوَاعِ التَّدْبِيرِ وَمَا قَضَى مِنَ التَّصْرِيفِ، وَمَا أَرَادَ مِنَ التَّقْدِيرِ خَيْرًا وَشَرًّا، وَنَفْعًا وَضَرًّا، وَحَيَاةً وَمَوْتًا، قَالَ تَعَالَى: {فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الشورى: ٩].

وَتَوَلَّاهُمْ بِمَا قَدَّرَ لَهُمْ مِنْ نِعَمِهِ الَّتِي لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى، وَأَقَامَ لَهُمْ مَصَالِحَهُمْ وَحَاجَاتِهِمْ؛ ابْتَدَأَ بِالْخَلْقِ، ثُمَّ الرِّزْقِ، وَالتَّعْلِيمِ، وَالْحِفْظِ، وَالشِّفَاءِ، وَكَشْفِ الضُّرِّ، وَإِجَابَةِ الدُّعَاءِ، وَإِنْزَالِ الْمَطَرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى: ٢٨].

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: ٢-٣].

فَالْكُلُّ تَحْتَ وِلَايَتِهِ وَرِعَايَتِهِ، وَطَوْع تَقْدِيرِهِ وَحُكْمِهِ، لَا خُرُوجَ لِأَحَدٍ عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ، قَالَ تَعَالَى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: ٢٢].

النَّوْعُ الثَّانِي: الْوَلَايَةُ الْخَاصَّةُ:

فَاللهُ -جَلَّ جَلَالُهُ- الْوَلِيُّ الْمَوْلَى، الَّذِي اخْتَصَّ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ، وَحِزْبَهُ الْمُطِيعِينَ، وَأَوْلِيَاءَهُ الْمُتَّقِينَ بِمَزِيدٍ مِنَ الْوَلَايَةِ وَالرِّعَايَةِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: ٦٨].

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: ١٩].

فَتَوَلَّاهُمُ الْوَلِيُّ الْمَوْلَى بِالْهِدَايَةِ لِلْحَقِّ، وَإِخْرَاجِهِمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي وَالْجَهْلِ إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ وَالْعِلْمِ، قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: ٢٥٧].

وَلَا يَزَالُ -جَلَّ جَلَالُهُ- يَتَوَلَّى مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، فَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَيُخْرِجُ مَنْ شَاءَ مِنَ الْعِصْيَانِ وَالتَّقْصِيرِ وَالتَّفْرِيطِ إِلَى الطَّاعَةِ وَالِاسْتِقَامَةِ، قَالَ تَعَالَى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف: ١٧].

وَتَوَلَّاهُمُ الْوَلِيُّ الْمَوْلَى بِالتَّوْفِيقِ لِلطَّاعَاتِ، وَالْحِفْظِ مِنَ الْمَعَاصِي وَالْآثَامِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ».

تَوَلَّى يُوسُفَ فَحَفِظَهُ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْفِعْلِ الْقَبِيحِ، قَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: ٢٤].

وَتَوَلَّى بَنِي سُلَيْمٍ وَبَنِي حَارِثَةَ فَحَفِظَهُمْ مِنَ الْفَشَلِ وَالْفِرَارِ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، قَالَ -سُبْحَانَهُ-: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: ١٢٢].

وَتَوَلَّاهُمُ الْوَلِيُّ الْمَوْلَى بِالرِّعَايَةِ وَالْحِفْظِ، وَحُسْنِ التَّدْبِيرِ، قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: ٥١].

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف: ١٩٦].

تَوَلَّى يُوسُفَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- طِفْلًا ضَعِيفًا، فَصَرَفَ إِخْوَتَهُ عَمَّا هَمُّوا بِهِ مِنَ الْقَتْلِ، وَتَوَلَّاهُ فِي الْبِئْرِ وَحِيدًا فَحَفِظَهُ مِنْ مَخَاطِرِهِ وَمَخَاوِفِهِ؛ بَلْ وَبَشَّرَهُ بِيَوْمٍ يَجْتَمِعُ فِيهِ بِأَهْلِهِ وَإِخْوَتِهِ، وَيُنَبِّئُهُمْ بِفِعْلِهِمْ، وَتَوَلَّاهُ غُلَامًا مَبِيعًا، فَاشْتَرَاهُ عَزِيزُ مِصْرَ وَأَكْرَمَهُ، وَتَوَلَّاهُ شَابًّا فَآتَاهُ الْحِكْمَةَ وَالْعِلْمَ، وَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَ النِّسْوَةِ، وَتَوَلَّاهُ سَجِينًا فَأَخْرَجَهُ مِنْهُ عَزِيزًا مُمَكِّنًا لَهُ فِي الْأَرْضِ، وَتَوَلَّى كَيْدَهُ لِأَخْذِ أَخِيهِ فَأَخَذَهُ، وَتَوَلَّى أَهْلَهُ فَأَتَى بِهِمْ إِلَيْهِ مِنَ الْبَدْوِ، وَيَتَوَلَّاهُ فِي الْآخِرَةِ كَمَا تَوَلَّاهُ فِي الدُّنْيَا، قَالَ تَعَالَى: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: ١٠١].

وَتَوَلَّى مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- طِفْلًا رَضِيعًا فَحَفِظَهُ فِي الْيَمِّ، وَحَفِظَهُ مِنْ قَتْلِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، ثُمَّ أَعَادَهُ لِأُمِّهِ وَأَهْلِهِ، وَتَوَلَّاهُ شَابًّا فَحَفِظَهُ مِنْ تَآمُرِ الْقَوْمِ عَلَى قَتْلِهِ، وَتَوَلَّاهُ فِي مَدْيَنَ فَرَزَقَهُ عَمَلًا وَمَالًا وَزَوْجًا، ثُمَّ تَوَلَّاهُ بِأَعْظَمِ صُوَرِ الْوِلَايَةِ فَرَزَقَهُ النُّبُوَّةَ وَالرِّسَالَةَ، وَتَوَلَّاهُ بِالنَّصْرِ عَلَى فِرْعَوْنَ وَجُنْدِهِ.

وَكَذَا تَوَلَّى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَنْجَاهُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ وَتَعْذِيبِهِمْ، وَأَغْرَقَ فِرْعَوْنَ وَجُنْدَهُ بِمَرْأَى مِنْهُمْ وَمَسْمَعٍ، وَأَوْرَثَهُمْ أَرْضَ مِصْرَ وَمَكَّنَهُمْ فِيهَا، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ التَّوْرَاةَ هُدًى وَنُورًا، وَعَفَا عَنْهُمْ عِبَادَتَهُمُ الْعِجْلَ، وَطَلَبَهُمُ النَّظَرَ إِلَيْهِ، فَبَعَثَهُمْ بَعْدَ صَعْقِهِمْ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى فِي التِّيهِ، وَفَجَّرَ لَهُمُ الْحَجَرَ بِالْمَاءِ، وَظَلَّلَهُمْ بِالْغَمَامِ، قَالَ -تَعَالَى- عَلَى لِسَانِ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} [الأعراف: ١٥٥].

وَتَوَلَّى خَاتَمَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ مُحَمَّدًا ﷺ؛ فَتَوَلَّاهُ طِفْلًا رَضِيعًا، فَسَخَّرَ حَلِيمَةَ السَّعْدِيَّةَ لِأَخْذِهِ وَرَضَاعِهِ، وَتَوَلَّاهُ يَتِيمًا فَرَعَاهُ جَدُّهُ وَعَمُّهُ، وَأَكْرَمَاهُ أَيَّمَا إِكْرَامٍ، وَتَوَلَّاهُ شَابًّا فَحَفِظَهُ مِنْ سَفَهِ الشَّبَابِ وَسُوءِ فَعَالِهِمْ، فَعُرِفَ بِحُسْنِ السِّيرَةِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَتَوَلَّاهُ بِالزَّوَاجِ مِنْ خَدِيجَةَ خَيْرِ النِّسَاءِ، وَتَوَلَّاهُ فِي الْأَرْبَعِينَ، فَأَكْرَمَهُ بِالْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ، وَأَيَّدَهُ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَتَوَلَّاهُ فَحَفِظَهُ مِنْ كَيْدِ قَوْمِهِ وَإِرَادَتِهِمْ قَتْلَهُ.

وَتَوَلَّاهُ بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَمُنَاصَرَةِ الْأَنْصَارِ، وَتَوَلَّاهُ بِالنَّصْرِ فِي بَدْرٍ، وَالْخَنْدَقِ، وَخَيْبَرَ، وَحُنَيْنٍ، وَتَبُوكَ، وَغَيْرِهَا، وَتَوَلَّاهُ فَجَمَعَ لَهُ الْمَالَ بَعْدَ الْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ، وَتَوَلَّاهُ فَفَتَحَ لَهُ مَكَّةَ، وَدَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا، وَتَوَلَّاهُ فَغَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وَيُكْرِمُهُ فِي الْآخِرَةِ بِالْوَسِيلَةِ، وَالْمَقَامِ الْمَحْمُودِ، قَالَ تَعَالَى: {وَالضُّحَى (١) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (٢) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (٣) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (٤) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (٥) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (٧) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (٨) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} [الضحى: ١ - ٩].

وَتَوَلَّاهُمُ الْوَلِيُّ الْمَوْلَى بِالتَّأْيِيدِ وَالنَّصْرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ، قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا} [النساء: ٤٥].

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} [آل عمران: ١٥٠].

وَلَمَّا قَالَ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمَ أُحُدٍ: ((لَنَا الْعُزَّى، وَلَا عُزَّى لَكُمْ)).

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَجِيبُوهُ)).

قَالُوا: ((مَا نَقُولُ؟)).

قَالَ: قُولُوا: ((اللهُ مَوْلَانَا، وَلَا مَوْلَى لَكُمْ)).

تَوَلَّى أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ، فَنَصَرَهُمْ عَلَى أَقْوَامِهِمْ؛ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ قِلَّةِ الرِّجَالِ، وَضَعْفِ الْعُدَّةِ وَالْعَتَادِ، وَكَثْرَةِ الْعَدُوِّ، وَقُوَّتِهِمْ، وَشِدَّةِ بَطْشِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: ٥١].

وَتَوَلَّى أَتْبَاعَهُمْ؛ فَنَصَرَ صَحَابَةَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَقَبْلَهُمْ نَصَرَ طَالُوتَ، وَدَاوُدَ، وَمُؤْمِنَ آلِ فِرْعَوْنَ، قَالَ تَعَالَى: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} [غافر: ٤٥].

وَهَذِهِ الْوِلَايَةُ الْخَاصَّةُ هِيَ الْوِلَايَةُ الَّتِي نَفَاهَا اللهُ عَنِ الْكَافِرِينَ دُونَ الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ، قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد: ١١].

فَالْوِلَايَةُ الْمَنْفِيَّةُ هُنَا هِيَ وِلَايَةُ الْمَحَبَّةِ، وَالتَّوْفِيقِ، وَالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ، وَهِيَ خَاصَّةٌ بِالْمُؤْمِنِينَ، أَمَّا الْكُفَّارُ فَوَلِيُّهُمُ الشَّيْطَانُ، وَمَوْلَاهُمُ النَّارُ، قَالَ تَعَالَى: {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل: ٦٣]

*الْأَثَرُ الثَّانِي: دَلَالَةُ اسْمِ اللهِ الْوَلِيِّ الْمَوْلَى عَلَى التَّوْحِيدِ:

إِذَا تَأَمَّلَ الْعَبْدُ فِي اسْمِ اللهِ (الْوَلِيِّ) (الْمَوْلَى)؛ قَادَهُ ذَلِكَ إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ فِي الرُّبُوبِيَّةِ، وَالْأُلُوهِيَّةِ، وَالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ.

دَلَالَةُ اسْمِ اللهِ (الْوَلِيِّ) (الْمَوْلَى) عَلَى تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ: أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْوِلَايَةَ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ بِأَفْرَادِ الرُّبُوبِيَّةِ؛ خَلْقًا، وَرِزْقًا، وَتَدْبِيرًا، وَحِفْظًا، وَإِجَابَةً لِلدُّعَاءِ، وَنَفْعًا وَضُرًّا، وَإِحْيَاءً وَإِمَاتَةً، وَنَحْوَ ذَلِكَ، قَالَ تَعَالَى: {فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الشورى: ٩].

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى: ٢٨].

وَهَذَا دَالٌّ عَلَى فَقْرِ الْمَخْلُوقَاتِ عَنْ جَلْبِ هَذِهِ الْأَفْرَادِ لِنَفْسِهَا أَوْ غَيْرِهَا؛ وَبِالتَّالِي وَحْدَانِيَّةُ اللهِ -جَلَّ جَلَالُهُ- وَتَفَرُّدُهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ، كَمَا قَالَ -سُبْحَانَهُ-: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الرعد: ١٦].

دَلَالَةُ اسْمِ اللهِ (الْوَلِيِّ) (الْمَوْلَى) عَلَى تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ: اسْمُ اللهِ (الْوَلِيُّ) (الْمَوْلَى) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَالَمَ الْعُلْوِيَّ وَالسُّفْلِيَّ وَمَنْ فِيهِمَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ كُلَّهُمَا تَحْتَ وِلَايَتِهِ وَتَصْرِيفِهِ وَتَدْبِيرِهِ؛ وَبِالتَّالِي جَمِيعُ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ فَقِيرَةٌ ضَعِيفَةٌ عَاجِزَةٌ، فَلَا خَلْقَ بِيَدِهَا، وَلَا نَفْعَ، وَلَا ضُرَّ، وَلَا رِزْقَ؛ بَلْ وَلَا حَتَّى الشَّفَاعَةَ، كَمَا قَالَ -سُبْحَانَهُ-: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: ٣].

وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهَلْ يَصِحُّ فِي عَقْلٍ أَوْ نَقْلٍ أَنْ يُتَّخَذَ وَلِيًّا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ؟!

أَوْ يُتَّخَذَ شَرِيكًا وَنِدًّا لِلْوَلِيِّ الْمَوْلَى؟!

قَالَ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا} [الرعد: ١٦].

وقال -سُبْحَانَهُ-: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: ١٤].

وَقَالَ -تَعَالَى- مُبَيِّنًا أَنَّهُ الْوَلِيُّ الْحَقُّ الَّذِي لَا تَنْبَغِي الْعِبَادَةُ إِلَّا لَهُ وَحْدَهُ: {فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الشورى: ٩].

دَلَالَةُ اسْمِ اللهِ (الْوَلِيِّ) وَ(الْمَوْلَى) عَلَى تَوْحِيدِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ:

اسْمُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- (الْوَلِيُّ) (الْمَوْلَى) يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ -سُبْحَانَهُ- حَيًّا، مَالِكًا، قَادِرًا، قَوِيًّا، عَلِيمًا، سَمِيعًا، بَصِيرًا، خَالِقًا، رَازِقًا، حَفِيظًا، قَيُّومًا، نَصِيرًا، وَنَحْوَ ذَلِكَ.

وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا: مَا جَاءَ مِنْ آيَاتٍ اقْتَرَنَ فِيهَا هَذَا الِاسْمُ الْكَرِيمُ بِأَسْمَائِهِ الْأُخْرَى أَوْ صِفَاتِهِ؛ كَقَوْلِهِ -سُبْحَانَهُ-: {فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الشورى: ٩].

وَقَوْلِهِ -سُبْحَانَهُ-: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الأنفال: ٤٠].

وَقَوْلِهِ -سُبْحَانَهُ-: {وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى: ٢٨].

فَإِذَا عَلِمَ الْعَبْدُ هَذَا؛ أَقَرَّ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ الْكَرِيمَةِ، وَالصِّفَاتِ الْعَلِيَّةِ الَّتِي يَقْتَضِيهَا اسْمُ اللهِ الْوَلِيُّ الْمَوْلَى عَلَى وَجْهٍ لَا تَحْرِيفَ وَلَا تَعْطِيلَ وَلَا تَكْيِيفَ وَلَا تَمْثِيلَ مَعَهُ؛ امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ -سُبْحَانَهُ-: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: ١١].

*الْأَثَرُ الثَّالِثُ: الثِّقَةُ بِنَصْرِ اللهِ (الْوَلِيِّ) (الْمَوْلَى) لِأَوْلِيَائِهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَحُسْنِ الظَّنِّ بِهِ)).

اللهُ -جَلَّ جَلَالُهُ- وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا، نَصِيرُهُمْ وَظَهِيرُهُمْ، يَنْصُرُهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ، وَإِذَا كَانَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- نَاصِرَكَ فَمَنْ يَقْدِرُ عَلَيْكَ؟!!

{وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَىٰ بِاللَّهِ نَصِيرًا} [النساء: 45].

هُوَ السَّمِيعُ لِلدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ، الْقَرِيبُ مِنْهُمْ قُرْبًا خَاصًّا يَعْتَزُّونَ بِهِ، وَيَسْتَنْصِرُونَهُ فِي قِتَالِهِمْ لِأَعْدَائِهِ وَعَدُوِّهِمْ.

وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي (غَزْوَةِ أُحُدٍ) أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ قَالَ بَعْدَ أَنْ أُصِيبَ الْمُسْلِمُونَ فِي (أُحُدٍ): ((أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ؟)) ﷺ.

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَا تُجِيبُوهُ)).

فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: ((أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ؟)).

فَقَالَ الرَّسُولُ ﷺ: ((لَا تُجِيبُوهُ)).

قَالَ: ((أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ الْخَطَّابِ؟)).

فَقَالَ: ((إِنَّ هَؤُلَاءِ قُتِلُوا؛ فَلَوْ كَانُوا أَحْيَاءً لَأَجَابُوا)).

فَلَمْ يَمْلِكْ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- نَفْسَهُ فَقَالَ: ((كَذَبْتَ عَدُوَّ اللهِ، أَبْقَى اللهُ عَلَيْكَ مَا يُخْزِيكَ)).

فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: ((اعْلُ هُبَل)).

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَجِيبُوهُ)).

قَالُوا: ((مَا نَقُولُ؟)).

قَالَ: قُولُوا: ((اللهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ)).

قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: ((لَنَا الْعُزَّى، وَلَا عُزَّى لَكُمْ)).

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَجِيبُوهُ)).

قَالُوا: ((مَا نَقُولُ؟)).

قَالَ: قُولُوا: ((اللهُ مَوْلَانَا، وَلَا مَوْلَى لَكُمْ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)).

وَهَذَا كُلُّهُ وَقَعَ مِنْ أَبِي سُفْيَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ، وَالْإِسْلَامُ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عِنْدَمَا أَرَادَ أَنْ يُسْلِمَ، فَمَدَّ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ يَدَهُ، فَقَبَضَ عَمْرٌو يَدَهُ، قَالَ: ((مَهْ يَا عَمْرُو!)).

قَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ))، وَذَكَرَ أَشْيَاءَ كَانَتْ مِنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَبْلَ إِسْلَامِهِ.

فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ فِي جُمْلَةِ مَا قَالَ: ((أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ)). وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((الصَّحِيحِ)).

فَهَذَا الَّذِي حَدَثَ مِنَ الْأَصْحَابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- أَوْ مِنْ بَعْضِهِمْ قَبْلَ إِسْلَامِهِمْ.. لَا يُغَيِّرَنَّ ذَلِكَ قَلْبَ عَبْدٍ صَالِحٍ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ؛ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَأَبُو سُفْيَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَ حَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَقَامَ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِحَقِّهِ عَلَيْهِ، وَشَهِدَ (الْيَرْمُوكَ) وَالْمَلَاحِمَ -رَضِيَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُ وَعَنْ جَمِيعِ أَصْحَابِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ-.

((اللهُ مَوْلَانَا، وَلَا مَوْلَى لَكُمْ)).

فَإِذَا كَانَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مُعِينَنَا وَنَاصِرَنَا وَنَصِيرَنَا فَمَنْ يَقْدِرُ عَلَيْنَا؟!!

وَمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسُوقَ الْأَذَى إِلَيْنَا وَنَحْنُ فِي جُنَّةٍ حَصِينَةٍ، وَفِي حُصُونٍ قَوِيمَةٍ لَا يَصِلُ إِلَيْهَا أَبَدًا أَذًى؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَنَالَ مَنْ بِدَاخِلِهَا مِمَّنْ تَحَصَّنَ بِهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ؟!!

((اللهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ)).

فَفِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ -غَزْوَةِ أُحُدٍ- تَنْبِيهٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَتَحْذِيرٌ لَهُمْ وَلِمَنْ بَعْدَهُمْ، وَعِبْرَةٌ لِمَنْ يَعْتَبِرُ عَلَى مَرِّ الْعُصُورِ؛ أَنَّهُ بِقَدْرِ مَا يُوَافِقُ الْمُسْلِمُ كِتَابَ رَبِّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ ﷺ قَوْلًا وَعَمَلًا وَاعْتِقَادًا تَكُونُ لَهُ النُّصْرَةُ وَالْمَعُونَةُ مِنَ اللهِ -جَلَّ شَأْنُهُ-.

وَمَا حَصَلَتْ تِلْكَ الْكَسْرَةُ فِي (أُحُدٍ) إِلَّا بِسَبَبِ مُخَالَفَتِهِمْ لِأَمْرِ نَبِيِّنَا وَنَبِيِّهِمْ ﷺ؛ بِتَرْكِ أَمَاكِنِهِمْ عَلَى الْجَبَلِ بَعْدَ أَنْ رَأَوْا بَشَائِرَ النَّصْرِ، وَهَرَعُوا عِنْدَ رُؤْيَةِ بَشَائِرِ النَّصْرِ إِلَى الْغَنِيمَةِ، فَكَانَ مَا كَانَ مِنْ جَرَّاءِ مُخَالَفَةِ النَّبِيِّ ﷺ.

الْمَقْصُودُ أَنَّهُ بِحَسَبِ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ ﷺ تَكُونُ الْعِزَّةُ وَالْكِفَايَةُ وَالنُّصْرَةُ، كَمَا أَنَّهُ بِحَسَبِ مُتَابَعَتِهِ تَكُونُ الْهِدَايَةُ وَالْفَلَاحُ وَالنَّجَاحُ.

اللهُ -سُبْحَانَهُ- عَلَّقَ سَعَادَةَ الدَّارَيْنِ بِمُتَابَعَةِ النَّبِيِّ ﷺ، وَجَعَلَ شَقَاوَةَ الدَّارَيْنِ فِي مُخَالَفَتِهِ، فَلِأَتْبَاعِهِ الْهُدَى، وَالْأَمْنُ، وَالْفَلَاحُ، وَالْعِزَّةُ، وَالْكِفَايَةُ، وَالنُّصْرَةُ، وَالْوِلَايَةُ وَالتَّأْيِيدُ، وَطِيبُ الْعَيْشِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلِمُخَالِفِيهِ ﷺ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ، وَالْخَوْفُ وَالضَّلَالُ، وَالْخِذْلَانُ وَالشَّقَاءُ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ.

فَعَلَى قَدْرِ الْمُتَابَعَةِ يَكُونُ الْعَطَاءُ.

((إِنَّ اسْمَ اللهِ (الْوَلِيَّ وَ(الْمَوْلَى) وَمَا فِيهِ مِنْ وِلَايَةِ اللهِ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ بِالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ وَالْغَلَبَةِ عَلَى الْأَعْدَاءِ يُثْمِرُ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ الثِّقَةَ بِنَصْرِهِ، وَالِاطْمِئْنَانَ لِوَعْدِهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا} [النساء: ٤٥].

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} [آل عمران: ١٥٠].

وَقَالَ تَعَالَى:َمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: ٥٦].

وَيُثْمِرُ هَذَا -أَيْضًا- الْيَقِينَ بِذَهَابِ أَعْدَاءِ اللهِ، وَإِنْ ظَهَرُوا فِي وَقْتٍ مَا لِحِكْمَةٍ فَنِهَايَتُهُمْ إِلَى ذَهَابٍ؛ لِأَنَّهُمْ مَقْطُوعُو الصِّلَةِ بِاللهِ الْوَلِيِّ الْمَوْلَى، قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد: ١١].

الْأَثَرُ الرَّابِعُ: مَحَبَّةُ اللهِ الْوَلِيِّ الْمَوْلَى -سُبْحَانَهُ-:

إِنَّ اسْمَ (الْوَلِيَّ) وَ(الْمَوْلَى) يَدْفَعُ الْعَبْدَ الْمُسْتَشْعِرَ لِمَعْنَاهُ إِلَى مَحَبَّةِ اللهِ -جَلَّ فِي عُلَاهُ-.

وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا تَوَلَّاهُ أَحَدٌ مِنَ الْبَشَرِ، فَكَفَاهُ حَاجَتَهُ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ بِالطَّعَامِ وَالسِّقَاءِ وَالْإِيوَاءِ، وَحَمَاهُ مِنْ أَعْدَائِهِ؛ أَحَبَّهُ، وَشَعَرَ بِفَضْلِهِ عَلَيْهِ، مَعَ أَنَّ هَذَا الْبَشَرَ إِنَّمَا تَوَلَّاهُ لِحَاجَةٍ وَمَطْلَبٍ فِي نَفْسِهِ، دُنْيَوِيٍّ أَوْ أُخْرَوِيٍّ، وَوِلَايَتُهُ لَا تَنْفَكُّ عَنِ النَّقْصِ وَالْخَلَلِ.

فَإِذَا كَانَ هَذَا هُوَ الْحَالُ؛ فَكَيْفَ لَا يُحَبُّ مَنْ هُوَ وَلِيُّ أُمُورِنَا كُلِّهَا، الْمُتَكَفِّلُ بِهَا جَمِيعِهَا؟!! وَكَيْفَ لَا يُحَبُّ مَنْ هُوَ وَلِيُّ النِّعَمِ كُلِّهَا، وَوَلِيُّ إِحْسَانِ الْخَلْقِ كَافَّةً؟!! فَمَا أَحْسَنَ مَخْلُوقٌ لِمَخْلُوقٍ، وَلَا تَوَلَّى مَخْلُوقٌ مَخْلُوقًا إِلَّا بِتَوَلِّي اللهِ وَتَسْخِيرِهِ لَهُ.

وَكُلُّ ذَلِكَ مَعَ تَمَامِ غِنَاهُ عَنَّا، فَلَا هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْنَا فَيَتَوَلَّى، وَلَا مُفْتَقِرٌ إِلَيْنَا فَيُنْعِمُ، وَإِنَّمَا هُوَ مَحْضُ فَضْلٍ مِنْهُ -سُبْحَانَهُ-: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات: ٥٧].

ثُمَّ إِذَا تَأَمَّلَ الْعَبْدُ فِي وِلَايَتِهِ -جَلَّ جَلَالُهُ-؛ وَجَدَهَا فِي غَايَةِ الْكَمَالِ وَالْجَمَالِ، مَبْنِيَّةً عَلَى عِلْمٍ تَامٍّ، وَحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ، وَرَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ، وَعَدْلٍ لَا ظُلْمَ مَعَهُ؛ أَفَلَا يَكُونُ -جَلَّ جَلَالُهُ- أَحَقَّ بِالْمَحَبَّةِ وَأَوْلَى؟!

الْأَثَرُ الْخَامِسُ: نَيْلُ وِلَايَةِ اللهِ (الْوَلِيِّ) وَ(الْمَوْلَى):

لَا شَكَّ أَنَّ مَعْرِفَةَ اسْمِ (الْوَلِيِّ) وَ(الْمَوْلَى) وَمَا فِيهِ مِنَ الْوِلَايَةِ الْخَاصَّةِ تُثْمِرُ لِأَهْلِهَا ثِمَارًا طَيِّبَةً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، مِنْهَا:

-نَيْلُ مَحَبَّةِ الْوَلِيِّ الْمَوْلَى، قَالَ تَعَالَى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: ٥٤].

وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ..».

-تَوَلِّي الْوَلِيِّ الْمَوْلَى لِشُؤُونِهِمُ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ بِالْإِصْلَاحِ وَحُسْنِ التَّدْبِيرِ، قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: ٥١].

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [التحريم: ٢].

-هِدَايَةُ الْوَلِيِّ الْمَوْلَى لَهُمْ، وَتَوْفِيقُهُمْ لِلْخَيْرَاتِ، قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: ٢٥٧].

وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ الله قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ، وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ».

قَالَ الْخَطَّابِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ: «وَالْمَعْنَى: تَوْفِيقُ اللهِ لِعَبْدِهِ فِي الْأَعْمَالِ الَّتِي يُبَاشِرُهَا بِهَذِهِ الْأَعْضَاءِ، وَتَيْسِيرُ الْمَحَبَّةِ لَهُ فِيهَا؛ بِأَنْ يَحْفَظَ عَلَيْهِ جَوَارِحَهُ، وَيَعْصِمَهُ عَنْ مُوَاقَعَةِ مَا يَكْرَهُ اللهُ؛ مِنَ الْإِصْغَاءِ إِلَى اللَّهْوِ بِسَمْعِهِ، وَمِنَ النَّظَرِ إِلَى مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ بِبَصَرِهِ، وَمِنَ الْبَطْشِ فِي مَا لَا يَحِلُّ لَهُ بِيَدِهِ، وَمِنَ السَّعْيِ إِلَى الْبَاطِلِ بِرِجْلِهِ».

-نَصْرُ الْوَلِيِّ الْمَوْلَى لَهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا} [النساء: ٤٥].

-مَغْفِرَةُ الْوَلِيِّ الْمَوْلَى لِذُنُوبِهِمْ، وَرَحْمَتُهُ بِهِمْ، قَالَ -سُبْحَانَهُ-: {أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} [الأعراف: ١٥٥].

-إِجَابَةُ الْوَلِيِّ الْمَوْلَى لِدُعَائِهِمْ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: ٢٨٦].

قَالَ اللهُ: «قَدْ فَعَلْتُ».

وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ».

-تَثْبِيتُ الْوَلِيِّ الْمَوْلَى لَهُمْ عِنْدَ الْمَصَائِبِ وَالْمَخَاوِفِ؛ لَا سِيَّمَا عِنْدَ الْمَوْتِ، قَالَ تَعَالَى: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [فصلت: ٣٠-٣١].

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: ٦٢].

-إِكْرَامُ الْوَلِيِّ الْمَوْلَى لَهُمْ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ، وَالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ، قَالَ تَعَالَى: {لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: ١٢٧].
وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت: ٣٠ - ٣٢].

هَذِهِ الثِّمَارُ الطَّيِّبَةُ كُلُّهَا تَدْفَعُ الْعَبْدَ إِلَى السَّعْيِ فِي تَحْصِيلِهَا، وَالدُّخُولِ فِي جُمْلَةِ أَهْلِ وَلَايَةِ اللهِ وَحِزْبِهَا، قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: ٥٦].

-الْأَثَرُ السَّادِسُ: مُوَالَاةُ أَوْلِيَاءِ اللهِ وَالْحَذَرُ مِنْ مُعَادَاتِهِمْ:

إِذَا عَلِمَ الْعَبْدُ اسْمَ اللهِ (الْوَلِيَّ) وَ(الْمَوْلَى)، وَمَا يَقْتَضِيهِ مِنِ اتِّخَاذِ اللهِ -جَلَّ جَلَالُهُ- أَوْلِيَاءَ يُحِبُّهُمْ وَيَنْصُرُهُمْ، وَيُعَادِي مَنْ عَادَاهُمْ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ اللهَ -تَعَالَى- قَالَ: مَنْ عَادَى لي وليًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بالحَرْبِ»؛ قَادَهُ ذَلِكَ إِلَى مُوَالَاةِ مَنْ وَالَى اللهَ، وَمَحَبَّتِهِمْ، وَنُصْرَتِهِمْ، وَالتَّبَرُّؤِ مِنْ أَعْدَاءِ اللهِ، وَبُغْضِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة: ٥٥].

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: ٧١].

وَقَالَ -تَعَالَى- فِي الْمَوْقِفِ مِنْ أَعْدَائِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: ٥١].

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: ٢٢].

قَالَ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «فَأَدَاةُ الْحَصْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: ٥٥] تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ قَصْرُ الْوِلَايَةِ عَلَى الْمَذْكُورِينَ، وَالتَّبَرِّي مِنْ وِلَايَةِ غَيْرِهِمْ».

وَهَذَا مِنْ مُقْتَضَيَاتِ عَقِيدَةِ التَّوْحِيدِ الْقَائِمَةِ عَلَى الْوَلَاءِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْبَرَاءَةِ مِنَ الْكَافِرِينَ.

قَالَ ابْنُ رَجَبٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: «وَأَوْلِيَاءُ اللهِ تَجِبُ مُوَالَاتُهُمْ، وَتَحْرُمُ مُعَادَاتُهُمْ، كَمَا أَنَّ أَعْدَاءَهُ تَجِبُ مُعَادَاتُهُمْ، وَتَحْرُمُ مُوَالَاتُهُمْ، قَالَ تَعَالَى: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: ١]، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (٥٥) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: ٥٥ - ٥٦]».

كَمَا يَقُودُهُ إِلَى الْحَذَرِ الشَّدِيدِ مِنْ مُعَادَاةِ أَوْلِيَاءِ اللهِ؛ لَا سِيَّمَا وَأَنَّ اللهَ -جَلَّ جَلَالُهُ- قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ: «مَنْ عَادَى لِي وَليًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ».

وَمَعْنَاهُ: أَعْلَمْتُهُ أَنِّي مُحَارِبٌ لَهُ؛ حَيْثُ كَانَ مُحَارِبًا لِي بِمُعَادَاةِ أَوْلِيَائِي.

قَالَ الشَّوْكَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «قَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ: وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ: تَقْدِيمُ الْإِعْذَارِ عَلَى الْإِنْذَارِ، قُلْتُ: وَوَجْهُهُ: أَنَّهُ لَمَّا قَدَّمَ مُعَادَاةَ مَنْ هُوَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مِنَ الْوِلَايَةِ للهِ؛ فَكَأَنَّهُ أَعْذَرَ إِلَى كُلِّ سَامِعٍ أَنَّ مَنْ هَذَا شَأْنُهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَادَى، بَلْ عَلَى كُلِّ مَنْ عَرَفَ أَنَّ هَذِهِ صِفَتُهُ أَنْ يُوَالِيَهُ وَيُحِبَّهُ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ أَعْذَرَ اللهُ إِلَيْهِ، وَنَبَّهَهُ عَلَى أَنَّ مَنْ عَادَى يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ الْبَالِغَةَ عَلَى عَدَاوَتِهِ، فَقَالَ -مُنْذِرًا لَهُ-: فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ عَلَى مَا صَنَعَ مَعَ وَلِيِّي».

*الْأَثَرُ السَّابِعُ: دُعَاءُ اللهِ بِاسْمِهِ (الْوَلِيِّ) وَ(الْمَوْلَى):

إِنَّ اسْمَ (الْوَلِيِّ) وَ(الْمَوْلَى) يَدْعُو الْعَبْدَ إِلَى دُعَاءِ رَبِّهِ وَالتَّوَسُّلِ إِلَيْهِ بِهَذَا الِاسْمِ الْكَرِيمِ؛ لَا سِيَّمَا وَأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ هُمْ قُدْوَةُ الْخَلْقِ دَعَوْا رَبَّهُمْ بِهِ {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: ٩٠].

فَهَذَا يُوسُفُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- يَدْعُو رَبَّهُ قَائِلًا: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: ١٠١].

وَهَذَا مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَصَالِحُو قَوْمِهِ يَدْعُونَ: {أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} [الأعراف: ١٥٥].

وَهَذَا رَسُولُ اللهِ ﷺ يَدْعُو قَائِلًا: «يَا وَليَّ الإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ! مَسِّكْنِي بِهِ حَتَّى أَلْقَاكَ».

وَهَذَا دُعَاءُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِي أَخْبَرَ اللهُ عَنْهُ: {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: ٢٨٦].

كَمَا يَدْعُو الْعَبْدَ -أَيْضًا- إِلَى سُؤَالِ اللهِ وِلَايَتَهُ وَمُقْتَضَيَاتِهَا؛ مِنَ الْهِدَايَةِ، وَالثَّبَاتِ، وَالنَّصْرِ، وَالرَّحْمَةِ، وَالْمَغْفِرَةِ، وَإِصْلَاحِ الْأَمْرِ الدِّينِيِّ وَالدُّنْيَوِيِّ كُلِّهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكِلَ الْعَبْدَ إِلَى نَفْسِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ)).

((اللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْوَلَايَةَ السُّنِّيَّةَ طَرِيقُهَا لُزُومُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالْعَمَلُ بِذَلِكَ، وَاتِّبَاعُ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ الْأَتْقِيَاءِ الْأَنْقِيَاءِ الْبَرَرَةِ الْكِرَامِ.

قَالَ -تَعَالَى- مُوصِيًا نَبِيَّهُ الْكَرِيمَ ﷺ: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ۚ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۖ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} الجاثية: 18].

((ثُمَّ شَرَعْنَا لَكَ شَرِيعَةً كَامِلَةً تَدْعُو إِلَى كُلِّ خَيْرٍ، وَتَنْهَى عَنْ كُلِّ شَرٍّ مِنْ أَمْرِنَا الشَّرْعِيِّ {فَاتَّبِعْهَا}؛ فَإِنَّ فِي اتِّبَاعِهَا السَّعَادَةَ الْأَبَدِيَّةَ، وَالصَّلَاحَ وَالْفَلَاحَ، {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} أَيِ: الَّذِينَ تَكُونُ أَهَوِيَتُهُمْ غَيْرَ تَابِعَةٍ لِلْعِلْمِ وَلَا مَاشِيَةٍ خَلْفَهُ، وَهُمْ كُلُّ مَنْ خَالَفَ شَرِيعَةَ الرَّسُولِ ﷺ هَوَاهُ وَإِرَادَتُهُ؛ فَإِنَّهُ مِنْ أَهْوَاءِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ.

{إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} أَيْ: لَا يَنْفَعُونَكَ عِنْدَ اللَّهِ فَيُحَصِّلُوا لَكَ الْخَيْرَ، وَيَدْفَعُوا عَنْكَ الشَّرَّ إِنِ اتَّبَعْتَهُمْ عَلَى أَهْوَائِهِمْ، وَلَا تَصْلُحُ أَنْ تُوَافِقَهُمْ وَتُوَالِيَهُمْ؛ فَإِنَّكَ وَإِيَّاهُمْ مُتَبَايِنُونَ، وَبَعْضُهُمْ وَلِيٌّ لِبَعْضٍ، {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِسَبَبِ تَقْوَاهُمْ وَعَمَلِهِمْ بِطَاعَتِهِ)).

فَاللهم يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ أَكْرِمْنَا بِوَلَايَتِكَ، وَبِنُصْرَتِكَ، وَبِمَحَبَّتِكَ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الصَّادِقِينَ الصَّالِحِينَ، وَأَحْسِنْ لَنَا الْخِتَامَ أَجْمَعِينَ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

المصدر: اسْمُ اللهِ الْوَلِيُّ

 

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  مصر وحروب الجيل الرابع
  فَضْلُ يَوْمِ عَرَفَةَ،وَالدُّرُوسُ الْمُسْتَفَادَةُ مِنْ خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ
  من آفات اللسان: الجدال والمراء والمخاصمة
  مَرَاحِلُ وَسِمَاتُ بِنَاءِ الشَّخْصِيَّةِ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ
  الْمُوَاسَاةُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ
  الدِّينُ وَالْإِنْسَانُ
  الْاسْتِعْدَادُ لِرَمَضَانَ... وَكَيْفَ نَحْيَاهُ؟
  الحوثيون ذراع المجوس في اليمن
  التَّاجِرُ الْأَمِينُ
  كَفُّ الْأَذَى عَنِ النَّاسِ صَدَقَةٌ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان