((نِعْمَةُ الْمَاءِ وَضَرُورَةُ الْحِفَاظِ عَلَيْهَا))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((نِعْمَةُ الْمَاءِ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللهِ عَلَيْنَا))
فَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَدْ أَسْبَغَ عَلَيْنَا نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً، مِنَ الْأَكْلِ وَالشَّرَابِ وَاللِّبَاسِ وَالْمَسْكَنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ نِعَمِهِ الَّتِي لَا تُحْصَى وَلَا تُعَدُّ، فَالْأَكْلُ وَالشَّرَابُ عَلَيْنَا فِيهِمَا نِعَمٌ سَابِقَةٌ وَلَاحِقَةٌ.
أَمَّا السَّابِقَةُ: فَإِنَّ هَذَا الْمَاءَ الَّذِي نَشْرَبُهُ مَا جَاءَ بِحَوْلِنَا وَلَا بِقُوَّتِنَا، قَالَ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} [الواقعة: 68-69].
وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك: 30].
وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} [الحجر: 22].
فَبَيَّنَ تَعَالَى نِعْمَتَهُ عَلَيْنَا بِالْمَاءِ النَّازِلِ مِنَ السَّمَاءِ، وَالنَّابِعِ مِنَ الْأَرْضَ عَلَى السَّوَاءِ.
وَالطَّعَامُ الَّذِي نَأْكُلُهُ، فَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ *أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ *لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} [الواقعة: 63-65].
فَهَذِهِ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ مِنَ اللهِ، فَهُوَ الَّذِي زَرَعَهُ، وَنَمَّاهُ حَتَّى تَكَامَلَ، وَيَسَّرَ لَنَا الْأَسْبَابَ الَّتِي تُيَسِّرُ جَنْيَهُ، وَحَصَادَهُ، ثُمَّ طَحْنَهُ وَطَبْخَهُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ النِّعَمِ الْكَثِيرَةِ.
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّهُ لَا يُقَدَّمُ الطَّعَامُ بَيْنَ يَدَيْكَ وَإِلَّا وَفِيهِ ثَلَاثُمِئَةٍ وَسُتُّونَ نِعْمَةً، هَذَا الَّذِي يُدْرَكُ، فَكَيْفَ بِالَّذِي لَا يُدْرَكُ؟!!
ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ نِعَمٌ عِنْدَ تَنَاوُلِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَعِنْدَمَا تَأْكُلُهُ عَلَى جُوعٍ مَاذَا تَكُونُ لَذَّتُهُ؟
وَعِنْدَمَا تَطْعَمُهُ فِي فَمِكَ تَجِدُ لَذَّةً، وَعِنْدَمَا يَمْشِي فِي الْأَمْعَاءِ لَا تَجِدُ تَعَبًا فِي ذَلِكَ.
ثُمَّ إِنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَ غُدَدًا تُفْرِزُ أَشْيَاءَ تُلَيِّنُ هَذَا الطَّعَامَ وَتُخَفِّفُهُ حَتَّى يَنْزِلَ، ثُمَّ إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- جَعَلَ لَهُ قَنَوَاتٍ يَذْهَبُ مَعَهَا الْمَاءُ، وَهُنَاكَ عُرُوقٌ شَارِعَةٌ فِي هَذِهِ الْأَمْعَاءِ تُفَرِّقُ الدَّمَ عَلَى الْجِسْمِ؛ فَأَيْنَ تُوَصِّلُهُ؟
تُوَصِّلُهُ إِلَى الْقَلْبِ.
كُلُّ هَذَا وَنَحْنُ لَا نُحِسُّ بِهَذَا الشَّيْءِ؛ وَإِلَّا فَالْقَلْبُ يُصْدِرُ نَبْضَاتٍ، كُلُّ نَبْضَةٍ تَأْخُذُ شَيْئًا، وَالنَّبْضَةُ الْأُخْرَى تُخْرِجُ شَيْئًا مِنْ هَذَا الدَّمِ- يَعْنِي مَا يَرِدُ إِلَى الْقَلْبِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهُ-، وَمَعَ ذَلِكَ يَذْهَبُ هَذَا الدَّمُ إِلَى جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْجِسْمِ بِشُعَيْرَاتٍ دَقِيقَةٍ مُنَظَّمَةٍ مُرَتَّبَةٍ عَلَى حَسَبِ حِكْمَةِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ.
الْمُهِمُّ مِنْ كُلِّ هَذَا أَنْ نُبَيِّنَ بِهِ أَنَّ للهِ عَلَيْنَا نِعَمًا مَادِيَّةً بَدَنِيَّةً فِي هَذَا الطَّعَامِ، سَابِقَةً عَلَى وُصُولِهِ إِلَيْنَا وَلَاحِقَةً.
ثُمَّ إِنَّ هُنَاكَ نِعَمًا دِينِيَّةً تَتَقَدَّمُ هَذَا الطَّعَامَ وَتَلْحَقُهُ، فَتُسَمِّي عِنْدَ الْأَكْلِ؛ وَتَحْمَدُ إِذَا فَرَغْتَ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدُهُ عَلَيْهَا، وَيَشْرَبُ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدُهُ عَلَيْهَا، وَرِضَا اللهِ غَايَةُ كُلِّ إِنْسَانٍ، فَمَنْ يُحَصِّلُ رِضَا اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؟ هَذِهِ غَايَةٌ عَالِيَةٌ.
فَنَحْنُ نَتَمَتَّعُ بِنِعَمِهِ، فَإِذَا حَمِدْنَاهُ عَلَيْهَا رَضِيَ عَنَّا، وَهُوَ الَّذِي تَفَضَّلَ بِهَا أَوَّلًا.
وَهَذِهِ النِّعْمَةُ -وَهِيَ رِضَا اللهِ- أَكْبَرُ مِنْ نِعْمَةِ الْبَدَنِ.
فَتَأَمَّلْ نِعَمَ اللهِ عَلَيْكَ، فَهِيَ سَابِغَةٌ وَشَامِلَةٌ وَاسِعَةٌ، دِينِيَّةٌ وَدُنْيَوِيَّةٌ، وَبِهَذَا تَعْرِفُ صِدْقَ هَذَه الْآيَةِ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 18].
فَبَيَّنَ اللهُ حَالَ الْإِنْسَانِ وَشَأْنَ الرَّبِّ عِنْدَ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ، فَحَالُ الْعَبْدِ: الظُّلْمُ وَالْكُفْرُ {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}، ظُلْمُ نَفْسِهِ وَكُفْرُ نِعْمَةِ رَبِّهِ، وَشَأْنُ الرَّبِّ -عَزَّ وَجَلَّ-: أَنْ يُقَابِلَ هَذَا الظُّلْمَ وَهَذَا الْكُفْرَ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ -وَللهِ الْحَمْدُ رَبٌّ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَدُودٌ-.
((ثَمَرَاتُ الْمَاءِ الْعَظِيمَةُ فِي الْحَيَاةِ))
إِنَّ نِعْمَةَ الْمَاءِ الَّتِي أَنْعَمَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- بِهَا عَلَيْنَا؛ نِعْمَةٌ جَلِيلَةٌ مِنْ أَجَلِّ نِعَمِ اللهِ.
*وَلِلْمَاءِ ثَمَرَاتٌ عَظِيمَةٌ، وَفَوَائِدُ نَافِعَةٌ جَلِيلَةٌ:
*مِنْ أَعْظَمِ ثَمَرَاتِ الْمَاءِ: أَنَّ اللهَ جَعَلَهُ شَرَابًا لِلْكَائِنَاتِ الْحَيَّةِ: قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ} [النحل: 10].
اللهُ الَّذِي خَلَقَ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ، هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّحَابِ مَاءً حُلْوًا طَهُورًا نَافِعًا، لَكُمْ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ شَرَابٌ تَشْرَبُونَهُ.
*وَمِنْ ثَمَرَاتِ نِعْمَةِ الْمَاءِ: أَنَّهُ سَبَبٌ فِي خُرُوجِ النَّبَاتِ وَالثِّمَارِ لِلْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ: فَقَدْ قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ} [إبراهيم: 32].
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّحَابِ مَاءً، فَأَخْرَجَ بِذَلِكَ الْمَاءِ الْمُخْتَلِطِ بِتُرَابِ الْأَرْضِ، أَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ، وَذَلَّلَ لَكُمُ السُّفُنَ الْجَارِيَةَ عَلَى الْمَاءِ وَفْقَ نِظَامِ الطَّفْوِ الَّذِي قَدَّرَهُ اللهُ فِي كَوْنِهِ؛ لِأَجْلِ الِانْتِفَاعِ بِهَا فِي جَلْبِ الرِّزْقِ مِنْ بَلَدٍ لِآخَرَ.
وَذَلَّلَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ تَشْرَبُونَ مِنْهَا، وَتَسْقُونَ زَرْعَكُمْ، وَأَشْجَارَكُمْ، وَأَنْعَامَكُمْ، وَدَوَابَّكُمْ، وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ أُخْرَى.
وَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)} [النحل: 10-11].
اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّحَابِ مَاءً حُلْوًا طَهُورًا نَافِعًا، لَكُمْ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ شَرَابٌ تَشْرَبُونَهُ.
وَلَكُمْ -أَيُّهَا النَّاسُ- مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ شَجَرٌ يَكُونُ الْمَاءُ سَبَبًا فِي نَبَاتِهِ وَنَمَائِهِ، فَأَنْتُمْ فِيهِ تُطْلِقُونَ أَنْعَامَكُمُ السَّائِمَةُ، تَرْعَى مِنْ أَشْجَارِ الْأَرْضِ وَنَبَاتِهَا.
يُنْبِتُ اللهُ لَكُمْ بِذَلِكَ الْمَاءِ الْحَبَّ الَّذِي يُقْتَاتُ بِهِ، وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ، وَمِنْ سَائِرِ الثَّمَرَاتِ، إِنَّ فِي ظَاهِرَةِ الْمَطَرِ وَمَا فِيهِ مِنْ شَرَابٍ لِلنَّاسِ، وَإِنْبَاتِ أَنْوَاعِ الثِّمَارِ لَعَلَامَةً دَالَّةً عَلَى قُدْرَتِنَا، وَشُمُولِ عِلْمِنَا، وَعَظِيمِ حِكْمَتِنَا، لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فِي دَلَائِلِ قُدْرَتِنَا، وَعَظِيمِ نِعَمِنَا عَلَى عِبَادِنَا.
*وَمِنْ ثَمَرَاتِ نِعْمَةِ الْمَاءِ: أَنَّ اللهَ أَحْيَا بِهِ كُلَّ شَيْءٍ: فَقَدْ قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30]: وَأَنْزَلْنَا الْمَطَرَ مِنَ السَّمَاءِ، وَأَخْرَجْنَا النَّبَاتَ مِنَ الْأَرْضِ، وَأَحْيَيْنَا بِالْمَاءِ النَّازِلِ مِنَ السَّمَاءِ وَالنَّابِعِ مِنَ الْأَرْضِ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ.
*وَمِنْ ثَمَرَاتِ الْمَاءِ فِي الْحَيَاةِ: أَنَّ اللهَ جَعَلَ بِهِ حَيَاةَ الْأَرْضِ: قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [النحل: 65].
وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّحَابِ مَطَرًا، فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بِالنَّبَاتِ وَالزُّرُوعِ بَعْدَ يَبَسِهَا وَجَدْبِهَا، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَدَلَالَةً وَاضِحَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ.
وَقَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: 5].
وَتَرَى -أَيُّهَا النَّاظِرُ الْمُتَأَمِّلُ- بِدَوَامٍ وَتَجَدُّدٍ الْأَرْضَ يَابِسَةً مَيِّتَةً لَا نَبَاتَ فِيهَا، فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَطَرَ؛ تَحَرَّكَ تُرَابُهَا لِأَجْلِ خُرُوجِ النَّبَاتِ، وَانْتَفَخَتْ بِسَبَبِ نُمُوِّ النَّبَاتِ وَتَدَاخُلِ الْمَاءِ، وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ حَسَنٍ جَمِيلِ الْمَنْظَرِ.
قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [الحج: 63].
أَلَمْ تَرَ -أَيُّهَا الْعَاقِلُ الْبَصِيرُ الرَّشِيدُ- نَاظِرًا إِلَى آثَارِ صُنْعِ رَبِّكَ؛ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّحَابِ مَاءً عَلَى أَرْضٍ صَالِحَةٍ لِلْإِنْبَاتِ، فِيهَا بُذُورُ نَبَاتَاتٍ مُنْبَثَّاتٍ فِي تُرْبَتِهَا، فَامْتَصَّتِ الْبُذُورُ الْمُنْبَثَّةُ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْمَاءِ وَمِنْ عَنَاصِرِ تُرَابِ الْأَرْضِ، فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ إِثْرَ نُزُولِ الْمَطَرِ مُخْضَرَّةً بِالنَّبَاتِ الْمُخْتَلِفِ الْأَنْوَاعِ وَالْأَجْنَاسِ.
إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ بِاسْتِخْرَاجِ النَّبَاتِ مِنَ الْأَرْضِ؛ رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَالْحَيَوَانِ، يَنْفُذُ بِصِفَاتِهِ إِلَى أَعْمَاقِ كُلِّ مَوْجُودٍ؛ خَلْقًا وَإِمْدَادًا، وَعِلْمًا وَتَصَارِيفَ، خَبِيرٌ عَلَى سَبِيلِ الشُّهُودِ بِمَا فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ إِذَا تَأَخَّرَ الْمَطَرُ عَنْهُمْ.
*وَمِنَ الْفَوَائِدِ الْعَظِيمَةِ لِلْمَاءِ: أَنَّ بِهِ تَتَحَقَّقُ الطَّهَارَةُ: وَالطَّهَارَةُ مِنْ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ فِي دِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَأَهَمِّيَّتُهَا دَلَّتْ عَلَيْهَا نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ:
قال ربنا -جَلَّ وَعَلَا-: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108].
وقال -جَلَّ وَعَلَا-: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6].
فَالطَّهَارَةُ هِيَ مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ، وَآكَدُ شُرُوطِهَا؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ شَرْطُ صِحَّةٍ لِلصَّلَاةِ، فَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ.
أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ -أَيْ نِصْفُهُ-)).
وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ: ((الْوُضُوءُ شَطْرُ الْإِيمَانِ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: ((حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ)).
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ أَوْ الْمُؤْمِنُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنَيْهِ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ، فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَ مِنْ يَدَيْهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ كَانَ بَطَشَتْهَا يَدَاهُ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ، فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتْ كُلُّ خَطِيئَةٍ مَشَتْهَا رِجْلَاهُ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ، حَتَّى يَخْرُجَ نَقِيًّا مِنَ الذُّنُوبِ)). الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).
هَذَا كُلُّهُ مِمَّا يَدُلُّكَ عَلَى فَضْلِ الطَّهَارَةِ وَعَظِيمِ خَطَرِهَا.
عِبَادَ اللهِ! اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَنْزَلَ مِنَ السَّحَابِ مَاءً حُلْوًا طَهُورًا نَافِعًا، لَكُمْ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ شَرَابٌ تَشْرَبُونَهُ، وَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ، وَذَلَّلَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ تَشْرَبُونَ مِنْهَا، وَتَسْقُونَ زَرْعَكُمْ، وَأَشْجَارَكُمْ، وَأَنْعَامَكُمْ، وَدَوَابَّكُمْ.
وَلَكُمْ -أَيُّهَا النَّاسُ- مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ شَجَرٌ يَكُونُ الْمَاءُ سَبَبًا فِي نَبَاتِهِ وَنَمَائِهِ، فَأَنْتُمْ فِيهِ تُطْلِقُونَ أَنْعَامَكُمُ السَّائِمَةَ، تَرْعَى مِنْ أَشْجَارِ الْأَرْضِ وَنَبَاتِهَا.
وَيُنْبِتُ اللهُ لَكُمْ بِذَلِكَ الْمَاءِ الْحَبَّ الَّذِي يُقْتَاتُ بِهِ، وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ، وَمِنْ سَائِرِ الثَّمَرَاتِ، وَأَحْيَا اللهُ بِهَذَا الْمَاءِ النَّازِلِ مِنَ السَّمَاءِ وَالنَّابِعِ مِنَ الْأَرْضِ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ.
وَاللهُ أَحْيَا بِالْمَاءِ الْأَرْضَ بِالنَّبَاتِ وَالزُّرُوعِ بَعْدَ يَبَسِهَا وَجَدْبِهَا، فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ إِثْرَ نُزُولِ الْمَطَرِ مُخْضَرَّةً بِالنَّبَاتِ.
((دَلَائِلُ أَهَمِّيَّةِ الْمَاءِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ))
*عِبَادَ اللهِ! مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى أَهَمِّيَّةِ نِعْمَةِ الْمَاءِ فِي الْحَيَاةِ: أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ الْمَاءَ الْكَثِيرَ النَّافِعَ ثَمْرَةً لِلْإِيمَانِ وَالْهُدَى وَالتَّقْوَى، وَالِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: قَالَ تَعَالَى: {وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن: 16].
وَأَنَّ الشَّأْنَ الْعَظِيمَ هُوَ: لَوْ اسْتَقَامَ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ عَلَى طَرِيقَةِ الْحَقِّ وَالْإِيمَانِ وَالْهُدَى، وَكَانُوا مُؤْمِنِينَ مُطِيعِينَ لَوَسَّعْنَا عَلَيْهُمُ الرِّزْقَ فِي الدُّنْيَا، وَلَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً كَثِيرًا غَزِيرًا.
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96].
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ تِلْكَ الْمُجَمَّعَاتِ السَّكَنِيَّةِ الْمُهْلَكَةِ؛ آمَنُوا إِيمَانًا صَحِيحًا صَادِقًا، وَاتَّقَوْا عِقَابَ اللهِ بِأَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ؛ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ بَرَكَاتٍ كَثِيرَاتٍ، وَزِيَادَةِ خَيْرَاتٍ مَعْنَوِيَّةٍ وَمَادِّيَّةٍ تَأْتِيهِمْ مِنْ جِهَةِ السَّمَاءِ وَتَأْتِيهِمْ مِنْ جِهَةِ الْأَرْضِ بِالْمَطَرِ وَالنَّبَاتِ وَالْخَيْرِ وَالْأَرْزَاقِ وَالسَّلَامَةِ مِنَ الْآفَاتِ، وَلَكِنْ كَذَّبُوا الرُّسُلَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ بِسَبَبِ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ مِنَ الْأَعْمَالِ الْخَبِيثَةِ.
وَقَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10-12].
فَقُلْتُ -يَعْنِي نُوح -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِقَوْمِي: اطْلُبُوا مِنْ رَبِّكُمْ أَنْ يَغْفِرَ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ بِتَوْبَتِكُمْ عَمَّا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ كُفْرٍ وَفُسُوقٍ، إِنَّهُ كَانَ وَلَمْ يَزَلْ كَثِيرَ الْمَغْفِرَةِ لِذُنُوبِ مَنْ يَرْجِعُ إِلَيْهِ مِنْ عِبَادِهِ بِالْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ.
إِنْ تُؤْمِنُوا وَتُسْلِمُوا، وَتَسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ، وَتَتُوبُوا إِلَيْهِ؛ يُرْسِلْ عَلَى أَرْضِكُمْ وَبِلَادِكُمْ مَاءَ السَّمَاءِ كَثِيرًا مُتَتَابِعًا فِي مَنَافِعِكُمْ وَسُقْيَاكُمْ، وَيُكَثِّرُ أَمْوَالَكُمْ وَأَوْلَادَكُمْ، وَيَجْعَلُ لَكُمْ بَسَاتِينَ تَنْعَمُونَ بِجَمَالِهَا وَثِمَارِهَا، وَيَجْعَلُ لَكُمْ أَنْهَارًا جَارِيَةً؛ لِإِمْتَاعِ نُفُوسِكُمْ وَأَعْيُنِكُمْ، وَلِسُقْيَا الْأَشْجَارِ وَالزُّرُوعِ.
*وَمِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى أَهَمِّيَّةِ وَعِظَمِ شَأْنِ نِعْمَةِ الْمِيَاهِ: أَنَّ اللهَ جَعَلَ حَبْسَ الْمَطَرِ، وَالْجَدْبَ وَالْقَحْطَ الْمُتَرَتِّبَ عَلَيْهِ عُقُوبَةً شَدِيدَةً لِلْكُفْرِ وَالظُّلْمِ وَالْفَسَادِ: فَقَدْ قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف: 130].
وَنُقْسِمُ مُؤَكِّدِينَ أَنَّنَا قَبَضْنَا عَلَى آلِ فِرْعَوْنَ قَبْضَةً مُوجِعَةً بِالْقَحْطِ وَالْجَدْبِ وَالْجُوعِ سَنَةً بَعْدَ سَنَةٍ، وَإِتْلَافِ الْغَلَّاتِ وَبِالْآفَاتِ؛ رَغْبَةً مِنَّا أَنْ يَتَذَكَّرُوا، فَيَتَضَرَّعُوا وَيَسْتَغْفِرُوا، وَيَتُوبُوا إِلَى رَبِّهِمْ -جَلَّ وَعَلَا-.
فَمِنْ أَسْبَابِ حَبْسِ الْأَمْطَارِ وَغَلَاءِ الْأَسْعَارِ الظُّلْمُ وَالْفَسَادُ.
*وَأَخْبَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَنَّ مِنْ عُقُوبَاتِ الذُّنُوبِ مَنْعَ الْمَطَرِ أَوْ نُدْرَتَهُ، وَمَا يَتَرَتِّبُ عَلَيْهِ مِنْ جَدْبٍ وَقَحْطٍ: أَخْرَجَ ابْنُ مَاجَه، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: ((يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ، وَأَعُوذُ بِاللهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ -وَذَكَرَ ﷺ مِنْهَا-: لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا.
وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنْ السَّمَاءِ، وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا)) .
((مُلْكٌ عَظِيمٌ لَا يُسَاوِي شَرْبَةَ مَاءٍ!!))
عِبَادَ اللهِ! هَذِهِ النِّعَمُ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا إِلَّا الْمُوَفَّقُونَ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخَلْقِ لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى هَذِهِ النِّعَمِ، وَلَا يَعُدُّونَهَا شَيْئًا!!
وَالْإِنْسَانُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَعْرِفَ قَدْرَ النِّعْمَةِ إِلَّا إِذَا فَقَدَهَا، وَلِذَلِكَ كَانَ -كَمَا هُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى الْإِمَامِ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-- كَانَ إِذَا مَا خَرَجَ مِنَ الْخَلَاءِ يَقُولُ: ((يَا لَهَا مِنْ نِعْمَةٍ لَوْ قَدَرَهَا النَّاسُ قَدْرَهَا)) .
وَقَدْ اسْتَغَلَّ ذَلِكَ أَحَدُ الْوُعَّاظِ الْأَفْذَاذِ وَهُوَ ابْنُ السَّمَّاكِ)) .
لَمَّا دَخَلَ عَلَى هَارُونَ الرَّشِيدِ، وَكَانَ فِي يَدِهِ جَامٌ مِنْ مَاءٍ -أَيْ: كُوبٌ أَوْ كَأْسٌ فِيهِ مَاءٌ-، فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ: عِظْنِي.
فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! أَرَأَيْتَ لَوُ أَنَّكَ كُنْتَ فِي صَحَرَاءَ مُجْدِبَةٍ، وَانْقَطَعَتْ بِكَ السَّبِيلُ، وَلَمْ تَجِدْ مَاءً وَلَا غِذَاءً، أَكُنْتَ تُعْطِي مَنْ يُعْطِيكَ هَذِهِ الشَّرْبَةَ الَّتِي فِي يَدِكَ نِصْفَ مُلْكِكَ؟!!
وَمُلْكُهُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ هُوَ الَّذِي كَانَ يُقَالُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ: لَا تَغِيبُ عَنْهُ الشَّمْسُ، فَإِنَّهُ كَانَ يَنْظُرُ إِلَى السَّحَابَةِ فِي السَّمَاءِ، وَيَقُولُ لَهَا مُخَاطِبًا: ((امْطُرِي حَيْثَ شِئْتِ فَسَوْفَ يَأْتِينِي خَرَاجُكِ))، فَمَهْمَا نَزَلَ قَطْرُكِ، فَسَوْفَ يَنْزِلُ عَلَى أَرْضٍ عَلَيْهَا تُرَفْرِفُ رَايَةُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.
هَذَا الْمُلْكُ الْفَسِيحُ لَمَّا سَاوَمَ عَلَيْهِ ابْنُ السَّمَّاكِ بِكَأْسٍ مِنْ مَاءٍ، أَوْ سَاوَمَ عَلَى نِصْفِهِ بَدْءًا، قَالَ: أَكُنْتَ تُعْطِي لِمَنْ يُعْطِيكَ هَذِهِ الشَّرْبَةَ الَّتِي فِي يَدِكَ نِصْفَ مُلْكِكَ؟!!
قَالَ: بَلْ أُعْطِيهِ مُلْكِي كُلَّهُ.
لِأَنَّهُ لَا يُسَاوِي حِينَئِذٍ شَيْئًا، وَهَذِهِ الشَّرْبَةُ تُسَاوِي الْحَيَاةَ.
حِينَئِذٍ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّكَ شَرِبْتَهَا فَاحْتُبِسَتْ فِيكَ، أَكُنْتَ تُعْطِي لِمَنْ يُخْرِجُهَا مِنْكَ نِصْفَ الْمُلْكَ الْآخَرَ؟!!
قَالَ: بَلْ أُعْطِيهِ مُلْكِي كُلَّهُ.
قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! فَانْظُرْ إِلَى مُلْكٍ لَا يُسَاوِي عِنْدَ نِعَمِ اللهِ بَوْلَةً وَلَا شَرْبَةً.
فَهَذِهِ النِّعَمُ لَا نَلْتَفِتُ إِلَيْهَا!! وَيُمْكِنُ الْآنَ أَنْ نَلْتَفِتَ إِلَيْهَا؛ عِنْدَمَا نَنْظُرُ إِلَى مُعَانَاةِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَوَاطِنِ الَّتِي ابْتُلِيَ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ بِتَسَلُّطِ الْغَاشِمِينَ الْكَافِرِينَ، وَالْوَاحِدُ مِنْهُمْ لَا يَجِدُ شَرْبَةً مِنْ مَاءٍ هَنِيءٍ، وَقَدْ يَشْرَبُ مِنَ الْمَجَارِي، وَقَدْ يَشْرَبُ بَوْلَهُ هُوَ -إِنْ خَرَجَ مِنْهُ بَوْلٌ وَلَمْ يُصِبْهُ جَفَافٌ-!! وَقَدْ يَتَقَمَّمُ فِي الْمَزْبَلَةِ؛ حَتَّى يَسْتَخْرِجَ فَضَلَاتٍ تَعَافُهَا الْكِلَابُ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَحْيَا عَلَيْهَا وَلَا يَمُوتُ!!
وَأَمَّا الَّذِينَ آتَاهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- النِّعَمَ فَيُسْرِفُونَ وَلَا يَحْمَدُونَ، وَيُبَذِّرُونَ وَلَا يَشْكُرُونَ!! وَلَوْ أَنَّهُمْ رَاقَبُوا نِعْمَةَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِمْ؛ لِعَلِمُوا أَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَدْ وَسَّعَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ وَنَعَّمَهُمْ، فَعَسَى أَلَّا يَكُونَ اسْتِدْرَاجًا.
((ضَرُورَةُ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْمِيَاهِ))
*وُجُوبُ شُكْرِ نِعْمَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ:
إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْعَمَ عَلَيْنَا بِنِعَمٍ كَثِيرَةٍ لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى، وَالْوَاجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَشْكُرَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ عَلَى نِعَمِهِ الَّتِي لَا تُحْصَى وَلَا تُسْتَقْصَى {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34].
فَالْوَاجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَشْكُرَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْنَا، وَلَا يَكُونُ الشُّكْرُ مِنَّا وَاقِعًا إِلَّا إِذَا أَتَيْنَا بِأَرْكَانِهِ، وَحِينَئِذٍ نَكُونُ للهِ عَلَى نِعَمِهِ -وَإِنْ قَصَّرْنَا- شَاكِرِينَ، وَذَلِكَ:
*بِأَنْ نَعْتَرِفَ بِنِعَمِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَيْنَا بَاطِنًا.
*وَنُقِرَّ بِاللِّسَانِ بِهَا ظَاهِرًا.
*وَأَنْ نُصَرِّفَ تِلْكَ النِّعَمَ فِي مَرْضَاةِ الَّذِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْنَا وَأَسْدَاهَا إِلَيْنَا.
فإنْ فَعَلْنَا ذلك؛ كُنَّا شاكرِينَ وإنْ كُنَّا مُقَصِّرِين.
وَكَثِيرٌ مِنْ نِعَمِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ تَمُرُّ عَلَيْنَا مَرًّا، وَقَدْ نَجْحَدُهَا جَحْدًا، وَلَا نُقِرُّ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِهَا لَا ظَاهِرًا وَلَا بَاطِنًا.
عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَعْرِفَ نِعَمَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ نِعَمَ اللهِ الَّتِي تَتَوَاتَرُ مُتَنَزِّلَةً عَلَيْهِ، لَا يُمْكِنُ بِحَالٍ أَنْ تُحْصَى، وَإِنَّمَا هِيَ فِي كَثْرَتِهَا فَوْقَ أَنْ تُسْتَقْصَى، فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَعْلَمَ ذَلِكَ يَقِينًا، وَأَنْ يُقِرَّ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِذَلِكَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، أَنْ يَعْلَمَ بَاطِنًا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْهِ، وَمَا أَسْدَاهُ اللهُ إِلَيْهِ، وَأَنْ يَلْهَجَ بِالثَّنَاءِ عَلَى رَبِّهِ الَّذِي أَنْعَمَ إِلَيْهِ بِمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ نِعَمِهِ الْكَثِيرَةِ بِلِسَانِهِ ظَاهِرًا، وَأَنْ يُصَرِّفَ تِلْكَ النِّعَمَ فِي مَرْضَاةِ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
*وُجُوبُ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْمِيَاهِ، وَعَدَمِ الْإِسْرَافِ فِي اسْتِخْدَامِهَا:
عِبَادَ اللهِ! نِعْمَةُ الْمَاءِ الَّتِي أَنْعَمَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- بِهَا عَلَيْنَا؛ نِعْمَةٌ جَلِيلَةٌ مِنْ أَجَلِّ نِعَمِ اللهِ.
لَقَدْ نَهَى اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عَنِ الْإِسْرَافِ, وَحَذَّرَ مِنْهُ, وَوَصَفَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- بِهِ أَعْدَى أَعْدَائِهِ مِنْ خَلْقِهِ مِنَ الْبَشَرِ فَقَالَ {إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ} [الدخان: ٣١]، وَهُوَ فِرْعَوْنُ اللَّعِينُ, وَصَفَهُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- بِالْإِسْرَافِ, وَحَذَّرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْهُ, وَنَهَى عَنِ الْوُقُوعِ فِيهِ.
قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31].
يَا بَنِي آدَمَ: كُلُوا وَاشْرَبُوا مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ، لَا تُسْرِفُوا بِتَجَاوُزِ الْحَدِّ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ إِلَى مَا يُؤْذِي أَوْ يَضُرُّ، إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ أَسْرَفَ فِي الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَالْمَلْبُوسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِسْرَافَ يُوصِلُ إِلَى الْوُقُوعِ فِي الْمَضَارِّ وَالْمَهَالِكِ، أَوْ الظُّلْمِ وَالتَّحْرِيفِ ِفي الدِّينِ.
وَمَنْ جَعَلَ نَفْسَهُ بِإِرَادَتِهِ فِي زُمْرَةِ الَّذِينَ لَا يُحِبُّهُمُ اللهُ، فَقَدْ جَعَلَهَا عُرْضَةً لِنِقْمَتِهِ وَعَذَابِهِ الشَّدِيدِ.
وَنِعْمَةُ الْمَاءِ الَّتِي أَنْعَمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهَا عَلَى هَذَا الْبَلَدِ بِمَا أَجْرَى فِيهَا مِنَ النَّهْرِ الْمُبَارَكِ, نِعْمَةٌ جَلِيلَةٌ مِنْ أَجَلِّ نِعَمِ اللهِ عَلَى أَهْلِ هَذَا الْبَلَدِ.
فَيَنْبَغِي عَلَيْهِمْ أَنْ يُحَافِظُوا عَلَى تِلْكَ النِّعْمَةِ, وَأَلَّا يُسْرِفُوا فِيهَا مُبَدِّدِينَ إِيَّاهَا, وَهَذَا كُلُّهُ لَا يَرْضَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ, وَلَا يُحِبُّهُ.
فَالْإِسْرَافُ مِنْ خُلُقِ أَتْبَاعِ الشَّيَاطِينِ مِنْ أَعْدَاءِ الدِّينِ، وَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ:
*إِسْرَافٌ كَمِّيٌّ: يَكُونُ بِأَنْ تَبْذُلَ فَوْقَ مَا تَحْتَمِلُهُ طَاقَتُكَ.
*وَأَمَّا الْإِسْرَافُ الْكَيْفِيُّ: فَأَنْ تَتَجَاوَزَ بِذَلِكَ الْإِنْفَاقِ الْحَدَّ, وَلَوْ كَانَ فِي دِرْهَمٍ وَاحِدٍ, فَإِنَّ وَضْعَ الْقَلِيلِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ مِمَّا يُغْضِبُ اللهَ؛ إِسْرَافٌ وَلَوْ كَانَ دِرْهَمًا وَاحِدًا, فَلَيْسَ بِكَثْرَتِهِ عَدًّا, وَإِنَّمَا بِوَضْعِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ كَيْفًا.
فَالْإِسْرَافُ مِنْ حَيْثُ الْكَيْفِ مَا أُنْفِقَ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ, وَطَاعَةِ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ, وَلَوْ كَانَ قَلِيلًا.
فَإِنَّ الْمَرْءَ وَلَوْ مَلَكَ أُلُوفًا مُؤَلَّفَةً, وَأَضْعَافًا مُضَاعَفَةً, وَوَضَعَ دِرْهَمًا وَاحِدًا فِي مَعْصِيَةِ اللهِ, كَانَ مُسْرِفًا مُتَوَعَّدًا بِمَا يُتَوَعَّدُ بِهِ مَنْ أَسْرَفَ, وَتَجَاوَزَ, وَتَعَدَّى, وَظَلَمَ، كَأَنْ يَضَعَ دِرْهَمًا فِي يَدِ فَاجِرَةٍ, أَوْ يَشْتَرِي بِدِرْهَمٍ وَاحِدٍ -وَقَدْ مَلَكَ أُلُوفًا مُؤَلَّفَةً- خَمْرًا, فَهُوَ مُسْرِفٌ, وَإِنْ كَانَ مَا أَنْفَقَهُ قَلِيلًا.
وَأَمَّا وَضْعُ الْكَثِيرِ وَلَوِ اشْتَمَلَ عَلَى الْمَالِ كُلِّهِ فِي طَاعَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ, فَلَا يُعَدُّ إِسْرَافًا, كَمَا فَعَلَ الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-, فَقَدْ أَتَى بِمَالِهِ كُلِّهِ فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ ﷺ صَدَقَةً يَتَصَدَّقُ بِهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ؛ طَاعَةً لِلَّهِ وَطَاعَةً لِرَسُولِ اللهِ ﷺ، فَانْسَلَخَ مِنْ مَالِهِ جَمِيعِهِ, وَلَمْ يُعَدَّ مُسْرِفًا.
فَمَهْمَا وَضَعْتَ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ مَالٍ مِمَّا يَرْضَى اللهُ عَنْهُ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِإِسْرَافٍ.
وَمَهْمَا وَضَعْتَ مِنْ قَطْرَةٍ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي آتَانَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْ فَضْلِهِ وَنِعَمِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ, فَهَذَا إِسْرَافٌ يُبَدِّدُ رُوحَ أُمَّةٍ, وَيُصَحِّرُ أَرْضَ قُطْرٍ مِنْ أَقْطَارِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.
نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُبَارِكَ فِيهِ, وَأَنْ يَحْفَظَهُ وَسَائِرَ أَقْطَارِ الْمُسْلِمِينَ
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ, صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَومِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((الْمُؤَامَرَةُ عَلَى مِيَاهِ الْمِصْرِيِّينَ!!))
*هَلَاكُ الْأُمَّةِ بِالْخِلَافِ وَالْإِسْرَافِ!!
أَمْرَانِ كَبِيرَانِ يَقَعَانِ عَلَى التَّزَامُنِ مِنْ غَيْرِ افْتِرَاقٍ:
خِلَافٌ يَدِبُّ بَيْنَ أَبْنَاءِ الْأُمَّةِ فِي الْقُطْرِ الْوَاحِدِ, وَفِي الْبَلَدِ الْوَاحِدِ, وَفِي النَّجْعِ, وَفِي الْقَرْيَةِ.
وَإِسْرَافٌ نَهَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْهُ, وَحَذَّرَ مِنْهُ.
هَذَانِ الْأَمْرَانِ مِنْ تَهْيِيجِ الْعَدَاوَاتِ بَيْنَ أَبْنَاءِ الْأُمَّةِ, وَمِنَ الْإِسْرَافِ الَّذِي لَا يَلْتَفِتُ إِلَى الْوُقُوعِ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ أَبْنَائِهَا، هَذَانِ فِي كَلِمَتَيْنِ تَوْرَاتِيَّتَيْنِ، لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِمَا كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَحْسَبُونَ أَنَّ أَعْدَاءَهُمْ يُحَارِبُونَهُمْ حَرْبًا عَقَدِيًّةً, وَإِنَّمَا يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الِاسْتِيلَاءَ عَلَى الثَّرْوَاتِ، وَعَلَى احْتِلَالِ الدِّيَارِ وَالْمَمَالِكِ, وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ مِنْ غَيْرِ اسْتِعْبَادِ الْقُلُوبِ!!
فِي ((سِفْرِ إِشْعِيَاءَ, فِي الْإِصْحَاحِ التَّاسِعَ عَشَرَ مِنْ رَقْمِ ثَلَاثَةٍ إِلَى رَقْمِ سَبْعَةٍ))، يَقُولُ: ((وَأُهَيِّجُ مِصْرِيِّينَ عَلَى مِصْرِيِّينَ, فَيُحَارِبُونَ كُلُّ وَاحِدٍ أَخَاهُ, وَكُلُّ وَاحِدٍ صَاحِبَهُ, مَدِينَةٌ مَدِينَةٌ, وَمَمْلَكَةٌ مَمْلَكَةٌ, وَيُهْرَاقُ رُوحُ مِصْرَ دَاخِلَهَا, وَتُنَشَّفُ الْمِيَاهُ مِنَ الْبَحْرِ, وَيَجِفُّ النَّهْرُ وَيَيْبَسُ, وَتُنْتِنُ التُّرَعُ, وَتَضْعُفُ وَتَجِفُّ سَوَاقِي مِصْرَ, وَيَتْلَفُ الْقَصَبُ وَالْأَسَلُ)).
لَوْ أَنَّ إِنْسَانًا قِيلَ لَهُ: إِنَّ مَا يَقَعُ بَيْنَكُمْ -مَعَاشِرَ الْمِصْرِيِّينَ- أَمْرٌ يُبَيَّتُ لَهُ مِنْ قَدِيمٍ, وَهِيَ عَقِيدَةٌ تُعْتَقَدُ, وَتُتَّخَذُ لَهَا التَّدَابِيرُ وَالْخُطَطُ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَصِيرَ وَاقِعًا تَعِيشُونَهُ, وَتَلْفَحُكُمْ نَارُهُ.
((وَأُهَيِّجُ مِصْرِيِّينَ عَلَى مِصْرِيِّينَ, حَتَّى يَكُونَ الْأَخُ يَقْتُلُ أَخَاهُ!!))
وَالنَّصُّ: ((وَأُهَيِّجُ!!)) هَكَذَا!! ((وَأُهَيِّجُ مِصْرِيِّينَ عَلَى مِصْرِيِّينَ!!))
يَتَنَاحَرُونَ يَتَقَاتَلُونَ، يَسْبِي أَحَدُهُمْ أَخَاهُ, وَيَقْتُلُ أَحَدُهُمْ أَخَاهُ, وَيَعْتَدِي أَحَدُهُمْ عَلَى أَخِيهِ.
((وَأُهَيِّجُ مِصْرِيِّينَ عَلَى مِصْرِيِّينَ, فَيُحَارِبُونَ كُلُّ وَاحِدٍ أَخَاهُ, وَكُلُّ وَاحِدٍ صَاحِبَهُ, مَدِينَةٌ مَدِينَةٌ, وَمَمْلَكَةٌ مَمْلَكَةٌ!!))
وَالنَّتِيجَةُ فِي تَخَالُفِ أَبْنَاءِ الْبَلَدِ الْوَاحِدِ, وَفِي تَعَادِي أَبْنَاءِ الْقُطْرِ الْوَاحِدِ, وَفِي اسْتِنْزَافِ طَاقَاتِ وَقُوَّاتِ الْبَلَدِ الْوَاحِدِ بِأَبْنَائِهِ، النَّتِيجَةُ: ((وَيُهْرَاقُ رُوحُ مِصْرَ دَاخِلَهَا!!))
حَفِظَهَا اللهُ وَسَلَّمَهَا وَجَمِيعَ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ؛ إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
لَوْ تَأَمَّلْتَ فِي هَذَا؛ دَلَّكَ عَلَى وُجُوبِ الْتِزَامِ الصَّبْرِ وَالْحِكْمَةِ, وَعَلَى إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَّخَذَ الدِّينُ تُكَأَةً مِنْ أَجْلِ إِرَاقَةِ الدِّمَاءِ, وَوُقُوعِ الْفَوْضَى؛ فَكُلُّ هَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي كِتَابِ اللهِ وَفِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
وَمَنْ وَقَعَ فِيهِ فَهُوَ مُتَّبِعٌ لِأَعْدَاءِ اللهِ, مُنَفِّذٌ لِخُطَطِ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ مِنْ أَتْبَاعِ الشَّيَاطِينِ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ كُلَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِهِمْ قَيْنًا وَعَبْدًا مِنَ الْأُمَمِيِّينَ الَّذِينَ لَا يَرْقُبُونَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً.
فَعَلَى كُلِّ مَنْ كَانَ وَاعِيًا لِدِينِهِ، مُحَافِظًا عَلَى يَقِينِهِ، مُلْتَزِمًا لِأَمْرِ اللهِ، مُتَّبِعًا لِرَسُولِ اللهِ ﷺ، أَنْ يَنْأَى بِنَفْسِهِ عَنْ إِحْدَاثِ الْفَوْضَى وَالشَّرِّ, وَأَنْ يَكُونَ بِمَبْعَدَةٍ عَنْ تَقْرِيبِ مَا هُوَ بَعِيدٌ عَلَى أَعْدَائِنَا حَتَّى يَصِيرَ دَانِيًا, فِيهِ قُرَّةُ الْعَيْنِ لَهُمْ, وَفِيهِ مَا تَرَى مِمَّا يُتَوَعَّدُ بِهِ أَهْلُ مِصْرَ, حَفِظَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَرَعَاهَا وَسَائِرَ بُلْدَانِ الْمُسْلِمِينَ.
هَذَا هُوَ الْأَمْرُ الْأَوَّلُ, فَيَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَحْذَرَ مِنَ التَّخَالُفِ, وَالتَّهَارُجِ, وَالتَّنَاوُشِ, وَالتَّقَاتُلِ, وَالتَّصَارُعِ, وَأَنْ نَكُونَ إِخْوَانًا فِي اللهِ مُتَحَابِّينَ, لَا مُتَدَابِرِينَ, وَلَا مُتَقَاطِعِينَ, دَاعِينَ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ, حَتَّى يَأْذَنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِمَا يَشَاءُ.
نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُسَلِّمَ وَطَنَنَا وَجَمِيعَ أَوْطَانِ الْمُسْلِمِينَ .
وَأَمَّا الْأَمْرُ الثَّانِي فَهُوَ: نِعْمَةُ الْمَاءِ الَّتِي أَنْعَمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهَا عَلَى هَذَا الْبَلَدِ بِمَا أَجْرَى فِيهَا مِنَ النَّهْرِ الْمُبَارَكِ، يَنْبَغِي عَلَيْهِمْ أَنْ يُحَافِظُوا عَلَى تِلْكَ النِّعْمَةِ, وَأَلَّا يُسْرِفُوا فِيهَا مُبَدِّدِينَ إِيَّاهَا.
هَلْ يَجِفُّ النَّهْرُ حَقًّا؟!!
عِبَادِ اللهِ! كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُ أَنَّ مَا يَدُورُ عِنْدَ مَنْبَعِ النِّيلِ, فَيُؤَثِّرُ عَلَى مَصَبِّهِ, أَنَّ ذَلِكَ مُخَطَّطٌ لَهُ تَوْرَاتِيًّا عَلَى حَسَبِ النُّبُوءَةِ, كَمَا فِي الْمَوْضِعِ نَفْسِهِ.
((وَأُهَيِّجُ مِصْرِيِّينَ عَلَى مِصْرِيِّينَ)): فَيُحَارِبُونَ؛ كُلُّ وَاحِدٍ أَخَاهُ, وَكُلُّ وَاحِدٌ صَاحِبَهُ, وَتَقَعُ الْفَوْضَى فِي الْقُطْرِ الَّذِي نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَحْفَظَهُ بِحِفْظِهِ الْجَمِيلِ.
((مَدِينَةٌ مَدِينَةٌ, وَمَمْلَكَةٌ مَمْلَكَةٌ, وَيُهْرَاقُ رُوحُ مِصْرَ دَاخِلَهَا)).
ثُمَّ يَأْتِي الشِّقُّ الثَّانِي:
((وَتُنَشَّفُ الْمِيَاهُ مِنَ الْبَحْرِ))؛ لِأَنَّ الْمَاءَ إِذَا قَلَّ عِنْدَ الْمَصَبِّ, وَهُوَ يَصُبُّ -أَيِ النَّهْرُ- فِي الْبَحْرِ, كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ, تَتَحَقَّقُ هَذِهِ النُّبُوءَةُ فِي سِفْرِ إِشْعَيَاءَ, فِي الْأَصْحَاحِ التَّاسِعَ عَشَرَ مِنْ رَقْمِ ثَلَاثَةٍ إِلَى رَقْمِ سَبْعَةٍ، ((وَتُنَشَّفُ الْمِيَاهُ مِنَ الْبَحْرِ!!))
وَهُمْ يُحَاوِلُونَ تَحْوِيلَ الْمَجْرَى عِنْدَ الْمَنْبَعِ بِأَنْ يَصُبَّ النَّهْرُ فِي الْبَحْرِ الْأَحْمَرِ, وَأَلَّا يَمْضِيَ فِي طَرِيقِهِ كَمَا هُوَ مَعْهُودٌ مَرْسُومٌ لَهُ -بِقَدَرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ-.
حَاوَلُوا ذَلِكَ فَلَمْ يُفْلِحُوا, ثُمَّ يُحَاوِلُونَ مَا يُحَاوِلُونَ؛ حَتَّى لَا يَصِلَ إِلَى هَذِهِ الدِّيَارِ الَّتِي نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَحْفَظَهَا, وَأَنْ يُبَارِكَ فِي أَبْنَائِهَا, وَأَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ قُلُوبِ أَهْلِهَا حُكَّامًا وَمَحْكُومِينَ؛ حَتَّى يَكُونُوا جَمِيعًا عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ فِي طَاعَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ, وَاتِّبَاعِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ ﷺ.
فَتَقِلُّ الْمِيَاهُ, وَحِينَئِذٍ تَقَعُ النُّبُوءَةُ, وَهُمْ قَوْمٌ عَمَلِيُّونَ, لَيْسُوا بِخَيَالِيِّينَ يَعْرِفُونَ كَيْفَ يُنَفِّذُونَ, وَيُخَطِّطُونَ قَبْلَ التَّنْفِيذِ, وَيُحْسِنُونَ التَّنْفِيذَ بَعْدَ التَّخْطِيطِ؛ مِنْ أَجْلِ الْوُصُولِ إِلَى تَحْقِيقِ النُّبُوءَةِ, وَهِيَ عِنْدَهُمْ مَعْصُومَةٌ وَلَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهَا!!
((وَتُنَشَّفُ الْمِيَاهُ مِنَ الْبَحْرِ, وَيَجِفُّ النَّهْرُ))؛ يَعْنِي نَهْرَ مِصْرَ, نَهْرَ النِّيلَ.
((وَيَيْبَسُ وَتَنْتَنُ التُّرَعُ, وَتَضْعُفُ, وَتَجِفُّ سَوَاقِي مِصْرَ, وَيَتْلَفُ الْقَصَبُ وَالْأَسَلُ)).
*سَدُّ النَّهْضَةِ الْإِثْيُوبِيُّ وَالْمُؤَامَرَةُ الْيَهُودِيَّةُ عَلَى مِيَاهِ النِّيلِ:
وَمِنَ الْمُؤَامَرَاتِ عَلَى مِيَاهِ النِّيلِ فِي مِصْرَ: اقْتَرَبَتْ أَنَّ دَوْلَةَ إِثْيُوبِيَا مِنْ إِتْمَامِ الْبِنْيَةِ الرَّئِيسَةِ لِلسَّدِّ الْمَعْرُوفِ بِاسْمِ ((سَدِّ النَّهْضَةِ))، بِسِعَةِ أَرْبَعَةٍ وَسَبْعِينَ مِنَ الْأَمْتَارِ الْمُكَعَّبَةِ مِنَ الْمِيَاهِ (74 مِلْيَار م3) تُحْجَزُ وَرَاءَ ذَلِكَ السَّدِّ.
وَقَدْ بَدَأَتْ (أَدِيس أَبَابَا) فِعْلِيًّا فِي بِنَاءِ هَيْكَلِهِ، مَعَ ازْدِيَادِ وَاشْتِدَادِ الْأَزْمَاتِ الدَّاخِلِيَّةِ وَالْحَرْبِ عَلَى مَا يُعْرَفُ بِالْإِرْهَابِ، فَانْشَغَلَتِ الْحُكُومَةُ عَنْ مَلَفِّ الْمِيَاهِ الْمُتَعَلِّقِ مُبَاشَرَةً بِأَمْنِهَا الْقَوْمِيِّ، بَلْ بِوُجُودِ مِصْرَ نَفْسِهَا.
تَنْقَسِمُ مَصَادِرُ الْمِيَاهِ فِي مِصْرَ إِلَى مَصَادِرَ تَقْلِيدِيَّةٍ:
*مِيَاهٍ مُتَجَدِّدَةٍ سَطْحِيَّةٍ وَجَوْفِيَّةٍ.
*وَمَصَادِرَ غَيْرِ تَقْلِيدِيَّةٍ، وَهِيَ حَصَادُ الْأَمْطَارِ وَالسُّيُولِ.
وَتَعْتَمِدُ بِلَادُنَا بِشَكْلِ مُبَاشِرٍ كَامِلٍ عَلَى الْمِيَاهِ السَّطْحِيَّةِ الْقَادِمَةِ مِنْ نَهْرِ النِّيلِ بِنِسْبَةٍ تَتَجَاوَزُ خَمْسَةً وَتِسْعِينَ بِالْمِئَةِ (95%).
وَاسْتِهْلَاكَاتُ مِيَاهِ الشُّرْبِ تَتَجَاوَزُ تِسْعَةَ مِلْيَارِ مِتْرٍ مُكَعَّبٍ مِنَ الْمِيَاهِ (9 مِلْيَار م3) سَنَوِيًّا، فِيمَا تَزِيدُ اسْتِهْلَاكَاتُ مِيَاهِ الرَّيِّ عَنْ ثَلَاثَةِ وَسِتِّينَ مِلْيَارِ مِتْرٍ مُكَعَّبٍ (63 مِلْيَار م3) سَنَوِيًّا، أَرْبَعَةٌ وَثَمَانُونَ مِلْيَارًا مِنَ الْأَمْتَارِ الْمُكَعَّبَةِ (84 مِلْيَار م3) مِنَ الْمِيَاهِ تَأْتِي لِمِصْرَ عَنْ طَرِيقِ نَهْرِ النِّيلِ، مِنْهَا أَكْثَرُ مِنْ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلْيَارِ مِتْرٍ مُكَعَّبٍ (72 مِلْيَار م3) مِنْ إِثْيُوبِيَا وَحْدَهَا، وَثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ مِنَ الْمِلْيَارَاتِ مِنَ الْأَمْتَارِ الْمُكَعَّبَةِ (48 مِلْيَار م3) مِنَ الْمِيَاهِ تَأْتِي مِنَ النِّيلِ الْأَزْرَقِ الْمُقَرَّرِ إِقَامَةِ السَّدِّ عَلَيْهِ.
وَامْتِلَاءُ بُحَيْرَةِ سَدِّ النَّهْضَةِ عَلَى الْمُسْتَوَى الْمُتَوَسِّطِ سَيَتَسَبَّبُ فِي اسْتِنْزَافِ بُحَيْرَةِ السَّدِّ الْعَالِي بِأَكْمَلِهَا؛ لِتَعْوِيضِ النَّقْصِ الْحَادِثِ فِي مِيَاهِ النِّيلِ، وَالْمُتَرَتِّبِ عَلَى حَجْزِ مِلْيَارَاتِ الْأَمْتَارِ الْمُكَعَّبَةِ خَلْفَ السَّدِّ الْإِثْيُوبِيِّ.
هَذِهِ النَّتَائِجُ قَدْ تُؤَدِّي إِلَى تَشْرِيدِ مِلْيُونَيْ أُسْرَةٍ مِنَ الْمِصْرِيِّينَ، وَفِقْدَانِ مَا يَزِيدُ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ بِالْمِئَةِ (12%) مِنَ الْإِنْتَاجِ الزِّرَاعِيِّ، بِالْإِضَافَةِ إِلَى تَلَوُّثِ الْمِيَاهِ، وَزِيَادَةِ نِسْبَةِ الْمُلُوحَةِ فِي الْأَرْضِ، وَالْعَجْزِ فِي سَدِّ احْتِيَاجَاتِ مِيَاهِ الشُّرْبِ، عِلَاوَةً عَلَى فَقْدٍ فِي الطَّاقَةِ الْكَهْرُبَائِيَّةِ سَيَصِلُ إِلَى إِنْتَاجِ صِفْرِيٍّ فِي السَّنَةِ السَّادِسَةِ لِمَلْءِ الْبُحَيْرَةِ الْإِثْيُوبِيَّةِ خَلْفَ السَّدِّ.
إِقَامُةُ سَدِّ النَّهْضَةِ بِتَصْمِيمِهِ الْحَالِي، وَاسْتِكْمَالِ الْمَشْرُوعِ الْهَادِفِ إِلَى بِنَاءِ أَرْبَعَةِ سُدُودٍ أُخْرَى عَلَى النَّهْرِ الْأَزْرَقِ، تَتَسَبَّبُ جَمِيعُهَا فِي جَفَافِ مَجْرَى نَهْرِ النِّيلِ خِلَالَ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ عَامًا عَلَى الْأَكْثَرِ.
لِكَيْ يَتَحَقَّقُ مَا يَقُولُهُ الْيَهُودُ فِي كِتَابِهِمْ: ((وَيَجِفُّ النَّهْرُ، وَتُنْتِنُ التُّرَعُ، وَلَا يَبْقَى فِي مِصْرَ إِلَّا الْقَصَبُ، إِلَّا الْأَسَلُ، وَيَنْحَازُ الْمِصْرِيُّونَ إِلَى خَمْسِ مُدَنٍ حَقِيرَةٍ!!))
*جَرِيمَةُ الْإِخْوَانِ وَالتَّكْفِيرِيِّينَ بِإِلْهَاءِ الْحُكُومَةِ الْمِصْرِيَّةِ عَنْ مُشْكِلَةِ الْمِيَاهِ:
مَا الَّذِي يَشْغَلُ عَنِ الْجِدِّيَّةِ الْجَادَّةِ فِي مُعَالَجَةِ هَذَا الْأَمْرِ الْمَصِيرِيِّ بِالنِّسْبَةِ لِمِصْرَ وَالْمِصْرِيِّينَ الَّذِي يَمَسُّ وُجُودَهُمْ فِي الصَّمِيمِ، يَمَسُّ وُجُودَ مِصْرَ كَمِصْرَ، لَا كَحُكُومَةٍ، وَلَا كَمُؤَسَّسَاتٍ، وَإِنَّمَا كَوُجُودٍ، مَا الَّذِي يَشْغَلُ عَنْ هَذَا؟!!
مَا يَصْنَعُهُ أُولَئِكَ الْمُجْرِمُونَ مِنَ الْإِخْوَانِ الْمُسْلِمِينَ وَمِنْ أَشْيَاعِهِمْ فِي هَذَا الَّذِي يَعْبَثُونَ بِهِ بِمَصِيرِ هَذَا الْبَلَدِ -وَإِلَى اللهِ الْمُشْتَكَى-.
إِنَّ جَرِيمَةَ إِلْهَاءِ الدَّوْلَةِ عَمَّا يَنْبَغِي أَنْ تَتَصَدَّى لَهُ مِنَ الْمَشَاكِلِ الْعَظِيمَةِ جَرِيمَةٌ هِيَ مِنَ الْخِيَانَةِ الْعُظْمَى بِمَكَانٍ سَحِيقٍ، إِنَّ الْمِيَاهَ الَّتِي يُؤْتِينَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنَ النِّيلِ يُتَآمَرُ عَلَيْهَا؛ حَتَّى تَتَصَحَّرَ أَرْضُنَا، وَحَتَّى تَمْلَأَ الْجُرْذَانُ الْفِجَاجَ كُلَّهَا وَالدُّورَ، وَحَتَّى يَصِيرَ الْمِصْرِيُّونَ إِلَى مَجَاعَةٍ عَظِيمَةٍ، يَمُوتُ فِيهَا مَنْ يَمُوتُ، وَيَأْكُلُ فِيهَا النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا!!
إِنَّ هَذِهِ الْجَرِيمَةَ إِنَّمَا أَسَّسَ لَهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ قَامُوا بِالْفَوْضَى فِي الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ يَنَايَر، وَمَا زَالُوا يَقُومُونَ بِالْفَوْضَى إِلَى يَوْمِ النَّاسِ هَذَا، وَمَا كَانَتْ إِثيُوبِيَا لِتَسْتَطِيعَ أَنْ تَفْعَلَ شَيْئًا لَوُ كَانَتِ الدَّوْلَةُ الْمِصْرِيَّةُ مُتَمَاسِكَةً قَوِيَّةً عَزِيزَةً، وَلَكِنْ لَمَّا انْشَغَلَتِ الدَّوْلَةُ بِأَبْنَائِهَا، وَانْشَغَلَ أَبْنَاءُ الدَّوْلَةِ بِالدَّوْلَةِ يُرِيدُونَ إِسْقَاطَ نِظَامِهَا، لَمَّا انْشَغَلَ أُولَئِكَ بِأُولَئِكَ؛ وَقَعَ مَا وَقَعَ وَمَا زَالَ يَقَعُ إِلَى يَوْمِ النَّاسِ هَذَا.
هَذِهِ مِنْ أَكْبَرِ الْمَخَاطِرِ، أَلَا يَفْهَمُونَ؟!!
لَنْ تَجِدَ الْأَجْيَالُ الْقَادِمَةُ -بَلْ هَذَا الْجِيلُ لَوْ امْتَدَّ بِهِ الْعُمُرُ نَحْوًا مِنْ الِامْتِدَادِ- لَنْ يَجِدَ الْمَاءَ، سَيَكُونُ أَعَزَّ عِنْدَهُ مِنَ الذَّهَبِ وَلَنْ يَجِدْهُ -إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا-، وَالْمَاءُ شُرْيَانُ الْحَيَاةِ.
وَكَمَا قَالَ (هِيرُودُوت) قَدِيمًا وَهُوَ يُؤَرِّخُ فِيمَا يُؤرِّخُ لَهُ: ((إِنَّ مِصْرَ هِبَةُ النِّيلِ))، وَيُتَآمَرُ عَلَيْهِ الْآنَ؛ لِأَنَّ الدَّوْلَةَ تُشْغَلُ فِي الدَّاخِلِ وَفِي الْخَارِجِ بِالزَّيْتِ وَالسُّكَّرِ وَمَا أَشْبَهَ مِنَ الْأَزْمَاتِ الْمُفْتَعَلَةِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَغُضَّ الطَّرْفَ عَمَّا يَحْدُثُ فِي الشَّمَالِ الشَّرْقِيِّ فِي إِيجَادِ مَا يُسَمَّى بِالْوَطَنِ الْبَدِيلِ.
وَهِيَ الْمُؤَامَرَةُ الْإِخْوَانِيَّةُ الْحَمَاسِيَّةُ الْأَمْرِيكِيَّةُ الصُّهْيُونِيَّةُ الصَّلِيبِيَّةُ؛ بِمَا يُسَمَّى بِالْوَطَنِ الْبَدِيلِ مِنَ الْأَرْضِ الْمِصْرِيَّةِ مَعَ ضَيَاعِ الْقُدْسِ، مَعَ ضَيَاعِ الْمُقَدَّسَاتِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْمُؤَامَرَاتِ، وَهِيَ مَكْشُوفَةٌ ظَاهِرَةٌ.
تُشْغَلُ الدَّوْلَةُ بِأُولَئِكَ الْخَوَنَةِ الْأَغْرَارِ، وَمَنْ يُسَانِدُهُمْ وَيَخْرُجُ مَعَهُمْ مِنَ الْأَغْمَارِ الْمُغَفَّلِينَ الَّذِينَ لَا يَدْرُونَ الْحَقِيقَةَ، وَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى مَآلَاتِ الْأُمُورِ؛ فَيَخْرُجُونَ، وَكُلٌّ يُغَنِّي عَلَى لَيْلَاهُ!! وَيَجْمَعُهُمْ فِي الْمُنْتَهَى هَذَا الْخُرُوجُ، الَّذِي يُضْعِفُ الدَّوْلَةَ وَيُسْقِطُ هَيْبَتَهَا، فَلَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تُدَافِعَ عَنْ حُدُودِهَا الْغَرْبِيَّةِ مِنْ تَسَلُّلِ الْمُتَسَلِّلِينَ مِنَ التَّكْفِيرِيِّينَ وَالْإِرْهَابِيِّينَ.
وَلَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تُحَافِظَ عَلَى حِصَّتِهَا مِنْ مَاءِ النِّيلِ، وَلَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَتَقَدَّمَ فِي النُّمُوِّ، وَلَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَفْعَلَ شَيْئًا لِتَرْقِيَةِ التَّنْمِيَةِ فِي أَيِّ مَجَالٍ مِنَ الْمَجَالَاتِ، مَعَ الْإِفْسَاحِ لِذَهَابِ هَيْبَةِ الدَّوْلَةِ بِالْفَسَادِ وَالْمُفْسِدِينَ، فَتَتَعَمَّقُ الْفَجْوَةُ بَيْنَ النِّظَامِ وَبَيْنَ الشَّعْبِ، وَمِنْ ثَمَّ يَنْشَأُ مَا يَنْشَأُ مِنْ هَذَا الَّذِي تَرَوْنَهُ وَسَوْفَ تَرَوْنَهُ -إِنْ لَمْ يَلْطُفْ بِنَا رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا--.
عَلَيْنَا أَنْ نَكُونَ وَاعِينَ؛ لِأَنَّ مَخْرَجَنَا فِي التَّمَسُّكِ بِكِتَابِ رَبِّنَا وَسُنَّةِ نَبِيِّنَا عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ, وَمَا كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ النَّبِيِّ ﷺ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ, يُرْفَعُ النِّزَاعُ, وَيَضْمَحِلُّ الْخِلَافُ, وَتَأْتَلِفُ الْقُلُوبُ, وَيَتَّحِدُ الصَّفُّ كُلُّهُ صَفًّا وَاحِدًا.
نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُسَلِّمَ وَطَنَنَا, وَجَمِيعَ أَوْطَانِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ عَوَادِي الشَّرِّ كُلِّهَا بَادِيهَا وَخَافِيهَا, ظَاهِرَهَا وَبَاطِنَهَا؛ إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
وَصَلَّي اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ .
المصدر:نِعْمَةُ الْمَاءِ وَضَرُورَةُ الْحِفَاظِ عَلَيْهَا