أُمَّةُ اقْرَأْ.. أُمَّةُ أَتْقِنْ..بَيْنَ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ وَعُلَمَاءِ الْفِتْنَةِ

أُمَّةُ اقْرَأْ.. أُمَّةُ أَتْقِنْ..بَيْنَ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ وَعُلَمَاءِ الْفِتْنَةِ

((أُمَّةُ اقْرَأْ.. أُمَّةُ أَتْقِنْ..

بَيْنَ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ وَعُلَمَاءِ الْفِتْنَةِ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((فَضَائِلُ الْعِلْمِ))

((فَقَدْ مَدَحَ اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الْعِلْمَ وَأَهْلَهُ، وَحَثَّ عِبَادَهُ عَلَى الْعِلْمِ وَالتَّزَوُّدِ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ السُّنَّةُ الْمُطَهَّرَةُ.

فَالْعِلْمُ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَهُوَ مِنْ أَفْضَلِ وَأَجَلِّ الْعِبَادَاتِ؛ عِبَادَاتِ التَّطَوُّعِ؛ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَإِنَّ دِينَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- إِنَّمَا قَامَ بِأَمْرَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: الْعِلْمُ وَالْبُرْهَانُ.

وَالثَّانِي: الْقِتَالُ وَالسِّنَانُ.

فَلَا بُدَّ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُومَ دِينُ اللهِ وَيَظْهَرَ إِلَّا بِهِمَا جَمِيعًا، وَالْأَوَّلُ مِنْهُمَا مُقَدَّمٌ عَلَى الثَّانِي، وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ لَا يُغِيرُ عَلَى قَوْمٍ حَتَّى تَبْلُغَهُمُ الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَيَكُونُ الْعِلْمُ قَدْ سَبَقَ الْقِتَالَ.

قَالَ تَعَالَى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر: 9].

فَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ مُقَابِلٍ؛ أَمَّنْ هُوَ قَائِمٌ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ؛ أَيْ: كَمَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَالطَّرَفُ الثَّانِي الْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ لِلْعِلْمِ بِهِ.

فَهَلْ يَسْتَوِي مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا أَوْ قَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ، هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ هُوَ مُسْتَكْبِرٌ عَنْ طَاعَةِ اللهِ؟

الْجَوَابُ: لَا يَسْتَوِي؛ فَهَذَا الَّذِي هُوَ قَانِتٌ يَرْجُو ثَوَابَ اللهَ وَيَحْذَرُ الْآخِرَةَ، هَلْ فِعْلُهُ ذَلِكَ عَنْ عِلْمٍ أَوْ عَنٍ جَهْلٍ؟

الْجَوَابُ: عَنْ عِلْمٍ، وَلَذَلِكَ قَالَ: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ}  [الزمر: 9].

لَا يَسْتَوِي الَّذِي يَعْلَمُ وَالَّذِي لَا يَعْلَمُ، كَمَا لَا يَسْتَوِي الْحَيُّ وَالْمَيِّتُ، وَالسَّمِيعُ وَالْأَصَمُّ، وَالْبَصِيرُ وَالْأَعْمَى.

الْعِلْمُ نُورٌ يَهْتَدِي بِهِ الْإِنْسَانُ، وَيَخْرُجُ بِهِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، الْعِلْمُ يَرْفَعُ اللهُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ؛ {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11].

وَلِهَذَا نَجِدُ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ مَحَلُّ الثَّنَاءِ، كُلَّمَا ذُكِرُوا أُثْنِيَ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا رَفْعٌ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، أَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّهُمْ يَرْتَفِعُونَ دَرَجَاتٍ بِحَسَبِ مَا قَامُوا بِهِ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ وَالْعَمَلِ بِمَا عَمِلُوا.

إِنَّ الْعَابِدَ حَقًّا هُوَ الَّذِي يَعْبُدُ رَبَّهُ عَلَى بَصِيرَةٍ وَيَتَبَيَّنُ لَهُ الْحَقُّ، وَهَذِهِ سَبِيلُ النَّبِيِّ ﷺ: {قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108].

فَالْإِنْسَانُ الَّذِي يَتَطَهَّرُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ عَلَى طَرِيقٍ شَرْعِيٍّ، هَلْ هُوَ كَالَّذِي يَتَطَهَّرُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ رَأَى أَبَاهُ أَوْ أُمَّهُ يَتَطَهَّرَانِ؟

أَيُّهُمَا أَبْلَغُ فِي تَحْقِيقِ الْعِبَادَةِ؛ رَجُلٌّ يَتَطَهَّرُ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ اللهَ أَمَرَ بِالطَّهَارَةِ، وَأَنَّهَا هِيَ طَهَارَةُ النَّبِيِّ ﷺ، فَيَتَطَهَّرُ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللهِ وَاتِّبَاعًا لِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، أَمْ رَجُلٌ آخَرُ يَتَطَهَّرُ لِأَنَّ هَذَا هُوَ الْمُعْتَادُ عِنْدَهُ؟

بِلَا شَكٍّ أَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الَّذِي يَعْبُدُ اللهَ عَلَى بَصِيرَةٍ.

فَهَلْ يَسْتَوِي هَذَا وَذَاكَ، وَإِنْ كَانَ فِعْلُ كُلٍّ مِنْهُمَا وَاحِدًا، لَكِنْ هَذَا عَنْ عِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ يَرْجُو اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- وَيَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَشْعَرُ بِأَنَّهُ مُتَّبِعٌ لِلرَّسُولِ ﷺ.

بِالْعِلْمِ يَعْبُدُ الْإِنْسَانُ رَبَّهُ عَلَى بَصِيرَةٍ، فَيَتَعَلَّقُ قَلْبُهُ بِالْعِبَادَةِ وَيَتَنَوَّرُ قَلْبُهُ بِهَا، وَيَكُونُ فَاعِلًا لَهَا عَلَى أَنَّهَا عِبَادَةٌ لَا عَلَى أَنَّهَا عَادَةٌ، وَلِهَذَا إِذَا صَلَّى الْإِنْسَانُ عَلَى هَذَا النَّحْوِ فَإِنَّهُ مَضْمُونٌ لَهُ مَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ مِنْ أَنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ.

وَمِنْ أَهَمِّ فَضَائِلِ الْعِلْمِ:

 *أَنَّهُ إِرْثُ الْأَنْبِيَاءِ؛ فَالْأَنْبِيَاءُ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لَمْ يُوَرِّثُوا دِرْهَمًا وَلَا دِينَارًا، وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ بِالْعِلْمِ فَقَدْ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ مِنْ إِرْثِ الْأَنْبِيَاءِ.

إِذَا كُنْتَ فِي هَذَا الْقَرْنِ الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ فَأَنْتَ مِنْ وُرَّاثِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ، وَهَذَا مِنْ أَكْثَرِ الْفَضَائِلِ.

*وَمِنْ فَضَائِلِ الْعِلْمِ: أَنَّهُ يَبْقَى، وَأَمَّا الْمَالُ فَيَفْنَى، وَأَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَانَ مِنْ فُقَرَاءِ الصَّحَابَةِ، وَكَانَ فِي بَدْءِ الْأَمْرِ بَعْدَ هِجْرَتِهِ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ، حَتَّى إِنَّهُ كَانَ يَسْقُطُ كَالْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ وَمَا بِهِ سِوَى الْجُوعِ.

وَكَانَ يَسِيرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مَعَ بَعْضِ الصَّحَابَةِ يَسْتَقْرِئُهُ الْآيَةَ وَهِيَ مَعَهُ؛ رَجَاءَ أَنْ يَدْعُوَهُ إِلَى بَيْتِهِ وَأَنْ يَنْقَلِبَ بِهِ إِلَيْهِ حَتَّى يُصِيبَ عِنْدَهُ طَعَامًا وَشَرَابًا.

وَأَسْأَلُكُمْ بِاللهِ، هَلْ يَجْرِي لِأَبِي هُرَيْرَةَ ذِكْرٌ بَيْنَ النَّاسِ فِي عَصْرِنَا أَوْ لَا؟ نَعَمْ يَجْرِي كَثِيرًا، فَيَكُونُ لِأَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَجْرُ مَنِ انْتَفَعَ بِمَا نَقَلَ مِنْ أَحَادِيثِ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ فَالْعِلْمُ يَبْقَى، وَالْمَالُ يَفْنَى.

فَعَلى طَالِبِ الْعِلْمِ أَنْ يَسْتَمْسِكَ بِالْعِلْمِ، وَفِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ -وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ))، وَالْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ- قَالَ: ((إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ، انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ  عِلْمٍ  يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ)) .

فَالْعِلْمُ يَبْقَى، وَالْمَالُ إِنْ لَمْ يُوْضَعْ مَوْضِعَهُ فَإِنَّهُ يَفْنَى، وَيَكُونُ وَبَالًا عَلَى صَاحِبِهِ.

وَصَاحِبُ الْعِلْمِ لَا يَتْعَبُ فِي حِرَاسَتِهِ، بَلِ الْعِلْمُ يَحْرُسُهُ، وَأَمَّا صَاحِبُ الْمَالِ فَهُوَ لِلْمَالِ حَارِسٌ، الْعِلْمُ يَحْرُسُكَ، وَأَنْتَ تَحْرُسُ الْمَالَ.

 إِذَا رَزَقَكَ اللهُ عِلْمًا فَمَحَلُّهُ فِي الْقَلْبِ، لَا يَحْتَاجُ إِلَى صَنَادِيقَ أَوْ مَفَاتِيحَ أَوْ غَيْرِهَا.

هُوَ فِي الْقَلْبِ مَحْرُوسٌ، وَفِي النَّفْسِ مَحْرُوسٌ، وَهُوَ حَارِسٌ لَكَ؛ لِأَنَّهُ يَحْمِيكَ مِنَ الْخَطَرِ -بِإِذْنِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ--، فَالْعِلْمُ يَحْرُسُكَ، وَأَمَّا الْمَالُ فَأَنْتَ تَحْرُسُهُ، تَجْعَلُهُ فِي الصَّنَادِيقِ وَرَاءَ الْأَغْلَاقِ، وَتُعَيِّنُ لَهُ حَارِسًا مِنْ نَفْسِكَ أَوْ مِنْ سِوَاهَا، وَتَكُونُ غَيْرَ مُطْمَئِنٍّ مَعَ ذَلِكَ عَلَيْهِ.

*وَمِنْ فَضَائِلِ الْعِلْمِ: أَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الشُّهَدَاءِ عَلَى الْحَقِّ؛ كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} {آل عمران: 18].

لَمْ يَقُلْ: ((وَأُولُو الْمَالِ))، وَإِنَّمَا قَالَ: {وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ}.

فاسْتَشْهَدَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى خَيْرِ مَشْهُودٍ عَلَيْهِ خَيْرَ خَلْقِهِ بَعْدَ أَنْ شَهِدَ هُوَ تَعَالَى بِنَفْسِهِ: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ}، وَهَذَا أَجَلُّ مَشْهُودٍ عَلَيْهِ: {أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ}، فَشَهِدَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَلَى ذَلِكَ، وَاسْتَشْهَدَ -جَلَّ وَعَلَا- خِيَارَ خَلْقِهِ {وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ}.

فَيَكْفِي طَالِبَ الْعِلْمِ فَخْرًا أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ مَعَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ بِوَحْدَانِيَّةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

وَمِنْ فَضَائِلِ الْعِلْمِ: أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ هُوَ أَحَدُ صِنْفَيْ وُلَاةِ الْأَمْرِ الَّذِينَ أَمَرَ اللهُ بِطَاعَتِهِمْ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ} [النساء: 59].

فَوُلَاةُ الْأُمُورِ هَاهُنَا تَشْمَلُ وُلَاةَ الْأُمُورِ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْحُكَّامِ، وَالْعُلَمَاءِ وَطَلَبَةِ الْعِلْمِ، وَوِلَايَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي بَيَانِ شَرِيعَةِ اللهِ وَدَعْوَةِ النَّاسِ إِلَيْهَا، وَوِلَايَةُ الْأُمَرَاءِ فِي تَنْفِيذِ شَرِيعَةِ اللهِ وَإِلْزَامِ النَّاسِ بِهَا.

وَالْمُلُوك حُكَّامٌ عَلَى النَّاسِ، وَالْعُلَمَاءُ حُكَّامٌ عَلَى الْمُلُوكِ، فَلَيْسَ فَوْقَ الْعَالِمِ أَحَدٌ مِمَّنْ يَتَوَلَّى وِلَايَةً أَوْ يَتَوَلَّى مَمْلَكَةً أَوْ يَحْكُمُ أُمَّةً إِلَّا إِذَا كَانَ عَالِمًا.

وَأَهْلُ الْعِلْمِ هُمُ الْقَائِمُونَ عَلَى أَمْرِ اللهِ تَعَالَى حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، كما في حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ((مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَاللهُ مُعْطِي، وَلَنْ تَزَالَ هَذِ الْأُمَّةُ قَائِمَةً عَلَى أَمْرٍ اللهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهُ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانٌ لِهَذِهِ الطَّائِفَةِ الَّتِي لَا تَزَالُ ظَاهِرَةً لَا يَضُرُّهَا مَنْ خَالَفَهَا حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ تَعَالَى وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ.

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ هَذِهِ الطَّائِفَةِ الْمَنْصُورَةِ: ((إِنْ لَمْ يَكُونُوا أَهْلُ الْحَدِيثِ فَلَا أَدْرِي مَنْ هُمْ)) .

وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَرَادَ أَحْمَدُ أَهْلَ السُّنَّةِ وَمَنْ يَعْتَقِدُ مَذْهَبَ الْحَدِيثِ)).

فَلَا يَذْهَبَنَّ وَهْمُ وَاهِمٍ إِلَى أَنَّ أَهْلَ الْحَدِيثِ هَاهُنَا هُمُ الَّذِينَ يُقْبِلُونَ عَلَى الْعِلْمِ -عِلْمِ الْحَدِيثِ- تَعَلُّمًا لَهُ رِوَايَةً وَدِرَايَةً، فَإِنَّ الْمَرْءَ يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَهُوَ أُمِّيٌّ وَلَا مُشَارَكَةَ لَهُ فِي طَلَبِ عِلْمِ الْحَدِيثِ، وَلَكِنَّهُ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْحَدِيثِ؛ عَلَى اعْتِقَادِهِمْ وَعَلَى طَرِيقَتِهِمْ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي وَصْفِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ.

فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا سُئِلَ عَنْهَا قَالَ: ((هُمْ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي)).

فَكُلُّ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا كَانَ عَلَيْهِ الرَّسُولُ ﷺ فِي الِاعْتِقَادِ، فِي الْعِبَادَةِ، فِي الْمُعَامَلَةِ، فِي الْأَخْلَاقِ، فِي السُّلُوكِ، بِالْجُمْلَةِ فِي الْمِنْهَاجِ، مَنْ كَانَ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ فَهُوَ مِنْ تِلْكَ الْفِرْقَةِ الَّتِي جَعَلَ لَهَا النَّجَاةَ بِأَمْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

وَمِنَ الْفَضَائِلِ الْعَظِيمَةِ لِلْعِلْمِ: أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ لَمْ يُرَغِّبْ أَحَدًا أَنْ يَغْبِطَ أَحَدًا عَلَى شَيْءٍ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ اللهُ بِهَا إِلَّا عَلَى نِعْمَتَيْنِ؛ هُمَا:

1- طَلَبُ الْعِلْمِ وَالْعَمَلُ بِهِ.

2- التَّاجِرُ الَّذِي جَعَلَ مَالَهُ خِدْمَةً لِلْإِسْلَامِ.

فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٍ آتَاهُ اللهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٍ آتَاهُ اللهُ حِكْمَةً فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا)).

هَذَا الْحَسَدُ هُوَ الْغِبْطَةُ، وَهُوَ أَنْ يَتَمَنَّى الْإِنْسَانُ أَنْ يُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ الْمَغْبُوطُ مَعَ بَقَاءِ النِّعْمَةِ عَلَيْهِ، فَلَا يَتَمَنَّى زَوَالَهَا عَنْهُ، بَلْ وَلَا يَكْرَهُ أَنْ يُنْعِمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِ بِهَا؛ لِأَنَّ الْحَسَدَ فِي تَعْرِيفِهِ الصَّحِيحِ هُوَ كَرَاهَةُ النِّعْمَةِ عَلَى الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ بِهَا.

فَمَهْمَا أَنْعَمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى أَخِيكَ مِنْ نِعْمَةٍ فَكَرِهْتَ هَذِهِ النِّعْمَةَ عِنْدَهُ فَأَنْتَ لَهُ حَاسِدٌ، لَا تَتَمَنَّى زَوَالَهَا عَنْهُ؛ هَذَا إِمْعَانٌ وَتَوَغُّلٌ فِي الْحَسَدِ!!

((لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ)): هَذَا الْحَسَدُ لَيْسَ بِالْحَسَدِ الْمَذْمُومِ، وَإِنَّمَا هُوَ الْغِبْطَةُ كَمَا قَالَ الْعُلَمَاءُ.

وَمِنْ فَضَائِلِ الْعِلْمِ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَثَلُ مَا بَعَثَنِيَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ، كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ قَبِلَتْ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتْ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ.

وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتْ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا مِنْهَا وَسَقَوْا وَرَعَوْا.

وَأَصَابَ طَائِفَةً مِنْهَا أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ بِمَا بَعَثَنِيَ اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ)).

عِبَادَ اللهِ! عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُصَنِّفَ نَفْسَهُ الْآنَ -كَمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ- عَلَى طَائِفَةٍ مِمَّا ذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ تِلْكَ الْأَرْضِ، كُلٌّ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَضَعَ نَفْسَهُ فِي مَوْضِعِهِ عَلَى حَسَبِ مَا قَسَّمَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي قَبُولِ الْأَرْضِ لِلْغَيْثِ.

فَمِنَ الْأَرْضِ مَا يَقْبَلُ الْغَيْثَ -غَيْثَ السَّمَاءِ- لِيُنْبِتَ الزَّرْعَ وَالْكَلَأَ، وَمِنَ الْأَرْضِ مَا يُمْسِكُ الْمَاءَ وَلَا يُسَرِّبُهُ، وَلَكِنَّهُ لَا يُنْبِتُ زَرْعًا وَلَا كَلَأً، وَلَكِنَّ النَّاسَ يَنْتَفِعُونَ بِهَذَا الْمَاءِ الَّذِي أَمْسَكَتْهُ تِلْكَ الطَّائِفَةُ مِنَ الْأَرْضِ.

وَمِنَ الْأَرْضِ طَائِفَةٌ لَا تُنْبِتُ زَرْعًا وَلَا تُمْسِكُ مَاءً.

فَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ طَوَائِفَ الْأَرْضِ هَذِهِ -فِي اسْتِقْبَالِهَا لِمَاءِ الْغَيْثِ- مَثَلًا مَضْرُوبًا لِلنَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ مَعَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ.

وَمِنْ فَضَائِلِ الْعِلْمِ: أَنَّهُ طَرِيقُ الْجَنَّةِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَمِنْ فَضَائِلِ الْعِلْمِ: مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ))؛ أَيْ: يَجْعَلْهُ فَقِيهًا فِي دِينِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

وَالْفِقْهُ فِي الدِّينِ لَا يُقْصَدُ بِهِ فِقْهُ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ فِي مُصْطَلَحِ الْفِقْهِ، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ هُوَ: عِلْمُ التَّوْحِيدِ وَأُصُولِ الدِّينِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِشَرِيعَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثُ فِي فَضْلِ الْعِلْمِ، لَكَانَ كَافِيًا فِي الْحَثِّ عَلَى طَلَبِ عِلْمِ الشَّرِيعَةِ وَالْفِقْهِ فِيهَا.

((مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ)): مَنْطُوقٌ ظَاهِرٌ، مَفْهُومُهُ: أَنَّ مَنْ لَمْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا لَمْ يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ لَمْ يُرِدْ بِهِ خَيْرًا.

وَمِنْ فَضَائِلِ الْعِلْمِ: أَنَّ الْعِلْمَ نُورٌ يَسْتَضِيءُ بِهِ الْعَبْدُ؛ فَيَعْرِفُ كَيْفَ يَعْبُدُ رَبَّهُ، وَكَيْفَ يُعَامِلُ عِبَادَهُ، فَتَكُونُ مَسِيرَتُهُ فِي ذَلِكَ عَلَى عِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ.

وَالْعَالِمُ نُورٌ يَهْتَدِي بِهِ النَّاسُ فِي أُمُورِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، ((وَذَلِكَ الرَّجُلُ الَّذِي قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، وَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَابِدٍ -لَا يُشَارِكُ فِي الْعِلْمِ وَلَا مُشَارَكَةَ لَهُ فِيهِ- فَسَأَلَهُ: قَتَلْتُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟

فَاسْتَعْظَمَ الْأَمْرَ! فَقَالَ: لَا.. تَقْتُلُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا وَتَكُونُ لَكَ تَوْبَةٌ!!

فَلَمَّا آيَسَهُ، وَمِنَ الْخَيْرِ أَيْأَسَهُ.. قَتَلَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ، مَا دَامَ بَابُ التَّوْبَةِ قَدْ أُغْلِقَ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ وَأَنْ يَكُونُوا مِائَةً، فَقَتَلَهُ فَأَتَمَّ بِهِ الْمِائَةَ.

ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى عَالِمٍ فَسَأَلَهُ: قَتَلْتُ مِائَةً، فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟

 فَأَخْبَرَهُ أَنَّ لَهُ تَوْبَةً، وَأَنَّهُ لَا شَيْءَ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ، ثُمَّ دَلَّهُ عَلَى بَلَدٍ أَهْلُهُ صَالِحُونَ لِيَخْرُجَ إِلَيْهَا، فَخَرَجَ، فَأَتَاهُ الْمَوْتُ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ)).

وَمِنْ فَضَائِلِ الْعِلْمِ: أَنَّ اللهَ يَرْفَعُ أَهْلَ الْعِلْمِ فِي الْآخِرَةِ وَفِي الدُّنْيَا؛ أَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّ اللهَ يَرْفَعُهُمْ دَرَجَاتٍ بِحَسَبِ مَا قَامُوا بِهِ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى الله -عَزَّ وَجَلَّ- وَالْعَمَلِ بِمَا عَلِمُوا، وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا يَرْفَعُهُمُ اللهُ بَيْنَ عِبَادِهِ بِحَسَبِ مَا قَامُوا بِهِ.

قَالَ اللهُ تَعَالَى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11].

هَذِهِ الْفَضَائِلُ مِنْ فَضَائِلِ الْعِلْمِ قَطْرَةٌ فِي بَحْرٍ مِمَّا جَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَعَلَى لِسَانِ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ فِي بَيَانِ فَضْلِ الْعِلْمِ.

 ((جُمْلَةٌ مِنْ فَضَائِلِ الْعُلَمَاءِ))

قَالَ تَعَالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18].

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِ الْعِلْمِ وَشَرَفِ الْعُلَمَاءِ وَفَضْلِهِمْ؛ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ أَحَدٌ أَشْرْفَ مِنَ الْعُلَمَاءِ لَقَرَنَهُمُ اللهُ بِاسْمِهِ وَاسْمِ مَلَائِكَتِهِ كَمَا قَرَنَ اسْمَ الْعُلَمَاءِ.

وَقَالَ فِي شَرَفِ الْعِلْمِ لِنَبِيِّهِ ﷺ: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114].

فَلَوْ كَانَ شَيْءٌ أَشْرَفَ مِنَ الْعِلْمِ لَأَمَرَ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ ﷺ أَنْ يَسْأَلَهُ الْمَزِيدَ مِنْهُ، كَمَا أَمَرَ أَنْ يَسْتَزِيدَهُ مِنَ الْعِلْمِ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9].

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّهُ -سُبْحَانَهُ- نَفَى التَّسْوِيَةَ بَيْنَ أَهْلِهِ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ، كَمَا نَفَى التَّسْوِيَةَ بَيْنَ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَأَصْحَابِ النَّارِ، فَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الحشر: 20]، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ فَضْلِهِمْ وَشَرَفِهِمْ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [سبأ: 6].

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَخْبَرَ -سُبْحَانَهُ- عَنْ أُولِي الْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ حَقًّا، وَجَعَلَ هَذَا ثَنَاءً عَلَيْهِمْ وَاسْتِشْهَادًا بِهِمْ)).

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: أَهْلُ الذِّكْرِ: أَهْلُ الْقُرْآنِ، وَقِيلَ: أَهْلُ الْعِلْمِ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ)).

وَقَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَخْبَرَ -سُبْحَانَهُ- أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ هُمْ أَهْلُ خَشْيَتِهِ، بَلْ خَصَّهُمْ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ بِذَلِكَ؛ فَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ}. وَهَذَا حَصْرٌ لِخَشْيَتِهِ فِي أُولِي الْعِلْمِ)).

قَالَ تَعَالَى: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114].

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ- أَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يَسْأَلَهُ مَزِيدَ الْعِلْمِ، وَكَفَى بِهَذَا شَرَفًا لِلْعِلْمِ أَنْ أَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يَسْأَلَهُ الْمَزِيدَ مِنْهُ)).

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ)).

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ)).

وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يُفَقِّهْهُ فِي دِينِهِ لَمْ يُرْدِ بِهِ خَيْرًا، كَمَا أَنَّ مَنْ أَرَادَ بِهِ خَيْرًا فَقَّهَهُ فِي دِينِهِ، وَمَنْ فَقَّهَهُ فِي دِينِهِ فَقَدْ أَرَادَ بِهِ خَيْرًا، إِذَا أُرِيدَ بِالْفِقْهِ الْعِلْمُ الْمُسْتَلْزِمُ لِلْعَمَلِ.

وَأَمَّا إِنْ أُرِيدَ بِهِ مُجَرَّدَ الْعِلْمِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ فَقُهَ فِي الدِّينِ فَقَدْ أُرِيدَ بِهِ خَيْرًا، فَإِنَّ الْفِقْهَ حِينَئِذٍ يَكُونُ شَرْطًا لِإِرَادَةِ الْخَيْرِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ مُوجَبًا، وَاللهُ أَعْلَمُ)).

وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: ((مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ يَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، إِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ)).

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((الطَّرِيقُ الَّتِي يَسْلُكُهَا إِلَى الْجَنَّةِ جَزَاءً عَلَى سُلُوكِهِ فِي الدُّنْيَا طَرِيقَ الْعِلْمِ الْمُوصِلَةَ إِلَى رِضَا رَبِّهِ.

وَوَضْعُ الْمَلَائِكَةِ أَجْنِحَتَهَا لَهُ تَوَاضُعًا وَتَوْقِيرًا، وَإِكْرَامًا لِمَا يَحْمِلُهُ مِنْ مِيرَاثِ النُّبُوَّةِ وَيَطْلُبُهُ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى الْمَحَبَّةِ وَالْتَّعْظِيمِ، فَمِنْ مَحَبَّةِ الْمَلَائِكَةِ لَهُ وَتَعْظِيمِهِ تَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لَهُ؛ لِأَنَّهُ طَالِبٌ لِمَا بِهِ حَيَاةُ الْعَالَمِ وَنَجَاتُهُ، فَفِيهِ شَبَهٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ تَنَاسُبٌ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ أَنْصَحُ خَلْقِ اللهِ وَأَنْفَعُهُمْ لِبَنِي آدَمَ.

وَعَلَى أَيْدِيهِمْ حَصَلَ لَهُمْ كُلُّ سَعَادَةٍ وَعِلْمٍ وَهُدًى، وَمِنْ نَفْعِهِمْ لِبَنِي آدَمَ وَنُصْحِهِمْ أَنَّهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ لِمُسِيئِهِمْ، وَيُثْنُونَ عَلَى مُؤْمِنِيهِمْ، وَيُعِينُونَهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ مِنَ الشَّيَاطِينِ، وَيَحْرِصُونَ عَلَى مَصَالِحِ الْعَبْدِ أَضْعَافَ حِرْصِهِ عَلَى مَصْلَحَةِ نَفْسِهِ، بَلْ يُرِيدُونَ لَهُ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَا لَا يُرِيدُهُ الْعَبْدُ وَلَا يَخْطُرُ لَهُ بِبَالٍ؛ كَمَا قَالَ بَعْضُ التَّابِعِينَ: وَجَدْنَا الْمَلَائِكَةَ أَنْصَحَ خَلْقِ اللهِ لِعِبَادِهِ، وَوَجَدْنَا الشَّيَاطِينَ أَغَشَّ الْخَلْقِ لِلْعِبَادِ.

وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر: 7-9].

فَأَيُّ نُصْحٍ لِلْعِبَادِ مِثْلُ هَذَا إِلَّا نُصْحَ الْأَنْبِيَاءِ؟!

فَإِذَا طَلَبَ الْعَبْدُ الْعِلْمَ فَقَدْ سَعَى فِي أَعْظَمِ مَا يَنْصَحُ بِهِ عِبَادَ اللهِ، فَلِذَلِكَ تُحِبُّهُ الْمَلَائِكَةُ وَتُعَظِّمُهُ حَتَّى تَضَعَ أَجْنِحَتَهَا لَهُ؛ رِضًا وَمَحَبَّةً وَتَعْظِيمًا)).

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَقَوْلُهُ ﷺ: ((إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ)): هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْمَنَاقِبِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ خَيْرُ خَلْقِ اللهِ، فَوَرَثَتُهُمْ خَيْرُ الْخَلْقِ بَعْدَهُمْ، وَلَمَّا كَانَ كُلُّ مَوْرُوثٍ يَنْتَقِلُ مِيرَاثُهُ إِلَى وَرَثَتِهِ، إِذْ هُمُ الَّذِينَ يَقُومُونَ مَقَامَهُ مِنْ بَعْدِهِ، لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الرُّسُلِ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُمْ فِي تَبْلِيغِ مَا أُرْسِلُوا بِهِ إِلَّا الْعُلَمَاءُ، كَانُوا أَحَقَّ النَّاسِ بِمِيرَاثِهِمْ.

وَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُمْ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْمِيرَاثَ إِنَّمَا يَكُونُ لِأَقْرَبِ النَّاسِ إِلَى الْمَوْرُوثِ، وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ ثَابِتٌ فِي مِيرَاثِ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، فَكَذَلِكَ هُوَ فِي مِيرَاثِ النُّبُوَّةِ، وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ.

وَفِيهِ -أَيْضًا- إِرْشَادٌ وَأَمْرٌ لِلْأُمَّةِ بِطَاعَتِهِمْ، وَاحْتِرَامِهِمْ، وَتَعْزِيرِهِمْ، وَتَوْقِيرِهِمْ، وَإِجْلَالِهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ وَرَثَةُ مَنْ هَذِهِ بَعْضُ حُقُوقِهِمْ عَلَى الْأُمَّةِ، وَخُلَفَاؤُهُمْ فِيهِمْ.

وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مَحَبَّتَهُمْ مِنَ الدِّينِ، وَبُغْضَهُمْ مُنَافٍ لِلدِّينِ، كَمَا هُوَ ثَابِتٌ لِمَوْرُوثِهِمْ.

وَكَذَلِكَ مُعَادَاتُهُمْ وَمُحَارَبَتُهُمْ، مُعَادَاةٌ وَمُحَارَبَةٌ لِلهِ كَمَا هُوَ فِي مَوْرُوثِهِمْ.

قَالَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((مَحَبَّةُ الْعُلَمَاءِ دِينٌ يُدَانُ بِهِ)).

وَقَالَ ﷺ فِيمَا يُرْوَى عَنْ رَبِّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: ((مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ)).

وَوَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ سَادَاتُ أَوْلِيَاءِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- )).

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا)). وَالْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((قَوْلُهُ ﷺ: ((لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ))، قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْحَسَدُ قِسْمَانِ: حَقِيقِيٌّ وَمَجَازِيٌّ، فَالْحَقِيقِيُّ: تَمَنِّي زَوَالِ النِّعْمَةِ عَنْ صَاحِبِهَا، وَهَذَا حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ مَعَ النُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ.

وَأَمَّا الْمَجَازِيُّ: فَهُوَ الْغِبْطَةُ؛ وَهُوَ أَنْ يَتَمَنَّى مِثْلَ النِّعْمَةِ الَّتِي عَلَى غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ زَوَالِهَا عَنْ صَاحِبِهَا، فَإِنْ كَانَتْ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا كَانَتْ مُبَاحَةً، وَإِنْ كَانَتْ طَاعَةً فَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ.

وَالْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ: لَا غِبْطَةَ مَحْبُوبَةٌ إِلَّا فِي هَاتَيْنِ الْخَصْلَتَيْنِ، وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا.

قَوْلُهُ ﷺ: ((فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ))؛ أَيْ: إِنْفَاقِهِ فِي الطَّاعَاتِ.

قَوْلُهُ ﷺ: ((وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً، فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا))؛ مَعْنَاهُ: يَعْمَلُ بِهَا وَيُعَلِّمُهَا احْتِسَابًا، وَالْحِكْمَةُ: كُلُّ مَا مَنَعَ مِنَ الْجَهْلِ، وَزَجَرَ عَنِ الْقَبِيحِ.

قَوْلُهُ ﷺ: ((آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ))؛ أَيْ: سَاعَاتِهِ، وَوَاحِدُهُ: الْآنَ، وَإِنًا، وَإِنْيٌ، وَإِنْوٌ، أَرْبَعُ لُغَاتٍ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ، مَلْعُونٌ مَا فِيهَا؛ إِلَّا ذِكْرَ اللهِ وَمَا وَالَاهُ، وَعَالِمًا وَمُتَعَلِّمًا».

حَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ))، وَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الْمُرَادُ بِالدُّنْيَا: كُلُّ مَا يَشْغَلُ عَنِ اللهِ تَعَالَى وَيُبْعِدُ عَنْهُ، وَلَعَنَهُ: بَعَّدَهُ عَنْ نَظَرِهِ. وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: ((إِلَّا ذِكْرَ اللهِ)) مُنْقَطِعٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهَا: الْعَالَمُ السُّفْلِيُّ كُلُّهُ، وَكُلُّ مَا لَهُ نَصِيبٌ فِي الْقَبُولِ عِنْدَهُ تَعَالَى قَدِ اسْتُثْنِيَ بِقَوْلِهِ: ((إِلَّا ذِكْرَ اللهِ وَمَا وَالَاهُ، وَعَالِمًا وَمُتَعَلِّمًا»، فَالِاسْتِثْنَاءُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مُتَّصِلًا.

وَالْمُوَالَاةُ: الْمَحَبَّةُ. أَيْ: إِلَّا ذِكْرَ اللهِ، وَمَا أَحَبَّهُ اللهُ مِمَّا يَجْرِي فِي الدُّنْيَا، أَوْ بِمَعْنَى الْمُتَابَعَةِ، فَالْمَعْنَى: مَا يَجْرِي عَلَى مُوَافَقَةِ أَمْرِهِ تَعَالَى أَوْ نَهْيِهِ.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ: وَمَا يُوَافِقُ ذِكْرَ اللهِ؛ أَيْ: يُجَانِسُهُ وَيُقَارِبُهُ، فَطَاعَتُهُ تَعَالَى، وَاتِّبَاعُ أَمْرِهِ، وَاجْتِنَابُ نَهْيِهِ؛ كُلُّهَا دَاخِلَةٌ فِيمَا يُوَافِقُ ذِكْرَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- )).

وَقَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ: ((لِمَّا كَانَتِ الدُّنْيَا حَقِيرَةً عِنْدَ اللهِ، لَا تُسَاوِي لَدَيْهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ؛ كَانَتْ وَمَا فِيهَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ مِنْهُ، وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ اللَّعْنَةِ، وَهُوَ -سُبْحَانَهُ- إِنَّمَا خَلَقَهَا مَزْرَعَةً لِلْآخِرَةِ وَمَعْبَرًا إِلَيْهَا، يَتَزَوَّدُ مِنْهَا عِبَادُهُ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَكُنْ يُقَرِّبُ مِنْهَا إِلَّا مَا كَانَ مُتَضَمِّنًا لِإِقَامَةِ ذِكْرِهِ، وَمُفْضِيًا إِلَى مَحَابِّهِ، وَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يُعْرَفُ اللهُ بِهِ، وَيُعْبَدُ، وَيُذْكَرُ، وَيُثْنَى عَلَيْهِ، وَيُمَجَّدُ -جَلَّ وَعَلَا-؛ وَلِهَذَا خَلَقَهَا وَخَلَقَ أَهْلَهَا، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق:12]

فَتَضَمَّنَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ أَنَّهُ -سُبْحَانَهُ- إِنَّمَا خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا؛ لِيُعْرَفَ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَلِيُعْبَدَ، فَهَذَا الْمَطْلُوبُ، وَمَا كَانَ طَرِيقًا إِلَيْهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالتَّعَلُّمِ فَهُوَ الْمُسْتَثْنَى مِنَ اللَّعْنَةِ، وَاللَّعْنَةُ وَاقِعَةٌ عَلَى مَا عَدَاهُ؛ إِذْ هُوَ بَعِيدٌ عَنِ اللهِ وَعَنْ مَحَابِّهِ وَعَنْ دِينِهِ.

«الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ، مَلْعُونٌ مَا فِيهَا، إِلَّا ذِكْرَ اللهِ وَمَا وَالَاهُ، وَعَالِمًا وَمُتَعَلِّمًا»، وَهَذَا هُوَ مُتَعَلَّقُ الْعِقَابِ فِي الْآخِرَةِ، فَإِنَّهُ كَمَا كَانَ مُتَعَلَّقُ اللَّعْنَةِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ الذَّمَّ وَالْبُغْضَ؛ فَهُوَ مُتَعَلَّقُ الْعِقَابِ.

وَاللهُ -سُبْحَانَهُ- إِنَّمَا يُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ ذِكْرَهُ، وَعِبَادَتَهُ، وَمَعْرِفَتَهُ، وَمَحَبَّتَهُ، وَلَوَازِمَ ذَلِكَ، وَمَا أَفْضَى إِلَيْهِ، وَمَا عَدَاهُ فَهُوَ مَبْغُوضٌ لَهُ، مَذْمُومٌ عِنْدَهُ)). اِنْتَهَى كَلَامُهُ -رَحِمَهُ اللهُ-.

فَعَيْبٌ كَبِيرٌ عَلَى مَنْ آتَاهُ اللهُ -تَعَالَى- عَقْلًا أَنْ يَرْضَى بِالْجَهْلِ صِفَةً، وَبِالْجَاهِلِينَ أَوْلِيَاءَ وَرُفَقَاءَ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَنْسَلِخَ مِنْ تِلْكَ الْحَالِ، وَأَنْ يَتَّقِيَ اللهَ رَبَّهُ، وَأَنْ يُقْبِلَ عَلَى مَجَالِسِ الْعِلْمِ، وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ:

الْعِلْمُ قَالَ اللهُ قَالَ رَسُولُهُ = قَالَ الصَّحَابَةُ لَيْسَ بِالتَّمْوِيهِ

مَا الْعِلْمُ نَصْبَكَ لِلْخِلَافِ سَفَاهَةً = بَيْنَ الرَّسُولِ وَبَيْنَ قَوْلِ فَقِيهِ

فَيُقْبِلُ عَلَى تَعَلُّمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَيَفْهَمُهُمَا بِفَهْمِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ، فَفِي ذَلِكَ النَّجَاةُ، وَفِي ذَلِكَ السَّعَادَةُ، وَفِي ذَلِكَ الْخُرُوجُ مِنَ اللَّعْنَةِ، وَإِلَّا فَإِنَّ اللَّعْنَةَ نَازِلَةٌ بِسَاحَتِهِ، شَامِلَةٌ لَهُ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ، مَلْعُونٌ مَا فِيهَا، إِلَّا ذِكْرَ اللهِ وَمَا وَالَاهُ، وَعَالِمًا وَمُتَعَلِّمًا».

 ((الْحَثُّ عَلَى الْمُبَادَرَةِ إِلَى طَلَبِ الْعِلْمِ))

لَقَدْ رَغَّبَ الْإِسْلَامُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، وَحَثَّ عَلَى الْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ فِي تَحْصِيلِهِ، وَلَا أَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ هُوَ قَوْلُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1-5].

هَذِهِ السُّورَةُ أَوَّلُ السُّوَرِ الْقُرْآنِيَّةِ نُزُولًا عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ فَإِنَّهَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ فِي مَبَادِئِ النُّبُوَّةِ؛ إِذْ كَانَ لَا يَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ، فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِالرِّسَالَةِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْرَأَ، فَامْتَنَعَ وَقَالَ: ((مَا أَنَا بِقَارِئٍ))، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى قَرَأَ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}؛ خَلَقَ عُمُومَ الْخَلْقِ، ثُمَّ خَصَّ الْإِنْسَانَ، وَذَكَرَ ابْتِدَاءَ خَلْقِهِ {خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ}، فَالَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَاعْتَنَى بِتَدْبِيرِهِ لَا بُدَّ أَنْ يُدَبِّرَهُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَذَلِكَ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ، وَلِهَذَا أَتَى بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْقِرَاءَةِ بِخَلْقِهِ لِلْإِنْسَانِ.

ثُمَّ قَالَ: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ}؛ أَيْ: كَثِيرُ الصِّفَاتِ وَاسِعُهَا، كَثِيرُ الْكَرَمِ وَالْإِحْسَانِ، وَاسِعُ الْجُودِ، الَّذِي مِنْ كَرَمِهِ أَنْ عَلَّمَ أَنْوَاعَ الْعُلُومِ {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ}.

{عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}؛ فَإِنَّهُ -تَعَالَى- أَخْرَجَهُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا، وَجَعَلَ لَهُ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ، وَيَسَّرَ لَهُ أَسْبَابَ الْعِلْمِ، فَعَلَّمَهُ الْقُرْآنَ، وَعَلَّمَهُ الْحِكْمَةَ، وَعَلَّمَهُ بِالْقَلَمِ الَّذِي بِهِ تُحْفَظُ بِهِ الْعُلُومُ، وَتُضْبَطُ الْحُقُوقُ، وَتَكُونُ رُسُلًا لِلنَّاسِ تَنُوبُ مَنَابَ خِطَابِهِمْ، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ الَّذِي أَنْعَمَ عَلَى عِبَادِهِ بِهَذِهِ النِّعَمِ الَّتِي لَا يَقْدِرُونَ لَهَا عَلَى جَزَاءٍ وَلَا شُكُورٍ، ثُمَّ مَنَّ عَلَيْهِمْ بِالْغِنَى وَسَعَةِ الرِّزْقِ.

وَسُمِّيَتْ سُورَةٌ كَامِلَةٌ فِي الْقُرْآنِ بِاسْمِ (الْقَلَمِ)؛ قَالَ تَعَالَى: {ن ۚ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم: 1].

أَقْسَمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالْقَلَمِ، وُهُوَ اسْمُ جِنْسٍ شَامِلٍ لِلْأَقْلَامِ الَّتِي تُكْتَبُ بِهَا أَنْوَاعُ الْعُلُومِ، وَيُسْطَرُ بِهَا الْمَنْثُورُ وَالْمَنْظُومُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقَلَمَ وَمَا يُسْطَرُ بِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ مِنْ آيَاتِهِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي تَسْتَحِقُّ أَنْ يُقْسِمَ بِهَا عَلَى بَرَاءَةِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ مِمَّا نَسَبَهُ إِلَيْهِ أَعْدَاؤُهُ مِنَ الْجُنُونِ.

عِبَادَ اللهِ! لَمَّا كانَ كُلٌّ مِنَ الْجِهَادِ بِالسَّيْفِ وَالْحُجَّةِ يُسَمَّى سَبِيلَ اللهِ؛ فَسَّرَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- قَوْلَهُ: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ} [النساء: 59] بِالْأُمَرَاءِ وَالْعُلَمَاءِ، فَإِنَّهُمُ الْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ، هَؤُلَاءِ بِأَيْدِيهِمْ -يَعْنِي: الْأُمَرَاءَ-، وَهُؤَلَاءِ بِأَلْسِنَتِهِمْ –يَعْنِي: العُلَمَاءَ-.

فَطَلَبُ العِلْمِ، وتَعْلِيمُهُ مِنْ أَعْظَمِ سَبِيلِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، قَالَ أَبو الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((مَنْ رَأَى الْغُدُوَّ وَالرَّوَاحَ إِلَى الْعِلْمِ لَيْسَ بِجِهَادٍ؛ فَقَدْ نَقَصَ عَقْلُهُ وَرَأيُهُ)).

وَجَاءَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: ((إِذَا جَاءَ الْمَوْتُ طَالِبَ الْعِلْمِ وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ مِنَ الطَّلَبِ؛ مَاتَ وَهُوَ شَهِيدٌ)) .

وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: ((مَن طَلَبَ الْعِلْمَ فَقَدْ بَايَعَ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ-)).

وَذَكَرَ ابنُ عَبْدِ الْبَرِّ في ((الْجَامِعِ)) عَن بَعْضِهِمْ فِي قَدْرِ العُلَمَاءِ وَقِيمَتِهِمْ:

وَمِدَادُ مَا تَجْرِي به أَقْلَامُهُمْ = أَزْكَى وَأَفْضْلُ مِن دَمِ الشُّهَدَاءِ

يَا طَالِبِي عِلْم النَّبيِّ مُحَمَّدٍ = مَا أَنْتُمُ وَسُواكُمُ بِـسَـوَاءِ

قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((الْفَقِيهِ وَالْمُتَفَقِّهِ)): ((يَنْبَغِي لِمَنِ اتَّسَعَ وَقْتُهُ، وَأَصْلَحَ اللهُ لَهُ جِسْمَهُ، وَحَبَّبَ إِلَيْهِ الْخُرُوجَ عَنْ طَبَقَةِ الْجَاهِلِينَ، وَأَلْقَى فِي قَلْبِهِ الْعَزِيمَةَ عَلَى التَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ، أَنْ يَغْتَنِمَ الْمُبَادَرَةَ إِلَى ذَلِكَ؛ خَوْفًا مِنْ حُدُوثِ أَمْرٍ يَقْطَعُهُ عَنْهُ، وَتَجَدُّدِ حَالٍ تَمْنَعُهُ مِنْهُ.

وَلْيَسْتَعْمِلِ الْجِدَّ فِي أَمْرِهِ، وَإِخْلَاصَ النِّيَّةِ فِي قَصْدِهِ، وَالرَّغْبَةَ إِلَى اللهِ فِي أَنْ يَرْزُقَهُ عِلْمًا يُوَفِّقُهُ فِيهِ، وَيُعِيذُهُ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ، وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُ فِيمَا يَطْلُبُ الْمُجَادَلَةَ بِهِ وَالْمُمَارَاةَ بِهِ، وَصَرْفَ الْهِمَمِ إِلَيْهِ، وَأَخْذَ الْأَعْوَاضِ عَلَيْهِ)). انْتَهَى كَلَامُهُ -رَحِمَهُ اللهُ-.

فَاحْذَرِ الْمِرَاءَ، وَإِيَّاكَ وَإِيَّاهُ، وَلَوْ أَنَّ الْأَمْرَ مَرَّ كِفَافًا لَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ؛ لَكَانَ هَيِّنًا، وَكَانَ مُحْتَمَلًا، وَلَكِنَّ الْعِقَابَ مُرٌّ أَلِيمٌ، وَالْعَذَابُ مُهِينٌ عَظِيمٌ.

يَا طَالِبَ الْعِـلْمِ:

الْعِلْمُ أغْلَى وَأَحْلَى مَا لَهُ اسْتَمَعَتْ = أُذْنٌ وَأَعْرَبَ عَنْهُ نَاطِقٌ بِفَمِ

الْعِلْمُ غَايَتُهُ الْقُصْوَى وَرُتْبَتُهُ الْـ = ـعَلْيَاءُ فَاسْعَوْا إِلَيْهِ يَا أُولِي الْهِمَمِ

الْعِلْمُ أَشْرَفُ مَطْلوبٍ وَطَالِبُهُ = لِلهِ أكْرَمُ مَنْ يَمْشِي عَلَى قَدَمِ

الْعِلْمُ نُورٌ مُبِينٌ يَسْتَضِيءُ بِهِ = أَهْلُ السَّعَادَةِ وَالْجُهَّالُ فِي الظُّلَمِ

الْعِلْمُ أعْلَى حَياةٍ لِلْعِبَادِ كَمَا = أَهْلُ الْجَهَالَةِ أَمْوَاتٌ بِجَهْلِهِمِ

لَا سَمْعَ لَا عَقْلَ بَلْ لَا يُبْصِرُونَ وَفِي السْـ = ـسَعِيرِ مُعْتَرِفٌ كُلٌّ بِذَنْبِهِمِ

فَالْجَهْلُ أَصْلُ ضَلَالِ الْخَلْقِ قَاطِبَةً = وَأَصْلُ شِقْوَتِهِمْ طُرًّا وَظُلْمِهِمِ

وَالْعِلْمُ أَصْلُ هُدَاهُمْ مَعْ سَعَادَتِهِمْ = فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ذَوُو الْحِكَمِ

وَالْخَوْفُ بِالْجَهْلِ وَالْحُزْنُ الطَّوِيلُ بِهِ = وَعَنْ أُولِي الْعِلْمِ مَنْفِيَّانِ فَاعْتَصِمِ

الْعِلْمُ وَاللهِ مِيرَاثُ النُّبُوَّةِ لَا = مِيرَاثَ يُشْبِهُهُ طُوبَى لِمُقْتَسِمِ

لِأَنَّهُ إِرْثُ حَقٍّ دَائِمٍ أَبَدًا = وَمَا سِوَاهُ إِلَى الْإِفْنَاءِ وَالْعَدَمِ

وَمِنْهُ إِرْثُ سُلَيْمَانَ النُّبُوَّةَ وَالْـ = ـفَضْلُ الْمُبِينُ فَمَا أَوْلَاهُ بِالنِّعَمِ

الْعِلْمُ يَا صَاحِ يَسْتَغْفِرْ لِصَاحِبِهِ = أَهْلُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ مِنْ لَمَمِ

كَذَاكَ تَسْتَغْفِرُ الْحِيتَانُ فِي لُجَجٍ = مِنَ الْبِحَارِ لَهُ فِي الضَّوْءِ وَالظُّلَمِ

وَخَارِجٌ فِي طِلَابِ الْعِلْمِ مُحْتَسِبًا = مُجَاهِدٌ فِي سَبِيلِ اللهِ أَيُّ كَمِ

وَإِنَّ أَجْنِحَةَ الْأَمْلَاكِ تَبْسُطُهَا = لِطَالِبِيهِ رِضًا مِنْهُمْ بِصُنْعِهِمِ

يَا طَالِبَ الْعِلْمِ:

إِيَّاكَ وَاحْذَرْ مُمَارَاةَ السَّفِيهِ بِهِ = كَذَا مُبَاهَاةُ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا تَرُمِ

فَإِنَّ أَبْغَضَ كُلِّ الْخَلْقِ أَجْمَعِهِمْ = إِلَى الْإِلَهِ أَلَدُّ النَّاسِ فِي الْخِصَمِ

 ((جُمْلَةٌ مِنْ صِفَاتِ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ الْمُخْلِصِينَ))

إِنَّ عُلَمَاءَ الْأُمَّةِ الْمُخْلِصِينَ الَّذِينَ كَرَّمَهُمُ اللهُ وَأَعْلَى شَأْنَهُمْ، وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ رَسُولُهُ ﷺ، هُمْ عُلَمَاءُ الْأُمُّةِ الْمُخْلِصُونَ الَّذِينَ أَدْرَكُوا عِظَمَ أَمَانَةِ الْعِلْمِ وَأَمَانَةِ الدَّعْوَةِ وَأَمَانَةِ الْبَيَانِ؛ يَقُولُ نَبِيُّنَا ﷺ: ((نَضَّرَ اللهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَحَفِظَهَا وَوَعَاهَا، وَبَلَّغَهَا مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا)) .

فَفِي قَوْلِهِ ﷺ: ((فَحَفِظَهَا وَوَعَاهَا)).. إِشَارَةٌ إِلَى الْحِفْظِ السَّلِيمِ وَالْفَهْمِ الْمُسْتَقِيمِ.

وَفِي قَوْلِهِ ﷺ: ((وَبَلَّغَهَا مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا)).. إِشَارَةٌ إِلَى أَدَاءِ الْكَلَامِ بنَصِّهِ، ((وَبَلَّغَهَا مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا)).

عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ الْمُخْلِصُونَ هُمْ مَنْ فَطَنُوا لِلْمَهَمَّةِ الَّتِي اصْطَفَاهُمُ اللهُ لَهَا، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ مَهَمَّةَ تَكَسُّبٍ بِالْعِلْمِ وَالدِّينِ؛ قَالَ -تَعَالَى- حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [هود: 51].

يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ أَجْرًا آخُذُهُ مِنْكُمْ حَتَّى تَتَّهِمُونِي بِالسَّعْيِ إِلَى مَصَالِحَ شَخْصِيَّةٍ دُنْيَوِيَّةٍ، مَا أَجْرِي إِلَّا عَلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- فِيمَا أَقُومُ بِهِ مِنْ تَبْلِيغِكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي، فَأَجْرِي فِي ذَلِكَ عَلَى الَّذِي أَوْجَدَنِي مِنَ الْعَدَمِ وَخَلَقَنِي؛ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يَرْزُقُنِي فِي الدُّنْيَا، وَيُثِيبُنِي فِي الْآخِرَةِ.

وَهَذَا إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- يَدْعُو لِهَذَا الْبَيْتِ أَنْ يَجْعَلَهُ اللهُ بَلَدًا آمِنًا, وَيَرْزُقَ أَهْلَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الثَّمَرَاتِ؛ قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 126].

قَالَ إِبْرَاهِيمُ وَهُوَ يَدْعُو رَبَّهُ: رَبِّ اجْعَلْ مَكَّةَ بَلَدًا آمِنًا، لَا يُتَعَرَّضُ فِيهِ لِأَحَدٍ بِسُوءٍ، وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الثَّمَرَاتِ، وَاجْعَلْهُ رِزْقًا خَالِصًا خَاصًّا بِالْمُؤْمِنِينَ.

وَهَذَا نَبِيُّ اللهِ شُعَيْبٌ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- يَقُولُ لِقَوْمِهِ: لَيْسَ لِي مِنَ الْمَقَاصِدِ إِلَّا أَنْ تَصْلُحَ أَحْوَالُكُمْ، وَتَسْتَقِيمَ مَنَافِعُكُمْ، وَلَيْسَ لِي مِنَ الْمَقَاصِدِ الْخَاصَّةِ لِي وَحْدِي؛ قَالَ -تَعَالَى- حِكَايَةً عَنْهُ ﷺ: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].

مَا أُرِيدُ فِيمَا آمُرُكُمْ بِهِ وَأَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا عَنْ طَرِيقِ الْإِقْنَاعِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَلَا أَسْتَطِيعُ إِجْبَارَكُمْ عَلَى الطَّاعَةِ، وَمَا تَسْدِيدِي فِي خُطُوَاتِ سَعْيِي لِتَبْلِيغِ رِسَالَةِ رَبِّي وَإِصَابَةِ الرُّشْدَ فِي قَوْلِي وَعَمَلِي إِلَّا بِمَعُونَةِ اللهِ وَعَطَائِهِ وَتَسْدِيدِهِ.

عَلَى اللهِ وَحْدَهُ اعْتَمَدْتُ، وَإِلَيْهِ أَرْجِعُ بِقَلْبِي وَنَفْسِي وَفِكْرِي فِي كُلِّ أُمُورِي، لَا إِلَى غَيْرِهِ.

وَهَذَا رَسُولُ اللهِ ﷺ يَقُولُ لِقَوْمِهِ: لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى تَبْلِيغِي إِيَّاكُمْ هَذَا الْقُرْآنَ وَدَعْوَتِكُمْ إِلَى أَحْكَامِهِ أَجْرًا، فَلَسْتُ أُرِيدُ أَخْذَ أَمْوَالِكُمْ وَلَا التَّوَلِّي عَلَيْكُمْ وَالتَّرَأُّسَ، وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَغْرَاضِ إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى.

فَالنَّبِيُّ ﷺ لَا يَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا بِالْكُلِّيَّةِ؛ إِلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا يَعُودُ نَفْعُهُ إِلَيْهِمْ، فَهَذَا لَيْسَ مِنَ الْأَجْرِ فِي شَيْءٍ، بَلْ هُوَ مِنَ الْأَجْرِ مِنْهُ لَهُمْ ﷺ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ} [الشورى: 23].

قُلْ يَا رَسُولَ اللهِ لِلْمُشْرِكِينَ: لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَنُصْحِي وَحِرْصِي عَلَى نَجَاتِكُمْ وَسَعَادَتِكُمْ جَزَاءً وَلَا أَجْرًا، وَلَكِنْ أَسْأَلُكُمْ أَنْ تُعَامِلُونِي مُعَامَلَةَ الْمَوَدَّةِ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ الْأَقْرِبَاءِ، وَلَوْ كَانَتْ قَرَابَاتُهُمْ بَعِيدَةً؛ فَرَاعُوا هَذِهِ الْمَوَدَّةَ، فَلَا تُعَانِدُونِي، وَلَا تُدَبِّرُوا الْمَكَايِدَ ضِدِّي وَضِدَّ الَّذِينَ آمَنُوا بِي وَاتَّبَعُونِي.

إِنَّ عُلَمَاءَ الْأُمَّةِ الْحَقِيقِيِّينَ الْمُخْلِصِينَ مَعْلُومُونَ مِنْ صِفَاتِهِمُ الْخُلُقِيَّةِ وَمِنْ سِمَاتِ وَأُصُولِ دَعْوَتِهِمْ، وَلِسَانُ حَالِهِمْ:

هَذِهِ دَعْوَتُنَا..

نَدْعُو النَّاسَ -كُلَّ النَّاسِ- إِلَى هَذِهِ الْأُصُولِ:

* الْأَصْلُ الْأَوَّلُ: نَدْعُو النَّاسَ إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَعَدَمِ الشِّرْكِ بِهِ.

وَهَذَا الْأَصْلُ هُوَ مُقْتَضَى ((لَا إِلَه إِلَّا اللهُ))؛ فَهِيَ نَفْيٌ وَإِثْبَاتٌ، وَلَا بُدَّ مِنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ مَعًا، لَا يُغْنِي أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ.

وَالنَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ دِينُ الْمُرْسَلِينَ؛ فَكُلُّ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ قَالُوا لِأُمَمِهِمْ: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59].

وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى ((لَا إِلهَ إِلَّا اللهُ))، يَدُورُ عَلَيْهِمْ بِهَا فِي مَجَامِعِهِمْ وَمُنْتَدَيَاتِهِمْ وَأَسْوَاقِهِمْ، وَكَانُوا يَعْلَمُونَ مَعْنَاهَا، وَيَعَرِفُونَ مُقْتَضَاهَا، وَيُدْرِكُونَ أَنَّهَا تَعْنِي الْكُفْرَ بِكُلِّ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ؛ لِذَلِكَ قَالُوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5].

نَدْعُو النَّاسَ إِلَى التَّوْحِيدِ إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا، وَنَنْهَاهُمْ عَنِ الشِّرْكِ إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا، وَلَا نَكْتَفِي بِالْإِجْمَالِ عِنْدَ الْأَمْرِ بِالتَّوْحِيدِ وَالنَّهْيِ عَنِ الشِّرْكِ كَمَا يَفْعَلُ الْمُخَالِفُونَ!!

لِأَنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَامَ يُحَذِّرُ مِنَ الشِّرْكِ وَيَنْهَى عَنْهُ تَحْذِيرًا إِجْمَالِيًّا مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ؛ وَافَقَهُ عَلَى دَعْوَتِهِ أَعْظَمُ الْمُشْرِكِينَ.

وَكَذَا إِذَا قَامَ يَدْعُو إِلَى التَّوْحِيدِ دَعْوَةً إِجْمَالِيَّةً مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ؛ وَافَقَهُ عَلَى دَعْوَتِهِ أَعْظَمُ الْمُخَالِفِينَ.

وَأَمَّا عِنْدَ التَّفْصِيلِ؛ فَإِنَّ الْأُمُورَ تَتَبَيَّنُ، وَإِنَّ الْحَقَائِقَ تَتَّضِحُ، وَالنَّبِيُّ ﷺ دَعَا إِلَى التَّوْحِيدِ إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا، وَنَهَى عَنِ الشِّرْكِ إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْمُرْسَلِينَ.

فَنَدْعُو النَّاسَ إِلَى التَّوْحِيدِ إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا، وَنَنْهَاهُمْ عَنِ الشِّرْكِ إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا، وَلَا نَكْتَفِي بِالْإِجْمَالِ عِنْدَ الْأَمْرِ بِالتَّوْحِيدِ وَالنَّهْيِ عَنِ الشِّرْكِ كَمَا يَفْعَلُ الْمُخَالِفُونَ، بَلْ نُفَصِّلُ عِنْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ كَمَا فَصَّلَ اللهُ -تَعَالَى- وَكَمَا فَصَّلَ رَسُولُهُ ﷺ.

نَدْعُو إِلَى الْمَعْنَى الصَّحِيحِ لِـ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، وَهُوَ أَنَّهُ: ((لَا مَعْبُودَ بِحَقٍّ إِلَّا اللهُ)).

فَلَا بُدَّ مِنَ الْكُفْرِ بِكُلِّ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ؛ قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا} [البقرة: 256].

وَالطَّاغُوتُ: كُلُّ مَا تَجَاوَزَ بِهِ الْعَبْدُ حَدَّهُ؛ مِنْ مَعْبُودٍ، أَوْ مَتْبُوعٍ، أَوْ مُطَاعٍ.

نَدْعُو إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- فِي رُبُوبِيَّتِهِ: فَهُوَ مُتَفَرِّدٌ بِالْمُلْكِ وَالْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْإِمَاتَةِ وَالْإِحْيَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَنَدْعُو إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- فِي أُلُوهِيَّتِهِ: بِصَرْفِ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ لَهُ -تَعَالَى- وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.

نَدْعُو إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ: بِإِثْبَاتِ مَا أَثْبَتَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِنَفْسِهِ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ ﷺ، وَنَنْفِي عَنْهُ -تَعَالَى- مَا نَفَاهُ عَنْ نَفْسِهِ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ ﷺ.

فَنُثْبِتُ مَا أَثْبَتَ، وَنَنْفِي مَا نَفَى، وَنَفْهَمُ الْمَعْنَى وَنُثْبِتُهُ، وَنُفَوِّضُ الْكَيْفِيَّةَ إِلَى اللهِ -تَعَالَى- وَحْدَهُ.

وَنُحَذِّرُ مِنَ الشِّرْكِ فِي الرُّبُوبِيَّةِ، وَفِي الْأُلُوهِيَّةِ، وَفِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَنُحَذِّرُ مِنْ كُلِّ مَنْ خَالَفَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مِمَّا ابْتَدَعَهُ النَّاسُ وَأَحْدَثُوهُ.

* وَنَدْعُو إِلَى هَذَا الْأَصْلِ الثَّانِي؛ وَهُوَ: الدَّعْوَةُ إِلَى الِاتِّبَاعِ، وَالتَّحْذِيرُ مِنَ الِابْتِدَاعِ.

وَلَا يَصِحُّ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ إِلَّا بِالْآخَرِ؛ فَمَنْ دَعَا إِلَى الِاتِّبَاعِ، وَلَمْ يُحَذِّرْ مِنَ الِابْتِدَاعِ؛ فَقَدْ أَسَاءَ وَقَصَّرَ وَظَلَمَ.

وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ ﷺ: ((فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي؛ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ))، وَلَمْ يَكْتَفِ بِالْأَمْرِ بِالِاتِّبَاعِ، وَإِنَّمَا أَرْدَفَهُ بِالتَّحْذِيرِ مِنَ الِابْتِدَاعِ؛ فَقَالَ ﷺ: ((وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ)).

فَلَا بُدَّ مِنَ الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ، وَلَا بُدَّ مِنَ التَّحْذِيرِ مِنَ الْبِدْعَةِ.

وَعِنْدَ الْأَمْرِ بِالِاتِّبَاعِ، لَا بُدَّ مِنَ التَّحْذِيرِ مِنَ الِابْتِدَاعِ، وَلَا بُدَّ مِنَ التَّحْذِيرِ مِنَ الْبِدْعَةِ وَأَهْلِهَا.

فَنَدْعُو النَّاسَ إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وُنُحَذِّرُهُمْ مِنَ الشِّرْكِ باللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَنَدْعُو النَّاسَ إِلَى اتِّبَاعِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَنُحَذِّرُهُمْ مِنَ الْبِدْعَةِ وَالْمُبْتَدِعِينَ، وَنُحَذِّرُهُمْ مِنَ الِابْتِدَاعِ فِي الدِّينِ، لَا نَكْتَفِي بِالْإِثْبَاتِ دُونَ النَّفْيِ، وَلَا نَأْتِي بِالنَّفْيِ دُونَ الْإِثْبَاتِ، بَلْ نَأْتِي بِالتَّأْصِيلِ وَالتَّحْذِيرِ مَعًا.

فَالْإِثْبَاتُ وَالنَّفْيُ دِينُ الْمُرْسَلِينَ، وَهُوَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، فَهِيَ نَفْيٌ وَإِثْبَاتٌ.

* وَنَدْعُو النَّاسَ إِلَى هَذَا الْأَصْلِ الثَّالِثِ: نَدْعُوهُمْ إِلَى الْحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ: فِي الْعَقِيدَةِ، وَفِي الْعِبَادَةِ، وَفِي الْمُعَامَلَاتِ، وَفِي الْأَخْلَاقِ وَالسُّلُوكِ.

وَنُؤْمِنُ بِأَنَّ الْحُكْمَ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ بِحَسَبِهِ مِنَ حَاكِمٍ وَمَحْكُومٍ.

فِي الْعَقِيدَةِ: قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف: 40].

وَفِي الْعِبَادَةِ: قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}  [النساء: 36].

وَفِي الْمُعَامَلَاتِ: قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا} [الجاثية: 18].

وَفِي الْأَخْلَاقِ وَالسُّلُوكِ: قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا- وَاصِفًا نَبِيَّهُ ﷺ: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].

فَالْحُكْمُ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ شَامِلٌ لِكُلِّ صُوَرِ الْحَيَاةِ؛ مِنْ ظَاهِرٍ وَبَاطِنٍ، وَمِنْ حَرَكَةٍ وَسُكُونٍ، فَلَا بُدَّ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى إِقَامَةِ حُكْمِ اللهِ فِي الْعَقِيدَةِ؛ حَتَّى تَتَطَهَّرَ الْأَرْضُ مِنَ الشِّرْكِ وَالْبِدْعَةِ، وَإِلَى إِقَامَةِ حُكْمِ اللهِ فِي الْعِبَادَةِ؛ حَتَّى تُطَهَّرَ الْعِبَادَاتُ مِنَ الْإِحْدَاثِ وَالْأَهْوَاءِ، وَإِلَى إِقَامَةِ حُكْمِ اللهِ فِي الْمُعَامَلَاتِ؛ حَتَّى تُقَامَ عَلَى أَمْرِ اللهِ وَحْدَهُ، لَا عَلَى أَمْرِ خَلْقِهِ.

وَلَا بُدَّ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى الْأَخْلَاقِ الَّتِي أَرْسَاهَا الْإِسْلَامُ، وَطَبَّقَهَا رَسُولُهُ الْكَرِيمُ ﷺ.

وَالدَّعْوةُ إِلَى الْحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ الصَّحِيحَةِ أَشْمَلُ وَأَعَمُّ، وَأَصَحُّ وَأَتَمُّ، مِمَّا يَدْعُو إِلَيْهِ الْقَوْمُ!! وَمِمَّا يَتَشَدَّقُونَ بِهِ، يَحْصُرُونَ ذَلِكَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُعَامَلَاتِ وَالْحَاكِمِ!!

وَالْأَمْرُ أَوْسَعُ مِنْ ذَلِكَ؛ فَمَا مِنْ حَرَكَةٍ وَلَا سَكَنَةٍ، وَمَا مِنْ أَمْرٍ بَاطِنٍ وَلَا ظَاهِرٍ، إِلَّا وَلِلَّهِ فِيهِ حُكْمٌ.

وَلَا بُدَّ مِنَ الْعَمَلِ بِمَا أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ فِي كُلِّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْعُمُومِ وَالشُّمُولِ.

* الْأَصْلُ الرَّابِعُ مِمَّا نَدْعُو النَّاسَ إِلَيْهِ: أَنَّنَا نَدْعُو إِلَى كُلِّ الْأُصُولِ السَّابِقَةِ بِالْوَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ السُّنِّيَّةِ، لَا بِالْوَسَائِلِ الْكُفْرِيَّةِ، وَلَا الشِّرْكِيَّةِ، وَلَا الْبِدْعِيِّةِ.

وَنُؤْمِنُ فِي ذَلِكَ بِأَنَّ مَا عِنْدَ اللهِ لَا يُنَالُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ، وَأَنَّ إِقَامَةَ دِينِ اللهِ لَا تَكُونُ بِتَحْرِيفِ دِينِهِ، وَلَا بِتَزْيِيفِهِ وَمَسْخِهِ، وَلَا بِإِدْخَالِ الْكُفْرِيَّاتِ وَالشِّرْكِيَّاتِ عَلَيْهِ فِي أَصْلِهِ وَفَصْلِهِ، وَلَا بِاتِّخَاذِ وَسَائِلِ أَهْلِ الْكُفْرِ -فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ- وَسَائِطَ لِإِقَامَةِ دِينِ اللهِ فِي أَرْضِهِ.

وَإِنَّمَا نَتَّخِذُ الْوَسَائِلَ الشَّرْعِيَّةَ السُّنِّيَّةَ، نَسِيرُ عَلَى قَدَمِ وَخُطَى خَيْرِ الْبَرِيَّةِ ﷺ، وَنُؤْمِنُ أَنَّ مَا عِنْدَ اللهِ لَا يُنَالُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ.

وَالدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- مِنْ أَجَلِّ الْقُرُبَاتِ، وَأَعْظَمِ أَلْوَانِ الْعِبَادَاتِ.

وَالْعِبَادَةُ لَا بُدَّ أَنْ يَتَوَفَّرَ فِيهَا شَرْطَانِ: الْإِخْلَاصُ، وَالْمُتَابَعَةُ.

فَكُلُّ وَسِيلَةٍ مُبْتَدَعَةٍ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- دَاخِلَةٌ فِي قَولِ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ؛ فَهُوَ رَدٌّ)). وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ رِوَايَةِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-.

فَلَا يُدْعَى إِلَى اللهِ -تَعَالَى- بِوَسَائِلِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ مِنَ: الْمُظَاهَرَاتِ، وَالِاعْتِصَامَاتِ، وَالْعِصْيَانِ الْمَدَنِيِّ، وَالتَّمْثِيلِ، وَالرَّقْصِ، وَالْمَسْرَحِيَّاتِ، وَالْغِنَاءِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ابْتَدَعَهُ النَّاسُ فِي هَذَا الْعَصْرِ.

فَهَذِهِ -كُلُّهَا- وَسَائِلُ مَرْفُوضَةٌ، لَا تَدْخُلُ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْتَرَحَ إِدْخَالُهَا فِي دِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ لِأَنَّ الْوَسِيلَةَ فِي الدَّعْوَةِ كَالْغَايَةِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ.

وَالْعِبَادَةُ تَوْقِيفِيَّةٌ، وَالدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مِنْ أَجَلِّ الْعِبَادَاتِ وَالْقُرُبَاتِ؛ فَهِيَ تَوْقِيفِيَّةٌ -أَيْضًا- فِي وَسَائِلِهَا.

وَلَا بُدَّ مِنَ الْوُقُوفِ عِنْدَ حُدُودِ مَا بَيَّنَهُ اللهُ، وَمَا خَطَّهُ لَنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ.

* وَنَدْعُو النَّاسَ إِلَى هَذَا الْأَصْلِ الْخَامِسِ: وَهُوَ أَنَّنَا نُحَذِّرُ مِنْ كُلِّ مُخَالِفٍ فِي أَيِّ أَصْلٍ مِمَّا مَرَّ، كُلٌّ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ.

الرَّدُّ عَلَى الْمُخَالِفِ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ بَيَّنَ الرَّسُولُ ﷺ فِي حَدِيثِ ((الِافْتِرَاقِ)) أَنَّ الْأُمَّةَ سَتَخْتَلِفُ، أَنَّهَا سَتَخْتَلِفُ وَتَفْتَرِقُ؛ فَقَالَ ﷺ: ((وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةٍ -أَوْ قَالَ: فِرْقَةٍ-، كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً)).

قِيلَ: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟

قَالَ: ((مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي)).

وَقَالَ ﷺ.. كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ خَطًّا، ثُمَّ خَطَّ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ خُطُوطًا، ثُمَّ قَالَ: ((هَذَا سَبِيلُ اللهِ، وَهَذِهِ السُّبُلُ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ، ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ}  [الأنعام: 153])). وَالْحَدِيثُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ.

وَدِينُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- مَبْنِيٌّ عَلَى التَّأْصِيلِ وَالتَّحْذِيرِ، وَعَلَى النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَلَا بُدَّ مِنَ الْإِتْيَانِ بِهِمَا مَعًا، لَا يُغْنِي أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ.

وَالتَّحْذِيرُ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالزَّيْغِ جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللهِ، مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، شَرِيطَةَ أَنْ يَكُونَ بِعِلْمٍ وَعَدْلٍ، لَا بِظُلْمٍ وَلَا بِجَهْلٍ، وَأَنْ يَكُونَ خَالِصًا لِلهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

الْجَرْحُ وَالتَّعْدِيلُ قَائِمَانِ مَا دَامَ فِي الْأَرْضِ دِينٌ، وَالنَّاسُ يَجْرَحُونَ وَيُعَدِّلُونَ فِي حَيَاتِهِمُ الْعَادِيَّةِ!!

يَجْرَحُونَ وَيُعَدِّلُونَ الْبَاعَةَ، وَيَجَرَحُونَ وَيُعَدِّلُونَ أَصْحَابَ الْأَعْمَالِ؛ مِنَ الْأَطِبَّاءِ، وَالْمُهَنْدِسِينَ، وَالْبَنَّائِينَ، وَالنَّجَّارِينَ، وَغَيْرِهِمْ.

وَبَيَانُ المُحِقِّ مِنَ المُبْطِلِ، وَالْمُهْتَدِي مِنَ الضَّالِّ فِي دِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- أَوْلَى وَأَجْدَرُ.

فَلَا بُدَّ مِنَ التَّحْذِيرِ مِنَ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ، وَمِنَ الْبِدَعِ وَأَهْلِهَا، لَا يَتِمُّ التَّوْحِيدُ وَالِاتِّبَاعُ إِلَّا بِذَلِكَ، وَلَا يَسْتَقِيمُ الدِّينُ إِلَّا بِهِ.

وَلَيْسَ ذَلِكَ عِنْدَ الْإِتْيَانِ بِهِ مِنَ الغِيبَةِ الْمُحَرَّمَةِ، بَلْ هُوَ مِمَّا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللهِ، شَرِيطَةَ أَنْ يَكُونَ بِعْلِمٍ وَعَدْلٍ، لَا بِظُلْمٍ وَلَا بِجَهْلٍ، وَأَنْ يَكُونَ خَالِصًا لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ حِيَاطَةً لِلدِّينِ، وَحِفَاظًا عَلَى سُنَّةِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ ﷺ، وَنَفْيًا لِلزَّيْغِ -زَيْغِ الزَّائِغِينَ- وَلِلْبَهْتِ -بَهْتِ الْبَهَّاتِينَ- عَنْ دِينِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصِرَاطِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ ﷺ.

الْجَرْحُ وَالتَّعْدِيلُ قَائِمَانِ مَا بَقِيَ لِلهِ فِي الْأَرْضِ دِينٌ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ التَّحْذِيرِ مِنْ كُلِّ مُخَالِفٍ بِمُخَالَفَتِهِ.

وَرَسُولُ اللهِ ﷺ رَدَّ عَلَى الْمُخْطِئِينَ مِنَ الشُّعَرَاءِ وَالْخُطَبَاءِ؛ فَإِنَّهُ ﷺ لَمَّا سَمِعَ الرَّجُلَ عَلَى نَاقَتِهِ يُنْشِدُ شِعْرًا، قَالَ: ((خُذُوا الشَّيْطَانَ، خُذُوا الشَّيْطَانَ! لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا حَتَّى يَرِيَهُ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا)).

قَالَ عُلَمَاؤُنَا: كَانَ الرَّجُلُ يُنْشِدُ شِعْرًا دَاعِرًا، أَوْ كَانَ يُنْشِدُ شِعْرًا مِنْ شِعْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تُعَظِّمُ أَوْثَانَهَا، أَوْ كَانَ يُنْشِدُ شِعْرًا مِمَّا يُهَيِّجُ الْعَصَبِيَّاتِ بَيْنَ النَّاسِ، وَيُقِيمُ الْإِحَنَ وَالثَّارَاتِ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: ((خُذُوا الشَّيْطَانَ، خُذُوا الشَّيْطَانَ!)).

وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيدٍ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللهَ بَاطِلُ، وَكَادَ أُمَيَّةُ ابْنُ أَبِي الصَّلْتِ أَنْ يُسْلِمَ)).

وَلَمَّا قَامَ الْخَطِيبُ يَخْطُبُ بَيْنَ يَدَيْهِ -كَمَا عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي ((الصَّحِيحِ))- فَقَالَ: مَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى.

قَالَ ﷺ: ((بِئْسَ خَطِيبُ الْقَوْمِ أَنْتَ!)).

الْجَرْحُ وَالتَّعْدِيلُ، وَتَقْوِيمُ الْمُعْوَجِّ، وَإِقَامَةُ الْأَمْرِ عَلَى أَصْلِهِ، بَاقٍ فِي الْأَرْضِ مَا بَقِيَ لِلهِ فِي الْأَرْضِ دِينٌ.

وَالْمُخَالِفُونَ مُنْذُ يَسْتَيْقِظُونَ إِلَى أَنْ يَنَامُوا هُمْ آخِذُونَ فِي التَّجْرِيحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَرُبَّمَا غَلَوْا فِيهِ؛ فَهُمْ يُرُدُّونَ عَلَى مُخَالِفِيهِمْ مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ، يَرُدُّونَ عَلَيْهِمْ بِالْبَاطِلِ، وَيُنْكِرُونَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَرُدُّوا عَلَى أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْأَخْطَاءِ وَالزَّيْغِ وَالْبِدَعِ؛ فَيَقَعُونَ فِيمَا يَنْهَوْنَ النَّاسَ عَنْهُ! وَيَأْتُونَ بِمَا يَعِيبُونَ النَّاسَ بِهِ!

وَهُمْ آخِذُونَ بِذَلِكَ فِي حَيَاتِهِمُ الْعَادِيَّةِ؛ إِذَا كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ يُحَذِّرُ مِنْ بَائِعِ الْخُضْرَاوَاتِ وَالطَّمَاطِمِ، يَجْرَحُهُ وَيُعَدِّلُهُ، وَيَجْرَحُ هَذَا وَيُعَدِّلُ هَذَا، إِلَى مَا فَوْقَ ذَلِكَ مِنَ الْمُحْتَرِفِينَ، فَإِذَا جَاءَ الْأَمْرُ إِلَى الدِّينِ فَتَحُوا الْبَابَ عَلَى مِصْرَاعَيْهِ لِأَهْلِ الزَّيْغِ وَالْهَوَى وَأَهْلِ الْبِدْعَةِ وَالضَّلَالَةِ؛ لِكَيْ يَدْخُلَ كُلٌّ دَالِفًا بِبِدْعَتِهِ؛ لِتَشْوِيهِ دِينِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلِتَغْيِيرِ مَعَالِمِ الْمِلَّةِ، وَلِتَحْرِيفِ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ!!

وَهَيْهَاتَ! فَإِنَّ الْجَهَابِذَةَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ لَهُمْ بِالْمِرْصَادِ، وَاللهُ الْـمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.

* وَأَمَّا الْأَصْلُ السَّادِسُ مِنْ أُصُولِ دَعْوَتِنَا فَهُوَ: أَنَّنَا نَحْتَكِمُ عِنْدَ النِّزَاعِ فِي أَيِّ أَمْرٍ يَقَعُ فِيهِ النِّزَاعُ إِلَى كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ بِفَهْمِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ؛ فَسَبِيلُهُمْ سَبِيلُ الْمُؤْمِنِينَ.

وَقَدْ قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-:  {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: ١١٥]

وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: ٥٩]

وَالرَّدُّ إِلَى اللهِ: الرَّدُّ إِلَى كِتَابِهِ.

وَالرَّدُّ إِلَى رَسُولِ اللهِ: الرَّدُّ إِلَى سُنَّتِهِ ﷺ.

وَمُحَالٌ أَنْ يَأْمُرَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ -عِنْدَ التَّنَازُعِ- بِالرَّدِّ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، ثُمَّ لَا نَجِدُ فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ مَا يَقْطَعُ النِّزَاعَ، وَيَرْفَعُ الْخِلَافَ، هَذَا مُحَالٌ.

فَمَا دَامَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَمَرَ -عِنْدَ النِّزَاعِ يَدِبُّ بَيْنَنَا- بِالرَّدِّ إِلَى كِتَابِهِ، وَإِلَى سُنَّةِ رَسُولِهِ ﷺ، فَحَتْمًا نَجِدُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يَرْفَعُ الْخِلَافَ وَيَقْطَعُ النِّزَاعَ.

فَإِذَا لَمْ نَجِدْ؛ فَهُمَا أَمْرَانِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا: إِمَّا أَنَّنَا لَمْ نَرُدَّ حَقِيقَةً إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِمَّا أَنَّنَا قَدِ اتَّبَعْنَا الْهَوَى، لَا ثَالِثَ لَهُمَا.

فَإِذَا رَدَدْنَا حَقِيقَةً -عِنْدَ النِّزَاعِ فِي كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ- إِلَى كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ بِفَهْمِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ، إِذَا رَدَدْنَا -عَلَى هَذَا النَّحْوِ- رُفِعَ النِّزَاعُ، وَقُطِعَ الْخِلَافُ، لَا مَحَالَةَ.

وَلَمَّا كَانَتِ الْعَقِيدَةُ تَوْقِيفِيَّةً لَا تُتَلَقَّى إِلَّا مِنَ الْوَحْيِ الْـمَعْصُومِ؛ فَإِنَّهَا يُرْجَعُ فِيهَا إِلَى كُتُبِ عُلَمَائِنَا الْـمُتَقَدِّمِينَ مِنْ سَلَفِنَا الصَّالِحِينَ؛ كَـ ((أُصُولِ السُّنَّةِ)) لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَ((السُّنَّةِ)) لِوَلَدِهِ عَبْدِ اللَّهِ، وَ((السُّنَّةِ)) لِلْخَلَّالِ، وَ((السُّنَّةِ)) لِابْنِ أَبِي عَاصِمٍ، وَ((السُّنَّةِ)) لِابْنِ أَبِي زَمَنِينَ، وَكَــ ((الشَّرِيعَةِ)) لِلْآجُرِّيِّ، وَ((الْإِبَانَةِ)) لِابْنِ بَطَّةَ، وَكَـ ((أُصُولِ اعْتِقَادِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ)) لِلَّالَكَائِيِّ، وَكَـ ((الْإِيمانِ)) لِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَكَـ ((الْإِيمَانِ)) لِابْنِ مَنْدَهْ، وَكَـ ((الْإِيمانِ)) لِابْنِ تَيْمِيَّةَ، وَكَــ ((الْوَاسِطِيَّةِ))، وَ((الْحَمَوِيَّةِ))، وَ((التَّدْمُرِيَّةِ))، وَ((الْإِيمَانِ الْأَوْسَطِ)) لَهُ.

وَكُتُبُ عُلَمَائِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ سَلَفِنَا الصَّالِحِينَ جَامِعَةٌ لِأَبْوَابِ الِاعْتِقَادِ فِي أَبْوَابِ الْإِيمَانِ: مِنَ الْقَضِاءِ وَالْقَدَرِ، وَالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَحَقِيقَةِ الْإِيمَانِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ خِلَافًا لِلْفِرَقِ الضَّالَّةِ مِنَ: الْخَوَارِجِ، وَالْـمُعْتَزِلَةِ، وَالْـمُرْجِئَةِ، وَالْكَرَّامِيَّةِ، وَالْقَدَرِيَّةِ، وَالْجَبْرِيَّةِ، وَغَيْرِهِمْ.

وَهِيَ جَامِعَةٌ لِـمَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الِاعْتِقَادِ فِي كِتَابِ اللهِ -تَعَالَى-، وَفِي أَصْحَابِ رَسُولِهِ ﷺ وَ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَفِي الْأَوْلِيَاءِ وَالْكَرَامَاتِ، وَفِي أَهْلِ بَيْتِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَفِي الْإِمَامَةِ وَمُعَامَلَةِ الْحُكَّامِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أَدَّى الْجَهْلُ بِهِ إِلَى وُقُوعِ كَثِيرٍ مِنَ الشُّرُورِ وَالْمَعَائِبِ وَالْمَصَائِبِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمَرْحُومَةِ وَعَلَى أَبْنَائِهَا.

نَرْجِعُ إِلَى كُتُبِ عُلَمَائِنَا الْـمُتَقَدِّمِينَ مِنْ سَلَفِنَا الصَّالِحِينَ، وَلَا نَذْهَبُ إِلَى كُتُبِ الْـمُتَخَلِّفِينَ الْخَالِفِينَ الْـمُخَالِفِينَ الَّذِينَ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ صَنَّفُوا فِي الِاعْتِقَادِ؛ فَسَوَّدُوا الصَّحَائِفَ وَمَلَئُوهَا هَذَرًا؛ فَصَارَتْ هَدَرًا، وَأَضَلَّتْ كَثِيرًا مِنْ أَبْنَاءِ الْأُمَّةِ، وَغَيَّبُوا كَثِيرًا مِنْ أَبْوَابِ الِاعْتِقَادِ وَزَيَّفُوهَا، حَتَّى إِنَّ الْوَاحِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ لَيَدَّعِي الْإِجْمَاعَ، كَأَنَّهُ يَتَنَزَّلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ الْمَعْصُومُ! فِيمَا أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى خِلَافِهِ!

وَيَأْتُونَ بِإِجْمَاعَاتٍ يَنْسُبُونَهَا إِلَى السَّلَفِ، وَمَا هِيَ إِلَّا مِنْ كِيسِ الْمُتَخَلِّفِينَ الْخَالِفِينَ الْـمُخَالِفِينَ مِنَ الْخَلَفِ.

فاللهَ اللهَ فِي كُتُبِ سَلَفِكُمُ الْـمُتَقَدِّمِينَ مِنْ سَلَفِكُمْ وَعُلَمَائِكُمُ الصَّالِحِينَ! فَإِنَّ اللهَ جَعَلَ فِيهَا الْعِصْمَةَ؛ لِأَنَّهَا عَلَى قَدَمِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَعَلَى أَثَرِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ.

وَهِيَ مُحَرَّرَةٌ عَلَى قَالَ اللهُ، قَالَ رَسُولُهُ، قَالَ الصَّحَابَةُ، لَا عَلَى الْأَهْوَاءِ، وَلَا عَلَى الْآرَاءِ، وَلَا عَلَى الْمُخَالَفَةِ، وَلَا عَلَى النَّظَرِيَّاتِ الْكَاذِبَةِ.

إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ هِيَ خَيْرُ الْأُمَمِ عِنْدَ اللهِ، وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللهِ، وَلَا يَسْتَقِيمُ أَمْرُهَا إِلَّا بِالتَّوْحِيدِ وَالِاتِّبَاعِ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ الْعَظِيمَ يَقُومُ عَلَى أَصْلَيْنِ، هُمَا: أَلَّا يُعْبَدَ إِلَّا اللهُ، وَأَلَّا يُعْبَدَ اللهُ إِلَّا بِمَا شَرَعَ.

الْأَوَّلُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا  إِلهَ إِلَّا اللهُ.

وَالثَّانِي: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ ﷺ.

وَلَنْ يَصْلُحَ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا بِمَا صَلَحَ عَلَيْهِ أَوَّلُهَا، وَلَنْ يُصْلِحَهَا إِلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا.

وَقَدْ أَصْلَحَ أَوَّلَهَا: الْإِيمانُ، وَالْـمُتَابَعَةُ.

فَلَا يُصْلِحُ آخِرَهَا إِلَّا ذَلِكَ.

عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ الْمُخْلِصُونَ دَعْوَتُهُمْ تَتَّصِفُ بِالْوَسَطِيَّةِ وَالِاعْتِدَالِ، وَالسَّمَاحَةِ وَالرَّحْمَةِ؛ فَإِنَّ الِاعْتِدَالَ وَالتَّوَازُنَ وَالِاسْتِقَامَةَ مِنْ أَهَمِّ مَعَالِمِ الدِّينِ؛ قَالَ تَعَالَى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة:6-7].

قَالَ ابْنُ القَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَهَذَا الصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ الَّذِي وَصَّانَا اللهُ تَعَالَى بِاتِّبَاعِهِ هُوَ الصِّرَاطُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ وَأَصْحَابُهُ، وَهُوَ قَصْدُ السَّبِيلِ، وَمَا خَرَجَ عَنْهُ فَهُوَ مِنَ السُّبُلِ الجَائِرَةِ.

لَكِنَّ الجَوْرَ قَدْ يَكُونُ جَوْرًا عَظِيمًا عَنِ الصِّرَاطِ، وَقَدْ يَكُونُ يَسِيرًا، وَبَيْنَ ذَلِكَ مَرَاتِبُ لَا يُحْصِيهَا إِلَّا اللهُ، وَهَذَا كَالطَّرِيقِ الحِسِّيِّ؛ فَإِنَّ السَّالِكَ قَدْ يَعْدِلُ عَنْهُ وَيَجُورُ جَوْرًا فَاحِشًا، وَقَدْ يَجُورُ دُونَ ذَلِكَ.

فَالمِيزَانُ الَّذِي تُعْرَفُ بِهِ الِاسْتِقَامَةُ عَلَى الطَّرِيقِ وَالجَوْرِ عَنْهُ: هُوَ مَا كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَأَصْحَابُهُ عَلَيْهِ.

وَالجَائِرُ عَنْهُ إِمَّا مُفَرِّطٌ ظَالِمٌ، أَوْ مُجْتَهِدٌ مُتَأَوِّلٌ، أَوْ مُقَلِّدٌ جَاهِلٌ، وَكُلُّ ذَلِكَ قَدْ نَهَى اللهُ عَنْهُ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الِاقْتِصَادُ وَالِاعْتِصَامُ بِالسُّنَّةِ، وَعَلَيْهَا مَدَارُ الدِّينِ.

وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَسَطٌ بَيْنَ النِّحَلِ، كَمَا أَنَّ أُمَّةَ الإِسْلَامِ وَسَطٌ بَيْنَ المِلَلِ، وَلَمْ يُصِبِ الشَّيْطَانُ مِنْهُمْ شَيْئًا بِغُلُوٍّ وَلَا تَقْصِيرٍ، وَغَيْرُهُمْ مُتَوَرِّطٌ فِيمَا تَوَرَّطَ فِيهِ مِنْهُمَا.

قَالَ الأَوْزَاعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((مَا مِنْ أَمْرٍ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ إِلَّا عَارَضَ الشَّيْطَانُ فِيهِ بِخَصْلَتَيْنِ؛ لَا يُبَالِي أَيَّهُمَا أَصَابَ: الغُلُوُّ، أَوِ التَّقْصِيرُ)) .

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ  -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خَطًّا ثُمَّ قَالَ: ((هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ))، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، ثُمَّ قَالَ: ((هَذِهِ سُبُلٌ مُتَفَرِّقَةٌ، عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ))، ثُمَّ قَرَأَ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ}. وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالدَّارِمِيُّ، وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، وَابْنُ حِبَّانَ... وَغَيْرُهُمْ.

وَالصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ يَقْتَضِي مَعْنَى الخَيْرِيَّةِ، الَّتِي بَيْنَ طَرَفَيِ التَّفْرِيطِ وَالْإِفْرَاطِ.

قَالَ الشَّيْخُ السَّعْدِيُّ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143].

قَالَ: ((ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِهِدَايَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ مُطْلَقًا بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْهِدَايَةِ وَمِنَّةَ اللهِ عَلَيْهَا، فَقَالَ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}؛ أَيْ: عَدْلًا خِيَارًا، وَمَا عَدَا الْوَسَطَ فَأَطْرَافٌ دَاخِلَةٌ تَحْتَ الْخَطَرِ، فَجَعَلَ اللهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ وَسَطًا فِي كُلِّ أُمُورِ الدِّينِ:

وَسَطًا فِي الْأَنْبِيَاءِ، بَيْنَ مَنْ غَلَا فِيهِمْ كَالنَّصَارَى، وَبَيْنَ مَنْ جَفَاهُمْ كَالْيَهُودِ، بِأَنْ آمَنُوا بِهِمْ كُلِّهِمْ عَلَى الْوَجْهِ اللَّائِقِ بِذَلِكَ.

وَوَسَطًا فِي الشَّرِيعَةِ: لَا تَشْدِيدَاتِ الْيَهُودِ وَآصَارَهُمْ، وَلَا تَهَاوُنَ النَّصَارَى.

وَفِي بَابِ الطَّهَارَةِ وَالْمَطَاعِمِ: لَا كَالْيَهُودِ الَّذِين لَا تَصِحُّ لَهُمْ صَلَاةٌ إِلَّا فِي بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ، وَلَا يُطَهِّرُهُمُ الْمَاءُ مِنَ النَّجَاسَاتِ، وَقَدْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٌ عُقُوبَةً لَهُمْ، وَلَا كَالنَّصَارَى الَّذِينَ لَا يُنَجِّسُونَ شَيْئًا، وَلَا يُحَرِّمُونَ شَيْئًا، بَلْ أَبَاحُوا مَا دَبَّ ودَرَجَ.

بَلْ طَهَارَتُهُمْ أَكْمَلُ طَهَارَةٍ وَأَتَمُّهَا، وَأَبَاحَ اللهُ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَنَاكِحِ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ مِنْ ذَلِكَ.

فَلِهَذِهِ الْأُمَّةِ مِنَ الدِّينِ أَكْمَلُهُ، وَمِنَ الْأَخْلَاقِ أَجَلُّهَا، وَمِنَ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُهَا، وَوَهَبَهُمُ اللهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِلْمِ، وَالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ، مَا لَمْ يَهَبْهُ لِأُمَّةٍ سِوَاهُمْ، فَلِهَذَا كَانُوا {أُمَّةً وَسَطًا}، كَامِلِينَ مُعْتَدِلِينَ.

لِيَكُونُوا {شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}؛ بِسَبَبِ عَدَالَتِهِمْ وَحُكْمِهِمْ بِالْقِسْطِ، يَحْكُمُونَ عَلَى النَّاسِ مِنْ سَائِرِ الْأَدْيَانِ، وَلَا يَحْكُمُ عَلَيْهِمْ غَيْرُهُمْ، فَمَا شَهِدَتْ لَهُ هَذِهِ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ فَهُوَ مَقْبُولٌ، وَمَا شَهِدَتْ لَهُ بِالرَّدِّ فَهُوَ مَرْدُودٌ)).

 لَقَدْ نَهَى اللهُ عَنِ الْغُلُوِّ بِقَوْلِهِ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [المائدة:77].

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ: أَيُّ الْأَدْيَانِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟

قَالَ: ((الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ)). وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ فِي ((الأَدَبِ المُفْرَدِ)).

وَالْحَدِيثُ نَصٌّ فِي أَنَّ الْإِسْلَامَ حَنِيفِيَّةٌ سَمْحَةٌ، وَالسَّمَاحَةُ تَتَنَافَى مَعَ الْغُلُوِّ وَالتَّشَدُّدِ فِيهِ.

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ أَبْوَابِ السُّنَّةِ هُمْ وَسَطٌ؛ لِأَنَّهُمْ مُتَمَسِّكُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ، وَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانِ)).

فَلَا تَشْدِيدَ وَلَا غُلُوَّ لَدَيْهِمْ، وَلَا تَرَخُّصَ وَلَا جَفَاءَ عِنْدَهُمْ، وَلَا يَأْتُونَ بِعِلَلٍ تُوهِنُ الِانْقِيَادَ.

قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [المائدة:77].

وَفِي الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ  ﷺ غَدَاةَ الْعَقَبَةِ، وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ: ((هَاتِ، الْقُطْ لِي)).

فَلَقَطْتُ لَهُ حَصَيَاتٍ، هُنَّ حَصَى الْخَذْفِ، فَلَمَّا وَضَعْتُهُنَّ فِي يَدِهِ قَالَ: ((بِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ)). وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا)) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ)).

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ، هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ، هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

وَالْمُتَنَطِّعُونَ هُمُ: الْمُتَعَمِّقُونَ، الْغَالُونَ، الْمُجَاوِزُونَ الْحُدُودَ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَهُمُ الْمُشَدِّدُونَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ التَّشْدِيدِ، وَالْحَدِيثُ ظَاهِرُهُ خَبَرٌ عَنْ حَالِ الْمُتَنَطِّعِينَ، إِلَّا أَنَّهُ فِي مَعْنَى النَّهْي عَنِ التَّنَطُّعِ، فَهُوَ خَبَرِيٌّ لَفْظًا إِنْشَائِيٌّ مَعْنًى، وَفِيهِ مَعْنَى النَّهْيِ عَنِ التَّنَطُّعِ، وَعَنِ الْغُلُوِّ، وَعَنِ التَّعَمُّقِ، وَعَنِ الْمُجَاوَزَةِ لِلْحَدِّ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ؛ لِأَنَّ دِينَ اللهِ يُسْرٌ، وَاللهُ رَبُّ العَالَمِينَ لَمْ يَتَعَبَّدْنَا بِمَا لَا نَسْتَطِيعُ، وَإِنَّمَا جَعَلَ لَنَا دَائِمًا مِنْ أَمْرِنَا فَرَجًا وَمَخْرَجًا، وَهُوَ الْوَدُودُ الرَّحِيمُ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ بَيَّنَ لَنَا ذَلِكَ كُلَّهُ فِي جَمِيعِ أُمُورِنَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ وَالدُّنْيَا مَعًا.

وَالْحَيَاةُ عَلَى هَذَا الْمِنْهَاجِ؛ مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، سَمْحَةٌ سَهْلَةٌ، لَيْسَ فِيهَا تَعْقِيدٌ؛ لِأَنَّهَا تَسِيرُ عَلَى وَفْقِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ الْوَحْي الْمَعْصُومِ، وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْزَلَ إِلَيْنَا الدِّينَ، وَأَمَرَنَا وَنَهَانَا سُبْحَانَهُ، وَهُوَ الَّذِي خَلَقَنَا وَهُوَ أَعْلَمُ بِنَا مِنَّا، {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].

فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ شَرَعَ لَنَا مَا يُصْلِحُنَا، وَشَرْطُ صَلَاحِنَا أَنْ نَكُونَ سَائِرِينَ خَلْفَ نَبِيِّنَا ﷺ، وَلَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِلَّا بِمُتَابَعَةِ أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإحْسَانٍ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ، الَّذِينَ يَتَمَسَّكُونَ بِهَا؛ يَعْتَقِدُونَهَا وَيَجْتَمِعُونَ عَلَيْهَا، وَيَدْعُونَ إِلَيْهَا.

وَأَمَّا أَهْلُ الْبِدْعَةِ، فَإِنَّ الْحَيَاةَ مَعَهُمْ فِي جَحِيمٍ، بَلْ إِنَّهُمْ قَدْ حَوَّلُوا الْحَيَاةَ إِلَى جَحِيمٍ، لَمَّا مَاجَتْ بِهِمُ الدُّنْيَا؛ سَالَتِ الدِّمَاءُ وَانْتُهِكَتِ الْأَعْرَاضُ، وَخُرِّبَتِ الْبُيُوتُ، وَنُهِبَتِ الثَّرْوَاتُ، وَوَقَعَ مَا وَقَعَ فِي دِيَارِ الْإِسْلَامِ، وَكَانَتْ قَبْلَهُمْ آمِنَةً.

فَلا تُفَرِّطْ وَلا تُفْرِطْ، وَكُنْ وَسَطًا = وَمِثْلَ مَا أَمَرَ الرَّحْمَنُ فَاسْتَقِمِ

سَدِّدْ وَقَارِبْ وَأَبْشِرْ وَاسْتَعِنْ بِغُدُوْ = وٍ وَالرَّوَاحِ وَأَدْلِجْ قَاصِدًا وَدُمِ

فَمِثْلَ مَا خَانَتِ الْكَسْلانَ هِمَّتُهُ = فَطَالَمَا حُرِمَ الْمُنْبَتُّ بِالسَّأَمِ

مِنْ سِمَاتِ الْعُلَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ الْمُخْلِصِينَ: دَعْوَتُهُمُ النَّاسَ إِلَى التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ مَعَ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ؛ فَإِنَّ الْأَخْذَ بِالْأَسْبَابِ لَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ، بَلْ هُوَ مِنْهَا، قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((التَّوَكُّلُ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا الْمَطْلُوبُ، وَيَنْدَفِعُ بِهَا الْمَكْرُوهُ؛ فَمَنْ أَنْكَرَ الْأَسْبَابَ لَمْ يَسْتَقِمْ مِنْهُ التَّوَكُّلُ، وَلَكِنْ مِنْ تَمَامِ التَّوَكُّلِ عَدَمُ الرُّكُونِ إِلَى الْأَسْبَابِ، وَقَطْعُ عَلَاقَةِ الْقَلْبِ بِهَا، فَيَكُونُ حَالُ الْقَلْبِ قِيَامَهُ بِاللهِ لَا بِهَا، وَحَالُ الْبَدَنِ قِيَامَهُ بِالْأَسْبَابِ.

فَالْأَسْبَابُ مَحَلُّ حِكْمَةِ اللهِ وَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَالتَّوَكُّلُ مُتَعَلِّقٌ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، فَلَا تَقُومُ عُبُودِيَّةُ الْأَسْبَابِ إِلَّا عَلَى سَاقِ التَّوَكُّلِ، وَلَا يَقُومُ سَاقُ التَّوَكُّلِ إِلَّا عَلَى قَدَمِ الْعُبُودِيَّةِ)).

وَالْأَخْذُ بِالْأَسْبَابِ مَعَ تَفْوِيضِ أَمْرِ النَّجَاحِ إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَالثِّقَةِ بِأَنَّهُ -تَعَالَى- لَا يُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا، هُوَ مِنَ التَّوَكُّلِ الْمَأْمُورِ بِهِ، أَمَّا الْقُعُودُ عَنِ الْأَسْبَابِ وَعَدَمِ السَّعْيِ فَلَيْسَ مِنَ التَّوَكُّلِ فِي شَيْءٍ، وَإِنَّمَا هُوَ اتِّكِالٌ أَوْ تَوَاكُلٌ حَذَّرَنَا مِنْهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَنَهَى عَنِ الْأَسْبَابِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَيْهِ، مِصْدَاقُ ذَلِكَ مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((يَا مُعَاذُ! تَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ، وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ؟)).

قَالَ مُعَاذٌ: قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.

قَالَ: ((فَإِنَّ حَقَّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- أَلَّا يُعَذَّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا)).

قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَلَا أُبَشِّرُ النَّاسَ؟

قَالَ: ((لَا تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَبِهَذَا يَضَعُ لَنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ قَاعِدَةً جَلِيلَةً؛ وَهِيَ: أَنَّ كُلَّ مَا يُؤَدِّي إِلَى تَرْكِ الْعَمَلِ أَوْ مَا يَكُونُ مَظِنَّةً لِلِاتِّكَالِ أَوِ التَّوَاكُلِ لَيْسَ مِنَ التَّوَكُّلِ فِي شَيْءٍ، وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مَا يُؤَكِّدُ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ، فَفِي الْحِوَارِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَمَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ! بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، أَبَعَثْتَ أَبَا هُرَيْرَةَ بِنَعْلَيْكَ: ((مَنْ لَقِيَ يَشْهَدُ أَلَّا لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ، بَشَّرَهُ بِالْجَنَّةِ))؟

قَالَ: ((نَعَمْ)).

قَالَ عُمَرُ: فَلَا تَفْعَلْ؛ فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَتَّكِلَ النَّاسُ عَلَيْهَا، فَخَلِّهِمْ يَعْمَلُونَ.

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((فَخَلِّهِمْ يَعْمَلُونَ)) .

وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ وَالَّذِي قَبْلَهُ أَنَّ الِاتِّكَالَ يَعْنِي تَرْكَ الْعَمَلِ وَعَدَمَ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنَ التَّوَكُّلِ فِي شَيْءٍ)).

وَمِنْ سِمَاتِ الْعُلَمَاءِ الْمُخْلِصِينَ: حُبُّ وَطَنِهِمُ الْإِسْلَامِيِّ، وَالدِّفَاعُ عَنْهُ، وَالْحِفَاظُ عَلَى أَمْنِهِ وَاسْتِقْرَارِهِ؛ فَـ ((حُبُّ الْوَطَنِ.. إِنْ كَانَ إِسْلَامِيًّا فَهَذَا تُحِبُّهُ لِأَنَّهُ إِسْلَامِيٌّ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ وَطَنِكَ الَّذِي هُوَ مَسْقَطُ رَأْسِكَ وَالْوَطَنِ الْبَعِيدِ عَنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ, كُلُّهَا أَوْطَانٌ إِسْلَامِيَّةٌ يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَحْمِيَهَا)).

الْوَطَنُ إِنْ كَانَ إِسْلَاميًّا يَجِبُ أَنْ يُحَبَّ، وَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُشَجِّعَ عَلَى الْخَيْرِ فِي وَطَنِهِ، وَعَلى بَقَائِهِ إِسْلَامِيًّا, وَأَنْ يَسْعَى لِاسْتِقْرَارِ أَوْضَاعِهِ وَأَهْلِهِ, وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ الْمُسْلِمِينَ.

وَمِنْ لَوَازِمِ الْحُبِّ الشَّرْعِيِّ لِلْأَوْطَانِ الْمُسْلِمَةِ -أَيْضًا-: أَنْ يُحَافَظَ عَلَى أَمْنِهَا وَاسْتِقْرَارِهَا، وَأَنْ تُجَنَّبَ الْأَسْبَابَ الْمُفْضِيَةَ إِلَى الْفَوْضَى وَالِاضْطِرَابِ وَالْفَسَادِ؛ فَالْأَمْنُ فِي الْأَوْطَانِ مِنْ أَعْظَمِ مِنَنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ عَلَى الْإِنْسَانِ.

فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَعْرِفَ قَدْرَ بَلَدِهِ الْإِسْلَامِيِّ، وَأَنْ يُدَافِعَ عَنْهُ، وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَحْصِيلِ اِسْتِقْرَارِهِ وَأَمْنِهِ، وبُعْدِهِ وَإِبْعَادِهِ عَنِ الْفَوْضَى، وَعَنْ الِاضْطِرَابِ، وَعَنْ وُقُوعِ الْمُشَاغَبَاتِ.

النَّبِيُّ ﷺ دَلَّ عَلَى فَضْلِ تَعْلِيمِ الْعِلْمِ، فَهُوَ أَشْرَفُ شَيْءٍ يَأْتِي بِهِ الْإِنْسَانُ.

تَعْلِيمُ الْعِلْمِ وَظِيفَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا أَشْرَفَ مِنَ الْأَخْذِ بِوَظِيفَةِ الْأَنْبِيَاءِ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ رَغَّبَ فِي ذَلِكَ، وَبَيَّنَ لَنَا أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ آتِيًا بِالْخَيْرِ الْمُتَعَدِّي؛ فَهُوَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ بِالْخَيْرِ اللَّازِمِ الَّذِي لَا يَتَعَدَّى أَثَرُهُ إِلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ مِنْهَا مَا هُوَ لَازِمٌ لِلْعَبْدِ فِي نَفْسِهِ؛ كَذِكْرِهِ لِرَبِّهِ -مَثَلًا-، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يَأْتِي بِهَا، لَا يَتَعَدَّى نَفْعُهَا إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؛ فَهَذِهِ مِنْ أَجْمَلِ وَأَحْسَنِ شَيْءٍ يَكُونُ.

وَأَعْلَى مِنْ ذَلِكَ: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَتَى بِالْخَيْرِ الْمُتَعَدِّي.. وَمِنْهُ: أَنْ يُعَلِّمَ الْعِلْمَ، إِذَا عَلَّمَ الْعِلْمَ؛ فَإِنَّهُ مَا يَزَالُ أَجْرُهُ مَوْصُولًا حَتَّى بَعْدَ مَوْتِهِ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ؛ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ)) .

وَفِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ أُمُورٌ أُخْرَى دَلَّ عَلَيْهَا الرَّسُولُ ﷺ؛ كَاتِّخَاذِ السَّبِيلِ؛ فَإِنَّ سَقْيَ الْمَاءِ مِنْ أَعْظَمِ الْقُرُبَاتِ عِنْدَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ، أَوْ بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ مُصْحَفًا وَرَّثَهُ)) .

إِلَى جُمْلَةٍ وَافِرَةٍ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي يَتَعَدَّى نَفْعُهَا إِلَى غَيْرِ فَاعِلِهَا؛ حَتَّى وَلَوْ مَاتَ وَلَحِقَ بِرَبِّهِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ: أَنَّ الْمَوْتَ لَيْسَ نِهَايَةَ الرِّحْلَةِ، بَلْ إِنَّهُ ضَرْبٌ فِي عُمْقِ الْوُجُودِ بِأَسْبَابِ الْوُجُودِ؛ لِأَنَّهُ مَرْحَلَةٌ يَنْتَقِلُ إِلَيْهَا الْعَبْدُ مُنْتَظِرًا الْبَعْثَ؛ لِكَيْ يُعْرَضَ عَلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَمِنْ أَجْلِ أَنْ تُعْرَضَ عَلَيْهِ صَحَائِفُ أَعْمَالِهِ فِي الْقِيَامَةِ.

فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَذَلِكَ -نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ-.

وَمِنَ الْمَعْلُومِ: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا عَلَّمَ وَاحِدًا مِنْ أَبْنَاءِ الْمُسْلِمِينَ: كَيْفَ يَقْرَأُ، وَكَيْفَ يَكْتُبُ -مَثَلًا-، فَمَضَى هَذَا الْمُعَلَّمُ فِي طَرِيقِهِ؛ فَصَارَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَوْ مِنْ طَلَبَتِهِ، أَوْ مِنْ أَهْلِ النَّفْعِ لِلْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّ جَمِيعَ حَسَنَاتِهِ تَكُونُ فِي صَحِيفَةِ حَسَنَاتِ مُعَلِّمِهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي عَلَّمَ الْخَيْرَ، وَ((الدَّالُّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ))، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ .

فَعَلَيْنَا جَمِيعًا أَنْ نَلْتَفِتَ إِلَى هَذَا الْأَصْلِ الْعَظِيمِ، وَهُوَ: تَعَلُّمُ الْعِلْمِ، وَالْعَمَلُ بِهِ، وَتَعْلِيمُهُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَيَبْقَى شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ الدَّعْوَةُ إِلَى ذَلِكَ، وَالتَّرْغِيبُ وَالْحَثُّ عَلَيْهِ.

عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي مَعْرِفَةِ دِينِ الرَّسُولِ الَّذِي بَعَثَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهِ النَّبِيَّ الْخَاتَمَ ﷺ.

              ((خُطَبَاءُ الْفِتْنَةِ وَعُلَمَاءُ السُّوءِ))

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي بِرِجَالٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنَ النَّارِ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟))

فَقَالَ: هَؤُلَاءِ خُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ، يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا يَعْقِلُونَ)). هَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((مُسْنَدِهِ))، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي ((الصَّمْتِ)) بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا -أَيْضًا- عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ لِغَيْرِهِ- أَنَّ جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَالَ: ((هَؤُلَاءِ خُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ، يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ)).

وَعِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ: ((هَؤُلَاءِ خُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ، يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَيَقْرَءُونَ كِتَابَ اللهِ وَلَا يَعْمَلُونَ بِهِ)).

فِي مَشْهَدٍ مِنْ مَشَاهِدِ الْإِسْرَاءِ رَأَى النَّبِيُّ ﷺ حَالَةً عَجِيبَةً، فَاسْتَفْهَمَ عَنْهَا جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَأَخْبَرَ الْمُصْطَفَى ﷺ بِمَا هُنَاكَ، وَوَضَّحَ لَهُ هَذَا الْأَمْرَ الَّذِي يَدَعُ الْحَلِيمَ حَيْرَانَ؛ لِأَنَّ الَّذِي رَآهُ الْمُصْطَفَى الْمُخْتَارُ ﷺ أَمْرٌ مُفْظِعٌ حَقًّا!!

((أَقْوَامٌ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ))، وَفِي رِوَايَةٍ: ((بِمَقَارِيضَ مِنْ حَدِيدٍ))، وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُصْنَعُ بِهِمْ ذَلِكَ فِي الْبَرْزَخِ بَعْدَ مَمَاتِهِمْ إِلَى أَنْ يُقِيمَ اللهُ السَّاعَةَ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَعِقَابٌ شَدِيدٌ.

هَؤُلَاءِ لَمَّا حَلَّاهُمْ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِلْمُصْطَفَى الْمُخْتَارِ ﷺ كَانَ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنَّهُمْ أَقْوَامٌ انْتَدَبُوا أَنْفُسَهُمْ لِهِدَايَةِ النَّاسِ، وَلِلدَّلَالَةِ عَلَى سَوَاءِ الطَّرِيقِ.

وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَكْتَفُوا بِالدَّلَالَةِ الصَّامِتَةِ وَلَا بِالدَّلَالَةِ الْهَامِسَةِ، وَإِنَّمَا هُمْ جَهِيرُوا الصَّوْتِ فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ.

هَؤُلَاءِ خُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ.. وَهَؤُلَاءِ الْخُطَبَاءُ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ مِنْ صِفَاتِهِمْ: أَنَّهُمْ يَقُولُونَ شَيْئًا وَيَفْعَلُونَ سِوَاهُ.

وَإِذَنْ؛ فَقَدْ قَعَدُوا عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ وَعَلَى صِرَاطِهَا، يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى الْجَنَّةِ بِأَقْوَالِهِمْ، وَيَصُدُّونَهُمْ عَنْهَا بِأَفْعَالِهِمْ!!

هَؤُلَاءِ أَقْوَامٌ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَآتَاهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْقُرْآنَ فَهُمْ لَا يَعْمَلُونَ بِهِ، وَلَا يُعَوِّلُونَ عَلَيْهِ، وَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا شَأْنُهُمْ أَنَّهُمْ يَنْتَصِبُونَ فِي الْأُمَّةِ بِجَهَارَةِ صَوْتٍ، وَدَلَالَةٍ عَالِيَةِ الزَّعِيقِ عَلَى شَيْءٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ وَلَا تُقِرُّهُ قُلُوبُهُمْ عَلَى وَجْهٍ سَوِيٍّ مُسْتَقِيمٍ.

آتَاهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْقُرْآنَ، فَهُمْ لَا يَأْخُذُونَ بِهِ، وَصِفَاتُهُمُ الَّتِي وَصَفَهُمْ بِهَا جِبْرِيلُ وَالَّتِي اسْتَوْجَبُوا بِهَا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ فِي الْبَرْزَخِ مِنْ بَعْدِ مَمَاتِهِمْ إِلَى أَنْ يُقِيمَ اللهُ السَّاعَةَ، صِفَاتُهُمْ قَدْ شَارَكُوا فِيهَا الْيَهُودَ؛ لِأَنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- أَنْزَلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ قَوْلَهُ: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44].

فَكَانُوا -أَيِ: الْيَهُودُ- يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ -أَيِ: التَّوْرَاةَ-، فَاسْتَفْهَمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ اسْتِفْهَامَ تَوْبِيخٍ، وَالْغَرَضُ الْبَلَاغِيُّ مِنْهُ التَّقْرِيرُ، يَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ}.

فَيُقَرِّرُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنَّ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفْتَهُ، وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ حِلْيَتَهُ، فَهُوَ مِنْ غَيْرِ أُولِي النُّهَى، وَمِنْ غَيْرِ أَصْحَابِ الْعُقُولِ، أَفَلَا يَعْقِلُونَ؟!!

وَكَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِاتِّبَاعِ التَّوْرَاةِ وَمَا جَاءَ بِهَا مِنَ التَّعَالِيمِ وَهُمْ يُخَالِفُونَ، وَكَانُوا يَنْهَوْنَ النَّاسَ عَنْ مُوَاقَعَةِ الْفَوَاحِشِ وَفِيهَا يَقَعُونَ!!

فَهَذِهِ صِفَتُهُمُ الَّتِي وَصَفَهُمْ بِهَا رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}.

وَمِنْ مَشَابِهِ هَؤُلَاءِ الْمَلْعُونِينَ أَقْوَامٌ فِي أُمَّةِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ ﷺ.. نَسْأَلُ اللهَ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ أَلَّا يَجْعَلَنَا مِنْهُمْ، وَأَنْ يُجَنِّبَنَا صِفَاتِهِمْ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَأَنْ يَرْزُقَنَا الْإِخْلَاصَ أَجْمَعِينَ.

فَهَذِهِ الْمَرَائِي الْمُجْتَزَأَةُ مِمَّا رَأَى رَسُولُ اللهِ ﷺ تَدُلُّ عَلَى عَظِيمِ شَأْنِ الْكَلِمَةِ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

خُطَبَاءُ الْفِتْنَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَالَّذِينَ لَا يُجِيدُونَ إِلَّا الْإِثَارَةَ وَالتَّهْيِيجَ!!

صَانِعُوا الْفِتَنِ الَّذِينَ يَصْنَعُونَهَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ، وَالَّذِينَ يَطْبُخُونَهَا فِي مَطْبَخِ إِبْلِيسَ، ثُمَّ يَعْرِضُونَهَا شَرَابًا سَائِغًا وَطَعَامًا مُسْتَسَاغًا لِكُلِّ مَنْ كَانَ حَامِضَ النَّفْسِ لَا يَسْتَسِيغُ إِلَّا الْعَفَنَ -نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ-.

كَلِمَةٌ مُنْضَبِطَةٌ بِقَانُونِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ كِتَابًا وَسُنَّةً، إِذَا خَرَجَتِ الْكَلِمَةُ فَلَنْ تَعُودَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ.

{حَتَّىٰ يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40]، إِغْرَاقٌ مِنْ بَعْدِ إِغْرَاقٍ فِي بَيَانِ هَذَا الْمُسْتَحِيلِ.

كَلِمَةٌ تَخْرُجُ مِنْ فِي أَخْرَقَ لَا يَعِي مَا يَقُولُ؛ لِأَنَّ لِسَانَهُ لَيْسَ مِنْ وَرَاءِ قَلْبِهِ، وَإِنَّمَا قَلْبُهُ مِنْ وَرَاءِ لِسَانِهِ، فَلَا يَعْرِضُ مَا يَقُولُ عَلَى قَلْبِهِ، وَإِنَّمَا يُخْرِجُ كَلَامَهُ كَمَا شَاءَ لَهُ هَوَاهُ، ثُمَّ لَا يُبَالِي!!

((وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)) .

((وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَكْتُبُ اللهُ عَلَيْهِ بِهَا سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَكْتُبُ اللهُ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ)) .

كَلِمَةٌ عَظِيمَةٌ؛ لِأَنَّ بِالْكَلِمَةِ يَدْخُلُ الْإِنْسَانُ دِينَ الْإِسْلَامِ، وَبِالْكَلِمَةِ يَخْرُجُ الْإِنْسَانُ مِنَ الدِّينِ، وَبِالْكَلِمَةِ يَسْتَوْجِبُ الْإِنْسَانُ حَدًّا فِي ظَهْرِهِ، وَبِالْكَلِمَةِ يُمْكِنُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَوَرَّطَ فِي شَهَادَةِ الزُّورِ الَّتِي تُغْضِبُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَتُغْضِبُ النَّبِيَّ الْكَرِيمَ ﷺ.

النَّاسُ لَا يَدْخُلُونَ الْإِسْلَامَ ظَاهِرًا إِلَّا بِالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ، فَبِالْكَلِمَةِ -وَبِالْكَلِمَةِ وَحْدَهَا- بَدْءًا يَثْبُتُ عَقْدُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.

وَبِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ يَخْرُجُ الْإِنْسَانُ مِنَ الدِّينِ -نَسْأَلُ اللهَ التَّثْبِيتَ وَالْعَافِيَةَ-.

{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ۚ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ۚ إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة: 65-66].

بِكَلِمَةٍ قَالُوهَا، قَالُوا: لَوْ كَانَ نَبِيًّا لَأَخْبَرَهُ رَبُّهُ وَأَوْحَى إِلَيْهِ عَنْ مَكَانِ نَاقَتِهِ إِخْبَارًا، وَلَكِنْ مَا دَامَ قَدْ وَدَعَهُ، مَا دَامَ تَرَكَهُ، فَلَيْسَ بِنَبِيٍّ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنَ السَّمَاءِ.

وَنُقِلَتْ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ، فَلَمَّا نَبَّأَهُمْ أَنْكَرُوا، {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ} [التوبة: 74].. نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ.

بِالْكَلِمَةِ يَدْخُلُ الْإِنْسَانُ الدِّينَ، وَبِالْكَلِمَةِ يَخْرُجُ الْإِنْسَانُ مِنَ الدِّينِ، وَبِالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ يُجْلَدُ الْعَبْدُ ثَمَانِينَ جَلْدَةً، إِذَا مَا تَخَطَّى حَدَّهُ، وَتَجَاوَزَ قَدْرَهُ، فَاعْتَدَى عَلَى عِرْضٍ بِلِسَانِهِ لَا بِيَدِهِ وَلَا بِجَوَارِحِهِ، فَإِنْ سَبَّ امْرَءًا وَجَبَ الْحَدُّ قِصَاصًا فِي ظَهْرِهِ -حَدُّ الْقَذْفِ ثَمَانُونَ جَلْدَةً-، ثُمَّ يُسَمَّى فَاسِقًا، وَلَا تُقْبَلُ لَهُ شَهَادَةٌ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ التَّوْبَةَ النَّصُوحَ.

فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَدُلُّنَا عَلَى عِظَمِ خَطَرِ شَأْنِ الْكَلِمَةِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، فَلْنَحْفَظْ أَلْسِنَتَنَا؛ فَإِنَّ فِي الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ لَعِبَرًا وَآيَاتٍ بَيِّنَاتٍ.

فَعَلَيْنَا أَنْ نَلْتَفِتَ لِتِلْكَ الْعِبَرِ وَلِتِلْكَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، عَسَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَنْفَعَنَا بِهَا فِي الْحَيَاةِ وَبَعْدَ الْمَمَاتِ, إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

خُطُورَةُ التَّسَرُّعِ فِي الْفَتْوَى وَالْقَوْلِ عَلَى اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ:

 لَقَدْ قَالَ نَبِيُّنَا ﷺ فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو: ((إِنَّ اللهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا؛ اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا)).

الضَّلَالُ وَالْإِضْلَالُ سَبَبُهُمَا أَنْ يُسْتَفْتَى مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ، وَأَنْ يُجِيبَ عَلَى مُقْتَضَى جَهْلِهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا؛ اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا)).

وَمَفْهُومُ هَذَا الْمَنْطُوقِ: أَنَّ الْعِلْمَ وَالْعُلَمَاءَ هُمَا سَبَبُ الْهِدَايَةِ وَالِاهْتِدَاءِ، كَمَا أَنَّ الْجَهْلَ وَالْفَتْوَى بِغَيْرِ عِلْمٍ هُمَا سَبَبُ الضَّلَالِ وَالْإِضْلَالِ، فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ سَبَبَ الضَّلَالِ وَأَنَّ سَبَبَ الْإِضْلَالِ إِنَّمَا هُوَ الْجَهْلُ وَالْفَتْوَى بِغَيْرِ عِلْمٍ.

وَقَدْ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].

وَاللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- جَعَلَ نَبِيَّهُ ﷺ مُبَلِّغًا لِلْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْأَنْبِيَاءُ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينًارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ)).

وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّهُ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ؛ فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ ۗ وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ ۖ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام: 93].

{وَمَنْ أَظْلَمُ}: ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ؛ أَيْ: لَا أَحَدَ أَظْلَمُ {مِمَّنِ افْتَرَىٰ}؛ أَيِ: اخْتَلَقَ {عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ}: فَزَعَمَ أَنَّهُ نَبِيٌّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ.

 وَمِنْ هَذَا النَّمَطِ مَنْ أَعْرَضَ عَنِ الْفِقْهِ وَالسُّنَنِ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ مِنَ السُّنَنِ؛ فَيَقُولُ: وَقَعَ فِي خَاطِرِي كَذَا، أَوْ أَخْبَرَنِي قَلْبِي بِكَذَا; فَيَحْكُمُونَ بِمَا يَقَعُ فِي قُلُوبِهِمْ وَيَغْلِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ خَوَاطِرِهِمْ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ ذَلِكَ لِصَفَائِهَا مِنَ الْأَكْدَارِ، وَخُلُوِّهَا عَنِ الْأَغْيَارِ، فَتَتَجَلَّى لَهُمُ الْعُلُومُ الْإِلَهِيَّةُ وَالْحَقَائِقُ الرَّبَّانِيَّةُ، فَيَقِفُونَ عَلَى أَسْرَارِ الْكُلِّيَّاتِ، وَيَعْلَمُونَ أَحْكَامَ الْجُزْئِيَّاتِ، فَيَسْتَغْنُونَ بِهَا عَنْ أَحْكَامِ الشَّرَائِعِ الْكُلِّيَّاتِ، وَيَقُولُونَ: هَذِهِ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ الْعَامَّةُ؛ إِنَّمَا يُحْكَمُ بِهَا عَلَى الْأَغْبِيَاءِ وَالْعَامَّةِ، وَأَمَّا الْأَوْلِيَاءُ وَأَهْلُ الْخُصُوصِ؛ فَلَا يَحْتَاجُونَ لِتِلْكَ النُّصُوصِ.

قَالَ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((يَقُولُ تَعَالَى: لَا أَحَدَ أَعْظَمُ ظُلْمًا وَلَا أَكْبَرُ جُرْمًا مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ؛ بِأَنْ نَسَبَ إِلَى اللهِ قَوْلًا أَوْ حُكْمًا، وَهُوَ -تَعَالَى- بَرِيءٌ مِنْهُ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا أَظْلَمَ الْخَلْقِ؛ لِأَنَّ فِيهِ مِنَ الْكَذِبِ وَتَغْيِيرِ الْأَدْيَانِ أُصُولِهَا وَفُرُوعِهَا، وَنِسْبَةُ ذَلِكَ إِلَى اللهِ -تَعَالَى- مَا هُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْمَفَاسِدِ)).

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل: 116-117].

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((نَهَى -تَعَالَى- عَنْ سُلُوكِ سَبِيلِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ حَلَّلُوا وَحَرَّمُوا بِمُجَرَّدِ مَا وَضَعُوهُ وَاصْطَلَحُوا عَلَيْهِ مِنَ الْأَسْمَاءِ بِآرَائِهِمْ، وَيَدْخُلُ فِي هَذَا كُلُّ مَنِ ابْتَدَعَ بِدْعَةً لَيْسَ لَهُ فِيهَا مُسْتَنَدٌ شَرْعِيٌّ، أَوْ حَلَّلَ شَيْئًا مِمَّا حَرَّمَ اللهُ، أَوْ حَرَّمَ شَيْئًا مِمَّا أَبَاحَ اللهُ بِمُجَرَّدِ رَأْيِهِ وَتَشَهِّيهِ.

ثُمَّ تَوَعَّدَ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ}؛ أَيْ: فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ؛ أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَمَتَاعٌ قَلِيلٌ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)).

وَيَدْخُلُ فِي الْكَذِبِ عَلَى اللهِ -تَعَالَى- وَالْقَوْلِ عَلَيْهِ بِلَا عِلْمٍ: الْكَذِبُ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، وَإِنَّمَا هُوَ مُبَلِّغٌ عَنْ رَبِّهِ -تَعَالَى-، فَمَنْ كَذَبَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ؛ فَكَأَنَّمَا كَذَبَ عَلَى اللهِ -تَعَالَى-، وَقَدْ حَذَّرَ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ الْكَذِبِ عَلَيْهِ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْكَذِبَ عَلَيْهِ لَيْسَ كَالْكَذِبِ عَلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ عَلَيْهِ ﷺ يَجْعَلُ دِينًا مَا لَيْسَ بِدِينٍ، وَيَنْفِي عَنِ الدِّينِ مَا هُوَ مِنْهُ، وَكَفَى بِذَلِكَ إِثْمًا مُبِينًا وَإِفْكًا عَظِيمًا.

قَالَ ﷺ فِيمَا يَرْوِيهِ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ، مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا؛ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

((لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ))؛ لِأَنَّهُ كَذِبٌ فِي التَّشْرِيعِ، وَأَثَرُهُ عَامٌّ عَلَى الْأُمَّةِ، فَإِثْمُهُ أَكْبَرُ، وَعِقَابُهُ أَشَدُّ، ((فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ)): فَلْيَتَّخِذْ لِنَفْسِهِ مَسْكَنًا.

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَا تَكْذِبُوا عَلَيَّ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يَكْذِبْ عَلَيَّ فَلْيَلِجِ النَّارَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَهَذَا أَمْرٌ بِالْوُلُوجِ مُسَبَّبًا عَنِ الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ.

وَعَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَنْ تَعَمَّدَ عَلَيَّ كَذِبًا؛ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

لَقَدْ حَرَّمَ اللهُ -تَعَالَى- الْقَوْلَ عَلَيْهِ بِلَا عِلْمٍ تَحْرِيمًا صَرِيحًا، فَقَالَ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ أَنْوَاعَ الْمُحَرَّمَاتِ -وَبَعْضُهَا أَغْلَظُ مِنْ بَعْضٍ-: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33].

أَخْرَجَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ -رَحِمَهُ اللهُ- بِسَنَدِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ -رَحِمَهُ اللهُ- قَالَ: ((كُنَّا عِنْدَ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: ((يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ! جِئْتُكَ مِنْ مَسِيرَةِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، حَمَّلَنِي أَهْلُ بَلَدِي مَسْأَلَةً أَسْأَلُكَ عَنْهَا)).

قَالَ: ((سَلْ!)).

فَسَأَلَهُ الرَّجُلُ عَنِ الْمَسْأَلَةِ؛ فَقَالَ مَالِكٌ: لَا أُحْسِنُهَا.

قَالَ: ((فَبُهِتَ الرَّجُلُ، كَأَنَّهُ قَدْ جَاءَ إِلَى مَنْ يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ!!)).

فَقَالَ: ((أَيَّ شَيْءٍ أَقُولُ لِأَهْلِ بَلَدِي إِذَا رَجَعْتُ إِلَيْهِمْ؟!!)).

قَالَ: تَقُولُ لَهُمْ: قَالَ مَالِكٌ: ((لَا أُحْسِنُ)).

وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: ((سَمِعْتُ مَالِكًا -وَذَكَرَ قَوْلَ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ-: لَأَنْ يَعِيشَ الرَّجُلُ جَاهِلًا؛ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَقُولَ عَلَى اللهِ مَا لَا يَعْلَمُ)).

ثُمَّ قَالَ: ((هَذَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -وَقَدْ خَصَّهُ اللهُ بِمَا خَصَّهُ بِهِ مِنَ الْفَضْلِ- يَقُولُ: لَا أَدْرِي)).

وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: ((حَدَّثَنِي مَالِكٌ قَالَ: ((وَكانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِمَامَ الْمُسْلِمِينَ وَسَيِّدَ الْعَالِمِينَ يُسْأَلُ عَنِ الشَّيْءِ، فَلَا يُجِيبُ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْوَحْيُ)).

وَعَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ قَالَ: ((قَالَ مَالِكٌ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: ((إِذَا أَخْطَأَ الْعَالِمُ (لَا أَدْرِي)؛ أُصِيبَتْ مَقَاتِلُهُ)).

عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ((إِذَا تَرَكَ الْعَالِمُ (لَا أَعْلَمُ)؛ فَقَدْ أُصِيبَتْ مَقَاتِلُهُ)).

فَهَذَا شَأْنُ الْعُلَمَاءِ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ فِي تَرْكِ الدَّعْوَى لِمَا لَا يُحْسِنُونَهُ, وَفِي هَضْمِ النَّفْسِ وَبَذْلِ النُّصْحِ؛ حَتَّى إِنَّ الشَّافِعِيَّ -رَحِمَهُ اللهُ- يَقُولُ: ((مَا نَاظَرْتُ أَحَدًا فَأَحْبَبْتُ أَنْ يُخْطِئَ، وَمَا فِي قَلْبِي مِنْ عِلْمٍ إِلَّا وَدِدْتُ أَنَّهُ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ وَلَا يُنْسَبُ إِلَيَّ)).

إِنَّ عَامَّةَ مَا تُعَانِي مِنْهُ الْأُمَّةُ الْيَوْمَ؛ إِنَّمَا هُوَ مِنْ هَذِهِ الْآفَةِ: الْقَوْلُ عَلَى اللهِ بِلَا عِلْمٍ، لَقَدْ صَارَ الْأَمْرُ فَوْضَى، وَصَارَ النَّاسُ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ، لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ، وَلَا يَدْرُونَ إِلَيْهِ سَبِيلًا؛ لِاخْتِلَاطِ الْأُمُورِ وَكَثْرَةِ الْفَتَاوَى فِي مُعْتَرَكٍ هَائِجٍ تَنُوحُ فِيهِ الْعَوَاصِفُ النَّائِحَاتُ، لَا يَهْدَأُ زَئِيرُهَا، كَأَنَّهُ عَزِيفُ الْجِنِّ!!

فَالنَّاسُ فِي حَيْرَةٍ، لَا يَكَادُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ يَتَلَمَّسُ لِنَفْسِهِ طَرِيقًا يَخُطُّ فِيهِ بِقَدَمَيْهِ سَبِيلًا؛ لِكَثْرَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَمِنْ عَجَبٍ: أَنَّكَ تَجِدُ كَثِيرًا مِنَ الْعَلْمَانِيِّينَ وَمِنَ الْإِعْلَامِيِّينَ الْفَاسِدِينَ، وَكَذَلِكَ مِنَ الْمُمَثِّلِينَ وَالْفَنَّانِينَ.. تَجِدُ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ يَعِيبُ عَلَى أَهْلِ التَّخَصُّصِ فِي الدِّينِ أَنْ يَتَكَلَّمُوا فِي الدِّينِ، وَهُمْ يَتَكَلَّمُونَ فِي الدِّينِ، فَيَتَكَلَّمُونَ هُمْ فِي دِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ يَقُولُونَ: هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ، كُلُّ هَذَا لِأَنَّهُمْ لَا يَدْرُونَ أَنَّهُمْ وَقَعُوا فِي أَعْظَمِ الْمُحَرَّمَاتِ تَحْرِيمًا، هَانَتْ عَلَيْهِمْ عَقِيدَتُهُمْ، وَهَانَ عَلَيْهِمْ دِينُهُمْ وَإِسْلَامُهُمْ، وَهُمْ يَخْبِطُونَ فِي كُلِّ وَادٍ خَبْطَ الْعَمْيَاءِ لَا الْعَشْوَاءِ.

النَّاسُ يَتَكَلَّمُونَ فِي دِينِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِي حَقِيقَتِهِ؛ فَإِنَّ سُحْنُونَ قَدْ جَلَسَ نَاحِيَةً يَبْكِي، فَقِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟!!

قَالَ: ((وَقَعَ الْيَوْمَ أَمْرٌ عَظِيمٌ، وَفُتِقَ فِي الْإِسْلَامِ فَتْقٌ كَبِيرٌ، سُئِلَ الْيَوْمَ مَنْ لَا يَعْلَمُ عَنْ أَمْرٍ مِنْ دِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- )).

فَعَدَّ هَذَا بِدَايَةَ الِانْحِرَافِ؛ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي الدِّينِ مَنْ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلتَّكَلُّمِ فِي الدِّينِ، لَوْ سَكَتَ الْجَاهِلُ لَاسْتَرَاحَ الْعَالِمُ.

فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَخْبِطُونَ فِي دِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ يَنْسِفُونَ الْأُصُولَ، وَيُزِيلُونَ الثَّوَابِتَ؛ يُزِيلُونَهَا نَسْفًا لَا تَحْرِيكًا؛ لِأَنَّهَا لَوْ حُرِّكَتْ عَنْ مَنَازِلِهَا -أَعْنِي الثَّوَابِتَ-؛ لَبَقِيَتْ قَائِمَةً، فَيُمْكِنُ أَنْ تَسْتَقِرَّ عَلَى قَرَارٍ فِي نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَكِنَّهُمْ يَنْسِفُونَهَا نَسْفًا.

الْقَوْلُ عَلَى اللهِ بِلَا عِلْمٍ!!

الْمَلَائِكَةُ الْمُكَرَّمُونَ لَمْ يَسْتَحُوا أَنْ يَقُولُوا لِمَا لَمْ يَعْلَمُوهُ: لَا نَعْلَمُهُ، {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: 32].

وَأَقَرُّوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِعَدَمِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَتَكَلَّمُوا بِغَيْرِ عِلْمٍ.

وَرَسُولُ اللهِ ﷺ، وَجِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- يَقُولَانِ: (لَا نَدْرِي) فِي سُؤَالٍ يَبْدُو يَسِيرًا؛ فَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ هَذَا السُّؤَالَ: مَا شَرُّ الْبُلْدَانِ؟

قَالَ: ((لَا أَدْرِي)).

الرَّسُولُ ﷺ يَقُولُ: ((لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ جِبْرِيلَ)).

فَلَمَّا جَاءَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَالَ: ((يَا جِبْرِيلُ! مَا شَرُّ الْبُلْدَانِ؟)).

قَالَ جِبْرِيلُ: ((لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ رَبِّي)).

فَسَأَلَ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا-، ثُمَّ عَادَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالَ: ((يَا مُحَمَّدُ! سَأَلْتَنِي: مَا شَرُّ الْبُلْدَانِ، فَقُلْتُ: لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ رَبِّي، وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي فَقَالَ: شَرُّ الْبُلْدَانِ أَسْوَاقُهَا)).

مِنْ أَجْلِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ ((أَسْوَاقُهَا))؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ: ((لَا أَدْرِي))، وَقَالَ جِبْرِيلُ: ((لَا أَدْرِي)).

وَأَمَّا هَذَا الْغُثَاءُ، هَذَا الْهَبَاءُ؛ فَإِنَّهُمْ يَتَكَلَّمُونَ فِي دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- خَبْطًا بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَيَنْسُبُونَ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مَا هُوَ مِنْهُ بَرِيءٌ، وَيَنْسُبُونَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ مَا هُوَ مِنْهُ بَرِيءٌ.

وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ خُطُورَةَ التَّسَرُّعِ فِي الْفَتْوَى؛ فَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي «سُنَنِهِ» مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: «خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ، فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ، فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ، ثُمَّ احْتَلَمَ، فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ: هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ قَالُوا: مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ، فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ.

قَالَ جَابِرٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ ﷺ أُخْبِرَ بِذَلِكَ».

فَقَالَ: «قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ، أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا؛ فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ». الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ.

الشَّجَّةُ: هِيَ الْجِرَاحَةُ الَّتِي تَحْدُثُ فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ خَاصَّةً.

وَاحْتَلَمَ: أَصَابَتْهُ جَنَابَةٌ، فَخَافَ أَنْ يَغْتَسِلَ فَيَضُرَّهُ؛ فَقَالَ لِمَنْ مَعَهُ: هَل تَعْلَمُونَ حُكْمًا سَهْلًا يُبِيحُ لِيَ التَّيَمُّمَ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ، مَعَ مَا بِي مِنَ الْجُرْحِ؟

فَقَالُوا: لَا نَعْلَمُ لَكَ رُخْصَةً، مُعْتَقِدِينَ أَنَّ عَدَمَ وُجُودِ الْمَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [النساء: 43] عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ الْعَاجِزَ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ لِمَرَضٍ أَوْ نَحْوِهِ يُعَدُّ فَاقِدًا لَهُ حُكْمًا.

((قَتَلُوهُ)): أَسْنَدَ الْقَتْلَ إِلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ كَلَّفُوهُ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ مَعَ إِصَابَتِهِ، فَكَانَ سَبَبًا لِمَوْتِه، ((قَتَلَهُمُ اللهُ)): زَجْرًا لَهُمْ وَتَنْفِيرًا مِنْ فِعْلِهِمْ، وَلَيْسَ قَصْدًا لِلْحَقِيقَةِ.

((أَلَا -حَرْفُ تَحْضِيضٍ- سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا؛ فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ)).

*وَ((الْعِيُّ)): التَّحَيُّرُ فِي الْكَلَامِ وَعَدَمُ الضَّبْطِ، وَالْمُرَادُ هَاهُنَا: الْجَهْلُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْجَهْلَ دَاءٌ، وَشِفَاؤُهُ السُّؤَالُ وَالتَّعَلُّمُ.

وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: أَصَابَ رَجُلًا جُرْحٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، ثُمَّ احْتَلَمَ، فَأُمِرَ بِالِاغْتِسَالِ، فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: «قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللهُ، أَلَمْ يَكُنْ شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالَ؟!!». وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.

فَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ الْجَهْلَ دَاءً، وَجَعَلَ دَوَاءَهُ سُؤَالَ الْعُلَمَاءِ، كَمَا أَخْبَرَ ﷺ فِي حَدِيثِهِ الْآخَرِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي أَوَّلِ «كِتَابِ الطِّبِّ» مِنْ صَحِيحِهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَا أَنْزَلَ اللهُ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً».

وَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ الْجَهْلَ دَاءً، وَجَعَلَ شِفَاءَهُ السُّؤَالَ.

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! أَمْسِكُوا أَلْسِنَتَكُمْ يَرْحَمُكُمُ اللهُ، كُفُّوا أَلْسِنَتَكُمْ، لَا تَتَكَلَّمُوا إِلَّا فِيمَا تُحْسِنُونَ، ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَومِ الْآخِرِ؛ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ)).

 ((تَمْيِيزُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْمُفَكِّرِينَ وَالْخُطَبَاءِ))

إِنَّ الْعُلَمَاءَ قَدْ يَشْتَبِهُونَ بِمَنْ لَيْسَ بِعَالِمٍ، وَقَدْ لَا يَسْتَطِيعُ الْخَلْقُ أَنْ يُفَرِّقُوا الْعَالِمَ مِنَ الْجَاهِلِ، وَآفَةُ كُلِّ حِرْفَةٍ وَصَنْعَةٍ أَنْ يَدْخُلَ فِيهَا وَأَنْ يَنْدَسَّ بَيْنَ أَهْلِهَا مَنْ لَيْسَ مِنْهَا وَلَا مِنْهُمْ، هَذَا هُوَ السُّوسُ الَّذِي يَنْخَرُ فِي نُخَاعِ كُلِّ صَنْعَةٍ وحِرْفَةٍ، حَتَّى يُذْهِبَ ثِقَةَ النَّاسِ بِأَهْلِهَا.

وَالْعِلْمُ أَشْرَفُ صِنَاعَةٍ وَأَعْظَمُ قُرْبَةٍ إِلَى رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى، وَمَا تَقَرَّبَ الْعَبْدُ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِعَمَلٍ -إِذَا أَخْلَصَ النِّيَّةَ فِيهِ- بِمِثْلِ أَنْ يَتَقَرَّبَ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالْعِلْمِ؛ تَعَلُّمًا وَعَمَلًا وَأَدَاءً وَتَعْلِيمًا، وَإِقَامَةً لِلْحُجَّةِ عَلَى خَلْقِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ لِأَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدَ مُحَمَّدٍ ﷺ.

وَالْأَنْبِيَاءُ كَانُوا يَسُوسُونَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانُوا يَسُوسُونَ الْأُمَمَ قَبْلَ مُحَمَّدٍ ﷺ، فَلَمَّا جَاءَ الرَّسُولُ ﷺ وَلَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، فَمَنِ الَّذِي يَسُوسُ الْأُمَّةَ؟!! إِنَّهُمُ الْعُلَمَاءُ، وَهُمُ الْوَاسِطَةُ بَيْنَ الرَّسُولِ ﷺ وَالْأُمَّةِ فِي تَبْلِيغِ شَرْعِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، كَمَا أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ هُوَ الْوَاسِطَةُ بَيْنَ الْأُمَّةِ وَرَبِّهَا فِي تَبْلِيغِ أَمْرِ رَبِّهَا إِلَيْهَا.

قَدْ يَشْتَبِهُ الْأَمْرُ عَلَى النَّاسِ وَيَخْتَلِطُ عَلَيْهِمُ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْعَالِمِ وَغَيْرِهِ، فَكَيْفَ نُفَرِّقُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَمَنْ قَدْ يَشْتَبِهُ بِهِمْ؟

لَا بُدَّ مِنَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَالْقُرَّاءِ؛ فَالْقُرَّاءُ هُمُ الَّذِينَ يُرَتِّلُونَ كَلَامَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَيُقِيمُونَهُ تِلَاوَةً وَتَجْوِيدًا مِنْ غَيْرِ مَا فَهْمٍ لَهُ وَلَا فِقْهٍ بِهِ.

وَالْقُرَّاءُ -أَيْضًا- يُمْكِنُ أَنْ تُطْلَقَ عَلَى مَعْنًى آخَرَ: هُمْ أُولَئِكَ الْمُثَقَّفُونَ مِنْ حَمَلَةِ الشَّهَادَاتِ وَمِنْ غَيْرِهِمِ، أَوْ مِمَّنْ قَدْ تَعَلَّمَ الْقِرَاءَةَ فَاقْتَنَى الْكُتُبَ فَقَرَأَ، ثُمَّ رَاحَ يَخْبِطُ مِنْ غَيْرِ ضَوَابِطَ شَرْعِيَّةٍ، وَمِنْ غَيْرِ مَا أُصُولٍ مَرْعِيَّةٍ، وَرَاحَ يَقُولُ وَيَتَكَلَّمُ وَيُشَقِّقُ الْكَلَامَ مِنْ غَيْرِ مَا أَصْلٍ هُنَالِكَ يَئُوبُ إِلَيْهِ، وَمِنْ غَيْرِ مَا أَسَاسٍ يَرْجِعُ إِلَيْهِ وَيَتَّكِئُ عَلَيْهِ، وَيَتَكَلَّمُ فَيَحْسَبُهُ الْجَاهِلُ عَالِمًا، وَيَشْتَبِهُ الْأَمْرُ عَلَى النَّاسِ، وَيَقَعُ الضَّلَالُ وَالْإِضْلَالُ كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ.

مِنْ مِيزَاتِ هَذَا الْعَصْرِ تَفَشِّي الْقِرَاءَةِ فِيهِ، حَتَّى أَصْبَحَتِ الْقِرَاءَةُ ظَاهِرَةً عَامَّةً، وَصَارَ مُعْظَمُ النَّاسِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقْرَأَ، وَصَارَ الْجَاهِلُ بِالْقِرَاءَةِ هُوَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ عُمُومِ النَّاسِ.

وَاقْتَرَنَ بِتَفَشِّي الْقِرَاءَةِ كَثْرَةُ الْكُتُبِ الَّتِي تُخْرِجُهَا الْمَطَابِعُ، فَوَقَعَ ((صَحِيحُ الْبُخَارِيِّ)) فِي أَيْدِي مَنْ لَا عَلَاقَةَ لَهُ بِهِ، وَكَانَ قَبْلُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقْتَنِيَهُ طَالِبُ عِلْمٍ بِغَيْرِ أَنْ يَعْرِضَهُ، وَأَنْ يَتَحَمَّلَهُ بِطَرِيقَةٍ مِنْ طُرُقِ التَّحَمُّلِ الثَّمَانِي الْمَعْرُوفَةِ فِي تَحَمُّلِ الْعِلْمِ: يَسْمَعُهُ مِنْ شَيْخِهِ، أَوْ يُقْرَأُ عَلَى شَيْخِهِ وَهُوَ يَسْمَعُ، أَوْ يَقْرَأُهُ هُوَ عَلَى شَيْخِهِ فَيُصَحِّحَ لَهُ الشَّيْخُ.. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الطُّرُقِ، حَتَّى يَصِلَ إِلَى الْوِجَادَةِ، وَهِيَ الَّتِي أَمْسَكَ فِيهَا جُمْلَةُ النَّاسِ الْيَوْمَ؛ وَجَدَ كِتَابًا فِي صَحِيفَةٍ فَهُوَ يُحَدِّثُ مِنْهُ، وَهِيَ أَدْنَى طَرِيقَةٍ مِنْ طُرُقِ التَّحَمُّلِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، وَبَعْضُهُمْ لَا يَعْتَبِرُهَا أَصْلًا، وَعِنْدَ التَّرْجِيحِ لَا تَقُومُ بِإِزَاءِ مَا فَوْقَهَا مِنَ الطُّرُقِ.

وَقَعَ ((صَحِيحُ الْبُخَارِيِّ)) وَبَقِيَّةُ الْكُتُبِ -كُتُبِ السُّنَّةِ وَكُتُبِ أَهْلِ الْعِلْمِ- وَقَعَتْ -لَمَّا أَخْرَجَتِ الْمَطَابِعُ سَيْلَهَا وَشَلَّالَهَا- فِي أَيْدِي النَّاسِ، وَأَقْبَلَ النَّاسُ عَلَى تِلْكَ الْكُتُبِ يَقْرَءُونَ، انْتَشَرَتْ مُؤَلَّفَاتُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ الْمُحْتَوِيَةُ عَلَى سُنَنِ الرَّسُولِ ﷺ وَعَلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.

وَمَعَ أَنَّ هَذَا مِنْ نِعَمِ الْمَوْلَى -جَلَّ وَعَلَا-، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِلِانْحِرَافِ عَنِ الْحَقِّ، وَذَلِكَ إِذَا تَصَدَّى النَّاسُ -بِسَبَبِ انْتِشَارِ الْكُتُبِ بَيْنَهُمْ- لِلنَّظَرِ فِي النُّصُوصِ دُونَ مَعْرِفَةٍ بِأُصُولِ النَّظَرِ وَقَوَاعِدِ الِاسْتِنْبَاطِ، وَدُونَ مَعْرِفَةٍ بِعَوَارِضِ الْأَدِلَّةِ وَطُرُقِ دَفْعِ التَّعَارُضِ وَأَسَالِيبِ التَّرْجِيحِ.

قَدِيمًا وَقَعَ التَّصْحِيفُ، وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ التَّصْحِيفُ وَالتَّحْرِيفُ، وَسُوءُ الْفَهْمِ وَاسْتِغْلَاقُ الْعِبَارَةِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْكُتُبَ كُتِبَتْ بِلُغَةِ الْعِلْمِ، وَلِطُلَّابِ عِلْمٍ مُتَمَكِّنِينَ.

وَكَانَ الْعُلَمَاءُ يَخْتَارُونَ طُلَّابَ عِلْمِهِمْ كَمَا يَخْتَارُونَ حُرُمَهُمْ؛ كَمَا يَأْتِي الرَّجُلُ إِلَيْهِ لِيَخْطِبَ ابْنَتَهُ أَوْ وَلِيَّتَهُ، فَيَتَأَمَّلُ فِيهِ مُصْعِدًا وَمُصَوِّبًا، ثُمَّ يَسْأَلُ عَنْهُ وَيَخْتَبِرُهُ، كَذَلِكَ لَا يَقْبَلُهُ فِي حَلْقَتِهِ وَلَا يَنْتَسِبُ إِلَيْهِ بِعِلْمِهِ حَتَّى يَرُوزَهُ، حَتَّى يَزِنَهُ، حَتَّى وَيَخْتَبِرَهُ.

وَمَعْرُوفَةٌ هِيَ تِلْكَ الْقِصَّةُ الَّتِي تُرْوَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيِّ، وَالَّذِي قَالَ فِيهِ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((مَا رَأَيْتُ بَادِنًا قَطُّ ذَا فِطْنَةٍ إِلَّا مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ)) -عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ-.

كَانَ وَجْهُهُ كَأَنَّمَا فُقِئَ فِيهِ حَبُّ الرُّمَّانِ، أَحْمَرُ الْوَجْهِ مُتَمَاسِكًا بَادِنًا.. وَهُوَ مِنْ تَلَامِيذِ أَبِي حَنِيفَةَ الْكِبَارِ -رَحِمَهُمُ اللهُ جَمِيعًا-.

جَاءَ فَوَقَفَ أَوَّلَ مَوْقِفٍ عَلَى الْحَلْقَةِ فَأَعْجَبَتْهُ، وَوَجَدَهُمْ يَأْخُذُونَ فِي الْأَمْرِ، يَرُوحُونَ وَيَجِيئُونَ، فَأَرَادَ أَنْ يَنْتَسِبَ، فَقَالَ لَهُ وَاحِدٌ مِنَ الطُّلَّابِ الْجُلُوسِ وَنَظَرَ إِلَيْهِ: ((تَحْفَظُ الْقُرْآنَ؟

قَالَ: لَا.

قَالَ: إِذَنْ؛ فَاذْهَبْ حَتَّى تَحْفَظَ الْقُرْآنَ، ثُمَّ ائْتِ.

قَالَ: فَذَهَبْتُ، فَحَفِظْتُ الْقُرْآنَ فِي سَبْعَةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ جِئْتُ فَقُلْتُ: حَفِظْتُ الْقُرْآنَ!!)).

فَحَفِظَ الْقُرْآنَ فِي أُسْبُوعٍ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-.

كَانَ الشَّأْنُ كَذَلِكَ عِنْدَمَا كَانَ النَّاسُ نَاسًا، وَكَانَ الْعِلْمُ عِلْمًا، فَلَمَّا صَارَ الْعِلْمُ تَهْوِيشًا وَتَهْرِيجًا وَشَقْشَقَةَ لِسَانٍ وَاتِّسَاعَ بَيَانٍ.. لَمَّا صَارَ الْعِلْمُ كَذَلِكَ انْدَسَّ فِيهِ مَنْ لَيْسَ مِنْهُ، وَوَقَعَ تَلْبِيسٌ عَظِيمٌ، وَصَارَ النَّاسُ مِنْ عَوَامِّ الْأُمَّةِ وَمِمَّنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ لَا يَدْرِي الْحَقَّ الصُّرَاحَ مِنَ الْبَاطِلِ الْخَالِصِ فِي بَاطِلِهِ، وَاشْتَبَهَ الْأَمْرُ عَلَى النَّاسِ، وَتَكَلَّمَ فِي دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَنْ لَا يُحْسِنُ الْكَلَامَ فِيهِ، وَمَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ، وَوَقَعَتْ مِحَنٌ عَظِيمَةٌ، وَأُرِيقَتْ دِمَاءٌ غَزِيرَةٌ، وَفِتَنٌ مَا زَالَتْ تَتَوَالَى!!

تَصَدَّى النَّاسُ -بِسَبَبِ انْتِشَارِ الْكُتُبِ بَيْنَهُمْ- لِلنَّظَرِ فِي النُّصُوصِ دُونَ مَعْرِفَةٍ بِأُصُولِ النَّظَرِ وَقَوَاعِدِ الِاسْتِنْبَاطِ، وَدُونَ مَعْرِفَةٍ بِعَوَارِضِ الْأَدِلَّةِ وَطُرُقِ دَفْعِ التَّعَارُضِ وَأَسَالِيبِ التَّرْجِيحِ.

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((قَدِمَ عَلَى عُمَرَ رَجُلٌ، فَجَعَلَ عُمَرُ يَسْأَلُهُ عَنِ النَّاسِ -أَيْ: أَتَى مِنْ مِصْرٍ مِنَ الْأَمْصَارِ الْبَعِيدَةِ مِنْ بَلَدٍ بَعِيدٍ- فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! قَدْ قَرَأَ الْقُرْآنَ مِنْهُمْ كَذَا وَكَذَا -أَيْ: جُمْلَةٌ غَفِيرَةٌ، قَرَأُوا الْقُرْآنَ فِي لِسَانِهِمْ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ وَرِضْوَانُهُ-؛ يَعْنِي: أَنَّهُمْ حَمَلُوهُ حِفْظًا-.

فَقُلْتُ: وَاللهِ مَا أُحِبُّ أَنْ يُسَارِعُوا يَوْمَهُمْ هَذَا فِي الْقُرْآنِ هَذِهِ الْمُسَارَعَةَ)).

هَذَا أَمْرٌ غَرِيبٌ!! لَا يُحِبُّ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنْ يُسَارِعُوا فِي حَمْلِ الْقُرْآنِ هَذِهِ الْمُسَارَعَةَ الَّتِي وَصَفَهَا الرَّجُلُ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ، كَيْفَ؟!!

قَالَ: فَنَهَرَنِي عُمَرُ، ثُمَّ قَالَ: مَهْ!

فَانْطَلَقْتُ إِلَى مَنْزِلِي مُكْتَئِبًا حَزِينًا، فَقُلْتُ: قَدْ كُنْتُ نَزَلْتُ مِنْ هَذَا -يَعْنِي: مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ- بِمَنْزِلَةٍ، وَلَا أُرَانِي إِلَّا قَدْ سَقَطْتُ مِنْ نَفْسِهِ، فَاضَّجَعْتُ عَلَى فِرَاشِي حَتَّى عَادَنِي نِسْوَةٌ مِنْ أَهْلِي وَمَا بِي وَجَعٌ، فَبَيْنَا أَنَا عَلَى ذَلِكَ، قِيلَ لِي: أَجِبْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَخَرَجْتُ فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ عَلَى الْبَابِ يَنْتَظِرُنِي، فَأَخَذَ بِيَدِي، ثُمَّ خَلَا بِي، فَقَالَ: مَا الَّذِي كَرِهْتَ مِمَّا قَالَ الرَّجُلُ آنِفًا؟

قُلتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! إِنْ كُنْتُ أَسَأْتُ فَإِنِّي أَسْتَغْفِرُ اللهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، وَأَنْزِلُ حَيْثُ أَحْبَبْتَ.

قَالَ: لَتُخْبِرَنِّي.

قُلْتُ: مَتَى مَا يُسَارِعُوا -يَعْنِي: فِي الْقُرْآنِ- هَذِهِ الْمُسَارَعَةَ يَحْتَّقُّوا -يَعْنِي: يَقُولُونَ: أَنَا أَقْرَأُ مِنْكَ، وَمُقَدَّمٌ عَلَيْكَ، وَمَرْفُوعٌ عَلَيْكَ-، وَمَتَى مَا يَحْتَقُّوا يَخْتَصِمُوا، وَمَتَى مَا يَخْتَصِمُوا يَخْتَلِفُوا، وَمَتَى مَا يَخْتَلِفُوا يَقْتَتِلُوا.

قَالَ: لِلهِ أَبُوكَ، لَقَدْ كُنْتُ أَكْتُمُهَا النَّاسَ حَتَّى جِئْتَ بِهَا)).

فَأَقَرَّهَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

الْعَمَلَ الْعَمَلَ، فَهُوَ ثَمَرَةُ الْعِلْمِ فِي الْحَقِيقَةِ، وَلَا عِلْمَ يَقُومُ فِي مِيزَانِ الشَّرْعِ بِغَيْرِ عَمَلٍ؛ فَابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- خَافَ مِنَ النَّاسِ وَعَلَيْهِمُ الْمُسَارَعَةَ فِي الْقُرْآنِ دُونَ فِقْهٍ وَفَهْمٍ؛ لِأَنَّ الْمُسَارَعَةَ إِلَى ذَلِكَ قَدْ تُؤَدِّي إِلَى انْحِرَافٍ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ وَعَنِ الْحَقِّ؛ لِأَنَّ الْخَوَارِجَ كَانُوا يَقْرَأُوُنَ الْقُرْآنَ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ فَهْمٍ وَعِلْمٍ، يَقُولُ الرَّسُولُ ﷺ فِيهِمْ: ((يَقْرَأُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ)).

وَفِي رِوَايَةٍ: ((لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ)). وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

وَهَذِهِ شَهَادَةُ رَسُولِ اللهِ ﷺ، يَأْخُذُونَ أَنْفُسَهُمْ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَإِقْرَائِهِ، وَهُمْ لَا يَتَفَقَّهُونَ فِيهِ، وَلَا يَعْرِفُونَ مَقَاصِدَهُ؛ يَعْنِي: لَيْسَ لَهُمْ حَظٌّ إِلَّا مُرُورُ الْقُرْآنِ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ، لَا يَصِلُ إِلَى حُلُوقِهِمْ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَصِلَ إِلَى قُلُوبِهِمْ؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ هُوَ تَعَقُّلُ الْقُرْآنِ وَتَدَبُّرُهُ بِوُقُوعِهِ فِي الْقَلْبِ وَاسْتِقْرَارِهِ فِيهِ.

هَذِهِ الظَّاهِرَةُ -تَفَشِّي الْقِرَاءَةِ- أَنْتَجَتْ وُجُودَ طَائِفَةٍ مِنَ النَّاسِ، سَمِّهِمُ الْقُرَّاءَ: فِئَةٌ مِنْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ أَوِ الْمُثَقَّفِينَ، قَرَأُوا نُتَفًا مِنَ الْعِلْمِ، وَهُمْ غَيْرُ فُقَهَاءَ بِذَلِكَ الْعِلْمِ، يُجِيدُونَ الْقِرَاءَةَ، وَيَقْرَأُونَ مَا يُكْتَبُ لَهُمْ.. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ.

وَيُرْوَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ- فِيمَا يَرْفَعُهُ إِلَى الرَّسُولِ ﷺ: ((سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَكْثُرُ فِيهِ الْقُرَّاءُ، وَيَقِلُّ فِيهِ الْفُقَهَاءُ، وَيُقْبَضُ الْعِلْمُ، وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ)).

وَقَدْ ظَهَرَ مِصْدَاقُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي زَمَانِنَا، فَقَلَّ الْفُقَهَاءُ الْعَارِفُونَ بِمَا جَاءَ عَنِ اللهِ وَرَسُولِهِ ﷺ، وَكَثُرَ الْقُرَّاءُ فِي الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ وَالرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ؛ بِسَبَبِ كَثْرَةِ الْمَدَارِسِ وَانْتِشَارِهَا.

فَلَا بُدَّ أَنْ نُمَيِّزَ بَيْنَ الْمُثَقَّفِ ثَقَافَةً دِينِيَّةً وَالْعَالِمِ.. الْعَالِمُ لَهُ أُصُولُهُ وَأُسُسُهُ الَّتِي يَرْتَكِزُ عَلَيْهَا، وَأَمَّا الَّذِي هُوَ قَدْ تَحَصَّلَ عَلَى بَعْضِ النُّتَفِ مِنْ بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ الْمُبْتَسَرَةِ أَوِ الْمُنَظَّمَةِ مِنْ غَيْرِ مَا عَوْدَةٍ إِلَى الْأُصُولِ الْمَرْعِيَّةِ وَالْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالْجُلُوسِ فِي حِلَقِ الْعُلَمَاءِ الْكِبَارِ وَمُزَاحَمَتِهِمْ بِالُّركَبِ، وَالسُّؤَالِ عَمَّا أَشْكَلَ، وَمُحَاوَلَةِ الْوُصُولِ إِلَى الصَّوَابِ عِنْدَ الْإِعْسَارِ.. كُلُّ ذَلِكَ عِنْدَمَا يُفْقَدُ، وَيَتَصَدَّى لِلْكَلَامِ فِي الدِّينِ مَنْ لَمْ يُحَصِّلْهُ؛ فَحَدِّثْ عَنِ الْفَوْضَى وَلَا حَرَجَ.

قَوْمٌ انْتَمَوْا إِلَى الْعِلْمِ فِي الظَّاهِرِ، وَلَمْ يُتْقِنُوا مِنْهُ سِوَى نَزْرٍ يَسِيرٍ، أَوْهَمُوا بِهِ أَنَّهُمْ عُلَمَاءُ فُضَلَاءُ، وَلَمْ يَدُرْ فِي أَذْهَانِهِمْ قَطُّ أَنَّهُمْ يَتَقَرَّبُونَ بِهِ إِلَى اللهِ؛ لِأَنَّهُمْ مَا رَأَوْا شَيْخًا يُقْتَدَى بِهِ فِي الْعِلْمِ، فَصَارُوا هَمَجًا رَعَاعًا، غَايَةُ الْمَرْءِ مِنْهُمْ أَنْ يُحَصِّلَ كُتُبًا مُثَمَّنَةً يَخْزُنُهَا وَيَنْظُرُ فِيهَا يَوْمًا، فَيُصَحِّفُ مَا يُورِدُهُ وَلَا يُقَرِّرُهُ، وَهُوَ أَمْرٌ قَدِيمٌ، فَقَدْ قَالَ وَاحِدٌ مِنْ أُولَئِكَ الرُّوَاةِ قَدِيمًا -هُوَ مِنْ قَبِيلَةٍ يُقَالُ لَهَا: عَنَزَةٌ، فَهُوَ عَنَزِيٌّ- قَالَ: نَحْنُ قَوْمٌ لَنَا شَرَفٌ.

قَالُوا: وَمَا ذَاكَ؟

قَالَ: صَلَّى الرَّسُولُ ﷺ إِلَيْنَا -أَيْ: جَعَلَهُمْ قِبْلَةً؛ لِأَنَّ قَبِيلَتَهُمْ رُبَّمَا كَانَتْ مَضَارِبُهَا وَدِيَارُهَا بِضِدِّ الْقِبْلَةِ-!!

قَالُوا: كَيْفَ ذَلِكَ؟

قَالَ: صَلَّى ﷺ إِلَيْنَا، فَنَحْنُ قَوْمٌ لَنَا شَرَفٌ.

قَالُوا: كَيْفَ؟

قَالَ: أَلَمْ تَسْمَعُوا الْحَدِيثَ: ((صَلَّى رَسُولُ اللهِ ﷺ إِلَى عَنَزَةٍ)).

وَالْمُرَادُ بِالْعَنَزَةِ: تِلْكَ الْعَصَا، لَهَا زُجٌّ، كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَجْعَلُهَا سُتْرَةً بَيْنَ يَدَيْهِ، فَصَحَّفَ الرَّجُلُ، وَجَاءَ آخَرُ فَصَحَّفَ الْمَعْنَى، وَرَوَى بِالْمَعْنَى مُصَحَّفًا، فَأَخَذَ تِلْكَ الْعَصَا -الَّتِي جَعَلَهَا النَّبِيُّ ﷺ سُتْرَةً فَصَلَّى إِلَيْهَا لِاتِّجَاهِ الْقِبْلَةِ- جَعَلَ هَذِهِ الْعَنَزَةَ عَنْزَةً -تِلْكَ الدَّابَّةُ الْحَيَوَانُ الَّتِي تَدُبُّ عَلَى الْأَرْضِ، تِلْكَ العَنْزَةُ الْمَعْرُوفَةُ- جَعَلَهَا عَنْزَةً، ثُمَّ أَخَذَهَا آخَرُ فَنَسِيَ فَرَوَى بِالْمَعْنَى، فَقَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ ﷺ إِلَى شَاةٍ!!

وَالْعَالِمُ الْفَقِيهُ لَيْسَ كَهَؤُلَاءِ، وَإِنَّمَا هُوَ دَارٍ بِأُصُولِهِ، عَارِفٌ بِمَصَادِرِهِ، وَالْعِلْمُ -فِي الْحَقِيقَةِ- نُورٌ، وَهُوَ كَكُلِّ صَنْعَةٍ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ أَدَوَاتٍ وَآلَاتٍ وَمُعَانَاةٍ وَأَسْبَابٍ.

الْعِلْمُ لَا يُعْطِيكَ بَعْضَهُ حَتَّى تُعْطِيَهِ كُلَّكَ، وَأَنْتَ -مِنْ إِعْطَائِهِ إِيَّاكَ بَعْضَهُ بَعْدَ إِذْ تُعْطِيهِ كُلَّكَ- عَلَى خَطَرٍ؛ يَعْنِي يُمْكِنُ أَنْ يُعْطِيَكَ، وَيُمْكِنُ أَلَّا يُعْطِيَكَ؛ لِأَنَّ هَاهُنَا شِقَّاً آخَرَ، وَهُوَ ذَلِكَ الْجَانِبُ الْوَهْبِيُّ، لَا الْكَسْبِيُّ، الَّذِي يَهَبُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهِ مَنْ يَشَاءُ مَا يَشَاءُ مِنْ نُورِ هَذَا الْعِلْمِ، فَيَقْذِفُهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي قَلْبِهِ، وَيَجْعَلُهُ مُسْتَقِرًّا فِيهِ. فَاللَّهُمَّ عَلِّمْنَا، وَمُنَّ عَلَيْنَا بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: ((لَعَلَّ الْكَلِمَةَ الَّتِي أَنْتَفِعُ بِهَا لَمْ أَسْمَعْهَا بَعْدُ)).

وَهَذَا قَانُونٌ فِي الطَّلَبِ.

وَكَذَلِكَ يَقُولُ أَحَدُهُمْ -هُوَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ -رَحِمَهُ اللهُ--: ((أَنَا أَطْلُبُ الْعِلْمَ إِلَى أَنْ أَدْخُلَ الْقَبْرَ)).

فَنُمَيِّزُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَالْقُرَّاءِ، وَنُمَيِّزُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَالْمُفَكِّرِينَ.. فُلَانٌ مُفَكِّرٌ إِسْلَامِيٌ!! وَلَهُ كُتُبٌ كَثِيرَةٌ، وَآرَاءٌ مَنْشُورَةٌ، وَقَضَايَا مَشْهُورَةٌ، وَيَتَكَلَّمُ فِي الدِّينِ، فَهَذَا مُفَكِّرٌ إِسْلَامِيٌّ!!

وَنَتِيجَةً لِالْتِقَاءِ الثَّقَافَتَيْنِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَالْغَرْبِيَّةِ، وَالصِّرَاعِ الْحَادِثِ بَيْنَهُمَا مَعَ اتِّسَاعِ جَبَهَاتِ الِالْتِقَاءِ وَالصِّرَاعِ الْفِكْرِيِّ؛ نَشَأَ فِي الْمُجْتَمَعَاتِ الْمُسْلِمَةِ طَائِفَةٌ مِنَ الْأَخْيَارِ الَّذِينَ يَفْهَمُونَ الْإِسْلَامَ فَهْمًا عَامًّا، يَعْرِفُونَ التَّصَوُّرَ الْإِسْلَامِيَّ -كَمَا يَقُولُونَ عَنْهُ- لِلْكَوْنِ وَالْإِنْسَانِ وَالْحَيَاةِ، وَيَطَّلِعُونَ عَلَى مُجْمَلِ الْقَضَايَا الَّتِي تُعَدُّ مَفْرِقَ طُرُقٍ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْأَدْيَانِ وَالْمَذَاهِبِ الْمُعَاصِرَةِ الْأُخْرَى؛ مِثْلَ: قَضِيَّةِ الْمَادِّيَّةِ وَفَصْلِ الدِّينِ عَنِ الْحَيَاةِ، وَالْمِلْكِيَّةِ الْفَرْدِيَّةِ، وَالنِّظَامِ الِاقْتِصَادِيِّ بِشَكْلٍ عَامٍّ، وَالنِّظَامِ الِاجْتِمَاعِيِّ، مَعَ اطِّلَاعٍ عَلَى الْمَذَاهِبِ الْمُعَاصِرَةِ، وَدِرَاسَةٍ لِمَنْهَجِ تَفْسِيرِ التَّارِيخِ.. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.

هَؤُلَاءِ مِنَ الْمُثَقَّفِينَ وَمِنَ الْمُفَكِّرِينَ، يَمْلِكُونَ وَعْيًا بِالْقَضَايَا الْمُسْتَجَدَّةِ، وَيَطَّلِعُونَ عَلَى الْحَضَارَةِ الْغَرْبِيَّةِ وَأَوْجُهِ نَقْدِهَا، لَيْسُوا مِنْ عُلَمَاءِ الشَّرِيعَةِ، وَإِنَّمَا هُمْ مُفَكِّرُونَ -عَلَى فَرْضِ صِحَّةِ هَذَا التَّعْبِيرِ- وَحُكَمَاءُ يُسْتَـنَارُ بِرَأْيِهِمْ، وَيُسْتَفَادُ مِنْ عِلْمِهِمْ فِي الْجَوَانِبِ الَّتِي أَجَادُوا فِيهَا، وَلَا يُخْلَطُ بَيْنَ تَصَدُّرِهِمْ -بِاعْتِبَارِهِمْ مُفَكِّرِينَ- وَبَيْنَ الْعُلَمَاءِ، فَهُؤَلَاءِ الْمُفَكِّرُونَ لَهُمْ مَكَانَتُهُمْ، وَبَعْضُهُمْ نَفَعَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهِ، وَلَكِنَّهُمْ -مَعَ ذَلِكَ- لَمْ يُغْنُوا عَنِ الْعُلَمَاءِ شَيْئًا، إِلَّا فِي حُدُودِ عِلْمِهِمْ وَقُدُرَاتِهِمْ.

وَوُجِدَ -أَيْضًا- طَائِفَةٌ مِنَ الْمُثَقَّفِينَ مِنَ الْأَخْيَارِ الصَّالِحِينَ تَخَصَّصُوا فِي الطِّبِّ وَالْهَنْدَسَةِ وَالْكِيمْيَاءِ وَالْعُلُومِ الْمُسَمَّاةِ بِالْعُلُومِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، هَؤُلَاءِ أَيْضًا -وَإِنْ حُمِدَ لَهُمْ تَخَصُّصُهُمْ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْعُلُومِ، وَصَارُوا مَرْجِعًا- إِلَّا أَنَّهُمْ غَيْرُ مُخْتَصِّينَ فِي الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهُمْ -فِي الِاصْطِلَاحِ الْعِلْمِيِّ وَالشَّرْعِيِّ- مِنْ جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ وَعَوَامِّهِمُ الَّذِينَ يَجِبُ أَنْ يَكُونُوا وَرَاءَ الْعُلَمَاءِ، وَيُحْظَرُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَكَلَّمُوا فِي دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- اسْتِقْلَالًا.

وَمَا وَقَعَتِ الْفِتَنُ الَّتِي تُعَانِي مِنْهَا الْأُمَّةُ الْيَوْمَ إِلَّا عِنْدَمَا فُتِحَ الْبَابُ أَمَامَ كُلِّ مَنْ مَلَكَ لِسَانًا لِيَتَكَلَّمَ، وَصَدَقَ فِينَا ذَلِكَ الْمَثَلُ الْعَامِّيُّ الْقَدِيمُ: ((كُلُّ مَنْ قَرَأَ كِتَابًا بِتَعْرِيفَةٍ، عَمِلَ فِيهَا أَبَا ظَرِيفَةَ، وَاعْتَرَضَ عَلَى الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ!!)).

هَؤُلَاءِ يَجِبُ أَنْ يَرْجِعُوا لِلْعُلَمَاءِ فِي أُمُورِ الشَّرِيعَةِ، وَيَكُونُوا عَوْنًا لَهُمْ فِي شَرْحِ وَاقِعِ تَخَصُّصَاتِهِمْ؛ فَالطَّبِيبُ يَشْرَحُ الْأُمُورَ الطِّبِّيَّةَ، وَالِاقْتِصَادِيُّ يَشْرَحُ الْجَوَانِبَ الِاقْتِصَادِيَّةَ الْعَصْرِيَّةَ لِلْعُلَمَاءِ حَتَّى يَسْتَطِيعُوا الْفُتْيَا، وَأَمَّا أَنْ يَخْتَصَّ هَؤُلَاءِ بِالْفُتْيَا اسْتِقْلَالًا؛ فَهَذَا ضَلَالٌ كَبِيرٌ!!

كَلَامُ هَؤُلَاءِ الْمُفَكِّرِينَ وَالْمُثَقَّفِينَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَحْكُومًا بِالشَّرْعِ، وَأَمَّا إِذَا بَنَى هَؤُلَاءِ الْمُثَقَّفُونَ وَالْمُفَكِّرُونَ كَلَامَهُمْ فِي أُمُورِ الشَّرِيعَةِ وَأَحْوَالِ الْأُمَّةِ الْعَامَّةِ عَلَى أَسَاسٍ مِنَ الْعُقُولِ وَالْأَهْوَاءِ، وَإِطْلَاقِ الْقَوْلِ بِالْمَصَالِحِ دُونَ نَظَرٍ فِي الْآثَارِ؛ فَإِنَّهُمْ أَشْبَهُ مَا يَكُونُونَ بِأَهْلِ الْكَلَامِ الَّذِينَ ظَهَرُوا فِي الْأُمَّةِ، وَكَانُوا بَلَاءً وَوَبَالًا عَلَيْهَا، فَأَهْلُ الْكَلَامِ أَهْلُ بِدَعٍ وَزَيْغٍ، وَلَا يُعَدُّونَ عِنْدَ الْجَمِيعِ فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ مِنْ طَبَقَاتِ الْعُلَمَاءِ.

وَكَذَلِكَ الْمُفَكِّرُونَ وَالْمُثَقَّفُونَ إِذَا مَا جَانَبُوا وَابْتَعَدُوا عَنِ الْعُلَمَاءِ وَاسْتَقَلُّوا بِالْكَلَامِ فِي الدِّينِ عَلَى حَسَبِ الرَّأْيِ وَالْأَهْوَاءِ يَكُونُونَ كَأَهْلِ الْكَلَامِ فِي الْمُتَقَدِّمِينَ، بَلَاءً وَوَبَالًا عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ.

غَايَةُ مَا عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْمُتَقَعِّرِينَ مِنَ الْعِلْمِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ السَّابِقِينَ -وَيُشْبِهُهُمْ مَنِ ابْتَعَدَ عَنِ الْعُلَمَاءِ الشَّرْعِيِّينَ الرَّاسِخِينَ الْمُتَمَكِّنِينَ، وَأَفْتَى فِي دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى حَسَبِ هَوَاهُ وَبِرَأْيِهِ، وَعَلَى حَسَبِ تَخَصُّصِهِ، وَتَخَصُّصُهُ بَعِيدٌ عَنْ شَرِيعَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ- يَكُونُ مَثَلُهُمْ -حِينَئِذٍ- كَأَهْلِ الْكَلَامِ، وَغَايَةُ مَا عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْمُتَقَعِّرِينَ عِبَارَاتٌ وَشَقَاشِقُ لَا يَعْبَأُ اللهُ بِهَا شَيْئًا، يُحَرِّفُونَ بِهَا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ.

وَقَدِيمًا قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-:

الْعِلْمُ قَـالَ اللهُ قَــالَ رَسُــــولُهُ = قَالَ الصَّحَابَةُ لَيْسَ بِالتَّمْوِيهِ

مَا الْعِلْمُ نَصْبَكَ لِلْخِلَافِ سَفَاهَةً = بَيْنَ الرَّسُولِ وَبَيْنَ رَأْيِ فِقِيهِ

هَذَا هُوَ الْعِلْمُ الشَّرْعِيُّ الَّذِي يَجْعَلُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيهِ الْعِصْمَةَ.

وَيَنْبَغِي -أَيْضًا- أَنْ نُفَرِّقَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَالْوُعَّاظِ وَالْخُطَبَاءِ؛ فَقَدْ ظَهَرَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ لِلتَّارِيخِ الْإِسْلَامِيِّ طَائِفَةٌ تُسَمَّى ((الْوُعَّاظَ)) أَوِ ((الْقُصَّاصَ))، وَكَانُوا فِي الْبِدَايَةِ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْفُقَهَاءِ، ثُمَّ تَطَوَّرَ الْأَمْرُ حَتَّى صَارَ يَعِظُ النَّاسَ مَنْ لَيْسَ بِعَالِمٍ وَلَا فَقِيهٍ.

كَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ يَجْلِسُ فِي مَجْلِسِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ الْقَاصِّ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَحْضُرُ مَجْلِسَ الْقَاصِّ مَعَ الْعَامَّةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ إِذَا رَفَعَ، حَتَّى إِذَا خَسَّتْ هَذِهِ الصِّنَاعَةُ تَعَرَّضَ لَهَا الْجُهَّالُ، فَأَعْرَضَ عَنِ الْحُضُورِ الْمُتَمَيِّزُونَ مِنَ النَّاسِ، وَتَعَلَّقَ بِالْقُصَّاصِ وَالْوُعَّاظِ الْعَوَامُّ وَالنِّسَاءُ، وَمَا زَالَ قَائِمًا إِلَى يَوْمِ النَّاسِ هَذَا.

لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الشَّخْصِ قَاصًّا أَوْ وَاعِظًا يَعِظُ النَّاسَ وَيَتَكَلَّمُ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ فِي دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، أَوْ خَطِيبًا مُفَوَّهًا: أَنْ يَكُونَ عَالِمًا، لَيْسَ بِالضَّرُورَةِ لِزَامًا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ خَطِيبًا مُؤَثِّرًا مُفَوَّهًا، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وَاعِظًا بَلِيغًا مُؤَثِّرًا، وَلَكِنَّهُ فِي الْوَقْتِ ذَاتِهِ لَا يُكُونُ عَالِمًا؛ فَكَمْ مِنْ وَاعِظٍ يَسْلُبُ قُلُوبَ النَّاسِ بِحُسْنِ حَدِيثِهِ وَحَلَاوَةِ مَنْطِقِهِ، وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الْعِلْمِ حَظٌّ وَلَا نَصِيبٌ؛ إِذْ لَيْسَ الْعِلْمُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْكَلَامِ، وَلَا بِالْقُدْرَةِ عَلَى شَدِّ مَشَاعِرِ النَّاسِ.

يَقُولُ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي الْحَدِيثِ -وَهُوَ صَحِيحٌ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ-: ((إِنَّكُمْ فِي زَمَانٍ، كَثِيرٌ عُلَمَاؤُهُ، قَلِيلٌ خُطَبَاؤُهُ -فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ--، وَإِنَّ بَعْدَكُمْ زَمَانًا، كَثِيرٌ خُطَبَاؤُهُ، قَلِيلٌ عُلَمَاؤُهُ)).

الْعَالِمُ قَدْ يَكُونُ عَيِيًّا لَا يُحْسِنُ الْكَلَامَ -نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُطْلِقَ أَلْسِنَتَنَا بِالْخَيْرِ-، وَقَدْ يَكُونُ الْعَالِمُ بِطَبْعِهِ قَلِيلَ الْكَلَامِ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى الْخَطَابَةِ، وَقَدْ يَكُونُ مِنَ الْعَوَامِّ مَنْ هُوَ بَلِيغُ اللِّسَانِ، يُقَلِّبُ الْأَلْفَاظَ كَيْفَ شَاءَ وَهُوَ مِنَ الْعَوَامِّ.

الْعُلَمَاءُ قِلَّةٌ، وَالْمُتَكَلِّمُونَ كَثِيرٌ، قَالَ مُجَاهِدٌ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((ذَهَبَ الْعُلَمَاءُ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْمُتَكَلِّمُونَ، وَمَا الْمُجْتَهِدُ فِيكُمْ إِلَّا كَاللَّاعِبِ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ))؛ يَعْنِي: كُلُّ مَنْ مَلَكَ لِسَانًا يَخْبِطُ بِهِ بَيْنَ شِدْقَيْهِ يَتَخَلَّلُ بِهِ كَمَا تَتَخَلَّلُ الْبَقَرَةُ بِلِسَانِهَا فِي كُلِّ مُنَافِقٍ عَلِيمِ اللِّسَانِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ الْعَدْنَانُ ﷺ .

لَا يَعْنِي هَذَا أَنَّ كُلَّ الْوُعَّاظِ كَانُوا مَرْذُولِينَ، وَلَا كُلَّ الْخُطَبَاءِ لَمْ يَكُونُوا عُلَمَاءَ؛ فَهَذَا الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ وَهَذَا الْخَطِيبُ التِّبْرِيزِيُّ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمَا-، وَهَذَا أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- هُوَ أَكْبَرُ وَاعِظٍ فِي تَارِيخِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَتَأْثِيرُهُ تَأْثِيرُهُ.

فِي الْمِحْنَةِ، وَفِي الْفِتْنَةِ يَصِيرُ الْعُلَمَاءُ -عَلَيْهِمُ الرَّحْمَةُ- مَصَابِيحَ الدُّجَى، ((وَاقْتَدِ بِمَنْ قَدْ مَاتَ؛ فَإِنَّ الْحَيَّ لَا تُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْفِتْنَةُ)).

وَلَكِنْ لَا نُقَدِّسُهُمْ، وَلَا نُنْزِلُهُمْ فَوْقَ مَنَازِلِهِمْ، وَإِنَّمَا هُمْ كَالنَّجْمِ بِاللَّيْلِ نَقْتَدِي بِهِ -إِذَا مَا أَرَدْنَا أَنْ نَذْهَبَ إِلَى بَيْتِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْحَرَامِ- وَنَعْرِفُ الِاتِّجَاهَاتِ مِنْ أَجْلِ تَحْدِيدِ الْقِبْلَةِ، وَنَسِيرُ فِي ضَوْءِ النَّجْمِ بِاللَّيْلِ وَنَهْتَدِي بِهِ وَنَسْتَرْشِدُ، حَتَّى إِذَا رَأَيْنَا الْكَعْبَةَ كِفَاحًا وَصِرْنَا مَعَهَا وَجْهًا لِحَجَرٍ أَسْعَدَ، حِينَئِذٍ نَسْتَغْنِي عَنِ النَّجْمِ.

وَكَذَلِكَ الْعُلَمَاءُ، هُمْ يُوَصِّلُونَنَا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ.

((وُجُوبُ مَعْرِفَةِ الْعُلَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ وَثَمَرَتُهُ))

بَيَانُ الْعِلْمِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْفِقْهِ وَالْفُقَهَاءِ، وَبَيَانُ مَنْ تَشَبَّهَ بِهِمْ وَلَيْسَ مِنْهُمْ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ -تَعَالَى- هَذَا الْأَصْلَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ قَوْلِهِ: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40] إِلَى قَوْلِهِ: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 47]. وَيَزِيدُهُ وُضُوحًا مَا صَرَّحَتْ بِهِ السُّنَّةُ فِي هَذَا الْكَلَامِ الْكَثِيرِ الْبَيِّنِ الْوَاضِحِ لِلْعَامِّيِّ الْبَلِيدِ، ثُمَّ صَارَ هَذَا أَغْرَبَ الْأَشْيَاءِ، وَصَارَ الْعِلْمُ وَالْفِقْهُ هُوَ الْبِدَعَ وَالضَّلَالَاتِ، وَخِيَارُ مَا عِنْدَهُمْ لَبْسُ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ، وَصَارَ الْعِلْمُ الَّذِي فَرَضَهُ اللهُ -تَعَالَى- عَلَى الْخَلْقِ وَمَدَحَهُ لَا يَتَفَوَّهُ بِهِ -يَعْنِي: عِنْدَهُمْ- إِلَّا زِنْدِيقٌ أَوْ مَجْنُونٌ، وَصَارَ مَنْ أَنْكَرَهُ وَعَادَاهُ وَصَنَّفَ فِي التَّحْذِيرِ مِنْهُ وَالنَّهْيِ عَنْهُ هُوَ الْفَقِيهُ الْعَالِمُ!!

إِنَّ الْعَالِمَ نُورٌ يَهْتَدِي بِهِ النَّاسُ فِي أُمُورِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَلَا يَخْفَى عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ قِصَّةُ الرَّجُلِ الَّذِي مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَتَلَ تِسْعًا وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَسَأَلَ رَجُلًا عَابِدًا هَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ، فَكَأَنَّ الْعَابِدَ اسْتَعْظَمَ الْأَمْرَ فَقَالَ: لَا، فَقَتَلَهُ السَّائِلُ فَأَتَمَّ بِهِ الْمِئَةَ.

ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى عَالِمٍ فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ لَهُ تَوْبَةً، وَأَنَّهُ لَا شَيْءَ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ، ثُمَّ دَلَّهُ عَلَى بَلَدٍ أَهْلُهُ صَالِحُونَ؛ لِيَخْرُجَ إِلَيْهِ، فَخَرَجَ فَأَتَاهُ الْمَوْتُ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ، وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ، فَانْظُرِ الْفَرْقَ بَيْنَ الْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ!

إِذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ مِنْ هُمُ الْعُلَمَاءُ حَقًّا -هُمُ الرَّبَّانِيُّونَ الَّذِينَ يُرَبُّونَ النَّاسَ عَلَى شَرِيعَةِ رَبِّهِمْ- حَتَّى يَتَمَيَّزَ هَؤُلَاءِ الرَّبَّانِيُّونَ عَمَّنْ تَشَبَّهَ بِهِمْ وَلَيْسَ مِنْهُمْ، يَتَشَبَّهُ بِهِمْ -أَيْ: بِالْعُلَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ- فِي الْمَظْهَرِ وَالْمَنْظَرِ وَالْمَقَالِ وَالْفِعَالِ، لَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْهُمْ فِي النَّصِيحَةِ لِلْخَلْقِ وَإِرَادَةِ الْحَقِّ، فَخِيَارُ مَا عِنْدَهُ أَنْ يَلْبِسَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ، وَيَصُوغُهُ بِعِبَارَاتٍ مُزَخْرَفَةٍ، يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا، بَلْ هُوَ الْبِدَعُ وَالضَّلَالَاتُ الَّذِي يَظُنُّهُ بَعْضُ النَّاسِ هُوَ الْعِلْمُ وَالْفِقْهُ، وَأَنَّ مَا سِوَاهُ لَا يَتَفَوَّهُ بِهِ إِلَّا زِنْدِيقٌ أَوْ مَجْنُونٌ.

فَلَا بُدَّ مِنَ التَّمْيِيزِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَمَنِ ادَّعَاهُ، وَبَيْنَ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَمَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ.

 ((الْعِلْمُ هُوَ الْحَيَاةُ!!))

إِنَّ الْعِلْمَ الصَّحِيحَ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ شَرْحِ الصَّدْرِ، وَحَيَاةِ الْقَلْبِ، وَطِيبِ الْعَيْشِ، شَرِيطَةَ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمَ الْمَوْرُوثَ عَنِ الرَّسُولِ ﷺ.

مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ شَرْحِ الصَّدْرِ: ((الْعِلْمُ؛ فَإِنَّهُ يَشْرَحُ الصَّدْرَ، وَيُوَسِّعُهُ حَتَّى يَكُونَ أَوْسَعَ مِنَ الدُّنْيَا، وَالْجَهْلُ يُورِثُهُ الضِّيقَ وَالْحَصْرَ وَالْحَبْسَ، فَكُلَّمَا اتَّسَعَ عِلْمُ الْعَبْدِ انْشَرَحَ صَدْرُهُ وَاتَّسَعَ، وَلَيْسَ هَذَا لِكُلِّ عِلْمٍ، بَلْ لِلْعِلْمِ الْمَوْرُوثِ عَنِ الرَّسُولِ ﷺ، وَهُوَ الْعِلْمُ النَّافِعُ، فَأَهْلُهُ أَشْرَحُ النَّاسِ صَدْرًا، وَأَوْسَعُهُمْ قُلُوبًا، وَأَحْسَنُهُمْ أَخْلَاقًا، وَأَطْيَبُهُمْ عَيْشًا)).

((وَالرَّسُولُ ﷺ كَانَ أَكْمَلَ الْخَلْقِ فِي كُلِّ صِفَةٍ يَحْصُلُ بِهَا انْشِرَاحُ الصَّدْرِ، وَاتِّسَاعُ الْقَلْبِ، وَقُرَّةُ الْعَيْنِ، وَحَيَاةُ الرُّوحِ، فَهُوَ أَكْمَلُ الْخَلْقِ فِي هَذَا الشَّرْحِ وَالْحَيَاةِ وَقُرَّةِ الْعَيْنِ، مَعَ مَا خُصَّ بِهِ مِنَ الشَّرْحِ الْحِسِّيِّ.

وَأَكْمَلُ الْخَلْقِ مُتَابَعَةً لَهُ؛ أَكْمَلُهُمُ انْشِرَاحًا وَلَذَّةً وَقُرَّةَ عَيْنٍ، وَعَلَى حَسَبِ مُتَابَعَتِهِ يَنَالُ الْعَبْدُ مِنَ انْشِرَاحِ صَدْرِهِ وَقُرَّةِ عَيْنِهِ وَلَذَّةِ رُوحِهِ مَا يَنَالُ، فَهُوَ ﷺ فِي ذُرْوَةِ الْكَمَالِ مِنْ شَرْحِ الصَّدْرِ وَرَفْعِ الذِّكْرِ وَوَضْعِ الْوِزْرِ، وَلِأَتْبَاعِهِ مِنْ ذَلِكَ بِحَسَبِ نَصِيبِهِمْ مِنَ اتِّبَاعِهِ، وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ.

وَهَكَذَا لِأَتْبَاعِهِ نَصِيبٌ مِنْ حِفْظِ اللهِ لَهُمْ، وَعِصْمَتِهِ إِيَّاهُمْ، وَدِفَاعِهِ عَنْهُمْ، وَإِعْزَازِهِ لَهُمْ، وَنَصْرِهِ لَهُمْ، بِحَسَبِ نَصِيبِهِمْ مِنَ الْمُتَابَعَةِ، فَمُسْتَقِلٌّ وَمُسْتَكْثِرٌ، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ)).

وَلَقَدِ اسْتَكْثَرَ عُلَمَاؤُنَا وَلَمْ يَسْتَقِلُّوا -رَحِمَهُمُ اللهُ- وَظَلُّوا فِي الطَّلَبِ إِلَى الْمَمَاتِ، فَأَبْقَى اللهُ ذِكْرَهُمْ، وَنَفَعَ بِآثَارِهِمْ وَفِيهِمْ قُدْوَةٌ لِلْمُقْتَدِي، وَأُسْوَةٌ لِلسَّائِرِينَ.

لَقَدْ حَقَّقَ عُلَمَاؤُنَا -رَحِمَهُمُ اللهُ- التَّوَازُنَ الصَّحِيحَ فِي مَقَايِيسِ الْوُجُودِ وَالنَّظْرَةِ إِلَى الْحَيَاةِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِلَّا بِالْعِلْمِ الصَّحِيحِ، فَالْعِلْمُ الصَّحِيحُ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي يُحَقِّقُ التَّوَازُنَ بَيْنَ مَلَكَاتِ النَّفْسِ وَقُوَى الْوُجُودِ وَجَوَاذِبِ الْحَيَاةِ، وَمَا مِنْ خَلَلٍ فِي وَاقِعِ الْحَيَاةِ تُعَانِي مِنْهُ النَّفْسُ وَيَضْنَى بِهِ الْجَسَدُ إِلَّا وَمَنْبَعُهُ فِي حَمْأَةِ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ، أَلَا إِنَّ الْعِلْمَ هُوَ الْحَيَاةُ.

نَسْأَلُ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ، وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ- أَنْ يَغْفِرَ لَنَا وَأَنْ يَرْحَمَنَا، وَأَنْ يَجْعَلَنَا جَمِيعًا مِنَ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ الْفَاهِمِينَ الْمُخْلِصِينَ، الدَّاعِينَ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى بَصِيرَةٍ.

أَسْأَلُ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ، وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ- أَنْ يَحْفَظَنَا وَإِخْوَانَنَا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا.

اللَّهُمَّ احْفَظْنَا وَإِيَّاهُمْ مِنْ كُلِّ سُوءٍ، وَرُدَّ عَنَّا وَعَنْهُمْ كَيْدَ الْكَائِدِينَ، وَحَسَدَ الْحَاسِدِينَ، وَمَكْرَ الْمَاكِرِينَ، وَفُجُورَ الْفَاجِرِينَ، وَتَقَوُّلَ الْمُتَقَوِّلِينَ.

اللَّهُمَّ إِنَّا نَدْرَأُ بِكَ فِي نُحُورِ الْمُخَالِفِينَ لِمِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ.

اللَّهُمَّ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَيَا أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ، احْفَظْنَا وَإِخْوَانَنَا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، وَافْتَحْ لَنَا فِي الدَّعْوَةِ إِلَيْكَ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ فَتْحًا مُبَارَكًا، وَاشْرَحْ لَنَا صُدُورَ خَلْقِكَ، وَهَيِّئْ لَنَا جَمِيعًا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا.

إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

المصدر:أُمَّةُ اقْرَأْ.. أُمَّةُ أَتْقِنْ..بَيْنَ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ وَعُلَمَاءِ الْفِتْنَةِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  صِفَاتُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ
  سوء الظن وكهف المطاريد !!
  يَوْمُ بَدْرٍ.. دُرُوسٌ وَعِبَرٌ وَعِبَادَاتُ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ
  الْقِيَمُ الْإِنْسَانِيَّةُ فِي سُورَةِ الْحُجُرَاتِ
  ضَوَابِطُ الْأَسْوَاقِ وَآدَابُهَا
  تَزْكِيَةُ النَّفْسِ، وَالْفَرَحُ الشَّرْعِيُّ فِي الْعِيدَيْنِ
  الطريق إلى محبة الله عز وجل
  حُبُّ اللهِ وَرَسُولِهِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالِادِّعَاءِ
  النَّفْعُ الْعَامُّ فِي مِيزَانِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ
  دُرُوسٌ مُهِمَّةٌ لِعُمُومِ المُسْلِمِينَ فِي رَمَضَانَ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان