مَرَاحِلُ وَسِمَاتُ بِنَاءِ الشَّخْصِيَّةِ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ

مَرَاحِلُ وَسِمَاتُ بِنَاءِ الشَّخْصِيَّةِ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ

((مَرَاحِلُ وَسِمَاتُ بِنَاءِ الشَّخْصِيَّةِ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((تَرْبِيَةُ النَّبِيِّ ﷺ أَعْظَمَ الشَّخْصِيَّاتِ فِي التَّارِيخِ))

فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَتَعَهَّدُ الصَّحَابَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- بِالتَّعْلِيمِ، وَالتَّرْبِيَةِ، وَتَزْكِيَةِ النُّفُوسِ، وَالْحَثِّ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَيُؤَدِّبُهُمْ بِآدَابِ الْوُدِّ وَالْإِخَاءِ، وَالْمَجْدِ وَالشَّرَفِ، وَالْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ.

وَبِجَانِبِ هَذَا كَانَ ﷺ يَحُثُّ حَثًّا شَدِيدًا عَلَى الِاسْتِعْفَافِ عَنِ الْمَسْأَلَةِ، وَيَذْكُرُ فَضَائِلَ الصَّبْرِ وَالْقَنَاعَةِ.

وَكَانَ ﷺ يَرْبِطُهُمْ بِالْوَحْيِ النَّازِلِ عَلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ رَبْطًا مُوثَقًا يَقْرَأُهُ عَلَيْهِمْ، وَيَقْرَؤُونَهُ؛ لِتَكُونَ هَذِهِ الدِّرَاسَةُ إِشْعَارًا بِمَا عَلَيْهِمْ مِنْ حُقُوقِ الدَّعْوَةِ وَتَبِعَاتِ الرِّسَالَةِ؛ فَضْلًا عَنْ ضَرُورَةِ الْفَهْمِ وَالتَّدَبُّرِ.

وَهَكَذَا رَفَعَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مَعْنَوِيَّاتِ وَمَوَاهِبَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَزَوَّدَهُمْ بِأَعْلَى الْقِيَمِ وَالْمُثُلِ، حَتَّى صَارُوا صُورَةً لِأَعْلَى قِمَّةٍ مِنَ الْكَمَالِ عُرِفَتْ فِي تَارِيخِ الْبَشَرِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ.

لَقَدْ كَانَ الْوَحْيُ يَتَنَزَّلُ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ سَلْسَلًا فِي سَلْسَلٍ، آيَاتٌ تَتَرَقْرَقُ بِنُورِ الْحِكْمَةِ مُتَنَزَّلَةً مِنْ عِنْدِ اللهِ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يُرَبِّي جِيلَ الصَّحَابَةِ عَلَى يَدَيْ نَبِيِّهِمْ مُحَمَّدٍ ﷺ تَرْبِيَةً فَذَّةً حَقًّا، عَجِيبَةً جِدًّا؛ لِأَنَّ الْجِيلَ الْأَوَّلَ الَّذِي شَهِدَ الْحَيَاةَ مَعَ الرَّسُولِ ﷺ وَالْوَحْيُ يَتَنَزَّلُ مِنْ لَدُنْ رَبِّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- عَلَى قَلْبِ نَبِيِّهِ ﷺ.. هَذَا الْجِيلُ عَاشَ فَتْرَةً فِي الْحَيَاةِ عَجِيبَةً غَرِيبَةً بِحَقٍّ وَصِدْقٍ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ كَانَ يَبِيتُ وَيُصْبِحُ وَفِي ضَمِيرِهِ وَفِي يَقِينِهِ وَفِي خَلَدِهِ لَا يَغِيبُ عَنْ عَيْنَيْ قَلْبِهِ أَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ سَامِعُهُ، وَأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ مُبْصِرُهُ، وَأَنَّهُ رُبَّمَا أَصْبَحَ أَوْ أَمْسَى وَالْقُرْآنُ يَتَنَزَّلُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ فَيَكْشِفُ خَبِيئَةَ نَفْسِهِ، وَالْقُرْآنُ يَتَنَزَّلُ عَلَى قَلْبِ النَّبِيِّ ﷺ يُخْرِجُ مَكْنُونَ صَدْرِهِ، وَالْقُرْآنُ يَتَنَزَّلُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ يُخْرِجُ الْخَبِيءَ مِنْ أَمْرِهِ.

فَلَا يَخْفَى عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، وَمَا مِنْ هَاجِسٍ يَهْجِسُ فِي النَّفْسِ وَلَا خَاطِرٍ يَلُوحُ فِي أُفُقِ الْعَقْلِ إِلَّا وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ.. إِلَّا وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ خَبِيرٌ بِهِ عَلِيمٌ بِأَمْرِهِ.

فَكَانَ الْأَصْحَابُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يَعِيشُونَ فَتْرَةً حِينَ كَانَ الْقُرْآنُ يَتَنَزَّلُ عَلَى قَلْبِ النَّبِيِّ ﷺ.. فَتْرَةً عَجِيبَةً بِحَقٍّ، وَرَبَّاهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالْأَحْدَاثِ الْمَرِيرَةِ، وَآتَاهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ، وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ، فَكَانُوا حَقًّا بَاقَةَ الْوَرْدِ حَوْلَ النَّبِيِّ ﷺ فِي بُسْتَانِ الصَّبْرِ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ يُصِيبُهُ مِنْ ذَلِكَ مَا يُصِيبُهُ، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَا يَكْتَفِي بِنُزُولِ الْقُرْآنِ، ثُمَّ يَدَعُ الصَّحَابَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- لِكِتَابِهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ لِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ، وَيُخْرِجَ مَكْنُونَاتِ صُدُورِهِمْ، وَإِنَّمَا كَانَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَعْرِضُهُمْ عَلَى كِيرِ الْمِحْنَةِ، وَيُدْخِلُهُمْ أَتُّونَ الْفِتْنَةِ؛ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنَ الْجِهَةِ الْمُقَابِلَةِ خَرَجُوا ذَهَبًا صُرَاحًا خَالِصًا لَا شَائِبَةَ فِيهِ، وَلَا كُدُورَةَ تَعْتَرِيهِ.

وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقُودُ الْمَسِيرَةَ -مَسِيرَةَ الْبَشَرِيَّةِ- بَعْدَ إِذْ أَعْلَنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِلَيْهِ أَنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَأَنَّ الْأَمْرَ قَدْ رَجَعَ إِلَى نِصَابِهِ مِنْ غَيْرِ مَا تَزْيِيفٍ لِمُزَيِّفٍ وَلَا تَحْرِيفٍ لِمُحَرِّفٍ، وَمِنْ غَيْرِ مَا شَائِبَةٍ تَعْلَقُ بِذَاكِرَةِ الْبَشَرِيَّةِ بَعْدَ بَعْثَةِ خَيْرِ الْبَرِيَّةِ ﷺ.

كَانَ رَبُّكَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- بِسُنَّتِهِ الَّتِي مَضَتْ فِي أُمَّةِ النَّبِيِّ ﷺ يُمَحِّصُ الْأَصْحَابَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَكَانَ وَعْيُهُمْ فَائِقًا، وَكَانَ حِسُّهُمْ ثَاقِبًا، وَكَانَ بَصَرُهُمْ نَافِذًا، وَكَانُوا بِحَقٍّ عَلَى قَدْرِ الْمَسْؤُولِيَّةِ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مُلْقَاةً عَلَى أَعْتَاقِهِمْ، يَحْمِلُونَهَا فِي حَيَاتِهِمْ، وَيُبَلِّغُونَهَا إِلَى مَنْ بَعْدَهُمْ لِتَصِلَ إِلَيْهِمْ نَقِيَّةً مِنْ كُلِّ زَيْفٍ بَعْدَ مَمَاتِهِمْ، فَأَدَّوُا الْأَمَانَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَكَانُوا سَابِقِينَ بِحَقٍّ كَمَا أَرَادَ رَبُّكَ -جَلَّ وَعَلَا- لِلْجِيلِ الَّذِي اصْطَفَاهُ مِنَ الْبَشَرِيَّةِ مُصَاحِبًا لِخَيْرِ الْبَرِيَّةِ ﷺ.

كَانُوا يُحِسُّونَ أَنَّ الْوَحْيَ عِنْدَمَا يَتَنَزَّلُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ فَهِيَ النِّعْمَةُ الْكُبْرَى، وَهِيَ الْمِنَّةُ الْعُظْمَى؛ وَلِذَلِكَ لَمَّا انْطَلَقَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- إِلَى أُمِّ أَيْمَنَ يَصِلَانِ مَنْ كَانَ يُحِبُّ نَبِيُّهُمْ ﷺ بَعْدَ مَمَاتِهِ، يَصِلَانِ مَنْ كَانَ يَصِلُهُ الرَّسُولُ ﷺ فِي حَيَاتِهِ، وَهِيَ لَمْحَةٌ مِنْ لَمْحَاتِ الْوَفَاءِ عَزَّ نَظِيرُهَا، وَقَلَّ مَثِيلُهَا إِلَّا فِي هَذَا الْجِيلِ الَّذِي صَاغَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهِ الْوَفَاءَ مُجَسَّمًا، فَكَانَ حَيًّا يَتَحَرَّكُ فِي أَشْخَاصٍ، وَكَانَ مَاثِلًا يَبْدُو فِي ذَوَاتٍ وَأَرْكَانٍ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَى الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ-.

((انْطَلِقْ بِنَا إِلَى أُمِّ أَيْمَنَ نَزُورُهَا كَمَا كَانَ يَزُورُهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ))، وَأُمُّ أَيْمَنَ حَاضِنَةُ نَبِيِّنَا ﷺ مِنْ بَعْدِ وَفَاةِ أُمِّهِ.

وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُحِبُّهَا وَيُجِلُّهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، فَلَمَّا مَاتَ جَاءَ هَذَا الْخَاطِرُ فِي قَلْبِ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَأَخَذَ بِيَدِ الْفَارُوقِ لِكَيْ يَزُورَا مَعًا أُمَّ أَيْمَنَ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا-، ((انْطَلِقْ بِنَا نَزُورُ أُمَّ أَيْمَنَ كَمَا كَانَ يَزُورُهَا النَّبِيُّ ﷺ)).

فَلَمَّا تَحَصَّلَا عِنْدَهَا، وَلَمَّا انْتَهَيَا إِلَيْهَا، لَمَّا رَأَتْهُمَا -وَكَانَتْ تَرَاهُمَا دَائِمًا مَعَ الْحَبِيبِ ﷺ، وَالْآنَ أَيْنَ شَخْصُهُ؟!! وَأَيْنَ رَاحَ جِسْمُهُ؟!! فَابْتَدَرَتِ الدُّمُوعُ بِعَيْنَيْهَا تَسِحُّ سَحًّا، وَأَقْبَلَا عَلَيْهَا يُوَاسِيَانِهَا، وَيُؤَمِّلَانِ خَيْرًا، فَقَالَا: ((أَمَا تَعْلَمِينَ أَنَّ مَا عِنْدَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- هُوَ خَيْرٌ لِنَبِيِّهِ ﷺ؟!!))، وَأَنَّهُ قَدِ انْتَقَلَ ﷺ إِلَى الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، وَأَنَّ مَا أَعَدَّهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ بَرْزَخًا وَمَآلًا هُوَ خَيْرٌ مِنْ هَذِهِ الْفَانِيَةِ الَّتِي هِيَ مُصْطَرَعٌ لِلْأَحْدَاثِ وَمُعْتَرَكٌ لِلنِّيَّاتِ، وَالَّتِي يَتَلَاطَمُ فِيهَا هَذَا الْبَاطِلُ عَلَى سَاحِلِ الْخَيْرِ يَنْحَسِرُ عَنْهُ حِينًا، وَيَطْغَى عَلَيْهِ حِينًا؟!! أَمَا عَلِمْتِ أَنَّ ((مَا عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هُوَ خَيْرٌ لِنَبِيِّهِ ﷺ؟!!)).

وَتَقُولُ الْمَرْأَةُ الْمُؤْمِنَةُ الَّتِي حَضِنَتْ رَسُولَ اللهِ ﷺ صَغِيرًا، فَكَانَ فِي حَضَانَتِهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((مَا أَبْكِي أَنِّي لَا أَكُونُ أَعْلَمُ أَنَّ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ ﷺ، وَلَكِنْ أَبْكِي أَنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ مِنَ السَّمَاءِ))، فَجَعَلَا يَبْكِيَانِ، فَأَخَذَا يَذْرِفَانِ الدُّمُوعَ يَسِحَّانِهَا سَحًّا، فَهَيَّجَتْهُمَا عَلَى الْبُكَاءِ فَقَعَدَا يَبْكِيَانِ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا-.

كَانَ الْقُرْآنُ يَتَنَزَّلُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ فِي تِلْكَ الْفَتْرَةِ، وَهِيَ فَتْرَةٌ مُتَمَيِّزَةٌ فِي تَارِيخِ الْبَشَرِيَّةِ كُلِّهَا، كَانَ الْقُرْآنُ يَتَنَزَّلُ لِكَيْ يَقُولَ: يَا فُلَانُ! أَسْرَرْتَ فِي نَفْسِكَ كَذَا، وَأَعْلَنْتَ كَذَا، وَعَمِلْتَ فِي الْخَفَاءِ كَذَا وَفِي الْعَلَنِ كَذَا، وَيَا فُلَانُ! وَيَا فُلَانُ! بِذَاتِهِ يُخَاطِبُهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَيُكَلِّمُهُ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، يُكَلِّمُهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْهُ إِلَيْهِ، عِنْدَمَا يَتَنَزَّلُ الْقُرْآنُ كَاشِفًا، وَعِنْدَمَا تَتَعَرَّى النَّفْسُ الْإِنْسَانِيَّةُ؛ فَإِذَا هِيَ مُتَجَرِّدَةٌ مِنْ كُلِّ رِدَاءٍ وَكِسَاءٍ، وَإِذَا هِيَ وَاقِفَةٌ فِي حَالَةٍ مِنْ حَالَاتِ التَّجَرُّدِ الْفَذِّ، يَعْتَرِيهَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ مَا يَعْتَرِيهَا مِنَ الْإِشْفَاقِ وَالْوَجَلِ، وَمِنَ الْمَحَبَّةِ وَالْإِقْبَالِ؛ يَا فُلَانُ! أَسْرَرْتَ كَذَا، مِنْهُ إِلَيْهِ!!

عِنْدَمَا يَتَنَزَّلُ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ وَالْمَرْءُ فِي خَلْوَتِهِ يَعْلَمُ أَنَّ اللهَ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ سَامِعٌ إِلَيْهِ، وَأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِهِ شَيْءٌ.

فِي تِلْكَ الْفَتْرَةِ أَخَذَ النَّبِيُّ ﷺ يُرَبِّي الْأُمَّةَ بِدُرُوسِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَلَكِنَّ الْأَصْحَابَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- كَانُوا يَثْبُتُونَ مَعَ الرَّسُولِ ﷺ فِي مَهَبِّ الْأَعَاصِيرِ، تَأْتِي إِلَيْهِمْ يَنْثَنُونَ مَعَهَا حِينًا وَيَسْتَقِيمُونَ حِينًا، وَفِي كُلِّ الْحَالَاتِ لَا يَخْرُجُونَ عَنِ الطَّبِيعَةِ الْبَشَرِيَّةِ الَّتِي خَلَقَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْإِنْسَانَ عَلَيْهَا.

((مَرَاحِلُ بِنَاءِ الشَّخْصِيَّةِ الْمُسْلِمَةِ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ))

لَقَدْ حَرِصَ نَبِيُّنَا الْكَرِيمُ ﷺ عَلَى بِنَاءِ الشَّخْصِيَّةِ السَّوِيَّةِ الَّتِي تُعَمِّرُ وَتَبْنِي، وَتُصْلِحُ وَلَا تُفْسِدُ، وَفْقَ الرِّسَالَةِ السَّامِيَةِ الَّتِي دَعَا الْإِسْلَامُ إِلَيْهَا؛ حَيْثُ يَقُولُ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ-: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61].

(({هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} أَيْ: خَلَقَكُمْ فِيهَا {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} أَيِ: اسْتَخْلَفَكُمْ فِيهَا، وَأَنْعَمَ عَلَيْكُمْ بِالنِّعَمِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَمَكَّنَكُمْ فِي الْأَرْضِ؛ تَبْنُونَ، وَتَغْرِسُونَ، وَتَزْرَعُونَ، وَتَحْرُثُونَ مَا شِئْتُمْ، وَتَنْتَفِعُونَ بِمَنَافِعِهَا، وَتَسْتَغِلُّونَ مَصَالِحَهَا)).

وَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ ۗ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ} [الأعراف: 10].

((يَقُولُ -تَعَالَى- مُمْتَنًّا عَلَى عِبَادِهِ بِذِكْرِ الْمَسْكَنِ وَالْمَعِيشَةِ: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ} أَيْ: هَيَّأْنَاهَا لَكُمْ؛ بِحَيْثُ تَتَمَكَّنُونَ مِنَ الْبِنَاءِ عَلَيْهَا وَحَرْثِهَا، وَوُجُوهِ الِانْتِفَاعِ بِهَا {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} مِمَّا يَخْرُجُ مِنَ الْأَشْجَارِ وَالنَّبَاتِ، وَمَعَادِنِ الْأَرْضِ، وَأَنْوَاعِ الصَّنَائِعِ وَالتِّجَارَاتِ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي هَيَّأَهَا، وَسَخَّرَ أَسْبَابَهَا {قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} اللهَ الَّذِي أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ بِأَصْنَافِ النِّعَمِ، وَصَرَفَ عَنْكُمُ النِّقَمَ)).

إِنَّ الْمُتَأَمِّلَ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ الْمُشَرَّفَةِ يُدْرِكُ أَنَّهَا بَيَّنَتْ مَرَاحِلَ بِنَاءِ الشَّخْصِيَّةِ السَّوِيَّةِ، وَأَوَّلُ هَذِهِ الْمَرَاحِلِ: بِنَاءُ الْعَقِيدَةِ الْإِيمَانِيَّةِ الرَّاسِخَةِ فِي نَفْسِ الْمُسْلِمِ مُنْذُ نُعُومَةِ أَظْفَارِهِ وَحَدَاثَةِ سِنِّهِ، وَتَرْبِيَتُهُ عَلَى الْإِقْبَالِ عَلَى عِبَادَةِ رَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ فَعَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْبَجَلِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: ((كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ وَنَحْنُ فِتْيَانٌ حَزَاوِرَةٌ، فَتَعَلَّمْنَا الْإِيمَانَ قَبْلَ أَنْ نَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ، ثُمَّ تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ فَازْدَدْنَا بِهِ إِيمَانًا)). أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه.

وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((مُرُوا أَبْنَاءَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ)). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَغَيْرُهُ.

وَلِلتِّرْمِذِيِّ: «عَلِّمُوا الصَّبِيَّ الصَّلَاةَ ابْنَ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُ عَلَيْهَا ابْنَ عَشْرٍ».

وَقَدْ كَانَ الرَّسُولُ ﷺ وَالصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يَقُومُونَ بِتَرْبِيَةِ النَّاشِئَةِ عَلَى الْأَدَبِ الْكَرِيمِ، وَعَلَى الْتِزَامِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ؛ فَقَدْ رَأَى الرَّسُولُ ﷺ رَبِيبَهُ فِي حَجْرِهِ عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، رَآهُ تَطِيشُ يَدُهُ فِي الصَّحْفَةِ أَثْنَاءَ الطَّعَامِ -وَكَانَ يَأْكُلُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ-، فَقَالَ لَهُ الرَّسُولُ ﷺ -مُعَلِّمًا، وَمُهَذِّبًا، وَمُؤَدِّبًا-: ((يَا غُلَامُ! سَمِّ اللهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ)).

وَيَبْقَى أَثَرُ هَذَا التَّأْدِيبِ فِي نَفْسِ الْغُلَامِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ حَيَاتَهُ كُلَّهَا، اسْتَمِعْ إِلَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ بَعْدُ: ((فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ.

أَيْ: فَمَا زَالَتْ تِلْكَ هَيْئَةَ أَكْلَتِي بَعْدُ، عَلَى حَسَبِ مَا عَلَّمَهُ إِيَّاهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ.

وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((كُنَّا نُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا، وَنَجْعَلُ لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ الْعِهْنِ -أَيْ: مِنَ الصُّوفِ-، فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهُ ذَلِكَ -تَعْنِي: اللُّعْبَةَ- حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الْإِفْطَارِ)).

فَهَكَذَا تَرْبِيَةُ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَكَذَلِكَ رَبَّى الصَّحَابَةُ الْكِرَامُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- أَبْنَاءَهُمْ، فَخَرَجَتْ أَجْيَالٌ مُسْلِمَةٌ تَنْشُرُ الْخَيْرَ فِي رُبُوعِ الْأَرْضِ، وَعَاشَتْ بِالْإِسْلَامِ وَلِلْإِسْلَامِ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ ﷺ يَوْمًا فَقَالَ: ((يَا غُلَامُ، إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ)) بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الْهَاءِ، أَيْ: أَمَامَكَ، كَمَا فِي رِوَايَةٍ ((احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ)).

((احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَإنِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الْأَقْلَامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ)). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: ((حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ)).

وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِ التِّرْمِذِيِّ -كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ فِي ((الْمَجْمُوعِ))-: ((احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إِلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ)) أَيْ: تَحَبَّبْ إِلَيْهِ بِلُزُومِ طَاعَتِهِ وَاجْتِنَابِ مُخَالَفَتِهِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ.

((وَاعْلَمْ أَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَمَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)). أَخْرَجَ هَذَا بِنَحْوِهِ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي ((الْمُسْنَدِ))، وَأَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا. 

فَهَذَا الْحَدِيثُ يَتَضَمَّنُ وَصَايَا عَظِيمَةً، وَقَوَاعِدَ كُلِّيَّةً مِنْ أَهَمِّ أُمُورِ الدِّينِ؛ حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: تَدَبَّرْتُ هَذَا الْحَدِيثَ فَأَدْهَشَنِي، وَكِدْتُ أَطِيشُ؛ فَوَا أَسَفَا مِنَ الْجَهْلِ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَقِلَّةِ التَّفَهُّمِ لِمَعْنَاهُ.

قَوْلُهُ ﷺ: ((احْفَظِ اللهَ)) يَعْنِي: احْفَظْ حُدُودَهُ، وَحُقُوقَهُ، وَأَوَامِرَهُ، وَنَوَاهِيَهُ.

وَحِفْظُ ذَلِكَ: هُوَ الْوُقُوفُ عِنْدَ الْأَوَامِرِ بِالِامْتِثَالِ، وَعِنْدَ النَّوَاهِي بِالِاجْتِنَابِ، وَعِنْدَ حُدُودِهِ فَلَا يُتَجَاوَزُ مَا أَمَرَ بِهِ وَأَذِنَ فِيهِ إِلَى مَا نَهَى عَنْهُ؛ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ مِنَ الْحَافِظِينَ لِحُدُودِ اللهِ.

وَمِنْ أَعْظَمِ مَا يَجِبُ حِفْظُهُ مِنْ أَوَامِرِ اللهِ: الصَّلَاةُ، وَقَدْ أَمَرَ اللهُ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، فَقَالَ: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَىٰ} [البقرة: 238]. 

وَمَدَحَ الْمُحَافِظِينَ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ : {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المعارج: 34]

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ : ((مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَ لَهُ عِنْدَ اللهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ  الْجَنَّةَ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ التَّرْغِيبِ)) وَغَيْرِهِ.

وَكَذَلِكَ الطَّهَارَةُ؛ فَإِنَّهَا مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إِلَّا مُؤْمِنٌ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَه، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ الْجَامِعِ)) وَغَيْرِهِ.

وَمِمَّا يُؤْمَرُ بِحِفْظِهِ: الْأَيْمَانُ، قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89]؛ فَإِنَّ الْأَيْمَانَ يَقَعُ الْإِنْسَانُ فِيهَا كَثِيرًا، وَيُهْمِلُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ مَا يَجِبُ فِيهَا فَلَا يَحْفَظُهُ وَلَا يَلْتَزِمُهُ.

وَمِمَّا يُؤْمَرُ بِحِفْظِهِ: الرَّأْسُ وَالْبَطْنُ، كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمَرْفُوعِ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ الْجَامِعِ)): ((الِاسْتِحْيَاءُ مِنَ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَتَحْفَظَ الْبَطْنَ وَمَا حَوَى)).

فَلَا بُدَّ مِنْ حِفْظِ الرَّأْسِ حَتَّى لَا يَتَطَرَّقَ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْأَفْكَارِ الْخَائِبَةِ الَّتِي تُصَادِمُ الدِّينَ أَوْ تُشَكِّكُ فِيهِ، وَكَذَلِكَ يَحْفَظُ مَا فِيهِ مِنْ نَظَرِهِ وَسَمْعِهِ وَفَمِهِ وَلِسَانِهِ.

وَكَذَلِكَ يَحْفَظُ الْبَطْنَ؛ فَإِنَّ أَوَّلَ مَا يُنْتِنُ مِنَ الْإِنْسَانِ بَطْنُهُ، كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ، فَلَا يَتَّبِعُ فِيهِ إِلَّا حَلَالًا صِرْفًا لَا شُبْهَةَ فِيهِ.

وَمِنْ أَعْظَمِ مَا يَجِبُ حِفْظُهُ مِنْ نَوَاهِي اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: اللِّسَانُ وَالْفَرْجُ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ حَفِظَ مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ)). أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي ((الْمُسْتَدْرَكِ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ الْجَامِعِ)).

وَأَمَرَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِحِفْظِ الْفُرُوجِ، وَمَدَحَ الْحَافِظِينَ لَهَا فَقَالَ: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور: 30].

وَقَالَ: {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ} [الأحزاب: 35].

وَقَوْلُهُ ﷺ: ((يَحْفَظْكَ)) يَعْنِي: أَنَّ مَنْ حَفِظَ حُدُودَ اللهِ وَرَاعَى حُقُوقَهُ حَفِظَهُ اللهُ؛ فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ.

وَحِفْظُ اللهِ لِعَبْدِهِ يَدْخُلُ فِيهِ نَوْعَانِ:

أَحَدُهُمَا: حِفْظُهُ لَهُ فِي مَصَالِحِ دُنْيَاهُ؛ كَحِفْظِهِ فِي بَدَنِهِ، وَوَلَدِهِ، وَأَهْلِهِ، وَمَالِهِ.

وَمَنْ حَفِظَ اللهَ فِي صِبَاهُ وَقُوَّتِهِ حَفِظَهُ اللهُ فِي حَالِ كِبَرِهِ وَضَعْفِ قُوَّتِهِ ، وَمَتَّعَهُ بِسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ ، وَحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ وَعَقْلِهِ.

النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ الْحِفْظِ -وَهُوَ أَشْرَفُ النَّوْعَيْنِ-: حِفْظُ اللهِ لِلْعَبْدِ فِي دِينِهِ وَإِيمَانِهِ، فَيَحْفَظُهُ فِي حَيَاتِهِ مِنَ الشُّبُهَاتِ الْمُضِلَّةِ، وَمِنَ الشَّهَوَاتِ الْمُحَرَّمَةِ، وَيَحْفَظُ عَلَيْهِ دِينَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ، فَيَتَوَفَّاهُ عَلَى الْإِيمَانِ.

فَاللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- يَحْفَظُ عَلَى الْمُؤْمِنِ الْحَافِظِ لِحُدُودِهِ دِينَهُ، وَيَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يُفْسِدُ عَلَيْهِ دِينَهُ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْحِفْظِ، وَقَدْ لَا يَشْعُرُ الْعَبْدُ بِبَعْضِهَا، وَقَدْ يَكُونُ كَارِهًا لَهَا.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24] قَالَ: ((يَحُولُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَبَيْنَ الْمَعْصِيَةِ الَّتِي تَجُرُّهُ إِلَى النَّارِ)).

وَقَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: ((احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ))؛ وَفِي رِوَايَةٍ:((أَمَامَكَ)) مَعْنَاهُ: أَنَّ مَنْ حَفِظَ حُدُودَ اللهِ وَرَاعَى حُقُوقَهُ؛ وَجَدَ اللهَ مَعَهُ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَ، يَحُوطُهُ وَيَنْصُرُهُ، وَيَحْفَظُهُ وَيُوَفِّقُهُ وَيُسَدِّدُهُ {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} [النحل: 128].

وَهَذِهِ الْمَعِيَّةُ الْخَاصَّةُ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ -تَعَالَى- لِمُوسَى وَهَارُونَ: {لَا تَخَافَا ۖ إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ} [طه: 46].

وَقَالَ مُوسَى: {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62].

وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ لِأَبِي بَكْرٍ وَهُمَا فِي الْغَارِ: ((مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا؛ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا)).

وَقَوْلُهُ ﷺ: ((تَعَرَّفْ إِلَى اللهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ)) يَعْنِي: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا اتَّقَى اللهَ، وَحَفِظَ حُدُودَهُ وَرَاعَى حُقُوقَهُ فِي حَالِ رَخَائِهِ؛ فَقَدْ تَعَرَّفَ بِذَلِكَ إِلَى اللهِ، وَصَارَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ مَعْرِفَةٌ خَاصَّةٌ، فَعَرَفَهُ رَبُّهُ فِي الشِّدَّةِ، وَرَعَى لَهُ تَعَرُّفَهُ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ، فَنَجَّاهُ مِنَ الشَّدَائِدِ بِهَذِهِ الْمَعْرِفَةِ.

فَهَذِهِ مَعْرِفَةٌ خَاصَّةٌ تَقْتَضِي قُرْبَ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ، وَمَحَبَّتَهُ لَهُ، وَإِجَابَتَهُ لِدُعَائِهِ.

فَمَنْ عَامَلَ اللهَ بِالتَّقْوَى وَالطَّاعَةِ فِي حَالِ رَخَائِهِ؛ عَامَلَهُ اللهُ بِاللُّطْفِ وَالْإِعَانَةِ فِي حَالِ شِدَّتِهِ.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ اللهُ لَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ فَلْيُكْثِرِ الدُّعَاءَ فِي الرَّخَاءِ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَّنَهُ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ الْجَامِعِ)). 

قَالَ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ: ((اذْكُرُوا اللهَ فِي الرَّخَاءِ يَذْكُرْكُمْ فِي الشِّدَّةِ، وَإِنَّ يُونُسَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَانَ يَذْكُرُ اللهَ -تَعَالَى-، فَلَمَّا وَقَعَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ قَالَ اللهُ: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 143-144])).

وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِسُؤَالِ اللهِ -تَعَالَى- وَحْدَهُ: ((إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ))، وَهَذَا مُنْتَزَعٌ مِنْ قَوْلِهِ -تَعَالَى-: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]؛ فَإِنَّ السُّؤَالَ لِلَّهِ هُوَ دُعَاؤُهُ وَالرَّغْبَةُ إِلَيْهِ؛ فَتَضَمَّنَ هَذَا الْكَلَامُ أَنْ يَسْأَلَ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَلَا يَسْأَلُ غَيْرَهُ، وَأَنْ يُسْتَعَانَ بِاللَّهِ دُونَ غَيْرِهِ.

وَأَمَّا السُّؤَالُ؛ فَقَدْ أَمَرَ اللهُ -تَعَالَى- بِمَسْأَلَتِهِ فَقَالَ: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ} [النساء: 32].

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -مَرْفُوعًا-: ((مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَه، وَالْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَحَسَّنَهُ ثَمَّةَ.

وَفِي النَّهْيِ عَنْ مَسْأَلَةِ الْمَخْلُوقِينَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ، ((وَقَدْ بَايَعَ النَّبِيُّ ﷺ جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَى أَلَّا يَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا، وَ((شَيْئًا)): نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّهْيِ أَلَّا يَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا، مِنْهُمْ: أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَأَبُو ذَرٍّ، وَثَوْبَانُ، وَكَانَ أَحَدُهُمْ يَسْقُطُ سَوْطُهُ أَوْ خِطَامُ نَاقَتِهِ فَلَا يَسْأَلُ أَحَدًا أَنْ يُنَاوِلَهُ إِيَّاهُ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

وَلَا يَقْدِرُ عَلَى كَشْفِ الضُّرِّ وَجَلْبِ النَّفْعِ سِوَاهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ۖ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس: 107].

وَاللَّهُ -سُبْحَانَهُ- يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ وَيُرْغَبَ إِلَيْهِ فِي الْحَوَائِجِ، وَيُلَحَّ فِي سُؤَالِهِ وَدُعَائِهِ، وَيَغْضَبُ عَلَى مَنْ لَا يَسْأَلُهُ، وَالْمَخْلُوقُ بِخِلَافِ ذَلِكَ كُلِّهِ، يَكْرَهُ أَنْ يُسْأَلَ ، وَيُحِبُّ أَلَّا يُسْأَلَ؛ لِعَجْزِهِ وَفَقْرِهِ وَحَاجَتِهِ.

اللهُ يَغْضَبُ إِنْ تَرَكْتَ سُؤَالَهُ       =     وَبُنَيُّ آدَمَ حِينَ يُسْأَلُ يَغْضَبُ

وَالْإِنْسَانُ فِي حَاجَةٍ لِلِاسْتِعَانَةِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ.

فَأَمَّا الِاسْتِعَانَةُ بِاللَّهِ -تَعَالَى- دُونَ جَمِيعِ الْخَلْقِ؛ فَلِأَنَّ الْعَبْدَ عَاجِزٌ عَنْ الِاسْتِقْلَالِ بِجَلْبِ مَصَالِحِهِ وَدَفْعِ مَضَارِّهِ، وَلَا مُعِينَ لَهُ عَلَى جَلْبِ مَصَالِحِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ إِلَّا اللهُ.

فَمَنْ أَعَانَهُ اللهُ فَهُوَ الْمُعَانُ، وَمَنْ خَذَلَهُ فَهُوَ الْمَخْذُولُ، هَذَا تَحْقِيقُ مَعْنَى قَوْلِ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ؛ فَإِنَّ الْمَعْنَى: لَا تَحَوُّلَ لِلْعَبْدِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَلَا قُوَّةَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَهَذِهِ كَلِمَةٌ عَظِيمَةٌ، وَهِيَ: ((كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ)) كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ.

وَمَعْنَاهَا: لَا تَحَوُّلَ لِلْعَبْدِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَلَا قُوَّةَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ التَّحَوُّلِ إِلَّا بِاللَّهِ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.

وَمَنْ تَرَكَ الِاسْتِعَانَةَ بِاللَّهِ، وَاسْتَعَانَ بِغَيْرِهِ؛ وَكَلَهُ اللهُ إِلَى مَنِ اسْتَعَانَ بِهِ فَصَارَ مَخْذُولًا.

وَقَوْلُ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((رُفِعَتِ الْأَقْلَامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ))؛ هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ تَقَدُّمِ كِتَابَةِ الْمَقَادِيرِ كُلِّهَا، وَالْفَرَاغِ مِنْهَا مِنْ أَمَدٍ بَعِيدٍ، وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْكِنَايَاتِ وَأَبْلَغِهَا.

وَقَدْ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ الْكَثِيرَةُ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْمَعْنَى، فَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا} [الحديد: 22].

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ -كَمَا رَوَى ذَلِكَ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ))-: ((إِنَّ اللهَ كَتَبَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ)).

وَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-  أَنَّ رَجُلًا قَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ، فِيمَ الْعَمَلُ الْيَوْمَ؟ أَفِيمَا جَفَّتْ بِهِ الأَقْلامُ، وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ، أَمْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ؟)).

قَالَ: ((لَا؛ بَلْ فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الأَقْلامُ، وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ)) .

قَالَ: ((فَفِيمَ الْعَمَلُ؟)).

قَالَ: ((اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ضَعْفَ الْخَلْقِ وَعَجْزَهُمْ.

فَقَالَ: ((وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ)).

فَلَوْ أَنَّ الْخَلْقَ جَمِيعًا أَرَادُوا أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَقْضِهِ اللهُ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللهُ عَلَيْكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْكَ.

وَالْمُرَادُ أَنَّ مَا يُصِيبُ الْعَبْدَ فِي دُنْيَاهُ مِمَّا يَضُرُّهُ أَوْ يَنْفَعُهُ فَكُلُّهُ مُقَدَّرٌ عَلَيْهِ، وَلَا يُصِيبُ الْعَبْدَ إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ السَّابِقِ؛ وَلَوِ اجْتَهَدَ عَلَى ذَلِكَ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ.

وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى مِثْلِ هَذَا فِي قَوْلِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة: 51].

وَاعْلَمْ أَنَّ مَدَارَ جَمِيعِ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَمَا ذُكِرَ قَبْلَهُ وَمَا ذُكِرَ بَعْدَهُ، فَهُوَ مُتَفَرِّعٌ عَلَيْهِ وَرَاجِعٌ إِلَيْهِ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إِلَّا مَا كَتَبَهُ اللهُ لَهُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ وَنَفْعٍ وَضُرٍّ، وَأَنَّ اجْتِهَادَ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ عَلَى خِلَافِ الْمَقْدُورِ غَيْرُ مُفِيدٍ أَلْبَتَّةَ؛ عَلِمَ حِينَئِذٍ أَنَّ اللهَ وَحْدَهُ هُوَ الضَّارُّ النَّافِعُ، الْمُعْطِي الْمَانِعُ.

فَأَوْجَبَ لَهُ ذَلِكَ إِفْرَادَهُ بِالْخَوْفِ، وَالرَّجَاءِ، وَالْمَحَبَّةِ، وَالسُّؤَالِ، وَالتَّضَرُّعِ، وَالدُّعَاءِ، وَتَقْدِيمِ طَاعَتِهِ عَلَى طَاعَةِ الْخَلْقِ جَمِيعًا، وَأَنْ يَتَّقِيَ سُخْطَهُ وَلَوْ كَانَ فِيهِ سُخْطُ الْخَلْقِ جَمِيعًا، وَيَقْتَضِي ذَلِكَ إِفْرَادَهُ بِالِاسْتِعَانَةِ بِهِ، وَالسُّؤَالِ لَهُ، وَإِخْلَاصِ الدُّعَاءِ لَهُ فِي حَالِ الرَّخَاءِ.

وَقَوْلُ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا)) يَعْنِي: أَنَّ مَا أَصَابَ الْعَبْدَ مِنَ الْمَصَائِبِ الْمُؤْلِمَةِ الْمَكْتُوبَةِ عَلَيْهِ، إِذَا صَبَرَ عَلَيْهَا كَانَ لَهُ فِي الصَّبْرِ عَلَيْهَا خَيْرٌ كَثِيرٌ، وَحُصُولُ الْيَقِينِ لِلْقَلْبِ بِالْقَضَاءِ السَّابِقِ وَالتَّقْدِيرِ الْمَاضِي يُعِينُ الْعَبْدَ عَلَى أَنْ تَرْضَى نَفْسُهُ بِمَا أَصَابَهُ.

دَرَجَتَانِ لِلْمُؤْمِنِ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ فِي الْمَصَائِبِ، إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَرْضَى بِذَلِكَ، وَهَذِهِ دَرَجَةٌ عَالِيَةٌ رَفِيعَةٌ جِدًّا.

وَأَمَّا الَّذِي فَرَضَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عِنْدَ وُقُوعِ الْمَصَائِبِ فَهُوَ الصَّبْرُ، هَذَا وَاجِبٌ، أَنْ يَصْبِرَ عَلَى الْبَلَاءِ، وَهِيَ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ، وَهَذِهِ لِمَنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ؛ فَالرِّضَا فَضْلٌ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ مُسْتَحَبٌّ، وَالصَّبْرُ وَاجِبٌ عَلَى الْمُؤْمِنِ حَتْمٌ.

*وَالْفَرْقُ بَيْنَ الرِّضَا وَالصَّبْرِ:

أَنَّ الصَّبْرَ: كَفُّ النَّفْسِ وَحَبْسُهَا عَنِ التَّسَخُّطِ مَعَ وُجُودِ الْأَلَمِ، هَذَا هُوَ الصَّبْرُ مَعَ تَمَنِّي زَوَالِ ذَلِكَ، وَكَفُّ الْجَوَارِحِ عَنِ الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى الْجَزَعِ.

وَأَمَّا الرِّضَا: فَانْشِرَاحُ الصَّدْرِ وَسَعَتُهُ بِالْقَضَاءِ، وَتَرْكُ تَمَنِّي زَوَالِ ذَلِكَ الْمُؤْلِمِ، وَإِنْ وَجَدَ الْإِحْسَاسَ بِالْأَلَمِ؛ لَكِنَّ الرِّضَا يُخَفِّفُهُ؛ لِمَا يُبَاشِرُ الْقَلْبَ مِنْ رُوحِ الْيَقِينِ وَالْمَعْرِفَةِ.

وَإِذَا قَوِيَ الرِّضَا فَقَدْ يُزِيلُ الْإِحْسَاسَ بِالْأَلَمِ بِالْكُلِّيَّةِ، كَمَا فِي حَالِ إِحْدَى الْعَابِدَاتِ لَمَّا جُرِحَتْ إِصْبَعُهَا فَضَحِكَتْ، فَقِيلَ لَهَا: تَضْحَكِينَ مَعَ هَذَا الْجُرْحِ؟! فَقَالَتْ: حَلَاوَةُ أَجْرِهَا أَنْسَتْنِي مَرَارَةَ أَلَمِهَا.

فَالرِّضَا مَقَامٌ عَالٍ جِدًّا لَا يَصِلُهُ إِلَّا الْأَفْذَاذُ.

هَذَا الْحَدِيثُ حَدِيثٌ عَظِيمٌ جَلِيلٌ جِدًّا كَسَائِرِ أَحَادِيثِ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ حَتَّى قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ كَمَا مَرَّ ذِكْرُ ذَلِكَ: إِنَّهُ لَمَّا تَأَمَّلَ هَذَا الْحَدِيثَ كَادَ عَقْلُهُ يَطِيشُ مِمَّا حَوَاهُ هَذَا الْحَدِيثُ مِنَ الْمَعَانِي، وَتَأَسَّفَ تَأَسُّفًا عَظِيمًا عَلَى غَفْلَةِ النَّاسِ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ.

فَتَأَمَّلْهُ؛ عَسَى اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنْ يَفْتَحَ لَكَ فِيهِ فَهْمًا، وَأَنْ يَجْعَلَ لَكَ فِيهِ مَخْرَجًا مِنْ كَثِيرٍ مِمَّا يُلِمُّ بِالْإِنْسَانِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ؛ لِأَنَّ الْمَرْءَ مَا دَامَ حَيًّا فَلَا بُدَّ مِنْ كَرْبٍ يُصِيبُهُ، وَأَلَمٍ يُحِيطُ بِهِ، وَهَمٍّ يَنْزِلُ عَلَيْهِ، وَغَمٍّ يَنْزِلُ بِسَاحَتِهِ، دَارُ الْكَرْبِ، دَارُ الْآلَامِ، دَارُ الشُّرُورِ، دَارُ الْهُمُومِ، وَدَارُ الْغُرُورِ، لَيْسَ فِيهَا رَاحَةٌ.

الرَّاحَةُ الَّتِي فِيهَا إِنَّمَا هِيَ فِي ذِكْرِ اللهِ، فَإِذَا لَمْ يَجِدِ الْمَرْءُ رَاحَتَهُ فِي ذَلِكَ فَلَا رَاحَةَ لَهُ، وَإِنَّ فِي الدُّنْيَا لَجَنَّةً مَنْ لَمْ يَدْخُلْهَا لَمْ يَدْخُلْ جَنَّةَ الْآخِرَةِ، وَهِيَ جَنَّةُ اللُّجْإِ إِلَى اللهِ، وَالِانْطِرَاحِ بَيْنَ يَدَيْهِ بِالْعُبُودِيَّةِ الْمَحْضَةِ مَعَ انْكِسَارِ الْقَلْبِ.

فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي النَّظَرِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ؛ فَإِنَّ مَنْ تَأَمَّلَ فِيهِ تَأَمُّلًا صَحِيحًا آتَاهُ اللهُ خَيْرًا كَثِيرًا.

وَمِنَ الطُّفُولَةِ إِلَى الشَّبَابِ؛ فَقَدِ اهْتَمَّ الْإِسْلَامُ الْعَظِيمُ بِالشَّبَابِ وَبِتَرْبِيَتِهِمُ اهْتِمَامًا كَبِيرًا، قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- وَاصِفًا فِتْيَةَ الْكَهْفِ الْمُؤْمِنِينَ: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13].

نَحْنُ بِعَظَمَةِ رُبُوبِيَّتِنَا وَشُمُولِ عِلْمِنَا نَقْرَأُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ خَبَرَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ ذَا الشَّأْنِ، مُتَّصِفًا بِأَنَّهُ حَقٌّ ثَابِتٌ، إِنَّهُمْ شُبَّانٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ، وَزِدْنَاهُمْ بِمَعُونَتِنَا وَتَوْفِيقِنَا إِيمَانًا وَبَصِيرَةً.

وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفِتْيَانَ الشَّبَابَ أَسْرَعُ اسْتِجَابَةً لِنِدَاءِ الْحَقِّ، وَأَشَدُّ عَزْمًا وَتضْحِيَةً فِي سَبِيلِهِ.

وَمِنْ فَوَائِدِ الْآيَةِ:

ضَرُورَةُ الِاهْتِمَامِ بِتَرْبِيَةِ الشَّبَابِ؛ لِأَنَّهُمْ أَزْكَى قُلُوبًا، وَأَنْقَى أَفْئِدَةً، وَأَكْثَرُ حَمَاسًا، وَعَلَيْهِمْ تَقُومُ نَهْضَةُ الْأُمَمِ.

وَقَدْ جَمَعَ الشَّبَابُ بَيْنَ الْإِقْرَارِ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَتَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ، وَالْتِزَامِ ذَلِكَ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى كَمَالِ مَعْرِفَتِهِمْ بِرَبِّهِمْ، وَزِيَادَةِ الْهُدَى مِنَ اللهِ -تَعَالَى- لَهُمْ.

وَكَذَلِكَ اهْتَمَّ النَّبِيُّ ﷺ بِالشَّبَابِ وَبِبِنَاءِ شَخْصِيَّاتِهِمْ، قَالَ ﷺ: ((سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: الإِمَامُ العَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ، اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ أَخْفَى؛ حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَقَدْ حَثَّنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَى اغْتِنَامِ هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ الْمُهِمَّةِ مِنْ مَرَاحِلِ الْعُمُرِ بِالْعَمَلِ وَالْعَطَاءِ، وَالتَّزَوُّدِ مِنْ عَمَلِ الْخَيْرِ لِأَنْفُسِنَا وَدِينِنَا وَمُجْتَمَعِنَا؛ لِتَحْقِيقِ سَعَادَتِنَا وَمَا فِيهِ خَيْرُنَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، قَالَ ﷺ: ((اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغُلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ)). أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي ((الشُّعَبِ)) بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الشَّبَابَ نِعْمَةٌ كَغَيْرِهَا مِنَ النِّعَمِ، وَأَنَّ الْعَبْدَ سَيُسْأَلُ عَنْهَا أَمَامَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ ﷺ: ((لَا تَزُولُ قَدَمَا ابْنِ آدَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ؛ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

النَّبِيُّ ﷺ حَرِيصٌ عَلَى بِنَاءِ الشَّخْصِيَّةِ الْمُسْلِمَةِ، وَاسْتِقَامَتِهَا إِلَى آخِرِ لَحْظَةٍ فِي الْحَيَاةِ؛ فَقَدْ حَثَّنَا النَّبِيُّ ﷺ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ إِلَى آخِرِ أَعْمَارِنَا، قَالَ ﷺ: ((مَنْ كَانَ آخِرَ كَلَامِهِ مِنَ الدُّنْيَا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ دَخَلَ الْجَنَّةَ)).

فَالنُّطْقُ بِالْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ، كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، كَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ، مِفْتَاحِ دَارِ السَّعَادَةِ، وَهِيَ كَلِمَةُ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، النُّطْقُ بِهَا قَبْلَ الْوَفَاةِ، وَأَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ آخِرَ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ الْإِنْسَانُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا عَلَامَةٌ مِنْ عَلَامَاتِ حُسْنِ الْخَاتِمَةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ رَتَّبَ عَلَى النُّطْقِ بِهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ دُخُولَ الْجَنَّةِ.

وَهَذَا يَدْفَعُنَا إِلَى الْإِكْثَارِ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ، وَأَنْ نَجْتَهِدَ فِي تَلْقِينِهَا مَوْتَانَا إِذَا مَا ظَهَرَتْ عَلَيْهِمْ عَلَامَاتُ الْمَوْتِ، وَكَانُوا فِي سِيَاقِ الِاحْتِضَارِ؛ أَنْ نُلَقِّنَهُمْ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، فَيَأْتِي الْإِنْسَانُ إِلَى الْمُحْتَضِرِ الَّذِي يَمُوتُ وَيَأْمُرُهُ، يَقُولُ لَهُ: قُلْ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)).

وَالنَّبِيُّ ﷺ لَمَّا حَضَرَتِ الْوَفَاةُ عَمَّهُ أَبَا طَالِبٍ، وَكَانَ كَافِرًا لَمْ يُسْلِمْ؛ وَلَكِنَّهُ كَانَ كَثِيرَ الدِّفَاعِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ؛ حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يَصِلْ إِلَى الرَّسُولِ ﷺ شَيْءٌ يَكْرَهُهُ إِلَّا بَعْدَ مَوْتِهِ -إِلَّا بَعْدَ مَوْتِ عَمِّهِ-، مَعَ أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا.

وَالنَّبِيُّ ﷺ بَعْدَ أَنْ مَاتَتْ أُمُّهُ كَفَلَهُ جَدُّهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، فَظَلَّ عِنْدَهُ سَنَتَيْنِ ثُمَّ مَاتَ، فَكَفَلَهُ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ، فَبَقِيَ النَّبِيُّ ﷺ مَعَ عَمِّهِ، وَكَانَ عَمُّهُ يُحِبُّهُ حُبًّا شَدِيدًا، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ ذَهَبَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَأْمُرَهُ بِقَوْلِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ؛ لِيَشْفَعَ لَهُ بِهَا عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

ذَهَبَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى عَمِّهِ وَهُوَ فِي سِيَاقِ الْمَوْتِ، فَوَجَدَ عِنْدَهُ رَجُلَيْنِ مِنْ رُؤُوسِ الْكُفْرِ مِنْ قُرَيْشٍ -مِنْ رُؤُوسِ الْكُفْرِ فِي مَكَّةَ-، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: ((يَا عَمُّ! قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، كَلِمَةٌ أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ)).

فَقَالَ لَهُ هَذَانِ الرَّجُلَانِ مِنْ رُؤُوسِ الْكُفْرِ: أَتَدَعُ دِينَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَتَتْبَعُ مُحَمَّدًا؟!!

فَلَمْ يَقُلْهَا.

وَكَرَّرَ النَّبِيُّ ﷺ الْأَمْرَ مَرَّةً وَمَرَّةً، وَخَرَجَتْ رُوحُ أَبِي طَالِبٍ -عَمِّ رَسُولِ اللهِ ﷺ-، وَلَمْ يَقُلْ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)).

وَقَالَ ﷺ: ((إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ)). وَهُوَ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ رِوَايَةِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا)).

وَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَثَلُ الْأَعْمَالِ كَمَثَلِ الْإِنَاءِ، إِذَا طَابَ أَعْلَاهُ طَابَ أَسْفَلُهُ، وَإِذَا خَبُثَ أَعْلَاهُ خَبُثَ أَسْفَلُهُ)).

وَقَالَ ﷺ: ((إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، ثُمَّ يَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُ النَّارَ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، ثُمَّ يَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ)).

وَهَذَا يُفَسِّرُ حَدِيثَ النَّبِيِّ ﷺ الَّذِي أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: حَدَّثَنَا الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ ﷺ: ((إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ إِلَيْهِ الْمَلَكَ، ويُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بكَتْبِ أَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَرِزْقِهِ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ)).

((بكَتْبِ أَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَرِزْقِهِ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ)).

((أُسُسُ بِنَاءِ الشَّخْصِيَّةِ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ))

أُسُسُ بِنَاءِ الشَّخْصِيَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ هِيَ الْأُسُسُ الَّتِي تَقُومُ عَلَيْهَا وَتَتَمَيَّزُ بِهَا شَخْصِيَّةُ الْمُسْلِمِ عَنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ.

*وأَوَّلُ هَذِهِ الْأُسُسِ وَأَهَمُّهَا فِي السُّنَّةِ: بِنَاءُ الْعَقِيدَةِ وَتَرْسِيخُ الْإِيمَانِ فِي النَّفْسِ؛ فَالْإِيمَانُ بِاللهِ يَزْرَعُ فِي الشَّخْصِيَّةِ الطُّمَأْنِينَةَ وَالسَّكِينَةَ، وَيَجْعَلُ الْإِنْسَانَ فِي مَعِيَّةِ اللهِ وَحِفْظِهِ، التَّوْحِيدُ فِيهِ الْأَمْنُ وَالْأَمَانُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ}: أَيْ بِشِرْكٍ {أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 82].

بِالتَّوْحِيدِ تَكُونُ الْعِزَّةُ، وَيَتَحَقَّقُ النَّصْرُ فِي الدُّنْيَا، وَتَكُونُ عِزَّةُ الْمَرْءِ فِي الْآخِرَةِ، كُلُّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ.

{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51].

{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عِمْرَان: 139].

فَالْعِزَّةُ وَالنَّصْرُ دُنْيَا وَآخِرَةً لَا يَتَحَقَّقَانِ إِلَّا بِتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ لِلْعَزِيزِ المَجِيدِ.

إِنَّ التَّوْحِيدَ يُحَرِّرُ الْعَبْدَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ؛ لِيَكُونَ عَبْدًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ رَبِّ الْعِبَادِ.

فَالتَّوْحِيدُ الْمُحَقَّقُ الصَّافِي يُحَرِّرُ الْإِنْسَانَ مِنَ التَّعَلُّقِ بِغَيْرِ اللهِ؛ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ، وَالْآلِهَةِ الْمُدَّعَاةِ الْبَاطِلَةِ.

وَيَجْعَلُ التَّوْحِيدُ الْإِنْسَانَ شَاعِرًا بِعِزَّةٍ وَكَرَامَةٍ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ فِي تَحْقِيقِ عُبُودِيَّتِهِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَهُ وَبَرَأَهُ وَسَوَّاهُ.

يُحَرِّرُ عَقْلَهُ كَمَا حَرَّرَ قَلْبَهُ، يُحَرِّرُ عَقْلَهُ مِنَ الْخُرَافَاتِ، مِنَ التُّرَّهَاتِ، مِنَ الْخُزَعْبَلَاتِ؛ حَتَّى لَا يَخَافَ إِلَّا اللهَ، وَلَا يَرْجُوَ إِلَّا اللهَ، وَلَا يَتَعَلَّقَ إِلَّا بِاللهِ، وَهَذِهِ مِنْ أَعْظَمِ ثَمَرَاتِ التَّوْحِيدِ وَأَفْضَالِهِ.

وَأَمَّا الْمُشْرِكُ؛ فَهُوَ مُوَزَّعُ الْقَلْبِ، مُقَلْقَلُ الْبَالِ، لَا يَهْدَأُ لَهُ ضَمِيرٌ، وَلَا يَسْتَقِرُّ عَلَى حَالٍ؛ لِأَنَّ الشِّرْكَ يُحَرِّمُ عَلَى صَاحِبِهِ دُخُولَ الْجَنَّةِ، وَيُوجِبُ لَهُ النَّارَ وَالدُّخُولَ فِيهَا، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ فِي الْحَيَاةِ كَالْأَنْعَامِ؛ بَلْ هُوَ أَضَلُّ، وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ.

{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة: 72].

{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا} [النِّسَاء: 48].

إِنَّ الشِّرْكَ يُطْفِئُ نُورَ الْفِطْرَةِ: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)} [التِّين: 4-6].

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ خَلَقَ الْخَلْقَ لِعِبَادَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ، وَلَا تَتَحَقَّقُ فِيهِمُ الْإِنْسَانِيَّةُ الْحَقَّةُ إِلَّا إِذَا حَقَّقُوا الْغَرَضَ الَّذِي لِأَجْلِهِ خَلَقَهُمُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-، وَإِذَا لَمْ يُحَقِّقُوهُ تَمَزَّقَتْ نُفُوسُهُمْ.

الشِّرْكُ يُمَزِّقُ وَحْدَةَ النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ.

{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام: 163].

*وَمِنْ أُسُسِ بِنَاءِ الشَّخْصِيَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ: الْقِيَامُ بِالْعُبُودِيَّةِ، وَتَتَمَثَّلُ فِي دَعَائِمِ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ التَّطْبِيقُ الْعَمَلِيُّ لِلْعَقِيدَةِ، وَمِنْ ثَمَرَاتِ الْعِبَادَاتِ: السُّلُوكُ الصَّحِيحُ، وَالْخُلُقُ الْقَوِيمُ، وَتَرْسُمُ الْعُبُودِيَّةُ لِشَخْصِيَّةِ الْمُسْلِمِ الطَّرِيقَ السَّوِيَّ، فَيَعِيشُ حَيَاتَهُ مَوْصُولًا بِرَبِّهِ، فَاعِلًا فِي مُجْتَمَعِهِ، يَذُوقُ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ، فَلَا يَنْبَعِثُ مِنْ حَيَاتِهِ إِلَّا الْخَيْرُ، وَقَدْ وَصَفَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- نَبِيَّهُ ﷺ بِالْعُبُودِيَّةِ -بِالْوَصْفِ الشَّرِيفِ- فِي أَعْظَمِ الْمَقَامَاتِ.

فِي مَقَامِ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن: 19] أَيْ: جَمَاعَاتٍ جَمَاعَاتٍ، يُرِيدُونَ إِيصَالَ الضُّرِّ إِلَيْهِ، وَإِيقَاعَ الْمَكْرُوهِ عَلَيْهِ، وَهَيْهَاتَ.

{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ}: فَوَصَفَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي هَذَا الْمَقَامِ الشَّرِيفِ بِهَذَا الْوَصْفِ الشَّرِيفِ.

بَلْ فِي مَقَامِ الْكِفَايَةِ وَالْحِفْظِ ذَكَرَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَذَا الْوَصْفِ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36]؟!!

بَلَى، كَافٍ.

وَتَكُونُ الْكِفَايَةُ عَلَى قَدْرِ الْعُبُودِيَّةِ، فَمَنْ جَاءَ بِعُبُودِيَّةٍ كَامِلَةٍ فَلَهُ مِنَ الْكِفَايَةِ بِحَسَبِهَا، وَمَنْ جَاءَ بِعُبُودِيَّةٍ نَاقِصَةٍ فَبِحَسَبِ مَا جَاءَ بِهِ تَكُونُ الْكِفَايَةُ.

وَفِي مَقَامِ التَّحَدِّي وَصَفَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَذَا الْوَصْفِ الشَّرِيفِ: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} [البقرة: 23].

فِي هَذَا الْمَقَامِ الشَّرِيفِ -فِي مَقَامِ التَّحَدِّي- وَصَفَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَذَا الْوَصْفِ.

وَفِي مَقَامِ الْإِسْرَاءِ لَمَّا أُسْرِيَ بِهِ لَيْلًا، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَوَاتِ الْعُلَى حَتَّى كَانَ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، ثُمَّ تَقَدَّمَ فَاخْتَرَقَ، وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ جِهَارًا وَكِفَاحًا مِنْهُ إِلَيْهِ، وَكَلَّفَهُ رَبُّهُ بِمَا كَلَّفَهُ ﷺ.

فِي هَذَا الْمَقَامِ الشَّرِيفِ وَصَفَهُ رَبُّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَذَا الْوَصْفِ الشَّرِيفِ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1].

فَوَصَفَهُ بِوَصْفِ الْعُبُودِيَّةِ.

وَأَمَّا هُوَ -بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي وَنَفْسِي ﷺ-؛ فَإِنَّهُ قَدْ حَقَّقَ هَذَا الْوَصْفَ تَحْقِيقًا، وَأَتَى بِهِ عَلَى وَجْهِهِ الَّذِي لَا يَتَخَلَّفُ ﷺ.

النَّبِيُّ ﷺ يَقُومُ اللَّيْلَ حَتَّى تَتَوَرَّمَ قَدَمَاهُ، حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ، حَتَّى تَتَشَقَّقَ قَدَمَاهُ ﷺ، فَإِذَا رُوجِعَ: أَلَيْسَ قَدَ غَفَرَ لَكَ رَبُّكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟!!

فَلِمَ هَذَا الْعَنَاءُ؟!!

لَيْسَ بِعَنَاءٍ، وَإِنَّمَا هُوَ اقْتِرَابٌ مِنْ حَقِيقَةِ الْعُبُودِيَّةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا خَلَقَهُ اللهُ، وَهُوَ خَيْرُ مَنْ حَقَّقَ الْعُبُودِيَّةَ للهِ، فَإِذَا رُوجِعَ قَالَ: ((أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا ﷺ!! )).

الْعِبَادَةُ لِلَّهِ هِيَ الْغَايَةُ الْمَحْبُوبَةُ لَهُ، وَالْمُرْضِيَةُ لَهُ، وَالَّتِي خَلَقَ الْخَلْقَ لَهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].

وَبِهَا أُرْسِلَ جَمِيعُ الرُّسُلِ، كَمَا قَالَ نُوحٌ لِقَوْمِهِ: {اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59].

وَكَذَلِكَ قَالَ هُودٌ، وَصَالِحٌ، وَشُعَيْبٌ، وَغَيْرُهُمْ لِقَوْمِهِمْ.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ۖ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} [النحل: 36].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].

وَجَعَلَ ذَلِكَ لَازِمًا لِرَسُولِهِ إِلَى الْمَوْتِ، كَمَا قَالَ: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99].

وَبِذَلِكَ وَصَفَ مَلَائِكَتَهُ وَأَنْبِيَاءَهُ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ}  [الأنبياء: 19- 20].

وَذَمَّ الْمُسْتَكْبِرِينَ عَنْهَا بِقَوْلِهِ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60].

وَنَعَتَ صَفْوَةَ خَلْقِهِ بِالْعُبُودِيَّةِ لَهُ فَقَالَ تَعَالَى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان: 6].

وَقَالَ: {وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا...} الْآيَاتِ [الفرقان: 63- 77].

وَقَالَ تَعَالَى عَنِ الْمَسِيحِ -الَّذِي ادُّعِيَتْ فِيهِ الْإِلَهِيَّةُ وَالنُّبُوَّةُ-: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف: 59].

وَبِالْعُبُودِيَّةِ نَعَتَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كُلَّ مَنِ اصْطَفَى مِنْ خَلْقِهِ فِي قَوْلِهِ: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47)} [ص: 45-47].

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ ((الصَّحِيحِ)): «لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ؛ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ».

فَالدِّينُ كُلُّهُ دَاخِلٌ فِي الْعِبَادَةِ.

حَيَاةُ الْإِنْسَانِ كُلُّهَا مِنْ مَوْلِدِهِ لِمَمَاتِهِ، بِحَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ؛ كُلُّهَا عُبُودِيَّةٌ للهِ، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162-163].

((خَصَّصَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَشْرَفَ الْعِبَادَاتِ فَقَالَ: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} أَيْ: ذَبْحِي؛ وَذَلِكَ لِشَرَفِ هَاتَيْنِ الْعِبَادَتَيْنِ وَفَضْلِهِمَا، وَدَلَالَتِهِمَا عَلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ، وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ، وَبِالذَّبْحِ الَّذِي هُوَ بَذْلُ مَا تُحِبُّهُ النَّفْسُ مِنَ الْمَالِ لِمَا هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهَا، وَهُوَ اللَّهُ -تَعَالَى-.

وَمَنْ أَخْلَصَ فِي صِلَاتِهِ وَنُسُكِهِ؛ اسْتَلْزَمَ ذَلِكَ إِخْلَاصَهُ لِلَّهِ فِي سَائِرِ أَعْمَالِهِ.

وَقَوْلُهُ: {وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي} أَيْ: مَا آتِيهِ فِي حَيَاتِي، وَمَا يُجْرِيهِ اللَّهُ عَلَيَّ، وَمَا يُقَدِّرُ عَلَيَّ فِي مَمَاتِي؛ الْجَمِيعُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

{لا شَرِيكَ لَهُ} فِي الْعِبَادَةِ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَالتَّدْبِيرِ، وَلَيْسَ هَذَا الْإِخْلَاصُ لِلَّهِ ابْتِدَاعًا مِنِّي، وَبِدْعًا أَتَيْتُهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي، بَلْ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ أَمْرًا حَتْمًا، لَا أَخْرُجُ مِنَ التَّبِعَةِ إِلَّا بِامْتِثَالِهِ {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ)).

وَمِنْ هُنَا تَجِدُ الْمُسْلِمِينَ مُتَمَيِّزِينَ عَنْ غَيْرِهِمْ بِتَقَلُّبِهِمْ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ فِي طَاعَةِ رَبِّهِمْ وَعِبَادَتِهِ، قَالَ عَنْهُمْ رَبُّهُمْ -سُبْحَانَهُ-: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 112].

((كَأَنَّهُ قِيلَ: مَنْ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ لَهُمُ الْبِشَارَةُ مِنَ اللَّهِ بِدُخُولِ الْجَنَّاتِ، وَنَيْلِ الْكَرَامَاتِ؟ فَقَالَ: هُمُ {التَّائِبُونَ} أَيِ: الْمُلَازِمُونَ لِلتَّوْبَةِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ عَنْ جَمِيعِ السَّيِّئَاتِ، {الْعَابِدُونَ} أَيِ: الْمُتَّصِفُونَ بِالْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ، وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَى طَاعَتِهِ مِنْ أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَالْمُسْتَحَبَّاتِ فِي كُلِّ وَقْتٍ؛ فَبِذَلِكَ يَكُونُ الْعَبْدُ مِنَ الْعَابِدِينَ.

{الْحَامِدُونَ} لِلَّهِ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَالْيُسْرِ وَالْعُسْرِ، الْمُعْتَرِفُونَ بِمَا لِلَّهِ عَلَيْهِمْ مِنَ النِّعَمِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، الْمُثْنُونَ عَلَى اللَّهِ بِذِكْرِهَا وَبِذِكْرِهِ فِي آنَاءِ اللَّيْلِ وَآنَاءِ النَّهَارِ، {السَّائِحُونَ} فُسِّرَتِ السِّيَاحَةُ بِالصِّيَامِ، أَوِ السِّيَاحَةِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، وَفُسِّرَتْ بِسِيَاحَةِ الْقَلْبِ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ عَلَى الدَّوَامِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسِّيَاحَةِ: السَّفَرُ فِي الْقُرُبَاتِ؛ كَالْحَجِّ، وَالْعُمْرَةِ، وَالْجِهَادِ، وَطَلَبِ الْعِلْمِ، وَصِلَةِ الْأَقَارِبِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

{الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ} أَيِ: الْمُكْثِرُونَ مِنَ الصَّلَاةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، {الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} وَيَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ الْوَاجِبَاتِ وَالْمُسْتَحَبَّاتِ، {وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ} وَهِيَ جَمِيعُ مَا نَهَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَنْهُ، {وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} بِتَعَلُّمِهِمْ حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، وَمَا يَدْخُلُ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَالْأَحْكَامِ وَمَا لَا يَدْخُلُ، الْمُلَازِمُونَ لَهَا فِعْلًا وَتَرْكًا.

{وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} لَمْ يَذْكُرْ مَا يُبَشِّرُهُمْ بِهِ؛ لِيَعُمَّ جَمِيعَ مَا رُتِّبَ عَلَى الْإِيمَانِ مِنْ ثَوَابِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ وَالْآخِرَةِ، فَالْبِشَارَةُ مُتَنَاوِلَةٌ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ، وَأَمَّا مِقْدَارُهَا وَصِفَتُهَا فَإِنَّهَا بِحَسَبِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِيمَانِهِمْ، قُوَّةً وَضَعْفًا، وَعَمَلًا بِمُقْتَضَاهُ)).

عِبَادَ اللهِ! {اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ}.

حَقِّقُوا الْعُبُودِيَّةَ للهِ بِالْمَعْنَى الْخَاصِّ، وَهُوَ مَا حَقَّقَهُ نَبِيُّكُمْ ﷺ.

*وَمِنْ أُسُسِ بِنَاءِ الشَّخْصِيَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ: الْأُسْوَةُ الْحَسَنَةُ، فَيَبْدَأُ الْمُسْلِمُ تَكْوِينَ شَخْصِيَّتِهِ الْإِسْلَامِيَّةِ سُلُوكًا وَتَطْبِيقًا مِنْ تَوْجِيهَاتِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَسِيرَةِ الرَّسُولِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، وَصَحَابَتِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].

«لَقَدْ كَانَ لَكُمْ -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- فِي أَقْوَالِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَأَفْعَالِهِ، وَأَخْلَاقِهِ، وَثِقَتِهِ بِاللهِ، وَثَبَاتِهِ فِي الشَّدَائِدِ وَالْمِحَنِ، وَصَبْرِهِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَقِتَالِهِ بِنَفْسِهِ، وَكُلِّ جُزْئِيَّاتِ سُلُوكِهِ فِي الْحَيَاةِ.. لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِ قُدْوَةٌ صَالِحَةٌ وَخَصْلَةٌ حَسَنَةٌ مِنْ حَقِّهَا أَنْ يُؤْتَسَى وَيُقْتَدَى بِهَا لِمَنْ كَانَ يُؤَمِّلُ مُرْتَقِبًا ثَوَابَ اللهِ، وَيَرْجُو السَّعَادَةَ الْخَالِدَةَ يَوْمَ الدِّينِ، وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا فِي جَمِيعِ الْمَوَاطِنِ بِالسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ».

فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ مُتَابِعًا لِلنَّبِيِّ ﷺ فِي عَقِيدَتِهِ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْوَحْيِ مِنْ رَبِّهِ، فِيمَا دَلَّ بِهِ عَلَى أَسْمَاءِ رَبِّهِ وَصِفَاتِهِ، وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، وَمَا أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْ يُؤْخَذَ بِهِ مِنْ أَمْرٍ وَمَا نَهَى عَنْهُ مِنْ نَهْيٍ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ ﷺ.

فَيَأْتِي الْإِنْسَانُ بِالْمُتَابَعَةِ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ فِي الْعَقِيدَةِ، وَفِي الْقَوْلِ؛ فَلَا يَتَكَلَّمُ إِلَّا بِمَا يُوَافِقُ الشَّرْعَ مُتَابِعًا لِرَسُولِ اللهِ ﷺ.

فَمِنْ أَجْلِ أَنْ تَكُونَ مُتَابِعًا، مِنْ أَجْلِ أَنْ يُحِبَّكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَنْبَغِي أَنْ تُتَابِعَ النَّبِيَّ ﷺ بَدْءًا فِي عَقِيدَتِهِ؛ إِذْ إِنَّهُ أُرْسِلَ بِهَذَا الْأَمْرِ كَمَا أُرْسِلَ النَّبِيُّونَ وَالْمُرْسَلُونَ لِتَوْحِيدِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

فَتُتَابِعُ النَّبِيَّ ﷺ فِي عَقِيدَتِهِ!

وَتُتَابِعُ النَّبِيَّ ﷺ فِي قَوْلِهِ!

وَتُتَابِعُ النَّبِيَّ ﷺ فِي فِعْلِهِ!

وَتُتَابِعُ النَّبِيَّ ﷺ فِي أَخْلَاقِهِ وَفِي سُلُوكِهِ ﷺ؛ {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ}.

*وَمِنَ الْأُسُسِ الْهَامَّةِ فِي بِنَاءِ شَخْصِيَّةِ الْمُسْلِمِ: الْعِلْمُ؛ حَيْثُ تَتَسَامَى شَخْصِيَّةُ الْمُسْلِمِ بِالْعِلْمِ الَّذِي يَكْشِفُ لَهُ طَرِيقَ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ، وَيُنِيرُ مَسَالِكَ الْحَيَاةِ، فَيَمْضِي فِيهَا عَلَى هُدًى، فَتَتَمَيَّزُ شَخْصِيَّتُهُ عَنْ غَيْرِهِ بِالْعِلْمِ الْمُفِيدِ، قَالَ تَعَالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18].

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِ الْعِلْمِ، وَشَرَفِ الْعُلَمَاءِ وَفَضْلِهِمْ؛ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ أَحَدٌ أَشْرَفَ مِنَ الْعُلَمَاءِ لَقَرَنَهُمُ اللهُ بِاسْمِهِ وَاسْمِ مَلَائِكَتِهِ كَمَا قَرَنَ اسْمَ الْعُلَمَاءِ.

وَقَالَ فِي شَرَفِ الْعِلْمِ لِنَبِيِّهِ ﷺ: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114].

فَلَوْ كَانَ شَيْءٌ أَشْرَفَ مِنَ الْعِلْمِ لَأَمَرَ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ ﷺ أَنْ يَسْأَلَهُ الْمَزِيدَ مِنْهُ كَمَا أَمَرَ أَنْ يَسْتَزِيدَهُ مِنَ الْعِلْمِ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9].

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّهُ سُبْحَانَهُ نَفَى التَّسْوِيَةَ بَيْنَ أَهْلِهِ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ، كَمَا نَفَى التَّسْوِيَةَ بَيْنَ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَأَصْحَابِ النَّارِ، فَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُون} [الزمر: 9]، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الحشر: 20]، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ فَضْلِهِمْ وَشَرَفِهِمْ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [سبأ: 6].

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ أُولِي الْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ حَقًّا، وَجَعَلَ هَذَا ثَنَاءً عَلَيْهِمْ، وَاسْتِشْهَادًا بِهِمْ)).

وقال -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: أَهْلُ الذِّكْرِ: أَهْلُ الْقُرْآنِ، وَقِيلَ: أَهْلُ الْعِلْمِ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ)).

وَقَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَخْبَرَ -سُبْحَانَهُ- أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ هُمْ أَهْلُ خَشْيَتِهِ؛ بَلْ خَصَّهُمْ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ بِذَلِكَ، فَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ}، وَهَذَا حَصْرٌ لِخَشْيَتِهِ فِي أُولِي الْعِلْمِ)).

قَالَ تَعَالَى: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114].

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ- أَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يَسْأَلَهُ مَزِيدَ الْعِلْمِ، وَكَفَى بِهَذَا شَرَفًا لِلْعِلْمِ أَنْ أَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يَسْأَلَهُ الْمَزِيدَ مِنْهُ)).

وَمِنْ أَهَمِّ الْأُسُسِ فِي بِنَاءِ الشَّخْصِيَّةِ الْمُسْلِمَةِ: التَّرْبِيَةُ عَلَى الْعَمَلِ بِالْعِلْمِ؛ فَمِنَ الْمَعْلُومِ الْمُقَرَّرِ أَنَّ الْعِلْمَ إِنَّمَا يَشْرُفُ مِنْ أَجْلِ الْعَمَلِ بِهِ؛ لِأَجْلِ مَا يُحْدِثُهُ فِي النَّفْسِ وَالرُّوحِ وَالضَّمِيرِ مِنْ أَثَرٍ، وَمَا يَنْعَكِسُ بِهِ عَلَى الْحَيَاةِ مِنْ سُلُوكٍ وَعَمَلٍ.

وَكُلُّ عِلْمٍ لَا يُثْمِرُ عَمَلًا فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَبَيْنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ فَجْوَةٌ -إِنْ وُجِدَتْ- لَا تُرْدَمُ إِلَّا بِالنِّفَاقِ.

وَإِنَّ مِمَّا تَمَيَّزَ بِهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ: كَوْنَهُمْ قَرَنُوا بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ؛ فَعَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ قَالَ: ((حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- أَنَّهُمْ تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ عَشْرَ آيَاتٍ عَشْرَ آيَاتٍ، لَا يَتَجَاوَزُوهُنَّ حَتَّى يَفْقَهُوهُنَّ، وَيَعْمَلُوا بِهِنَّ، قَالُوا: فَتَعَلَّمْنَا الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا)).

وَهَذِهِ عَلَامَةٌ فَارِقَةٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَصْحَابِ نَبِيِّنَا ﷺ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَعَلَّمُوا الْعِلْمَ لِلتَّرَفِ الْفِكْرِيِّ، وَلَا لِلْمَتَاعِ الْعَقْلِيِّ، وَلَا لِيُمَارُوا بِهِ الْعُلَمَاءَ، وَلَا لِيُجَارُوا بِهِ السُّفَهَاءَ، وَلَا لِيَرْتَفِعُوا بِهِ عَلَى أَكْتَافِ الْخَلْقِ، وَإِنَّمَا تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ لِلْعَمَلِ، وَبِهَذَا وَأَمْثَالِهِ مِنَ الْأُصُولِ النَّافِعَةِ وَالْقَوَاعِدِ الْجَامِعَةِ كَانُوا سَابِقِينَ؛ بِحَيْثُ لَا يُدْرَكُونَ وَلَا يُلْحَقُونَ.

وَالْعِلْمُ مَا أَوْرَثَكَ الْخَشْيَةَ، وَكُلُّ عِلْمٍ لَمْ يُثْمِرْ خَشْيَةً فَلَيْسَ بِعِلْمٍ فِي الْحَقِيقَةِ؛ فَإِنَّ الْعِلْمَ لَيْسَ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ وَالْكُتُبِ، وَإِنَّمَا الْعِلْمُ مَا أَفَادَ الْخَشْيَةَ وَالْعَمَلَ.

مِنْ أَهَمِّ الْعَوَامِلِ وَالْأُسُسِ لِبِنَاءِ الشَّخْصِيَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ: اللُّغَةُ وَالثَّقَافَةُ؛ فَلِلُّغَةِ دَوْرٌ حَاسِمٌ فِي تَشْكِيلِ الْوَعْيِ، وَاللُّغَةُ لَيْسَتْ إِضَافَةً لَاحِقَةً لِظَاهِرِ الْوُجُودِ الْفَرْدِيِّ أَوِ الْجَمَاعِيِّ، وَهِيَ لَيْسَتْ أَدَاةً لِلِاسْتِعْمَالِ الظَّاهِرِيِّ، وَلَيْسَتْ كِيَانًا مُسْتَقِلًّا عَنِ الْوَعْيِ، وَلَا عَنِ الْوُجُودِ، وَلَا عَنِ الْمُخِّ، لَيْسَتِ الْكَلَامُ طَبْعًا، فَاللُّغَةُ لَمْ تَعُدْ تَمْرِيرًا جَيِّدَ التَّقْنِينِ خَالِيًا مِنَ التَّشْوِيشِ لِنَقْلِ الْعَلَامَاتِ مِنْ يَدٍ لِيَدٍ.

إِذَنْ؛ مَاذَا هِيَ اللُّغَةُ الَّتِي تُرَادُ هَاهُنَا؟

هِيَ ذَلِكَ الْكِيَانُ الْحَيَوِيُّ الرَّاسِخُ الْمَرِنُ الْمَفْتُوحُ فِي آنٍ، الْقَادِرُ عَلَى تَفْعِيلِ الْمَعْرِفَةِ فِي الْوَعْيِ.

هِيَ الْوُجُودُ الْبَشَرِيُّ نَفْسُهُ فِي أَرْقَى مَرَاتِبِ تَعَقُّدِهِ وَفَاعِلِيَّتِهِ.

هِيَ التَّرْكِيبُ الْغَائِرُ لِمَصْدَرِ السُّلُوكِ الْمُحَدِّدِ لِلشَّكْلِ الظَّاهِرِ.

هِيَ الْوَعْيُ الدَّائِمُ التَّشَكُّلِ وَالتَّشْكِيلِ بِمَا يَسْمَحُ بِاحْتِوَاءِ الْمَعْنَى -إِذْ يُكَوِّنُهُ-، وَإِطْلَاقُهُ بِمَا تَيَسَّرَ وَتَنَاسَبَ مِنْ أَدَوَاتٍ.

هِيَ إِبْدَاعُ الذَّاتِ الْمُتَجَدِّدُ؛ إِذْ يُصَاغُ فِي وُجُودٍ قَابِلٍ لِلتَّوَاصُلِ.

هِيَ تَجَلِّي الْمَعْنَى فِي تَرْكِيبٍ قَادِرٍ عَلَى التَّمَاسُكِ فِي وِحْدَاتٍ مُتَصَاعِدَةٍ.

هِيَ حَرَكِيَّةُ الْمُخِّ الْبَشَرِيِّ فِي كُلِّيَّتِهِ الْبَالِغَةِ التَّنْظِيمِ، الْبَالِغَةِ الْمُطَاوَعَةِ فِي آنٍ.

هِيَ عَلَاقَةٌ نِزَاعِيَّةٌ بَيْنَ مُتَحَايِلَيْنِ مِنْ مُمَارِسٍ الْحِيَلَ لِلتَّغَلُّبِ عَلَى خَصْمٍ تَوَاصُلِيٍّ.

هِيَ تَبَادُلٌ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ لِمَنْ يَمَسُّهُمُ الْأَمْرُ الَّذِينَ بِوَصْفِهِمْ مُشَارِكِينَ فِي خِطَابٍ عِلْمِيٍّ، يَخْتَبِرُونَ مَزَاعِمَ صَلَاحِيَةِ مَعَايِيرِهِمْ.

هِيَ مَشْرُوعٌ مُتَجَدِّدٌ، وَلَيْسَتْ خِطَابًا مُحَدَّدًا.

وَلَا بُدَّ مِنْ إِيضَاحِ أَنَّ أَيًّا مِمَّا سَبَقَ لَيْسَ تَعْرِيفًا جَامِعًا مَانِعًا بِقَدْرِ مَا هُوَ تَعَرُّفٌ عَلَى مَاهِيَّةِ اللُّغَةِ أَسَاسًا، وَهُوَ لَازِمٌ لِتَوْضِيحِ هَذِهِ الْخَصَائِصِ الْجِذْرِيَّةِ لِحَرَكِيَّةِ اللُّغَةِ اللَّازِمَةِ لِفَهْمِ تَشْكِيلِ الْوَعْيِ.

فَإِذَا انْتَقَلْنَا إِلَى مُحَاوَلَةِ التَّعَرُّفِ عَلَى مَفْهُومِ (الْوَعْيِ)؛ فَسَوْفَ نُفَاجَأُ أَنَّهُ أَحْوَجُ مَا يَكُونُ -أَيْضًا- إِلَى نَفْيِ مَا لَيْسَ هُوَ لِإِثْبَاتِ بَعْضِ مَعَالِمِهِ عَلَى النَّهْجِ نَفْسِهِ، وَنَبْدَأُ بِالتَّذْكِرَةِ.. كَيْفَ تَوَارَتْ حَقِيقَةُ الْوَعْيِ عَنِ الدَّارِسِينَ؛ إِمَّا بِالْإِنْكَارِ، أَوْ بِالْإِهْمَالِ، أَوْ بِالنَّفْيِ، فَالْبَعْضُ أَنْكَرَ الْوَعْيَ تَمَامًا كَمَادَّةٍ لِلدِّرَاسَةِ وَالتَّقْوِيمِ؛ كَالسُّلُوكِيِّينَ، وَالْبَعْضُ نَفَخَ فِيهِ حَتَّى أَصْبَحَ كُلَّ شَيْءٍ، فَلَمْ يَعُدْ شَيْئًا، وَالْبَعْضُ نَزَعَ مِنْهُ التَّحْدِيدَ الذَّاتِيَّ حِينَ جَعَلَهُ شَبَكَةً مُعَقَّدَةً مِنَ التَّرْكِيبَاتِ الْبَيْنَ تَشْخِيصِيَّةٍ، وَالْبَعْضُ جَعَلَ الْوَعْيَ -اخْتِزَالًا- مُرَادِفًا لِلصَّحْوِ مَرَّةً -وَهُوَ ضِدُّ النَّوْمِ-، وَمُرَادِفًا لِلشُّعُورِ مَرَّةً أُخْرَى -وَهُوَ ضِدُّ اللَّاشُعُورِ-.

إِنَّ حَاجَتَنَا شَدِيدَةٌ لِمُوَاجَهَةِ كُلِّ ذَلِكَ؛ لِنَتَعَرَّفَ عَلَى الْوَعْيِ كَمَا يَنْبَغِي، ذَلِكَ الْكِيَانُ الْحَيَوِيُّ الَّذِي يَتَشَكَّلُ (بِـ) وَ(مَعَ) اللُّغَةِ.

وَلَكِنَّ بِدَايَةً.. لَا بُدَّ أَنْ نُقِرَّ أَنَّ الْوَعْيَ لَازِمٌ كَأَرْضِيَّةٍ أَسَاسِيَّةٍ لِكُلِّ نَشَاطٍ عَقْلِيٍّ حُرٍّ، وَذَلِكَ بِاعْتِبَارِهِ (الْوِسَادَ) الَّذِي تَتِمُّ فِيهِ الْعَمَلِيَّاتُ الْعَقْلِيَّةُ الْأَكْثَرُ تَحْدِيدًا، وَالَّتِي تُمَثِّلُ الشَّكْلَ بِالنِّسْبَةِ لِهَذِهِ الْأَرْضِيَّةِ الْأَشْمَلِ؛ إِلَّا أَنَّ هَذَا الْفَهْمَ لِلْوَعْيِ غَيْرُ كَافٍ؛ لِأَنَّ الْوَعْيَ لَيْسَ أَرْضِيَّةً مُنْفَصِلَةً عَنِ الشَّكْلِ أَوْ مُتَبَادِلَةً مَعَهُ بِقَدْرِ مَا هُوَ حَاضِرٌ فِي كُلِّ هَذِهِ الْعَمَلِيَّاتِ حُضُورًا شَامِلًا وَمُحَدَّدًا فِي آنٍ.

فَالْوَعْيُ هُوَ الْعَمَلِيَّةُ الْحَيَوِيَّةُ الَّتِي يَتِمُّ مِنْ خِلَالِهَا تَشْكِيلُ مَنْظُومَةٍ عَقْلِيَّةٍ فِي تَرْكِيبِهَا الْكُلِّىِّ فِي لَحْظَةٍ مَا، فَإِذَا اسْتَمَرَّ هَذَا التَّشْكِيلُ لِفَتْرَةٍ مِنَ الزَّمَنِ؛ أَصْبَحَ يُمَثِّلُ مُسْتَوًى مَنْظُومِيًّا كُلِّيًّا خَاصًّا يُمْكِنُ اسْتِحْضَارُهُ، وَتَنْشِيطُهُ، وَإِعَادَةُ تَشْكِيلِهِ كَكُلٍّ، عَلَى حَسَبِ التَّنَاسُبِ مَعَ الْمَوْقِفِ، وَالْمُطْلَقِ، وَالْمُثِيرِ، وَالْمُصَاحِبِ.. إلخ، مِمَّا يُسَمَّى أَحْيَانًا (بِحَالَاتِ الذَّاتِ)، أَوْ مَنْظُومَاتٍ مِنْ مُسْتَوِيَاتِ الْمُخِّ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.

إِذَنْ؛ فَاللُّغَةُ عَمَلِيَّةٌ، وَفِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ هِيَ مَنْظُومَةٌ وَتَشْكِيلٌ مُتَجَدِّدٌ، وَالْوَعْيُ عَمَلِيَّةٌ، وَفِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ هُوَ وِسَادٌ وَمَنْظُومَةٌ وَمُسْتَوًى، أَنْ تَكُونَ وَاعِيًا هُوَ أَنْ تَعِيشَ تَفَرُّدَ خِبْرَتِكَ حَالَةَ كَوْنِهَا تَتَحَوَّلُ إِلَى حُضُورِهَا الْمَعْرِفِيِّ الشَّامِلِ.

وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ كُلٍّ مِنَ الْوَعْيِ وَاللُّغَةِ هِيَ عَلَاقَةٌ وَثِيقَةٌ حَتَّى لَتُوحِي بِالتَّمَاثُلِ، وَبِالرَّغْمِ مِنْ ذَلِكَ فَهُمَا لَيْسَا وَاحِدًا، فَرَغْمَ اتِّفَاقِهِمَا فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا أَوَّلًا: عَمَلِيَّةٌ، ثَانِيًا: تَخْلِيقٌ وَتَشْكِيلٌ، ثَالِثًا: مَنْظُومَةٌ، رَابِعًا: مُلْتَحَمَةٌ بِمَا تَحْتَوِيهِ؛ فَإِنَّ ثَمَّةَ فُرُوقًا ضَرُورِيَّةً لَا بُدَّ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَيْهَا؛ مِثْلُ:

أَنَّ اللُّغَةَ تَوْلِيدٌ ذُو وِحْدَاتٍ أَوْفَرَ كَثْرَةً، وَأَنْشَطَ تَشْكِيلًا، وَأَحْضَرَ إِبْدَاعًا، وَأَقْدَرَ حِوَارًا، فِي حِينَ أَنَّ الْوَعْيَ هُوَ أَكْثَرُ مَنْظُومِيَّةً، وَأَعْمَقُ رُسُوخًا، وَأَطْوَلُ زَمَنًا، وَأَجْهَزُ تَنْسِيقًا.

فَاللُّغَةُ هِيَ وِحْدَةُ الْوَعْيِ، وَفِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ هِيَ تَشْكِيلَاتُهُ الْمُتَدَاخِلَةُ الْقَادِرَةُ عَلَى الْإِفْصَاحِ الْمَعْرِفِيِّ دُونَ إِلْزَامٍ بِإِفْصَاحٍ مُحَدَّدٍ.

وَالْوَعْيُ هُوَ اللُّغَةُ فِي كُلِّيَّتِهَا حَالَةَ كَوْنِهَا مَنْظُومَةً مُسْتَقِرَّةً نِسْبِيًّا.

وَمِنْ هُنَا فَإِنَّ تَشْكِيلَ الْوَعْيِ يَعْتَمِدُ بِالضَّرُورَةِ عَلَى مَا تَتَّصِفُ بِهِ اللُّغَةُ مِنْ قُوَّةٍ وَضَعْفٍ، وَإِحْكَامٍ وَتَرَهُّلٍ، وَإِبْدَاعٍ وَتَأْثِيرٍ.

وَلَا بُدَّ مِنْ تَوْضِيحِ أَنَّ اللُّغَةَ لَيْسَتْ كِيَانًا دَاخِلِيًّا مُنْفَصِلًا كَمَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَثَارَهُ كُلُّ هَذَا التَّجْذِيرِ لِمَاهِيَّتِهَا، وَكَذَلِكَ الْوَعْيُ.

فَعَمَلِيَّاتُ اللُّغَةِ وَتَشْكِيلَاتُ الْوَعْيِ كُلُّهَا مُرْتَبِطَةٌ بِمَا تَتَغَذَّيَانِ بِهِ مِنْ مَعْلُومَاتٍ، وَمَا تُمَارِسَانِهِ مِنْ إِبْدَاعٍ تَوَاصُلِيٍّ وَحِوَارٍ نِزَاعِيٍّ.

وَأَمَّا عَلَاقَةُ كُلٍّ مِنَ اللُّغَةِ وَالْوَعْيِ بِمَا هُوَ ثَقَافَةٌ؛ فَهَذَا أَمْرٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانٍ، وَتَكْفِي التَّذْكِرَةُ بِأَنَّ الثَّقَافَةَ هِيَ الْوَعْيُ الْعَامُّ، وَقَدْ تُشَكَّلُ مِنْ وَاقِعِ إِبْدَاعَاتِ كُلِّ اللُّغَاتِ الْمُتَاحَةِ بِمَنْظُومَاتِهَا الْغَائِرَةِ، ثُمَّ الظَّاهِرَةِ فِي تَشْكِيلَاتِهَا الْمُتَنَوِّعَةِ.

وَالْمُثَقَّفُ هُوَ ذَلِكَ الشَّخْصُ الَّذِي صَارَ وَعْيُهُ الْخَاصُّ فِي مُتَنَاوَلِ إِدْرَاكِهِ حَالَةَ كَوْنِهِ مُلْتَحِمًا أَوْ مُتَدَاخِلًا فِي الْوَعْيِ الْعَامِّ.

وَمِنْ هَذَا الْمُنْطَلَقِ يُصْبِحُ كُلٌّ مِنَ اللُّغَةِ وَالْمَنْهَجِ وَالْوَعْيِ الْعَامِّ فَالْخَاصِّ مُحَرِّكَاتِ الثَّقَافَةِ؛ بَلْ هِيَ هِيَ.

إِنَّ (الثَّقَافَةَ) تَكَادُ تَكُونُ سِرًّا مِنَ الْأَسْرَارِ الْمُلَثَّمَةِ فِي كُلِّ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ، وَفِي كُلِّ جِيلٍ مِنَ الْبَشَرِ، وَهِيَ فِي أَصْلِهَا الرَّاسِخِ الْبَعِيدِ الْغَوْرِ مَعَارِفُ كَثِيرَةٌ لَا تُحْصَى، مُتَنَوِّعَةٌ أَبْلَغَ التَّنَوُّعِ لَا يَكَادُ يُحَاطُ بِهَا، مَطْلُوبَةٌ فِي كُلِّ مُجْتَمَعٍ إِنْسَانِيٍّ لِلْإِيمَانِ بِهَا أَوَّلًا عَنْ طَرِيقِ الْعَقْلِ وَالْقَلْبِ، ثُمَّ لِلْعَمَلِ بِهَا حَتَّى تَذُوبَ فِي بُنْيَانِ الْإِنْسَانِ، وَتَجْرِيَ مِنْهُ مَجْرَى الدَّمِ لَا يَكَادُ يُحِسُّ بِهِ، ثُمَّ لِلِانْتِمَاءِ إِلَيْهَا بِعَقْلِهِ وَقَلْبِهِ وَخَيَالِهِ انْتِمَاءً يَحْفَظُهُ وَيَحْفَظُهَا مِنَ التَّفَكُّكِ وَالِانْهِيَارِ، وَتَحُوطُهُ وَيَحُوطُهَا؛ حَتَّى لَا يُفْضِيَ إِلَى مَفَاوِزِ الضَّيَاعِ وَالْهَلَاكِ.

وَبَيْنَ تَمَامِ الْإِدْرَاكِ الْوَاضِحِ لِأَسْرَارِ (الثَّقَافَةِ) وَقُصُورِ هَذَا الْإِدْرَاكِ مَنَازِلُ تَلْتَبِسُ فِيهَا الْأُمُورُ وَتَخْتَلِطُ، وَمَسَالِكُ تَضِلُّ فِيهَا الْعُقُولُ وَالْأَوْهَامُ حَتَّى تَرْتَكِسَ فِي حَمْأَةِ الْحَيْرَةِ بِقَدْرِ بُعْدِهَا عَنْ لُبَابِ هَذِهِ (الثَّقَافَةِ) وَحَقَائِقِهَا الْعَمِيقَةِ الْبَعِيدَةِ الْمُتَشَعِّبَةِ.

وَرَأْسُ كُلِّ (ثَقَافَةٍ) هُوَ (الدِّينُ) بِمَعْنَاهُ الْعَامِّ، وَالَّذِي هُوَ فِطْرَةُ الْإِنْسَانِ، أَيَّ دِينٍ كَانَ، أَوْ مَا كَانَ فِي مَعْنَى (الدِّينِ)، وَبِقَدْرِ شُمُولِ هَذَا (الدِّينِ) لِجَمِيعِ مَا يَكْبَحُ جُمُوحَ النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَيَحْجِزُهَا عَنْ أَنْ تَزِيغَ عَنِ الْفِطْرَةِ السَّوِيَّةِ الْعَادِلَةِ، وَبِقَدْرِ تَغَلْغُلِهِ إِلَى أَغْوَارِ النَّفْسِ تَغَلْغُلًا يَجْعَلُ صَاحِبَهَا قَادِرًا عَلَى ضَبْطِ الْأَهْوَاءِ الْجَائِرَةِ، وَمُرِيدًا لِهَذَا الضَّبْطِ؛ بِقَدْرِ هَذَا الشُّمُولِ وَهَذَا التَّغَلْغُلِ فِي بُنْيَانِ الْإِنْسَانِ تَكُونُ قُوَّةُ الْعَوَاصِمِ الَّتِي تَعْصِمُ صَاحِبَهَا مِنْ كُلِّ عَيْبٍ.

إِنَّ إِمْرَاضَ اللُّغَةِ مَرَضٌ فِي الدِّينِ، وَقَطْعَ الصِّلَةِ بَيْنَ الْأُمَّةِ وَأَبْنَائِهَا مِنْ جَانِبٍ وَاللُّغَةِ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ قَطْعٌ لِلصِّلَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَكِتَابِ رَبِّهِمْ، وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِمْ، وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَتُرَاثِ سَلَفِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ؛ وَحِينَئِذٍ يَكُونُونَ قُلُوبًا وَعُقُولًا فَارِغَةً تُمْلَى وَتُحْشَى بِكُلِّ مَا هُوَ ضَارٌّ.

وَمِنْ أَهَمِّ عَوَامِلِ بِنَاءِ الشَّخْصِيَّةِ: الصُّحْبَةُ الصَّالِحَةُ؛ فَقَدْ أَمَرَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ -وَغَيْرُهُ أُسْوَتُهُ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي- أَنْ يَصْبِرَ نَفْسَهُ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ الْعُبَّادِ الْمُنِيبِينَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ؛ أَيْ: أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ، يُرِيدُونَ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ.

فَوَصَفَهُمْ بِالْعِبَادَةِ وَالْإِخْلَاصِ فِيهَا.

فَأَمَرَ اللهُ بِصُحْبَةِ الْأَخْيَارِ، وَمُجَاهَدَةِ النَّفْسِ عَلَى صُحْبَتِهِمْ وَمُخَالَطَتِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ؛ فَإِنَّ فِي صُحْبَتِهِمْ مِنَ الْفَوَائِدِ مَا لَا يُحْصَى.

قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 28].

وَاحْبِسْ يَا رَسُولَ اللهِ وَيَا كُلَّ دَاعٍ إِلَى اللهِ نَفْسَكَ، صَابِرًا عَلَى تَحَمُّلِ مَشَقَّاتِ التَّعْلِيمِ وَالتَّرْبِيَةِ وَالتَّزْكِيَةِ، مُصَاحِبًا وَمُلَازِمًا الَّذِينَ يَعْبُدُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ {بِالْغَدَاةِ}: مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ {وَالْعَشِيِّ}: مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ وَغُرُوبِ الشَّمْسِ، يُرِيدُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَجْهَ اللهِ، لَا يُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا.

وَحَذَّرَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- مِنْ صَدِيقٍ يَصُدُّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا} [الفرقان: 25 - 28].

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ؛ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ». أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ, وَقَالَ: ((حَسَنٌ غَرِيبٌ)), وَحَسَّنَهُ لِغَيْرِهِ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((الصَّحِيحَةِ)).

وَقَالَ الشَّاعِرُ:

عَنِ الْمَرْءِ لَا تَسْأَلْ وَأَبْصِرْ قَرِينَهُ    =  فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارَنِ يَقْتَدِي

وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ... وَذَكَرَ مِنْهُمْ: وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللهِ، اجْتَمَعَا عَلَى ذَلِكَ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ)).

وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ يَقُولُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: ((حَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ،  وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ)). رَوَاهُ مَالِكٌ فِي ((الْمُوَطَّأِ)) بِسَنَدٍ صَحِيحٍ.

وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «أَوْثَقُ  عُرَى الْإِيمَانِ: أَنْ تُحِبَّ فِي اللهِ وَتُبْغِضَ فِي اللهِ». أَخْرَجَهُ أَحْمَدَ وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَهُوَ حَسَنٌ لِغَيْرِهِ.

وَعَنْ أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-, عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالسُّوءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ, فَحَامِلُ الْمِسْكِ: إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ -أَيْ: إِمَّا أَنْ يُعْطِيَكَ-, وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ, وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبًا, وَنَافِخُ الْكِيرِ: إِمَّا أَنْ يَحْرِقَ ثِيَابَكَ, وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثًا)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.

((مَنْ هُوَ الْإِنْسَانُ السَّوِيُّ؟!!))

مَنْ هُوَ الْإِنْسَانُ السَّوِيُّ؟

مِنَ الْأَسْئِلَةِ الَّتِي أَصْبَحَتْ شَائِعَةً الْيَوْمَ: هَذَا السُّؤَالُ: هَلْ نَحْنُ جَمِيعًا عُصَابِيُّونَ إِلَى حَدٍّ مَا؟

وَالْجَوَابُ هُوَ: نَعَمْ.

فَلِكُلِّ إِنْسَانٍ طَرِيقَتُهُ الذِّهْنِيَّةُ فِي اللَّفِّ وَالزَّوَغَانِ، وَلَهُ أَوْهَامُهُ وَمَخَاوِفُهُ؛ وَلَكِنَّ الْأَطِبَّاءَ النَّفْسِيِّينَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْأَفْرَادِ بِمِقْدَارِ مَا يُبْدُونَهُ مِنْ كَبْحٍ لِلنَّفْسِ، وَمَا يُظْهِرُونَهُ مِنْ سُبُلٍ لِمُوَاجَهَةِ مَوَاقِفِ الْحَيَاةِ الْمُخْتَلِفَةِ.

وَفِي الِاسْتِطَاعَةِ تَقْسِيمُ النَّاسِ بِوَجْهٍ عَامٍّ إِلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ:

-الْأَسْوِيَاءُ.

-وَالْعُصَابِيُّونَ.

-وَالسَّيْكُوبَاتِيُّونَ، وَهُمُ الْمُجْرِمُونَ، وَالْقَتَلَةُ، وَمُنْتَهِكُو الْأَعْرَاضِ... إلخ.

-وَالْمَعْتُوهُونَ، وَهُمُ الَّذِينَ بِعُقُولِهِمْ نَقْصٌ.

-وَالْمَجَانِينُ.

وَمِنْ هَذَا نَرَى أَنَّ الْأَسْوِيَاءَ لَيْسُوا إِلَّا قِسْمًا وَاحِدًا مِنَ النَّاسِ؛ فَمَنْ هُوَ الْإِنْسَانُ السَّوِيُّ؟

إِنَّ الْإِنْسَانَ السَّوِيَّ هُوَ الَّذِي يَخْلُو مِنْ أَعْرَاضِ الصِّرَاعِ الْعَقْلِيِّ، وَلَهُ قُدْرَةٌ مَرْضِيَّةٌ عَلَى الْعَمَلِ، وَيَسْتَطِيعُ أَنْ يُحِبَّ إِنْسَانًا آخَرَ إِلَى جَانِبِ حُبِّهِ لِنَفْسِهِ.

وَلَعَلَّ السُّؤَالَ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يَقْفِزَ إِلَى الذِّهْنِ عِنْدَ هَذِهِ النُّقْطَةِ هُوَ: هَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَتَحَوَّلَ الْإِنْسَانُ الْعُصَابِيُّ إِلَى إِنْسَانٍ سَوِيٍّ؟

وَالْجَوَابُ هُنَا -أَيْضًا-: نَعَمْ وَبِكُلِّ تَأْكِيدٍ.

فَكَلِمَةُ (سَوِيٍّ) مَا هِيَ إِلَّا تَقْدِيرٌ نِسْبِيٌّ، فَمَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ سُلُوكًا سَوِيًّا أَوْ طَبِيعِيًّا فِي مَكَانٍ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ سُلُوكًا شَاذًّا مَرْفُوضًا فِي مَكَانٍ آخَرَ.

وَخُذْ مَثَلًا: عَرِيسٌ مِنْ أَوَاسِطِ أَفْرِيقِيَّةَ يَظْهَرُ فِي حَفْلِ زَفَافِهِ حَافِيَ الْقَدَمَيْنِ؛ فَهَذَا سُلُوكٌ مِنْهُ طَبِيعِيٌّ، أَمَّا إِذَا كَانَ هَذَا الْعَرِيسُ حَافِيَ الْقَدَمَيْنِ فِي قَلْبِ الْقَاهِرَةِ فَسَيُقْبَضُ عَلَيْهِ بِلَا رَيْبٍ لِلْفَحْصِ وَلِلْكَشْفِ عَلَى قُوَاهُ الْعَقْلِيَّةِ.

وَالَّذِينَ يُمْكِنُ وَصْفُهُمْ بِأَنَّهُمْ أَسْوِيَاءُ تَتَوَافَرُ لَهُمْ هَذِهِ الْقُدُرَاتُ: الْقُدْرَةُ عَلَى إِثْبَاتِ النُّضْجِ الِانْفِعَالِيِّ، كَأَنْ تَكُونَ لَهُمْ عَلَاقَةٌ قَوِيَّةٌ بِآبَائِهِمْ، وَيَكُونُونَ مَعَ ذَلِكَ مُسْتَقِلِّينَ فِي التَّفْكِيرِ وَالْعَمَلِ، مُعْتَمِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، قَادِرِينَ عَلَى مُسَاعَدَةِ أَنْفُسِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ.

ذَهَبَتْ شَابَّةٌ فِي السَّابِعَةِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ عُمُرِهَا إِلَى طَبِيبٍ نَفْسِيٍّ تَشْكُو مِنْ أَنَّهَا اعْتَادَتْ مُنْذُ سَبْعِ سَنَوَاتٍ أَنْ تَمْضُغَ عِيدَانَ الثِّقَابِ ثُمَّ تَبْتَلِعُهَا، وَعَلَّلَتْ ذَلِكَ بِقَلَقِهَا وَعَصَبِيَّتِهَا، ثُمَّ حَدَثَ أَنْ نُقِلَتْ لِلْعَمَلِ فِي بَلَدٍ بَعِيدٍ، وَكَانَتْ تَكْتُبُ إِلَى أُمِّهَا رِسَالَةً كُلَّ يَوْمٍ، وَقَدْ كَشَفَتْ هَذِهِ الرَّسَائِلُ الْمُتَبَادَلَةُ بَيْنَ الْأُمِّ وَابْنَتِهَا عَنْ تَعَلُّقِ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى تَعَلُّقًا عُصَابِيًّا، ثُمَّ تَفَاقَمَتْ حَالُ الْفَتَاةِ حِينَ خَطَبَهَا شَابٌّ فَرَضِيَتْهُ، وَلَكِنَّهَا خَافَتِ الزَّوَاجَ مِنْهُ خَوْفًا شَدِيدًا.

إِنَّ هَذِهِ الْفَتَاةَ بِرَغْمِ سِنِّهَا لَمْ تُفْطَمْ بَعْدُ نَفْسِيًّا، مِمَّا يُفَسِّرُ عَادَةً مَضْغَ عِيدَانِ الثِّقَابِ، وَقَدْ كَانَتْ مِنَ الْوِجْهَةِ الِانْفِعَالِيَّةِ طِفْلَةً لَمْ تَنْضُجْ بَعْدُ النُّضْجَ الَّذِي يُؤَهِّلُهَا لِلزَّوَاجِ.

وَقَدْ دَلَّتِ الْأَبْحَاثُ عَنِ انْتِشَارِ التَّعَلُّقِ بِالْأُمِّ انْتِشَارًا لَا يُصَدَّقُ، سَوَاءٌ مِنَ الْفَتَيَاتِ أَوْ مِنَ الْفِتْيَانِ، وَالِابْنَةُ الْعُصَابِيَّةُ لَا تَسْتَطِيعُ احْتِمَالَ تَبِعَاتِ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ، فَتَقْفُلُ عَائِدَةً إِلَى أَبَوَيْهَا حِينَ تَسُوءُ الْأُمُورُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا، وَالْأَمْرُ نفْسُهُ يَنْطَبِقُ عَلَى آلَافِ الرِّجَالِ الَّذِينَ لَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يُخَلِّصُوا أَنْفُسَهُمْ مِنَ الرِّبَاطِ الَّذِي يَشُدُّهُمْ إِلَى أُمَّهَاتِهِمْ.

أَمَّا الْإِنْسَانُ السَّوِيُّ فَهُوَ الَّذِي لَا يَعْتَمِدُ عَلَى أَحَدٍ فِي حَلِّ مَا يُوَاجِهُهُ مِنْ مَوَاقِفَ.

وَمِنْ عَلَامَاتِ السَّوَاءِ النَّفْسِيِّ: الْقُدْرَةُ عَلَى تَقَبُّلِ الْوَاقِعِ، وَالْآبَاءُ الَّذِينَ يَزْرَعُونَ فِي أَبْنَائِهِمُ الْخَوْفَ وَالِاعْتِمَادَ عَلَى الْغَيْرِ لَا يَجِبُ إِلَّا أَنْ يَتَوَقَّعُوا أَنْ يَشُبَّ أَبْنَاؤُهُمْ ضِعَافَ الشَّخْصِيَّةِ، غَيْرَ قَادِرِينَ عَلَى الصُّمُودِ أَمَامَ عَوَامِلِ الْفَشَلِ وَالْخَيْبَةِ فِي رُجُولِيَّتِهِمْ، فَمِثْلُ هَؤُلَاءِ الْأَبْنَاءِ الْمُعْتَمِدِينَ عَلَى آبَائِهِمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَصِلُوا إِلَى التَّوَافُقِ الِاجْتِمَاعِيِّ وَالِاقْتِصَادِيِّ السَّلِيمِ.

أَمَّا الْفَرْدُ السَّوِيُّ فَيُوقِنُ أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ بَلَغَ الْحَادِيَةَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ عُمُرِهِ عَلَيْهِ أَنْ يَشُقَّ طَرِيقَهُ فِي الْحَيَاةِ لِاكْتِسَابِ رِزْقِهِ، وَرُبَّمَا قَبْلَ هَذِهِ السِّنِّ بِكَثِيرٍ.

وَمُزَاوَلَةُ الْعَمَلِ دُونَ الْإِغْرَاقِ فِي الشَّكْوَى أَمْرٌ رَئِيسٌ لِلسَّعَادَةِ، فَالَّذِينَ يَسْتَمْتِعُونَ بِأَعْمَالِهِمْ لَا يَتَّسِعُ وَقْتُهُمْ لِلشَّقَاءِ وَالتَّعَاسَةِ، وَالْإِنْسَانُ السَّوِيُّ يَعْلَمُ حَقَّ الْعِلْمِ أَنَّ الْحَيَاةَ كِفَاحٌ فِي سَبِيلِ الْبَقَاءِ، فَهُوَ مُتَأَهِّبُ الْعَقْلِ لِصَدَمَاتِ الْحَيَاةِ، وَهُوَ -كَذَلِكَ- مُوقِنٌ أَنَّهُ يَحْيَا فِي عَالَمٍ مَلِيءٍ بِضُرُوبِ الصِّرَاعِ وَالْحَيْرَةِ وَحَوَادِثِ الطَّلَاقِ وَالِانْتِحَارِ، وَلَكِنَّهُ مَعَ هَذَا كُلِّهِ لَا يَغْدُو مُسْتَخِفًّا بِالْحَيَاةِ، بَلْ يَظَلُّ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْحَيَاةَ مُغْرِيَةٌ جَذَّابَةٌ، وَلَا يَزَالُ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ الْبَاعِثَ عَلَى الْعَمَلِ، وَيُقَابِلُ الشَّدَائِدَ بِحَمَاسَةٍ وَقَلْبٍ قَوِيٍّ، وَلَهُ مِنَ الشَّجَاعَةِ مَا يُمَكِّنُهُ مِنْ أَنْ يُوَاجِهَ أَيَّ حَظٍّ سَيِّءٍ يَعْتَرِضُ طَرِيقَهُ.

وَمِنْ عَلَامَاتِ السَّوَاءِ النَّفْسِيِّ: الْقُدْرَةُ عَلَى مُسَايَرَةِ النَّاسِ، وَالْإِنْسَانُ السَّوِيُّ يَسْتَطِيعُ بِشَخْصِيَّتِهِ الْمَرِنَةِ أَنْ يُكَيِّفَ نَفْسَهُ مَعَ الْكَثِيرِ مِنَ الْمَوَاقِفِ الْمُتَغَيِّرَةِ الْمُتَقَلِّبَةِ، وَسِرُّ قُدْرَتِهِ عَلَى التَّوَافُقِ مَعَ النَّاسِ هُوَ قُدْرَتُهُ عَلَى إِخْضَاعِ انْفِعَالَاتِهِ لِرَقَابَةِ عَقْلِهِ وَسَيْطَرَتِهِ.

أَمَّا الْعُصَابِيُّ فَيَصْدُرُ سُلُوكُهُ عَنِ انْفِعَالَاتِهِ عَلَى حِينَ يَتَدَبَّرُ الْفَرْدُ السَّوِيُّ الْأُمُورَ وَيَدْرُسُهَا قَبْلَ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى عَمَلٍ أَوْ يَتَّخِذَ قَرَارًا؛ فَإِنَّهُ لَا يَسْمَحُ بِأَنْ يَتَسَلَّطَ الْهَوَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ الْعَالَمَ لَيْسَ مِلْكًا لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، وَأَنَّ التَّعَاوُنَ أَفْضَلُ مِنَ التَّدَافُعِ بِالْمَنَاكِبِ، وَهُوَ لَا يَتَدَخَّلُ فِي شُؤُونِ غَيْرِهِ، وَيُفَضِّلُ أَنْ يَدْرُسَ مَسْأَلَةً بَدَلًا مِنْ أَنْ يَشْغَلَ نَفْسَهُ بِجَدَلٍ عَقِيمٍ، وَهُوَ مِنَ الْحَزْمِ بِحَيْثُ يَجْلِبُ لِنَفْسِهِ الْأَصْدِقَاءَ لَا الْأَعْدَاءَ، وَهُوَ كَيِّسٌ، لَبِقٌ، صَادِقٌ، وَفِيٌّ، مُتَّصِفٌ بِرُوحِ الدُّعَابَةِ، وَهُوَ غَيْرُ أَنَانِيٍّ وَلَا أَثِرٍ، يَتَقَبَّلُ النَّقْدَ تَقَبُّلًا حَسَنًا، وَهُوَ إِلَى ذَلِكَ يَبْذُلُ قُصَارَى جَهْدِهِ لِلْحَيْلُولَةِ دُونَ انْفِجَارِ غَضَبِهِ أَوْ غَيْرَتِهِ أَوْ حِقْدِهِ.

أَمَّا الْعُصَابِيُّ فَعَلَى النَّقِيضِ مِنْ هَذَا؛ حَادُّ الطَّبْعِ، شَدِيدُ الْحَسَاسِيَةِ، سَرِيعُ الِانْفِعَالِ.

وَمِنْ عَلَامَاتِ السَّوَاءِ النَّفْسِيِّ: الْقُدْرَةُ عَلَى حُبِّ الْغَيْرِ، وَقَبْلَ أَنْ نَتَمَكَّنَ مِنْ مَدْحِ حُبِّنَا لِغَيْرِنَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحُبُّ مُسْتَقِرًّا فِي أَعْمَاقِ قُلُوبِنَا، وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُحْزِنِ أَنَّ الْآبَاءَ يُعَرِّضُونَ أَطْفَالَهُمْ -عَمْدًا أَوْ عَنْ غَيْرِ عَمْدٍ- لِلتَّأْثِيرَاتِ الْعُصَابِيَّةِ الْمُنْبَعِثَةِ مِنْ تَعَاسَتِهِمُ الشَّخْصِيَّةِ، وَكَنَتِيجَةٍ لِذَلِكَ تَجِدُ أَشْخَاصًا أَتَوْا مِنْ بُيُوتٍ مُحَطَّمَةٍ مُنْهَارَةٍ، فَعَجَزُوا عَنْ إِقَامَةِ عَلَاقَاتِ وُدٍّ وَمَحَبَّةٍ مَعَ مَنْ يَتَزَوَّجُونَهُمْ، وَلَمَّا كَانُوا ضَحَايَا لِلتَّعَاسَةِ وَالشَّقَاءِ فَإِنَّهُمْ قَدْ شَبُّوا عَلَى الرِّثَاءِ لِأَنْفُسِهِمْ، وَالْإِحْسَاسِ بِالْمَرَارَةِ ضِدَّ أُمَّهَاتِهِمْ أَوْ آبَائِهِمْ، ثُمَّ يَحْمِلُونَ مَعَهُمْ عَدَمَ الرِّضَا عَنْ أَنْفُسِهِمْ إِلَى حَيَاتِهِمُ الزَّوْجِيَّةِ، إِنَّهُمْ يَشْعُرُونَ أَنَّهُمْ قَدْ غُدِرَ بِهِمْ وَخُدِعُوا فِي الْعَاطِفَةِ الَّتِي يَتَشَوَّقُونَ إِلَيْهَا، وَلَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَتَغَلَّبُوا عَلَى الْجِرَاحِ الْعَاطِفِيَّةِ الَّتِي أَحْدَثَهَا افْتِرَاقُ الْوَالِدَيْنِ أَوْ طَلَاقُهُمَا.

وَالْعَادَةُ أَنَّ الْعُصَابِيِّينَ يَتَزَوَّجُونَ لِأَسْبَابٍ عُصَابِيَّةٍ، وَغَالِبًا مَا يُخْطِئُونَ الْحُكْمَ عَلَى مَنْ يَخْتَارُونَهُ شَرِيكًا لِحَيَاتِهِمْ.

وَالْإِنْسَانُ السَّوِيُّ يُحِبُّ نَفْسَهُ بِطَرِيقَةٍ سَوِيَّةٍ، وَهُوَ سَعِيدٌ قَبْلَ الزَّوَاجِ، وَلِهَذَا فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُشْرِكَ غَيْرَهُ فِي هَذِهِ السَّعَادَةِ، إِنَّ الزَّوَاجَ بِالنِّسْبَةِ لَهُ زَمَالَةٌ عَاطِفِيَّةٌ تَمْتَدُّ الْعُمُرَ كُلَّهُ.

وَمِنْ عَلَامَاتِ السَّوَاءِ النَّفْسِيِّ: اتِّخَاذُ الْهَدَفِ وَتَحْدِيدُهُ فِي الْحَيَاةِ، وَهِيَ الْقُدْرَةُ الَّتِي تَرْفَعُهُ فَوْقَ مُسْتَوَى التَّعْقِيدَاتِ الَّتِي تَعْرِضُ لَهُ فِي الْحَيَاةِ الْيَوْمِيَّةِ، إِنَّهُ يَكْتَسِبُ الْحِكْمَةَ مِنْ تَجَارِبِ الْمَاضِي وَأَخْطَائِهِ، وَيَسْتَخْلِصُ طَرِيقًا لِلْحَيَاةِ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَجْعَلَ الْحَيَاةَ أَسْعَدَ وَأَقْرَبَ إِلَى الِاحْتِمَالِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الِاسْتِرْخَاءِ وَالسَّعْيِ وَرَاءَ مَنَافِذِ التَّسْلِيَةِ الْمَشْرُوعَةِ تَرْوِيحًا عَنْ رَتَابَةِ الْحَيَاةِ.

إِنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْحُبَّ وَالْعَطْفَ الَّذَيْنِ يَمْنَحُهُمَا لِلْغَيْرِ يَعُودَانِ إِلَيْهِ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً، وَأَنَّ رُفْقَتَهُ لِلْبَشَرِ هِيَ مَزِيَّتُهُ الْكُبْرَى الَّتِي يَسْتَطِيعُ عَنْ طَرِيقِهَا أَنْ يَظْفَرَ بِأَعْظَمِ السَّعَادَةِ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِالْحَيَاةِ تَنْشَأُ عَنْ مَعْرِفَةِ الْهَدَفِ مِنَ الْحَيَاةِ.

وَمِنْ هَذَا يَتَبَيَّنُ لَنَا أَنَّ فِي وُسْعِ الْعُصَابِيِّينَ أَنْ يَتَحَوَّلُوا إِلَى أَسْوِيَاءَ طَبِيعِيِّينَ إِذَا بَذَلُوا الْجَهْدَ لِاكْتِسَابِ مَا يَلِي:

-النُّضْجُ الِانْفِعَالِيُّ.

-تَقَبُّلُ الْوَاقِعِ؛ أَيِ الْعَمَلُ وَالسَّعْيُ لِلرِّزْقِ دُونَ شَكْوَى.

-تَرْكُ الْقِيَادَةِ لِلْعَقْلِ لَا لِلِانْفِعَالِ.

-امْتِلَاكُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْحُبِّ؛ بِأَنْ يَجِدُوا الْحُبَّ الْمَوْجُودَ فِي أَعْمَاقِهِمْ، ثُمَّ يَسْمَحُوا بِأَنْ يُشَارِكَهُمْ فِيهِ غَيْرُهُمْ.

-اتِّبَاعُ طَرِيقَةٍ فِي التَّفْكِيرِ أَسَاسُهَا تَقْدِيرُ كُلِّ مَا هُوَ طَيِّبٌ وَجَمِيلٌ فِي الْحَيَاةِ.

((مِنْ سِمَاتِ الشَّخْصِيَّةِ الْمُسْلِمَةِ السَّوِيَّةِ))

إِنْ كَانَتِ الْأُسُسُ السَّابِقَةُ تُشَكِّلُ عِمَادَ الشَّخْصِيَّةِ الْمُسْلِمَةِ؛ فَإِنَّ مَلَامِحَهَا هِيَ تِلْكَ الْمَظَاهِرُ الْخَارِجِيَّةُ الَّتِي تَتَّضِحُ مِنْ خِلَالِ التَّعَامُلِ مَعَ الْأَحْدَاثِ وَالْأَفْرَادِ وَالْأَوْطَانِ الْإِسْلَامِيَّةِ.

وَمِنْ مَلَامِحِ وَسِمَاتِ الشَّخْصِيَّةِ الْمُسْلِمَةِ السَّوِيَّةِ: التَّحَلِّي بِالْخُلُقِ الْحَسَنِ الْجَمِيلِ، وَالتَّمَسُّكُ بِالْقِيَمِ النَّبِيلَةِ وَالْأَخْلَاقِ السَّامِيَةِ؛ حَيْثُ يَقُولُ نَبِيُّنَا ﷺ: ): «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ خُلُقًا». أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَأَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ». أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ.

وَبِتِلْكَ الشَّخْصِيَّاتِ السَّوِيَّةِ يَتَكَوَّنُ مُجْتَمَعٌ صَالِحٌ مُتَمَاسِكٌ يَسْرِي الْحُبُّ وَالتَّعَاوُنُ بَيْنَ أَبْنَائِهِ، يَقُولُ نَبِيُّنَا ﷺ: ((مَثَلُ المُؤْمِنينَ في تَوَادِّهِمْ وتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ والحُمَّى».

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْبُنْيَانَ وَأَنَّ الْجَسَدَ شَيْءٌ وَاحِدٌ مُتَمَاسِكٌ، لَيْسَ فِيهِ تَفَرُّقٌ؛ لِأَنَّ الْبُنْيَانَ إِذَا تَفَرَّقَ سَقَطَ، كَذَلِكَ الْجِسْمُ، إِذَا تَفَرَّقَ فَقَدَ الْحَيَاةَ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ الِاجْتِمَاعِ، وَأَنْ نَكُونَ أُمَّةً وَاحِدَةً أَسَاسُهَا التَّوْحِيدُ، وَمَنْهَجُهَا دَعْوَةُ الرَّسُولِ ﷺ، وَمَسَارُهَا عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.

وَيَقُولُ ﷺ: «لَا يُؤمِنُ أَحَدُكُم حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ».

لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُم إِيمَانًا كَامِلًا مُعْتَبَرًا فِي مِيزَانِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ.

إِنَّ التَّحَلِّيَ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ صِمَامُ أَمَانِ الْمُجْتَمَعَاتِ مِنَ الِانْحِلَالِ وَالْفَوْضَى وَالضَّيَاعِ، وَبِزَوَالِهَا تَسْقُطُ الْأُمَمُ؛ فَكَمْ مِنْ حَضَارَاتٍ انْهَارَتْ بِتَرَدِّي أَخْلَاقِهَا، وَقَدْ ذَكَرَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ نَمَاذِجَ لِأُمَمٍ هَلَكَتْ بِسَبَبِ بُعْدِهَا عَنِ الْأَخْلَاقِ؛ حَيْثُ يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ ۖ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الذاريات: 46].

وَكَذَلِكَ مَا فَعَلَ اللهُ بِقَوْمِ نُوحٍ حِينَ كَذَّبُوا نُوحًا -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَفَسَقُوا عَنْ أَمْرِ اللهِ، فَأَرْسَلَ اللهُ عَلَيْهِمُ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ بِالْمَاءِ الْمُنْهَمِرِ، فَأَغْرَقَهُمُ اللهُ تَعَالَى [عَنْ آخِرِهِمْ]، وَلَمْ يُبْقِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا، وَهَذِهِ عَادَةُ اللهِ وَسُنَّتُهُ فِيمَنْ عَصَاهُ.

وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} [فصلت: 15-16].

((هَذَا تَفْصِيلٌ لِقِصَّةِ هَاتَيْنِ الْأُمَّتَيْنِ؛ عَادٍ، وَثَمُودَ، فَأَمَّا عَادٌ فَكَانُوا -مَعَ كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ، وَجَحْدِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَكُفْرِهِمْ بِرُسُلِهِ- مُسْتَكْبِرِينَ فِي الْأَرْضِ، قَاهِرِينَ لِمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْعِبَادِ، ظَالِمِينَ لَهُمْ، قَدْ أَعْجَبَتْهُمْ قُوَّتُهُمْ، {وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً}، قَالَ تَعَالَى رَدًّا عَلَيْهِمْ بِمَا يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً}؟!! فَلَوْ لَا خَلْقُهُ إِيَّاهُمْ لَمْ يُوجَدُوا، فَلَوْ نَظَرُوا إِلَى هَذِهِ الْحَالِ نَظَرًا صَحِيحًا لَمْ يَغْتَرُّوا بِقُوَّتِهِمْ، فَعَاقَبَهُمُ اللَّهُ عُقُوبَةً تُنَاسِبُ قُوَّتَهُمُ الَّتِي اغْتَرُّوا بِهَا.

{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا} أَيْ: رِيحًا عَظِيمَةً مِنْ قُوَّتِهَا وَشِدَّتِهَا لَهَا صَوْتٌ مُزْعِجٌ كَالرَّعْدِ الْقَاصِفِ، فَسَخَّرَهَا اللَّهُ {عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ}، {نَحِسَاتٍ} فَدَمَّرَتْهُمْ وَأَهْلَكَتْهُمْ، فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ، وَقَالَ هُنَا: {لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الَّذِي اخْتَزُوا بِهِ، وَافْتَضَحُوا بَيْنَ الْخَلِيقَةِ، {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} أَيْ: لَا يُمْنَعُونَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَلَا يَنْفَعُونَ أَنْفُسَهُمْ)).

وَمِنْ سِمَاتِ الشَّخْصِيَّةِ الْمُسْلِمَةِ السَّوِيَّةِ: التَّوَازُنُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ، وَقَدْ بَنَى نَبِيُّنَا ﷺ الشَّخْصِيَّةَ الْمُسْلِمَةَ عَلَى التَّوَازُنِ بَيْنَ حَاجَاتِ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ، بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

إِنَّ اسْتِقَامَةَ حَيَاةِ الْإِنْسَانِ وَسَلَامَةَ بَقَائِهِ جَسَدًا وَرُوحًا بِإِحْدَاثِ التَّوَازُنِ بَيْنَ مُتَطَلَّبَاتِ كُلٍّ مِنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ.

وَقَدْ وَقَعَ وَيَقَعُ إِهْمَالٌ وَإِجْحَافٌ بِأَحَدِ الْمُكَوِّنَيْنِ لِلْإِنْسَانِ؛ وَهُمَا الرُّوحُ وَالْجَسَدُ، وَنَتَجَ تَبَعًا لِذَلِكَ خَلَلٌ عَظِيمٌ، فَكَثِيرٌ مِنَ الزُّهَّادِ وَالنُّسَّاكِ أَهْمَلُوا أَمْرَ الْجَسَدِ إِهْمَالًا تَامًّا، وَاكْتَفَوْا فِي غِذَائِهِ بِقَلِيلٍ مِنَ الْبَاقِلَّاءِ، أَوْ بِبَعْضٍ مِنْ أَعْشَابِ الْأَرْضِ، وَصَامُوا عَنِ الزَّادِ صَوْمًا مُنْكَرًا، كَمَا يَفْعَلُ زُهَّادُ الْهِنْدِ وَنَاسِكُوهَا، وَالَّذِينَ قَلَّدُوهُمْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَمِنْ غَيْرِهَا.

وَالْفُجَّارُ فِي الْغَرْبِ وَالشَّرْقِ أَهْمَلُوا الرُّوحَ إِهْمَالًا عَظِيمًا، وَابْتَغَوْا غِذَاءَهَا فِي غَيْرِ مَا هُوَ غِذَاءٌ لَهَا؛ بَلْ فِيمَا يَضُرُّهَا وَيُهْلِكُهَا، فَضَمُرَتْ أَرْوَاحُهُمْ، وَقَوِيَتْ رَغَبَاتُهُمْ وَنَزَوَاتُهُمْ، وَعَاثُوا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ.

وَهَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ، بَلْ هُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ.

وَسَعَادَةُ الْإِنْسَانِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَاسْتِقَامَةُ أَمْرِهِ فِي هَذَا الْوُجُودِ بِالتَّوَازُنِ بَيْنَ عُنْصُرَيْنِ، وَإِعْطَاءِ كُلٍّ مَا هُوَ لَهُ كَمَا حَدَّدَهُ الدِّينُ وَقَرَّرَتْهُ الشَّرِيعَةُ؛ لِأَنَّ الَّذِي أَنْزَلَ الدِّينَ وَقَرَّرَ الشَّرِيعَةَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَسَوَّاهُ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يُصْلِحُهُ وَبِمَا يُفْسِدُهُ، {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14].

قَالَ تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31].

وَقَالَ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5].

وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ.

وَفِي السُّنَّةِ الْكَثِيرُ الطَّيِّبُ مِنْ هَذَا، مِنْ ذَلِكَ: حَدِيثُ الثَّلَاثَةِ النَّفَرِ الَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى أَبْيَاتِ رَسُولِ اللهِ ﷺ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ؛ فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أزْوَاجِ النَّبِيِّ ﷺ، يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ ﷺ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: ((وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ؟!! قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا)).

فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَيْهِم، فَقَالَ: ((أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلتُمْ كَذَا وكَذَا؟!! أَمَا -وَاللَّهِ- إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ؛ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي)).

وَمِنْ ذَلِكَ -أَيْضًا-: الْحَدِيثُ الَّذِي قَرَّرَ فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ وَأَقَرَّ مَا قَالَهُ سَلْمَانُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ قَدْ آخَى بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، فَذَهَبَ سَلْمَانُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لِزِيَارَةِ أَبِي الدَّرْدَاءِ -وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ آيَاتُ الْحِجَابِ-، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً -يَعْنِي: فِي هَيْئَةٍ أَهْمَلَتْ فِيهَا نَفْسَهَا، كَأَنَّهَا لَيْسَتْ بِذَاتِ بَعْلٍ-، فَقَالَ لَهَا: ((مَا شَأْنُكِ؟)).

قَالَتْ: ((أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا)).

فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا، فَقَالَ: ((كُلْ)).

قَالَ: ((فَإِنِّي صَائِمٌ)).

قَالَ: ((مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ)).

قَالَ: ((فَأَكَلَ)).

فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، قَالَ: ((نَمْ))، فَنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ، فَقَالَ: ((نَمْ)).

فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ قَالَ سَلْمَانُ: ((قُمِ الْآنَ))، فَصَلَّيَا.

فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: ((إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا؛ فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ)).

فَأَتَى النَّبِيَّ ﷺ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ النَّبيُّ ﷺ: ((صَدَقَ سَلْمَانُ)).

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْرِكَ -أَيْ: لِزَائِرِيكَ- عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا)).

وَالنَّبِيُّ ﷺ بَيَّنَ أَنَّ هَذَا الدِّينَ الْعَظِيمَ يَحْتَرِمُ الطَّبِيعَةَ الْإِنْسَانِيَّةَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَوْضَحُ مَا يَكُونُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ شَرَعَ اللهُ لَنَا عَلَى لِسَانِهِ وَفِي فِعْلِهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالسَّهْوِ فِي الصَّلَاةِ، فَجَعَلَ لِذَلِكَ جَبْرًا بِسُجُودِ السَّهْوِ بِشَرَائِطِهِ وَأَحْكَامِهِ الْمَعْرُوفَةِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي طَبِيعَةِ الْإِنْسَانِ أَنَّهُ يَسْهُو لَمَا جُبِرَ سَهْوُهُ بِسُجُودِ السَّهْوِ، وَلَأُمِرَ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ إِذَا سَهَا فِيهَا.

((دَخَلَ النَّبِيُّ ﷺ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ، فَقَالَ: ((مَا هَذَا الْحَبْلُ؟)).

قَالُوا: ((هَذَا حَبْلٌ لِزَيْنَبَ -تُصَلِّي عِنْدَهُ-، فَإِذَا فَتَرَتْ تَعَلَّقَتْ)).

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَا، حُلُّوهُ، لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ)).

وَنَهَى النَّبِيُّ ﷺ الْمَرْءَ أَنْ يَدْعُوَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي حَالِ غَلَبَةِ النُّعَاسِ عَلَيْهِ؛ قَالَ: ((إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ؛ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا صَلَّى وَهُوَ نَاعِسٌ لَعَلَّهُ يَذْهَبُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبُّ نَفْسَهُ)).

وَ((بَيْنَمَا النَّبِيُّ ﷺ يَخْطُبُ إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَائِمٍ فِي الشَّمْسِ، فَسَأَل عَنْهُ، قَالُوا: ((هَذَا أَبُو إِسْرَائِيلَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلَا يَقْعُدَ، وَلَا يَسْتَظِلَّ، وَلَا يَتَكَلَّمَ، وَيَصُومَ)).

قَالَ: ((مُرُوهُ فَلْيَتَكَلَّمْ، وَلْيَسْتَظِلَّ، وَلْيَقْعُدْ، وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ)).

فَأَمَرَهُ بِأَنْ يُتِمَّ مَا نَذَرَهُ مِمَّا يَنْفَعُهُ، وَنَهَاهُ عَنْ أَنْ يَأْخُذَ بِمَا لَا يَنْفَعُهُ؛ بَلْ بِمَا يَضُرُّهُ.

فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَغَيْرُهَا كَثِيرٌ مَضْمُومَةٌ إِلَى تِلْكَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ؛ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَاعِدَةَ الْعَظِيمَةَ فِي هَذَا الدِّينِ: أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ الْمُسْلِمُ مُتَوَازِنًا بَيْنَ حَاجَاتِ رُوحِهِ وَحَاجَاتِ جَسَدِهِ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْفَرَسَ يَسُوسُهُ فَارِسُهُ، فَإِذَا قَوِيَتِ الْفَرَسُ عَلَى فَارِسِهَا فَإِنَّهُ -حِينَئِذٍ- لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَضْبِطَهَا، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ عَجْفَاءَ هَزِيلَةً فَإِنَّ الْفَارِسَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُحَصِّلَ مِنْ وَرَائِهَا خَيْرًا.

الْجَسَدُ كَالْفَرَسِ، وَالرُّوحُ كَالْفَارِسِ؛ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتِمَّ التَّوَازُنُ بَيْنَ الْقُوَّتَيْنِ: الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ، وَمُتَطَلَّبَاتِ الْجَسَدِ وَالرُّوحِ عَلَى السَّوَاءِ.

وَمِنْ سِمَاتِ الشَّخْصِيَّةِ الْمُسْلِمَةِ السَّوِيَّةِ: الثَّبَاتُ فِي الرَّخَاءِ وَالشِّدَّةِ، وَهَذَا ثَمَرَةُ الْإِيمَانِ الْحَقِّ؛ فَبِهِ يُوقِنُ الْمُؤْمِنُ أَنَّ مَا أَخْطَأَهُ مَا كَانَ لِيُصِيبَهُ، وَمَا أَصَابَهُ مَا كَانَ لِيُخْطِئَهُ.. لَا يَكَادُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ يَنْجُو مِنْ أَزْمَةٍ تَحِلُّ بِهِ أَوْ مُشْكِلَةٍ تَعْرِضُ لَهُ، وَالْمُشْكِلَاتُ وَالْأَزْمَاتُ وَالْمَصَائِبُ هُنَّ سَبَبُ الْكَدَرِ فِي حَيَاةِ النَّاسِ؛ فَالْحَيَاةُ لَا تَكَادُ تَصْفُو لِأَحَدٍ؛ لَكِنَّ النَّاسَ يَخْتَلِفُونَ فِي مُوَاجَهَةِ مُشْكِلَاتِهِمْ وَأَزْمَاتِهِمْ وَمَصَائِبِهِمْ.

الْعَبْدُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ فِي طَبَقَةٍ مِنْ طَبَقَاتٍ ثَلَاثٍ:

فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي عَافِيَةٍ وَنِعْمَةٍ وَسِتْرٍ؛ فَحَقُّ ذَلِكَ الشُّكْرُ.

وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي ابْتِلَاءٍ وَشِدَّةٍ وَمِحْنَةٍ؛ فَحَقُّ ذَلِكَ الصَّبْرُ.

وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي ذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ؛ فَحَقُّ ذَلِكَ التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ.

وَمَقَادِيرُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الَّتِي يُجْرِيهَا عَلَى عِبَادِهِ فِي أَرْضِهِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُلَائِمَةً لِلْعَبْدِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ غَيْرَ مُلَائِمَةٍ لِلْعَبْدِ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَبْتَلِي بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَيَبْتَلِي اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- بِالنِّعْمَةِ وَالنِّقْمَةِ، وَيَبْتَلِي اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- بِالصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ، وَيَبْتَلِي اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالْغِنَى وَالْفَقْرِ.

وَلَا يَخْلُو الْعَبْدُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي طَبَقَةٍ مِنَ الطَّبَقَاتِ الثَّلَاثِ، فَإِذَا كَانَ فِي نِعْمَةٍ مِنَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَعَطَاءٍ؛ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَشْكُرَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ عَلَى مَا آتَاهُ.

وَقَدْ يَكُونُ الْعَبْدُ فِي الطَّبَقَةِ الثَّانِيَةِ: فِي بَلَاءٍ وَشِدَّةٍ وَمِحْنَةٍ، وَحَقُّ ذَلِكَ الصَّبْرُ، وَالصَّبْرُ لَا يَكُونُ صَبْرًا شَرْعِيًّا إِلَّا إِذَا تَحَقَّقَتْ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَرْكَانٍ:

أَنْ يَحْبِسَ الْقَلْبَ عَنْ الِاعْتِرَاضِ عَلَى الْمَقْدُورِ اعْتِرَاضًا بَاطِنًا.

وَأَنْ يُمْسِكَ اللِّسَانَ عَنْ الِاعْتِرَاضِ عَلَى مَقْدُورِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَفْظًا ظَاهِرًا.

وَأَنْ يَحْبِسَ الْجَوَارِحَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمَا يُغْضِبُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ أَمْثَالِ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْجَهَلَةِ؛ مِنْ شَقِّ الْجُيُوبِ، وَلَطْمِ الْخُدُودِ، وَنَتْفِ الشُّعُورِ، وَشَقِّ الثِّيَابِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ، وَهَذِهِ كُلُّهَا مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ.

فَإِذَا جَاءَ قَدَرٌ غَيْرُ مُوَاتٍ، وَأَرَادَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يُخْرِجَ عِلْمَهُ فِي عَبْدِهِ مِنْ عِلْمِهِ بِهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- السِّابِقِ إِلَى وَاقِعٍ مَشْهُودٍ، بِحَيْثُ إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَعْلَمُ مَا سَيَكُونُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَكُونَ؛ وَلَكِنْ لَا يُقِيمُ الْحُجَّةَ عَلَى الْعَبْدِ حَتَّى يَأْتِيَ مِنْهُ فِي عَالَمِ الشُّهُودِ مَا يَأْتِي مِنَ الْخَلْقِ فِي عَالَمِ الشُّهُودِ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَا يُحَاسِبُنَا عَلَى حَسَبِ عِلْمِهِ فِينَا، وَإِنَّمَا يُحَاسِبُنَا عَلَى مَا قَدَّمَتْ أَيْدِينَا.

فَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَعْلَمُ الْجَاحِدَ مِنَ الشَّاكِرِ، وَيَعْلَمُ الْجَازِعَ الْجَزُوعَ مِنَ الصَّابِرِ، وَيَعْلَمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الطَّيِّبَ مِنَ الْخَبِيثِ؛ وَلَكِنْ هَذَا الْعِلْمُ إِذَا لَمْ يَظْهَرْ فِي عَالَمِ الشُّهُودِ فَإِنَّ اللهَ لَا يُحَاسِبُ الْعَبْدَ عَلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ الْعَبْدُ؛ لِأَنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا، وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.

فَيَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ إِذَا مَا أَتَاهُ قَدَرٌ غَيْرُ مُوَاتٍ، غَيْرُ مُلَائِمٍ؛ مِنْ مَرَضٍ، أَوْ فَقْدِ حَبِيبٍ، أَوْ هَمٍّ، أَوْ غَمٍّ، أَوْ كَرْبٍ، أَوْ وَجَدَ فِي وَلَدِهِ مَا يَسُوءُهُ، أَوْ فَقَدَ بَعْضًا مِنْ مَالِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي لَا تَخْلُو مِنْهَا الْحَيَاةُ؛ لِأَنَّ اللهَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ، وَلَمْ يَخْلُقِ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- النَّاسَ فِي هَذَا الْكَوْكَبِ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُنَعِّمَهُمْ، وَلَكِنْ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ.

فَوَاهِمٌ جِدًّا وَمُخْطِئٌ خَطَأً تَامًّا مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ سَيَتَنَعَّمُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ!!

مَا مِنْ لَذَّةٍ إِلَّا وَلَهَا مَا يُنَغِّصُهَا مَهْمَا كَانَتْ، ثُمَّ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ؛ بَلْ إِنَّهَا تَلْمَعُ فِي أُفُقِ الْحَيَاةِ كَلَمْعِ الْبَرْقِ فِي أَجْوَازِ الْفَضَاءِ، وَيَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ رَدُّ فِعْلِ الْعَبْدِ عَلَى قَدَرِ اللهِ فِيهِ.

إِنَّ الْقَلْبَ الْمُطْمَئِنَّ الَّذِي تَمْلَؤُهُ السَّكِينَةُ الْإِيمَانِيَّةُ يَتَلَقَّى الْأَزْمَاتِ بِثَبَاتٍ وَهُدُوءٍ، فَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ، فَهُوَ رَاضٍ بِقَضَاءِ رَبِّهِ -سُبْحَانَهُ-، صَابِرٌ صَبْرًا جَمِيلًا، أَمَّا الْقَلْبُ الْمَكْدُوسُ فِي الدُّنْيَا وَزُخْرُفِهَا؛ فَهُوَ يَعْتَصِرُ أَلَمًا عِنْدَ الْمُشْكِلَاتِ، وَيَحْتَرِقُ غَيْظًا إِذَا مَا أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ فِيمَا يَرَاهُ مِنْ مُكْتَسَبَاتِهِ مِمَّا أَنْفَقَ فِيهِ زَهْرَةَ حَيَاتِهِ، فَهُوَ مَصْدُومٌ مَشْلُولُ الْحَرَكَةِ تِجَاهَ مَصَائِبِهِ وَأَزْمَاتِهِ، أَوْ أَنَّهُ مُتَخَبِّطٌ مُتَرَدِّدٌ ثَائِرٌ تَائِهٌ!!

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((وَاعْلَمْ أَنَّ مَا أَخْطَأكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَمَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)).

وَمِنْ مَلَامِحِ وَسِمَاتِ الشَّخْصِيَّةِ الْمُسْلِمَةِ السَّوِيَّةِ: التَّعَاوُنُ وَالتَّعَاضُدُ عَلَى الْخَيْرِ، وَأَصْلُ ذَلِكَ تَوْجِيهُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، قال -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.

(({وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} أَيْ: لِيُعِنْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا عَلَى الْبِرِّ، وَهُوَ: اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ.

وَالتَّقْوَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: اسْمٌ جَامِعٌ لِتَرْكِ كُلِّ مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَكُلُّ خَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ الْمَأْمُورِ بِفِعْلِهَا، أَوْ خَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِ الشَّرِّ الْمَأْمُورِ بِتَرْكِهَا، فَإِنَّ الْعَبْدَ مَأْمُورٌ بِفِعْلِهَا بِنَفْسِهِ، وَبِمُعَاوَنَةِ غَيْرِهِ مِنْ إِخْوَانِهِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهَا بِكُلِّ قَوْلٍ يَبْعَثُ عَلَيْهَا وَيُنَشِّطُ لَهَا، وَبِكُلِّ فِعْلٍ كَذَلِكَ.

{وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ}: وَهُوَ التَّجَرُّءُ عَلَى الْمَعَاصِي الَّتِي يَأْثَمُ صَاحِبُهَا وَيُحْرَجُ {وَالْعُدْوَانِ}: وَهُوَ التَّعَدِّي عَلَى الْخَلْقِ فِي دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ؛ فَكُلُّ مَعْصِيَةٍ وَظُلْمٍ يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ كَفُّ نَفْسِهِ عَنْهُ، ثُمَّ إِعَانَةُ غَيْرِهِ عَلَى تَرْكِهِ)).

وَمِنْ ذَلِكَ: الدَّعْوَةُ لِلْخَيْرِ وَتَعْلِيمُ الْجَاهِلِينَ، قَالَ تَعَالَى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104].

((وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- جَمَاعَةٌ دُعَاةٌ إِلَى مَا فِيهِ صَلَاحُ النَّاسِ جَمِيعًا فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَتَأْمُرُ بِكُلِّ فِعْلٍ حَسَنٍ يُسْتَحْسَنُ فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ، وَتَنْهَى عَنْ كُلِّ مَا عُرِفَ فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ قُبْحُهُ دَاخِلَ جَمَاعَاتِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ عَرَفُوا أَوَامِرَ الدِّينِ، وَعَرَفُوا حُسْنَهَا، وَعَرَفُوا نَوَاهِيَ الدِّينِ، وَعَرَفُوا قُبْحَهَا؛ فَهَذَا إِذَا مَا كَانَتْ (مِنْ) فِي الْآيَةِ تَبْعِيضِيَّةً: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ}.

وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ (مِنْ) بَيَانِيَّةً؛ فَمَعْنَى الْآيَةِ: فَلْتَكُونُوا جَمِيعًا أُمَّةً يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ، وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ.

{وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}: وَأُولَئِكَ ذَوُو الْمَنْزِلَةِ الرَّفِيعَةِ عِنْدَ اللهِ، الَّذِينَ قَامُوا بِوَظِيفَتَيِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْخَيْرِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ هُمُ الْفَائِزُونَ بِكُلِّ مَطْلُوبٍ، الظَّافِرُونَ بِالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ وَالسَّعَادَةِ الْخَالِدَةِ.

الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ أَعْظَمِ سُبُلِ التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى.. إِنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَشْرَفُ وَأَكْرَمُ مَقَامَاتِ التَّعَبُّدِ لِلهِ.

هِيَ أَكْرَمُ مَقَامٍ يَقُومُهُ عَبْدٌ لِرَبِّهِ؛ أَنْ يَكُونَ دَاعِيًا إِلَيْهِ، دَالًّا عَلَيْهِ، مُرْشِدًا إِلَى صِرَاطِهِ، مُتَّبِعًا لِسَبِيلِ نَبِيِّهِ، مُقِيمًا عَلَى ذَلِكَ، مُخْلِصًا فِيهِ، آتِيًا بِهِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي يُرْضِيهِ.

قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33].

هَذَا اسْتِفْهَامٌ الْغَرَضُ مِنْهُ النَّفْيُ {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ} أَيْ: لَا أَحَدَ.

{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ}: مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ، لَا إِلَى نَفْسِهِ، وَلَا إِلَى مَنْهَجِهِ، وَلَا إِلَى طَرِيقَتِهِ، وَلَكِنْ: {إِلَى اللَّهِ}.

{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا}، فَالْتَزَمَ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ، وَعَمِلَ بِهِ.

{وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}؛ فَأَسْلَمَ الزِّمَامَ لِلهِ وَحْدَهُ بِالشَّرْعِ الْأَغَرِّ، بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لَا يَبْتَدِعُ، وَلَا يَتَزَيَّدُ، وَلَا يَجِدُ حَظَّ نَفْسِهِ، بَلْ يَجْعَلُ ذَلِكَ تَحْتَ مَوَاطِئِ أَقْدَامِهِ، يَدْعُو إِلَى اللهِ مُخْلِصًا، إِلَى اللهِ خَالِصًا، لِلهِ وَحْدَهُ؛ فَلَا أَحَدَ هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ قَوْلًا، وَلَا أَكْرَمُ عَلَى اللهِ مِنْهُ فِعْلًا، وَلَا أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ مِنْهُ دَعْوَةً.

وَكُلُّ مُكَلَّفٍ وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108].

فَمَنِ اتَّبَعَ رَسُولَ اللهِ ﷺ دَعَا إِلَى اللهِ، وَأَتْبَاعُ النَّبِيِّ ﷺ دُعَاةٌ إِلَى اللهِ، كُلٌّ بِحَسَبِهِ عَلَى حَسَبِ عِلْمِهِ، لَا يَتَزَيَّدُ؛ وَإِلَّا كَانَ دَاعِيًا إِلَى غَيْرِ رَبِّهِ، وَإِلَى غَيْرِ صِرَاطِهِ، وَإِلَى غَيْرِ دِينِهِ، قَائِلًا عَلَى اللهِ بِلَا عِلْمٍ، وَإِنَّمَا يَدْعُو إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى قَدْرِ عِلْمِهِ، وَعَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِ، فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَفِي كُلِّ مَجَالٍ.

وَمِنْ أَبْوَابِ التَّعَاوُنِ الْعَظِيمَةِ: الْمُسَاهَمَةُ فِي تَحْقِيقِ التَّكَافُلِ الِاجْتِمَاعِيِّ، وَالسَّعْيُ أَلَّا يَكُونَ بَيْنَنَا جَائِعٌ، وَلَا مَحْرُومٌ، وَلَا عَارٍ، وَلَا مُشَرَّدٌ، وَلَا مُحْتَاجٌ، وَقَدْ أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالْإِحْسَانِ فِي عَلَاقَةِ الْمُسْلِمِ بِأُسْرَتِهِ وَمُجْتَمَعِهِ: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى} [النساء: 36].

{وَبِذِي الْقُرْبَى} أَيْ: وَبِذِي الْقُرْبَى إِحْسَانًا، أَحْسِنُوا إِلَى الْوَالِدَيْنِ وَإِلَى ذِي الْقُرْبَى، {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 36].

فَأَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالْإِحْسَانِ؛ إِحْسَانِ الْمَرْءِ فِي أُسْرَتِهِ، وَإِحْسَانِ الْمَرْءِ فِي مُجْتَمَعِهِ.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} [البقرة: 177].

وَأَعْطَى الْمَالَ عَلَى شِدَّةِ حُبِّهِ لَهُ الْفُقَرَاءَ مِنْ أَهْلِ قَرَابَتِهِ، وَالْيَتَامَى الَّذِينَ تُوُفِّيَ آبَاؤُهُمْ وَلَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ، وَالْمَسَاكِينَ الَّذِينَ يَدُلُّ ظَاهِرُهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ ذَوُو حَاجَةٍ، وَالْمُسَافِرَ الْمُنْقَطِعَ عَنْ أَهْلِهِ، وَالطَّالِبِينَ الْمُسْتَطْعِمِينَ، وَأَعْطَى الْمَالَ فِي مُعَاوَنَةِ الْمُكَاتَبِينَ حَتَّى يَفُكُّوا رِقَابَهُمْ، أَوْ فِي فَكِّ الْأَسْرَى مِنْ أَيْدِي الْعَدُوِّ بِفِدَائِهِمْ.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ} [البقرة: 280].

وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي ظِلِّهِ))، ذَكَرَ مِنْهُمْ: ((وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا؛ حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا صَنَعَتْ يَمِينُهُ)).

وَمِنْ أَهَمِّ سِمَاتِ بِنَاءِ الشَّخْصِيَّةِ -أَيْضًا-: الْمَسْؤُولِيَّةُ وَالْإِيجَابِيَّةُ، وَالْحِرْصُ عَلَى الْعَمَلِ؛ بَلْ عَلَى إِتْقَانِهِ؛ حَيْثُ يَقُولُ نَبِيُّنَا ﷺ: ((لَأَنْ يَحْتَطِبَ أَحَدُكُمْ حُزْمَةً عَلَى ظَهْرِهِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ أَحَدًا فَيُعْطِيَهُ أَوْ يَمْنَعَهُ)). وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

وَعَنِ الْمِقْدَامِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -كَمَا أَخْرَجَ ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ))- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللهِ دَاوُدَ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ)).

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ؛ فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا». وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ.

وَ«فَسِيلَةٌ»: هِيَ النَّخْلَةُ الصَّغِيرَةُ.

هَذَا فِيهِ مُبَالَغَةٌ فِي الْحَثِّ عَلَى غَرْسِ الْأَشْجَارِ وَحَفْرِ الْأَنْهَارِ؛ لِتَبْقَى هَذِهِ الدَّارُ عَامِرَةً إِلَى آخِرِ أَمَدِهَا الْمَحْدُودِ الْمَعْلُومِ عِنْدَ خَالِقِهَا، فَكَمَا غَرَسَ لَكَ غَيْرُكَ فَانْتَفَعْتَ بِهِ فَاغْرِسْ أَنْتَ لِمَنْ يَجِيءُ بَعْدَكَ لِيَنْتَفِعَ بِهِ؛ وَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا صُبَابَةٌ، وَذَلِكَ بِهَذَا الْقَصْدِ لَا يُنَافِي الزُّهْدَ، وَالتَّقَلُّلَ مِنَ الدُّنْيَا.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ: التَّرْغِيبُ الْعَظِيمُ فِي اغْتِنَامِ آخِرِ فُرْصَةٍ مِنَ الْحَيَاةِ فِي سَبِيلِ زَرْعِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَيُجْرَى لَهُ أَجْرُهُ، وَتُكْتَبُ لَهُ صَدَقَتُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالْحَثُّ عَلَى الطَّاعَةِ إِلَى آخِرِ لَحْظَةٍ مِنَ الْحَيَاةِ.

مِنْ سِمَاتِ وَمَلَامِحِ الشَّخْصِيَّةِ الْمُسْلِمَةِ السَّوِيَّةِ: حُبُّ الْوَطَنِ الْإِسْلَامِيِّ، وَالدِّفَاعُ عَنْهُ؛ فَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِينَ -كَمَا فِي شَرْحِهِ عَلَى ((رِيَاضِ الصَّالِحِينَ))-: ((حُبُّ الْوَطَنِ.. إِنْ كَانَ إِسْلَامِيًّا فَهَذَا تُحِبُّهُ لِأَنَّهُ إِسْلَامِيٌّ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ وَطَنِكَ الَّذِي هُوَ مَسْقَطُ رَأْسِكَ وَالوَطَنِ الْبَعِيدِ عَنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ, كُلُّهَا أَوْطَانٌ إِسْلَامِيَّةٌ يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَحْمِيَهَا)).

الْوَطَنُ إِنْ كَانَ إِسْلَاميًّا يَجِبُ أَنْ يُحَبَّ، وَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُشَجِّعَ عَلَى الْخَيْرِ فِي وَطَنِهِ، وَعَلى بَقَائِهِ إِسْلَامِيًّا, وَأَنْ يَسْعَى لِاسْتِقْرَارِ أَوْضَاعِهِ وَأَهْلِهِ, وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ الْمُسْلِمِينَ.

وَمِنْ لَوَازِمِ الْحُبِّ الشَّرْعِيِّ لِلْأَوْطَانِ الْمُسْلِمَةِ أَيْضًا: أَنْ يُحَافَظَ عَلَى أَمْنِهَا وَاسْتِقْرَارِهَا، وَأَنْ تُجَنَّبَ الْأَسْبَابَ الْمُفْضِيَةَ إِلَى الْفَوْضَى وَالِاضْطِرَابِ وَالْفَسَادِ؛ فَالْأَمْنُ فِي الْأَوْطَانِ مِنْ أَعْظَمِ مِنَنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ عَلَى الْإِنْسَانِ.

فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَعْرِفَ قَدْرَ بَلَدِهِ الْإِسْلَامِيِّ، وَأَنْ يُدَافِعَ عَنْهُ، وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَحْصِيلِ اسْتِقْرَارِهِ وَأَمْنِهِ، وبُعْدِهِ وَإِبْعَادِهِ عَنِ الْفَوْضَى، وَعَنْ الِاضْطِرَابِ، وَعَنْ وُقُوعِ الْمُشَاغَبَاتِ.

وَبِهَذِهِ الْمَلَامِحِ الرَّئِيسَةِ وَمَا يَتَفَرَّعُ عَنْهَا تَحْيَا الشَّخْصِيَّةُ الْمُسْلِمَةُ الصَّادِقَةُ حَيَاةً طَيِّبَةً مُسْتَقِرَّةً مُتَمَيِّزَةً عَنْ غَيْرِهَا مِنَ الشَّخْصِيَّاتِ فِي الْأَعْمَالِ وَالْوَسَائِلِ وَالْغَايَاتِ.

((مِيزَانُ السَّواءِ النَّفْسِيِّ الْعَادِلُ))

عِبَادَ اللهِ! نَحْنُ الْمُسْلِمِينَ نَعْتَقِدُ أَنَّ الِاتِّصَافَ بِالسَّوَاءِ النَّفْسِيِّ أَوِ الِانْحِرَافَ عَنْهُ يَحْكُمُهُ الِاتِّبَاعُ الْوَاعِي الرَّشِيدُ لِلنَّبِيِّ ﷺ؛ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ يَعْتَقِدُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ هُوَ الْمَثَلُ الْكَامِلُ، وَأَنَّهُ الْأُسْوَةُ وَالْقُدْوَةُ، وَهُوَ مِثَالُ الْكَمَالِ فِي السَّوَاءِ النَّفْسِيِّ، فَالْقُرْبُ مِنَ اتِّبَاعِهِ اسْتِقَامَةٌ وَحِيَازَةٌ لِلسَّوَاءِ النَّفْسِيِّ، وَمُخَالَفَتُهُ انْحِرَافٌ وَحُيُودٌ عَنِ السَّوَاءِ النَّفْسِيِّ؛ شَرِيطَةَ أَنْ يَكُونَ الِاتِّبَاعُ بِعِلْمٍ وَفَهْمٍ، لَا بِاجْتِزَاءٍ وَلَا بِجَهْلٍ.

إِنَّ الْإِنْسَانَ السَّوِيَّ هُوَ الْأَكْثَرُ قُرْبًا فِي مُتَابَعَةِ النَّبِيِّ، وَمُضَاهَاةِ الْمَثَلِ الَّذِي يُقَاسُ عَلَيْهِ السَّوَاءُ النَّفْسِيُّ وَهُوَ النَّبِيُّ ﷺ.

((شَخْصِيَّاتٌ بَنَاهَا النَّبِيُّ ﷺ صَنَعَتِ التَّارِيخَ))

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! لَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ عَلَى الطَّبِيعَةِ الْبَشَرِيَّةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-؛ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يَتَفَاعَلُونَ مَعَ كِتَابِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَسُنَّةِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ ﷺ، فَصَنَعَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِمْ فِي التَّارِيخِ مَا لَمْ يَحْدُثْ مِثْلُهُ قَطُّ فِي تَارِيخِ الْإِنْسَانِيَّةِ مُنْذُ كَانَ الْإِنْسَانُ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ.

هَذَا هُوَ الْجِيلُ الْأَوَّلُ الَّذِي يَحْمِلُ الرِّسَالَةَ عَالِيَةً شَامِخَةً فِي أَجْوَازِ الْفَضَاءِ، وَهَذَا هُوَ الْجِيلُ الَّذِي فَاخَرَ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ مَنْ جَاءَ بَعْدُ مِمَّنْ يَنْتَمِي إلَى هَذَا الْجِيلِ الْمُبَارَكِ الشَّرِيفِ.

نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَجْمَعَنَا وَإِيَّاهُمْ فِي الْفِرْدَوْسِ الْأَعْلَى مِنَ الْجَنَّةِ؛ إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

المصدر :   ((مَرَاحِلُ وَسِمَاتُ بِنَاءِ الشَّخْصِيَّةِ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ))


التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  الزَّارِعُ الْمُجِدُّ
  وَأَعِدُّوا ‌لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ
  مصر وحروب الجيل الرابع
  الْإِيجَابِيَّةُ
  تحقيق التوحيد في الكسوف والخسوف
  أُصُولٌ وَمَعَالِمُ فِي تَرْبِيَةِ الْأَوْلَادِ
  السَّكِينَةُ وَالطُّمَأْنِينَةُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَفَضَائِلُ الْعَشْرِ
  جماعات التكفير والحكم بغير ما أنزل الله
  مُوَاجَهَةُ الْفَسَادِ.. مَسْؤُولِيَّةٌ دِينِيَّةٌ وَوَطَنِيَّةٌ وَمُجْتَمَعِيَّةٌ
  التَّنَمُّرُ وَالسُّخْرِيَةُ وَأَثَرُهُمَا الْمُدَمِّرُ عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان