((الدَّرْسُ التَّاسِعُ:
دُرُوسٌ قُرْآنِيَّةٌ فِي تَرْبِيَةِ الْأَبْنَاءِ))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((الْأَوْلَادُ هِبَةٌ مِنَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ))
فَالْأَوْلَادُ هِبَةٌ مِنَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وهُمْ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، قَالَ تَعَالَى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46].
الْمَالُ الْكَثِيرُ الْوَفِيرُ، وَالْبَنُونَ الْكَثِيرُونَ زِينَةُ هَذِهِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ.
الْوَلَدُ الصَّالِحُ يَكُونُ قُرَّةَ عَيْنٍ لِلْمَرْءِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَزُخْرًا لَهُ بَعْدَ الْمَمَاتِ، ثُمَّ يَكُونُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَفْعًا فِي الدَّرَجَاتِ.
إِنَّ رِعَايَةَ الْوَلَدِ وَتَرْبِيَتَهُ وَتَأْدِيبَهُ كَمَنْ يَزْرَعُ؛ لِيَحْصُدَ؛ فَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، قَالَ: قَالَ دَاوُدُ: «اعْلَمْ أَنَّكَ كَمَا تَزْرَعُ؛ كَذَلِكَ تَحْصُدُ» . وَهَذَا الْأَثَرُ صَحِيحٌ.
هَذِهِ مِنَ الْحِكَمِ الْبَلِيغَةِ الَّتِي يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَأَمَّلَ فِيهَا مَلِيًّا، وَأَنْ يَجْعَلَهَا دَائِمًا شِعَارَهُ وَرَائِدَهُ.
«وَاعْلَمْ أَنَّكَ كَمَا تَزْرَعُ؛ كَذَلِكَ تَحْصُدُ»: فَإِنَّهُ لَا يُجْتَنَى مِنَ الشَّوْكِ الْعِنَبُ.
كَمَا يَزْرَعُ الزَّارِعُ؛ يَحْصُدُ الثَّمَرَةَ؛ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، خَيْرًا أَوْ شَرًّا، فَالْجَزَاءُ عِنْدَ اللهِ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، مَنْ بَذَرَ الْخَيْرَ حَصَدَ خَيْرًا؛ جَزَاءً حَسَنًا مِنَ اللهِ، وَمَنْ بَذَرَ الشَّرَّ -وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ- مِنْ كُفْرٍ، وَشِرْكٍ، وَبِدْعَةٍ، وَكَبِيرَةٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الشُّرُورِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَحْصُدُ إِلَّا النَّارَ وَبِئْسَ الْقَرَارُ، وَغَضَبَ الْمَلِكِ الْجَبَّارِ.
لَقَدْ حَثَّ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ عَلَى ضَرُورَةِ الِاهْتِمَامِ بِتَرْبِيَةِ الْأَطْفَالِ وَالشَّبَابِ؛ قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- فِي أَصْحَابِ الْكَهْفِ: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13].
نَحْنُ بِعَظَمَةِ رُبُوبِيَّتِنَا وَشُمُولِ عِلْمِنَا نَقْرَأُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ خَبَرَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ ذَا الشَّأْنِ، مُتَّصِفًا بِأَنَّهُ حَقٌّ ثَابِتٌ، إِنَّهُمْ شُبَّانٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ، وَزِدْنَاهُمْ بِمَعُونَتِنَا وَتَوْفِيقِنَا إِيمَانًا وَبَصِيرَةً.
وَفِي الْآيَةِ: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفِتْيَانَ الشَّبَابَ أَسْرَعُ اسْتِجَابَةً لِنِدَاءِ الْحَقِّ، وَأَشَدُّ عَزْمًا وَتضْحِيَةً فِي سَبِيلِهِ.
وَمِنْ فَوَائِدِ الْآيَةِ:
ضَرُورَةُ الِاهْتِمَامِ بِتَرْبِيَةِ الشَّبَابِ؛ لِأَنَّهُمْ أَزْكَى قُلُوبًا، وَأَنْقَى أَفْئِدَةً، وَأَكْثَرُ حَمَاسًا، وَعَلَيْهِمْ تَقُومُ نَهْضَةُ الْأُمَمِ.
وَقَدْ جَمَعَ الشَّبَابُ بَيْنَ الْإِقْرَارِ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَتَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ، وَالْتِزَامِ ذَلِكَ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى كَمَالِ مَعْرِفَتِهِمْ بِرَبِّهِمْ، وَزِيَادَةِ الْهُدَى مِنَ اللهِ تَعَالَى لَهُمْ.
((تَرْبِيَةُ الطِّفْلِ عَلَى التَّوْحِيدِ فِي الْقُرْآنِ))
يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَجْتَهِدَ فِي تَرْبِيَةِ أَبْنَائِنَا عَلَى التَّوْحِيدِ، وَفِي الدُّعَاءِ لَهُمْ أَنْ يَكُونُوا مُوَحِّدِينَ؛ فقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ -تَعَالَى ذِكْرُهُ- عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنَّهُمَا كَانَا يَرْفَعَانِ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَهُمَا يَقُولَانِ: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْتَسْلِمَيْنِ لِأَمْرِكَ، خَاضِعَيْنِ لِطَاعَتِكَ، لَا نُشْرِكُ مَعَكَ فِي الطَّاعَةِ أَحَدًا سِوَاكَ، وَلَا فِي الْعِبَادَةِ غَيْرَكَ.
وَدَعَوَا اللهَ أَنْ يَجْعَلَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا أَهْلَ طَاعَتِهِ وَوَلَايَتِهِ، وَالْمُسْتَجِيبِينَ لِأَمْرِهِ.
وَوَصَّى إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِالْإِسْلَامِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ نَبِيُّهُ ﷺ، وَهُوَ إِخْلَاصُ الْعِبَادَةِ وَالتَّوْحِيدِ لِلَّهِ، وَخُضُوعُ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ لَهُ.
فَعَهِدَ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- إلَى بَنِيهِ بِذَلِكَ -أَيْ: بِالْإِسْلَامِ-، وَأَمَرَهُمْ بِهِ، وَوَصَّى بِذَلِكَ -أَيْضًا- يَعْقُوبُ بَنِيهِ.
{وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ} الَّذِي قَدْ عَهِدَ إلَيْكُمْ فِيهِ، {فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}: فَاتَّقُوا اللَّه أَنْ تَمُوتُوا إلَّا وَأَنْتُمْ عَلَيْهِ.
وَقَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35].
وَضَعْ فِي ذَاكِرَتِكَ أَيُّهَا الْمُتَلَقِّي لِآيَاتِنَا حِينَ قَالَ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- دَاعِيًا رَبَّهُ، بَعْدَ أَنْ أَسْكَنَ ابْنَهُ إِسْمَاعِيلَ وَأُمَّهُ مَكَّةَ: رَبِّ اجْعَلْ مَكَّةَ بَلَدًا ذَا أَمْنٍ، يَأْمَنُ كُلُّ مَنْ فِيهَا، وَأَبْعِدْنِي وَأَبْعِدْ بَنِيَّ عَنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ.
{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} أَيِ: اجْعَلْنِي وَبَنِيَّ فِي جَانِبٍ، وَعِبَادَةَ الْأَصْنَامِ فِي جَانِبٍ آخَرَ.
فَإِذَا كَانَ إِمَامُ الْحُنَفَاءِ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- -وَهُوَ الَّذِي عَادَى أَبَاهُ وَقَوْمَهُ، وَكَسَّرَ الْأَصْنَامَ، وَدَعَا إِلَى عِبَادَةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَحْدَهُ- إِذَا كَانَ إِمَامُ الْحُنَفَاءِ إِبْرَاهِيمُ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الشِّرْكَ، وَيَدْعُو رَبَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يُجَنِّبَهُ وَذُرِّيَّتَهُ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35].
قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: ((فَمَنْ يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ؟!)).
((نَصَائِحُ قُرْآنِيَّةٌ جَامِعَةٌ فِي تَرْبِيَةِ الْأَوْلَادِ))
إِنَّ الْوَصَايَا الَّتِي وَصَّى بِهَا لُقْمَانُ لِابْنِهِ تَجْمَعُ أُمَّهَاتِ الْحِكَمِ، وَتَسْتَلْزِمُ مَا لَمْ يُذْكَرْ مِنْهَا، وَكُلُّ وَصِيَّةٍ يُقْرَنُ بِهَا مَا يَدْعُو إِلَى فِعْلِهَا إِنْ كَانَتْ أَمْرًا، وَإِلَى تَرْكِهَا إِنْ كَانَتْ نَهْيًا.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْحِكْمَةِ، وَأَنَّهَا الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ، وَحُكْمِهَا وَمُنَاسَبَاتِهَا، فَأَمَرَهُ بِأَصْلِ الدِّينِ، وَهُوَ التَّوْحِيدُ، وَنَهَاهُ عَنِ الشِّرْكِ، وَبَيَّنَ لَهُ الْمُوجِبَ لِتَرْكِهِ.
وَأَمَرَهُ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَبَيَّنَ لَهُ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِبِرِّهِمَا، وَأَمَرَهُ بِشُكْرِهِ وَشُكْرِهِمَا، ثُمَّ احْتَرَزَ بِأَنَّ مَحَلَّ بِرِّهِمَا وَامْتِثَالِ أَوَامِرِهِمَا مَا لَمْ يَأْمُرَا بِمَعْصِيَةٍ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يَعُقُّهُمَا، بَلْ يُحْسِنُ إِلَيْهِمَا؛ وَإِنْ كَانَ لَا يُطِيعُهُمَا إِذَا جَاهَدَاهُ عَلَى الشِّرْكِ.
وَأَمَرَهُ بِمُرَاقَبَةِ اللَّهِ، وَخَوْفِهِ الْقُدُومَ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ إِلَّا أَتَى بِهَا.
وَنَهَاهُ عَنِ التَّكَبُّرِ، وَأَمَرَهُ بِالتَّوَاضُعِ، وَنَهَاهُ عَنِ الْبَطَرِ وَالْأَشَرِ، وَالْمَرَحِ، وَأَمَرَهُ بِالسُّكُونِ فِي الْحَرَكَاتِ وَالْأَصْوَاتِ، وَنَهَاهُ عَنْ ضِدِّ ذَلِكَ.
وَأَمَرَهُ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَبِالصَّبْرِ اللَّذَيْنِ يَسْهُلُ بِهِمَا كُلُّ أَمْرٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ}.
فَحَقِيقٌ بِمَنْ أَوْصَى بِهَذِهِ الْوَصَايَا أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِالْحِكْمَةِ، مَشْهُورًا بِهَا.
وَلِهَذَا مِنْ مِنَّةِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى سَائِرِ عِبَادِهِ: أَنْ قَصَّ عَلَيْهِمْ مِنْ حِكْمَتِهِ، مَا يَكُونُ لَهُمْ بِهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ.
قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ ۚ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [لقمان: 12].
وَنُقْسِمُ مُؤَكِّدِينَ لَكُمْ أَنَّنَا آتَيْنَا لُقْمَانَ الْعِلْمَ، وَالْعَمَلَ، وَالْإِصَابَةَ فِي الْأُمُورِ.
وَقُلْنَا لَهُ: اشْكُرْ للهِ، وَمَنْ يَشْكُرِ اللهَ بِالْإِيمَانِ، وَالْحَمْدِ، وَالطَّاعَةِ، وَالْعَمَلِ بِمَرَاضِيهِ؛ فَإِنَّمَا يَعُودُ نَفْعُ شُكْرِهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ اللهَ يَجْزِيهِ عَلَى شُكْرِهِ ثَوَابًا عَظِيمًا.
وَمَنْ لَمْ يَشْكُرِ اللهَ بِالْإِيمَانِ، وَالْحَمْدِ، وَالطَّاعَةِ، وَالْعَمَلِ بِمَرَاضِيهِ؛ يَعُودُ عَلَيْهِ وَبَالُ كُفْرِهِ، وَاللهُ غَنِيٌّ بِذَاتِهِ، غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى شُكْرِ الشَّاكِرِينَ، مَحْمُودٌ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فِي الْوُجُودِ.
{وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
وَضَعْ فِي ذَاكِرَتِكَ -أَيُّهَا الْمُتَلَقِّي آيَاتِ كِتَابِ اللهِ- ضَعْ نَصِيحَةَ لُقْمَانَ ابْنَهُ وَهُوَ يَنْصَحُهُ نُصْحًا مَقْرُونًا بِمَا يُثِيرُ الرَّغْبَةَ وَالرَّهْبَةَ: يَا بُنَيَّ الْقَرِيبَ مِنْ قَلْبِي، الْحَبِيبَ لِي! لَا تَجْعَلْ للهِ فِي اعْتِقَادِكَ أَوْ عَمَلِكَ شَرِيكًا لَهُ فِي رُبُوبِيَّتِهِ لِكَوْنِهِ، أَوْ فِي إِلَهِيَّتِهِ؛ لِأَنَّ الْتَسْوِيَةَ بَيْنَ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ وَبَيْنَ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا ظُلْمٌ عَظِيمٌ؛ بِوَضْعِ الْعِبَادَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا؛ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ.
{وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14].
وَنَصَحْنَا الْإِنْسَانَ نُصْحًا مُؤَكَّدًا بِعَهْدٍ، نَصَحْنَاهُ هَذَا النُّصْحَ أَنْ يَبَرَّ وَالِدَيْهِ، وَيُحْسِنَ إِلَيْهِمَا، وَيُطِيعَ أَمْرَهُمَا فِي الْمَعْرُوفِ، وَيَجْعَلَ أُمَّهُ أَوْفَرَ نَصِيبًا.
حَمَلَتْهُ أُمُّهُ حَمْلَ ضَعْفٍ فِي حَالَتِهَا النَّفْسِيَّةِ عَلَى ضَعْفٍ فِي قُوَاهَا الْجَسَدِيَّةِ، ثُمَّ بَعْدَ آلَامِ الْوَضْعِ وَمَتَاعِبِ النِّفَاسِ تُعَانِي الْأُمُّ مِنْ مَتَاعِبِ الْإِرْضَاعِ وَالتَّرْبِيَةِ.
وَيَكُونُ فِطَامُهُ عَنِ الرَّضَاعِ فِي مُدَّةِ سَنَتَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ الْفُضْلَى.
وَقُلْنَا لَهُ: اشْكُرْ للهِ عَلَى نِعَمِهِ الَّتِي لَا تُحْصَى؛ بِعِبَادَتِهِ، وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِمَرَاضِيهِ.
وَاشْكُرْ لِوَالِدَيْكَ عَلَى مَا تَحَمَّلَا وَمَا قَدَّمَا فِي تَنْشِئَتِهِمَا وَتَرْبِيَتِهِمَا مِنْ عَطَاءَاتٍ كَثِيرَةٍ.
إِلَيَّ وَحْدِي الْمَرْجِعُ لِلْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ، فَأُثِيبُ عَلَى الشُّكْرِ، وَأُعَاقِبُ عَلَى الْجُحُودِ وَالْكُفْرِ.
{وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان: 15].
وَإِنِ اشْتَدَّا عَلَيْكَ بِالطَّلَبِ -أَيُّهَا الِابْنُ الْمُؤْمِنُ- مُكْرِهَيْنِ لَكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي شِرْكًا مَا، لَا تَعْلَمُ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ؛ فَلَا تَسْتَجِبْ لَهُمَا فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ.
وَوَافِقْهُمَا فِي أُمُورِ الدُّنْيَا مُصَاحَبَةً حَسَنَةً، وَقَدِّمْ لَهُمَا مَعْرُوفًا؛ كَمَالٍ، وَتَكْرِيمٍ، وَخِدْمَةٍ.
وَاتَّبِعْ فِي مَسِيرَتِكَ فِي حَيَاتِكَ سَبِيلَ الْمُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ رَجَعُوا إِلَيَّ بِالْإِيمَانِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَالتَّوْبَةِ مِنَ الذُّنُوبِ، ثُمَّ إِلَيَّ بَعْدَ رِحْلَةِ الِامْتِحَانِ فِي الدُّنْيَا، وَبَعْدَ مَوْتِكُمْ- إِلَيَّ رُجُوعُكُمْ، وَمَكَانُ رُجُوعِكُمْ، وَزَمَانُهُ، فَأُخْبِرُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَهُ فِي الدُّنْيَا مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ؛ لِأُجَازِيَكُمْ عَلَيْهِ.
{يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ}[لقمان: 16].
يَا بُنَيَّ الْقَرِيبَ مِنْ قَلْبِي، وَالْحَبِيبَ لِي! إِنَّ الْغَائِبَةَ عِنْدَ الْخَلَائِقِ إِنْ كَانَتْ فِي الصِّغَرِ قَدْرَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ، فَتَكُنْ هَذِهِ الْغَائِبَةُ الْخَفِيَّةُ مَعَ صِغَرِهَا فِي بَاطِنِ صَخْرَةٍ، أَوْ فِي مَكَانٍ مَا مِنَ السَّمَوَاتِ، أَوْ فِي مَكَانٍ مَا مِنْ بَاطِنِ الْأَرْضِ؛ يَأْتِ بِهَا اللهُ مِنْ مَكَانِهَا الَّتِي هِيَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ عَالِمٌ بِهَا، قَادِرٌ عَلَى اسْتِخْرَاجِهَا.
إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ يُجْرِي تَدَابِيرَهُ وَأَفْعَالَه بِرِفْقٍ تَامٍّ، يَنْفُذُ بِصِفَاتِهِ إِلَى أَعْمَاقِ كُلِّ مَوْجُودٍ خَلْقًا وَإِمْدَادًا، وَعِلْمًا وَتَصارِيفَ، عَلِيمٌ عِلْمًا كَامِلًا شَامِلًا بِكُلِّ ظَوَاهِرِ الْأَشْيَاءِ وَبَوَاطِنِهَا عِلْمَ حُضُورٍ وَشُهُودٍ وَتَدْبِيرٍ.
{يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}[لقمان: 17].
يَا بُنَيَّ الْقَرِيبَ مِنْ قَلْبِي، وَالْحَبِيبَ لِي! إِنِّي أُوصِيكَ بِهَذِهِ الْوَصَايَا الثَّمَانِيَةِ بَعْدَ أَنْ أَوْصَيْتُكَ بِعَهْدٍ مُؤَكَّدٍ مُشَدَّدٍ أَلَّا تُشْرِكَ بِاللهِ:
* الْوَصِيَّةُ الْأُولَى: أَدِّ الصَّلَاةَ تَامَّةً بِأَرْكَانِهَا، وَشُرُوطِهَا، وَوَاجِبَاتِهَا.
الْوَصِيَّةُ الثَّانِيَةُ: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي يَعْرِفُهُ الشَّرْعُ وَالْعَقْلُ.
الْوَصِيَّةُ الثَّالِثَةُ: انْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ الَّذِي يُنْكِرُهُ الشَّرْعُ وَالْعَقْلُ.
الْوَصِيَّةُ الرَّابِعَةُ: وَسَيُصِيبُكَ أَذًى مِنَ الَّذِينَ تَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ؛ فَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ، إِنَّ ذَلِكَ الصَّبْرَ عَلَى مَا يُصِيبُ الْقَائِمَ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ يَحْتَاجُ إِرَادَةً قَوِيَّةً رَفِيعَةً هِيَ مِنْ مُسْتَوَى الْعَزْمِ الَّذِي يَدْفَعُ أَصْحَابَهُ إِلَى تَنْفِيذِ مَا يُرِيدُونَ مِمَّا يُرْضِي اللهَ -جَلَّ وَعَلَا-؛ وَلَوِ اقْتَرَنَ بِهِ تَحَمُّلُ أَشَدِّ الصُّعُوبَاتِ، وَتَحَمُّلُ أَعْظَمِ الْآلَامِ.
{وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18].
* الْوَصِيَّةُ الْخَامِسَةُ: وَلَا تَتَكَبَّرْ؛ فَتَحْقِرَ النَّاسَ، وَتُعْرِضَ بِوَجْهِكَ عَنْهُمْ إِذَا كَلَّمُوكَ كَمَا يَفْعَلُ أَهْلُ الْكِبْرِ.
* الْوَصِيَّةُ السَّادِسَةُ: وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مُخْتَالًا مُتَبَخْتِرًا فِي مِشْيَتِكَ؛ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فِي مَشْيِهِ، مُسْتَكْبِرٍ عَلَى النَّاسِ بِإِعْرَاضِهِ عَنْهُمْ، مُبَالِغٍ فِي الْفَخْرِ عَلَى النَّاسِ بِنَفْسِهِ، أَوْ بِمَا آتَاهُ اللهُ مِنْ قُوَّةٍ، أَوْ مَالٍ، أَوْ نَسَبٍ، أَوْ جَاهٍ، أَوْ ذَكَاءٍ، أَوْ جَمَالِ وَجْهٍ وَحُسْنِ طَلْعَةٍ.
وَمَنْ لَا يُحِبُّهُ اللهُ؛ فَإِنَّهُ يُعَرِّضُ نَفْسَهُ لِعِقَابِهِ.
{وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ۚ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 19].
الْوَصِيَّةُ السَّابِعَةُ: وَلْتَكُنْ فِي مِشْيَتِكَ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الْإِسْرَاعِ وَالتَّأَنِّي فِي سَكِينَةٍ وَوَقَارٍ.
الْوَصِيَّةُ الثَّامِنَةُ: وَاخْفِضْ مِنْ صَوْتِكَ بِقَدْرِ حَاجَةِ الْمُسْتَمِعِينَ، إِنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ دُونَ حَاجَةٍ إِلَى رَفْعِهِ مِنْ صِفَاتِ الْحَمِيرِ؛ فَلَا تَكُنْ يَا بُنَيَّ مُتَّصِفًا بِصِفَةٍ هِيَ مِنْ صِفَاتِ الْحَمِيرِ الَّتِي تَنْهَقُ فَتَرْفَعُ أَصْوَاتَهَا الْمُنْكَرَةَ، إِنَّ أَقْبَحَ الْأَصْوَاتِ وَأَكْثَرَهَا تَنْفِيرًا لِلْأَسْمَاعِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ.
يَا بُنَيَّ! إِنَّ السَّيِّئَةَ أَوِ الْحَسَنَةَ مَهْمَا كَانَتْ صَغِيرَةً مِثْلَ وَزْنِ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ، وَكَانَتْ فِي بَطْنِ صَخْرَةٍ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا أَحَدٌ، أَوْ كَانَتْ فِي أَيِّ مَكَانٍ مِنَ السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ؛ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُجَازِي الْعَبْدَ عَلَيْهَا.
إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ، خَبِيرٌ بِهِمْ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أُمُورِهِمْ شَيْءٌ.
يَا بُنَيَّ! أَقِمِ الصَّلَاةَ بِأَدَائِهَا عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ، وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَاصْبِرْ عَلَى مَا نَالَكَ مِنْ مَكْرُوهٍ فِي ذَلِكَ، إِنَّ مَا أَمَرْتَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ مِمَّا عَزَمَ اللهُ بِهِ عَلَيْكَ أَنْ تَفْعَلَهُ؛ فَلَا خِيرَةَ لَكَ فِيهِ.
وَلَا تُعْرِضْ بِوَجْهِكَ عَنِ النَّاسِ تَكَبُّرًا، وَلَا تَمْشِ فَوْقَ الْأَرْضِ مُخْتَالًا مُتَكَبِّرًا، إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فِي مِشْيَتِهِ، فَخُورٍ بِمَا أُوتِيَ مِنْ نِعَمٍ لَا يَشْكُرُ اللهَ عَلَيْهَا، بَلْ يُبْغِضُهُ.
وَتَوَسَّطْ فِي مَشْيِكَ بَيْنَ الْإِسْرَاعِ وَالدَّبِيبِ، مَشْيًا يُظْهِرُ الْوَقَارَ.
وَاخْفِضْ مِنْ صَوْتِكَ، لَا تَرْفَعْهُ رَفْعًا يُؤْذِي، إِنَّ أَقْبَحَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ فِي ارْتِفَاعِ أَصْوَاتِهَا.
وَمِنْ فَوَائِدِ هَذِهِ الْآيَاتِ: وُجُوبُ تَعَاهُدِ الْأَبْنَاءِ بِالتَّرْبِيَةِ وَالتَّعْلِيمِ، وَالنَّصِيحَةِ وَالتَّوْجِيهِ.
عَلِّمُوا أَبْنَاءَكُم!
عَلِّمُوا ذَوِيكُم!
عَلِّمُوا أَهلِيكُم!
عَلِّمُوا الدُّنيَا كُلَّهَا أُصُولَ أَهلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ!
عَلِّمُوهُم كَيفَ يَأخُذُونَ الكِتَابَ وَالسُّنَّةَ بِمِنهَاجِ النُّبُوَّةِ، بِفَهمِ الصَّحَابَةِ وَمَن تَبِعَهُم بِإِحسَانٍ!
وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّ العَالمِينَ فِي دِينِكُم، وَاحذَرُوا أَنْ تُضَيِّعُوهُ؛ فَإِنَّ الفُرصَةَ لَا تَسْنَحُ كُلَّ حِينٍ!!
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٌ، وَعَلَى آلِهِ وَأصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
المصدر: دُرُوسٌ وَعِظَاتٌ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ-الجزء الأول