بِرُّ الْأُمِّ سَبِيلُ الْبَرَكَةِ فِي الدُّنْيَا وَالرَّحْمَةِ فِي الْآخِرَةِ

بِرُّ الْأُمِّ سَبِيلُ الْبَرَكَةِ فِي الدُّنْيَا وَالرَّحْمَةِ فِي الْآخِرَةِ

((بِرُّ الْأُمِّ سَبِيلُ الْبَرَكَةِ فِي الدُّنْيَا وَالرَّحْمَةِ فِي الْآخِرَةِ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((وَصِيَّةُ اللهِ بِالْإِحْسَانِ لِلْوَالِدَيْنِ))

فَقَدْ أَمَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْإِنْسَانَ وَوَصَّاهُ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا؛ أَيْ: بِبِرِّهِمَا وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَأَنْ يُحَافِظَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يَعُقَّهُمَا وَيُسِيءَ إِلَيْهِمَا فِي قَوْلِهِ وَعَمَلِهِ.

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت: ٨].

وَأَمَرْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ أَنْ يَبَرَّهُمَا، وَيُحْسِنَ إِلَيْهِمَا، وَيُطِيعَ أَمْرَهُمَا فِي الْمَعْرُوفِ.

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ مِنْ لُطْفِ اللهِ -تَعَالَى- بِعِبَادِهِ وَشُكْرِهِ لِلْوَالِدَيْنِ أَنْ وَصَّى الْأَوْلَادَ وَعَهِدَ إِلَيْهِمْ أَنْ يُحْسِنُوا إِلَى وَالِدِيهِمْ بِالْقَوْلِ اللَّطِيفِ، وَالْكَلَامِ اللَّيِّنِ، وَبَذْلِ الْمَالِ وَالنَّفَقَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الْإِحْسَانِ.

قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} [الأحقاف:15].

وَأَمَرْنَا الْإِنْسَانَ بِأَنْ يُحْسِنَ إِلَى وَالِدَيْهِ إِحْسَانًا عَظِيمًا، وَيَبَرَّهُمَا بِصُنُوفِ الْبِرِّ فِي حَيَاتِهِمَا وَبَعْدَ مَمَاتِهِمَا.

 ((حَنَانُ الْأُمِّ وَشَفَقَتُهَا فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ))

وَصَفَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْأُمَّ فِي الْقُرْآنِ بِالرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ، وَالرِّضَا وَالصَّبْرِ عَلَى تَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ مِنْ أَجْلِ أَبْنَائِهَا؛ فَقَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ۖ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ۖ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15].

{وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ۖ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ} مُدَّةَ حَمْلِهِ حَمْلًا ذَا مَشَقَّةٍ، وَهِيَ رَاضِيَةٌ صَابِرَةٌ، حَرِيصَةٌ عَلَى سَلَامَتِهِ، وَوَضَعَتْهُ حِينَ وِلَادَتِهِ وَضْعًا ذَا مَشَقَّةٍ وَهِيَ رَاضِيَةٌ فَرِحَةٌ بِهِ وَلِيدًا لَهَا.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ۖ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233].

وَالْأُمَّهَاتُ سَوَاءٌ أَكُنَّ أَزْوَاجًا لِآبَاءِ الْأَوْلَادِ، أَوْ كُنَّ مُطَلَّقَاتٍ مِنْهُنَّ، يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ فِي حُكْمِ اللهِ الَّذِي نَدَبَ إِلَيْهِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ شَهْرًا لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ.

فَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْوَالِدَاتِ ذَوَاتِ الْحَنَانِ وَالشَّفَقَةِ عَلَى أَطْفَالِهِنَّ، وَهُنَّ مُؤْمِنَاتٌ بِرَبِّهِنَّ، أَنْ يَتْرُكْنَ إِرْضَاعَ أَوْلَادِهِنَّ دُونَ ضَرُورَةٍ أَوْ حَاجَةٍ شَدِيدَةٍ.

قَالَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} [القصص: 10].

وَأَصْبَحَ عُمْقُ قَلْبِ أُمِّ مُوسَى -بَعْدَ إِلْقَاءِ وَلِيدِهَا فِي تَابُوتِهِ فِي النِّيلِ- خَفِيفًا طَائِشًا غَيْرَ ذِي وَزْنٍ ثَقِيلٍ يُثَبِّتُهُ، وَبِخِفَّتِهِ وَطَيْشِهِ صَارَ مُؤَهَّلًا لِأَنْ يَتَأَثَّرَ بِآلَامِ نَفْسِهَا مِنْ أَجْلِ وَلَدِهَا.

 ((بِرُّ الْوَالِدَيْنِ وَتَقْدِيمُ حَقِّ الْأُمِّ))

عِبَادَ اللهِ! الْبِرُّ: اسْمٌ جَامِعٌ لِلْخَيْرِ وَكُلِّ فِعْلٍ مَرْضِيٍّ، عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبيِّ ﷺ، قَالَ: ((الْبِرُّ: حُسْنُ الْخُلُقِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) .

وَالْبِرُّ يُطْلَقُ بِاعْتِبَارَيْنِ مُعَيَّنَيْنِ:

*أَحَدُهُمَا: بِاعْتِبَارِ مُعَامَلَةِ الْخَلْقِ: وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ، وَرُبَّمَا خُصَّ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ، فَيُقَالُ: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ، وَيُطْلَقُ كَثِيرًا عَلَى الْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلْقِ عُمُومًا.

وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- يَقُولُ: «الْبِرُّ شَيْءٌ هَيِّنٌ: وَجْهٌ طَلِيقٌ، وَكَلَامٌ لَيِّنٌ».

وَإِذَا قُرِنَ الْبِرُّ بِالتَّقْوَى، كَمَا فِي قَوْلِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]؛ فَقَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْبِرِّ: مُعَامَلَةَ الْخَلْقِ بِالْإِحْسَانِ، وَبِالتَّقْوَى: مُعَامَلَةَ الْحَقِّ بِفِعْلِ طَاعَتِهِ، وَاجْتِنَابِ مَحَارِمِهِ.

وَقَدْ يَكُونُ أُرِيدَ بِالْبِرِّ: فِعْلُ الْوَاجِبَاتِ، وَبِالتَّقْوَى: اجْتِنَابُ الْمُحَرَّمَاتِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].

قَدْ يُرَادُ بِالْإِثْمِ: الْمَعَاصِي، وَبِالْعُدْوَانِ: ظُلْمُ الْخَلْقِ.

وَقَدْ يُرَادُ بِالْإِثْمِ: مَا هُوَ مُحَرَّمٌ فِي نَفْسِهِ؛ كَالزِّنَا، وَالسَّرِقَةِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَبِالْعُدْوَانِ: تَجَاوُزُ مَا أُذِنَ فِيهِ إِلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ مِمَّا جِنْسُهُ مَأْذُونٌ فِيهِ؛ كَقَتْلِ مَنْ أُبِيحَ قَتْلُهُ لِقِصَاصٍ، وَمَنْ لَا يُبَاحُ، وَأَخْذِ زِيَادَةٍ عَلَى الْوَاجِبِ مِنَ النَّاسِ فِي الزَّكَاةِ وَنَحْوِهَا، وَمُجَاوَزَةِ الْجَلْدِ فِي الَّذِي أُمِرَ بِهِ فِي الْحُدُودِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَالْمَعْنَى الثَّانِي مِنْ مَعْانِي الْبِرِّ: أَنْ يُرَادَ بِهِ فِعْلُ جَمِيعِ الطَّاعَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177].

فَالْبِرُّ بِهَذَا الْمَعْنَى يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ الطَّاعَاتِ الْبَاطِنَةِ؛ كَالْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالطَّاعَاتُ الظَّاهِرَةُ؛ كَإِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ فِيمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَالصَّبْرِ عَلَى الْأَقْدَارِ؛ كَالْمَرَضِ وَالْفَقْرِ، وَعَلَى الطَّاعَاتِ؛ كَالصَّبْرِ عِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ.

وَقَدْ يَكُونُ جَوَابُ النَّبِيِّ ﷺ فِي حَدِيثِ النَّوَّاسِ شَامِلًا لِهَذِهِ الْخِصَالِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ قَدْ يُرَادُ بِهِ التَّخَلُّقُ بِأَخْلَاقِ الشَّرِيعَةِ، وَالتَّأَدُّبُ بِآدَابِ اللَّهِ الَّتِي أَدَبَّ بِهَا عِبَادَهُ فِي كِتَابِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى لِرَسُولِهِ ﷺ: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].

وَقَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: «كَانَ خُلُقُهُ ﷺ الْقُرْآنَ»، يَعْنِي: أَنَّهُ يَتَأَدَّبُ بِآدَابِهِ، فَيَفْعَلُ أَوَامِرَهُ، وَيَتَجَنَّبُ نَوَاهِيَهُ، فَصَارَ الْعَمَلُ بِالْقُرْآنِ لَهُ خُلُقًا كَالْجِبِلَّةِ وَالطَّبِيعَةِ لَا يُفَارِقُهُ، وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَخْلَاقِ وَأَشْرَفُهَا وَأَجْمَلُهَا.

وَقَدْ قِيلَ: ((إِنَّ الدِّينَ كُلَّهُ خُلُقٌ)).

وَمِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ الْوَالِدَيْنِ هُمَا أَوْلَى النَّاسِ بِبِرِّ الْإِنْسَانِ؛ فَقَدْ أَمَرَنَا اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا، وَالْبِرِّ بِهِمَا، وَالتَّلَطُّفِ عَلَيْهِمَا، وَخَفْضِ الْجَنَاحِ لَهُمَا.

إِنَّ مِنَ الْوَاجِبَاتِ الْعَظِيمَةِ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ، غَيْرَ أَنَّ لِلْأُمِّ مِنَ الْبِرِّ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْبِرِّ، وَذَلِكَ لِمَا تَحَمَّلَتْهُ مِنَ الْمَشَاقِّ مِنْ بِدَايَةِ الْحَمْلِ إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ؛ مُدَّةَ حَيَاتِهَا فِي الْحَمْلِ وَالْوِلَادَةِ، وَفِي الرَّضَاعَةِ، وَفِي التَّرْبِيَةِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ لِلْعُقَلَاءِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَتَى رَجُلٌ نَبِيَّ اللهِ ﷺ فَقَالَ: مَا تَأْمُرُنِي؟

فَقَالَ: «بِرَّ أُمَّكَ».

ثُمَّ عَادَ فقَالَ: «بِرَّ أُمَّكَ».

ثُمَّ عَادَ فقَالَ «بِرَّ أُمَّكَ».

ثُمَّ عَادَ الرَّابِعَةَ فَقَالَ «بِرَّ أَبَاكَ». وَالْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ أَبَرُّ؟

قَالَ: «أُمَّكَ».

قُلْتُ: مَنْ أَبَرُّ؟

قَالَ: «أُمَّكَ».

قُلْتُ: مَنْ أَبَرُّ؟

قَالَ: «أُمَّكَ».

قُلْتُ: مَنْ أَبَرُّ؟

قَالَ: «أَبَاكَ، ثُمَّ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ». وَالْحَدِيثُ حَسَنٌ، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ -أَيْضًا- فِي ((الْمُسْنَدِ))، وَأَبُو دَاودَ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ.

وَ«الْبِرُّ»: هُوَ الْإِحْسَانُ، وَهِيَ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِكُلِّ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ: تَقْدِيمُ رِضَا الْأُمِّ عَلَى رِضَا الْأَبِ، والْأُمُّ تَفْضُلُ عَلَى الْأَبِ فِي الْبِرِّ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ؛ لِأَنَّهَا تَحْمِلُ تَعَبَ الْحَمْلِ، وَمَشَقَّةَ الْوَضْعِ، وَمِحْنَةَ الرَّضَاعِ، ثُمَّ تُشَارِكُ الْأَبَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي التَّرْبِيَةِ.

النَّبِيُّ ﷺ قَدْ كَرَّرَ ذِكْرَ الْأُمِّ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: مَنْ أَبَرُّ؟ قَالَ: «أَمَّكَ».

وَكَرَّرَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالَ «ثُمَّ أَبَاكَ، ثُمَّ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ»؛ أَيْ: مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ؛ فَحَقُّ الْوَالِدَةِ عَلَى الْوَالِدِ فِي الزِّيَادَةِ مَعْلُومٌ مِنْ سِيَاقِ الْحَدِيثِ.

وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّ ذَلِكَ لِأَنَّ مَا أَدَّتْهُ لَا يَكُونُ مَنْظُورًا؛ مِمَّا وَجَدَتْهُ مِنْ أَلَمِ الْحَمْلِ وَالْوَضْعِ، وَمَا كَانَ مِنَ التَّرْبِيَةِ وَالرِّعَايَةِ فِي الصِّغَرِ.

فَكُلُّ ذَلِكَ لَا يُدْرِكُهُ الْمَرْءُ إِذَا عَلَتْ بِهِ السِّنُونَ، وَإِنَّمَا يَرَى الرِّعَايَةَ مِنْ أَبِيهِ قَائِمًا، وَيَرَى الْإِنْفَاقَ عَلَيْهِ سَارِيًا، فَقَدْ يُفَرِّطُ فِي حَقِّ الْأُمِّ حِينَئِذٍ، فَدَلَّ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ بِهَذِهِ الصُّورَةِ.

وَشَيْءٌ آخَرُ: لِأَنَّهَا ضَعِيفَةٌ لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهَا، وَلَقَدْ يَكُفُّ الرَّجُلُ أَذَاهُ عَنْ أَبِيهِ خَوْفًا مِنْ قُوَّتِهِ وَتَوَقِّيًا لِبَطْشِهِ.

وَأَمَّا الْأُمُّ.. فَلِضَعْفِهَا، وَلِأُنُوثَتِهَا، وَلِرِقَّتِهَا؛ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَعْتَدِيَ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ مَا ضَابِطٍ مَا يَضْبِطُهُ، وَلَا كَافٍّ يَكُفُّهُ، فَنَبَّهَ الرَّسُولُ ﷺ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ بِهَذِهِ الصُّورَةِ.

وَشَيْءٌ آخَرُ؛ هُوَ: أَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَسْتَحْيِي مِنْ عُقُوقِ أَبِيهِ فِي مَحْضَرٍ مِنَ النَّاسِ؛ خَوْفَ الْمَلَامَةِ مِنْهُمْ، وَحَيَاءً مِنْ مُوَاقَعَةِ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي تَسْتَفْظِعُهُ النُّفُوسُ السَّوِيَّةُ، وَلَا تَقْبَلُهُ الْأَرْوَاحُ الْمُسْتَقِيمَةُ.

وَلَمَّا كَانَتِ الْأُمُّ فِي سِتْرٍ تَحُفُّهَا جُدْرَانُهَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يَعُقَّهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرَاهَا أَحَدٌ وَلَا أَنْ يَلُومَهُ، نَبَّهَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ بِهَذِهِ الصُّورَةِ.

وَشَيْءٌ آخَرُ؛ وَهُوَ: أَنَّ الْمَرْأَةَ لَمَّا كَانَتْ ضَعِيفَةً، وَكَانَتْ لِأُنُوثَتِهَا رَقِيقَةً، وَقَدْ تَكُونُ سَرِيعَةَ الْغَضَبِ، فَإِذَا مَا عَقَّهَا لَمْ تَتَمَاسَكْ، وَلَمْ تَتَجَلَّدْ، وَأَسْرَعَتْ فِي الدُّعَاءِ عَلَى ابْنِهَا الَّذِي عَقَّهَا أَوْ أَسَاءَ إِلَيْهَا.

فَرَاعَى النَّبِيُّ ﷺ هَذِهِ الطَّبِيعَةَ، وَأَمَرَ الْوَلَدَ بِأَنْ يُحْسِنَ صَحَابَتَهَا مَرَّةً وَمَرَّةً وَمَرَّةً؛ حَتَّى لَا يُلْجِئَهَا إِلَى الدُّعَاءِ عَلَيْهِ، فَتُصَادِفَ بِقَدَرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَقْتًا يَسْتَجِيبُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيهِ دُعَاءَ مَنْ دَعَاهُ، وَيَكُونُ قَدْ ظَلَمَهَا وَأَسَاءَ إِلَيْهَا، فَيُسْتَجَابُ لَهَا فِيهِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَنْفَعُهُ نَدَمٌ، وَلَا يَكُفُّ عَنْهُ مَا أَصَابَهُ شَيْءٌ مِنْ حَوْلٍ وَلَا حِيلَةٍ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَظِيمِ.

((لِينُ الْكَلَامِ وَحُسْنُهُ مَعَ الْوَالِدَيْنِ))

لَقَدْ أَمَرَنَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِأَنْ نَقُولَ لِلنَّاسِ حُسْنًا، وَأَوْلَى النَّاسِ بِذَلِكَ الْوَالِدَانِ، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: «قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}؛ أَيْ: كَلِّمُوهُمْ طَيِّبًا، وَلِينُوا لَهُمْ جَانِبًا، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ بِالْمَعْرُوفِ، كَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}.

فَالْحَسَنُ مِنَ الْقَوْلِ: يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيَحْلُمُ وَيَعْفُو وَيَصْفَحُ، وَيَقُولُ لِلنَّاسِ حُسْنًا كَمَا قَالَ اللهُ؛ وَهُوَ كُلُّ خُلُقٍ حَسَنٍ رَضِيَهُ اللهُ».

وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الْقَوْلَ الطَّيِّبَ الْحَسَنَ لَا يَذْهَبُ سُدًى، وَلَا يَضِيعُ بَدَدًا، بَلْ صَاحِبُهُ مَأْجُورٌ عَلَيْهِ مُثَابٌ عَلَى قَوْلِهِ؛ فَفِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: «وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ».

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! إِنَّ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ وَاجِبٌ عَلَى الِابْنِ، وَخُصُوصًا الْأُمَّ؛ لِمَا لَهَا مِنْ عَظِيمِ الْحُقُوقِ، وَلَا يُهْضَمُ حَقُّ الْوَالِدِ بِحَالٍ، وَأَنْ يَقُولَ لَهُمَا قَوْلًا لَيِّنًا، وَذَلِكَ مِنْ أَقْوَى أَسْبَابِ دُخُولِ الْجَنَّةِ؛ فَعَنْ طَيْسَلَةَ بْنِ مَيَّاسٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّجَدَاتِ، فَأَصَبْتُ ذُنُوبًا لَا أَرَاهَا إِلَّا مِنَ الْكَبَائِرِ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «مَا هِيَ»؟

قُلْتُ: كَذَا وَكَذَا.

قَالَ: «لَيْسَتْ هَذِهِ مِنَ الْكَبَائِرِ؛ هُنَّ تِسْعٌ: الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَقَتْلُ نَسَمَةٍ، وَالْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَةِ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ، وَإِلْحَادٌ فِي الْمَسْجِدِ، وَالَّذِي يَسْتَسْخِرُ، وَبُكَاءُ الْوَالِدَيْنِ مِنَ الْعُقُوقِ».

قَالَ لِي ابْنُ عُمَرَ: «أَتَفْرَقُ مِنَ النَّارِ، وَتُحِبُّ أَنْ تَدْخُلَ الْجَنَّةَ؟».

قُلْتُ: إِي وَاللَّهِ.

قَالَ: «أَحَيٌّ وَالِدَاكَ»؟

قُلْتُ: عِنْدِي أُمِّي.

قَالَ: «فَوَاللَّهِ لَوْ أَلَنْتَ لَهَا الْكَلَامَ، وَأَطْعَمْتَهَا الطَّعَامَ، لَتَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ مَا اجْتَنَبْتَ الْكَبَائِرَ». وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ فِي «التَّفْسِيرِ»، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، والْبَيْهَقِيُّ فِي «الشُّعَبِ»، وَقَدِ اسْتَوْفَى الْكَلَامَ عَنْهُ الشَّيْخُ الْأَلْبَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- كَمَا فِي «السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ».

«كُنْتُ مَعَ النَّجَدَاتِ»؛ النَّجَدَاتُ: أَصْحَابُ نَجْدَةَ بْنِ عَامِرٍ الْحَنَفِيِّ الْخَارِجِيِّ، هُمْ قَوْمٌ مِنَ الْحَرُورِيَّةِ، يُكَفِّرُونَ بِالْكَبِيرَةِ، وَيُخَلِّدُونَ بِهَا فِي النَّارِ، كَانَ مَعَهُمْ.

قَالَ: «فَأَصَبْتُ ذُنُوبًا لَا أَرَاهَا إِلَّا مِنَ الْكَبَائِرِ»: لَعَلَّ هَذِهِ الرُّؤْيَةَ دَعَا إِلَيْهَا أَنَّهُ صَحِبَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يَتَشَدَّدُونَ فِي دِينِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَأَتَى بِأُمُورٍ لَمَّا ذَكَرَهَا لِابْنِ عُمَرَ قَالَ: مَا هِيَ مِنَ الْكَبَائِرِ! وَلَكِنَّهُ كَانَ يَرَاهَا مِنَ الْكَبَائِرِ.

وَ«الْكَبَائِرُ»: هِيَ الذُّنُوبُ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا حَدٌّ أَوْ وَعِيدٌ شَدِيدٌ.

قَالَ: «الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ»؛ أَنْ يَعْبُدَ مَعَ اللهِ -تَعَالَى- غَيْرَهُ، أَوْ يَتَّخِذَ مَعْبُودًا سِوَاهُ، وَهُوَ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ.

«وَقَتْلُ نَسَمَةٍ»؛ النَّسَمَةُ: النَّفْسُ وَالرُّوحُ.

«وَالْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ»: الْفِرَارُ مِنَ الْجَيْشِ يَزْحَفُونَ إِلَى الْعَدُوِّ، يَزْحَفُونَ: يَعْنِي يَمْشُونَ، وَالْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ: يَعْنِي القِتَالَ في سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى.

«وَقَذْفُ الْمُحْصَنَةِ»: اتِّهَامُ الْعَفِيفَةِ بِالزِّنَا.

«وَإِلْحَادٌ فِي الْمَسْجِدِ»: التَّجَاوُزُ عَنْ حُدُودِ اللهِ، وَاخْتِيَارُ سَبِيلِ الشِّرْكِ وَالْبِدْعَةِ فِيهِ.

«وَالَّذِي يَسْتَسْخِرُ»؛ الِاسْتِسْخَارُ: مِنَ السُّخْرِيَةِ؛ وَهُوَ الِاسْتِهْزَاءُ مِنْ إِنْسَانٍ، وَالضَّحِكُ عَلَيْهِ، وَإِضْحَاكُ النَّاسِ مِنْهُ، وَالَّذِي يَسْتَسْخِرُ أَيْ يَسْتَدْعِي السُّخْرِيَةَ تُنَزَّلُ عَلَى عِبَادِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

قَوْلُهُ: «أَتَفْرَقُ»؛ الْفَرَقُ: الْخَوْفُ وَالْفَزَعُ؛ أَتَخَافُ مِنَ النَّارِ وَتَفْزَعُ مِنْهَا وَتُحِبُّ أَنْ تَدْخُلَ الْجَنَّةَ؟

قُلْتُ: إِي وَاللَّهِ.

قَالَ: «أَحَيٌّ وَالِدَاكَ»؟

قُلْتُ: عِنْدِي أُمِّي.

«فَوَاللَّهِ لَوْ أَلَنْتَ لَهَا الْكَلَامَ»؛ أَلَنْتَ: أَيْ خَفَضْتَ صَوْتَكَ، وَكَلَّمْتَهَا بِاللُّطْفِ وَعُذُوبَةِ اللِّسَانِ، «وَأَطْعَمْتَهَا الطَّعَامَ»؛ أَيْ: هَيَّأْتَ لَهَا الطَّعَامَ، وَأَدْخَلْتَ إِلَيْهَا الطَّعَامَ، وَمَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْمَأْكَلِ وَالْمَلْبَسِ وَالدَّرَاهِمِ وَغَيْرِهَا مَمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي مَعِيشَتِهَا عَلَى قَدْرِ وُسْعِكَ.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ: بَيَانُ عِظَمِ عُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ، وَأَنَّهُ مِنَ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ، وَإِذَا بَكَيَا مِنْ شِدَّةِ الْعُقُوقِ فَهُوَ أَشَدُّ وَأَنْكَى!

 ((أَوْلَى النَّاسِ بِالرَّحْمَةِ الْأَبَوَانِ))

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّهُ مَنْ لَا يَرْحَمْ لَا يُرْحَمْ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

إِنَّ مِنْ جُمْلَةِ الْآدَابِ الَّتِي يَتَحَلَّى بِهَا الْمُسْلِمُ أَدَبَ التَّوَاضُعِ وَلِينِ الْجَانِبِ وَالرِّفْقِ وَالرَّحْمَةِ.

وَهَذَا مَنْهَجُ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ؛ أَيْ أَنَّهُمْ أَهْلُ رِفْقٍ وَرَحْمَةٍ وَشَفَقَةٍ وَتَرْبِيَةٍ وَمَحَبَّةٍ لِمُسْتَحِقِّيهَا، لَا سِيَّمَا الضَّعِيفُ كَالصِّغَارِ وَنَحْوِهِمْ.

مَنْ لَا يَرْحَمِ النَّاسَ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ لَا يُثَبْ بِالرَّحْمَةِ مِنْ قِبَلِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

إِنَّ مِنْ فَضَائِلِ الْإِسْلَامِ وَمَحَاسِنِهِ: الرَّحْمَةَ فِي قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ.

وَكُلَّمَا كَانَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنَ الْعِلْمِ يَعْمَلُ بِهِ، فَالْخَيْرُ عِنْدَهُ أَكْثَرُ.

فَمِنْ جُمْلَةِ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ وَفَضَائِلِهِ: وُجُودُ الرَّحْمَةِ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ.

وَأَوْلَى النَّاسِ بِالرَّحْمَةِ: الضَّعِيفُ، وَالصِّبْيَانُ مِنَ الضُّعَفَاءِ، وَمَنْ أَلْصَقُ النَّاسِ بِالْآخَرِينَ، كَآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ؛ حَتَّى يَحْصُلَ التَّمَاسُكُ فِي الْأُسْرَةِ وَالْمَحَبَّةُ وَالِاحْتِرَامُ وَالْبِرُّ، بِسَبَبِ مَا يُقَدِّمُهُ الْأَبَوَانِ لِأَبْنَائِهِمْ ذُكُورًا وَإِنَاثًا.

 ((مِنْ ثَمَرَاتِ بِرِّ الْأُمِّ:

مَغْفِرَةُ الذُّنُوبِ وَالْفَوْزُ بِالْجَنَّةِ))

عِبَادَ اللهِ لِلْبِرِّ ثَمَرَاتٌ يَجْنِيهَا الْبَارُّ فِي دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ؛ مِنْهَا:

*مَغْفِرَةُ الذُّنُوبِ، وَالْفَوْزُ بِالْجَنَّةِ؛ فَعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ أَتَاهُ رَجَلٌ فَقَالَ: إِنِّي خَطَبْتُ امْرَأَةً فَأَبَتْ أَنْ تَنْكِحَنِي، وَخَطَبَهَا غَيْرِي فَأَحَبَّتْ أَنْ تَنْكِحَهُ، فَغِرْتُ عَلَيْهَا فَقَتَلْتُهَا، فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟

قَالَ: «أُمُّكَ حَيَّةٌ»؟

قَالَ: لَا.

قَالَ: «تُبْ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَتَقَرَّبْ إِلَيْهِ مَا اسْتَطَعْتَ».

قَالَ: فَذَهَبْتُ، فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ: لِمَ سَأَلْتَهُ عَنْ حَيَاةِ أُمِّهِ؟

فَقَالَ: «إِنِّي لَا أَعْلَمُ عَمَلًا أَقْرَبَ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنْ بِرِّ الْوَالِدَةِ».

هَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي «شُعَبِ الْإِيمَانِ»، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، صَحَّحَهُ الشَّيْخُ الْأَلْبَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- كَمَا فِي «صَحِيحِ الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ»، وَكَمَا فِي «السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ».

قَالَ: «إِنِّي خَطَبْتُ امْرَأَةً»؛ أَيْ: دَعَوْتُهَا إِلَى الزَّوَاجِ.

«فَأَبَتْ أَنْ تَنْكِحَنِي»؛ أَيْ: لَمْ تَقْبَلِ الْخِطْبَةَ وَأَنْكَرَتْ.

«وَخَطَبَهَا غَيْرِي فَأَحَبَّتْ أَنْ تَنْكِحَهُ، فَغِرْتُ»؛ أَيْ: كَرِهْتُ مُشَارَكَةَ الْغَيْرِ فِيمَنْ أَحْبَبْتُهَا، وَالْغَيْرَةُ هِيَ الْأَنَفَةُ وَالْمَحَبَّةُ، وَفِيهِ بَيَانُ خُطُورَةِ الْغَيْرَةِ؛ فَقَدْ أَدَّتْ إِلَى الْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ.

«فَغِرْتُ عَلَيْهَا فَقَتَلْتُهَا، فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟»: خَطَبَ امْرَأَةً فَلَمْ تَقْبَلْهُ، ثُمَّ خَطَبَهَا غَيْرُهُ فَقَبِلَتْهُ، فَغَارَ عَلَيْهَا فَقَتَلَهَا، «فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ»: فِيهِ عَدَمُ الْيَأْسِ مِنَ التَّوْبَةِ مَهْمَا كَانَ الذَّنْبُ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِلرَّجُلِ الْقَاتِلِ: «أُمُّكَ حَيَّةٌ؟».

فَأَجَابَ: لَا، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: «تُبْ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَتَقَرَّبْ إِلَيْهِ مَا اسْتَطَعْتَ».

«قَالَ: أُمُّكَ حَيَّةٌ»: بِحَذْفِ أَدَاةِ الِاسْتِفْهَامِ؛ أَيْ: هَلْ أُمُّكَ حَيَّةٌ حَتَّى تَتَقَرَّبَ إِلَى اللهِ بِبِرِّهَا؟ أَوْ: أَأُمُّكَ حَيَّةٌ؟

«فَذَهَبْتُ»: الذَّاهِبُ هُنَا عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ الرَّاوِي لِهَذَا الْأَثَرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-.

«فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ: لِمَ سَأَلْتَهُ عَنْ حَيَاةِ أُمِّهِ؟»؛ أَيْ: لِمَ سَأَلْتَ الرَّجُلَ الْقَاتِلَ عَنْ حَيَاةِ أُمِّهِ؟

وَهَذِهِ شِدَّةُ انْتِبَاهٍ مِنْ عَطَاءٍ لِسُؤَالِ السَّائِلِ، فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ: لِمَ سَأَلْتَهُ عَنْ حَيَاةِ أُمِّهِ؟

فَقَالَ: «إِنِّي لَا أَعْلَمُ عَمَلًا أَقْرَبَ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنْ بِرِّ الْوَالِدَةِ».

إِنَّ بِرَّ الْأُمِّ يُقَرِّبُ الْإِنْسَانَ الْعَاصِيَ إِلَى اللهِ -تَعَالَى- أَكْثَرَ مِنَ الطَّاعَاتِ الْأُخْرَى، حَتَّى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: «إِنِّي لَا أَعْلَمُ عَمَلًا أَقْرَبَ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنْ بِرِّ الْوَالِدَةِ»، فَنَصَحَ الْقَاتِلَ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي بِرِّ أُمِّهِ؛ لِكَيْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُ مَا أَسْلَفَ مِنْ جَرِيمَةِ الْقَتْلِ.

عِبَادَ اللهِ! هَذَا الْحَدِيثُ الْعَظِيمُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بَابَ التَّوْبَةِ مَفْتُوحٌ لِلْمُذْنِبِ إِذَا وَقَعَ فِي ذَنْبٍ مِنَ الذُّنُوبِ وَهُوَ عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ وَرَغِبَ فِي التَّوْبَةِ؛ فَإِنَّ اللهَ يَقْبَلُ تَوْبَتَهُ إِذَا تَوَفَّرَتْ شُرُوطُهَا الَّتِي هِيَ: تَرْكُ الذَّنْبِ، وَالْعَزْمُ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ إِلَيْهِ، وَالنَّدَمُ عَلَى فِعْلِهِ، فَإِنَّ تَوْبَتَهُ تُقْبَلُ مَهْمَا كَانَ جُرْمُهُ.

فَأَعْظَمُ الذُّنُوبِ عَلَى الْإِطْلَاقِ: الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ فَإِذَا وَقَعَ الْمُسْلِمُ فِي الشِّرْكِ أَوِ ارْتَدَّ عَنْ إِسْلَامِهِ وَأَرَادَ أَنْ يَتُوبَ، فَإِنَّهُ يُرْشَدُ إِلَى التَّوْبَةِ، وَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ، وَلَا يُحْجَبُ عَنِ التَّوْبَةِ مُذْنِبٌ صَادِقٌ فِي تَوْبَتِهِ.

رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ)) بِسَنَدِهِ عَنْ أُمِّنَا أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، قَالَ: ((أُرِيتُ فِي الْمَنَامِ فِي الرُّؤْيَا أَنِّي كُنْتُ فِي الْجَنَّةِ، فَسَمِعْتُ رَجُلًا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟)).

قَالُوا: هُوَ حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ.

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِعَائِشَةَ: ((كَذَاكَ الْبِرُّ، كَذَاكَ الْبِرُّ)).

وَكَانَ بَارًّا بِأُمِّهِ، فَأُرِيَهُ النَّبِيُّ ﷺ وَسَمِعَ تِلَاوَتَهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، لَمَّا قَبَضَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أُرِيَهُ النَّبِيُّ ﷺ فِي الرُّؤْيَا، وَسَمِعَ تِلَاوَتَهُ فِي الْجَنَّةِ لِبِرِّهِ بِأُمِّهِ، وَكَانَ أَبَرَّ النَّاسِ بِأُمِّهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

 ((مِنْ ثَمَرَاتِ بِرِّ الْأُمِّ:

قَضَاءُ الْحَاجَاتِ وَتَفْرِيجُ الْكُرُبَاتِ وَاسْتِجَابَةُ الدَّعَوَاتِ))

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ ثَمَرَاتِ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ: قَضَاءُ الْحَاجَاتِ، وَتَفْرِيجُ الْكُرُبَاتِ، وَاسْتِجَابَةُ الدَّعَوَاتِ؛ يَقُولُ الرَّسُولُ ﷺ: ((انْطَلَقَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَتَّى أَوَوُا المَبِيتَ إِلَى غَارٍ، فَدَخَلُوهُ فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الجَبَلِ، فَسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الغَارَ -وَالْغَارُ: كُوَّةٌ فِي الْجَبَلِ لَا يُمْكِنُ لِلْإِنْسَانِ إِذَا مَا سُدَّتْ عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا، بَلْ إِنَّهُ يَكُونُ مُعَرَّضًا -لِعَدَمِ التَّهْوِيَةِ، لَا لِجَوْدَتِهَا؛ أَنْ يَمُوتَ اخْتِنَاقًا، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَمُوتَ عَطَشًا وَجُوعًا-.

يَقُولُ الرَّسُولُ ﷺ: ((فَقَالُوا: -فِيمَا يَرْوِيهِ لَنَا رَسُولُنَا ﷺ- إِنَّهُ لَا يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلَّا أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: اللَّهُمَّ كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، وَكُنْتُ لَا أَغْبِقُ قَبْلَهُمَا أَهْلًا، وَلَا مَالًا..)).

أَمَّا الْغَبُوقُ: فَهُوَ سَقْيُ الْعَشِيِّ، يَعْنِي كَانَ يَرُوحُ إِلَى أَبِيهِ وَإِلَى أُمِّهِ بِغَنَمِهِ أَوْ بِإِبِلِهِ أَوْ بِبَقَرِهِ، فَيَحْلِبُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ لَا يَسْقِي أَحَدًا مِنْ أَهْلِهِ؛ لَا زَوْجَةً وَلَا وَلَدًا، وَلَا مَالًا -يَعْنِي: وَلَا رَقِيقًا- حَتَّى يَسْقِيَ أَبَوَيْهِ الشَّيْخَيْنِ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ: كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ؛ يَعْنِي بَلَغَ بِهِمَا كِبَرُ السِّنِّ مَبَالِغَهُ.

قَالَ: ((فَلَمْ أُرِحْ عَلَيْهِمَا حَتَّى نَامَا، فَحَلَبْتُ لَهُمَا غَبُوقَهُمَا، فَوَجَدْتُهُمَا نَائِمَيْنِ وَكَرِهْتُ أَنْ أَغْبِقَ قَبْلَهُمَا أَهْلًا أَوْ مَالًا، فَلَبِثْتُ وَالقَدَحُ عَلَى يَدَيَّ..)).

وَقَعَ الرَّجُلُ لِجَوْدَةِ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُرَاقَبَةِ، وَلِعِظَمِ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِخْلَاصِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَمِنَ النَّظَرِ الصَّحِيحِ بِالْفِكْرِ الْمُسْتَقِيمِ.. وَقَعَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ مُحَيِّرَيْنِ جِدًّا، إِمَّا أَنْ يَنْصَرِفَ عَنْ أَبَوَيْهِ، فَيُخَالِفَ الْمَأْلُوفَ مِنْ عَادَتِهِ، وَرُبَّمَا انْتَبَهَا وَهُمَا شَيْخَانِ كَبِيرَانِ!

وَضَعْ نَفْسَكَ مَكَانَهُ، وَهُمَا شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، يُؤَرَّقَانِ كَثِيرًا كَحَالِ كِبَارِ السِّنِّ فِي لَيْلِهِمَا الَّذِي يَطُولُ أَحْيَانًا كَأَنَّمَا شُدَّتْ نُجُومُهُ بِأَمْرَاسِ كَتَّانٍ إِلَى صُمِّ جَنْدَلِ!!

أَمَّا الْوَاحِدُ مِنْهُمْ فَقَدْ يَأْرَقُ فِي لَيْلِهِ فَلَا يَجِدُ ابْنَهُ قَدْ أَتَى بِالْغَبُوقِ، فَيَظُنُّ بِهِ الظُّنُونَ، أَوْ رُبَّمَا وَجَدَ فِي نَفْسِهِ شَيْئًا مِنَ الْإِشْفَاقِ عَلَيْهِ أَنَّهُ خَالَفَ عَادَتَهُ لِمَكْرُوهٍ أَصَابَهُ، وَالرَّجُلُ لَا يُرِيدُ أَنْ يُرَوِّعَهُمَا.

ثُمَّ -أَيْضًا- إِنَّ وَرَاءَ هَذَا الرَّجُلِ أَهْلًا وَوُلْدًا مِنَ الصِّغَارِ الَّذِينَ قَالَ عَنْهُمْ بَعْدَ حِينٍ: وَالصِّغَارُ يَتَضَاغَوْنَ -يَعْنِي يَبْكُونَ مِنْ شِدَّةِ الْجُوعِ بَيْنَ رِجْلَيْهِ-.

قَالَ: ((فَلَبِثْتُ وَالقَدَحُ عَلَى يَدَيَّ، أَنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُمَا حَتَّى بَرَقَ الفَجْرُ، فَاسْتَيْقَظَا، فَشَرِبَا غَبُوقَهُمَا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ، فَانْفَرَجَتْ شَيْئًا لَا يَسْتَطِيعُونَ الخُرُوجَ))، كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ .

انْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ شَيْئًا لَا يَسَعُ لَهُمْ مَخْرَجًا مِنَ الْغَارِ الَّذِي كَانُوا فِيهِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ فَرَجًا عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَتَى بِمَنْقَبَةٍ عَظِيمَةٍ، وَبِحَسَنَةٍ جَلِيلَةٍ، فَفُرِّجَ عَنْهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ بِمِقْدَارِ الثُّلُثِ، حَتَّى فَكَّ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَسْرَهُمْ، وَأَطْلَقَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَيْدَهُمْ.

الْآنَ قِسْ نَفْسَكَ عَلَى حَالِ هَذَا الرَّجُلِ، هَذَا رَجُلٌ يَأْتِي إِلَى أَبَوَيْهِ بِاللَّبَنِ عَشِيًّا، فَيَجِدُهُمَا نَائِمَيْنِ، وَمَا عَلَيْهِ -حِينَئِذٍ- أَنْ يَقِفَ بَيْنَ يَدَيْهِمَا، وَأَنْ يَأْتِيَ الصِّغَارَ مِنْ وُلْدِهِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَتَفَطَّرُ الْكَبِدُ شَفَقَةً عَلَيْهِمْ، وَيَنْصَدِعُ الْفُؤَادُ رَحْمَةً بِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَضَاغَوْنَ -كَمَا قَالَ- عِنْدَ رِجْلَيْهِ مِنْ شِدَّةِ الْجُوعِ!!

وَأَمَّا هُوَ فَوَاقِفٌ بَيْنَ يَدَيْ أَبَوَيْهِ النَّائِمَيْنِ، يَحْمِلُ اللَّبَنَ عَلَى يَدَيْهِ، وَإِنَّ الْيَدَ لَتَكِلُّ -تَصَوُّرًا- أَنْ تَحْمِلَ مِثْلَ ذَلِكَ مِنَ الْعِشَاءِ إِلَى الْفَجْرِ، حَتَّى بَرَقَ الْفَجْرُ كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ، فَقَدَّمَ اللَّبَنَ إِلَيْهِمَا لَمَّا اسْتَيْقَظَا، وَلَمْ يُقَدِّمْ عَلَيْهِمَا مَالًا وَلَا وَلَدًا.

وَالْآنَ قِسْ حَالَكَ عَلَى حَالِ هَذَا الرَّجُلِ الطَّائِعِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَحَالَ الْكَرْبِ عِنْدَكَ -عَافَاكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَإِيَّايَ وَالْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ- وَحَالَ الْكَرْبِ عِنْدَهُ عِنْدَمَا تَقَعُ فِي أَمْرٍ تَكْرَهُهُ، ثُمَّ تَتَوَسَّلُ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَعِنْدَكَ مِثْلُ هَذَا الْبِرِّ الَّذِي تَوَسَّلَ بِهِ هَذَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَمْ عِنْدَكَ تَقْدِيمُ الزَّوْجَةِ عَلَى الْأُمِّ، بَلْ تَقْدِيمُ مَا هُوَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ مِنَ الصَّاحِبِ وَالرَّفِيقِ عَلَى الْأَبِ وَالْأُمِّ جَمِيعًا؟!!

وَالنَّبِيُّ ﷺ يُوصِي عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الْفَارُوقَ وَيُوصِي الصَّحَابَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- إِذَا مَا جَاءَتْكُمْ أَمْدَادُ أَهْلِ الْيَمَنِ فَسَوْفَ يَأْتِيكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ الْقَرَنِيُّ، مِنْ (مُرَادٍ) ثُمَّ مِنْ (قَرَنٍ)، كَانَ بِهِ بَرَصٌ، وَهُوَ مُعْجِزَةٌ فِي شِفَائِهِ لِنَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللهِ الْمُكَرَّمِينَ، لِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ (سلم)، وَلِذَلِكَ فَلَمْ يُبْرَأْ بِحَالٍ أَبَدًا بِوَسِيلَةٍ مِنْ وَسَائِلِ النَّاسِ؛ لِأَنَّهُ مُعْجِزَةٌ رَبَّانِيَّةٌ إِلَهِيَّةٌ جَعَلَهَا قَائِمَةً إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

كَانَ بِهِ بَرَصٌ، فَدَعَا رَبَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَنْ يَرْفَعَهُ عَنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ.

طَلَبَ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ يُبْقِيَ فِي جِلْدِهِ مِنْ أَثَرِ هَذَا الْبَرَصِ مَوْضِعَ دِرْهَمٍ حَتَّى يَتَأَمَّلَ فِيهِ وَحَتَّى لَا يَنْسَاهُ؛ لِيَعْلَمَ مُجَدَّدًا نِعْمَةَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِ.

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((كَانَ بِهِ بَرَصٌ، فَدَعَا اللهَ، فَبَرِئَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ)).

النَّبِيُّ الْمُخْتَارُ ﷺ يَأْتِي بِهَذِهِ؛ لِأَنَّهَا مُهِمة، يَقُولُ: ((لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ)).

فَلَمَّا جَاءَ أُوَيْسٌ وَلَقِيَهُ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: ((أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ؟

قَالَ: نَعَمْ.

مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ؟

قَالَ: نَعَمْ.

كَانَ بِكَ بَرَصٌ فَبَرِئْتَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ؟

قَالَ: نَعَمْ.

لَكَ وَالِدَةٌ؟

قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ: اسْتَغْفِرِ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لِي.

يَسْتَغْفِرُ لِعُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-!!

وَمِنْ حَيْثِيَّاتِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ رَجُلُ صِدْقٍ أَنَّهُ بَارٌّ بِأُمِّهِ.

((التَّرْهِيبُ مِنَ الْعُقُوقِ))

أَيُّهُا الْمُسْلِمُونَ! فَلْنَكُنْ بَارِّينَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا، أَوْفِيَاءَ لَهُمْ، وَلْنُوقِنْ بِأَنَّ الْبِرَّ دَيْنٌ وَالْعُقُوقَ كَذَلِكَ.

عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ»؟ ثَلَاثًا.

قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ.

قَالَ: «الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ -وَجَلَسَ، وَكَانَ مُتَّكِئًا- أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ».

مَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْتُ: لَيْتَهُ سَكَتَ. هَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِمَا».

«الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ»: أَنْ يَتَّخِذَ مَعَ اللهِ -تَعَالَى- مَعْبُودًا يُقَدِّمُ لَهُ شَيْئًا مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ.

«الزُّورُ»: الْكَذِبُ، وَالْبَاطِلُ، وَالتُّهْمَةُ.

وَشَهَادَةُ الزُّورِ مِنْ أَشْنَعِ الْكَذِبِ؛ لِمَا فِيهَا مِنَ الظُّلْمِ.

الْكَبَائِرُ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ ضَابِطَ الْكَبِيرَةِ؛ فَقَالُوا: هِيَ الذَّنْبُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حَدٌّ فِي الدُّنْيَا وَعُقُوبَةٌ فِي الْآخِرَةِ، أَوِ الذَّنْبُ الَّذِي يُخْتَمُ بِلَعْنَةٍ أَوْ غَضَبٍ؛ فَعَلَى هَذَا.. الْكَبَائِرُ لَيْسَتْ مَحْصُورَةً فِي السَّبْعِ الْمُوبِقَاتِ أَوِ التِّسْعِ الْمُوبِقَاتِ.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ: التَّرْهِيبُ الشَّدِيدُ مِنْ عُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ وَقَوْلِ الزُّورِ، وَبَيَانُ أَنَّ عُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ مِنْ كَبَائِرِ الْإِثْمِ.

وَالْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ مَلْعُونٌ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ فَعَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، قَالَ: سُئِلَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: هَلْ خَصَّكُمُ النَّبِيُّ ﷺ بِشَيْءٍ لَمْ يَخُصَّ بِهِ النَّاسَ كَافَّةً؟

قَالَ: «مَا خَصَّنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ بِشَيْءٍ لَمْ يَخُصَّ بِهِ النَّاسَ، إِلَّا مَا فِي قِرَابِ سَيْفِي».

ثُمَّ أَخْرَجَ صَحِيفَةً، فَإِذَا فِيهَا مَكْتُوبٌ: «لَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ سَرَقَ مَنَارَ الْأَرْضِ، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا». الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ».

وَاللَّعْنُ -عِبَادَ اللهِ-: الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ عَلَى سَبِيلِ السُّخْطِ.

وَاللَّعْنُ مِنَ اللهِ: الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ.

وَاللَّعْنُ مِنَ النَّاسِ: السَّبُّ وَالدُّعَاءُ.

«هَلْ خَصَّكُمُ النَّبِيُّ ﷺ بِشَيْءٍ»؛ أَيْ: مِنْ آيَةٍ أَوْ سُنَّةٍ.

«إِلَّا مَا فِي قِرَابِ سَيْفِي»؛ الْقِرَابُ: وِعَاءٌ مِنَ الْجِلْدِ يُدْخَلُ فِيهِ السَّيْفُ.

«ثُمَّ أَخْرَجَ صَحِيفَةً»؛ أَيْ: كِتَابًا.

«لَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ»؛ الذَّبْحُ لِغَيْرِ اللهِ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ- مِنَ الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ.

كَمَنْ يَذْبَحُ لِأَصْحَابِ الْأضْرِحَةِ، يَرْجُو جَلْبَ مَصْلَحَةٍ أَوْ دَفْعَ ضُرٍّ، فَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا قَبْلَ ذَلِكَ خَرَجَ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَصَارَ مُرْتَدًّا عَنِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعَمَلَ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِجَهْلِهَا، وَهِيَ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

فَالذَّبْحُ عِبَادَةٌ يَجِبُ صَرْفُهَا لِلَّهِ وَحْدَهُ، فَإِذَا صُرِفَتْ لِغَيْرِ اللهِ -سَوَاءٌ لِحَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ- رَجَاءَ جَلْبِ الْمَصْلَحَةِ وَدَفْعِ الضُّرِّ أَوْ تَبَرُّكًا وَقَعَ الشِّرْكُ الْأَكْبَرُ، وَحِينَئِذٍ تُعْرَضُ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ لِيَتُوبَ، فَإِنْ لَمْ يَتُبْ ضُرِبَتْ عُنُقُهُ كَافِرًا مُرْتَدًّا، وَهَذَا هُوَ الذَّنْبُ الْأَوَّلُ مِنَ الْمُوبِقَاتِ.

«لَعَنَ اللَّهُ مَنْ سَرَقَ مَنَارَ الْأَرْضِ»: «سَرَقَ»؛ أَيْ: غَيَّرَ، وَكَذَلِكَ هِيَ بِالتَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ، «مَنَارَ»: جَمْعُ «مَنَارَةٍ»؛ وَهِيَ: عَلَامَةُ الْأَرْضِ الَّتِي تَتَمَيَّزُ بِهَا حُدُودُهَا.

«لَعَنَ اللَّهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ» لَعْنًا صَرِيحًا أَوْ لَعْنًا غَيْرَ مُبَاشِرٍ، سَوَاءٌ لَعَنَهُمَا هُوَ بِلِسَانِهِ أَوْ كَانَ سَبَبًا فِي لَعْنِهِمَا مِنْ غَيْرِهِ.

«لَعَنَ اللَّهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا»؛ أَيْ: جَانِيًا أَوْ مُبْتَدِعًا، فَالْمُحْدِثُ: مَنْ يَأْتِي بِفَسَادٍ فِي الْأَرْضِ.

إِنَّ مِنْ عُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ تَعْرِيضَهُمَا لِلسَّبِّ وَالْإِهَانَةِ مِنَ الْغَيْرِ؛ فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مِنَ الْكَبَائِرِ أَنْ يَشْتُمَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ».

فَقَالُوا: كَيْفَ يَشْتُمُ؟

قَالَ: «يَشْتُمُ الرَّجُلَ، فَيَشْتُمُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ». وَالْحَدِيثُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ».

قَالُوا: «كَيْفَ يَشْتُمُ»؟ الطَّبْعُ السَّلِيمُ يُنْكِرُ أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُ، فَاسْتَبْعَدَ السَّائِلُ ذَلِكَ لِنَقَاءِ فِطْرَتِهِ، وَاسْتَبْعَدَ الْأَصْحَابُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ يَشْتُمُ أَبَاهُ أَوْ أُمَّهُ، فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ التَّسَبُّبَ فِي الشَّتْمِ كَالتَّعَاطِي بِنَفْسِهِ إِذَا كَانَ سَبَبًا لِشَتْمِهِمَا، فَكَأَنَّهُ شَتَمَهُمَا.

قَالَ: «يَشْتُمُ الرَّجُلَ»: «الرَّجُلَ» مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، فَيَشْتُمُ ذَلِكَ الْمَسْبُوبُ أَبَا السَّابِّ وَأُمَّهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا: «يَشْتُمُ الرَّجُلُ» أَحَدًا، وَ:«يَشْتُمُ الرَّجُلَ، فَيَشْتُمُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ».

لَا شَكَّ أَنَّ شَتْمَ الرَّجُلِ لِوَالِدَيْهِ بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ الْقَبِيحِ كَبِيرَةٌ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ.

وَلَمَّا كَانَ مِنَ النَّادِرِ أَنْ يُوَاجِهَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ بِالشَّتْمِ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ نَوْعًا آخَرَ يَقَعُ فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَهُوَ شَتْمُ النَّاسِ؛ أَيْ: شَتْمُ آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، فَيَرُدُّونَ عَلَى الشَّتْمِ بِمِثْلِهِ.

فَمَنْ شَتَمَ أَبَا الرَّجُلِ أَوْ أُمَّهُ بِاللَّعْنِ أَوِ الْكَلَامِ الْقَبِيحِ، وَرَدَّ عَلَيْهِ الْآخَرُ بِمِثْلِ مَا قَالَ؛ فَالْبَادِئُ شَتَمَ وَالِدَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الشَّتْمُ حَصَلَ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَكِنَّهُ هُوَ السَّبَبُ، لِذَا وَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُرَاقِبَ لِسَانَهُ، وَأَنْ يَحْفَظَهُ مِنَ السَّبِّ وَالشَّتْمِ لِلْآخَرِينَ؛ فَيُقَابِلُوهُ بِمِثْلِ مَا قَالَ، فَيَتَعَدَّى إِلَى الْوَالِدَيْنِ وَإِلَى الْأُسْرَةِ وَإِلَى الْقَبِيلَةِ وَمَا شَاكَلَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ وَاقِعٌ فِي الْمُجْتَمَعَاتِ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ: تَحْرِيمُ شَتْمِ الْوَالِدَيْنِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْعُقُوقِ، فَمِنَ الْعُقُوقِ سَبُّهُمَا مُبَاشَرَةً، أَوْ تَعْرِيضُهُمَا لِلسَّبِّ وَلِلْإِهَانَةِ مِنْ قِبَلِ الْآخَرِينَ لَهُمَا، فَتَعْرِيضُ الْأَبَوَيْنِ لِلسَّبِّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ.

لَقَدْ قَطَعَ الْإِسْلَامُ طَرِيقَ الْعُقُوقِ عَلَى كُلِّ مَنْ تُسَوِّلُ لَهُ نَفْسُهُ ذَلِكَ؛ فَقَدْ قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان: 15].

وَإِنِ اشْتَدَّا عَلَيْكَ بِالطَّلَبِ -أَيُّهَا الِابْنُ الْمُؤْمِنُ- مُكْرِهَيْنِ لَكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي شِرْكًا مَا، لَا تَعْلَمُ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ؛ فَلَا تَسْتَجِبْ لَهُمَا فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ.

وَوَافِقْهُمَا فِي أُمُورِ الدُّنْيَا مُصَاحَبَةً حَسَنَةً، وَقَدِّمْ لَهُمَا مَعْرُوفًا؛ كَمَالٍ، وَتَكْرِيمٍ، وَخِدْمَةٍ.

وَاتَّبِعْ فِي مَسِيرَتِكَ فِي حَيَاتِكَ سَبِيلَ الْمُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ رَجَعُوا إِلَيَّ بِالْإِيمَانِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَالتَّوْبَةِ مِنَ الذُّنُوبِ، ثُمَّ إِلَيَّ بَعْدَ رِحْلَةِ الِامْتِحَانِ فِي الدُّنْيَا، وَبَعْدَ مَوْتِكُمْ- إِلَيَّ رُجُوعُكُمْ، وَمَكَانُ رُجُوعِكُمْ، وَزَمَانُهُ، فَأُخْبِرُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَهُ فِي الدُّنْيَا مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ؛ لِأُجَازِيَكُمْ عَلَيْهِ.

لَقَدْ جَاءَ الْأَمْرُ بِالصُّحْبَةِ بِالْمَعْرُوفِ مَعَ الْكُفْرِ.

وَالْأَبَوَانِ إِذَا لَمْ يَكُونَا كَافِرَيْنِ -فَكُلُّ ذَنْبٍ دُونَ الْكُفْرِ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَكُلُّ ذَنْبٍ كَانَ كُفْرًا فَهُوَ أَعْظَمُ شَيْءٍ وَأَكْبَرُهُ- فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْأَبَوَانِ كَافِرَيْنِ، وَرُبَّمَا لَمْ يَكُونَا عَاصِيَيْنِ، وَلَكِنْ غَايَةُ مَا هُنَالِكَ أَنَّهُمَا رُبُّمَا كَانَا مُتَسَلِّطَيْنِ -وَالْأُبُوَّةُ وَالْأُمُومَةُ سُلْطَةٌ مُتَسَلِّطَةٌ جَبَّارَةٌ قَدْ يُسَاءُ اسْتِغْلَالُهَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحَايِينِ، وَعَلَى قَدْرِ التَّحَمُّلِ وَالْمَشَقَّةِ تَكُونُ الْمَثُوبَةُ وَالْأَجْرُ دُنْيَا وَآخِرَةً، وَاللهُ يُعْطِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْبَرُّ الْكَرِيمُ الْجَوَادُ.

قَدْ يُبْتَلَى الْمَرْءُ بِأَبَوَيْنِ أَوْ بِأَحَدِهِمَا عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ، وَهُوَ ابْتِلَاءٌ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَكِنْ مَا عَلَى الْمَرْءِ إِلَّا أَنْ يُطِيعَ.

وَهَذَا رَجُلٌ يَأْتِي إِلَى وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ يَقُولُ: أَنَّ رَجُلًا أَتَاهُ، فَقَالَ: ((إِنَّ أَبِي لَمْ يَزَلْ بِي حَتَّى تَزَوَّجْتُ، وَإِنَّهُ الْآنَ يَأْمُرُنِي بِطَلَاقِهَا، قَالَ: مَا أَنَا بِالَّذِي آمُرُكَ أَنْ تَعُقَّ وَالِدَكَ، وَلَا أَنَا بِالَّذِي آمُرُكَ أَنْ تُطَلِّقَ امْرَأَتَكَ، غَيْرَ أَنَّكَ إِنْ شِئْتَ حَدَّثْتُكَ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَحَافِظْ عَلَى ذَلِكَ إِنْ شِئْتَ أَوْ دَعْ» .

لَا تَظُنَّنَّ أَنَّ الْبِرَّ هُوَ الطَّاعَةُ فِيمَا تُحِبُّ؛ بَلْ إِنَّ الْبِرَّ كُلَّ الْبِرِّ الطَّاعَةُ فِيمَا تَكْرَهُ، وَلَقَدْ تُؤْتَى مِنْ قِبَلِ هَذَا الْمَأْتَى وَأَنْتَ لَا تَشْعُرُ وَلَا تَدْرِي، إِذَا مَا أَمَرَا فَسَمْعًا وَطَاعَةً، وَإِذَا مَا أَصْدَرَا قَرَارًا مِنَ الْقَرَارَاتِ -طَالَمَا أَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي دِينٍ، وَلَا يَطْعَنُ فِي عَقِيدَةٍ، وَلَا يَجْرَحُ فِي الْإِسْلَامِ- فَسَمْعًا وَطَاعَةً.

((مَلْعُونٌ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ، مَلْعُونٌ مَنْ عَقَّ أَبَوَيْهِ)).

((مَلْعُونٌ)): مَطْرُودٌ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَانْظُرْ إِلَى الْمَطْرُودِ خَارِجَ أَسْوَارِ الرَّحْمَةِ، خَارِجَ أَسْوَارِ الرَّحْمَةِ لَا تُدْرِكُهُ وَلَا تَنْزِلُ عَلَيْهِ!!

انْظُرْ إِلَيْهِ مَا يَصْنَعُ هَذَا الْمَلْعُونُ؟!!

أَلَا إِنَّ الذُّنُوبَ بِآثَارِهَا، وَإِنَّ الْآثَامَ بِنَتَائِجِهَا.. فَاعِلَةٌ فِي الْجَسَدِ الْحَيِّ، فَاعِلَةٌ فِي الرُّوحِ الْحَيَّةِ، فَاعِلَةٌ فِي دُنْيَا اللهِ أَفْرَادًا وَمُجْتَمَعًا، وَأُمَمًا وَعَالَمًا؛ وَالْعَالَمُ مُطْبِقٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي.

فَاللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا بِرَحْمَتِكَ، وَأَنْتَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.

((لَنْ تُوَفِّيَ أُمَّكَ حَقَّهَا!!))

فَإِنَّ الْوَلَدَ مَهْمَا أَسْدَى مِنْ مَعْرُوفٍ وَقَدَّمَ مِنْ جَمِيلٍ لِوَالِدَيْهِ أَوْ أَحَدِهِمَا، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُوَفِّيَ حَقَّهُمَا؛ وَلَكِنَّ الْأَمْرَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «سَدِّدُوا، وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا».

عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ أَنَّهُ شَهِدَ ابْنَ عُمَرَ، وَرَجُلٌ يَمَانِيٌّ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ حَمَلَ أُمَّهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ يَقُولُ:

إِنِّي لَهَا بَعِيرُهَا الْمُذَلَّلْ

 

 

إِنْ أُذْعِرَتْ رِكَابُهَا لَمْ أُذْعَرْ

ثُمَّ قَالَ: يَا ابْنَ عُمَرَ، أَتَرَانِي جَزَيْتُهَا؟

قَالَ: «لَا، وَلَا بِزَفْرَةٍ وَاحِدَةٍ».

ثُمَّ طَافَ ابْنُ عُمَرَ فَأَتَى الْمَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: يا ابْنَ أَبِي مُوسَى، «إِنَّ كُلَّ رَكْعَتَيْنِ تُكَفِّرَانِ مَا أَمَامَهُمَا» وَالْحَدِيثُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي «مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ»، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي «الشُّعَبِ».

قَالَ: «سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ أَنَّهُ شَهِدَ ابْنَ عُمَرَ، وَرَجُلٌ يَمَانِيٌّ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ الْحَرَامِ»، يَحْمِلُ أُمَّهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ وَيَطُوفُ بِهَا، فَقَالَ أَثْنَاءَ طَوَافِهِ بِهَا: «إِنِّي لَهَا بَعِيرُهَا الْمُذَلَّلْ»؛ أَيِ: السَّهْلُ الْمُرَوَّضُ الَّذِي لَا يَنْفِرُ وَلَا يُهَمْلِجُ، وَإِنَّمَا يَمْشِي فِي سَكِينَةٍ وَوَقَارٍ.

«إِنْ أُذْعِرَتْ»؛ الذُّعْرُ: الْخَوْفُ وَالْفَزَعُ.

«إِنْ أُذْعِرَتْ رِكَابُهَا»؛ أَيْ: إِنْ نَفَرَتْ دَابَّتُهَا الَّتِي تَرْكَبُهَا لَمْ أُذْعَرْ.

بَعْدَ هَذَا الْبَيْتِ بَيْتٌ آخَرُ هُوَ:

حَمَلْتُهَا أَكْثَرَ مِمَّا حَمَلَتْ

 

 

فَهَلْ تُرَى جَازَيْتُهَا يَا ابْنَ عُمَرْ؟

قَوْلهُ: «لَمْ أُذْعَرْ» كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ الطَّاعَةِ وَالْحِرْصِ عَلَى الْبِرِّ، مَعَ عَدَمِ التَّأَفُّفِ وَالتَّضَجُّرِ مِنْ خِدْمَتِهَا.

قَالَ: «يَا ابْنَ عُمَرَ، أَتَرَانِي جَزَيْتُهَا؟»؛ يَعْنِي: بِهَذَا الْبِرِّ الْعَظِيمِ، وَهُوَ يَحْمِلُهَا عَلَى ظَهْرِهِ وَيَطُوفُ بِهَا.

قَالَ ابْنُ عُمَرَ: «لَا، وَلَا بِزَفْرَةٍ وَاحِدَةٍ»؛ الزَّفْرَةُ: الْمَرَّةُ مِنَ الزَّفِيرِ، وَهُوَ تَرَدُّدُ النَّفَسِ حَتَّى تَخْتَلِفَ الْأَضْلَاعُ، وَهَذَا يَعْرِضُ لِلْمَرْأَةِ عِنْدَ الْوَضْعِ وَالْوِلَادَةِ.

قَوْلُهُ: «كُلُّ رَكْعَتَيْنِ تُكَفِّرَانِ مَا أَمَامَهُمَا»؛ أَيْ: مِنَ الذُّنُوبِ وَالْآثَامِ.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ: الْحَثُّ عَلَى خِدْمَةِ الْأُمِّ مَهْمَا بَلَغَتِ الْمَشَقَّةُ، وَعِظَمُ حَقِّ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الْأَوْلَادِ.

((بَيْنَ الِابْنِ وَأُمِّهِ!!))

مَهْمَا عَلَتْ بِالْمَرْءِ السِّنُونَ، وَاخْتَلَفَ عَلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، يَبْقَى حِيَالَ أُمِّهِ طِفْلًا غَرِيرًا، تُزِيلُ وَحْشَتَهُ، وَتُبَدِّدُ غُرْبَتَهُ، وَتَكْشِفُ كُرْبَتَهُ، فَإِذَا ذَهَبَتْ وَغَيَّبَ ثَرَى الْأَرْضِ رُفَاتَهَا، فَأَيْنَ يَجِدُ الْمَرْءُ إِذَا قَسَتْ عَلَيْهِ الْحَيَاةُ مَنْ يَحْنُو بِصِدْقٍ وَحُبٍّ عَلَيْهِ؟!!

وَإِلَى مَنْ مِنَ النَّاسِ يَلْجَأُ الْمَرْءُ إِذَا سَعَتْ جُيُوشُ الْهُمُومِ إِلَيْهِ؟!!

يَا مَلَاكَ الْحُبِّ يَا رُوحَ السَّلَامِ=شَاهِدُ السَّعْدِ عَلَى وَجْهِكَ لَاحَ

طَابَ لِي بَيْنَ أَمَانِيكِ الْمَنَامُ=وَعَلَى نَجْوَاكِ شَاهَدْتُ الصَّبَاحَ

أَنْتِ لِي أَوْفَى حَبِيبْ=مِنْ بَعِيدٍ أَوْ قَرِيبْ

أَنْتِ أُمِّي..

مَنْ يُوَاسِينِي إِذَا عَزَّ مُعِينِي؟

قَلْبُ أُمِّي..

مَنْ يُنَاجِينِي إِذَا طَالَ حَنِينِي؟

طَيْفُ أُمِّي..

كُلَّمَا أَظْلَمَ فِي عَيْنِي الْفَضَاءُ=أَرْسَلَتْ عَيْنَاكِ نُورَ الْأَمَلِ

فَسَرَتْ رُوحِي إِلَى بَابِ الرَّجَاءِ=ثُمَّ حَيَّتْ طَلْعَةَ الْمُسْتَقْبَلِ

كُنْتُ فِي رَوْضِكِ غَضًّا فَسَقَانِي=عَطْفُكِ الْفَيَّاضُ بِالْكَفِّ النَّدِيَّهْ

فَإِذَا أَيْنَعَ فِي ظِلِّ الْحَنَانِ=فَهْوَ مِنِّي لَكِ يَا أُمِّي هَدِيَّهْ

أَنْتِ لِي أَوْفَى حَبِيبْ=مِنْ بَعِيدٍ أَوْ قَرِيبْ

أَنْتِ أُمِّي...

لَكِنْ.. أَيْنَ أُمِّي؟!!

أُمَّاهُ لَيْتَكِ لَمْ تَغِيبِي خَلْفَ سُورٍ مِنْ حِجَارْ

لَا بَابَ فِيهِ لِكَيْ أَدُقَّ وَلَا نَوَافِذَ فِي الْجِدَارْ

كَيْفَ انْطَلَقْتِ عَلَى طَرِيقٍ لَا يَعُودُ السَّائِرُونْ

مِنْ ظُلْمَةٍ صَفْرَاءَ فِيهِ كَأَنَّهَا غَسَقُ الْبِحَارْ

وَلَا شَيْءَ إِلَّا الْمَوْتَ يَدْعُو وَيَصْرُخُ فِيمَا يَزُولْ

خَرِيفٌ شِتَاءٌ أَصِيلٌ أُفُولْ

وَبَاقٍ هُوَ اللَّيْلُ بَعْدَ انْطِفَاءِ الْبُرُوقْ

وَبَاقٍ هُوَ الْمَوْتُ أَبْقَى وَأَخْلَدُ مِنْ كُلِّ مَا فِي الْحَيَاهْ

فَيَا قَبْرَهَا افْتَحْ ذِرَاعَيْكَ إِنِّي لَآتٍ بِلَا ضَجَّةٍ دُونَ آهْ!!

اللَّهُمَّ ارْحَمْنَا وَارْحَمْ آبَاءَنَا، وَارْحَمْنَا وَارْحَمْ أُمَّهَاتِنَا، وَارْحَمْنَا وَارْحَمْ أُمَّهَاتِنَا.

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا، وَاغْفِرْ لِآبَائِنَا، وَاغْفِرْ لِأُمَّهَاتِنَا.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.

 

المصدر:بِرُّ الْأُمِّ سَبِيلُ الْبَرَكَةِ فِي الدُّنْيَا وَالرَّحْمَةِ فِي الْآخِرَةِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  مُحَمَّدٌ ﷺ نَبِيُّ الرَّحْمَةِ، فَلْنَحْمَلْ رَحْمَتَهُ لِلْعَالَمِينَ
  الْإِسْرَاءُ وَالْمِعْرَاجُ وَفَرْضِيَّةُ الصَّلَاةِ
  الرد على الملحدين:دليل العناية على وجود الله عز وجل
  عيد الفطر لعام 1437هـ .. اتقوا الظلم
  الصائمون المفلسون
  نِعْمَةُ الْمَاءِ وَضَرُورَةُ الْحِفَاظِ عَلَيْهَا
  كَيْفَ نَسْتَمْطِرُ الرَّحَمَاتِ الرَّبَّانِيَّةَ؟
  الْحَذَرُ وَالْيَقَظَةُ وَالْإِعْدَادُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ
  الرد على الملحدين:مقدمة عن الإلحاد والأسباب التي دعت إلى انتشاره في العصر الحديث
  أيها المصريون لا عذر لكم
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان