((الْجَوَانِبُ الْإِيمَانِيَّةُ وَالْأَخْلَاقِيَّةُ فِي الصَّوْمِ))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((جُمْلَةٌ مِنْ فَضَائِلِ الصَّوْمِ))
فَالرُّكْنُ الرَّابِعُ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ هُوَ الصِّيَامُ.. صَوْمُ رَمَضَانَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، وَفَرْضٌ مِنْ فُرُوضِ اللهِ، مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ.
لَا تَخْلُو عِبَادَةٌ مِنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي يُتَعَبَّدُ بِهَا لِلَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ فَضَائِلَ، فَلِلصَّلَاةِ وَلِلزَّكَاةِ فَضَائِلُ كَثِيرَةٌ، وَكَذَا لِلْحَجِّ، وَكَذَلِكَ لِلصَّوْمِ.
لَقَدْ جَاءَتْ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مُحْكَمَاتٌ فِي كِتَابِ اللهِ الْمَجِيدِ تَحُضُّ عَلَى الصَّوْمِ؛ تَقَرُّبًا إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَتُبَيِّنُ فَضَائِلَهُ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب : 35].
فَأَدْخَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ فِي هَذَا الْأَجْرِ الْعَظِيمِ، وَفِي هَذِهِ الْمَغْفِرَةِ الْوَسِيعَةِ.
وَقَالَ -جَلَّ شَأْنُهُ-: {وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 184].
وَقَدْ بَيَّنَ الرَّسُولُ ﷺ فِي الثَّابِتِ مِنْ سُنَّتِهِ أَنَّ الصَّوْمَ حِصْنٌ مِنَ الشَّهَوَاتِ، وَمِنَ النَّارِ جُنَّةٌ -أَيْ وِقَايَةٌ-؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- خَصَّ الصَّوْمَ وَالصَّائِمِينَ بِبَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ؛ وَأَنَّهُ يَفْطِمُ الْأَنْفُسَ عَنْ شَهَوَاتِهَا، وَيَحْبِسُهَا عَنْ مَأْلُوفَاتِهَا؛ حَتَّى تُصْبِحَ مُطْمَئِنَّةً.
وَهَذَا الْأَجْرُ الْوَفِيرُ وَالْفَضْلُ الْكَبِيرُ تُفَصِّلُهُ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ أَحْسَنَ تَفْصِيلٍ، وَتُبَيِّنُهُ أَتَمَّ بَيَانٍ.
«الصَّوْمُ جُنَّةٌ»: أَيْ وِقَايَةٌ، وَمِنْهُ الْمَجَنَّةُ -أَيْ: الدِّرْعُ الَّذِي يَجْعَلُهُ الْمُقَاتِلُ عَلَى صَدْرِهِ؛ لِيَقِيَهُ نِبَالَ وَسُيُوفَ وَرِمَاحَ أَعْدَائِهِ-.
أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ -مَنِ اشْتَدَّتْ عَلَيْهِ شَهْوَةُ النِّكَاحِ وَلَمْ يَسْتَطِعْ زَوَاجًا- بِالصِّيَامِ، وَجَعَلَهُ النَّبِيُّ ﷺ -أَيِ الصِّيَامَ- وِجَاءً -وَالْوِجَاءُ فِي الْأَصْلِ هُوَ أَنْ تُرَضَّ خِصْيَةُ الْفَحْلِ بَيْنَ حَجَرَيْنِ؛ حَتَّى تَنْقَطِعَ مَادَّةُ شَهْوَتِهِ- وَهُوَ قَاطِعٌ لِمَادَّةِ الشَّهْوَةِ كَمَا بَيَّنَ الرَّسُولُ ﷺ؛ لِأَنَّهُ يَحْبِسُ قُوَى الْأَعْضَاءِ عَنِ اسْتِرْسَالِهَا، وَيُسَكِّنُ كُلَّ عُضْوٍ مِنْهُ، وَيُسَكِّنُ كُلَّ قُوَّةٍ، وَيَمْنَعُهَا مِنْ جناحها، وَيُلْجِمُهَا بِلِجَامِهِ.
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ لِلصَّوْمِ تَأْثِيرًا عَجِيبًا فِي حِفْظِ الْجَوَارِحِ الظَّاهِرَةِ وَالْقُوَى الْبَاطِنَةِ، وَلِهَذَا كُلِّهِ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ -كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ مِنْ رِوَايَةِ عَلْقَمَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ-: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ البَاءَةَ -وَالْبَاءَةُ: هِيَ الْقُدْرَةُ عَلَى تَكَالِيفِ النِّكَاحِ كُلِّهَا بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهَا- فَلْيَتَزَوَّجْ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ))؛ أَيْ: قَاطِعٌ لِمَادَّةِ الشَّهْوَةِ.
فَانْظُرْ كَيْفَ وَازَنَ النَّبِيُّ ﷺ بَيْنَ الزَّوَاجِ، فَجَعَلَهُ فِي جَانِبٍ وَبَيْنَ الصَّوْمِ وَجَعَلَهُ فِي جَانِبٍ آخَرَ!!
((مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ.. ))؛ مَا الْبَدِيلُ؟
يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: «فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ».
وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَنَّ الْجَنَّةَ مَحْفُوفَةٌ بِالْمَكَارِهِ، وَأَنَّ النَّارَ قَدْ حُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ)).
فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الصَّوْمَ يَقْمَعُ الشَّهَوَاتِ، وَيَكْسِرُ حِدَّتَهَا، وَالشَّهَوَاتُ تُقَرِّبُ إِلَى النَّارِ، فَإِذَنْ؛ حَالَ الصِّيَامُ بَيْنَ الصَّائِمِ وَالنَّارِ؛ لِذَلِكَ جَاءَتِ الْأَحَادِيثُ مُصَرِّحَةً بِأَنَّهُ حِصْنٌ مِنَ النَّارِ، وَجُنَّةٌ يَسْتَجِنُّ بِهَا الْعَبْدُ مِنَ النَّارِ.
فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَصُومُ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللهِ إِلاَّ بَاعَدَ اللهُ بِذَلِكَ اليَوْمِ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا».
«مَا مِنْ عَبْدٍ يَصُومُ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللهِ إِلاَّ بَاعَدَ اللهُ بِذَلِكَ اليَوْمِ -يَعْنِي بِصِيَامِ ذَلِكَ الْيَوْمِ- وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا -يَعْنِي مَسِيرَةَ سَبْعِينَ عَامًا؛ أَيِ: الْمَسَافَةَ الَّتِي تُقْطَعُ فِي سَبْعِينَ عَامًا-)).
وَقَالَ ﷺ: «الصَّيَامُ جُنَّةٌ يَسْتَجِنُّ بِهَا الْعَبْدُ مِنَ النَّارِ»؛ وِقَايَةٌ وَدِرْعٌ يَجْعَلُهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَاقِيًا لِلْعَبْدِ أَنْ تَلْفَحَهُ النَّارُ وَأَنْ يَجِدَ مَسَّهَا.
وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ جَابِرٍ.
وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللهِ جَعَلَ اللهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ خَنْدَقًا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ». هَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ التِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
((بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْأَحَادِيثَ الَّتِي مَضَى ذِكْرُهَا فِي فَضْلِ الصَّوْمِ -وَلَوْ يَوْمًا فِي سَبِيل اللهِ- جَاءَتْ فِي فَضْلِ الصِّيَامِ فِي الْجِهَادِ، وَالْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ.
الظَّاهِرُ أَنَّ كُلَّ الصَّوْمِ إِذَا كَانَ خَالِصًا لِوَجْهِ اللهِ تَعَالَى، وَفْقَ مَا بَيَّنَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ)).
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ يَحْتَاجُ قُوَّتَهُ؛ لِيُنَافِحَ عَنْ دِينِ رَبِّهِ، فَالْحَصْرُ بِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْقِتَالِ وَفِي الْجِهَادِ عَجِيبٌ.
فَإِذَا صَامَ الْإِنْسَانُ يَوْمًا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
أَنْ يَكُونَ الصَّوْمُ خَالِصًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ -وَلَوْ يَوْمًا وَاحِدًا- فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يُبَاعِدُ بِذَلِكَ الْيَوْمِ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا، وَيَجْعَلُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ خَنْدَقًا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.
*وَالصَّوْمُ يُدْخِلُ الْجَنَّةَ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ يُبَاعِدُ صَاحِبَهُ مِنَ النَّارِ، فَإِذَا كَانَ يُبَاعِدُ صَاحِبَهُ مِنَ النَّارِ؛ فَهُوَ يُدْنِيهِ وَيُقَرِّبُهُ وَيُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ، فَهُوَ إِذَن فِي بُحْبُوحَةِ الْجَنَّةِ -وَهِيَ وَسَطُ كُلِّ شَيْءٍ وَخِيَارُهُ-.
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ أَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ)).
قَالَ: «عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ، لَا مِثْلَ لَهُ». وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
فَأَرْشَدَهُ النَّبِيُّ ﷺ -عِنْدَ السُّؤَالِ عَنْ عَمَلٍ مُفْرَدٍ يُدْخِلُ الْجَنَّةَ- عَنْ هَذَا الْعَمَلِ الْجَامِعِ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ، وَهُوَ عَمَلٌ مَحْبُوبٌ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، فَقَالَ: ((عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ؛ لَا مِثْلَ لَهُ))؛ يَعْنِي: لَوْ عَلِمْتُ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ لَدَلَلْتُكَ عَلَيْهِ.
*وَالصَّائِمُونَ يُوَفَّوْنَ أُجُورَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ.
*وَ((لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ)) .
*((وَخَلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ)).
وَخَلُوفُ الْفَمِ: هِيَ تِلْكَ الرَّائِحَةُ الَّتِي تَكُونُ كَرِيهَةً بِتَغَيُّرِ رَائِحَةِ الْفَمِ بِسَبَبِ الِانْقِطَاعِ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -فِيمَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ»؛ يَعْنِي كُلُّ عَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ يَعْمَلُهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ فَإِنَّهَا تَسْتَوْجِبُ أَجْرًا مَحْدُودُا -وَفَضْلُ رَبِّكَ وَسِيعٌ-، وَأَمَّا الصِّيَامُ فَأَجْرُهُ بِغَيْرِ حِسَابٍ.
وَفِيهَا تَأْوِيلٌ آخَرُ، وَهُوَ: أَنَّ الْأَعْمَالَ الَّتِي يَأْتِي بِهَا الْإِنْسَانُ يَكُونُ فِيهَا أَمْرٌ وَاضِحٌ يُمْكِنُ أَنْ يُعَوَّلَ عَلَيْهِ إِلَّا الصَّوْمَ؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَمْرَيْنِ؛ عَلَى النِّيَّةِ، وَالِانْقِطَاعِ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالشَّهْوَةِ.
فَهَذَا الْكَفُّ أَمْرٌ سَلْبِيٌّ، فَآلَ الْأَمْرُ مَعَ هَذَا الْكَفِّ إِلَى النِّيَّةِ الصَّحِيحَةِ حَتَّى إِنَّ الْعُلَمَاءَ يَقُولُونَ: لَوْ أَصْبَحَ صَائِمًا نَاوِيًا، وَظَلَّ مُمْسِكًا إِمْسَاكًا صَحِيحًا إِلَى قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، ثُمَّ نَوَى الْفَسْخَ، وَلَمْ يَأْتِ بِمُفْطِرٍ -يَعْنِي لَمْ يَأْتِ بِمَا يَجْعَلُهُ خَارِجًا مِنْ حَيِّزِ الصَّوْمِ بِعَمَلٍ ظَاهِرٍ كَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالشَّهْوَةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ قَدْ أَفْطَرَ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ رُكْنٌ.
فَالْفَسْخُ هَذَا -وَلَوْ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْتِيَ بِشَيْءٍ إِيجَابِيٍّ بِضِدِّ مَا هُوَ سَلْبِيٌّ مِنَ الْكَفِّ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالشَّهْوَةِ- هَذِهِ النِّيَّةُ إِذَا فُسِخَتْ.. إِذَا نُقِضَتْ نُقِضَ الصَّوْمُ، فَكَأَنَّهُ عَمَلٌ بَاطِنٌ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَحْدَهُ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إِلَّا اللهُ، وَلِأَنَّ الْأَعْمَالَ الْأُخْرَى إِنَّمَا تَكُونُ فِي مَجْمُوعِهَا ظَاهِرَةً إِلَى حَدٍّ مَا، وَلَهَا آثَارُهَا الَّتِي تَعُودُ عَلَى غَيْرِ ابْنِ آدَمَ إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا رَقِيبَ عَلَيْهِ إِلَّا اللهُ فِي حَالِ صَوْمِهِ، وَيَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَخْفِيَ فِي أَيِّ مَكَانٍ، وَأَنْ يَأْتِيَ بِمَا يُخْرِجُهُ مِنْ حَيِّزِ الصِّيَامِ، لَا يَطَّلِعُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا اللهُ.
((يَقُولُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلاَّ الصِّيَامَ؛ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ».
((فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ»: يَعْنِي يَأْتِي بِكَلَامٍ مَسْمُوعٍ يُسْمَعُ، وَيَسْمَعُهُ مُقَابِلُهُ وَمَنْ سَبَّهُ؛ لِيَنْزجِرَ الشَّاتِمُ وَالْمُقَاتِلُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَكُونُ فِي نَفْسِهِ؛ لِيَمْنَعَهَا مِنَ الْمُشَاتَمَةِ وَالْمُقَاتَلَةِ، كَأَنَّهُ يَأْتِي بِمُذَكِّرٍ لِنَفْسِهِ: ((إِنِّي صَائِمٌ، إِنِّي صَائِمٌ))، كَأَنَّمَا يُذَكِّرُ نَفْسَهُ، أَوْ لِسَابِّهِ أَوْ شَاتِمِهِ: ((إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ))، فَكَأَنَّمَا يَزْجُرُ غَيْرَهُ!!
وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَرْجَحُ وَالْأَوْضَحُ؛ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا مَسْمُوعَةً؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ إِذَا أُطْلِقَ يَكُونُ كَذَلِكَ، أَنْ يُؤْتَى بِكَلَامٍ يُسْمَعُ: ((فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ)).
«وَالِّذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ المِسْكِ، لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ».
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: ((يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي، الصِّيَامُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا)).
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمَائَةِ ضِعْفٍ، قَالَ اللهُ تَعَاَلى: إِلاَّ الصَّوْمَ فِإِنَّهُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ لِأَجْلِي، وَلِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ، وَلَخُلُوفِ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ المِسْكِ».
يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ لِأَجْلِي، فَإِذَنْ؛ الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ.
فَإِذَنْ؛ الْمُضَاعَفَةُ لِلْحَسَنَاتِ عَلَى الصِّيَامِ لَا تَكُونُ عَلَى ذَلِكَ الْحَدِّ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِبَقِيَّةِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِئَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ أَثَرٍ إِنَّمَا يَأْتِي عَلَى قَدْرِ قُوَّةِ الْآتِي بِهِ، وَقُدْرَةُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا حَدَّ لَهَا، فَعَطَاءُ رَبِّكَ بِغَيْرِ حُدُودٍ.
*وَالصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِصَاحِبِهْمَا، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «الصِّيَامُ وَالقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ القِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ! مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهْوَةَ؛ فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ القُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ؛ فَشَفِّعْنِي فِيهِ، قَالَ: فَيُشَفَّعَانِ». وَهَذَا الْحَدِيثُ حَدِيثٌ حَسَنٌ رَوَاهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، وَأَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ فِي ((الْمُسْتَدْرَكِ)).
*وَالصِّيَامُ كَفَّارَةٌ: مِنْ فَضَائِلِ الصِّيَامِ أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَهُ مُنْفَرِدًا بِفَضَائِلَ دُونَ بَقِيَّةِ الْعِبَادَاتِ، فِمِمَّا يَنْفَرِدُ بِهِ الصِّيَامُ مِنْ فَضَائِلَ أَنَّ اللهَ جَعَلَهُ مِنْ كَفَّارَاتِ حَلْقِ الرَّأْسِ فِي الْإِحْرَامِ؛ لِعُذْرٍ مِنْ مَرَضٍ، أَوْ أَذًى فِي الرَّأْسِ؛ فَجَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَفَّارَةَ ذَلِكَ صِيَامًا.
وَعَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْهَدْيِ -أَيْضًا- يُقَابِلُهَا الصِّيَامُ.
وَقَتْلُ الْمُعَاهَدِ خَطَأً كَفَّارَتُهُ الصِّيَامُ.
وَحِنْثُ الْيَمِينِ كَفَّارَتُهُ يَدْخُلُ فِيهَا الصِّيَامُ.
وَقَتْلُ الصَّيْدِ فِي الْإِحْرَامِ، وَالظِّهَارُ؛ كُلُّ ذَلِكَ وَرَدَ فِي كِتَابِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يُبَيِّنُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيهِ فَضْلَ هَذِهِ الْعِبَادَةِ الْجَلِيلَةِ.
قَالَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فِي حَلْقِ الرَّأْسِ فِي الْإِحْرَامِ لِعُذْرٍ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ۚ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ۖ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}
فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ..
{فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ۚ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ۗ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ۗ ذَٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة: 196].
فَكَمَا تَرَى جَعَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ كَفَّارَةً.
وَكَذَلِكَ فِي قَتْلِ الْمُعَاهَدِ خَطَأً، يَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ۖ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء : 92].
وَكَذَلِكَ فِي حِنْثِ الْيَمِينِ، قَالَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الْأَيْمَانَ ۖ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ۖ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ۚ ذَٰلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ ۚ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 89].
وَكَذَلِكَ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ فِي الْإِحْرَامِ، يَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ۚ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَٰلِكَ صِيَامًا}. فَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الصِّيَامَ كَفَّارَةً.
{أَوْ عَدْلُ ذَٰلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ ۗ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ ۚ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} [المائدة : 95]
وَقَالَ -سُبْحَانَهُ- فِي أَمْرِ الظِّهَارِ: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ۚ ذَٰلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ۖ فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ۚ ذَٰلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ۚ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ۗ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)} [المجادلة: 3-4].
فَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الصِّيَامَ كَفَّارَةً.
وَكَذَلِكَ يَشْتَرِكُ الصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ فِي تَكْفِيرِ فِتْنَةِ الرَّجُلِ فِي مَالِهِ وَأَهْلِهِ وَجَارِهِ، يَعْنِي فِي الْأَخْطَاءِ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ تَقَعَ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ، فَعَنْ حُذَيْفَةَ -كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ))- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ، يُكَفِّرُهَا الصِّيَامُ وَالصَّلَاةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ».
*وَخَصَّ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الصَّائِمِينَ بِبَابٍ فِي الْجَنَّةِ هُوَ مَقْصُورٌ عَلَيْهِمْ، لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ إِلَّا هُمْ مِنْهُ؛ فَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ: الرَّيَّانُ».
فَتَأَمَّلْ فِي هَذِهِ الْمُطَابَقَةِ الَّتِي جَاءَتْ لِهَؤُلَاءِ الصَّائِمِينَ الَّذِينَ يَطْوُونَ النَّهَارَ عَلَى ظَمَأٍ، وَيُعَانُونَ مِنَ الْعَطَشِ؛ فَجُوزُوا بِأَنْ يَدْخُلُوا مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ.
فَالِاسْمُ لَهُ مُطَابَقَةٌ عَجِيبَةٌ مَعَ وَاقِعِ الْحَالِ ((يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ)).
يَعْنِي مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ حَالُ الصِّيَامِ فِي الدُّنْيَا دُونَ غَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، يُدْعَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا أَدْخَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْجَنَّةَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ، لَا يَدْخُلُ مِنْهُ إِلَّا مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ حَالُ الصِّيَامِ.
فَإِذَا غَلَبَ عَلَيْه مَعَ الصِّيَامِ أَحْوَالٌ مِنْ أَحْوَالِ الصَّالِحِينَ؛ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُدْعَى مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَبَا بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّهُ يُدْعَى مِنْ جَمِيعِ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ))؛ لِأَنَّ التَّوَازُنَ عِنْدَهُ -مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مَعَ بُلُوغِهَا أَقْصَى الْمَدَى- مُتَوَفِّرٌ عَلَى أَفْضَلِ مَا يَكُونُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
«فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ، فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ».
وَفِي زِيَادَةٍ لِلنَّسَائِيِّ -مَعَ مَا مَرَّ مِنْ رِوَايَةِ ((الصَّحِيحَيْنِ))-: «فَإِذَا دَخَلَ آخِرُهُمْ أُغْلِقَ، وَمَنْ دَخَلَ شَرِبَ، وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا».
فَهَذَا فَضْلُ الصَّوْمِ -عِبَادَ للهِ- بِإِطْلَاقٍ أَوْ شَيْءٍ مِنْ فَضْلِهِ.
*وَأَمَّا صِيَامُ رَمَضَانَ خَاصَّةً؛ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ ((مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)). وَالْحَدِيثُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ».
فَالصِّيَامُ أَكْبَرُ الأَعْمَالِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ.
* وَشَهْرُ رَمَضَانَ يَغْفِرُ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ لِلصَّائِمِينَ فِي آخِرِ لَيْلَةٍ مِنْهُ؛ «وَلِلَّهِ -جَلَّ وَعَلَا- عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ».
* وَلِلصَّائِمِ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ؛ عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ لاَ تُرَدُّ: دَعْوَةُ الْوَالِدِ، وَدَعْوَةُ الصَّائِمِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِر».
*وَالصِّيَامُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ ((كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ)).
فَالصَّومُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ خَالِصًا, وَهُوَ يَجْزِي عَلَيْهِ بِأَضْعَافٍ مُضَاعَفَةٍ وَبمَا لَا يُعَدُّ وَلَا يُحْصَى؛ شَرِيطَةَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُ فِي ذَلِكَ مُمْتَثِلًا أَمْرَ اللهِ, مُتَّبِعًا هَدْيَ رسولِ اللهِ ﷺ.
((جُمْلَةٌ مِنْ فَوَائِدِ الصِّيَامِ وَمَقَاصِدِهِ))
لَقَدْ بَدَأَ حَدِيثُ الْقُرْآنِ عَنِ الصِّيَامِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
وَهَذَا إِخْبَارٌ مِنْهُ -سُبْحَانَهُ- أَنَّهُ شَرَعَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ الصِّيَامَ كَمَا شَرَعَهُ لِغَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ، وَهَذَا بِلَا شَكٍّ يَدُلُّ عَلَى عَظِيمِ أَمْرِ الصِّيَامِ، وَأَنَّهُ مِنَ الشَّرَائِعِ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَى الْمَصْلَحَةِ لِلْخَلْقِ فِي كُلِّ زَمَانٍ.
قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: ((يُخْبِرُ -تَعَالَى- بِمَا مَنَّ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ؛ بِأَنَّهُ فَرَضَ عَلَيْهِمُ الصِّيَامَ كَمَا فَرَضَهُ عَلَى الْأُمَمِ السَّابِقَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الشَّرَائِعِ وَالْأَوَامِرِ الَّتِي هِيَ مَصْلَحَةٌ لِلْخَلْقِ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَفِيهِ تَنْشِيطٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ بِأَنَّهُ يَنْبَغِي لَكُمْ أَنْ تُنَافِسُوا غَيْرَكُمْ فِي تَكْمِيلِ الْأَعْمَالِ، وَالْمُسَارَعَةِ إِلَى صَالِحِ الْخِصَالِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْأُمُورِ الثَّقِيلَةِ الَّتِي اخْتُصِصْتُمْ بِهَا)).
لَقَدْ شَرَعَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- الصِّيَامَ لِمَقَاصِدَ سَامِيَةٍ وَحِكَمٍ جَلِيلَةٍ؛ فَهُوَ مَدْرَسَةٌ لِلْإِيمَانِ وَالْأَخْلَاقِ.
فَرَضَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَجَعَلَ لِلصِّيَامِ فَوَائِدَ عَظِيمَةً، وَمُمَيِّزَاتٍ جَزِيلَةً، يَنَالُ الْمُسْلِمُ -بِإِذْنِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-- إِذَا مَا أَتَى بِهَا الرِّضْوَانَ عِنْدَ اللهِ.
((مِنْ أَعْظَمِ مَقَاصِدِ الصَّوْمِ وَثَمَرَاتِهِ: التَّقْوَى))
لَقَدْ بَيَّنَ اللهُ -تَعَالَى- الْحِكْمَةَ مِنْ فَرْضِ الصِّيَامِ؛ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183].
أَيْ: فَرَضْنَا عَلَيْكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ الصِّيَامَ كَمَا فَرَضْنَاهُ عَلَى الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ، لَعَلَّكُمْ بِأَدَائِكُمْ هَذِهِ الْفَرِيضَةَ تَنَالُونَ دَرَجَةَ التَّقْوَى، الَّتِي هِيَ أَسْمَى الدَّرَجَاتِ وَأَعْلَاهَا، وَأَرْفَعُ الْمَنَازِلِ وَأَفْخَمُهَا، وَبِذَلِكَ تَكُونُونَ مِمَّنْ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عليمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].
وَالتَّقْوَى: فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ، وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ.
وَالصِّيَامُ الَّذِي لَا يُثْمِرُ التَّقْوَى حَابِطٌ فَاقِدُ الْقِيمَةِ؛ كَالزَّرْعِ الَّذِي لَا مَحْصُولَ لَهُ آخِرَ الْمَوْسِمِ.
فَوَا أَسَفَاهُ! فِيمَ كَانَ -إِذَنْ- حَرْثُ الْأَرْضِ، وَالسَّقْيُ، وَالتَّسْمِيدُ، وَبَذْلُ الْمَجْهُودِ، وَطُولُ الضَّنَا، وَاحْتِمَالُ الْعَنَا؟!!
التَّقْوَى قِيمَةٌ جَامِعَةٌ لِخِصَالِ الْخَيْرِ؛ لِذَلِكَ جَاءَتْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ مُقْتَرِنَةً بِقِيَمٍ إِيمَانِيَّةٍ وَأَخْلَاقِيَّةٍ مُتَنَوِّعَةٍ، حَيْثُ يَقُولُ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ-: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177].
(({لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} أَيْ: لَيْسَ هَذَا هُوَ الْبِرَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْعِبَادِ، فَيَكُونُ كَثْرَةُ الْبَحْثِ فِيهِ وَالْجِدَالِ مِنَ الْعَنَاءِ الَّذِي لَيْسَ تَحْتَهُ إِلَّا الشِّقَاقُ وَالْخِلَافُ، وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ ﷺ: ((لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ))، وَنَحْوَ ذَلِكَ.
{وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} أَيْ: بِأَنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ مَوْصُوفٌ بِكُلِّ صِفَةِ كَمَالٍ، مُنَزَّهٌ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ، {وَالْيَوْمِ الآخِرِ}: وَهُوَ كُلُّ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ، أَوْ أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ مِمَّا يَكُونُ بَعْدَ الْمَوْتِ، {وَالْمَلائِكَةِ} الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ لَنَا فِي كِتَابِهِ، وَوَصَفَهُمْ رَسُولُهُ ﷺ، {وَالْكِتَابِ} أَيْ: جِنْسِ الْكُتُبِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، وَأَعْظَمُهَا الْقُرْآنُ، فَيُؤْمِنُ بِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْأَحْكَامِ، وَالنَّبِيِّينَ عُمُومًا؛ وخُصُوصًا خَاتَمَهُمْ وَأَفْضَلَهُمْ مُحَمَّدًا ﷺ.
{وَآتَى الْمَالَ}: وَهُوَ كُلُّ مَا يَتَمَوَّلُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ مَالٍ؛ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، أَيْ: أَعْطَى الْمَالَ {عَلَى حُبِّهِ} أَيْ: حُبِّ الْمَالِ، بَيَّنَ بِهِ أَنَّ الْمَالَ مَحْبُوبٌ لِلنُّفُوسِ، فَلَا يَكَادُ يُخْرِجُهُ الْعَبْدُ، فَمَنْ أَخْرَجَهُ مَعَ حُبِّهِ لَهُ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ -تَعَالَى-؛ كَانَ هَذَا بُرْهَانًا لِإِيمَانِهِ، وَمِنْ إِيتَاءِ الْمَالِ عَلَى حُبِّهِ: أَنْ يَتَصَدَّقَ وَهُوَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ، يَأْمُلُ الْغِنَى، وَيَخْشَى الْفَقْرَ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَتِ الصَّدَقَةُ عَنْ قِلَّةٍ كَانَتْ أَفْضَلَ؛ لِأَنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ يُحِبُّ إِمْسَاكَهُ؛ لِمَا يَتَوَهَّمُهُ مِنَ الْعُدْمِ وَالْفَقْرِ، وَكَذَلِكَ إِخْرَاجُ النَّفِيسِ مِنَ الْمَالِ وَمَا يُحِبُّهُ مِنْ مَالِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ فَكُلُّ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ آتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ}.
ثُمَّ ذَكَرَ المُنْفَقَ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِبِرِّكَ وَإِحْسَانِكَ مِنَ الْأَقَارِبِ الَّذِينَ تَتَوَجَّعُ لِمُصَابِهِمْ، وَتَفْرَحُ بِسُرُورِهِمْ، الَّذِينَ يَتَنَاصَرُونَ وَيَتَعَاقَلُونَ؛ فَمِنْ أَحْسَنِ الْبِرِّ وَأَوْفَقِهِ: تَعَاهُدُ الْأَقَارِبِ بِالْإِحْسَانِ الْمَالِيِّ وَالْقَوْلِيِّ عَلَى حَسَبِ قُرْبِهِمْ وَحَاجَتِهِمْ.
وَمِنَ الْيَتَامَى الَّذِينَ لَا كَاسِبَ لَهُمْ، وَلَيْسَ لَهُمْ قُوَّةٌ يَسْتَغْنُونَ بِهَا، وَهَذَا مِنْ رَحْمَتِهِ تَعَالَى بِالْعِبَادِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ -تَعَالَى- أَرْحَمُ بِهِمْ مِنَ الْوَالِدِ بِوَلَدِهِ، فَاللَّهُ قَدْ أَوْصَى الْعِبَادَ وَفَرَضَ عَلَيْهِمْ فِي أَمْوَالِهِمُ الْإِحْسَانَ إِلَى مَنْ فُقِدَ آبَاؤُهُمْ؛ لِيَصِيرُوا كَمَنْ لَمْ يَفْقِدْ وَالِدَيْهِ، وَلِأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ؛ فَمَنْ رَحِمَ يَتِيمَ غَيْرِهِ رُحِمَ يَتِيمُهُ.
{وَالْمَسَاكِينَ}: وَهُمُ الَّذِينَ أَسْكَنَتْهُمُ الْحَاجَةُ، وَأَذَلَّهُمُ الْفَقْرُ، فَلَهُمْ حَقٌّ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ بِمَا يَدْفَعُ مَسْكَنَتَهُمْ، أَوْ يُخَفِّفُهَا، بِمَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ وَبِمَا يَتَيَسَّرُ، {وَابْنَ السَّبِيلِ}: وَهُوَ الْغَرِيبُ الْمُنْقَطِعُ بِهِ فِي غَيْرِ بَلَدِهِ، فَحَثَّ اللَّهُ عِبَادَهُ عَلَى إِعْطَائِهِ مِنَ الْمَالِ مَا يُعِينُهُ عَلَى سَفَرِهِ؛ لِكَوْنِهِ مَظِنَّةَ الْحَاجَةِ وَكَثْرَةِ الْمَصَارِفِ.
فَعَلَى مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِوَطَنِهِ وَرَاحَتِهِ، وَخَوَّلَهُ مِنْ نِعْمَتِهِ أَنْ يَرْحَمَ أَخَاهُ الْغَرِيبَ الَّذِي بِهَذِهِ الصِّفَةِ عَلَى حَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِ؛ وَلَوْ بِتَزْوِيدِهِ، أَوْ إِعْطَائِهِ آلَةً لِسَفَرِهِ، أَوْ دَفْعِ مَا يَنُوبُهُ مِنَ الْمَظَالِمِ وَغَيْرِهَا.
{وَالسَّائِلِينَ} أَيِ: الَّذِينَ تَعْرِضُ لَهُمْ حَاجَةٌ مِنَ الْحَوَائِجِ تُوجِبُ السُّؤَالَ؛ كَمَنِ ابْتُلِيَ بِأَرْشِ جِنَايَةٍ، أَوْ ضَرِيبَةٍ عَلَيْهِ مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ، أَوْ يَسْأَلُ النَّاسَ لِتَعْمِيرِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ؛ كَالْمَسَاجِدِ، وَالْمَدَارِسِ، وَالْقَنَاطِرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذَا لَهُ حَقٌّ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا.
{وَفِي الرِّقَابِ}: فَيَدْخُلُ فِيهِ الْعِتْقُ، وَالْإِعَانَةُ عَلَيْهِ، وَبَذْلُ مَالٍ لِلْمُكَاتَبِ لِيُوَفِّيَ سَيِّدَهُ، وَفِدَاءُ الْأَسْرَى عِنْدَ الْكُفَّارِ أَوْ عِنْدَ الظَّلَمَةِ.
{وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ}: اللَّهُ -تَعَالَى- يَقْرِنُ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ؛ لِكَوْنِهِمَا أَفْضَلَ الْعِبَادَاتِ وَأَكْمَلَ الْقُرُبَاتِ، عِبَادَاتٍ قَلْبِيَّةٍ وَبَدَنِيَّةٍ وَمَالِيَّةٍ، وَبِهِمَا يُوزَنُ الْإِيمَانُ، وَيُعْرَفُ مَا مَعَ صَاحِبِهِ مِنَ الْإِيقَانِ.
{وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} وَالْعَهْدُ: هُوَ الِالْتِزَامُ بِإِلْزَامِ اللَّهِ أَوْ إِلْزَامِ الْعَبْدِ لِنَفْسِهِ، فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ حُقُوقُ اللَّهِ كُلُّهَا؛ لِكَوْنِ اللَّهِ أَلْزَمَ بِهَا عِبَادَهُ وَالْتَزَمُوهَا، وَدَخَلُوا تَحْتَ عُهْدَتِهَا، وَوَجَبَ عَلَيْهِمْ أَدَاؤُهَا، وَحُقُوقُ الْعِبَادِ الَّتِي أَوْجَبَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَالْحُقُوقُ الَّتِي الْتَزَمَهَا الْعَبْدُ؛ كَالْأَيْمَانِ، وَالنُّذُورِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
{وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ} أَيِ: الْفَقْرِ؛ لِأَنَّ الْفَقِيرَ يَحْتَاجُ إِلَى الصَّبْرِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ؛ لِكَوْنِهِ يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الْآلَامِ الْقَلْبِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ الْمُسْتَمِرَّةِ مَا لَا يَحْصُلُ لِغَيْرِهِ، فَإِنْ تَنَعَّمَ الْأَغْنِيَاءُ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ تَأَلَّمَ، وَإِنْ جَاعَ أَوْ جَاعَتْ عِيَالُهُ تَأَلَّمَ، وَإِنْ أَكَلَ طَعَامًا غَيْرَ مُوَافِقٍ لِهَوَاهُ تَأَلَّمَ، وَإِنْ عُرِّيَ أَوْ كَادَ تَأَلَّمَ، وَإِنْ نَظَرَ إِلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَمَا يَتَوَهَّمُهُ مِنَ الْمُسْتَقْبَلِ الَّذِي يَسْتَعِدُّ لَهُ تَأَلَّمَ، وَإِنْ أَصَابَهُ الْبَرْدُ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِ تَأَلَّمَ؛ فَكُلُّ هَذِهِ وَنَحْوِهَا مَصَائِبُ يُؤْمَرُ بِالصَّبْرِ عَلَيْهَا، وَالِاحْتِسَابِ، وَرَجَاءِ الثَّوَابِ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهَا.
{وَالضَّرَّاءِ} أَيِ: الْمَرَضِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ؛ مِنْ حُمَّى، وَقُرُوحٍ، وَرِيَاحٍ، وَوَجَعِ عُضْوٍ؛ حَتَّى الضِّرْسِ، وَالْإِصْبَعِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ يُحْتَاجُ إِلَى الصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ; لِأَنَّ النَّفْسَ تَضْعُفُ، وَالْبَدَنَ يَأْلَمُ، وَذَلِكَ فِي غَايَةِ الْمَشَقَّةِ عَلَى النُّفُوسِ؛ خُصُوصًا مَعَ تَطَاوُلِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِالصَّبْرِ احْتِسَابًا لِثَوَابِ اللَّهِ -تَعَالَى-.
{وَحِينَ الْبَأْسِ} أَيْ: وَقْتَ الْقِتَالِ لِلْأَعْدَاءِ الْمَأْمُورِ بِقِتَالِهِمْ؛ لِأَنَّ الْجِلَادَ يَشُقُّ غَايَةَ الْمَشَقَّةِ عَلَى النَّفْسِ، وَيَجْزَعُ الْإِنْسَانُ مِنَ الْقَتْلِ، أَوِ الْجِرَاحِ، أَوِ الْأَسْرِ، فَاحْتِيجَ إِلَى الصَّبْرِ فِي ذَلِكَ احْتِسَابًا وَرَجَاءً لِثَوَابِ اللَّهِ -تَعَالَى- الَّذِي مِنْهُ النَّصْرُ وَالْمَعُونَةُ الَّتِي وَعَدَهَا الصَّابِرِينَ.
{أُولَئِكَ} أَيِ: الْمُتَّصِفُونَ بِمَا ذَكَرَ مِنَ الْعَقَائِدِ الْحَسَنَةِ، وَالْأَعْمَالِ الَّتِي هِيَ آثَارُ الْإِيمَانِ وَبُرْهَانُهُ وَنُورُهُ، وَالْأَخْلَاقِ الَّتِي هِيَ جَمَالُ الْإِنْسَانِ وَحَقِيقَةُ الْإِنْسَانِيَّةِ؛ فَأُولَئِكَ هُمُ {الَّذِينَ صَدَقُوا} فِي إِيمَانِهِمْ؛ لِأَنَّ أَعْمَالَهُمْ صَدَّقَتْ إِيمَانَهُمْ، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}؛ لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا الْمَحْظُورَ، وَفَعَلُوا الْمَأْمُورَ; لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى كُلِّ خِصَالِ الْخَيْرِ تَضَمُّنًا وَلُزُومًا؛ لِأَنَّ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ يَدْخُلُ فِيهِ الدِّينُ كُلُّهُ، وَلِأَنَّ الْعِبَادَاتِ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَكْبَرُ الْعِبَادَاتِ، وَمَنْ قَامَ بِهَا كَانَ بِمَا سِوَاهَا أَقْوَمَ؛ فَهَؤُلَاءِ هُمُ الْأَبْرَارُ الصَّادِقُونَ الْمُتَّقُونَ.
وَقَدْ عُلِمَ مَا رَتَّبَ اللَّهُ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ مِنَ الثَّوَابِ الدُّنْيَوِيِّ وَالْأُخْرَوِيِّ مِمَّا لَا يُمْكِنُ تَفْصِيلُهُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ)).
((مِنْ مَقَاصِدِ الصِّيَامِ وَثَمَرَاتِهِ: تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ))
إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ مَقَاصِدِ الصِّيَامِ وَمِنْ أَجَلِّ ثَمَرَاتِهِ: تَحْقِيقَ التَّوْحِيدِ لِلْعَزِيزِ الْمَجِيدِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ فَإِذَا أَخَذَ الْإِنْسَانُ بِهَذَا الْفَرْضِ الْعَظِيمِ -كَمَا يُحِبُّ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ-؛ حَقَّقَ أَصْلًا مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، وَأَتَى بِرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ)). وَالْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
مِنْ مَظَاهِرِ التَّوْحِيدِ فِي رَمَضَانَ: أَنَّ الْمَغْفِرَةَ مُعَلَّقَةٌ عَلَى الْإِيمَانِ بِاللهِ وَالِاحْتِسَابِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَخْبَرَنَا أَنَّ مَنْ قَامَ وَصَامَ، وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا؛ إِيمَانًا بِالَّذِي شَرَعَ، بِالَّذِي فَرَضَ، وَاحْتِسَابًا لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ طَلَبًا لِلْأَجْرِ مِنْ عِنْدِهِ وَمِنْ لَدُنْهُ، مِنْ غَيْرِ مَا عَمَلٍ لِأَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ قَطُّ، وَإِنَّمَا هُوَ تَغْيِيبٌ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي ضَمِيرِ الضَّمِيرِ، وَفِي غَيَاهِبِ الْمَكْنُونِ مِنْ ثَنَايَا النَّفْسِ؛ حَتَّى إِنِ اسْتَطَاعَ الْإِنْسَانُ أَلَّا يُطْلِعَ ذَاتَهُ عَلَى عَمَلِ ذَاتِهِ فَلْيَفْعَلْ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا؛ حَتَّى لَا تَعْلَمُ شِمَالُهُ مَا أَنْفَقَتْ يَمِينُهُ».
«مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ؛ وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».
«مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».
وَمِنْ مَظَاهِرِ التَّوْحِيدِ فِي رَمَضَانَ: أَنَّ النِّيَّةَ مِنْ أَرْكَانِ الصَّوْمِ، ((وَهِيَ عَزْمُ الْقَلْبِ عَلَى الصَّوْمِ؛ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى أَوْ تَقَرُّبًا إِلَيْهِ؛ لِقَوْلِهِ ﷺ: ((إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)).
فَإِنْ كَانَ الصَّوْمُ فَرْضًا؛ فَالنِّيَّةُ تَجِبُ بِلَيْلٍ قَبْلَ الْفَجْرِ؛ لِقَوْلِهِ ﷺ: ((مَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَلَا صِيَامَ لَهُ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَإِنْ كَانَ الصَّوْمُ نَفْلًا؛ صَحَّتِ النِّيَّةُ وَلَوْ بَعْدَ طلُوعِ الْفَجْرِ وَارْتِفَاعِ النَّهَارِ، بِشَرْطِ أَلَّا يَكُونَ قَدْ طَعِمَ شَيْئًا.
*وَمِنْ مَظَاهِرِ التَّوْحِيدِ فِي رَمَضَانَ: أَنَّ اللهَ اخْتَصَّ نَفْسَهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالصَّوْمِ وَجَزَائِهِ؛ فَالصِّيَامُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: ((كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصَّوْمَ؛ فَإِنَّهُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ)).
فَالصَّومُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ خَالِصًا, وَهُوَ يَجْزِيِ عَلَيْهِ بِأَضْعَافٍ مُضَاعَفَةٍ وَبمَا لَا يُعَدُّ وَلَا يُحْصَى؛ شَرِيطَةَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُ فِي ذَلِكَ مُمْتَثِلًا أَمْرَ اللهِ, مُتَّبِعًا هَدْيَ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
*وَمِنْ مَظَاهِرِ التَّوْحِيدِ فِي رَمَضَانَ: أَنَّ الصِّيَامَ مُعَامَلَةٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ؛ فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ فِي هَذَا الصِّيَامِ سِرًّا لَطِيفًا جِدًّا؛ إِذْ هُوَ الْمُعَامَلَةُ الْحَقَّةُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ؛ وَلِذَلِكَ فَهُوَ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ مَحْضَةٌ، لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ سِوَى ذَلِكَ، وَمَا هِيَ فِي الْمُنْتَهَى إِلَّا كَفٌّ بِنِيَّةٍ، وَامْتِنَاعٌ عَنْ تَلَذُّذٍ بِشَهْوَةِ وِقَاعٍ أَوْ شَهْوَةِ طَعَامٍ وَشَرَابٍ، مَعَ إِمْسَاكٍ لِلْجَوَارِحِ عنِ الْوُلُوغِ فِيمَا يَسُوءُ، ثُمَّ إِقْبَالٌ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ عَابِدٍ مُخْبِتٍ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
((مِنْ مَقَاصِدِ الصِّيَامِ وَثَمَرَاتِهِ: تَعْظِيمُ الْمُرَاقَبَةِ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ))
مِنَ الْجَوَانِبِ الْإِيمَانِيَّةِ وَالْأَخْلَاقِيَّةِ فِي الصِّيَامِ قِيمَةُ الْمُرَاقَبَةِ؛ فَإِنَّ الصِّيَامَ سِرٌّ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ، لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ غَيْرَ اللهِ، وَهُوَ دَلِيلُ يَقِينِ الْإِنْسَانِ بِاطِّلَاعِ الْحَقِّ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَلَيْهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَنِ، حَيْثُ يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: 235].
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي خَلَجَاتِ قُلُوبِكُم وَخَطَرَاتِ نُفُوسِكُم، فَخَافُوهُ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ كَثِيرُ السَّتْرِ لِمَنْ تَابَ مِنْ ذُنُوبِهِ، حَلِيمٌ لَا يُعَجِّلُ بِالْعُقُوبَةِ عَلَى مَنْ جَاهَرَ بِالْمَعْصِيَةِ، بَلْ يَسْتُرُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4].
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ اسْتِوَاءً يَلِيقُ بِجَلَالِهِ.
يَعْلَمُ مَا يَدْخُلُ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْمِيَاهِ، وَالْأَحْيَاءِ الْكُبْرَى وَالصُّغْرَى، حَتَّى الْبِكْتِيرْيَاتِ وَمَا هُوَ أَصْغَرُ مِنْهَا، وَيَشْمَلُ الْأَشِعَّةَ وَالْحَرَارَةَ حَتَّى أَصْغَرَ جُزْءٍ مِنْهَا، وَيَشْمَلُ الْقُوَى الْمُخْتَلِفَةَ؛ وَمِنْهَا الْجَاذِبِيَّةُ حَتَّى أَقَل مِقْدَارٍ مِنْهَا، وَمَا يَخْرُجُ مِنَ الْأَرْضِ؛ مِنَ الشَّجَرِ، وَالنَّبَاتِ، وَالعُيُونِ، وَالْمَعَادِنِ، وَالْأَمْوَاتِ إِذَا بُعِثُوا.
وَيَعْلَمُ سُبْحَانَهُ مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنَ الْمَطَرِ وَالثَّلْجِ، والبَرَدِ وَالشُّهُبِ، وَأَشِعَّةِ الشَّمْسِ، وَالْأَنْوَارِ، وَأَنْوَاعِ الْبَرَكَاتِ، وَالْمَلَائِكَةِ.
وَيَعْلَمُ كُلَّ مَا يَعْرُجُ فِي السَّمَاءِ صَاعِدًا مِنَ الْأَرْضِ، أَوْ مِنْ إِحْدَى السَّمَوَاتِ إِلَى مَا فَوْقَهَا، إِلَى آخِرِ بُعْدٍ مِنْ أَبْعَادِ السَّمَوَاتِ؛ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَرْوَاحِ وَالدُّعَاءِ وَأَعْمَالِ الْعِبَادِ.
وَهُوَ -سُبْحَانَهُ- مَعَكُمْ بِعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ أَيْنَمَا كُنْتُمْ، وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، فَيُجَازِيكُمْ عَلَى حَسَبِ أَعْمَالِكُمْ.
وَقَالَ تَعَالَى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19].
يَعْلَمُ اللهُ -سُبْحَانَهُ- مُسَارَقَةَ الْأَعْيُنِ لِلنَّظَرِ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ، وَيَعْلَمُ مُضْمَرَاتِ الْقُلُوبِ مِمَّا لَا يُظْهِرُهُ أَصْحَابُهَا؛ مِنَ الْكُفْرِ الَّذِي يُخْفِيهِ الْمُنَافِقُونَ، وَمِنَ الرِّيَاءِ وَالْكَرَاهِيَةِ وَالْحُبِّ، وَمِنَ النِّيَّاتِ وَالْإِرَادَاتِ وَالرَّغَبَاتِ، فَيَجْزِي كُلَّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ.
إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ فِي هَذَا الصِّيَامِ سِرًّا لَطِيفًا جِدًّا؛ إِذْ هُوَ الْمُعَامَلَةُ الْحَقَّةُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ؛ وَلِذَلِكَ فَهُوَ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ مَحْضَةٌ، لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ سِوَى ذَلِكَ، وَمَا هِيَ فِي الْمُنْتَهَى إِلَّا كَفٌّ بِنِيَّةٍ، وَامْتِنَاعٌ عَنْ تَلَذُّذٍ بِشَهْوَةِ وَقَاعٍ أَوْ شَهْوَةِ طَعَامٍ وَشَرَابٍ، مَعَ إِمْسَاكٍ لِلْجَوَارِحِ عنِ الْوُلُوغِ فِيمَا يَسُوءُ.
ثُمَّ إِقْبَالٌ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ عَابِدٍ مُخْبِتٍ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
«فَالصَّوْمُ هُوَ لِجَامُ الْمُتَّقِينَ، وَجُنَّةُ الْمُحَارِبِينَ، وَرِيَاضَةُ الْأَبْرَارِ الْمُقَرَّبِينَ، وَهُوَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَعْمَالِ، فَإِنَّ الصَّائِمَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا وَإِنَّمَا يَتْرُكُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ؛ مِنْ أَجْلِ مَعْبُودِهِ.
فَهُوَ تَرْكُ مَحْبُوبَاتِ النَّفْسِ وَتَلَذُّذَاتِهَا؛ إِيثَارًا لِمَحَبَّةِ اللهِ وَمَرْضَاتِهِ.
وَالصِّيَامُ سِرٌّ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ، لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ سِوَاهُ، وَالْعِبَادُ قَدْ يَطَّلِعُونَ مِنْهُ عَلَى تَرْكِ الْمُفْطِرَاتِ الظَّاهِرَةِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ تَرَكَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِ مَعْبُودِهِ وَمَوْلَاهُ؛ فَهُوَ أَمْرٌ لَا يطَّلِعُ عَلَيْهِ بَشَرٌ، وَذَلِكَ حَقِيقَةُ الصَّوْمِ».
قَالَ ﷺ: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمَائَةِ ضِعْفٍ، قَالَ اللهُ تَعَاَلى: إِلاَّ الصَّوْمَ فِإِنَّهُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ لِأَجْلِي، وَلِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ، وَلَخُلُوفِ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ المِسْكِ».
يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ لِأَجْلِي، فَإِذَنْ؛ الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ.
((مِنْ مَقَاصِدِ الصِّيَامِ: تَرْبِيَةُ الْعَبْدِ عَلَى مُجَانَبَةِ الْمُحَرَّمَاتِ))
إِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا صَامَ صِيَامًا صَحِيحًا؛ تَقَرَّبَ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ.
مِنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا الرَّسُولُ ﷺ: كَقَوْلِ الزُّورِ، وَالْعَمَلِ بِهِ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)): ((مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ، وَالْعَمَلَ بِهِ؛ فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ)).
وَالْإِنْسَانُ يَدَعُ الْمُحَرَّمَاتِ؛ لِعَارِضِ الصَّوْمِ، فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ تَحْرِيمًا عَارِضًا، وَهِيَ مَا أَحَلَّ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالشَّهْوَةِ الَّتِي أَحَلَّهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَيَتْرُكُ الشَّهَوَاتِ؛ كَالْجِمَاعِ وَدَوَاعِيهِ، وَالنَّظَرِ وَالِاسْتِمْتَاعِ بِالْمُحَرَّمَاتِ.
وَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُرَاقِبَ ذَلِكَ فِي الْوَسَائِلِ الَّتِي جَدَّتْ فِي الْحَيَاةِ الْمُعَاصِرَةِ؛ كَالْهَاتِفِ النَّقَّالِ، وَكَمَا يَكُونُ فِي الْمِذْيَاعِ، وَفِي التِّلْفَازِ، وَفِي الشَّبَكَةِ الْعَنْكَبُوتِيَّةِ الَّتِي ابْتُلِيَ بِهَا كَثِيرٌ مِنَ الْخَلْقِ، يُكِبُّونَ عَلَيْهَا كَمَا يُكِبُّ الْعَابِدُ عَلَى صَنَمِهِ!!
وَهِيَ تَأْخُذُ مِنْهُمْ تَقْوَاهُمْ، وَتَسْتَلِبُ مِنْهُمْ إِيمَانَهُمْ، وَتُعَلِّمُهُمُ الْكَذِبَ، وَالنِّفَاقَ، وَالْخِدَاعَ.
فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي جَدَّتْ؛ فَإِنَّهَا -بِلَا شَكٍّ- تُؤَثِّرُ فِي حَيَاتِهِ؛ فَضْلًا عَنْ تَأْثِيرِهَا فِي صِيَامِهِ.
((مِنْ مَقَاصِدِ الصِّيَامِ: تَرْبِيَةُ الْمُسْلِمِ عَلَى الصَّبْرِ))
شَهْرُ رَمَضَانَ شَهْرُ الصَّوْمِ، وَهُوَ شَهْرُ الصَّبْرِ، فَفِي رَمَضَانَ صَبْرٌ عَنِ الشَّهَوَاتِ وَالْمَلَذَّاتِ، وَعَلَى قَدْرِ الصَّبْرِ يَأْتِي الْأَجْرُ مِنَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].
الصِّيَامُ مَدْرَسَةٌ لِلصَّبْرِ بِكُلِّ صُوَرِهِ؛ فَفِي شَهْرِ رَمَضَانَ تَتَعَلَّمُ الصَّبْرَ، وَالصَّبْرُ فِيهِ إِنَّمَا يَكُونُ صَبْرًا عَلَى الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ وَالْأَمْرِ الْكَوْنِيِّ؛ لِأَنَّ أَوَامِرَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ المُنَزَّلَةَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ شَرْعِيَّةٌ وَكَوْنِيَّةٌ.
وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ، وَخَلَقَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ، وَجَعَلَ الْأَمْرَ مُتَنَزَّلًا بَيْنَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، شَرْعًا وَقَدَرًا؛ لِكَيْ نَعْرِفَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَهَذَا تَوْحِيدُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ.
وَتَوْحِيدُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ مُسْتَلْزِمٌ لِتَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ، وَمُسْتَلْزِمٌ لِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، فَهُوَ تَوْحِيدٌ كُلُّهُ، {اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطَّلَاق: 12].
مِثْلُهُنَّ عَدَدًا لَا صِفَةً، فَشَتَّانَ مَا بَيْنَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي الصِّفَةِ وَالْكَمِّ وَالْمِقْدَارِ، وَإِنَّمَا جَعَلَ هَذِهِ سَبْعًا وَهَذِهِ سَبْعًا، فَهِيَ كَمِثْلِهَا عَدَدًا لَا صِفَةً، {اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} قَدَرًا وَشَرْعًا.
الْأَوَامِرُ الشَّرْعِيَّةُ فِيمَا يَصْلُحُ بِهِ الخَلْقُ، وَمَا يُوحِيهِ الرَّبُّ -جَلَّ وَعَلَا- لِرُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ؛ لِهِدَايَةِ النَّاسِ إِلَى الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ، وَهُوَ الْوَحْيُ.
وَسُمِّيَ وَحْيًا؛ لِأَنَّهُ تَحْيَا بِهِ الْقُلُوبُ، فَالْحَيَا الَّذِي هُوَ الْمَطَرُ تَحْيَا بِهِ الْأَرْضُ بَعْدَ مَوْتِهَا إِذَا مَا أَصَابَهَا غَيْثُ السَّمَاءِ بِأَمْرِ رَبِّهَا وَخَالِقِهَا وَإِلَهِهَا، فَكَذَلِكَ الْوَحْيُ، تَحْيَا بِهِ الْقُلُوبُ المَيْتَةُ، وَتُسْتَنْقَذُ بِهِ الْأَرْوَاحُ الشَّارِدَةُ، وَتُعَادُ بِهِ الْأَجْسَامُ عَنْ شُرُودِهَا وَنِفَارِهَا؛ لِكَيْ تُقَامَ عَلَى صِرَاطِ رَبِّهَا.
فَيُنَزِّلُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ الْأَمْرَ الشَّرْعِيَّ، وَالْأَمْرَ الْقَدَرِيَّ الْكَوْنِيَّ فِي تَصْرِيفِ خَلْقِهِ، فِي الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتِةِ، فِي الرِّزْقِ، فِي المَعَزَّةِ وَالمَذَلَّةِ، فِي الْإِعْزَازِ وَالْإِذْلَالِ، فِي الرَّفْعِ وَالْخَفْضِ، فِي الْعَطَاءِ وَالمَنْعِ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، لَا رَادَّ لِقَضَائِهِ وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، {يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} قَدَرًا وَشَرْعًا {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطَّلَاق: 12].
يُعَلِّمُنَا هَذَا الشَّهْرُ وَالصِّيَامُ كَيْفَ نَصْبِرُ عَلَى أَوَامِرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الشَّرْعِيَّةِ، وَعَلَى أَقْدَارِهِ الْكَوْنِيَّةِ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فَرَضَ عَلَيْنَا الصِّيَامَ، وَفِيهِ حِرْمَانٌ.
فَالْحِرْمَانُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالشَّهْوَةِ فِيهِ ضَبْطٌ لِلْغَرِيزَةِ مِنْ مَطْعَمٍ وَمَنْكَحٍ، فِيهِ ضَبْطٌ لِلنَّفْسِ عَلَى صِرَاطِ اللهِ المُسْتَقِيمِ.
وَهَذَا أَمْرٌ تَتَمَلْمَلُ مِنْهُ النُّفُوسُ، وَتَجْزَعُ مِنْهُ الْقُلُوبُ إِلَّا إِذَا اطْمَأَنَّتْ بِذِكْرِ رَبِّهَا، وَأَنَابَتْ إِلَى أَوَامِرِ نَبِيِّهَا ﷺ، فَفِي هَذَا مَشَقَّةٌ، فَيَحْتَسِبُ المَرْءُ مَا يَجِدُ مِنَ اللَّأْوَاءِ وَمِنَ الْعَنَاءِ، وَمِنَ الْعَطَشِ، وَمِنَ الجُوعِ، وَمِنَ الحِرْمَانِ...هَذَا كُلُّهُ يَحْتَسِبُهُ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
وَهُوَ يَصْبِرُ عَلَى مَا فَرَضَ عَلَيْهِ رَبُّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ أَمْرٍ، وَيَكُونُ مُحْتَسِبًا فِيمَا أَصَابَهُ مِنَ الْأَمْرِ شَرْعًا وَقَدَرًا، وَلَا يَنَالُهُ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ إِلَّا الخَيْرُ.
يُعَلِّمُنَا هَذَا الشَّهْرُ بِصِيَامِهِ كَيْفَ نَفْزَعُ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِحِرْمَانِ النَّفْسِ مِنْ بَعْضِ مَا تُحِبُّ؛ حَتَّى نُحِسَّ بِالمَحْرُومِ حَقًّا وَصِدْقًا: بِمَنْ لَمْ يُؤْتِهِ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَا آتَانَا بِالَّذِي يَجِدُ مَسَّ الجُوعِ، وَالَّذِي يُعَانِي مِنْ حَبْسِ الْقَطْرِ عَنِ الْأَرْضِ، فَلَا يَجِدُ قَطْرَةَ المَاءِ، وَمَا أَكْثَرَ الَّذِينَ يُعَانُونَ مِنَ الجَفَافِ فِي الْعَالِمِ!!
فَإِذَا أَنْتَ وَصَلْتَ إِلَى الرِّيِّ؛ فَاحْمَدِ اللهَ عَلَى مَا آتَاكَ، وَقَدْ أَنْعَمَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ مَلْكِكَ، وَبِغَيْرِ قُدْرَةٍ مِنْكَ وَلَا حَوْلٍ وَلَا قُوَّةٍ وَلَا طَوْلٍ، وَإِنَّمَا هُوَ المُتَفَضِّلُ وَحْدَهُ، وَهُوَ المَانُّ وَحْدَهُ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَيَقْضِي بِمَا يُرِيدُ.
فِي الصِّيَامِ صَبْرٌ عَلَى أَدَاءِ الطَّاعَاتِ، وَصَبْرٌ عَلَى اجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَصَبْرٌ عَلَى الِامْتِنَاعِ عَنِ الشَّهَوَاتِ؛ لِذَلِكَ وَصَفَ نَبِيُّنَا ﷺ شَهْرَ رَمَضَانَ بِشَهْرِ الصَّبْرِ، حَيْثُ يَقُولُ ﷺ: ((صَومُ شَهرِ الصَّبْرِ وَثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ يُذْهِبْنَ وَحَرَ الصَّدْرِ)).
وَوَحَرُ الصَّدْرِ: غِشُّهُ، وَوَسَاوِسُهُ.
جَدِيرٌ بِالصَّائِمِ أَنْ يَتَخَلَّقَ بِخُلُقِ الصَّبْرِ؛ فَيَكْظِمُ غَيْظَهُ، وَيَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَهُ، وَيُعْطِي مَنْ حَرَمَهُ، وَيُحْسِنُ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهِ، حَيْثُ يَقُولُ نَبِيُّنَا ﷺ: «قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ, فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أحَدِكُم؛ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ, إِنِّي صَائِمٌ». رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَيْسَ الصِّيامُ مِنَ الْأكْلِ وَالشُّرْبِ، إِنَّمَا الصِّيامُ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ؛ فَإِنْ سَابَّكَ أَحَدٌ أَوْ جَهِلَ عَلَيْكَ فَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ, إِنِّي صَائِمٌ». رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ خُزَيْمَةَ عَنهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «لَا تَسَابَّ وَأَنْتَ صَائِمٌ، فَإِنْ سَابَّكَ أَحَدٌ فَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ، وَإِنْ كُنْتَ قَائِمًا فَاجْلِسْ». وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ.
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)): ((مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ، وَالْعَمَلَ بِهِ؛ فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ)).
((مِنْ مَقَاصِدِ الصِّيَامِ وَثَمَرَاتِهِ: وَحْدَةُ الْأُمَّةِ وَائْتِلَافُهَا))
عِبَادَ اللهِ! الرَّسُولُ ﷺ كَانَ حَرِيصًا غَايَةَ الْحِرْصِ عَلَى جَمْعِ الشَّمْلِ، وَنَبْذِ الْفُرْقَةِ، وَتَرْسِيخِ الِائْتِلَافِ، وَنَبْذِ الْخِلَافِ، حَتَّى فِي الشَّكْلِ الظَّاهِرِ.
كَانَ يَحْرِصُ ﷺ غَايَةَ الْحِرْصِ عَلَى أَنْ تَكُونَ الْعِبَادَةُ عَلَى صُورَةٍ مُتَمَاثِلَةٍ، فَإِذَا قَامَ النَّاسُ عَلَى صُفُوفِهِمْ فِي صَلَاتِهِمْ، وَقَامَ أَمَامَهُمْ ﷺ إِمَامًا لَهُمْ؛ يَلْتَفِتُ إِلَيْهِمْ، فَيَقُولُ ﷺ -مُحَذِّرًا وَمُبَشِّرًا، وَآمِرًا وَمُنْذِرًا-: ((اسْتَوُوا وَلَا تَخْتَلِفُوا؛ فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ)).
وَجَعَلَ الرَّسُولُ ﷺ الِاخْتِلَافَ الظَّاهِرَ -حَتَّى فِي الْوُقُوفِ فِي الصَّفِّ فِي الصَّلَاةِ بِأَنْ يَتَقَدَّمَ رَجُلٌ شَيْئًا أَوْ يَتَأَخَّرَ رَجُلٌ شَيْئًا- جَعَلَ هَذَا الِاخْتِلَافَ مَدْعَاةً لِاخْتِلَافِ الْقُلُوبِ، وَتَأْثِيرًا لِلظَّوَاهِرِ عَلَى الْبَوَاطِنِ بِانْعِكَاسَاتٍ غَيْرِ مَرْغُوبَةٍ، ((وَلَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ)).
وَجَاءَ النَّبِيُّ ﷺ بِعِبَادَاتِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمَةِ، وَهِيَ مَهْمَا نَظَرْتَ فِيهَا وَتَأَمَّلْتَ فِي مَطَاوِيهَا وَجَدْتَ أَنَّهَا تَدْعُو ظَاهِرًا وَبَاطِنًا إِلَى وَحْدَةِ الْأُمَّةِ، وَالِانْسِجَامِ الظَّاهِرِ بَيْنَ أَبْنَائِهَا.
حَتَّى إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَجْعَلُ ذَلِكَ عَلَى التَّدْرِيجِ شَيْئًا فَشَيْئًا، حَتَّى فِي الْعِبَادَةِ الْوَاحِدَةِ، فَيَجْعَلُ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ ﷺ النَّوَافِلَ فِي الْبُيُوتِ صَلَاةً وَقِيَامًا؛ لِأَنَّهَا مَدْعَاةٌ لِاجْتِهَادَاتٍ عَلَى حَسَبِ الْقُدْرَةِ.
فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلْيَكُنْ كُلُّ إِنْسَانٍ فِيهَا بِحَيْثَ لَا يَرَاهُ أَخُوهُ، فَذَلِكَ أَبْعَدُ عَنِ الرِّيَاءِ، وَأَدْنَى إِلَى الْإِخْلَاصِ، ثُمَّ هُوَ أَبْعَدُ عَنِ الِاخْتِلَافِ الظَّاهِرِ مَهْمَا كَانَ الْأَمْرُ، ثُمَّ إِذَا جَاءَ وَقْتُ الصَّلَاةِ نَفَرَ الْجَمْعُ كُلُّهُمْ إِلَى بُيُوتِ رَبِّهِمْ؛ لِكَيْ يَقُومُوا وَرَاءَ إِمَامٍ وَاحِدٍ، يَقُومُونُ بِقِيَامِهِ، وَيَرْكَعُونَ بِرُكُوعِهِ، وَيَسْجُدُونَ بِسُجُودِهِ.
وَنَفَّرَ وَحَذَّرَ، وَرَغَّبَ وَرَهَّبَ فِي الْمُتَابَعَةِ لِلْإِمَامِ وَعَدَمِ مُسَابَقَتِهِ ، حَتَّى إِنَّهُ رَهَّبَ مِنْ ذَلِكَ: بِأَنَّ الَّذِي يَرْفَعُ قَبْلَ إِمَامِهِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ حَالِ رُكُوعِهِ، يُخْشَى عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَوَّلَ رَأْسُهُ إِلَى رَأْسِ حِمَارٍ؛ لِكَيْ يَكُونَ الْأَمْرُ وَاحِدًا بِلَا مُسَابَقَةٍ، وَإِنَّمَا عَلَى اتِّبَاعٍ مُتَسَاوِقٍ بِغَيْرِ مَا سَبْقٍ وَلَا إِبْطَاءٍ.
ثُمَّ جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هَذَا الْجَمْعَ يَكُونُ فِي مَسَاجِدِ الْأَحْيَاءِ مَدْفُوعًا إِلَى مَسْجِدِ الْجُمُعَةِ الْجَامِعِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُصَلِّيَ جَمِيعُ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ -مَهْمَا قَدَرُوا عَلَى ذَلِكَ- فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ هُوَ الْمَسْجِدُ الْجَامِعُ، وَرَاءَ إِمَامٍ وَاحِدٍ، يَسْمَعُونَ كَلَامًا وَاحِدًا، وَيَلْقَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا.
فَإِذَا مَا مَرَّ مَرُّ الْعَامِ وَأَتَى الْعِيدَانِ، أَخْرَجَ اللهُ الْجَمْعَ إِلَى الْخَلَاءِ؛ لِكَيْ يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلِكَيْ يَبْدُو عِزُّ الْإِسْلَامِ بِتَكْبِيرٍ فِيهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
ثُمَّ إِذَا مَا مَرَّ مَرُّ الْأَيَّامِ نَفَرَ الْجَمْعُ -مِمَّنْ قَدَّرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ ذَلِكَ- فَذَهَبُوا إِلَى صَعِيدٍ وَاحِدٍ فِي عَرَفَاتٍ، عَلَى هَيْئَةٍ وَاحِدَةٍ، بِتَلْبِيَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِقْبَالٍ وَاحِدٍ، وَعَطَاءٍ يَخْتَلِفُ عَلَى حَسَبِ نِيَّاتِ الْقُلُوبِ.
مَهْمَا نَظَرْتَ فِي هَذَا الدِّينِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَجَدْتَ دَعْوَةَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لِلْوَحْدَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُمْ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى.
هَذِهِ مُنَاسَبَةٌ مِنَ الْمُنَاسَبَاتِ الَّتِي جَعَلَ اللهُ فِيهَا مِنَ الْفَضْلِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ وَمِنَ الْخَيْرِ مَا هُوَ مَشْهُورٌ مَشْهُودٌ؛ هَذَا الشَّهْرُ الَّذِي فَرَضَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ رَبُّهُمْ صِيَامَهُ.
هَذِهِ الْمُنَاسَبَةُ الَّتِي كَرَّمَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ ظَرْفًا لِنُزُولِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ فِيهَا، فَشَرَّفَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَذِهِ الْفَرِيضَةِ، وَجَعَلَ هَذَا الشَّهْرَ مُبَارَكًا أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ.
وَجَعَلَ اللهُ فِيهِ مِنَ الْعِتْقِ مِنَ النَّارِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ الْعُلَى، وَجَعَلَ اللهُ فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ مُتَنَزَّلًا وَمُتَفَجِّرًا مِنَ الْأَرْضِ مَا لَا يُقَادَرُ قَدْرُهُ، وَلَا يَعْرِفُ مَدَاهُ إِلَّا الَّذِي أَعْطَاهُ.
هَذَا الشَّهْرُ الَّذِي هُوَ تَوْحِيدٌ ظَاهِرٌ لِلْأُمَّةِ بِمَسِّ جُوعٍ وَعَطَشٍ فِيهَا، وَإِقْبَالٍ بِالْغَرِيزَةِ الْبَشَرِيَّةِ عَلَى الرِّيِّ، وَالْأَكْلِ بَعْدَ طُولِ السَّغَبِ وَالنَّصَبِ وَالتَّعَبِ.
جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هَذَا الْأَمْرَ بِهَذِهِ الصُّورَةِ ظَاهِرًا مُؤَدِّيًا إِلَى ائْتِلَافِهِمْ، وَإِلَى اجْتِمَاعِ شَمْلِهِمْ، وَإِلَى تَرَاحُمِهِمْ، وَإِزَالَةِ مَا بَيْنَهُمْ مِمَّا عَلَقَ بِقُلُوبِهِمْ مِنْ شَوَائِبِهِمْ وَأَحْقَادِهِمْ وَأَحْسَادِهِمْ، وَمَا يَتَأَتَّى إِلَى الْقُلُوبِ مِنْ أُمُورِ الْغِلِّ وَمَا يَشُوبُهَا مِنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ الَّتِي لَا تَسُرُّ وَإِنَّمَا تَضُرُّ.
جَعَلَ اللهُ هَذَا الشَّهْرَ مَدْعَاةً لِذَلِكَ، فَهُوَ أَمْرٌ شَرْعِيٌّ لَا أَمْرٌ كَوْنِيٌّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَذَلِكَ -ضَرْبَةَ لَازِبٍ- لَكَانَ، وَلَكِنْ هُوَ أَمَرَ بِذَلِكَ، فَمِنْهُمُ الطَّائِعُ وَمِنْهُمُ الْعَاصِي، وَلَا يَهْلِكُ عَلَى اللهِ إِلَّا هَالِكٌ.
جَعَلَ اللهُ الشَّهْرَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ، وَعَلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى الْوَحْدَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، حَتَّى فِي أَصْلِ الْجُوعِ بَعْدَ نَفْيِ الشِّبَعِ، وَبَعْدَ نَفْيِ الرِّيِّ، وَبَعْدَ التَّخَلِّي عَنْ مَظَاهِرَ آتَاهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَنْ أَرَادَ مِنْ عِبَادَةٍ؛ تَمَلُّكًا وَقُدْرَةً.
ثُمَّ يَجْعَلُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ذَلِكَ مُرْتَبِطًا بِأَذَانٍ وَاحِدٍ بَدْءًا وَمُنْتَهًى، وَبِقِيَامٍ وَاحِدٍ فِي مَسَاجِدِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
جَعَلَ اللهُ الشَّهْرَ بِمَا فِيهِ مِنْ تِلْكَ النَّفْحَاتِ الْقُدُسِيَّةِ الَّتِي تَتَنَزَّلُ عَلَى الْبَرِيَّةِ فِي هَذَا الشَّهْرِ مِمَّنْ أَحْسَنَ اسْتِقْبَالَهَا بِقَلْبٍ تَقِيٍّ وَضَمِيرٍ نَقِيٍّ.
جَعَلَ اللهُ الشَّهْرَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ وَعَلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ مَدْعَاةً لِلْأُخُوَّةِ فِي أَجْلَى مَجَالِيهَا، وَمَدْعَاةً لِلتَّوَحُّدِ عَلَى أَعْمَقِ صُوَرِهِ وَأَصْفَاهَا.
جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الشَّهْرَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ وَعَلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ.
النَّاسُ إِذَا صَامُوا الشَّهْرَ؛ اجْتَمَعُوا جَمِيعًا كَأُمَّةٍ وَاحِدَةٍ؛ يَأْكُلُونَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَيَصُومُونَ مُمْسِكِينَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ.
وَالرَّسُولُ ﷺ لَمْ يَأْتِ بِشَرْعٍ يُفَرِّقُ النَّاسَ، وَإِنَّمَا أَتَى الرَّسُولُ ﷺ بِمَا يُوَحِّدُ الْأُمَّةَ، وَيَجْعَلُهَا جَسَدًا وَاحِدًا، نَابِضًا بِقَلْبٍ وَاحِدٍ، مُتَحَرِّكًا بِحَيَاةٍ وَاحِدَةٍ، يَتَأَلَّمُ الْأَلَمَ كُلَّهُ إِذَا مَا أُصِيبَ عُضْوٌ مِنْ أَعْضَائِهِ.
كَذَلِكَ جَاءَ مُحَمَّدٌ ﷺ دَاعِيَةَ ائْتِلَافٍ لَا دَاعِيَةَ اخْتِلَافٍ؛ لِكَيْ يَمْحُوَ عَنِ الْقُلُوبِ أَوْضَارَهَا وَقَاذُورَاتِهَا؛ لِكَيْ تَكُونَ صَالِحَةً، وَمَحَلًّا قَابِلًا لِتَلَقِّي أَنْوَارِ عَطَاءَاتِ رَبِّهَا.
جَاءَ الرَّسُولُ ﷺ؛ لِيُخْرِجَ الْإِنْسَانَ مِنْ حَدِّ الْحَيَوَانِيَّةِ إِلَى حَدِّ الْإِنْسَانِيَّةِ الَّتِي أَرَادَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِلْإِنْسَانِ.
لَمْ يَأْتِ مُحَمَّدٌ ﷺ بِشَرْعٍ فِيهِ دَعْوَةٌ لِلِاخْتِلَافِ، وَإِنَّمَا يَتَأَتَّى الِاخْتِلَافُ لِأَسْبَابٍ وَلِأَسْبَابٍ كَثِيرَةٍ تُحْصَرُ أَوْ لَا تُحْصَرُ، لَيْسَ هَذَا هُوَ الشَّأْنُ هَاهُنَا وَإِنَّمَا يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَلْتَفِتَ إِلَى مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ فِي أَجْلَى مَعَانِيهَا، وَأَبْهَى مَجَالِيَها عَلَى حَسَبِ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ.
((مِنْ أَهَمِّ مَقَاصِدِ الصِّيَامِ: التَّكَافُلُ وَالتَّرَاحُمُ))
إِنَّ مِنْ أَهَمِّ مَقَاصِدِ الصِّيَامِ التَّكَافُلَ وَالتَّرَاحُمَ، وَشُعُورَ الْإِنْسَانِ بِحَالِ مَنْ حَوْلَهُ مِنَ الْفُقَرَاءِ وَالْمُحْتَاجِينَ؛ فَيَحْنُو عَلَيْهِمْ، وَيُوَاسِيَهُمْ، وَيَقْضِي حَوَائجَهُمْ.
يَشْعُرُ الْغَنِيُّ بِنِعْمَةِ اللهِ، فَيَعْطِفُ عَلَى الْفَقِيرِ، وَيُقَلِّلُ مِنْ مَزَالِقِ وَوَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ الَّذِي يَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ.
فِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: أَيُّ الإِسْلَامِ خَيْرٌ؟
قَالَ: «تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ». أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وَعَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟
قَالَ: «إِدْخَالُكَ السُّرُورَ عَلَى مُؤْمِنٍ، أشْبَعْتَهُ مِنْ جُوعٍ، كَسَوْتَهُ مِنْ عُرْيٍ، قَضْيْتَ لَهُ حَاجَةً، أَعَنْتَهُ، فَرَّجْتَ لَهُ كَرْبًا بِإِذْنِ رَبِّهِ». أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي «الْأَوْسَطِ»، وَالْحَدِيثُ حَسَنٌ لِغَيْرِهِ.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ». أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وَإِذَا كَانَ أَجْرُ التَّكَافُلِ وَالتَّرَاحُمِ وَالْجُودِ وَإِطْعَامِ الطَّعَامِ عَظِيمًا؛ فَإِنَّهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ أَعْظَمُ أَجْرًا وَأَفْضَلُ مَثُوبَةً؛ فَقَدْ «كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالخَيْرِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ». أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا». أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَه بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ لِلْعِبَادَاتِ مَقَاصِدَ، وَبَيَّنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَنَا بَعْضَ تِلْكَ الْمَقَاصِدِ، وَالْإِنْسَانُ عِنْدَمَا يَأْتِي بِالْعِبَادَةِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ يَأْتِي بِهَا مُمْتَثِلًا، مُحْتَسِبًا الْمَشَقَّةَ الَّتِي يُلَاقِيهَا وَالْعَنَتَ، كَمَا يَكُونُ فِي الصِّيَامِ إِذَا أَتَى فِي أَيَّامِ الْحَرِّ؛ فَعَلَى الظَّمَأِ وَشِدَّةِ الْعَطَشِ، وَعَلَى الْمُعَانَاةِ فِيهِ، عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ يَكُونُ الْأَجْرُ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
هَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي بَيَّنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَنَا مَا فِيهَا مِنَ الْمَقَاصِدِ، عَلِمْنَا مِنْهَا مَا عَلِمْنَا، وَوَرَاءَ ذَلِكَ أَنَّنَا نَتَعَبَّدُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ بِالْإِتْيَانِ بِهَا؛ لِأَنَّ الْعِبَادَاتِ غَيْرُ مَعْلُومَةِ الْمَعْنَى، بِمَعْنَى أَنَّنَا نَتَعَبَّدُ بِهَا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَا نَبْحَثُ عَنِ الْعِلَلِ.
لَا نَقُولُ: لِمَ فَرَضَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْنَا الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ خَمْسًا بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ؟
لِمَ لَمْ تَكُنْ زِيَادَةً عَنْ ذَلِكَ أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ؟
فَالْحِكْمَةُ أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَرَضَ ذَلِكَ.
فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَغْيِيرِ سُلُوكِهِ، وَعَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي الْإِتْيَانِ بِالْعِبَادَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَعَلَيْنَا أَنْ نُفَتِّشَ فِي قُلُوبِنَا، فَهَذَا هُوَ الْمَقْصِدُ الْأَعْظَمُ.
عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَبْحَثَ عَنِ الْآفَاتِ الَّتِي تُمَازِجُ الْقُلُوبَ وَتُخَالِطُ الْأَرْوَاحَ، حَتَّى يُخَلِّصَ نَفْسَهُ مِنْ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْعَمَلَ مَهْمَا كَثُرَ مَعَ هَذَا الشَّوْبِ لَا يُتَقَبَّلُ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالْعَمَلُ إِذَا كَانَ يَسِيرًا بِإِخْلَاصٍ وَصِدْقٍ؛ تَقَبَّلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27].
فَمَا أَجْمَلَ أَنْ نَتَعَلَّمَ مِنْ مَدْرَسَةِ الصِّيَامِ الدُّرُوسَ الْإِيمَانِيَّةَ، وَالْفَضَائِلَ الْأَخْلَاقِيَّةَ، حَتَّى نَصِلَ إِلَى غَايَةِ الصِّيَامِ وَحَقِيقَتِهِ.
((سُلُوكُ الصَّائِمِينَ الْمُتَّقِينَ))
أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي «صَحِيحِهِ» بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ النَّبِي ﷺ: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الْزُّوْرِ وَالْعَمَلَ بِهِ؛ فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ».
وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ لِابْنِ مَاجَه: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الْزُّوْرِ، وَالْجَهْلَ، وَالْعَمَلَ بِهِ؛ فَلَيْسَ لِلهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ».
وَالْجَهْلُ هَاهُنَا: ضِدُّ الْحِلْمِ، لَيْسَ بِالَّذِي هُوَ بِضِدِّ الْعِلْمِ.
«مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّوْرِ وَالْجَهْلَ -أَيْ: السَّفَهَ وَالنَّزَقَ، وَالطَّيْشَ وَخِفَّةَ الْعَقْلِ- وَالْعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ».
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوْعُ وَالْعَطَشُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا الْسَّهَرُ». رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه -وَاللَّفْظُ لَهُ-.
وَالْحَدِيثُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَقَدْ جَمَعَ النَّبِيُّ ﷺ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي قَوْلِهِ: «لَيْسَ الصِّيَامُ مِنَ الْأَكْلِ وَالْشُّرْبِ؛ إِنَّمَا الصِّيَامُ مِنَ الْلَّغْوِ وَالْرَّفَثِ». رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
فَيَتَأَكَّدُ عَلَى الصَّائِمِ الْقِيَامُ بِالْوَاجِبَاتِ، وَكَذَلِكَ اجْتِنَابُ الْمُحَرَّمَاتِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، فَلَا يَغْتَابُ النَّاسَ، وَلَا يَكْذِبُ، وَلَا يَنِمُّ بَيْنَهُمْ، وَلَا يَبِيعُ بَيْعًا مُحَرَّمًا، يَجْتَنِبُ جَمِيعَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَإِذَا فَعَلَ الْإِنْسَانُ ذَلِكَ فِي شَهْرٍ كَامِلٍ؛ فَإِنَّ نَفْسَهُ سَوْفَ تَسْتَقِيمُ بَقِيَّةَ الْعَامِ.
وَلَكِنَّ الْمُؤسِفَ: أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الصَّائِمِينَ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ يَوْمِ صَوْمِهِمْ وَيَوْمِ فِطْرِهِمْ، فَهُمْ عَلَى الْعَادَةِ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا مِنْ تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ وَفِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَلَا تَشْعُرُ أَنَّ عَلَيْهِ وَقَارَ الصَّوْمِ.
وَهَذِهِ الْأَفْعَالُ لَا تُبْطِلُ الصَّوْمَ؛ وَلَكِنْ تَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ، وَرُبَّمَا عِنْدَ الْمُعَادَلَةِ تَرْجَحُ عَلَى أَجْرِ الصَّوْمِ، فَيَضِيعُ ثَوَابُهُ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ --رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَيْضًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ, فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أحَدِكُم؛ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ, إِنِّي صَائِمٌ». رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَيْسَ الصِّيامُ مِنَ الْأكْلِ وَالشُّرْبِ، إِنَّمَا الصِّيامُ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ؛ فَإِنْ سَابَّكَ أَحَدٌ أَوْ جَهِلَ عَلَيْكَ فَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ, إِنِّي صَائِمٌ». رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ خُزَيْمَةَ عَنهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «لَا تَسَابَّ وَأَنْتَ صَائِمٌ، فَإِنْ سَابَّكَ أَحَدٌ فَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ، وَإِنْ كُنْتَ قَائِمًا فَاجْلِسْ». وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ.
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْعِبَادَةَ الْحَقِيقِيَّةَ تَدْفَعُ صَاحِبَهَا إِلَى فِعْلِ الْخَيْرَاتِ، وَالتَّحَلِّي بِمَكَارمِ الْأَخْلَاقِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ، وَالِانْكِفَافِ عَنِ الْأَذَى وَالشَّرِّ، وَكُلُّ عِبَادَةٍ لَا تُثْمِرُ ذَلِكَ؛ فَهِيَ عِبَادَةٌ لَا خَيْرَ فِيهَا، وَمِنْ ثَمَّ لَا خَيْرَ فِيهَا لِصَاحِبِهَا.
فِي «صَحِيحِ الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: ((يَا رَسُوْلَ اللهِ! إِنَّ فُلَانَةَ تَقُوْمُ الْلَّيْلَ، وَتَصُوْمُ الْنَّهَارَ، وَتَفْعَلُ، وَتَصَّدَّقُ، وَتُؤْذِي جِيْرَانَهَا بِلِسَانِهَا؟
فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِْ ﷺ: «لَا خَيْرَ فِيهَا، هِيَ مِنْ أَهْلِ الْنَّارِ».
تَقُوْمُ الْلَّيْلَ، وَتَصُوْمُ الْنَّهَارَ، وَتَفْعَلُ! -هَكَذَا بِإِبْهَامٍ لِلتَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ وَالتَّكْثِيرِ- وَتَصَدَّقُ -وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُتَصَدَّقَ بِهِ؛ لِتَهْوِيلِهِ وَتَفْخِيمِهِ-، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ تُؤْذِي جِيْرَانَهَا بِلِسَانِهَا!!
قَالَ ﷺ: «لَا خَيْرَ فِيهَا، هِيَ مِنْ أَهْلِ الْنَّارِ».
فَلَمْ يَعْتَدَّ بِهَذَا الَّذِي أَتَتْ بِهِ مِنَ الصِّيَامِ، وَالْقِيَامِ، وَفِعْلِ الْخَيْرَاتِ وَالصَّدَقَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُثْمِرْ شَيْئًا ذَا قِيمَةٍ؛ ((تُؤْذِي جِيْرَانَهَا بِلِسَانِهَا)).
قَالَ: «لَا خَيْرَ فِيْهَا، هِيَ مِنْ أَهْلِ الْنَّارِ».
قَالُوا: ((وَفُلَانَةُ تُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ، وَتَصَّدَّقُ بِأَثْوَارٍ -جَمْعُ ثَوْرٍ، وَهِيَ الْقِطْعَةُ مِنَ الْجُبْنِ الْمُجَفَّفِ- وَتَصَّدَّقُ بِأَثْوَارٍ -وَالتَّنْوِينُ فِي «بِأَثْوَارٍ» لِلتَّقْلِيلِ- وَتَصَّدَّقُ بِأَثْوَارٍ، وَلَا تُؤْذِي أَحَدًا؟)).
قَالَ ﷺ: «هِيَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ».
شَتَّانَ بَيْنَ الْعِبَادَتَيْنِ: بَيْنَ عِبَادَةٍ تَدْفَعُ إِلَى الْخَيْرِ، وَعِبَادَةٍ لَمْ تُوقِفْ صَاحِبَهَا عَنِ الْإِيغَالِ فِي الشَّرِّ، عِبَادَةٍ قَوَّمَتِ الظُّهُورَ بِطُولِ قِيَامِ اللَّيْلِ، وَقَوَّمَتِ الْمَعِدَةَ بِصِيَامِ النَّهَارِ، وَلَمْ تُقَوِّمِ اللِّسَانَ بِالِاسْتِقَامَةِ عَلَى أَمْرِ اللهِ، أَوْ حَتَّى بِالْكَفِّ عَنْ إِيذَاءِ خَلْقِ اللهِ!!
فَشَتَّانَ مَا بَيْنَ الْعِبَادَتَيْنِ!!
وَمَا أَتْعَسَ الصِّائِمَ الْمُفْلِسَ!!
أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ» بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ :«أَتَدْرُوْنَ مَا الْمُفْلِسُ؟».
قَالُوْا: الْمُفْلِسُ فِيْنَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ .
قَالَ: «إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِيْ، يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكْلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ؛ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ، فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ».
فَهَذَا أَتَى بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ؛ وَلَكِنَّهُ فِي الْوَقْتِ عَيْنِهِ أَتَى بِمَا أَذْهَبَ مَا أَتَى بِهِ مِنْ خَيْرٍ؛ حَتَّى مَحَقَهُ، حَتَّى نَسَفَهُ.
وَتَأَمَّلْ خَمْسَةَ أَفْعَالٍ وَرَدَتْ فِي الْحَدِيثِ: «شَتَمَ هَذَا.. قَذَفَ هَذَا.. أَكَلَ مَالَ هَذَا.. سَفَكَ دَمَ هَذَا.. ضَرَبَ هَذَا».
تَأَمَّلْ هَذِهِ الْخَمْسَةَ الْأَفْعَالِ: «شَتَمَ.. قَذَفَ.. أَكَلَ.. سَفَكَ.. ضَرَبَ»، ثُمَّ اعْجَبْ! مَتَى كَانَ هَذَا الرَّجُلُ صَائِمًا؟!!
وَكَيْفَ كَانَ يَجِدُ وَقْتًا لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ يَقُومُ بِهَذِهِ الْجَرَائِمِ كُلِّهَا؟!!
وَكَيْفَ يَكُونُ مُزَكِّيًا وَهُوَ يَأْكُلُ أَمْوَالَ النَّاسِ؟!!
((يَأْتِي بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ.. ))؛ صِيَامٍ عَنْ أَيِّ شَيْءٍ؟!!
«وَزَكَاةٍ»؛ كَيْفَ تَكُونُ الزَّكَاةُ زَكَاةً وَهُوَ يَأْكُلُ أَمْوَالَ النَّاسِ؟!!
((وَأَكَلَ مَالَ هَذَا)).
فَاعْجَبْ! كَيْفَ كَانَ هَذَا يَجِدُ وَقْتًا لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ وَهُوَ عَاكِفٌ عَلَى هَذِهِ الْجَرَائِمِ كُلِّهَا؟!!
إِنَّ الصِّيَامَ الْحَقِيقِيَّ، وَالصَّلَاةَ التَّامَّةَ، وَالزَّكَاةَ الْمَقْبُولَةَ هِيَ الْعِبَادَاتُ الَّتِي تَمْنَعُ صَاحِبَهَا مِنَ الْوُقُوعِ فِي هَذِهِ الْجَرَائِمِ الْخَمْسِ: «الشَّتْمُ، وَالضَّرْبُ، وَالْقَذْفُ، وَأَكْلُ أَمْوَالِ النَّاسِ، وَسَفْكُ دِمَائِهِمْ».
لَا يَمْنَعُ مِنْ هَذَا، وَلَا يَكُفُّ عَنْهُ إِلَّا الصِّيَامُ الْحَقِيقِيُّ، وَالصَّلَاةُ التَّامَّةُ، وَالزَّكَاةُ الْمَقْبُولَةُ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ ﷺ ذَكَرَ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ لَهُ صَلَاةٌ وَصِيَامٌ وَزَكَاةٌ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ مِنَ الْوُقُوعِ فِي تِلْكَ الْجَرَائِمِ!!
فَمَفْهُومُ هَذَا؛ أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَدْ صَامَ صِيَامًا حَقِيقِيًّا، وَصَلَّى صَلَاةً تَامَّةً، وَزَكَّى زَكَاةً مَقْبُولَةً؛ لَانْكَفَّ عَنْ فِعْلِ هَذِهِ الشُّرُورِ، وَلَحَجَزَتْهُ عَنِ الْوُقُوعِ فِي تِلْكَ الْآثَامِ، وَلَاسْتَقَامَ عَلَى الْجَادَّةِ، وَعَلَى صِرَاطِ اللهِ الْمَلِيكِ الْعَلَّامِ.
لَقَدْ أَشَارَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي الْحَدِيثِ إِلَى الْإِفْلَاسِ الْحَقِيقِيِّ.
إِنَّهُ الْإِفْلَاسُ الْخُلُقيُّ فِي الدُّنْيَا.
الْإِفْلَاسُ الْحَقِيقِيُّ: هُوَ الْإِفْلَاسُ الْخُلُقيُّ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ مُؤَدٍّ إِلَى الْإِفْلَاسِ الْأُخْرَوِيِّ مِنَ الْحَسَنَاتِ حَتَّى تَفْنَى، ثُمَّ يُطْرَحُ مِنْ سَيِّئَاتِ ضَحَايَاهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ، ثُمَّ يُطْرَحُ فِي النَّارِ.
فَالْإِفْلَاسُ الْخُلُقِيُّ فِي الدُّنْيَا هُوَ الَّذِي أَدَّى إِلَى الْإِفْلَاسِ الْحَقِيقِيِّ فِي الْآخِرَةِ بِخُلُوِّهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَبِطْرَحِ سَيِّئَاتِ خُصُومِهِ عَلَيْهِ، ثُمَّ بِطَرْحِهِ بَعْدُ فِي النَّارِ.
أَخْرَجَ ابْنُ مَاجَه بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ ثَوْبَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي، يَأْتُوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَعْمَالٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بَيْضَاءَ، فَيَجْعَلُهَا اللهُ هَبَاءً مَنْثُوْرًا».
قَوْمٌ مُجْتَهِدُونَ.
الَّذِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَعْمَالٍ كَأَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ -وَهِيَ سِلْسِلَةُ جِبَالٍ تَمْتَدُّ امْتِدَادًا طَوِيلًا، ثَقِيلَةٌ هِيَ جِدًّا لَوْ تَدَبَّرْتَ!! عَظِيمَةٌ هِيَ، جَلِيلَةٌ لَوْ تَفَكَّرْتَ!!
فَمَنْ أَتَى بِأَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْأَعْمَالِ الْعَظِيمَةِ الْبَيْضَاءِ؛ لَقَدْ أَتَى بِأَمْرٍ كَبِيرٍ، فَيَجْعَلُهَا اللهُ هَبَاءً مَنْثُوْرًا.
هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مِنْ فَعَلَةِ الْخَيْرَاتِ، وَمِنْ أَهْلِ الْعُكُوفِ عَلَى الصَّالِحَاتِ؛ بِدَلِيلِ كَثْرَةِ مَا يَأْتُونَ بِهِ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
يَقُولُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «يَأْتُوْنَ بِأَعْمَالٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بَيْضَاءَ، فَيَجْعَلُهَا اللهُ هَبَاءً مَنْثُوْرًا».
قَالَ ثَوْبَانُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((يَا رَسُوْلَ اللهِ! صِفْهُمْ لَنَا، حَلِّهمْ لَنَا -مِنَ الْحِلْيَةِ، وَهِيَ الشِّيَةُ وَالسِّمَةُ وَالْعَلَامَةُ- أَلَّا نَكُوْنَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ)).
فِيهِ خَوْفُ الصَّحَابَةِ مِنْ أَنْ يَتَطَرَّقَ إِلَى قُلُوبِهِمْ شَيْءٌ مِنَ الدَّغَلِ الْمُحْبِطِ لِلْأَعْمَالِ، الْمُفْسِدِ لِجَلِيلِ صَالِحِ الْأَقْوَالِ؛ فَيَقُولُ: «يَا رَسُوْلَ اللهِ! صِفْهُمْ لَنَا، حَلِّهمْ لَنَا؛ ألَّا نَكُوْنَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ».
وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ رُبَّمَا كَانَ سَيِّئًا مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ، وَهُوَ يَحْسَبُ نَفْسَهُ صَالِحًا، {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:104].
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُوْنَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُوْنَ -يُكَابِدُونَ الْقِيَامَ، وَيُعَانُونَ الْعَنَتَ وَالْمَشَقَّةَ، وَيَتَحَمَّلُونَ- وَيَأْخُذُوْنَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُوْنَ -صَلَاةً وَتِلَاوَةً وَرُكُوعًا وَسُجُودًا وَذِكْرًا-، أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُوْنَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُوْنَ؛ وَلَكِنَّهُمْ أقَواْمٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللهِ انْتَهَكُوهَا».
هَذِهِ هِيَ الْعِلَّةُ! هَذَا هُوَ الدَّاءُ الدَّوِّيُّ الَّذِي أَفْسَدَ هَذَا الْجَسَدَ وَهُوَ يَبْدُو فِي عَافِيَةٍ وَسِتْرٍ، مُتَمَاسِكًا قَائِمًا، فَنَخَرَتْ فِيهِ هَذِهِ الْعِلَّةُ، فَتَهَاوَى مُتَصَدِّعًا، وَتَسَاقَطَ مُتَدَاعِيًا.
«إِنَهُمْ أقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللهِ انْتَهَكُوهَا»: لَهُمْ ظَاهِرٌ يَسُرُّ، وَبَاطِنٌ مِنْ دُونِهِ يَضُرُّ؛ كَالْقَبْرِ يَرُوعُكَ مَنْظَرُهُ، وَبِدَاخِلِهِ جِيفَةٌ وَنَتَنٌ.
انْتِهَاكُ مَحَارِمِ اللهِ دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ الْعِبَادَةِ وَحُبُوطِ الْعَمَلِ؛ لِأَنَّ انْتِهَاكَ الْمَحَارِمِ مَعْنَاهُ: فَسَادُ النَّفْسِ، وَفِقْدَانُ الْوَرَعِ، وَعَدَمُ الْوُقُوفِ عِنْدَ حُدُودِ اللهِ، وَهُوَ يَعْنِي فَسَادَ الْإِيمَانِ.
{وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المجادلة: 4].
{وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229].
{وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 230].
فَإِذَا فَقَدَ الْمُنْتَهِكُونَ حُدُودَ اللهِ خِصَالَ الْعَدْلِ وَالْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ؛ فَمَاذَا بَقِيَ لَهُمْ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ؟!! بَلْ مَاذَا بَقِيَ لَهُمْ مِنْ دِينٍ؟!!
«أُولَئِكَ قَوْمٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللهِ انْتَهَكُوهَا».
فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى ضَعْفِ الرِّقَابَةِ للهِ؛ بَلْ عَلَى عَدَمِهَا، وَعَلَيْهِ؛ فَتَكُونُ الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ؛ لِاسْتِجْلَابِ إِعْجَابِ النَّاسِ بِهِ، وَإِقْبَالِهِمْ عَلَيْهِ، وَرَفْعِهِمْ إِيَّاهُ فَوْقَ قَدْرِهِ.
تَعَاهَدْ نَفْسَكَ فِي ثَلَاثٍ: «إِذَا عَمِلْتَ فَاذْكُرْ نَظَرَ اللهِ إِلَيْكَ، وَإِذَا تَكَلَّمْتَ فَاذْكُرْ سَمْعَ اللهِ مِنْكَ، وَإِذَا سَكَتَّ فَاذْكُرْ عِلْمَ اللهِ فِيكَ».
قَالَ سُفْيَانُ: «مَا عَالَجْتُ شَيْئًا أَشَدَّ عَلَيَّ مِنْ نَفْسِي؛ مَرَّةً عَلَيَّ، وَمَرَّةً لِي».
مَرَّةً غَالِبَةً، وَمَرَّةً مَغْلُوبَةً، وَالْحَيَاةُ عَنَاءٌ، وَالْحَيَاةُ كَدٌّ وَتَعَبٌ، عَنَاءٌ وَنَصَبٌ، مُجَاهَدَةٌ وَابْتِلَاءٌ، سَعَادَةٌ يَسِيرَةٌ وَشَقَاءٌ، وَكَذَا الْحَيَاةُ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَ لَهَا بَقَاءٌ {وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64].
فَالْبَاقِيَةُ هُنَاكَ؛ فَقَدِّمْ لِلَّتِي تَبْقَى، وَاحْذَرِ الَّتْي تَفْنَى!!
وَلَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا مِنْ ذَهَبٍ يَفْنَى، وَالْآخِرَةُ مِنْ خَزَفٍ يَبْقَى؛ لَفُضِّلَتِ الْآخِرَةُ عَلَى الدُّنْيَا؛ فَكَيْفَ وَالدُّنْيَا مِنْ خَزَفٍ يَفْنَى، وَالْآخِرَةُ مِنْ ذَهَبٍ يَبْقَى؟!!
عَنْ مَيْمُونَ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ: «لَا يَكُونُ الرَّجُلُ تَقِيًّا حَتَّى يَكُونَ لِنَفْسِهِ أَشَدَّ مُحَاسَبَةً مِنَ الشَّرِيكِ لِشَرِيكِهِ، وَحَتَّى يَعْلَمَ مِنْ أَيْنَ مَلْبَسُهُ وَمَطْعَمُهُ وَمَشْرَبُهُ؛ فَلْيَنْظُرْ مَا يَدْخُلُ بَطْنَهُ».
فَهَذِهِ أَدَّلُ دَلَائِلِ التَّقْوَى.
وَقَدْ كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ فِي مَوْضِعٍ كَثُرَ فِيهِ أَكْلُ الْحَرَامِ؛ فَدَخَلَ مَسْجِدًا، فَلَمَّا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ؛ تَدَافَعَ النَّاسُ إِلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ؛ فَقَالَ -مُعَلِّمًا وَمُرشِدًا-: «كُلْ مِنْ حَلَالٍ، وَصَلِّ فِي الصَّفِّ الْأَخِيرِ».
هَذَا لِرِعَايَةِ الْحَالِ، وَأَمَّا الْمُنَافَسَةُ عَلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ؛ فَشَيْءٌ كَبِيرٌ، وَالرَّسُولُ ﷺ دَلَّ عَلَى فَضْلِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: «وَلَوْ عَلِمَ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا -أَيْ يَقْتَرِعُوا- عَلَيْهِمَا؛ لَفَعَلُوا».
وَلَكِنَّهُ يَقُولُ: مَا لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ قَدْ عَكَسُوا الْأَمْرَ، فَصَارُوا يَتَدَافَعُونَ إِلَى مَا لَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ فِعْلُهُ، وَتَهَاوَنُوا فِي أَوْجَبِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ فِعْلُهُ، وَهُوَ رِقَابَةُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ.
لِيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَا يَدْخُلُ جَوْفَه؛ فَإِنَّ الْبَطْنَ أَوَّلُ مَا يُنْتِنُ مِنَ الْمَرْءِ بَعْدَ مَوْتِهِ.
«لَا يَكُونُ الرَّجُلُ تَقِيًّا حَتَّى يَكُونَ لِنَفْسِهِ أَشَدَّ مُحَاسَبَةً مِنَ الشَّرِيكِ لِشَرِيكِهِ».
خَصْمٌ هِيَ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ رِعَايَةِ حَقِّ اللهِ فِيهَا، وَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِهَا عَلَى أَمْرِهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ قَسْرِهَا عَلَى اجْتِنَابِ نَهْيِهِ؛ وَإِلَّا فَإِنَّهَا أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ جُمْلَةً، وَحَتَّى يَعْلَمَ مِنْ أَيْنَ مَلْبَسُهُ وَمَطْعَمُهُ وَمَشْرَبُهُ؟
وَعَنْ بِلَالِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: «لَا تَكُنْ وَلِيًّا للهِ فِي الْعَلَانِيَةِ، عَدُوًّا للهِ فِي السِّرِّ».
«أُوَلئِكَ قَوْمٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللهِ انْتَهَكُوهَا»؛ لِأَنَّ الَّذِي يَبْلُغُ عَمَلُهُ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ؛ هَذَا وَلِيٌّ للهِ فِي الْعَلَانِيَةِ، فَهَذَا عَمَلٌ صَالِحٌ عَظِيمٌ.
«بَيْضَاءَ»: فِي وَصْفِ الْأَعْمَالِ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ؛ وَهُوَ عَدُوٌّ للهِ فِي السِّرِّ، «لَا تَكُنْ وَلِيًّا للهِ فِي الْعَلَانِيَةِ، عَدُوًّا للهِ فِي السِّرِّ».
«أُولَئِكَ قَوْمٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللهِ انْتَهَكُوهَا».
إِنَّ الصِّيَامَ يُورِثُ التَّقْوَى، وَمُرَاقَبَةَ اللهِ تَعَالَى، وَصَلَاحَ الْقُلُوبِ.
قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي رَوَّاد: «أَدْرَكْتُهُمْ يَجْتَهِدُونَ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَإِذَا فَعَلُوهُ؛ وَقَعَ عَلَيْهِمُ الْهَمُّ -لِمَ وَقَدْ عَمِلُوا صَالِحًا؟! بَلْ عَمِلُوا صَالِحًا اجْتَهَدُوا فِي عَمَلِهِ-، يَقُولُ: أَدْرَكْتُهُمْ يَجْتَهِدُونَ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَإِذَا فَعَلُوهُ؛ وَقَعَ عَلَيْهِمُ الْهَمُّ؛ أَيُقْبَلُ مِنْهُمْ أَمْ لَا؟!!».
فَلَيْسَتِ الْعِبْرَةُ بِكَثْرَةِ الْعَمَلِ؛ وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ كُلُّ الْعِبْرَةِ فِي تَصْفِيَةِ الْعَمَلِ مِنْ شَوَائِبِهِ، مِمَّا يُحْبِطُهُ.
لَيْسَتِ الْعِبْرَةُ بِالْعَمَلِ، وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ بِتَصْفِيَةِ الْعَمَلِ مِنَ الشَّوَائِبِ.
مَنْ شَابَ شِيبَ لَهُ، وَمَنْ كَدَّر كُدِّرَ عَلَيْهِ، وَمَنْ صَفَّى صُفِّيَ لَهُ، فَأَخْلِصْ؛ إِنَّمَا يَتَعَثَّرُ مَنْ لَمْ يُخْلِصْ.
قَالَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «كُونُوا لِقَبُولِ الْعَمَلِ أَشَدَّ اهْتِمَامًا مِنْكُمْ بِالْعَمَلِ، أَلَمْ تَسْمَعُوا اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَقُولُ: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]» .
وَكَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه فِي ((سُنَنِهِ)): لَمَّا سَمِعَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَوْلَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60].
فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ! أُولَئِكَ الْعُصَاةُ السَّرَقَةُ الزُّنَاةُ! يَفْعَلُونَ وَيَفْعَلُونَ؟
قَالَ: «لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ؛ بَلْ هُوَ الرَّجُلُ يَصُومُ، وَيُصَلِّي، وَيَتَصَدَّقُ، وَيَفْعَلُ الْخَيْرَ، وَيَخْشَى أَلَّا يُقْبَلَ مِنْهُ».
مَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُحَدِّدَ دَوَافِعَهُ؟!!
مَنْ يُمْكِنُهُ أَنْ يَجْزِمَ بِصِدْقِ نِيَّتِهِ؟!!
وَذَلِكَ أَمْرٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ؛ لِذَلِكَ يَقُولُ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «كُونُوا لِقَبُولِ الْعَمَلِ أَشَدَّ اهْتِمَامًا مِنْكُمْ بِالْعَمَلِ، أَلَمْ تَسْمَعُوا اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَقُولُ: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]».
((تَحْقِيقُ الْمَقْصُودِ الْأَعْظَمِ لِلصِّيَامِ))
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! فَلنُحَقِّقْ -بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ وَحَوْلِهِ تَعَالَى وَقُوَّتِهِ- مَقْصُودَ الصِّيَامِ، وَهُوَ تَحْصِيلُ التَّقْوَى بِإِخْلَاصِ العِبَادَةِ للهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، بِصَرْفِ العِبَادَةِ للهِ وَحْدَهُ، بِفِعْلِ المَأْمُورَاتِ, وَتَرْكِ المَنْهِيَّاتِ وَالمَحْظُورَاتِ وَالمُحَرَّمَاتِ، فَهَذِهِ هِيَ التَّقْوَى، وَهَذَا مَقْصُودُ الصِّيَامِ الأَعْظَمُ؛ فَلْنُحَقِّقْ هَذَا.
أَلَا إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَنَا أَبَدًا, وَلَا يَجْمُلُ بِنَا أَنْ نَكُونَ كَالَّذِي وَصَفَهُ الرَّسُولُ ﷺ:
لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ وَالعَطَشُ، ولَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا النَّصَبُ والسَّهَرُ.
لَيْسَ الصِّيَامُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، إِنَّمَا الصِّيَامُ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، إِنَّمَا الصِّيَامُ فِي البُعْدِ عَنِ المُحَرَّمَاتِ، وَفِي الإِقْبَالِ عَلَى مَا أَمَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهِ، وَأَنْزَلَهُ وَحْيًا عَلَى سَيِّدِ الْبَشَرِ ﷺ.
نَسْأَلُ اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ أَنْ يُعِينَنَا عَلَى صِيَامِ رَمَضَانَ وَقِيَامِهِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي يُرْضِيهِ، وَهُوَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الجَوَادُ الكَرِيمُ، وَالبَرُّ الرَّحِيمُ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِين.
المصدر: الْجَوَانِبُ الْإِيمَانِيَّةُ وَالْأَخْلَاقِيَّةُ فِي الصَّوْمِ