{{مفتاح دعوة
المرسلين}}
{خطبة
الجمعة 10 من رجب 1435 – 9/5/2014}
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ،
وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ
سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ
فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ
–صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ
كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ –صلى
الله عليه وعلى آله وسلم-،
وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا،
وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فإن التوحيد في اللغة مصدره
وحَّد، يوحد توحيدًا، أي جعله واحدًا.
قال السفاريني في ((لوامع الأنوار)): ((والتوحيد تفعيل للنسبة كالتصديق والتكذيب؛ لا للجعل،
فمعنى وحدت الله: نسبت إليه الوحدانية لا جعلته واحدا، فإن وحدانية الله تعالى
ذاتية له ليست بجعْل جاعل، والموحد يجعل الله واحدًا في أفعاله التعبدية، إذ
التوحيدُ إفرادُ الخالق بالعبادةِ ذاتًا وصفةً وأفعالًا)).
قال في ((تيسير العزيز
الحميد)): ((وسُمِّيَ دين
الإسلام توحيدا، لأن مبناه على أن الله واحدٌ في مُلكه وأفعاله لا شريك له، وواحدٌ
في ذاته وصفاته لا نظير له، وواحدٌ في إلهيته وعبادته لا نِدَّ له، وإلى
هذه الأنواع الثلاثة ينقسم توحيد الأنبياء والمرسلين الذين جاؤوا به من عند الله
وهي متلازمة -يعني أنواع التوحيد- كل
نوعٍ منها لا ينفكُّ عن الآخر، فمن أتى بنوع منها ولم يأت بالآخر؛ فما ذاك إلا أنه
لم يأت به على وجه الكمال المطلوب)).
والتوحيدُ شرعًا:
إفرادُ الله تعالى بما يختص به من الربوبيةِ والإلوهيةِ والأسماءِ والصفات.
فينقسمُ إلى ثلاثة أقسام:
توحيد الربوبية، وتوحيد الإلوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، وقد اجتمعت هذه الأنواع
الثلاثة للتوحيد في قوله -جل وعلا- {رَبُّ السَّماواتِ وَالأَرضِ وَما بَينَهُما
فَاعبُدهُ وَاصطَبِر لِعِبادَتِهِ هَل تَعلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65].
وقد قسم العلماء التوحيد إلى ثلاثة أقسام:
1-توحيد الربوبية: وهو إفرادُ الله تعالى بالخَلق
والمُلك والتدبير، فإفرادهُ تعالى بالخَلق: أن يعتقدَ المرءُ أنه لا خالق إلا
الله، وإفراده تعالى بالمُلك: أن يعتقد العبد أنه لا يملك الخَلق إلا خالقهم،
وإفراده تعالى بالتدبير: أن يعتقد أنه لا مدبر إلا الله وحده، فتوحيد الربوبية
إفراد الله تعالى بأفعاله أو هو توحيد الله تعالى في أفعاله.
2-وتوحيد الإلوهية: وهو إفرادُ الله تعالى
بالعبادة وحده، ويقال له: توحيد العبادة، وذلك باعتبار إضافته إلى الخَلق، وهو
توحيد الإلوهية باعتبار إضافته إلى الله -جل وعلا-، وإفرادُك الله تعالى بهذا
التوحيد؛ أنْ تكون عبدًا لله وحده تُفرده بالتذلل محبةً وتعظيمًا وتعبده -جل وعلا-
بما شرع، فتوحيد الإلوهية: هو توحيد الله تعالى في أفعالِ العباد وذلك بصْرفِ جميع
أنواع العبادات من خوفٍ ورجاء ورغبةٍ ورهبة وإنابةٍ وخشية وتوكلٍّ وخوف وذبحٍ وندر
ودعاء، وغير ذلك من أنواع العبادات لله تعالى وحده لا شريك له.
3-توحيد الأسماء والصفات: هو إفرادُ الله –سبحانه
وتعالى- بما سمَّى به ووصف به نفسه في كتابه أو على لسان رسوله -صلى الله عليه
وعلى آله وسلم-، وذلك بإثباتِ ما أثبته، ونَفْي ما نفاه، من غير تحريفٍ ولا تعطيل،
ومن غير تكييف ولا تمثيل.
فتوحيد الأسماء والصفات يتضمن أمرين:
الأول: الإثبات وذلك
بأنْ نُثبت للهِ تعالى ما أثبته لنفسهِ من الأسماءِ الحسنى والصفات المثلى في
كتابه أو على لسان رسوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إثباتًا بلا تكييف ولا تشبيه
ولا تمثيل.
والثاني:
أن ننفي عن الله -جل وعلا- ما نفاه عن نفسه في كتابه أو على لسان رسوله -صلى الله
عليه وآله وسلم- وكلُّها صفات نقصٍ يجب نفيها مع اعتقاد كمالِ ضدها، فنفْيُ العجز
لثبوتِ كمال القدرة، ونفيُ الظلم لثبوت كمالِ العدل، ونفيُ النومِ لثبوتِ كمالِ
الحياة والقيومية، والتوحيد هو حقُّ الله تعالى على عباده.
فعن معاذ بن جبل -رضي الله تعالى عنه- فيما أخرج
الشيخان في صححيهما قال: ((كنت رديف النبي -صلى الله عليه وآله وسلم على حمار-
فقال لي: ((يا معاذ ، أتدرى ما حق الله على العباد ، وما حق العباد على الله؟))
قلت: الله ورسوله اعلم.
قال: ((حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا
به شيئا)).
فالتوحيد هو حق الله تعالى على عباده وهذا حقٌّ واجب؛
لأنَّ اللهَ تعالى خلقك وحده، فلم يشاركه في خلقك أحد، والله -عز وجل- يرزقك وحدك،
فلا يشاركه في رزقك أحد، وعارٌ وعيب أنْ يكون الله -تبارك وتعالى- هو الخالق وحده،
وهو الرزاق وحده، ثم يُؤكل خيرُه ويُعبد غيره.
((حق الله على العباد : أن يعبدوه ولا يشركوا به
شيئا ، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا)).
قال معاذ: أفلا أُبشر الناس يا رسول الله -صلى الله
عليه وآله وسلم-؟
قال: ((لا تبشرهم فيتكلوا)).
فأخبر بها الناس قبل موته تأثمًا –أي:
تأثمًا من كتم العلم-، النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وهو خيرُ الخلق يتواضع
لربه -تبارك وتعالى- هذا التواضع العظيم، يركب الحمار ويُردف خلفه، وهذا من حُسن خُلُق
النبي الكريم -صلى الله عليه وآله وسلم- بل يخاطب معاذًا رديفه -رضي الله عنه-
بخلاف ما يفعله المتكبرون، وأما النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فلم يكن فيه من
مذموم الصفات شيء بمَرَّة، بل آتاه الله تعالى الخُلُق الكامل -صلى الله عليه وعلى
آله وسلم-.
التوحيد حقُّ الله -تبارك وتعالى- على عبادهِ، هذا
الحق اللازم لله -تبارك وتعالى- هو حقهُ الذي فرضهُ وأحقَّهُ على عبيده في أرضهِ
وله فضلٌ عظيمٌ بما يُكفِّر من الذنوب وبما يرفع من الدرجات؛ لأن التوحيد إنما هو
تحقيقُ الغاية التي لأجلها خلقَ الله الخَلق، فمن أتى به على الوجه المرضي عند
الله -تبارك وتعالى- أكرمه الله رب العالمين، ومن لم يأت به على الوجه المرضي عند
الله -جل وعلا- أذلَّهُ الله تعالى وأهانه دنيا وآخره، قال ربنا -جلَّت قدرته-: {الَّذينَ
آمَنوا وَلَم يَلبِسوا إيمانَهُم بِظُلمٍ أُولـئِكَ لَهُمُ الأَمنُ وَهُم
مُهتَدونَ} [الأنعام: 82].
فأما الأصحابُ -رضي الله تعالى عنهم- فقد شَقَّ عليهم
لمَّا نزلت الآية الكريمة، وظنوا أنَّ هذا الظلم هو ما يكون من ظلم العبد نفسهِ مع
ربه من أجناسِ المعاصي فجَثَوا على الرُّكب وقالوا: ((يا رسول الله وأينا لم يظلم
نفسه)).
فقال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((ليس
كما تظنون، ألم تسمعوا قول العبد الصالح: إن الشرك لظلم عظيم؟)) أخرجاه من رواية
ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه-.
فالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يُصحح هاهنا
للأصحاب ويُعلمهم أنه ليس الأمر كما ذهبت إليه ظنونهم من أن الظلم الذي مذكور في
الآية هو ما يتعلق بظلم العبدِ نفسه فيما بينه وبين ربه من أجناس المعاصي، وإنما
هو الشرك: {الَّذينَ آمَنوا وَلَم يَلبِسوا –لم
يخالطوا- إيمانَهُم بِظُلمٍ –أي
بشركٍ- أُولـئِكَ لَهُمُ الأَمنُ وَهُم مُهتَدونَ} [ الأنعام: 82].
الظلم هاهنا الشرك، فإذا ما تخلص الإنسانُ من هذا
الشرك ولم يُلوِّث به نفسَه، ولم يظلم به ذاته فإن الله -تبارك وتعالى- يؤتيه
الأمن دنيا وآخرة، وهو المبتدئُ في هذه الحياة الدنيا ويوم القيامة إلى رضوان الله
-جل وعلا-.
قال شيخُ الإسلام -رحمه الله تعالى-:
((وهذا الأصلُ وهو التوحيد هو أصلُ الدين الذي لا يَقبل اللهُ من الأولين والآخرين
دينًا غيره، وبه أرسل الرسل وأنزل الكتب كما قال -جل وعلا-: {وَاسْأَلْ مَنْ
أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَـنِ
آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45].
وقال -جل وعلا-:
{وَما أَرسَلنا مِن قَبلِكَ مِن رَسولٍ إِلّا نوحي إِلَيهِ أَنَّهُ لا إِلـهَ
إِلّا أَنا فَاعبُدونِ} [الأنبياء: 25].
وقال -جل وعلا-:
{وَلَقَد
بَعَثنا في كُلِّ أُمَّةٍ رَسولًا أَنِ اعبُدُوا اللَّـهَ وَاجتَنِبُوا الطّاغوتَ
فَمِنهُم مَن هَدَى اللَّـهُ وَمِنهُم مَن حَقَّت عَلَيهِ الضَّلالَةُ} [النحل: 36].
وقد ذكر اللهُ -جل وعلا- عن كلٍّ مِن الرُّسل أنه
افتتح دعوته بأنه قال لقومه: اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، فالتوحيد هو الفرض
الأعظم على جميع العباد عليهم أن يحققوه أن الله -تبارك وتعالى- لا يقبل من أحد
سواه، ومن خالط إيمانه شيئا من الشرك، فإن الله تعالى {لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ
بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: 48])).
قال الإمام ابن القيم -رحمه الله جل وعلا-:
((التوحيد هو أول دعوة الرسل وأول منازل الطريق، وأول مقام يقوم فيه السالكُ إلى
الله تعالى)).
قال -جل وعلا-:
{لَقَد أَرسَلنا نوحًا إِلى قَومِهِ فَقالَ يا قَومِ اعبُدُوا اللَّـهَ ما لَكُم
مِن إِلـهٍ غَيرُهُ} [الأعراف: 59].
وقال هودٌ لقومه:
{اعبُدُوا اللَّـهَ ما لَكُم مِن إِلـهٍ غَيرُهُ} [الأعراف: 65].
وقال صالحٌ لقومه:
{اعبُدُوا اللَّـهَ ما لَكُم مِن إِلـهٍ غَيرُهُ} [الأعراف: 73].
وقال شعيبٌ لقومه:
{اعبُدُوا اللَّـهَ ما لَكُم مِن إِلـهٍ غَيرُهُ} [الأعراف: 85].
وقال
تعالى: {وَلَقَد بَعَثنا في كُلِّ أُمَّةٍ رَسولًا أَنِ اعبُدُوا اللَّـهَ
وَاجتَنِبُوا الطّاغوتَ} [النحل: 36]. فالتوحيد مِفتاحُ دعوة الرسل.
ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لرسوله
معاذ -رضي الله عنه- وقد بعثه إلى اليمن:
((إنك تأتي قوما من أهل الكتاب فليكن أولُّ ما تدعوهم إليه عبادة الله وحده،
فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم
خمس صلوات في اليوم والليلة)). وذكر الحديث وهو حديث متفق عليه.
وقال -صلى الله عليه وآله وسلم- كما في الصحيحين: ((أمرت
أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله)).
فالدعوة إلى التوحيد مفتاح دعوة المرسلين وتوحيد
المرسلين نفيٌ واثبات، نفيُ استحقاق العبادة لكل من سوى الله، وإثباتُ استحقاق
العبادة لله -تبارك وتعالى- وحده، وكل المرسلين أتوا بهذا النفي والإثبات: {اعبُدُوا
اللَّـهَ ما لَكُم مِن إِلـهٍ غَيرُهُ} فهذا نفيٌ واثبات، وهذا معنى الكلمة الطيبة
لا إله إلا الله، لهذا كان الصحيح أن أول واجب يجب على المكلف شهادة أن لا إله إلا
الله، لا النظر، ولا قصد النظر، ولا الشك كما هي أقوال لأرباب الكلام المذموم،
فالتوحيد أول ما يدخل به في الإسلام وآخر ما يخرج به من الدنيا كما قال النبي -صلى
الله عليه وآله وسلم-: ((من كان آخر كلامه : لا إله إلا الله ؛ دخل الجنة)).
أخرجه أحمد والحاكم، وكذا أخرجه أبو داود وهو حديثٌ
صحيح.
فهو أولُّ واجبٍ ، وآخرُ واجب ، فالتوحيد : أولُّ
الأمر وآخره .
ولا ريب أن أهل التوحيد
متفاوتون في توحيدِهم علمًا ومعرفةً وحالًا تفاوتًا لا يحصيه إلا الله فأكمل الناس
توحيدًا الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم-، والمرسلون منهم أكمل في ذلك، وأولوا
العزم من الرسل أكمل توحيدًا، وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد -صلوات الله
وسلامه عليهم أجمعين-، وأكملهم توحيدًا الخليلان محمد وإبراهيم -صلوات الله وسلامه
عليهما- فإنهما قاما من التوحيد بما لم يقم به غيرهما علما ومعرفة وحال ودعوة
للخلق، وجهادًا في سبيل الله، فلا توحيد أكملُ من الذي قامت به الرُّسل، ودَعوا
إليه، وجاهدوا الأمم عليه.
ولهذا أمر الله سبحانه نبيه
-صلى الله عليه وسلم- أن يقتدي بالمرسلين والأنبياء في التوحيد كما قال سبحانه بعد
ذكره إبراهيم ومناظرته أباه وقومه في بطلان الشرك وصحة التوحيد وذكر الأنبياء من
ذريته، ثم قال: {أُولـئِكَ الَّذينَ آتَيناهُمُ الكِتابَ وَالحُكمَ وَالنُّبُوَّةَ
فَإِن يَكفُر بِها هـؤُلاءِ فَقَد وَكَّلنا بِها قَومًا لَيسوا بِها بِكافِرينَ ﴿٨٩﴾أُولـئِكَ الَّذينَ هَدَى اللَّـهُ فَبِهُداهُمُ اقتَدِه}
[الأنعام: 89-90]. فلا أكمل من توحيد من أمر رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله
وسلم- أن يقتدي بهم.
ولما قاموا بحقيقة التوحيد
علمًا وعملًا ودعوة وجهادًا جعلهم أئمة للخلائق يهدون بأمره ويدعون إليه، وجعل
الخلائق تبعًا لهم يأتمرون بأمرهم وينتهون إلى ما وقفوا بهم عنده، وخصَّ بالسعادةِ
والفلاحِ والهدى إتباعهم، وبالشقاءِ والضلالِ والرَّدى مخالفيهم، وقال لإمامهم
وشيخهم إبراهيم خليله: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن
ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124]. أي لا ينال
عهدي بالإمامة مشركا.
ولهذا أوصى نبيه محمدا- صلى
الله عليه وآله وسلم- أن يتبع ملة إبراهيم -عليه السلام- وكان يُعلِّم أصحابه إذا
أصبحوا أن يقولوا: ((أصبحنا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص ودين نبينا محمد
-صلى الله عليه وسلم- وملة أبينا إبراهيم حنيفا مسلما وما كان من المشركين)).
أخرجه أحمد والدارمي والنسائي وإسناده صحيح.
فملة إبراهيم التوحيد، ودين
محمدٍ ما جاء به من عند الله قولًا وعملًا واعتقادًا، وكلمة الإخلاص هي شهادة أن
لا إله إلا الله، وفطرةُ الإسلام هي ما فطر الله عليه عباده من محبته وعبادته وحده
لا شريك له، والاستسلام له عبوديةً وذلًا وانقيادًا وإنابة، فهذا هو توحيد خاصة
الخاصة الذي من رَغِب عنه فهو من أسفه السفهاء قال تعالى: {وَمَن يَرْغَبُ عَن
مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي
الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴿١٣٠﴾ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ
لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة: 130-131].
فقسم سبحانه الخلائق قسمين:
سفيهًا لا أسفه منه، ورشيدا،
فالسفيه: من رَغِبَ عن ملته إلى الشرك، والرشيد: من تبرأ من الشرك قولًا وعملًا
وحالًا، فكان قوله توحيدًا، وعملهُ توحيدًا، وحاله توحيدًا، ودعوته إلى التوحيد.
ولهذا أمر الله جميع
المرسلين من أولهم إلى آخرهم؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ
الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴿٥١﴾ وَإِنَّ هَـذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا
رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 51-52].
وقال تعالى: {وَما أَرسَلنا مِن قَبلِكَ مِن رَسولٍ إِلّا نوحي
إِلَيهِ أَنَّهُ لا إِلـهَ إِلّا أَنا فَاعبُدونِ} [الأنبياء: 25].
وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن
رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَـنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:
45].
وقال تعالى: {أَمِ اتَّخَذوا آلِهَةً مِنَ الأَرضِ هُم يُنشِرونَ ﴿٢١﴾ لَو كانَ فيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّـهُ لَفَسَدَتا
فَسُبحانَ اللَّـهِ رَبِّ العَرشِ عَمّا يَصِفونَ ﴿٢٢﴾ لا يُسأَلُ عَمّا يَفعَلُ وَهُم يُسأَلونَ ﴿٢٣﴾ أَمِ اتَّخَذوا مِن دونِهِ آلِهَةً قُل هاتوا بُرهانَكُم
هـذا ذِكرُ مَن مَعِيَ وَذِكرُ مَن قَبلي}
[الأنبياء: 21-24]؛ أي: هذا الكتاب
الذي أُنزل علي وهذه كتب الأنبياء كلهم، هل وجدتم في شيء منها اتخاذ إله مع الله؟
أم كلها ناطقةٌ بالتوحيد آمرةٌ به؟
وقال -جل وعلا-: {وَلَقَد بَعَثنا في
كُلِّ أُمَّةٍ رَسولًا أَنِ اعبُدُوا اللَّـهَ وَاجتَنِبُوا الطّاغوتَ} [النحل:
36]. والطاغوت اسم
لكل ما عُبد من دون الله، فكل مشرك إلهه طاغوته.
قال شيخ الإسلام -رحمه
الله-: ((وقد أخبر
الله عن كل رسول من الرسل أنه قال لقومه اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، وهذا أول
دعوة الرسل وآخرها)).
قال النبي- صلى الله عليه
وآله وسلم-: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول
الله)).
وقال: ((من مات وهو يعلم
أن لا إله إلا الله دخل الجنة)). متفق عليه، والذي قبله.
والقرآن مملوءٌ من هذا
التوحيد والدعوةِ إليه، وتعليق النجاة والسعادةِ في الآخرة به، وحقيقته إخلاصُ
الدين كلِّه لله، والفناءُ في هذا التوحيد مقرونٌ بالبقاء، وهو أنْ تثبت إلهية
الحق تعالى في قلبك وتنفي إلهية من سواه فتجمع بين النفي والإثبات، فالنفيُ هو
الفناء، والإثباتُ هو البقاء، وحقيقتهُ أن تفني بعبادته عن عبادة ما سواه، وبمحبته
عن محبة ما سواه، وبخشيته عن خشية ما سواه، وبطاعته عن طاعة ما سواه، وكذلك
بمولاته وسؤاله والاستعانة به، والتوكل عليه ورجاءهِ ودعاءه والتفويض إليه،
والتحاكم إليه، واللجأ إليه والرغبة فيه -جل
وعلا-.
أما ما يترتب على هذا
التوحيد من الآثار والنتائج:
فقد أخرج الترمذي والطبراني
في ((الكبير)) وغيرهما عن أنس -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه
وآله وسلم يقول: ((قال الله -تبارك وتعالى-: يا ابن آدم: إنك ما دعوتني
ورجوتني غفرتُ لك على ما كان فيكك ولا أبالي، يا ابن آدم: لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرت
لك، يا ابن آدم: إنك لو أتيتني بقُراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا،
لأتيتك بقُرابها مغفرة)). وهو حديث حسن.
التوحيدُ يدفعُ صاحبه للعملِ
الصالح، فكلما اكتمل توحيد العبد منعه توحيدهُ من اقتراف الذنوب؛ لأن الموحد قد
امتلأ قلبه بمحبة الله وإجلال الله وتعظيم الله، وامتلأ قلبه بخوفه من الله،
فيدفعه هذا كله إلى العمل الصالح، وفي هذا جميعه دلالة على فضل توحيد ربنا -جل
وعلا-.
قال الله تعالى: {إِنَّ إِبراهيمَ كانَ أُمَّةً قانِتًا لِلَّـهِ
حَنيفًا وَلَم يَكُ مِنَ المُشرِكينَ} [النحل: 1120].
{إِنَّ إِبراهيمَ كانَ
أُمَّةً}: قدوةً وإمامًا ومُعلِّمًا للخير {قانِتًا لِلَّـهِ}؛ فالقنوت: دوام
الطاعة، {حَنيفًا} والحنيف: المائل عن الشرك المُقبل على الله، المُعرِض عن كل ما
سواه، ولم يكن من المشركين أصلًا، فلم يكن -صلى الله عليه وسلم- فيه شيء من ذلك،
بل فارق المشركين بالقلب واللسان والبدن، وأنكر ما كانوا عليه.
قال الله -جل وعلا- في فضل
من حقق التوحيد: {وَالَّذِينَ
هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون: 59].
لا يعبدون مع الله -تبارك
وتعالى- غيره.
فمن حقق التوحيد؛ فخلَّصه،
وصفَّاه من شوائب الشرك والبدع والمعاصي، دخل الجنةَ بغير حساب، أي بلا محاسبة
عليه.
و لا يكونُ تحقيق التوحيد
إلا بكمالِ الإخلاص لله تعالى في الأقوال والأعمال والإرادات،
والسلامة من الشرك الأكبر
المناقضِ لأصل التوحيد، والأصغر المناقض لكمالهِ الواجب،
وتركِ البدع القادحة فيه، وتركِ
الإصرار على الكبائر، والاستهانةِ بالصغائر، فإنَّ ذلك مما يؤثر في التوحيد
ويضعفه.
وتحقيق التوحيد هو تخليصه من
الشرك، ولا يكون ذلك إلا بأمور ثلاثة:
الأول: العلم، فلا يمكن أن تحقق شيئا قبل
أن تعلمه، قال الله -جل وعلا-: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَـهَ إِلَّا اللَّـهُ}
[محمد: 19].
الثاني: من هذه الأمور الاعتقاد، فإذا عَلمت ولم تعتقد واستكبرت؛
لم تحقق التوحيد، قال الله -جل وعلا- عن الكافرين: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَـهًا
وَاحِدًا إِنَّ هَـذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5]، فما اعتقدوا انفراد الله
بالإلوهية، {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَـهًا وَاحِدًا إِنَّ هَـذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}
[ص: 5].
علِموا معنى لا إله إلا الله،
وكثيرٌ من جماهير المسلمين من أهلِ القبلة لا يعلمون ما معنى لا إله إلا الله،
وفيهم ومنهم من يُشار إليه بالبَنان، ولا يعلم ما معنى لا إله إلا الله؛ {أَجَعَلَ
الْآلِهَةَ إِلَـهًا وَاحِدًا} [ص: 5]، يُفْرَدُ بالعبادة وحده، ويُقصد بها دون ما
ومن سواه، وهذا معنى لا إله إلا الله، قالوا، وقد علموا ولم يعتقدوا؛ إن هذا لشيء
عُجاب، فبماذا نفعهم عِلمهم حينئذ إذا لم يعتقدوا؟
الأمر الثالث: الانقياد، فإذا علمت واعتقدت ولم تنقد فلم تحقق التوحيد،
قال الله -جل وعلا-: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَـهَ إِلَّا اللَّـهُ
يَسْتَكْبِرُونَ﴿٣٥﴾ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ
مَّجْنُونٍ} [الصافات: 35-36]، فعلموا واعتقدوا، ولم ينقادوا، فلم ينفعهم عِلمهم،
ولا اعتقادهم إذ لم ينقادوا إلى ما علموا واعتقدوا.
فإذا حصل هذا واجتمعت هذه
الأمور وحقق العبدُ التوحيد، فإنَّ الجنة مضمونةٌ له بغير حساب، ولا يحتاج أنْ
نقول إن شاء الله؛ لأن هذا حكايةُ حكمٍ ثابت شرعا، أما بالنسبة للرجل المعيَّن
فإننا نقول إن شاء الله، فمن حقق التوحيد بأن امتلأ قلبهُ بالإيمان واليقين
والإخلاص لله -جل وعلا-، وصدَّقتهُ الأعمال؛ بأنْ انقادت الجوارح لأوامر الله
طائعةً منيبةً مخبتةً لله، ولم يجرح ذلك التوحيد بالإصرار على شيء من المعاصي،
فهذا الذي يدخل الجنة بغير حساب ولا سابقة عذاب، وقد وصف اللهُ تعالى أهلَ الإيمان
الكمل من أوليائه بأنهم يعبدون الله تعالى وحده مخلصين له الدين، لا يشركون به
تعالى في عبادتهم شيئا، وصفهم بأنهم خائفون مشفقون جمعوا بين حُسن العمل وكمال
الوجل من الله -جل وعلا- لكمال علمه بعظيم حق ربهم وعيوب أنفسه، وقال -جل وعلا-: {إِنَّ
الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ ﴿٥٧﴾ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ﴿٥٨﴾ وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ ﴿٥٩﴾ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ
وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ﴿٦٠﴾ أُولَـئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا
سَابِقُونَ} [المؤمنون: 57-61].
وتحقيقك للتوحيد على نوعين: تحقيق واجبٌ وتحقيق مندوب.
أما التحقيق الواجب: فهو تصفيتهُ وتخليصه من الشرك الأكبر والأصغر والبدع
والمعاصي، فهذا مقام أصحاب اليمين وهم الذين فعلوا الواجبات وتركوا المحرمات.
وأما تحقيق المندوب: فهو أن نضيف إلى ما تقدم فِعل المستحبات وترك
المكروهات وبعض المباحات، وهذا مقام السابقين المقربين، وهذا في حق من حقق التوحيد
حقًا وصدقًا في هذا المقام العظيم.
قال الإمام العلامة ابن
القيم -رحمه الله
تعالى وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة بمنه وجوده وكرمه-: ((إن الله -عز وجل- قد
أمدَّ العبد في مدة حياته اليسيرة بالجنود والعُدد والأمداد، وبيَّن له بماذا يحُرز
نفسه عدوه، وبماذا يفتدي نفسه إذا أُسر، فكان في أَسْر ِعدوه وقبضته)).
فروى الإمام أحمد والترمذي
من حديث الحارث الأشعري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه
قال: ((إن الله -سبحانه وتعالى- أمر يحي بن زكريا-صلى الله عليهما وسلم-بخمس
كلمات أن يعمل بها، ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها وأنه كاد أن يُبطأ به.
فقال له عيسى -عليه السلام-:
إن الله تعالى أمرك بخمس كلمات لتعمل بها، وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها، فإما
أن تأمرهم وإما أن آمرهم.
فقال يحيى: أخشى إن سبقتني
بها أن يُخسف بي أو أُعذَّب.
فجمع يحيي
–عليه السلام- الناس في بيت المقدس، فامتلأ المسجد وقعدوا
على الشُّرف.
فقال: إن الله-تبارك وتعالى-
أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وآمركم أن تعملوا بهن:
أولهن: أن تعبدوا الله ولا
تشركوا به شيئا، وإن مثل من أشرك بالله كمثلِ رجل اشترى عبدًا من خالص ماله بذهب
أو وَرِق-أي فضة-، فقال له: هذه داري وهذا عملي، فاعمل وأدي إليّ، فكان يعمل ويؤدي
إلى غير سيده، فأيكم يرضى أن يكون عبده كذلك.
وإن الله أمركم بالصلاة،
فإذا صليتم فلا تلتفتوا، فإنَّ الله ينصبُ وجهه لوجه عبده ما في صلاته ما لم
يلتفت، وآمركم بالصيام فإن مثلّ ذلك كمثلِ رجل في عصابة معه صرة فيها مسك –والعصابة
هاهنا: جمعٌ من الناس- فكلُّهم يَعجب أو يُعجبه ريحها، وإن ريح الصائم أطيب عند
الله تعالى من ريح المسك.
وآمركم
بالصدقة؛ فإنَّ مثلَ ذلك كمثل رجل أسره العدو، فأوثقوا يديه إلى عنقه وقدموه
ليضربوا عنقه، فقال: أنا أفتدي منكم بالقليل والكثير، ففدى نفسه منهم.
وآمركم أن تذكروا الله تعالى،
فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعًا حتى إذا أتى على حصنٍ حصين فأحرز
نفسه منهم، كذلك العبد لا يُحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله تعال)).
قال النبي -صلى الله عليه
وسلم-: ((وأنا آمركم بخمس؛ الله أمرني بهن: السمع والطاعة والجهاد والهجرة
والجماعة؛ فإنه من فارق الجماعة قِيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يرجع، ومن ادعى بدعوى الجاهلية
فهو من جُثا جهنم -جمع جثوة وهي الشيء المجموع وهي الجامعة المحكوم
عليهم بالنار-)).
فقال رجل: يا رسول الله وإن صلى
وصام؟
قال: ((وإن صلى وصام وزعم
أنه مسلم ؛ فادْعُوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله)).
قال الترمذي هذا حديث حسن
صحيح، وأخرجه أحمد كما مرَّ، والبخاري في ((التاريخ))، وكذلك النسائي وابن حبان
والحاكم، وهو حديثٌ صحيح.
قال الإمام ابن قيم- رحمه
الله-: ((فقد ذكر –صلى
الله عليه وسلم- في هذا الحديث العظيم الشأن الذي ينبغي لكل مسلم حفظه وتعقلُّه،
ذكر فيه ما يُنجي من الشيطان، وما يحصل للعبد به الفوز والنجاة في دنياه وأخراه -ثم
شرع في شرحه- فقال: فذكر مَثَل المُوحد والمشرك؛ فالمُوحد: كمن عَمل لسيده في داره،
وأدَّى لسيده ما استعمله فيه، والمُشرك: كمن استعمله سيده في داره فكان يعمل ويؤدي
خرَاجَهُ وعمله إلى غير سيده؛ فهكذا المشرك يعمل لغير الله تعالى في دار الله تعالى، ويتقرب
إلى عدو الله تعالى بنِعم الله تعالى.
ومعلومٌ أنَّ العبد من بني
آدم لو كان مملوكه كذلك؛ لكان أمقت المماليك عنده، وكان أشدَّ شيئا غضبا عليه وطردًا
له وإبعادًا، وهو مخلوقٌ مِثله؛ كلاهما في نِعمة غيرهما؛ فكيف برب العالمين الذي ما بالعبد من نعمةٍ فمنه وحده لا
شريك له، ولا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يصرفُ السيئات إلا هو، وهو وحده المنفردُ
بخلْقِ عبده ورحمته وتدبيره ورزقه ومعافاته وقضاء حوائجه.
فكيف يليقُ به مع هذا أنْ
يعدل به غيره في الحب والخوف والرجاء والحلفِ والنذر والمعاملة؛ فيحب غيره كما
يحبه أو أكثر، ويخاف غيره ويرجوه كما يخافه أو أكثر وشواهد أحوالهم، بل وأقوالهم وأفعالهم ناطقةٌ بأنهم
يحبون أنداده من الأحياء والأموات ويخافونهم ويرجونهم ويعاملونهم ويطلبون رضاءهم
ويهربون من سخطهم أعظم مما يحبون الله تعالى، ويخافون ويهربون من سخطه وهذا هو
الشرك الذي لا يغفره الله -عز وجل- ؛ قال: -جل وعلا-: {إِنَّ اللَّـهَ لَا
يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء:
48].
والظلم عند الله -عز وجل- يوم
القيامة له دواوين ثلاثة:
((ديوان لا
يغفر الله منه شيئاً: وهو الشرك به، فإن الله لا يغفر أن يشرك به.
ديوان لا يترك الله تعالى
منه شيئًا: وهو ظلم العباد بعضهم بعضًا، فإنَّ الله تعالى يستوفيه كلَّه.
ديوان لا يعبأ الله تعالى به
شيئًا: وهو ظُلم العبد نفسه بينه وبين ربه -عزَّ وجلَّ-)). رواه أحمد، أبو داود الطيالسي، والحاكم أبو نُعيم، وحسنه
الألباني بشاهده في ((السلسة الصحيحة)).
فهذا الديوان أخفُّ الدواوين
وأسرعها محوًا؛ فأنه يُمحى بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية، والمصائب المُكفِّرة
ونحو ذلك، بخلاف ديوان الشرك؛ فإنه لا يُمحى إلا بالتوحيد، وديوان المظالم لا يُمحى
إلا بالخروج منها ومن أربابها واستحلالهم منها.
ولمَّا كان الشركُ أعظم
الدواوين الثلاثة عند الله -جل وعلا-، حرَّم الجنة على أهله، فلا تدخل الجنةَ نفسٌ
مُشركة، وإنما يدخلها أهل التوحيد، فإنَّ التوحيد هو مفتاح بابها، فمن لم يكن معه
مفتاحٌ لم يُفتح له بابُها، وكذلك إنْ أتى بمفتاحٍ لا أسنان له؛ لم يمكن الفتح به،
وأسنانُ هذا المفتاح هي: الصلاة والصيام والزكاة، والحج والجهاد والأمر بالمعروف،
والنهي عن المنكر، وصدق الحديث، وأداة الأمانة، وصلة الرحم، وبر الوالدين.
فأيُّ عبدٍ اتخذ في هذا
الدار مفتاحًا صالحًا من التوحيد، وركَّب فيه أسنان من الأوامر؛ جاء يوم القيامة
إلى باب الجنة ومعه مفتاحها الذي لا يفتح إلا به، فلم يعقُه عن الفتح عائق، اللهم
إلا أن تكون له ذنوب وخطايا وأوزار لم يذهب عنه أثرها في هذه الدار بالتوبة
والاستغفار فإنه يُحبس عن الجنة حتى يتطهر منها، وإن لم يطهِّره الموقف وأهواله وشدائده،
فلا بد من دخول النار ليخرج خبَثُه فيها، ويتطهر من درنه ووسخه، ثم يخرج منها
فيدخل الجنة، فإنها دار الطيبين، لا يدخلها إلا طيب.
قال -جل وعلا-: {الَّذينَ تَتَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ طَيِّبينَ
يَقولونَ سَلامٌ عَلَيكُمُ ادخُلُوا الجَنَّةَ} [النحل: 32].
وقال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى
الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ
لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ}
[الزمر: 73]، فعقَّب دخولها على الطِّيب بحرف الفاء الذي يُؤِذنُ بأنه سبب للدخول،
أي بسبب طيبكم قيل لكم أدخولها، وأما النار فهي دار الخبَث في الأقوال والأعمال
والمآكل والمشارب، ودار الخبيثين، قال تعالى: {لِيَميزَ اللَّـهُ الخَبيثَ مِنَ
الطَّيِّبِ وَيَجعَلَ الخَبيثَ بَعضَهُ عَلى بَعضٍ فَيَركُمَهُ جَميعًا فَيَجعَلَهُ
في جَهَنَّمَ أُولـئِكَ هُمُ الخاسِرونَ} [الأنفال: 37].
الله تعالى يجمع الخبيث بعضه
إلى بعض، فيركمه كما يركمُ الشيء، لتراكب بعضه على بعض، ثم يجعله في جهنم مع أهله،
فليس فيها إلا خبيث.
نسأل الله تعالى أن يعيذنا
منها بمنه وجوده، ورحمته وهو هو الرحمن الرحيم.
وصلى الله وسلم على نبينا
محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
الحمد لله وحده والصلاة
والسلام على من لا نبي بعده وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
وأشهد أن محمد عبده ورسوله
صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
أما بعد:
فقد قال الشيخ عبد الرحمن الوكيل
-رحمه الله تعالى- في كتابهِ ((دعوةُ الحق)) -بعد أن ذكر ما يصرفه كثيرٌ من المسلمين لغير الله من العبادة
التي لا تُصرفُ إلا له، ولا تكون لسواه-
قال: ((استعماريٌّ يسجل على المسلمين حربَهم لدينهم، وقد سجَّل
على المسلمين هذه الوثنية المستشرق الاستعماري اللئيم ((إدوارد لين)) أحد دراويش الصوفية
في كتابه ((المصريون المحدّثون))، ومن وقاحة الدناءة في سخرية الرجل من المسلمين، أنه
يقول في أكثر ما يرويه: وسألت شيخي عن كذا فأخبرني بكذا، هذا الإنجليزي الدنيء الذي
وفد إلى مصر وأخذ العهد على شيء طريقةٍ: ويُحمل المسلمين على شتى مذاهبهم ما خلا الوهابيين
-كذا قال ((إدوارد لين))- يحملون للأولياء المتوفين احترامًا وتقديسًا لا سند لهما
في القرآن أوالأحاديث أكثر مما يحملون للأحياء منهم، ويُشيدون فوق أغلب الأولياء المشهورين
مساجد كبيرة جميلة، وينصبون فوق قبور من هم أقل شهرة منهم بناءً صغيرًا مُبيضا بالكلس،
ومُتوجًا بقُبة، ويُقام فوق القبرِ مباشرةً نُصُبٌ مستطيلٌ من الحجر أو القراميد يُسمى
((تركيبة))، أو من الخشب ويُسمى ((تابوتًا))، ويُغطى النُّصُبُ عادة بالحريرِ أو الكتان
المُطرز بالآيات القرآنية، ويحيطُ به قضبان، أو سَتْرٌ من الخشب يُسمى ((مقصورة))،
وأكثرُ أضرحة الأولياء في مصر مدافن، إلا أن أكثرها يحتوي على آثارٍ قليلة لهم، وبعضها
ليست إلا قبور فارغة أُقيمت تذكارًا للميت، وقد جَرت العادة أن يقومَ المسلمون كما
كان يفعل اليهود بتجديد بناء قبور أولياءهم وتبييضها وزخرفتها، وتغطية التركيبة أو
التابوت أحيانًا بغطاءٍ جديد، وأكثرُ هؤلاء يفعلون ذلك رياء كما يفعل اليهود، وبمِثْلِ
هذا الكيد الاستعماري للإسلام؛ اغتصب المستعمرون دول الإسلام وبما يفعل المسلمون تكون
الحجة عليهم لعدوهم فيستبيحهم لجوره وبَغْيهِ)).
قال الشيخ الألباني -رحمه الله-: ((عَلِم الكفارُ الغربيون هذه الضلالة التي وقع فيها كثيرٌ
من المسلمين لاسيما الشيعة منهم، فاستغلوها حتى في سبيل تحقيق مطامعهم الاستعمارية،
فقد قال أحد وزراء الأوقاف المصريين في فتوى له في النهي عن زخرفة القبور وبناء القباب
والمساجد عليها: وبهذه المناسبة أذكرُ أنَّ أحد كبار الشرقيين حدثني عن بعض أساليب
الاستعمار في آسيا، أن الضرورة كانت تقضي بتحويل القوافل الآتيةِ من الهند إلى بغداد
عبْر تلك المنطقة الواسعة إلى اتجاه جديدٍ للمستعمر فيه غاية، ولم تُجْد أية وسيلة
من وسائل الدعاية في جعل القوافل تختاره.
وأخيراً اهتدوا إلى إقامة عدة
أضرحةٍ وقِبابٍ على مسافات متقاربة في هذا الطريق، وما هو إلا أن اهتزت الإشاعات بمن
فيها من الأولياء وبما شُوهد من كراماتهم، حتى صارت تلك الطريق مأهولة مقصودة عامرة.
قال: وأحبُّ أن أرسلها كلمة خالصةً لوجه الله إلى المسلمين في
مشارق الأرض ومغاربها، أن يُقلعوا عن تضخيم المقابر فإنها نُعْرَةٌ للفرد، ودعوةٌ إلى
الأنانية، وإلى الأرستقراطية الممقوتة، وأن يعودوا إلى رحاب الدين التي تسوِّي بين
الناس جميعًا أحياءً أو أمواتًا، لا فضل لأحدٍ على أحدٍ إلا بالتقوى وما قدمت يداه
من أعمال خالصة لوجه الله)).
قال الشيخ عبد الرحمن الوكيل-
رحمه الله تعالى-:
((جودٌ على الأصنام وٌبخل على الأيتام، أترى هذه القبور المُشيدة كالقصور المتلألئة
بالنور، الفياضة بالعطور تُثير في النفس مشاعر العظة والعبرة؟ أم تراها تُثير في نفس
الفقير الحسرة الأسيفة الكئيبة على دنياه، إذ يرى نفسه وهو الحيُّ الساغب اللاغب لا
ينالُ من دُنياه بعضَ ما يملك هذا الهامدُ المقبورُ من كنوز وقصُور ؟!
إنّه يَكدُّ لياليَهُ، ويكدحُ
أيَّامَهُ، ويتوسَّلُ بذُلِّ الفقر إلى القلوب فلا يستشعرُ ندى عطفٍ أو حنان، وهنا
يرى الجموعَ الحاشدةَ تُلقي بأحمال الفضّة والذَّهب من دُنياها بين يدي هذا الميْت
البالي، ويسوقون إلى أعتابهِ في ذُلِّ الضَّراعة سِمَان البُّدن والأنعام.
إنّ هذا الفقيرَ يتلهفُ أحيانا
على تذوَّقِ مُضغة من لحم؛ تُشعره مرَّة أنَّه يأكل مثلَ ما يأكل النَّاسُ، فلا يجد
بين شدْقَيه إلا لسانه هو؛ يمضغه ويلوكه، وهنا يرى الذبائح مكدَّسة على أعتاب هذا الجسد
الذي بدَّده البِلى في جوفه السَّحيق!! أتذكرُ هذه القبابُ بالآخرة وفيها تتبرَّجُ
الدُّنيا بتَرَفِها الفاتن المفتون؟ أم تُراها تُذْكِي لَظَى الحقدِ في قلوبِ اليتامى،
وتؤجِّجُ الضِّغنَ في نفوس الأيامى على أولئك الذين يحشدون للأصنام كلَّ غالٍ وثمين،
في حين يرجمون الأحياء وهم يستغيثون بالدُّموع في سبيل لقمة يعافُها الكلبُ أضواهُ
الهزالُ؟ لقمة تنعشُ بدف الحياة هذه الأشباح الهزيلة المقرورة التي يعصفُ بها زمهريرُ
الموت وهم أحياء؟
هنالكَ يا عبيدَ القبور تحت الأطلال
البالية حيثُ يَنعْبُ البُّومُ، وتعصفُ السافياتُ، ويخمدُ الشُّعور بالحياة، وتصطرخُ
أشباحُ الرَّدى بالفزعِ الرَّهيب، وتقبعُ دياجيرُ اللَّيل فوق تلك الأطلال، هنالك موتى
الأحياء يُتْرَعُونَ الذّلَّ، ويقتاتون بالفواجع، ويسْمرون بالجراح، ويحملون المآسي
الدَّامية، ويحلمون بها، وهنا تحت وَهْجِ النُّور، وشَعْشَة البخور، وتبرُّج الدُّنيا
بالفتون، تعيش هذه الأجساد الهامدة في القبور، حيثُ تتزاحمُ الدّنيا بترفها وشهواتها،
وثرائها الطَّويل العريض على أعتابِ أضرحتها!!
فيا أسفى على يتيم تُوَصْوصُ
فيه لمحات الحياة، ويَسْتَصْرخُ القلوب، فتصرف عنه رحمتها! ويا عجبا لجسد بال تَضْرَعُ
بالعبادة إليه هذه القلوب!! أفواه أحياء جفَّت من السَّغب، وتهدَّلت ألسنتُها من الغليل،
وثَمَّ أفواه أطبقها الموتُ على الصَّريخ من رهبته، وجماجمُ سلَّط عليها البلى دُودَهُ
الظَّالمَ المنهومَ، ولكن يأبى النَّاسُ إلا حشوَ تلك الأفواه، وهذه الجماجم بالفضَّة
والذهب، في حين يرجمون نفوسَ اليتامى الأحياء باللَّعنة والغضب.
فأينَ هذا من دين الله يا عبيدَ
القبور، وأحلافَ الموت والعدم؟)). انتهى كلامه.
وعلى مثل ما قال توجع ((حافظ
إبراهيم)):
أحياؤُنا لا يُرزَقونَ بدِرْهمٍ **** وبألفِ ألفٍ تُرزَقُ الأمواتُ!
مَن لي بِحَظِّ النائِمينَ بِحُفرَةٍ
**** قامَت
على أحجارها الصَلَواتُ!
يسعى الأنامُ لها ويجري حولَها **** بحرُ النُذورِ وتُقرَأُ الآياتُ!
ويُقالُ: هذا القُطبُ بابُ المصطفى
**** ووسيلةٌ تُقضى بِها الحاجاتُ!
قال الإمام الصنعاني -رحمه
الله-: ((فإن قلت :
هذا قبرُ رسولِ الله -صلى اللهُ عليه وسلم- وقد عُمِّرت عليه قبةٌ عظيمةٌ أُنفقت
فيها الأموالُ، قلتُ: هذا جهلٌ عظيمٌ بحقيقةِ الحالِ، فإن هذه القُبةَ
ليس بناؤها منهُ -صلى اللهُ عليه وسلم-، ولا من أصحابهِ –رضي
الله عنهم-، ولا من تابعيهم –رحمهم الله-، ولا تابعي التابعين، ولا من علماء أمته
وأئمة مِلتهِ، بل هذه القُبةُ المعمولةُ على قبرهِ -صلى اللهُ عليه وسلم- من
أبنيةِ بعضِ ملوكِ مصر المتأخرين، وهو ((قلاوون الصالحي)) المعروف بالملكِ المنصورِ
في سنةِ ثمانٍ وسبعين وست مئة، ذكرهُ في (( تحقيقِ النصرةِ بتلخيصِ معالمِ دارِ
الهجرةِ))، فهذه أمورٌ دوليةٌ لا دليليةٌ يتبعٌ فيها الآخرُ الأول)).
التوحيد ألطفُ شيءٍ وأنزههُ
وأنظفهُ وأصفاهُ، فأدنى شيءٍ يَخدشه ويُدنِّسهُ ويؤثِّرُ فيه، فانتبه؛ فهو كأبيضِ
ثوبٍ يكون، يُؤثِّرُ فيه أدنى أثر، كالمرآةِ الصَّافية جدًا؛ أدنى شيء يؤثر فيها،
ولهذا تُشوشه اللحظة واللفظة والشهوة الخفية، فإنَّ بادر صاحبه وقلع الأثر بضده،
وإلا استحكم وصار طبعًا يتعثرُ عليه قلْعهُ، وهذه الآثار والطبوع الذي تحصُل فيه،
منها ما يكون سريع الحصول، سريع الزوال، ومنها ما يكون سريع الحصول بطيء الزوال،
ومنها ما يكون بطيء الحصول سريع الزوال، ومنها ما يكون بطيء الحصول بطيء الزوال.
ولكنْ من الناس من يكون
توحيدهُ كبيرًا عظيمًا ينغمرُ فيه كثيرٌ من تلك الآثار، ويستحيل فيه بمنزلة الماء
الكثير، الذي يخالطه أدنى نجاسة أو وسخ، فيغتر به صاحب التوحيد الذي هو دونه؛
فيخلط توحيده الضعيف بما خلط به صاحب التوحيد العظيم توحيده، فيظهر من تأثيره فيه
ما لم يظهر في التوحيد الكثير، وأيضًا فإنَّ المحلَّ الصافي جدًا يظهر لصاحبه مما
يُدنسه ما لا يظهر في المحلِّ الذي لم يبلغ في الصفاء مبلغه، فيتداركه بالإزالة
دون هذا، فإنه لا يشعر به، وأيضا فإن قوة الإيمان والتوحيد إذا كانت قويةً جدًا
أحالت الموادَ الرديئة وقهرتها بخلاف القوة الضعيفة، وأيضًا فإن صاحب المحاسن الكثيرة
والغامرة للسيئات؛ ليُسامح بما لا يُسامحُ به من أتى مثل تلك السيئات وليست له مثلُ
تلك المحاسن كما قيل: وإذا
الحبيبُ أتى بذنبٍ واحدٍ جاءت محاسنهُ بألفِ شفيعِ.
وأيضًا فإنَّ صِدقَ الطلب
وقوة الإرادة وكمال الانقياد يُحيلُ تلك العوارضَ والغواشي الغريبة إلى مقتضاه
وموجبهِ، كما أنَّ الكذبَ وفسادَ القصدِ وضعفِ الانقياد يُحيلُ الأقوال والأفعال
الممدوحة إلى مقتضاه وموجبه، كما يُشاهد ذلك في الأخلاط الغالية وإحالتها لصالح
الأقضية إلى طبعها.
يا أيها الناس إنَّ التوحيد
مَفْزَعُ أعدائهِ تعالى وأوليائه، فأما أعدائه فيُنجِّيهم من كُربِ الدنيا
وشدائدها: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّـهَ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:
65].
فالتوحيد مفزعُ أعداء الله
في الدنيا إذا اشتد عليهم الأمر وضاقت عليهم الحلقة، لم يجدوا إلا جهة السماء
يفزعون إلى الله -جل وعلا- وهو الرحمن الرحيم فيُزيلُ ما بهم، ولكنهم إذا خلصُوا
من شدتهم عادوا إلى شركهم، وأما أولياءه فيُنجيهم من كُربات الدنيا والآخرة وشدائدها،
ولذلك فَزِعَ إليه يونس، فنجَّاه الله من تلك الظلمات.
وفَزع إليه أتباعُ الرُّسُل،
فنُجُّوا بالتوحيد مما عُذِّب به المشركون في الدنيا، وما أُعد لهم في الآخرة،
ولما فزع إليه فرعون عند معاينة الهلاك وإدراك الغرق لم ينفعه: {وَجاوَزنا بِبَني
إِسرائيلَ البَحرَ فَأَتبَعَهُم فِرعَونُ وَجُنودُهُ بَغيًا وَعَدوًا حَتّى إِذا
أَدرَكَهُ الغَرَقُ قالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلـهَ إِلَّا الَّذي آمَنَت بِهِ بَنو
إِسرائيلَ وَأَنا مِنَ المُسلِمينَ ﴿٩٠﴾ آلآنَ وَقَد عَصَيتَ قَبلُ وَكُنتَ مِنَ المُفسِدينَ﴿٩١﴾ فَاليَومَ نُنَجّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكونَ لِمَن خَلفَكَ
آيَةً وَإِنَّ كَثيرًا مِنَ النّاسِ عَن آياتِنا لَغافِلونَ} [يونس: 90-92]، لم
ينفعه لأنَّ الإيمانَ عند المعاينة لا يُقبل، فانتبه؛ هذه سُنَّةُ اللهِ في عباده،
ما دُفعت شدائدُ الدنيا بمِثْلِ التوحيد؛ ولذلك كان دعاءُ الكربِ بالتوحيد، دعوة
ذي النون: ما دعا بها مكروب إلا فرَّج الله كربه بالتوحيد ((لا إله إلا أنت سبحانك
إني كنت من الظالمين))، فلا يُلقي في الكُرب العظام إلا الشرك، ولا يُنجي منها إلا
التوحيد، فهو مفزعُ الخليقة وملجأها وحِصنها وغايتها، وهذا بدايةُ الإصلاحِ ووسطهُ
ونهايتهُ، مَنْ أرادَ إصلاحَ أمرِ هذه الأمة، فعليه بأنْ يدعوها إلى دين الله كما
جاء به رسول الله، لا كما تقوله الجماعات المنحرفة والفِرق المتعدية.
وبعد: فإني أريدُ أنْ أقولَ
كلمةً أخيرة عسى أنْ تُفهمَ عني وتُقبل مني وهي:
إنَّ من طبيعةِ المصريين في
هذه الفترةِ من تاريخهم؛ أنهم يستنيمون إلى الدَّعة، ويُخلدون إلى الراحة، إذا
رأوا شواهدَ الأحوالِ لائحةً وتحققوا أنَّ الأسبابَ حاضرة، ولكنهم يُغفِلون في
الوقتِ عينهِ إعمالَ الأسباب وبذلَ المجهود، ولا يلتفتون إلى قول الشاعر الحكيم:
لا تحقرنَّ ضعيفًا في مُنازلةٍ
*** إنَّ الذبابةَ أدمت مُقلةَ الأسدِ.
وكثيرًا ما أثرَّت قوةُ
الضعفِ، وللضعفِ قوة في ضعف القوة،والقوةُ قد تَضْعُفُ، فخُذوا بالأسباب أيها
المصريون، ولا تستنيموا للراحة فإنها مَضيعةٌ للثمرات، ومُهلكةٌ للخيرات.
واللهُ يتولاكم ويُبقي عليكم دينكم، ويحفظه
عليكم.
وصلى الله وسلم على نبينا
محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.