خطبة ثورة الغلابة أم ثورة الديابة؟!
خطبة الجمعة 20 من المحرم 1438هـ الموافق
21-10-2016م
إِنَّ الْحَمْدَ
لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُه، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ
أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ،
وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ
لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ -صَلَّى اللهُ
عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم-. أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ
الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ
عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم-، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ
بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ. أَمَّا بَعْدُ:
فَبَعدَ أَنْ
وَقَعَت الفَوضَى فِي مِصرَ كَنَتِيجَةٍ لِأَحدَاثِ الخَامِسِ وَالعِشرِينَ مِنْ يَنَايِر؛
وَقَعَ تَخرِيبٌ عَظِيمٌ, وَتَدمِيرٌ شَامِلٌ مُرِيبٌ, وَتَمَّ الاعتِدَاءُ علَى مَبْنَى
(مَجلِسِ الوُزَرَاء)، وَأُحرِقَ (المَجمَعُ العِلمِيُّ التَّارِيخِيُّ) بَيَدِ شَابٍّ
أَهْوَج, ضَعِيفِ العَقلِ, فَاسِدِ الدِّينِ, وَكَانَ يَومًا حَزِينًا فِي تَارِيخِ
مِصرَ؛ حَيثُ أَنَّهُ يَجمَعُ تُرَاثَهَا وَمَوَاثِيقَهَا التَّارِيخِيَّةَ إِلَى
عَهْدٍ بَعِيدٍ, وَقَدْ عَبَّرَ كَثِيرٌ مِنَ العُلَمَاءِ وَالمُفَكِّرِينَ عَنْ شِدَّةِ
حُزنِهِم لِذَلِكَ وَشَبَّهُوا هَذا الحَرِيقَ بَحَرِيقِ التَّتَارِ لِمَكتَبَةِ بَغدَادَ
الإِسلَامِيَّةِ الكُبرَى.
وَقَد دَعَا
ذَلِكَ المُفَكِّرَ وَالبَّاحِثَ العَالَمِيَّ (جَاك دِيبُون) أَنْ يُصَرِّحَ -كَمَا
نَشَرَت ذَلِكَ جَرِيدَةُ الوَفدِ فِي الثَّامِنِ وَالعِشرِينَ مِن دِيسَمبِر سَنَةَ
إِحدَى عَشرَةَ وَأَلفَين (28/12/2011)-, لِقَنَاةِ CNN قَائِلًا:
«لَمْ أَرَ
شَعْبًا غَبِيًّا هَمَجِيًّا كَالشَّعبِ المِصرِيِّ؛ يُحَرِّقُونَ تُرَاثَهُم وَتَارِيخَهُم,
يُحَرِّقُونَ (المَجمَعَ العِلْمِيَّ العَالَمِيَّ) وَيَرقُصُونَ بِجَانِبِهِ, وَيُهِينُونَ
جَيشَهُم, وَهَذا الجَيشُ يَحتَرِمُهُ قَادَةُ شُعُوبِ العَالَمِ وَجُيُوشِهَا؛ لِقُوَّتِهِ,
وَالطَّرِيفُ جِدًّا أَنَّهُم مُتَأَكِّدُونَ أَنَّهَا مُؤَامَرَةٌ عَلَى بَلَدِهِم
لِتَقسِيمِهِ!!
وَرَغمَ هَذَا
مِنَ المُمكِنِ أَنْ تَدفَع لِبَعضِ الفَتَيَاتِ أَوْ الشَّبَابِ أَوْ الإِعلَامِيِّين
أَلْفَ يُورُو, وَتَطلُبَ مِنهُ فِعلَ أَيِّ شَيءٍ؛ لِتَدمِيرِ تَارِيخِ هَذا البَلَدِ
الغَنِيِّ بِتَارِيخِهِ, وَسَيَفعَل دُونَ أَيِّ تَفكِير!!
بِرَغمِ أَنَّ
الذِي لَا يَعرِفُهُ الكَثِيرُونَ عَن هَذَا البَلَدِ؛ أَنَّ الإِعلَامِيِّينَ المَشَاهِيرَ
هُنَاك يَملِكُونَ مَلَايِينَ الدُّولَارَاتِ وَلَا يُسَاعِدُونَ مَثَلًا أَيَّ مُستَشْفَى
لِلفُقَراءِ, وَعِندَ حُدُوثِ حَربٍ فِي مِصرَ؛ فَهَؤلَاءِ المَشَاهِير سَيُغَادِرُونَ
بِلَدَهُم».
قَالَ: «وَهَذِهِ حَقِيقَةٌ أُحِبُّ أَنْ أَعتَرِفَ بِهَا؛ بِأَنَّ
كَثِيرًا مِن دُوَلِ العَالَمِ, وَمِنهَا دُوَلٌ عَرَبِيَّةٌ وَأَمِريكَا يَحسُدُونَ
مِصرَ؛ لِأَنَّهَا دَولَةٌ قَدِيمَةٌ عَتِيقَةٌ وَتَارِيخُهَا قَدِيم –بِمَعنَى:
أَنَّ لَهُم أُصُولًا وَجُذُورًا مِثل دَولَةِ العِرَاق-.
وَمُعظَمُ الشَّعبُ
المِصرِيُّ لَا يَهتَمُّونَ, يَذهَبُونَ لِلجَامِعَاتِ وَالمَدَارِسِ, وَيَذهَبُونَ
لِلعَمَلِ, وَيَذهَبُونَ لِلسُّوقِ لِشرَاءِ الطَّعَامِ, وَكَأَنَّ شَيئًا لَمْ يَحدُث,
وَيَتْرُكُونَ قِلَّةً مِنَ الغَوْغَاءِ وَالمُتَخَلِّفِينَ وَاللُّصُوصِ وَالبَلطَجِيَّةِ
يَهدِمُونَ وَيُسْقِطُونَ دَولَتَهُم!!
بَلْ الأَغرَبُ
مِنْ هَذَا؛ أَنَّ بَعضَ قَنَوَاتِهِمُ الفَضَائِيَّةَ وَقَنَاةَ التِّلِيفِزيُونِ
المِصرِيِّ تُؤَيِّدُ كُلَّ ذَلِك!!
وَسَأَلَ
(جَاك دِيبُون) المُذِيعَةَ:
أَلَيْسَ هَذَا بِشَعْبٍ أَحمَق؟!».
وَلَا أُوَافِقُهُ
عَلَى هَذَا الوَصفِ؛ وَلَكِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَعلَمَ مَواطِنِيَّ مِنَ المِصرِيِّينَ
نَظرَةَ الآخَرِينَ مِنَ العُقَلَاءِ المُنصِفِينَ إِلَيهِم, وَأَنَّهُم مَا دَامُوا
عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ مِنَ السَّلبِيَّةِ؛ فَإِنَّهُم سَيُسْقِطُونَ دَولَتَهُم
بِأَيدِيهِم, وَلَنْ يَجِدُوا فُرصَةً لِيَرْقُصُوا عَلَى رُفَاتِهَا!!
وَقَدْ وَقَعَ
قَبلَ ذَلِكَ فِي العَرِاقِ مَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَ مِنهُ المِصرِيُّونَ
وَغَيرُهُم دُرُوسًا وَعِبَرًا, وَمَعْرِفَةً بَحَقِيقَةِ الصِّرَاعِ الدَائِرِ,
الذِي تُمَثِّلُ الدَّولَةُ المِصرِيَّةُ أَحَدَ أَهَمِّ مَيَادِينِهِ -إِنْ لَمْ
يَكُنْ أَهَمَّهَا عَلَى الإِطلَاقِ-.
وَقَد بَيَّنَ
مُدِيرُ المَتحَفِ العِراقِيِّ أَثنَاءَ غَزْوِ العِرَاق (دُونِي جُورْج)؛ أَنَّ سِرقَةَ
المَتحَفِ العِرَاقِيِّ كَانَت مُهَيَّأَةً سَلَفًا, وَالقِصَّةُ بَدَأَت قَبلَ عَامٍ
كَامِلٍ مِنَ الغَزْوِ, إِذْ أَوضَحَ الدُّكتُور (جُورْج): «أَنَّ مَا حَدَثَ كَانَ
مُتَوَقَّعًا, وَتَمَّ اتِّخَاذُ إِجرَاءَاتٍ عِرَاقِيَّةٍ عَدِيدَةٍ مِنْ حُكُومَةِ
مَا قَبلَ الحَربِ؛ لِلتَّخفِيفِ مِن آثَارِهِ, وَلَكِنَّ تَقَاعُسًا فِي حِمَايَةِ
المَتحَفِ مِنْ قِبَلِ الجَيشِ الأَمرِيكِيِّ سَهَّلَ هَذِهِ السَّرِقَات».
وَقَالَ: «قَبلَ عَامٍّ مِمَّا حَصَلَ فِي المَتحَفِ, وَفِي تَارِيخِ
العَاشِر مِن نِيسَانِ سَنَةَ اثنَتَيْن وَأَلفَين (10 نيسان 2002) تَمَامًا, وَصَلَتْنِي
مَعلُومَةٌ مِن إِحدَى الزَّمِيلَاتِ فِي (جَامِعَةِ كَامْبِرِدْج) عَنْ حَدِيثٍ جَرَى
فِي جَلسَةٍ مُتَخَصِّصَةٍ لِلآثَارِ...
قَالَ
أَحَدُهُم فِيهَا: إِنَّ العِراقِيِّينَ
لَا يَستَحِقُّونَ مَا لَدَيْهِم مِنْ آثَارٍ, وَلَا يَعرِفُونَ كَيفَ يَتَعَامَلُونَ
مَعَهَا؛ لِذَلِكَ يَجِبُ أَنْ نُشَجِّعَ السَّارِقِينَ أَنْ يَسرِقُوهَا, وَيُخرِجُوهَا
خَارِجَ العِرَاق.
وَقَالَ
آخَرُ فِي الجَلسَةِ ذَاتِهَا:
إِنَّهُ يَنتَظِرُ اليَومَ الذِي تَدخُلُ فِيهِ القُوَّاتُ الأَمرِيكِيَّةُ بَغدَادَ؛
لِيَكُونَ مَعَهَا وَيَأخُذَ مَا يُرِيدُ مِنَ المَتحَفِ العِرَاقِيِّ.
فِي اليَومِ
العَاشِرِ مِن نِيسَان سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَلفَين (10 نيسان 2003) شَاهَدَ أَحَدُ المُوَظَّفِينَ
السَّاكِنِينَ فِي مَجْمَعِ المَتحَفِ العِرَاقِيِّ مَجمُوعَةَ مِنْ أَربَعِ مِئَةِ
شَخصٍ مُسَلَّحِينَ بِمُختَلَفِ أَنوَاعِ الأَسلِحَةِ, يَنوُونَ دُخُولَ المَتحَف,
فَذَهَبَ لِدَبَّابَةٍ أَمرِيكِيَّةٍ تَبعُدُ سَبعِينَ مِترًا عَنْ مَدخَلِ المَتحَف,
وَتَوَسَّلَ بِهِم كِيْ يَقُومُوا بحِمَايَةِ المَتحَف، لَكِنَّ آمِرَ الدَّبَّابَةِ
وَبَعدَ اتِّصَالٍ أَجرَاهُ مَعَ رُؤسَائِهِ قَالَ: لَا أَمْرَ لَدَينَا بحِمَايَةِ
المَتحَف!!»
قَالَ
المُدِيرُ الأَسبَقُ لِلمَتحَفِ: «وَأَنَا تَأَكَّدتُ مِنْ ذَلِكَ حِينَ التَقَيْتُ ذَلِكَ الرَّقِيب».
قَالَ: «كَانَ لَدَيْنَا مَعلُومَات أَنَّ قَائِمَةً صَدَرَت لِلجَيشِ
الأَمرِيكِيِّ لحِمَايَةِ سِتَّةَ عَشَرَ مَوْقِعًا فِي بَغدَادَ, وَكَانَ المَوقِعُ
رَقَم وَاحِد هُوَ البَنكُ المَركَزِيُّ, وَالمَوقِعُ رَقم اثنَينِ هُوَ المَتحَفُ
العِرَاقِيُّ, وَالمَوقِعُ الأَخِيرُ رَقم سِتَّةَ عَشَر كَانَ وَزَارَةَ النِّفطِ,
لَكِنَّ أَوَّلَ مَا تَمَّت حِمَايَتُهُ هُوَ وَزَارَةُ النِّفطِ العِرَاقِيَّةِ!!
لِدَرَجَةِ أَنَّ فُكَاهَةً انتَشَرَت تَقُولُ: إِنَّ الجُنُودَ الأَمرِيكِيِّينَ قَرَؤُوا
القَائمَةَ مَقلُوبَة!!»
وَبَيَّنَ
الدُّكتُور (دُونِي جُورْج):
«أَنَّ التَّحقِيقَات الَّتِي أَجرَاهَا وَزُمَلاؤهُ المُختَصُّونَ بعَمَلِ الآثَارِ
فِي الثَّالِثِ عَشَرَ مِن نِيسَان سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَلفَين (13 نيسان 2003) -أَيْ
بَعدَ يَومَيْنِ مِنَ السَّرِقَةِ-، أَثْبَتَت أَنَّ السَّرِقَةَ كَانَت عَمَلِيَّةً
مُنَظَّمَةً وَلَيسَتَ عَشَّوائِيَّة أَوْ نَتِيجَةَ أَعمَالِ شَغْبٍ, وَأَنَّ مَنْ
قَامَ بِهَا مَافْيَا كَبِيرَة, وَأَنَّ هُنَاكَ تَحضِيرًا وَتَرتِيبًا سَالِفًا؛ خُصُوصًا
أَنَّ هُنَاكَ قِطَعًا أَثَرِيَّةً عَدِيدَةً وَصَلَت بَعدَ أَقَلَّ مِنْ أُسبُوعَين
مِنَ السَّرِقَةِ إِلَى أَمِريكَا وَأُورُبَّا، وَهِيَ فَترَةٌ قِيَاسِيَّةٌ تَدُلُّ
أَنَّ مَنْ قَامَ بِذَلِكَ مَافْيَا مُنَظَّمَةٌ وَكَبِيرَةٌ جِدًّا».
وَقَالَ: «تَوَصَّلنَا نَتِيجَةَ التَّحقِيقَات إِلَى أَنَّ هُنَاكَ
ثَلَاثَ مَجمُوعَاتٍ مِنَ اللُّصُوصِ دَخَلَت إِلَى مَجْمَعِ المَتحَف:
الأُولَى: دَخَلَت مِنْ شُبَّاكٍ مُغلَقٍ مُنذُ عَشرِ سَنَوات, وَهُوَ
فِي إِحدَى زَوايَا البِنَاءِ غَيرِ المَرئِيَّة, وَهِيَ مَبنِيَّةٌ وَلَيسَت مَفتُوحَة,
وَعَلَيهَا سِتَارٌ حَدِيدِيٌّ, إِذْ تَمَّ خَلعُ السِّتَارِ الحَدِيدِيِّ وَالحَفرُ
خَلفَهُ؛ لِلدُّخُولِ إِلَى المَتحَف!!
أَمَّا المَجمُوعَةُ الثَّانِيَة: فَدَخَلَت إِلَى
مَخَازِنِ المَتحَفِ مِن نُقطَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ سَرادِيبِ المَخزِن, قَالَ: وَاعتَقِدُ
شَخصِيًّا أَنَّ المَجمُوعَةَ الثَّانِيَةَ كَانَ لَدَيهَا مَعلُومَاتٌ عَمَّا يُوجَدُ
دَاخِلَ المَخَازِن؛ إِذْ دَخَلُوا عَن طَرِيقِ بَابٍ صَغِيرٍ مَبْنِيٍّ مِنَ الدَّاخِلِ،
حَتَّى إِنَّ الكَثِيرَ مِنْ مُوَظَّفِي المَتحَف لَا يَعرِفُونَهُ...
قَالَ: وَأَنَا شَخصِيًّا لَمْ أَكُنْ أَعرِفُ بِوُجُودِهِ!!
دَخَلُوا عَبرَهُ,
وَذَهَبُوا لمَجمُوعَةٍ مِنَ الصَّنَادِيقِ البِلَاسْتِيكِيَّةِ التِي فِيهَا أَصغَرُ
وَأَثمَنُ القِطَعِ المَوجُودَةِ فِي مَخَازِنِ المَتحَف, وَمِنْ هَذِهِ المَجَامِيع
أَخَذُوا أَكثَرَ مِنْ خَمسَةِ آلَآفِ خَتْمٍ اسطِوَانِيٍّ.
وَأَمَّا
المَجمُوعَةُ الثَّالِثَةُ:
فَقَد دَخَلَت الأَبْنِيَةَ الحُكُومِيَّةَ وَالإِدَارِيَّةَ, وَسَرَقَت كُلَّ شَيءٍ
فِي غُرَفِ المُوَظَّفِينَ وَغُرَفِ الهَيئَةِ الإِدَارِيَّةِ؛ مِنَ السِّجِلَّاتِ
وَالوَثَائقِ حَتَّى قَواطِعَ الكَهرُبَاء!!
وَفَتَحُوا
خَزَانَةً أُخرَى فِيهَا مَجَامِيعُ مِنَ الأَختَامِ, لَكِنَّهُم اخْتَارُوا مِنهَا
تِسعَ قِطَعٍ فَقَط وَهِيَ الأَغلَى؛ فَاستَنْتَجْنَا أَنَّ هُنَاكَ تَحضِيرًا وَتَرتِيبًا
سَابِقًا لِلسَّرِقَةِ».
وَقَد
قَالَ المُدِيرُ الأَسبَقُ لِلمَتحَفِ العِرَاقِيِّ ذَلِكَ فِي مُحَاضَرَةٍ أَلقَاهَا
فِي المَتحَفِ الوَطَنِيِّ بِدِمَشقِ سَنَةَ سِتٍّ وَأَلفَين (2006).
وَبَعدَ ذَلِكَ
بسِنِين, فِي الثَّانِي عَشَرَ مِن دِيسَمبِر سَنَةَ عَشرَةٍ وَأَلفَين (12/12/2010)
أَكَّدَت وَزَارَةُ الدَّولَةِ لِشُؤونِ السِّيَاحَةِ وَالآثَارِ بِالعِرَاقِ؛ أَنَّ
الجُهُودَ المُشتَرَكَةِ لِلأَجهِزَةِ الحُكُومِيَّةِ أَثمَرَت حَتَّى ذَلِكَ الوَقت
عَن استِعَادَةِ مَا نِسبَتُهُ ثَلاثُونَ بِالمِئَة مِنْ مَجمُوعِ الآثَارِ التِي تَعَرَّضَت
لِلسَّرِقَةِ خَلَالَ الأَحدَاثِ التِي رَافَقَت سُقُوطَ النِّظَامِ العِرَاقِيِّ السَّابِق
فِي العَامِ الثَّالِثِ بَعدَ الأَلفَين (2003), وَأَنَّ عَدَدَ الآثَارِ التِي كَانَت
مَوجُودَة فِي المَتحَفِ الوَطَنِيِّ قَبْلَ أَحدَاثِ العَامِ الثَّالِثِ وَأَلفَين
–وَهُوَ عَامُ الغَزْو-، وَبَقِيَّةِ المَنَاطِق الأَثَرِيَّةِ
فِي المُحافَظَات, بَلَغَ مَجمُوعُ تِلكَ القِطَع نَحْوَ مِائتَي أَلفِ قِطعَةٍ أَثَرِيَّة،
وَأَنَّ مَا سُرِقَ مِنَ المَتحَفِ فَقَط يَبلُغُ خَمسَةَ عَشَرَ أَلفًا وَأَربَع
مِئَة مِنَ القِطَعِ، مُنَوِّهًا بِعَدَمِ وُجُودِ احصَائيَّاتٍ دَقِيقَةٍ بِأَعدَادِ
الآثَارِ المَسرُوقَةِ مِنَ المَواقِعِ!!
فَارْجِع إِلَى
كَلَامِ (جَاك دِيبُون) فِي أَنَّ هَؤلَاءِ إِنَّمَا يُرِيدُونَ تَدمِيرَ التَّارِيخ,
وَإِزَالَةَ المَعَالِم السَّابِقَةِ؛ لِأَنَّهُم هُمْ لَا تَارِيخَ لهُم, وَتَارِيخُهُم
دَمَوِيٌّ حَافِلٌ بِالتَّعَصُّبِ المَقِيتِ الذِي أَذَلَّ شُعُوبًا بِأَسْرِهَا وَاللهُ
المُستَعَان.
قَالَ
تَعَالَى: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُم مَّا يَشَاءُونَ
عِندَ رَبِّهِمْ ۚ ذَٰلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ *
لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم
بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الزمر: 33-35].
*
مَا الذِي يَعرِفُهُ المُسلِمُ عَن أَعْدَى أَعدَائِهِ؟!
الجَوابُ: لَا شَيء!!
بَلْ لَوْ
قُلتَ: إنَّهُ يَعلَمُ مَا يَنبَغِي أَنْ يُعْلَمَ بِالسَّلْبِ لَا بِالإِيجَابِ لَكُنتَ
صَادِقًا مُوافِقًا لِلحَقِيقَة!!
بِمَعْنَى:
أَنَّهُ يَعْلَمُ الحَقِيقَةَ مَقلُوبَة!!
*
مَا الذِي يَعرِفُهُ المُسلِمُ عَن المَسِيحِيَّةِ الصُّهيُونِيَّةِ أَوْ عَنِ المَسِيحِيَّةِ
اليَهُودِيَّةِ؟!
هَذِهِ الطَّائفَة
عِبَارَةٌ عَن اعتِقَادٍ بَينَ بَعضِ الطَّوائفِ المَسِيحِيَّةِ, التِي تُؤمِنُ بِضَرُورَةِ
عَودَةِ اليَهُود إِلَى الأَرضِ المُقَدَّسَةِ -إِلَى جَبَلِ صُهيُونَ فِي فِلسطِين-,
وَتَأَسِيسِ دَولَةِ اليَهُود كَمَا وَقَعَ فِي العَامِ الثَّامِنِ وَالأَربَعِينَ
بَعدَ التِّسعِ مِئَةِ وَأَلف (1948)؛ مِن أَجلِ التَّعجِيلِ بظُهُورِ السَّيِّدِ
المَسِيح بِنَاءً عَلَى النِّبُوءَةِ الشَّهِيرَةِ فِي «سِفْرِ النَّبِيِّ دَانْيَال»
وَهِيَ نِبُوءَةُ دَمَارِ المَعبَد.
لَكِنَّ هُنَالِكَ
نُقطَةً مُهِمَّةً جِدًّا؛ طَالَمَا غَفَلَ عَنهَا الكَثِيرُ مِمَّن تَطَرَّقُوا إِلَى
مَوقِفِ هَذَا التَّيَّارِ النَّصرَانِيِّ مِنْ إسْرَائِيل... نَعَم؛ صَحِيحٌ هُم
مَعَ هِجرَةِ اليَهُودِ إِلَى فِلسطِين وَتَكوِينِ دَولَةِ إِسرائِيل, وَلَكِنْ مِنْ
أَجلِ التَّعجِيلِ بِظُهُورِ المَسِيح, وَهَذِهِ نُقطَةٌ خَطِيرَةٌ جدًّا.
هُمْ يُؤمِنُونَ
أَيضًا بِأَنَّ ظُهُورَ المَسِيح؛ لَا يَتِمُّ إِلَّا بَعدَ تَدمِيرِ إِسرائِيل عَلَى
يَدِي دَولَةِ بَابِل, وَأَنَّ اليَهُودَ المُتَبَقِّينَ لَا بُدَّ أَنْ يَتَحَوَّلُوا
إِلَى المَسِيحِيَّةِ, وَهَذَا يَعنِي أَنَّهُم بِقَدْرِ مَا يَدعَمُونَ إِسرائِيل
بِقَدْرِ مَا يَسْعَونَ إِلَى تَدمِيرِهَا!!
وَهَذَا
التَّيَّارُ الصُّهيُوصَلِيبِيُّ الذِي يُقَالُ لَهُ الصُّهيُونِيَّةُ المَسِيحِيَّةُ
-أَوْ المَسِيحِيَّةُ الصُّهيُونِيَّةُ-, لَهُ أُصُولُه القَدِيمَةُ؛ يَعُودُ إِلَى
ظُهُورِ البُروتُستَانْتِيَّة عَلَى يَدِي (مَارْتِن لُوثَر) فِي أَلمَانْيَا, حَيْثُ
أَصدَرَ كِتَابَهُ «عِيسَى وُلِدَ يَهُودِيًّا» سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشرِينَ وَخَمسِ
مِئَةٍ وَأَلف (1523), وَقَالَ فِي كِتَابِهِ ذَلِكَ:
«إِنَّ اليَهُودَ
هُمْ أَبنَاءُ اللهِ, وَإِنَّ المَسِيحِيِّينَ هُمْ الغُرَبَاء, الذِينَ عَلَيهِم
أَنْ يَرْضَوْا بِأَنْ يَكُونُوا كَالكِلَابِ التِي تَأْكُلُ مَا يَسقُطُ مِنْ فُتَاتِ
مَائِدَةِ الأَسْيَاد –يَعنِي: اليَهُود-أكل».
إِنَّ هَذهِ
الخَطوَةَ اللُّوثَرِيَّة تُعَدُّ الوِلَادَةَ الحَقِيقِيَّةَ وَالفِعلِيَّةَ لِلمَسِيحِيَّةِ
الصُّهيُونِيَّةِ, إِنَّ إِعَادَةَ الاعتِبَارِ لِليَهُودِ وَتَمسِيحِهِم كَانَت نَتِيجَةً
طَبِيعِيَّةً لِلإِيمَانِ العَمِيقِ؛ لِأَهَمِّيَّةِ وُجُودِ اليَهُودِ فِي هَذا
العَالَمِ تَمهِيدًا لِظُهُورِ السَّيِّدِ المَسِيح.
وَاعتُبِرَت
هَذِهِ الدَّعوَةُ انقِلَابًا جذْرِيًّا ضِدَّ مُوقِفَ الكَنِيسَةِ الكَاثُولِيكِيَّةِ
التِي كَانَت تُدِينُ اليَهُود وَتَعتَبِرُهُم قَتَلَةَ السَّيِّد المَسِيح ,
وَتَعتَبِرُهُم المَسؤُولِينَ عَن صَلْبِهِ -كَمَا يَعتَقِدُونَ وَيَزعُمُونَ-.
وَقَد أَطلَقَ
اللُّورد (أَنطُونِي آشْلِي)، وُهُوَ أَحَدُ كِبَارِ زُعَمَائهَا شِعَارَ «وَطَنٌ
بِلَا شَعب لِشَعبٍ بِلَا وَطَن» وَهُوَ الأَمرُ الذِي أَدَّى إِلَى أَنْ يَكُونَ
أَوَّلَ نَائبٍ لِقُنْصُلِ بِريطَانيَا فِي القُدسِ (وِلْيَمْ بِرَنْج) أَحَدِ أَتبَاعِ
تِلكَ الطَّائِفَة.
وَيُعتَبَرُ
اللُّورد (بَالمِرِستُون) وَزِيرُ خَارِجِيَّةِ بِريطَانيَا مِنْ أَكبَرِ المُتَعَاطِفِينَ
مَعَ أَفكَارِ تِلكَ المَدرَسَةِ الصُّهيُونِيَّةِ المَسِيحِيَّةِ, وَأَيضًا فَإِنَّ
(تشَارِلز تشِرشِل) -وَهُوَ الجَدُّ الأَعلَى لِـ (وِنستُون تشِرشِل) رَئِيسُ الحُكُومَة
البِريطَانِيَّة الأَسبَق- يُعَدُّ أَحَدَ كِبَارِ أَنصَارِ تِلكَ الطَّائفَة.
انْتَقَلَت
الصُّهيُونِيَّةُ المَسِيحِيَّةُ إِلَى أَمرِيكَا مِن خِلَالِ الهِجرَاتِ المُبَكِّرَةِ
لِأَنصَارِهَا؛ نَتِيجَة لِلاضطِهَادِ الكَاثُولِيكِيِّ، وَاستَطَاعَت تَأسِيسَ عِدَّةِ
كَنَائسَ فِي أَمِريكَا مِن أَشهَرِهَا (الكَنِيسَةِ المُورمُونِيَّة), وَيُعتَبَر
(سَايرُوس سكُلوفِليد) الأَبَّ اللَّاهُوتِيَّ لِلصُّهيُونِيَّةِ المَسِيحِيَّةِ فِي
أَمرِيكَا.
لَعِبَت تِلكَ
الكَنَائسُ دَوْرًا هَامًّا فِي تَمكِينِ اليَهُودِ مِن احْتِلالِ فِلسطِين, وَاستِمرَارِ
دَعمِ الحُكومَاتِ الأَمرِيكِيَّةِ لهُم إِلَّا مَا نَدَر؛ مِنْ خِلَالِ العَدِيدِ
مِنَ اللِّجَانِ وَالمُنَظَّمَاتِ وَالأَحزَابِ, التِي أُنشِئَت مِنْ أَجلِ ذَلِك وَمِنْ
أَبرَزِهَا:
-
الفِيدرَالِيَّةُ الأَمرِيكِيَّةُ المُؤيِّدَةُ لِفِلسطِين,
التِي أَسَّسَهَا القِسُّ (تشَارلِز رَاسِل) سَنَة ثَلاثِينَ وَتِسعِ مِئَة وَأَلف
(1930).
-
وَاللَّجنَةُ الفِلسطِينِيَّةُ الأَمرِيكِيَّةُ التِي أَسَّسَهَا
فِي عَامِ اثنَين وَثَلاثِينَ وَتِسعِ مِئَةِ وَأَلف (1932) السِّينَاتُور (رُوبَرت
وَاضَر) وَضَمَّت ثَمَانِيَةً وَسِتِّينَ عُضوًا مِن مَجلِس الشُّيُوخ، وَمِئَتَينِ
مِنَ الأَعضَاءِ مِن مَجلِسِ النُّواب, وَعَدَدًا مِنْ رِجَالِ الدِّينِ الإِنجِيلِيِّين،
وَرَفَعَت هَذِهِ المُنَظَّمَات شِعَارَات: «الأَرضُ المَوعُودَةُ، وَالشَّعبُ المُختَارُ».
وَتُتَرجِمُ
حَرَكَةُ المَسِيحِيَّة الصُّهيُونِيَّة أَفكَارَهَا إِلَى سِيَاسَاتٍ دَاعِمَةٍ لِإسرائِيل،
يَتَطَلَّبُ ذَلِكَ خَلْقَ مُنَظَّمَاتٍ وَمُؤسَّسَاتٍ تَعمَل بِجِدٍّ نَحْوَ تَحقِيق
هَذا الهَدَف, لِذَلِكَ قَامَت حَرَكَةُ المَسِيحِيَّة الصُّهيُونِيَّة بإِنشَاءِ العَدِيدِ
مِنَ المُؤسَّسَاتِ كَـ (اللَّجنَةِ المَسِيحِيَّةِ الإِسرائِيلِيَّةِ لِلعَلَاقَاتِ
العَامَّة) وَ (مُؤسَّسَةِ الائتِلافِ الوَحْدَوِيِّ الوَطَنِيِّ مِنْ أَجلِ إِسرَائِيل).
وَمِن
أَهدَافِ هَذِهِ المُؤسَّسَات:
دَعمُ إِسرائِيلَ لَدَى المُؤسَّسَاتِ الأَمرِيكِيَّةِ المُختَلفةِ السِّيَاسِيَّةِ
مِنهَا وَغَيرِ السِّيَاسِيَّة, وَهُنَاكَ مَا يَقرُب مِن أَربَعِينَ مِليُونًا مِن
أَتبَاعِ الصُّهيُونِيَّةِ المَسِيحِيَّةِ دَاخِل الوِلَايَاتِ المُتَّحِدَةِ الأَمرِيكِيَّةِ
وَحدَهَا، وَيَزدَادُ أَتبَاعُ تِلكَ الحَرَكَةِ؛ خَاصَّةً بَعدَ مَا أَصبَحَ لهَا
حُضُورٌ بَارِزٌ فِي كُلِّ قِطَاعَاتِ المُجتَمَعِ الأَمرِيكِيِّ, وَمَا يَقرُبُ مِن
مِئَةٍ وَثَلاثِينَ مِليُونًا مِنَ الأَعضَاءِ فِي كُلِّ قَارَّاتِ العَالَم.
وَيَشهَدُ الإِعلَامُ
الأَمرِيكِيُّ حُضُورًا مُتَزايِدًا لهُم, حَيثُ إِنَّ هُنَاكَ مَا يَقرُبُ مِن مِئَةِ
مَحَطَّةٍ تِلفِزيُونِيَّة، إِضَافَةً إِلَى أَكثَرَ مِنْ أَلفِ مَحَطَّةٍ إِذَاعِيَّةٍ,
وَيَعمَلُ فِي مَجَالِ التَّنصِيرِ مَا يَقرُبُ مِنْ ثَمَانِينَ أَلفَ قِسِّيس.
وَامتَدَّ نُفُوذُ
الحَرَكَة إِلَى سَاسَةِ الوِلَايَاتِ المُتَّحِدَة بصُورَةٍ كَبِيرَةٍ, وَوَصَلَ إِلَى
دَرَجَةِ إِيمَانِ بَعضِ مَن شَغَلَ البَيتَ الأَبيَض بمَقُولَاتِ الحَرَكَةِ وَالاعْتِرَافِ
بِهَا عَلَنِيًّا, وَالرَّئِيسَانِ السَّابِقَانِ (جِيمِي كَارتَر) وَهُوَ دِيمُقرَاطِي,
وَ (رُونَالد رِيغَان) وَهُوَ جُمهُورِي؛ كَانَا مِنْ أَكثَرِ الرُّؤسَاءِ الأَمرِيكِيِّينَ
إِيمَانًا وَالتِزَامًا بمَبَادِئِ المَسِيحِيَّةِ الصُّهيُونِيَّةِ.
عِلمًا بِأَنَّ
الكَنِيسَةَ الكَاثُولِيكِيَّةَ وَالكَنِيسَةَ الأَرثُوذُكسِيَّةَ وَالكَثِيرَ مِنَ
الكَنائسِ البُروتِستَانْتِيَّةِ لَا تَتَّفِقُ مَع المَسِيحِيَّة الصُّهيُونِيَّة.
فَمَثَلًا:
قَامَت بَطرِيَركِيَّة القُدُس لِلَّاتِينِ الكَاثُولِيكِيَّة, وَبَطرِيَركِيَّة القُدُس
الأَرثُوذُكسِيَّةُ السُّريَانِيَّة, وَالكَنِيسَةُ الأَسقُفِيَّةُ لِلقُدسِ وَالشَّرقِ
الأَوسَطِ, وَالكَنِيسَةُ اللُّوثَرِيَّةُ التَّبشِيرِيَّةُ فِي الأُردُن وَالأَرض
المُقَدَّسَة، -قَامَت هَذِهِ كُلُّهَا بِالإِجمَاعِ- وَصَدَرَ عَنِ الاجْتِمَاع إِعلَانٌ
يَرفُضُ الصُّهيُونِيَّةَ المَسِيحِيَّةَ، وَقَدَ وَقَعَ ذَلِكَ فِي الثَّانِي وَالعِشرِينَ
مِنْ شَهرِ آبْ سَنَةَ سِتٍّ وَأَلفَين (22 آب 2006).
فِي
كِتَاب «لَوْ كَرَّرتَ ذَلِكَ عَلَى مَسَامِعِي فَلَنْ أُصَدِّقَه» وَهُوَ مِن تَألِيفِ الصَّحَفِيِّ الفَرنسِيِّ (جَانَ كُلُود
مُورِيس) الذِي كَانَ يَعمَلُ مُرَاسِلًا حَربِيًّا لِصَحِيفَةِ (لُو جُورْنَال دُو
دِيمَانْش) لِلمُدَّةِ مِنْ سَنَةِ أَلفٍ وَتِسعِ مِئَةِ وَتِسعَةٍ وَتِسعِينَ إِلَى
العَامِ الثَّالِثِ بَعدَ الأَلفَين (1999 –
2003).
تَنَاوَل فِي
ذَلِكَ الكِتَاب أَخطَرَ أَسرَارِ المُحادَثَاتِ الهَاتِفِيَّةِ بَينَ الرَّئيسِ الأَمرِيكِيِّ
(جُورج بُوش الابْن) وَالرَّئِيسِ الفَرَنسِيِّ السَّابِق (جَاك شِيرَاك)، وَالَّتِي
كَانَ يُجرِيهَا الأَوَّل؛ لإِقنَاعِ الثَّانِي بِالمُشَارَكَةِ فِي الحَربِ التِي
شَنَّهَا عَلَى العِراقِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَلفَين (2003)، بِذَرِيعَةِ القَضَاءِ عَلَى
(يَأجُوجَ وَمَأجُوج) الذِينَ ظَهَرُوا فِي مَنطِقَةِ الشَّرقِ الأَوسَطِ؛ تَحقِيقًا
لِنِبُوءَةٍ وَرَدَت فِي الكُتُبِ المُقَدَّسَة!!
قَالَ
المُؤلِّفُ (جَانَ كُلُود مُورِيس) فِي مُسْتَهَلِّ كِتَابِهِ الذِي يُسَلِّطُ فِيهِ الضَّوء
عَلَى أَسرَارِ الغَزْوِ الأَمرِيكِيِّ لِلعِرَاق:
«إِذَا كُنْتَ
تَعتَقِد أَنَّ أَمرِيكَا غَزَت العِرَاق لِلبَحثِ عَن أَسلِحَةِ التَّدمِيرِ الشَّامِلِ؛
فَأَنْتَ وَاهِمٌ جدًّا، وَاعتِقَادُكَ لَيْسَ فِي مَحَلِّه، فَالأَسبَابُ وَالدَّوَافِعُ
الحَقِيقِيَّةُ لهَذَا الغَزوِ لَا يَتَصَوَّرَهَا العَقلُ، بَلْ هِيَ خَارِجُ حُدُودِ
الخَيَال، وَخَارِجُ حُدُودِ كُلِّ التَّوَقُّعَاتِ السِّيَاسِيَّةِ وَالمَنطِقِيَّةِ،
وَلَا يُمكِنُ أَنْ تَطرَأَ عَلَى بَالِ النَّاسِ العُقَلَاءِ أَبَدًا!!
فَقَد كَانَ
الرَّئِيسُ الأَمرِيكِيُّ السَّابِق (جُورْج بُوش الابْن) مِنْ أَشَدِّ المُؤمِنِينَ
بِالخُرَافَاتِ الدِّينِيَّةِ الوَثَنِيَّةِ البَالِيَةِ، وَكَانَ مَهوُوسًا مُنذُ
نُعُومَةِ أَظفَارِهِ بِالتَّنجِيمِ وَالغَيْبِيَّاتِ، وَتَحضِيرِ الأَروَاحِ، وَالانغِمَاسِ
فِي المُعتَقَدَاتِ الرُّوحِيَّةِ المُرِيبَةِ، وَقِرَاءَةِ الكُتُبِ اللَّاهُوتِيَّةِ
القَدِيمَةِ، وَفِي مُقُدِّمَتِهَا التَّورَاة، وَيَجنَحُ بِخَيَالِهِ الكَهَنُوتِيِّ
المُضطَرِبِ فِي فَضَاءَاتِ التَّنَبُّؤاتِ المُستَقبَلِيَّةِ المُستَمَدَّةِ مِنَ
المَعَابِدِ اليَهُودِيَّةِ المُتَطَرِّفَةِ, وَيَمِيلُ إِلَى استِخدَامِ بَعضِ العِبَاراتِ
الغَرِيبَةِ، وَيَمِيلُ إِلَى تِكرَارِهَا فِي خِطَابَاتِهِ, وَهِيَ تَرجِعُ إِلَى
تِلكَ الكُتُبِ اللَّاهُوتِيَّةِ القَدِيمَةِ مِن مِثل: (القَضَاء عَلَى مِحوَرِ الشَّرِّ)،
وَ (بُؤَرِ الكَرَاهِيَة)، وَ (قُوَى الظَّلَام).
يَقُولُ
أَيضًا: كَانَ مِمَّا
يَقُولُهُ: (ظُهُورُ المَسِيحِ الدَّجَّال)، وَ (شَعبُ اللهِ المُختَار)، وَ (الهَرمَجِدُّون)،
وَ (فُرسَان المَعبَد)، وَيَدَّعِي أَنَّهُ يَتَلَقَّى يَومِيًّا رَسَائلَ مُشَفَّرَة؛
يَبعَثُهَا إِلَيهِ الرَّبُّ عَن طَرِيقِ الإِيحَاءَاتِ الرُّوحِيَّة، وَالأَحلَامِ
اللَّيْلِيَّةِ!!»
وَكَشَفَ
الرَّئِيسُ الفَرَنسِيُّ السَّابِق (جَاك شِيرَاك) فِي حَدِيثٍ مُسَجَّلٍ لَهُ مَعَ
مُؤلِّف الكِتَابِ عَن صَفَحَاتٍ جَدِيدَةٍ مِنْ أَسرَارِ الغَزْوِ الأَمرِيكِيِّ
لِلعِرَاقِ، فَقَالَ الرَّئِيس الفَرَنسِيِّ الأَسبَق:
«تَلَقَّيتُ
مِنَ الرَّئيس (بُوش الابْن) مُكَالمَةً هَاتِفِيَّةً فِي مَطلَعِ عَامِ ثَلَاثَةٍ
وَأَلفَين (2003)، فُوجِئتُ فِيهَا بِالرَّئيس (بُوش) وَهُوَ يَطلُب مِنِّي المُوافَقَة
عَلَى ضَمِّ الجَيشِ الفَرَنسِيِّ لِلقُوَّاتِ المُتَحَالِفَةِ ضِدَّ العِراق، مُبَرِّرًا
ذَلِكَ بِتَدمِيرِ آخِرِ أَوْكَارِ (يَأجُوجَ وَمَأجُوج)، مُدَّعِيًا أَنَّهُمَا مُختَبِئانِ
الآنِ فِي الشَّرقِ الأَوسَطِ، قُرْبَ مَدِينَةِ بَابِل القَدِيمَة، وَأَصَرَّ عَلَى
الاشْتِرَاكِ مَعَهُ فِي حَملَتِهِ الحَربِيَّةِ، التِي وَصَفَهَا بِالحَملَةِ الإِيمَانِيَّةِ
المُبَارَكَةِ، وَأَصَرَّ عَلَى مُؤازَرَتِهِ فِي تَنفِيذِ هَذَا الوَاجِبِ الإِلَهِيِّ
المُقَدَّس، الذِي أَكَّدَت عَلَيهِ نُبُوءَاتِ التَّورَاةِ وَالإِنجِيلِ!!»
قَالَ
(شِيرَاك): «هَذِهِ لَيسَت
مُزحَة، فَقَد كُنتُ مُتَحَيِّرًا جِدًّا، بَعدَ أَنْ صَعَقَتْنِي هَذِهِ الخُزَعبَلَاتُ
وَالخُرافَاتُ السَّخِيفَةُ، التِي يُؤمِنُ بِهَا رَئيسُ أَعظَمِ دَولَةٍ فِي العَالَمِ،
وَلَمْ أُصَدِّقْ فِي حِينِهَا أَنَّ هَذَا الرَّجُل بهَذَا المُستَوَى مِنَ السَّطحِيَّةِ
وَالتَّفَاهَةِ، وَيَحمِلُ هَذِهِ العَقلِيَّةَ المُتَخَلِّفَةَ، وَيُؤمِنُ بِهَذِهِ
الأَفكَارِ الكَهَنُوتِيَّةِ المُتَعَصِّبَةِ التِي سَيَحرِقُ بِهَا الشَّرقَ الأَوسَط،
وَيُدَمِّرُ مَهْدَ الحَضَارَاتِ الإِنسَانِيَّةِ.
وَيَجرِي هَذَا
كُلُّهُ فِي الوَقتِ الذِي صَارَت فِيهِ العَقلَانِيَّة سَيِّدَةَ المَواقِفِ السِّيَاسِيَّةِ،
وَلَيسَ هُنَاكَ مَكَانٌ لِلتَّعَامُلِ بِالتَّنَبُّؤاتِ وَالخُرَافَاتِ وَالخُزَعبَلَاتِ
وَالتَّنجِيمِ وَقِراءَةِ الطَّالِع حَتَّى فِي غَابَاتِ الشِّعُوبِ البُدَائِيَّة».
فَلَمْ يُصَدِّق
(جَاك شِيرَاك) أَنَّ أَمرِيكَا وَحُلَفَائهَا سَيَشُنُّونَ حَربًا عَارِمَةً مَدفُوعَةً
بتَفكِيرٍ سِحرِيٍّ يَنبُعُ مِن مَزابِلِ الخُرافَاتِ المُتَطَرِّفَةِ، وَيَنبَعِثُ
مِن كُهُوفِ الكَنِيسَةِ الإِنجِلِيكَانِيَّةِ التِي مَازَالَت تَقُولُ: «كَانَت
الصُّهيُونِيَّةُ أُنشُودَةً مَسِيحِيَّةً ثُمَّ أَصبَحَت حَرَكَةً سِيَاسِيَّةً!!»
وَيَذكُر
المُؤلِّف: «أَنَّ (جَاك شِيرَاك)
وَجَدَ نَفسَهُ بِحَاجَةٍ إِلَى التَّزَوُّدِ بِالمَعَارِفِ المُتَوَفِّرَةِ بِكُلِّ
مَا تَحَدَّثَت بِهِ التَّورَاة عَن يَأجُوجَ وَمَأجُوج، وَطَالَب المُستَشَارِينَ
بمَعلُومَاتٍ أَكثَرَ دِقَّة مِن مُتَخَصِّصِينَ فِي التَّورَاةِ، عَلَى أَلَّا يَكُونُوا
مِنَ الفَرنسِيِّين؛ لِتَفَادِي حُدُوثِ أَيَّ خَرْقٍ أَوْ تَسرِيبٍ فِي المَعلُومَاتِ،
فَوَجَدَ ضَالَّتَهُ فِي البُرُوفِسِير (تُومَاس رُوبِر)، وَهُوَ مِنْ عُلَمَاءِ الفِقهِ
اليَهُودِيِّ فِي (جَامِعَةِ لُوزَان) السُّويسْرِيَّة.
وَأَوْضَحَ
البُروفُسِور: «أَنَّ يَأجُوجَ
وَمَأجُوجَ وَرَدَ ذِكرُهُمَا فِي «سِفْرِ التَّكوِين»، فِي الفَصلَيْنِ الأَكثَرَ
غُمُوضًا، وَفِيهِمَا إِشَارَاتٌ غَيْبِيَّةُ تَذْكُر: «أَنَّ يَأجُوجَ وَمَأجُوجَ
سَيَقُودَانِ جُيُوشًا جَرَّارَةً؛ لِتَدمِيرِ إِسرَائِيلَ وَمَحوِهَا مِنَ الوُجُودِ،
وَعِندئذٍ سَتَهُبُّ قُوَّةٌ عُظمَى لحِمَايَةِ اليَهُود، فِي حَربٍ يُرِيدُهَا الرَّبُّ،
وَتَقضِي عَلَى يَأجُوجَ وَمَأجُوج وَجَيشِهِمَا لِيَبدَأَ العَالَمُ بَعدَهَا حَيَاةً
جَدِيدَةً!!»»
ثُمَّ يُتَابِعُ المُؤلِّفُ كَلَامَهُ قَائِلًا: «إِنَّ
الطَّائفَةَ المَسِيحِيَّةَ التِي يَنْتَمِي إِلَيهَا (بُوش)، هِيَ الطَّائفَةُ الأَكثَرُ
تَطَرُّفًا فِي تَفسِيرِ «العَهدِ القَدِيم», وَتَتَمَحْوَر مُعتَقَدَاتُهَا حَوْلَ
مَا يُسَمَّى بِـ (المُنَازَلَةِ الخُرافِيَّةِ الكُبرَى)، وَيُطلِقُونَ عَلَيهَا اصطِلَاح
(الهَرمَجِدُّون)».
فَهَذَا هُوَ
مَشرُوعُ الغَربِ الصَّلِيبِيِّ, يُحَرِّكُهُ المَشرُوعُ الصُّهيُونِيُّ, كُلُّ ذَلِكَ
مِن أَجلِ إِنشَاءِ الهَيكَلِ الثَّالِث؛ لِأنَّهُ لَا يَأتِي مَسِيحُهُم إِلَّا
بإِنشَائهِ, وَهُوَ تَحتَ المَسجِدِ الأَقصَى –هَيْكَلُهُم-
وَلَا بُدَّ مِنْ إِزَالَة المَسجِد!!
مَدِينَةُ
الرَّبّ لَا بُدَّ أَنْ تُحَرَّرَ مِنْ أَعدَائهِ, فَلَا يَبْقَى فِيهَا إِلَّا أَبنَاءُ
يَعقُوب -إِلَّا بَنُو إِسْرائيل-؛ لِأَجلِ بِنَاءِ الهَيكَل الثَّالِث, تَضَافَر
عَلَى العَقِيدَةِ بِهِ لِقُدُومِ مَسِيحِهِم, وَتَدْرِي مَنْ هُوَ؟
هُوَ المَسِيحُ
الدَّجَّال لَوْ كَانُوا يَعلَمُون.
قَالُوا:
لَا بُدَّ مِن تَقسِيمِ المَنطِقَةِ إِلَى دُوَيلَاتٍ طَائفِيَّةٍ مُتنَازِعَةٍ, مُتَناحِرَةٍ,
مُتَقَاتِلَةٍ, مُتَبَدِّدَةٍ, مُتَنَاثِرَةٍ, مُتَبَعثِرَةٍ!! وَهُوَ الَّذِي عُرِفَ
بمَشرُوعِ (كُوندُو).
قَالَت:
«لَابُدَّ مِن أَجلِ الوُصولِ إِلَيهِ مِن إِحدَاثِ الفَوضَى الخَلَّاقَة».
وهِيَ تَفكِيكُ المُجتَمَعِ المِصرِيِّ،
ثُمَّ إِعَادَةِ تَركِيبِهِ علَى الأَجِندَةِ الصُّهيُوصَلِيبِيَّةِ. فَهَذِهِ
هِيَ الفَوضَى الخَلَّاقَة.
الفَوضَى الخَلَّاقَةُ:
تَفكِيكُ المُجتَمَعِ المِصرِيِّ, وَقِسْ عَلَيهِ كُلَّ مُجتَمَعٍ يُفَكَّكُ, يَكُونُ
دَاخِلًا فِي أَرضِ المِيعَادِ؛ مِن أَجلِ إِنشَاءِ مَا يُسَمَّى بِـ (الشَّرقِ الأَوسَطِ
الجَدِيدِ)!!
هَذِهِ الحُدُود... هَذِهِ المَعَالِم...
هَذِهِ الأَعرَافِ... هَذِهِ الأَديَانِ لَا بُدَّ أَنْ تُغَيَّرَ!!
وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ هَذَا الشَّرقُ
قَطعَةً مِنَ الغَربِ بِمَبَاذِلِهِ, بِإِلحَادِهِ وَكُفْرِهِ, بِشَهَوَاتِهِ وَنَزَوَاتِهِ،
بِطُغيَانِهِ وَفُجُورِهِ, وَلَكِنْ بِمُستَوًى أَقَل، إِذْ هُمْ لَا يَرْقُونَ إِلَى
هَذَا المُستَوَى الأَعلَى.
هَؤلَاءِ الأُمَمِيُّونَ هُمْ
أَقَلُ مِنَ الحَيوانَاتِ عِندَ السَّادَةِ مِن أَبنَاءِ الرَّبِّ الإِلَهِ رَبِّ الجُنُود
-كَمَا يَزعُمُونَ-, فَالأُمَمِيُّونَ -وَهُم كُلُّ مَنْ لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا أَوْ الجُويِيم كَمَا يُسَمُّونَهُم-
عِندَهُم أَقَلُّ مِنَ الخَنَازِيرِ!!
«إِنْ استَطَعتَ
أَنْ تَقتُلَ أُمَمِيًّا مِن مُسلِمٍ أَوْ نَصرَانِي بَحَيثُ لَا يَرَاكَ أَحَدٌ فَافعَل،
فَإِنَّمَا تَتَقَرَّبُ بِدَمِهِ إِلَى الرَّبِّ الإِلَهِ رَبِّ الجُنُودِ».
كَذَا تَعَالِيمُهُم،
وَضَعَهَا حَاخَامَاتُهُم فِي كُتُبِهِم الَّتِي يُقَدِّسُونَهَا وَإِلَيهَا يَفِيئُونَ!!
«وَإِنْ
استَطَعتَ –كَمَا يَقُولُونَ- أَنْ تَأخُذَ مَالَ المُسلِمِ أَوْ
النَّصرَانِي بمُحَاكَمَتِهِ إِلَى شَرِيعَتِكَ؛ فَحَاكِمْهُ إِلَى شَرِيعَتِك, وَإِنْ
لَمْ تَستَطِع أَنْ تَأخُذَ مَالَهُ إِلَّا بمُحَاكَمَتِهِ إِلَى شَرِيعَتِهِ هُوَ؛
فَحَاكِمْهُ إِلَى شَرِيعَتِهِ»!!
تَفْكِيكُ
مِصرَ وَإِعَادَةِ تَركِيبِهَا, وَهَذَا يَستَتْبِعُ أَوَّلًا -أَوَّلَ مَا يُعقَدُ
عَلَيهِ الخِنصَرُ فِي هَذا المُخَطَّط, مُخَطَّطِ الفَوْضَى الخَلَّاقَة- أَنْ تَقَعَ
الفَوضَى فِي مِصرَ.
يَنعِقُ مَنْ
يَنعِق مِنَ الدَّاخِلِ وَالخَّارِج كَالبَبْغَاوَات تُرَدِّدُ كَلَامًا لَا تَدرِي
مَا وَرَاءَهُ, أَوْ كَالحَيَّاتِ الرَّقطَاءِ تَدْرِي مَا وَرَاءَهُ؛ لِأنَّهُم
صُنِعُوا هُنَالِكَ فِي كُهُوفِ التَّنصِيرِ -فِي كُهُوفِ أَعدَاءِ الدِّينِ, أَعدَاءِ
الإِنسَانِيَّة-, صُنِعُوا عَلَى أَعيُنِهِم, ثُمَّ جَاءُوا لِيَكْفُوا هَؤلَاءِ مَؤُونَةَ
إِرَاقَةِ دِمَائهِم بإِرَاقَةِ دِمَاءِ أَبنَاءِ شُعُوبِهِم, بإِخرَاجِهِم مِن أَمنِهِم
وَأَمَانِهِم؛ عِندَمَا يُسَوِّلُونَ لَهُم أَنَّ لُقمَةَ العَيشِ –أَنَّ
الكِيلُو جِرَام مِنَ السُّكَّر- أَهَمُّ مِنَ الدِّينِ!!
يَضِيعُ الدِّينُ وَيُحَصَّلُ العَيشُ
الرَّغِيد!! عِندَ مَنْ هَذَا؟!
مَنْ يَبِيعُ دِينَهُ بكِسْرَةِ خُبزٍ
زَائدَةٍ وَالخُبزُ يُرْمَى لِلكِلابِ؟!
عِنْدمَا سُوَّلُوا لهُم أَنَّ الرَّفَاهِيَةَ
الغَربِيَّةَ -التِي هِيَ حَصِيلَةُ الاستِلَابِ لِلثَّرواتِ الإِسلَامِيَّةِ- مَطلَبٌ
بِذَاتِهِ, احرِصُوا عَلَيهِ, عِيشُوا نَاعِمِينَ كَالنِّسَاء لَا هِمَّةَ لَكُم, لَا
تَخْشَوْشِنُوا!!
إِيَّاكُم وَقَوْلَ عُمَرَ
-رَضِيَ اللهُ عَنهُ-: «اخْشَوْشِنُوا فَإِنَّ
النِّعمَةَ لَا تَدُوم».
لَا تَشبَعُوا وَجُوعُوا وَالطَّعَامُ
مَبذُول, حَتَّى لَا تَنْسُوا الجَائعِين!!
أَنتُم أَصحَابُ رِسَالَة, لَسْتُم أَصحَابَ
وَظَائف, وَفَرْقٌ بَيْنَ صَاحِبِ الرِّسَالَةِ وَصَاحِبِ الوَظِيفَة!!
سَوَّلُوا لَهُم أَنَّ الرَّفَاهِيَةَ
أَعمَقُ فِي النَّفسِ أَثَرًا مِنَ الدِّينِ؛ ابحَثُوا عَنهَا، عِيشُوا كَمَا يَعِيشُ
النَّاس!!
تَرَفَّهُوا وَتَنَعَّمُوا, وَلَا تَرضُوا
بِالقَلِيلِ!!
نَعمَ يَقَع الفَسَاد وَيَقَع النَّهب
وَلَا يَرضَاهُ أَحَد, وَلَكِن تَحصِيلُ الخَبزِ وَالكِسَاءِ وَالمَسكَنِ المُرِيحِ
وَالمَركَبِ الهَنِيء, كُلُّ ذَلِك لَا يُسَاوِي شَيئًا فِي مَسحِ وَجهِ الإِسلَامِ
عَن مِصرَ –حَفِظَهَا
اللهُ رَبُّ العَالمِينَ-.
وَإِذَا مَا استَأثَر مَلَّاحٌ عَلَى
سَفِينَتِهِ بشَيءٍ, إِذَا نَازَعَهُ فِيهِ رُكَّابُهَا؛ أَغْرَقُوهَا وَغَرِقُوا
مَعَهَا, فَمِنَ الحِكمَةِ أَلَّا يُنَازِعُوهُ, وَأَنْ يَصبِرُوا حَتَّى يَستَرِيحَ
بَرٌّ أَوْ يُستَرَاحَ مِن فَاجِرٍ.
وَالأَمرُ يَأتِي مِن هَاهُنَا –وَأَشَارَ
الشَّيخُ إِلَى السَّمَاءِ- لَا يَأتِي مِنْ هَا هُنَا –وَأَشَار
الشَّيخُ إِلَى الجُلوسِ-, وَالنِّقَمُ لَا تُدفَعُ بِالأَكُفِّ وَلَا تُجَالَدُ
بالسِّيوفِ؛ النِّقَمُ تُدفَعُ بِالتَّوبَةِ, بِالإِنَابَةِ, بِالاستِغفَارِ.
وَقَد مَضَى دَهرٌ يَتَكَلَّمُ فِيهِ
المُتَكَلِّمُونَ فِي دِينِ رَبِّ العَالمِينَ؛ فَمَا بَيَّنُوا العَقِيدَةَ عَلَى
حَقِّهَا, يَثْبُتُ بِهَا مُعْتَقِدُهَا فِي وَجهِ أَعَاصِيرِ الإِلحَاد تَنُوشُهُ
مِن كُلِّ جَانِبٍ, وَخَرَجَت أَجيَالٌ لِتَخرِيبِ الوَطَن, وَنَقْضِ بُنيَانِهِ حَجَرًا
عَنْ حَجَر؛ لحَرقِهِ وَإِرَاقَةِ دِمَاءِ أَهلِهِ, وَتَسلِيمِهِ لِأَعدَائهِ المُحَارِبِينَ
لِمُقَدَّرَاتِهِ, النَّازِفِينَ لِثَروَاتِهِ, وَنُسِيَ كُلُّ مَعرُوف!!
فِي الكَرَامَةِ نَشَأُوا فَلَمْ يَتَحَمَّلُوا,
فَكَانُوا كَجَسَّاسٍ وَجِيلِه!!
﴿إِنَّ الَّذِينَ
يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ
لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ ۙ أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا
الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَٰئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾
[البقرة: 159-160].
جِيلٌ فُرِّغَ مِن مَاضِيهِ, استُلِبَ
مِنهُ دِينُه!! تَرَاهُ وَلَا تَدرِي مَا هُوَ!!
كَمَا قَالَ أُستَاذٌ مِن أَسَاتِذَةِ
الأَدَبِ كَانَ عَشَى بَصَرُه -أَوْ لَمْ يَعْشُ-, وَكَانَ يَومًا فِي مُحَاضَرَتِهِ
فَرَأَى شَبَحًا لَهُ شَعْرٌ قَد اسْتَرسَلَ كَشَعْرِ الأُنثَى, وَهُوَ يَتَكَسَّرُ
تَكَسُّرَهَا, وَهُوَ يَتَثَنَّى تَثَنِّيهَا, بَلْ هُوَ هِيَ!!
فَلَمَّا حَقَّقَ فِيهِ
النَّظَر قَالَ: اصْمِتِي يَا بُنَيَّتِي وَكَان
الشَّبَحُ بِالقَوْلِ لَاغِيًا.
فَقَالَ لَهُ:
لَستُ أُنثَى يَا أُستَاذ وَإِنَّمَا أَنَا رَجُل.
قَالَ:
أَحَقِيقٌ مَا تَقُولُ وَحَقٌّ هُوَ! لَا تُؤاخِذْنِي يَا وَلَدِي إِنَّ البَقَرَ
تَشَابَهَ عَلَينَا!!
تَأَمَّل فِي «سِفرِ حِزقِيَال»:
«وَتَكُونُ أَرْضُ مِصْرَ مُقْفِرَةً
حَزِينَةً خَرِبَةً، فَيَعْلَمُونَ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ، لأَنَّهُ قَالَ: النَّهْرُ
لِي وَأَنَا عَمِلْتُهُ, لِذلِكَ هاأَنَذَا عَلَيْكِ وَعَلَى أَنْهَارِكِ، وَأَجْعَلُ
أَرْضَ مِصْرَ خَرِبَةً مُقْفِرَةً، مِنْ مَجْدَلَ إِلَى أَسْوَانَ إِلَى تُخْمِ كُوشَ
–وَهِيَ: أَثيُوبْيَا-, لاَ
تَمُرُّ فِيهَا رِجْلُ إِنْسَانٍ، وَلاَ تَمُرُّ فِيهَا رِجْلُ بَهِيمَةٍ، وَلاَ تُسْكَنُ
أَرْبَعِينَ سَنَةً.
وَأَجْعَلُ أَرْضَ مِصْرَ مُقْفِرَةً
فِي وَسْطِ الأَرَاضِي الْمُقْفِرَةِ، وَأَجْعَلُ مُدُنَهَا فِي وَسْطِ الْمُدُنِ الْخَرِبَةِ
تَكُونُ مُقْفِرَةً أَرْبَعِينَ سَنَةً, وَأُشَتِّتُ الْمِصْرِيِّينَ بَيْنَ الأُمَمِ،
وَأُبَدِّدُهُمْ فِي الأَرَاضِي؛ لأَنَّهُ هكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ: عِنْدَ
نَهَايَةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً أَجْمَعُ الْمِصْرِيِّينَ مِنَ الشُّعُوبِ الَّذِينَ
تَشَتَّتُوا بَيْنَهُمْ, وَأَرُدُّ سَبْيَ مِصْرَ، وَأُرْجِعُهُمْ إِلَى أَرْضِ فَتْرُوسَ،
إِلَى أَرْضِ مِيلَادِهِمْ، وَيَكُونُونَ هُنَالِكَ مَمْلَكَةً حَقِيرَةً, تَكُونُ
أَحْقَرَ الْمَمَالِكِ فَلاَ تَرْتَفِعُ بَعْدُ عَلَى الأُمَمِ، وَأُقَلِّلُهُمْ لِكَيْ
لَا يَتَسَلَّطُوا عَلَى الأُمَمِ».
كَمَا
قَالَ: «عَبَثًا تَصنَعِينَ يَا بِنتَ مِصر».
يُرِيدُ مَا يُصِيبُ المِصرِيَّاتِ مِنَ
العُقْمِ؛ وَلَعَلَّهُم بَلَغُوا مِن ذَلِكَ مَبلَغًا, فَهُمْ جَادُّونَ فِي تَحدِيدِ
نَسْلِهَا وقطع أَثَارِهَا!!
قَالَ:
«وَيَعْلَمُ كُلُّ سُكَّانِ مِصْرَ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ، مِنْ أَجْلِ كَوْنِهِمْ
عُكَّازَ قَصَبٍ لِبَيْتِ إِسْرَائِيلَ, عِنْدَ مَسْكِهِمْ بِكَ بِالْكَفِّ انْكَسَرْتَ,
وَمَزَّقْتَ لَهُمْ كُلَّ كَتِفٍ، وَلَمَّا تَوَكَّئوا عَلَيْكَ انْكَسَرْتَ, وَقَلْقَلْتَ
كُلَّ مُتُونِهِمْ».
مَاذَا يُرِيدُونَ؟ مَا الَّذِي
إِلَيهِ يَهدفُونَ؟
وَمَتَى تَستَيقِظُونَ؟!
هَذَا لَيسَ
بِكَلامٍ غَبَرَ علَى القُرُونِ, وَإِنَّمَا هُوَ كَلَامٌ يُفَعَّلُ تَمَامًا, كَالمُعَادَلَاتِ
الَّتِي علَى أَسَاسِهَا يُنتِجُونَ الوَقُودَ النَّوَوِيَّ فِي مُفَاعلَاتِهِم, هُوَ
هَذَا الَّذِي يَصنَعُون، هذا كَهَذَا سَوَاءً بِسَوَاءٍ, بَلْ إِنَّ مَا يَصنَعُونَ
مِمَّا يَصنَعُونَ مِن أَجلِ تَحقِيقِ هَذَا الوَعدِ المَكتُوبِ أَقْوَى مِمَّا يَتَّخِذُونَ
لَهُ العُدَّةَ فِي مَا فِيهِ يُنتِجُونَ وَبِهِ يَتَقَدَّمُونَ.
يُعَامِلُونَ
هَذَا كَهَذَا بَلْ أَشَد!!
يَنْظُرُونَ
إِلَى كِتَابِهِم المُقَدَّس وَمَا وَرَدَ فِيهِ مِنَ النُّبُوءاتِ, وَمَا دُسَّ فِيهِ
مِنَ الخُزَعبَلَاتِ وَالتُّرَّهَاتِ, يَنظُرونَ إِلَيهِ تَمَامًا بِجِدِّيَّةٍ حَازِمَةٍ
حَاسِمَةٍ, كَمَا يَنظُرُونَ إِلَى العِلْمِ المَادِيِّ مِنَ المُعَامَلاتِ وَالمُفَاعَلات
وَالتَّفَاعَلاتِ وَغَيرِ ذَلِكَ مِنَ النَّظَرِيَّاتِ وَالبَحثِ, فِي مَا يَتَعَلَّقُ
بِالبَحثِ فِي الذَّرَّةِ وَنَواتِهَا!!
لَكِنَّ قَومِي
لَا يَعلَمُون!! مَاذَا نَصنَع؟!
أَلَا تَسمَعُون...
أَلَا تُعُوون؟!
أَلَا تَتَحَرَّكُون...
صَخْرٌ أَنتُم أَمْ مَاذَا تَكُونُون؟!
أَلَا تَخَافُونَ
عَلَى أَرضِكُم؟!
أَلَا تَخَافُونَ
عَلَى أَعراضِكُم؟!
أَلَا تَخَافُونَ
عَلَى أَنفُسِكُم؟!
فَإِنْ لَمْ
تَخَافُوا عَلَى شَيءٍ مِنْ ذَلِكَ!! فَخَافُوا عَلَى حَيَواتِكُم, فَأَنْتُم مُستَهْدَفُون!!
وَالأَرضُ
التِي تَجلِسُ عَلَيهَا أَوْ عَلَيهَا تَقُومُ دَاخِلَةٌ فِي الوَعدِ -وَعدِ الرَّبِّ
لِإسرائيِل-؛ أَنَّهَا هِيَ أَرضُ المِيعَاد، فَهِيَ مُستَهدَفَة, مُستَهْدَفٌ مَنْ
عَلَيهَا وَمَا عَلَيهَا, يُرِيدُونَ أَيدِيَكُم مُدرَجَةً بدِمَاءِ بَعضِكُم حَتَّى
تَقتُلُوا أَنفُسَكُم, مِنْ أَجلِ مَاذَا؟!
مِنْ أَجلِ
الرَّفَاهِيَة!! هَلْ هِيَ بَعِيدَة؟!
لَا وَاللهِ
إِنَّمَا هِيَ عَلَى ضَربَةِ مِعْوَل, إِنَّمَا هِيَ عَلَى طَرَفِ البَنَان.
أَخْلِصُوا
وَاعمَلُوا فَقَد صِرْتُم إِلَى فَلسَفَةِ الخُمُودِ وَالرُّكُونِ وَالهُمُودِ!!
وَرُبِطَت
أَجسَادُكُم إِلَى المَقَاعِدِ الثَّابِتَةِ لَيْلَ نَهَار أَمَامَ العِجْلِ الفِضِّي,
أَوْ أَمَامَ ذَلِكَ الجِهَاز الذِي لَكُم اخْتَرَعُوهُ, وَجَعَلُوا الرَّذِيلَةَ
فِيهِ مَبثُوثَة, وَجَعَلُوهُ لِلرَّذِيلَةِ وَسِيلَة, وَجَعَلُوكُم لَهُ مُدمِنِيين!!
يَالَلَّهِ!!
مَا أَكثَرُ مَا يُدمِنُه حَتَّى مِنَ السُّنِّيينَ –كمَا
يَقُولُوا العَوَام-!!
مَا أَكثَرَ
مَا يُدمِنُه مِمَّنْ لَا يَعِي مَا يَخرُجُ مِنْ رَأسِهِ, يَرتَبِطُ بِهِ كمَا يَرتَبِط
الحُمَارُ برَسَنِهِ!!
قَالَ (حِزقِيَالُ) فِي
«الأَصحَاحِ الثَّلَاثِين»:
«هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: وَيَسْقُطُ
عَاضِدُوا مِصْرَ، وَيَنْحَطُّ كِبْرِيَاءُ عِزَّتِهَا, مِنْ مَجْدَلَ إِلَى أَسْوَانَ
يَسْقُطُونَ فِيهَا بِالسَّيْفِ، يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ: فَتُقْفِرُ فِي وَسْطِ
الأَرَاضِي الْمُقْفِرَةِ، وَتَكُونُ مُدُنُهَا فِي وَسْطِ الْمُدُنِ الْخَرِبَةِ,
فَيَعْلَمُونَ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ عِنْدَ إِضْرَامِي نَارًا فِي مِصْرَ، وَيُكْسَرُ
جَمِيعَ أَعْوَانِهَا».
وَكَذِلَكَ يَصنَعُون!!
يَقُولُ «يُوئِيل»: «مِصْرُ
تَصِيرُ خَرَابًا، وَأَدُومُ تَصِيرُ قَفْرًا خَرِبًا، مِنْ أَجْلِ ظُلْمِهِمْ لِبَنِي
يَهُوذَا».
لَمْ يَنسَوْا مَا كَانَ مِن استِعبَادِ
فَرعَونَ وَمَلَئِهِ لِأَسلَافِهِم, يَقُولُونَ فِي كِتَابِهِم الَّذِي ائتَفَكُوهُ:
«مِنْ أَجْلِ ظُلْمِهِمْ لِبَنِي يَهُوذَا»!!
كَمَا أَنَّ المُعَاصِرِينَ مِنهُم أَيضًا؛
لَمْ يَنسَوُا مَا كَانَ في يَومَ خَيبَرَ جَزَاءَ خِيَانَتِهِم, وَهُوَ عُرفٌ مَعمُولٌ
بِهِ وَكَانَ شَرعًا مُنَزَّلًا, وَصَارَ عِندَ الكَافِرِينَ أَنفُسِهِم عُرْفًا عَسكَرِيًا
قَانُونِيًّا مَعمُولًا بِهِ؛ جَزَاءُ الخِيَانَةِ القَتل.
أَيَخُونُ إِنسَانٌ بِلَادَه!
فَلَمَّا خَانُوا رَسُولَ اللهِ -صَلَّى
اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم- وَظَاهَرُوا عَلَيهِ حَاصَرَهُم,
وَنَزَلُوا علَى حُكمِ سَعدِ بنِ مُعَاذٍ -رَضِيَ
اللهُ عَنهُ-, وَقُتِلَ مُقَاتَلَتُهُم, وَسُبِيَت ذَرَارِيُّهُم
مِمَّا لَم يُنبِت وَكَذَا نِسَاؤهُم.
فَمَازَالُوا إِلَى يَومِ النَّاسِ هَذَا
-كَذَلِكَ يَقُولُونَ- عِندَ مَا يُسَمَّونَهُ بِـ (حَائطِ المَبكَى), وَهُمْ يَتَرَاقَصُونَ
كَالقِرَدَةِ: يَا لَثَارَاتِ خَيْبَر, يَا لَثَارَاتِ خَيْبَر!!
كَمَا فِي نَشِيدِهِم فِي حَرَكَةِ
(كَاخْ)؛ وَهِيَ يَهُودِيَّةٌ صُهيُونِيَّةٌ مُتَطَرِّفَةٌ, وَكُلُّهُم يَا صَاحِبِي
مُتَطَرِّفُونَ!!
يَقُولُ نَشِيدُهُم:
مُحَمَّد مَات... خَلَّف بَنَات... مُوسَى
مَات... خَلَّف زَلَمَات -جَمعُ زَلَمَة, وَالزَّلَمَةُ: الرَّجُلُ-.
فَهَل خَلَّفَ مُحَمَّدٌ بَنَاتٍ حَقًّا؟!
أَجِيبُوا أَنتُم!!
يَقُولُونَ:
إِنَّهُ لَمْ يَترُك رِجَالًا؛ يَحمِلُونَ الرِّسَالَة وَيَنشُرُونَهَا فِي الآفَاقِ,
وَيَفهَمُونَ مَرامِيَهَا, وَيُحَقِّقُونَ مَقَاصِدَهَا, وَيُدَافِعُونَ دُونَهَا!!
يَقُولُ:
«مِصْرُ تَصِيرُ خَرَابًا، وَأَدُومُ تَصِيرُ قَفْرًا خَرِبًا، مِنْ أَجْلِ ظُلْمِهِمْ
لِبَنِي يَهُوذَا, الَّذِينَ سَفَكُوا دَمًا بَرِيئًا فِي أَرْضِهِمْ».
أَيُّهَا الشَّعبُ المِصرِيُّ البَاسِلُ
النَّبِيلُ...
أَيُّهَا الشَّعبُ المُسلِمُ العَرِيقُ
فِي إِسلَامِهِ, يَا مَن تَمتَدُّ جُذُورُكَ إِلَى عَهدِ أَصحَابِ نَبِيِّكَ مُحَمَّد
-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم- فِي دِينِ الإِسلَامِ الحَنِيفِ،
يَا مَنْ دَافَعتَ عَن عَقِيدَةِ التَّوحِيدِ, وَتَكَسَّرَت علَى حُصُونِكَ وَصَخْرَةِ
دِفَاعِكَ وَجِهَادِكَ مَوجَاتُ التَّتَرِ الغَاصِبِينَ الهَمَجِيِّينَ, وَمَوجَاتُ
الصَّلِيبِيِّينَ المُتَقَدِّمِينَ...
اليَومُ تَتَكَسَّرُ علَى صَخرَةِ إِيمَانِكَ
بِرَبِّك, وَتَوحِيدِكَ إِيَّاهُ, وَاتِّبَاعِكَ لِنَبِيِّكَ جَمِيعُ مَوجَاتِ البَّاغِينَ
مِنَ المُعَاصِرِينَ, الَّذِينَ استَلَبُوا فِكرَ طَائفَةٍ مِنْ أَبْنَائِكَ, فَمَا
صَارُوا يَمُتُّونَ إِلَى الأُمَّةِ الَّتِي لَا عِزَّ لَهُم إِلَّا بِانتِمَائهِم
إِلَيهَا، الَّذِينَ صَارُوا كَالنَّبْتِ الطَّافِي تَعْلُو بِهِ مَوجَةٌ وَتَسْفُلُ
بِهِ مَوْجَةٌ, وَلَا يُبَالِي بِجِوَارِ جِيفَةٍ رَسَا أَمْ بِجِوَارِ زَهرَاتٍ نَضِرَاتٍ!!
أَيُّهَا الشَّعبُ المِصرِيُّ البَاسِلُ
النَّبِيلُ؛ لَا تَستَفِزَّنَّكَ الخُطُوب, كُنْ عَاقِلًا كَالعَهْدِ بِكَ, ثَابِتًا
كَشَأنِكَ دَوَامًا, مُثَبَّتًا كَمَا فَعَلَ اللهُ تَعَالَى بِأَسْلَافِكَ, عَلَى
اللهِ تَوَكَّل, وَبِدِينِهِ تَمَسَّك, وَرَسُولَهُ فَاتْبَع, وَاللهُ يَرعَاكَ وَمِن
مَكَائِدِ الأَعدَاءِ فِي الدَّاخِلِ وَالخَارِجِ يَحمِيكَ وَيَرعَاكَ, وَهُوَ عَلَى
كُلِّ شَيءٍ قَدِير, وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ, وَعَلَى
آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ
إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ
أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ –صَلَّى اللَّهُ
عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-, صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ
إِلَى يَومِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ الْأَمْنَ وَالِاسْتِقْرَارَ نِعْمَةٌ عَظِيمٌ نَفْعُهَا،
كَرِيمٌ مَآلُهَا، وَهِيَ مِظَلَّةٌ يَسْتَظِلُّ بِهَا الْجَمِيعُ مِنْ حَرِّ الْفِتَنِ
وَنَارِ التَّهَارُجِ، هَذِهِ النِّعْمَةُ يَتَمَتَّعُ بِهَا الْحَاكِمُ وَالْمَحْكُومِ،
وَالْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ، وَالرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، بَلْ إِنَّ الْبَهَائِمَ تَطْمَئِنُّ
مَعَ الْأَمْنِ، وَتُذْعَرُ وَتُعَطَّلُ مَعَ الْخَوْفِ وَاضْطِرَابِ الْأَوْضَاعِ،
تُعَطَّلُ وَتُذْعَرُ مَعَ تَهَارُجِ الْهَمَجِ الرَّعَاعِ -فَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ
الْفِتَنِ الَّتِي تُعْمِي الْأَبْصَارَ وَتُصِمُّ الْأَسْمَاعَ-.
وَبِاللَّهِ ثُمَّ بِالْأَمْنِ يُحَجُّ الْبَيْتُ الْعَتِيقُ،
وَتُعَمَّرُ الْمَسَاجِدُ، وَيُرْفَعُ الْأَذَانُ مِنْ فَوْقِ الْمَنَارَاتِ، وَيَأْمَنُ
النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ، وَتَأْمَنُ السُّبُلُ،
وَتُرَدُّ الْمَظَالِمُ إِلَى أَهْلِهَا، فَيُنْتَصَرُ لِلْمَظْلُومِ وَيُرْدَعُ الظَّالِمُ،
وَتُقَامُ الشَّعَائِرُ، وَيَرْتَفِعُ شَأْنُ التَّوْحِيدِ مِنْ فَوْقِ الْمَنَابِرِ،
وَيَجْلِسُ الْعُلَمَاءُ لِلْإِفَادَةِ، وَيَرْحَلُ الطُّلَّابُ لِلِاسْتِزَادَةِ،
وَتُحَرَّرُ الْمَسَائِلُ، وَتُعْرَفُ الدَّلَائِلُ، وَيُزَارُ الْمَرْضَى، وَيُحْتَرَمُ
الْمَوْتَى، وَيُرْحَمُ الصِّغارُ وَيُوَقَّرُ الكِبَارُ، وَتُوصَلُ الْأَرْحَامُ,
وَتُعْرَفُ الْأَحْكَامُ, وَيُؤْمَرُ بِالْمَعْرُوفِ, وَيُنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ،
وَيُكَرَّمُ الْكَرِيمُ, وَيُعَاقَبُ اللَّئِيمُ.
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَبِالْأَمْنِ مِنَ اسْتِقَامَةِ أَمْرِ
الدِّينِ والدُّنْيَا مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللهُ، وَبِالْأَمْنِ صَلَاحُ الْمَعَاشِ
وَالْمَعَادِ, وَالْحَالِ وَالْمَآلِ.
وَلَقَدْ حَذَّرَنَا اللَّهُ مِنَ الْفِتْنَةِ الَّتِي يَعُمُّ
بَلَاؤُهَا فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ
الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾ [الْأَنْفَال: 25]؛ فَنَسْأَلُ اللَّهَ
–جَلَّ وَعَلَا- أَنْ لَا يُؤَاخِذَنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ
مِنَّا، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ –جَلَّ
وَعَلَا- مِنْ حُلُولِ نِقْمَتِهِ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِهِ، وَجَمِيعِ سَخَطِهِ،
وَزَوالِ نِعْمَتِهِ, إِنَّهُ جَوَادٌ كَرِيمٌ بَرٌّ رَحِيمٌ.
لَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الصَّلَاحِ وَالْمُصْلِحِينَ،
وَعَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وَذَمَّ الْفَسَادَ وَالْمُفْسِدِينَ
فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ مِن كِتَابِهِ العَظِيمِ.
وَحَيْثُ كَانَتْ مَفْسَدَةُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ أَعْظَمَ
مِنْ مَصْلَحَتِهِ؛ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ
مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ تُرِكَ وَاجِبٌ وَفُعِلَ مُحَرَّمٌ؛
إِذِ الْمُؤْمِنُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ فِي عِبَادِ اللَّهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ
هُدَاهُمْ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾
[المائدة: 105]، وَلَا اهْتِدَاءَ إِلَّا بِأَدَاِء الْوَاجِبِ؛ لِأَنَّ الِاهْتِدَاءَ
لَا يَتِمُّ إِلَّا بِأَدَاءِ الْوَاجِبِ، فَإِذَا قَامَ الْمُسْلِمُ بِمَا يَجِبُ
عَلَيْهِ مِنَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ كَمَا قَامَ
بِغَيْرِهِ مِنَ الْوَاجِبَاتِ لَمْ يَضُرَّهُ ضَلَالُ الضُّلَّالِ, وهَذِهِ قَاعِدَةٌ
عَظِيمَةٌ.
قَالَ الْإمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ
الله-:
«شَرَعَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
لِأُمَّتِهِ إِيجَابَ إِنْكَارِ الْمُنْكَرِ؛ لِيَحْصُلَ بِإِنْكَارِهِ مِنَ الْمَعْرُوفِ
مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ, فَإِذَا كَانَ إِنْكَارُ الْمُنْكَرِ يَسْتَلْزِمُ
مَا هُوَ أَنْكَرُ مِنْهُ وَأَبْغَضُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَسُوغُ
إِنْكَارُهُ -وَإِنْ كَانَ اللَّهُ يُبْغِضُهُ وَيَمْقُتُ أَهْلَهُ-، وَهَذَا كَالْإِنْكَارِ
عَلَى الْمُلُوكِ وَالْوُلَاةِ بِالْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّهُ أَسَاسُ كُلِّ فِتْنَةٍ
وَشَرٍّ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ.
وَمَنْ تَأَمَّلَ مَا جَرَى عَلَى الْإِسْلَامِ فِي الْفِتَنِ
الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ؛ رَآهَا مِنْ إِضَاعَةِ هَذَا الْأَصْلِ، وَعَدَمِ الصَّبْرِ
عَلَى مُنْكَرٍ، فَطُلِبَ إِزَالَتُهُ؛ فَتَوَلَّدَ مِنْهُ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ.
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يَرَى بِمَكَّةَ أَكْبَرَ الْمُنْكَرَاتِ وَلَا يَسْتَطِيعُ تَغْيِيرَهَا، بَلْ لَمَّا
فَتَحَ اللَّهُ مَكَّةَ وَصَارَتْ دَارَ إِسْلَامٍ؛ عَزَمَ عَلَى تَغْيِيرِ الْبَيْتِ
وَرَدِّهِ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ، وَمَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ -مَعَ مَقْدِرَتِهِ
عَلَيْهِ- خَشْيَةُ وُقُوعِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ؛ مِنْ عَدَمِ احْتِمَالِ قُرَيْشٍ
لِذَلِكَ؛ لِقُرْبِ عَهْدِهِمْ بِالْإِسْلَامِ، وَكَوْنِهِمْ حَدِيثِي عَهْدٍ بِكُفْرٍ.
لِهَذَا لَمْ يَأْذَنْ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى الْأُمَرَاءِ
بِالْيد؛ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ وُقُوعِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ».
قَالَ الْعَلَّامَةِ ابْنِ الْقَيِّمِ
-رحمه الله-: «إِنَّ إِنْكَارَ الْمُنْكَرِ أَرْبَعُ دَرَجَاتٍ:
الْأُولَى: أَنْ يَزُولَ
المُنكَر وَيَخْلُفَهُ ضِدُّهُ.
الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقِلَّ
وَإِنْ لَمْ يَزُلْ بِالكُلِّيَّةِ.
الثَّالِثَةُ: أَنْ يَخْلُفَهُ
مَا هُوَ مِثْلُهُ.
الرَّابِعَةُ: أَنْ يَخْلُفَ
المُنْكَرَ مَا هُوَ أَنْكَرُ مِنْهُ وَأَشَدُّ.
الدَّرَجَتَانِ الْأُولَيَانِ مَشْرُوعَتَانِ، وَالثَّالِثَةُ
مَوْضِعُ اجْتِهَادٍ، وَالرَّابِعَةُ مُحَرَّمَةٌ».
تَغيِيرُ المُنكَرِ بِمَا هُوَ أَنْكَرُ مِنهُ وَمَا هُوَ
شَرٌّ مِنهُ؛ حَرَامٌ لَا يَجُوز، هَذَا لَمْ يَشرَعْهُ اللهُ –تَبَارَكَ وَتَعَالَى-،
لَا يُغيَّرُ المُنكَرُ بِمُنكَرٍ أَكبَرَ مِنهُ، وَالوَاقِعُ شَاهِدٌ أَنَّ مَا يَدَّعُونَ
أَنَّهُم يُزِيلُونَهُ مِنَ المُنكَرِ؛ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيهِ إِلَّا مَا هُوَ مِنْ
سَواءِ المُنكَرِ وَمِنْ صَمِيمِهِ، بَلْ هُوَ المُنكَرُ بِعَينِهِ وَشَحمِهِ وَلحمِهِ,
وَبِكُلِّ مَا يُحِيطُ بِهِ مِنَ الشَّرِّ.
يَقُولُ الإِمَامُ - رَحِمَهُ
اللهُ-: «إِذَا رَأَيْتَ أَهْلَ الْفُجُورِ وَالْفُسُوقِ
يَلْعَبُونَ بِالشِّطْرَنْجِ؛ كَانَ إِنْكَارُكَ عَلَيْهِمْ مِنْ عَدَمِ الْفِقْهِ
وَالْبَصِيرَةِ؛ إِلَّا إِذَا نَقَلْتَهُمْ مِنْهَا إِلَى مَا هُوَ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ
وَرَسُولِهِ كَرَمْيِ النُّشَّابِ، وَسِبَاقِ الْخَيْلِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَإِذَا رَأَيْتَ الْفُسَّاقَ قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى لَهْوٍ
وَلَعِبٍ أَوْ سَمَاعٍ، فَإِنْ نَقَلْتَهُمْ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ فَهُوَ الْمُرَادُ،
وَإِلَّا كَانَ تَرْكُهُمْ عَلَى ذَلِكَ خَيْرًا مِنْ أَنْ تُفَرِّغَهُمْ لِمَا هُوَ
أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، فَكَأَنَّ مَا هُمْ فِيهِ شَاغِلٌ لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ.
وَكَمَا إِذَا كَانَ الرَّجُلُ مُشْتَغِلًا بِكُتُبِ الْمُجُونِ
وَنَحْوِهَا، وَخِفْتَ مِنْ نَقْلِهِ عَنْهَا انْتِقَالَهُ إِلَى كُتُبِ الْبِدَعِ
وَالضَّلَالِ وَالسِّحْرِ؛ فَدَعْهُ وَكُتُبَهُ الْأُولَى, -قال:- وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ».
قَالَ: وهَذا بَابٌ وَاسِعٌ.
قَالَ - رَحِمَهُ
اللهُ-: «وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ
اللهُ- يَقُولُ: مَرَرْتُ أَنَا وَبَعْضُ أَصْحَابِي فِي زَمَنِ التَّتَارِ بِقَوْمٍ
يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ مَنْ كَانَ مَعِي -أَيْ: مَنْ كَانَ
مَعَ شَيْخِ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-، قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ:- فَأَنْكَرْتُ
عَلَيْهِ إِنْكَارَهُمْ، وَقُلْتُ لِمَنْ أَنْكَرَ: إِنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ الْخَمْرَ؛
لِأَنَّهَا تَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، وَهَؤُلَاءِ يَصُدُّهُمُ
الْخَمْرُ عَنْ قَتْلِ النُّفُوسِ، وَسَبْيِ الذُّرِّيَّةِ، وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ؛
فَدَعْهُمْ».
لَقَدْ رَأَيْنَا بَعْضَ الشُّعُوبِ الَّذِينَ سَقَطَ حُكَّامُهُمْ,
وَضَاعَتْ دُوَلُهُمْ -عَلَى عِوَجِهَا وَانْحِرَافِهَا-؛ لَمْ يَعُدْ لَهُمْ كَرَامَةٌ
-أَيْ: لِتِلْكَ الشُّعُوبِ- كَمَا كَانَتْ لَهُمْ مِنْ قَبْلُ.
رَأَيْنَاهُمْ مُشَتَّتِينِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْبُلْدَانِ،
وَتَفَرَّقُوا شَذَرَ مَذَرَ فِي الْبِلَادِ، أُهِينُ الْكَرِيمُ، وَتَنَكَّرَ لَهُمُ
اللَّئِيمُ، وَاحْتُقِرَ الْعَزِيزُ الْمَنِيعُ، وَتَقَطَّعَتِ الْأَرْحَامُ، وَحِيلَ
بَيْنَ الرَّجُلِ وَوَالِدَيْهِ وَذَوِيهِ.
لِذَا يُقَالُ: «شَعْبٌ بِلَا
حُكُومَةٍ؛ شَعْبٌ بِلَا كَرَامَةٍ، وَسُلْطَانٌ غَشُومٌ؛ خَيْرٌ مِنْ فِتْنَةٍ تَدُومُ».
شَعْبٌ بِلَا حُكُومَةٍ؛ شَعْبٌ بِلَا كَرَامَةٍ، سُلْطَانٌ
غَشُومٌ؛ خَيْرٌ مِنْ فِتْنَةٍ تَدُومُ.
فَهَلْ يُرِيدُ المِصْريُّونَ الْيَوْمَ أَنْ يَكُونَ المِصْريُّونَ
كَذَلِكَ فِي كُلِّ بِلَدٍ، بِإِثَارَةِ الْفِتَنِ، وَزَعْزَعَةِ الْأَمْنِ، مِمَّا
يُفْضِي إِلَى سُقُوطِ الْحُكَّامِ؛ فَنَكُونُ كَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُطِبَّ زُكَامًا؛
فَأَحْدَثَ جُذَامًا، أَوْ كَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُطِبَّ جُذَامًا؛ فَأَهْلَكَ الْأَصِحَّاءَ
شِيبًا وَشُبَّانًا؟!
نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ كَيْدِ الْكَائِدِينَ وَعَبَثِ الْعَابِثِينَ.
إنَّ النَّاسَ اليَوم فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ، يُؤَزُّونَ وَيُدْفَعُونَ
بِالمُعَانَاةِ الَّتِي لَا تُنْكَر, بِالغَلَاءِ الذِي يَطحَنُ وَيَفْرِي، يُسْتَخدَمُ
هَذَا كُلُّهُ؛ مِن أَجْلِ أزِّ النَّاسِ ودَفْعِهِم لِيَكُونُوا وَقُودَ مَعرَكَةٍ
لَا نَاقَةَ لَهُم فِيهَا وَلَا جَمَل، وَإِنَّمَا هُمْ حَصَبُهَا وَوَقُودُهَا، وَهُم
الذِينَ يَكْتَوُونَ بِنَارِهَا؛ لِيُحَصِّلَ مَنْ يَدفَعُهُم الثَّمَرَاتِ -إِنْ
وَجَدَهَا فحَصَّلَهَا-!!
يُؤزُّ الشَّعبُ المِصرِيُّ اليَومَ مِن مَكْمَنِ الدَّاءِ
فِي المَعِدَاتِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَثُورَ، مِنْ أَجلِ أَنْ يُحدِثَ مَا
يُسَمُّونَهُ بِـ «ثَورَةِ الجِيَاعِ أَوْ بِثَورَةِ الغَلَابَة» وَإِنْ شِئتَ الحَقَّ
فَقُل: هِيَ «ثَورَةُ الدِّيَابَة وَلَيسَت بِثَورَةِ الغَلَابَة»!!
مَاذَا يُرِيدُون؟!
يُرِيدُونَ أَلَّا يَجِدُوا –أَيْ: الغَلَابَة-
بَعدَ ذَلِكَ شَيئًا أَصلًا، فَإِنَّهُم إِنْ وَقَعَت فَوْضَى؛ فَلَنْ يَجِدُوا
مَا اليَومَ يَجِدُونَهُ!!
إِذَا وَقَعَت فَوْضَى فَلَن يَجِدُوهُ؛ سَيَذْهَبُ كُلُّ
شَيء, وَيُدَمَّرُ كُلُّ شَيء, وَتُنْتَهَكُ الأَعرَاضُ، وَتُقْطَعُ السُّبُلُ، وَتُمْنَعُ
الجَمَاعَةُ وَالجَمَاعَاتُ وَالعِيدُ وَالأَذانُ وَمَا أَشْبَه، وَيُقْتَلُ النَّاسُ
عَلَى الهُوِيَّةِ، وَيَقَعُ شَرٌّ عَظِيمٌ، وَالوَاقِعُ شَاهِدٌ، أَلَا تُبصِرُون؟!
أَمْ تَنظُرُونَ وَلَا تُبْصِرُون؟!!
أَلَا تَعلَمُون؟!
أَلَا تُدْرِكُون؟!
أَلَا تَسمَعُون؟!
أَلَا تَرعَوُون؟!
أَلَا تَفهَمُون؟!
أَلَا تَفقَهُون؟!
مَنْ أَنتُم؟ مَاذَا تَكُونُون؟!!
أَسأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالعَافِيَةَ وَأَنْ يُحسِنَ
خِتَامَنَا.
اللَّهُمَّ إِنْ أَرَدْتَ بِالنَّاسِ فِتنَةً؛ فَاقْبِضْنَا
إِلَيكَ غَيرَ فَاتِنِينَ وَلَا مَفتُونِينَ, وَلَا خَزَايَا وَلَا مَحزُونِينَ, وَلَا
مُغَيِّرِينَ وَلَا مُبَدِّلِينَ يَا رَبَّ العَالمِينَ, وَيَا أَرحَمَ الرَّاحِمِينَ
وَيَا أَكرَمَ الأَكرَمِينَ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى
آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.