صُوَرٌ مُشْرِقَةٌ مِنْ حَيَاةِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-

صُوَرٌ مُشْرِقَةٌ مِنْ حَيَاةِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-

صُوَرٌ مُشْرِقَةٌ مِنْ حَيَاةِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:


عُلُوُّ مَنْزِلَةِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَسُمُوُّ مَكَانَتِهِمْ

فَالنَّاظِرُ فِي نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يُدْرِكُ بِوُضُوحٍ وَجَلَاءٍ الْفَضْلَ الْعَظِيمَ وَالْمَنْزِلَةَ الْعَالِيَةَ وَالْمَكَانَةَ السَّامِيَةَ الَّتِي نَالَهَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، أُولَئِكَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمُ اللَّهُ وَاصْطَفَاهُمْ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ وَمُصْطَفَاهُ ﷺ، وَاخْتَصَّهُمْ بِهَذِهِ الصُّحْبَةِ الْعَظِيمَةِ، فَقَامُوا بِنُصْرَةِ دِينِهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا فِي إِيمَانِهِمْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ﷺ، وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَنُصْرَةِ دِينِهِ، وَحَمْلِ رِسَالَتِهِ إِلَى خَلْقِهِ بِصِدْقٍ وَإِخْلَاصٍ وَتَضْحِيَةٍ، حَتَّى اسْتَقَامَ الْأَمْرُ، وَانْتَشَرَ الدِّينُ عَلَى أَيْدِيهِمْ فِي أَرْضِ اللَّهِ -تَعَالَى- وَبَيْنَ عِبَادِ اللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا-، فَكَانَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ فَضْلٌ وَمِنَّةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَاسْتَحَقُّوا بِذَلِكَ جَمِيلَ الذِّكْرِ وَعَظِيمَ الثَّنَاءِ مِنَ اللَّهِ -تَعَالَى- فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ وَمِنْ رَسُولِهِ ﷺ فِي سُنَّتِهِ الْغَرَّاءِ.

وَمِمَّا جَاءَ فِي فَضْلِهِمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا- قَوْلُهُ تَعَالَى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]، وَقَوْلُهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}.

الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- هُمُ الْمُخَاطَبُونَ الْمُشَافَهُونَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ بَدْءًا، فَهُمْ أَوْلَى النَّاسِ وَالْخَلْقِ بِالْخَيْرِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ يَدْخُلُ مَعَهُمْ غَيْرُهُمْ، وَلَا يَكُونُ لِغَيْرِهِمْ هَذِهِ الْمَنْزِلَةُ إِلَّا مَنْ تَبِعَهُمْ وِ اقْتَفَى آثَارَهُمْ وَالْتَزَمَ هَدْيَهُمْ، وَلَا يَكُونُ مِثْلَهُمْ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ-.

وَمِمَّا يُبَيِّنُ وَيُوَضِّحُ مَنْزِلَةَ الصَّحَابَةِ قَوْلُ رَسُولِنَا ﷺ: ((خَيْرُ أُمَّتِي قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ)). وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: ((خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ)).

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- قَوْلُ اللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التَّوْبَة: 100].

وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [الحديد: 10].

وَيَدُلُّ عَلَى فَضْلِهِمْ قَوْلُ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُم فَتْحًا قَرِيبًا} [الْفَتْح: 18].

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 74].

وَقَوْلُهُ -سُبْحَانَهُ-: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الْأَحْزَاب: 23].

وَقَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59].

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي مَالِكٍ: ((هُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ ﷺ وَ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32])).

إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي نَصَّ فِيهَا رَبُّنَا -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَلَى فَضْلِ الصَّحَابَةِ وَمَنْزِلَتِهِمْ وَمَا وَعَدَهُمْ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، مَعَ بَيَانِ رِضَاهُ عَنْهُمْ وَعَنْ سُلُوكِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَغْفِرَتِهِ لَهُمْ؛ لِعَظِيمِ صِدْقِهِمْ فِي عَهْدِهِمْ، وَالْتِزَامِهِمْ بِدِينِ رَبِّهِمْ، وَالذَّبِّ عَنْهُ وَعَنْ نَبِيِّهِ.

وَفِي سُنَّةِ النَّبِيِّ - - كَثِيرٌ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَى فَضْلِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-؛ مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: ((النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِلسَّمَاءِ؛ فَإِذَا ذَهَبَتِ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ. وَأَنَا أَمَنَةٌ لِأَصْحَابِي؛ فَإِذَا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ. وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لِأُمَّتِي؛ فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ)).

وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) بِسَنَدِهِ عَنِ الرَّسُولِ ﷺ: ((لَا يَدْخُلُ النَّارَ -إِنْ شَاءَ اللَّهُ- مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ أَحَدٌ)).

إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي تُبَيِّنُ فَضْلَ الصَّحَابَةِ أَوْ تَخُصُّ بِالْفَضْلِ طَائِفَةً مِنْهُمْ, أَوْ تَخُصُّ بَعْضَهُمْ, وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى عُلُوِّ مَنْزِلَتِهِمْ وَعَظِيمِ فَضْلِهِمْ؛ لِسَابِقَتِهِمْ وَصِدْقِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ فِي دِينِ اللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((إِنَّ اللَّهَ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَوَجَدَ قَلْبَ مُحَمَّدٍ ﷺ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَاصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ، فَابْتَعَثَهُ بِرِسَالَتِهِ، ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ بَعْدَ قَلْبِ مُحَمَّدٍ، فَوَجَدَ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَجَعَلَهُمْ وُزَرَاءَ نَبِيِّهِ، يُقَاتِلُونَ عَلَى دِينِهِ)).

وَالصَّحَابَةُ عُدُولٌ كُلُّهُمْ, هَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ.


عَقِيدَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! إِنَّ ((أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ هُمُ الَّذِينَ شَهِدُوا الْوَحْيَ وَالتَّنْزِيلَ، وَعَرَفُوا التَّفْسِيرَ وَالتَّأْوِيلَ، وَهُمُ الَّذِينَ اخْتَارَهُمُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ ﷺ وَنُصْرَتِهِ، وَإِقَامَةِ دِينِهِ وَإِظْهَارِ حَقِّهِ، فَرَضِيَهُمْ لَهُ صَحَابَةً، وَجَعَلَهُمْ لَنَا أَعْلَامًا وَقُدْوَةً، فَحَفِظُوا عَنْهُ ﷺ مَا بَلَغَهُمْ عَنِ اللَّهِ -تَعَالَى- عَنْ طَرِيقِ رَسُولِ اللَّهِ، وَمَا سَنَّ وَشَرَعَ، وَحَكَمَ وَقَضَى، وَنَدَبَ وَأَمَرَ، وَنَهَى وَحَظَرَ، وَأَدَّبَ وَأَرْشَدَ، وَوَعَوْهُ وَأَتْقَنُوهُ.

فَفَقِهُوا فِي الدِّينِ، وَعَلِمُوا أَمْرَ اللَّهِ وَنَهْيَهُ وَمُرَادَهُ، فَشَرَّفَهُمُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِمَا مَنَّ عَلَيْهِمْ وَأَكْرَمَهُمْ بِهِ مِنْ وَضْعِهِ إِيَّاهُمْ مَوْضِعَ الْقُدْوَةِ، فَنَفَى عَنْهُمُ الشَّكَّ وَالْكَذِبَ وَالْغَلَطَ وَالرِّيبَةَ وَالْغَمْزَ، وَسَمَّاهُمْ عُدُولَ الْأُمَّةِ, فَقَالَ -عَزَّ ذِكْرُهُ- فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}، فَفَسَّرَ رَسُولُ اللَّهِ عَنِ اللَّهِ -عَزَّ ذِكْرُهُ- قَوْلَهُ: {وَسَطًا}، قَالَ: ((عَدْلًا))، عُدُولًا خِيَارًا، فَكَانُوا عُدُولَ الْأُمَّةِ، وَأَئِمَّةَ الْهُدَى، وَحُجَجَ الدِّينِ، وَنَقَلَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

وَنَدَبَ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَى التَّمَسُّكِ بِهَدْيِهِمْ، وَالْجَرْيِ عَلَى مِنْهَاجِهِمْ، وَالسُّلُوكِ لِسَبِيلِهِمْ، وَالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ، فَقَالَ -جَلَّ ذِكْرُهُ-: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}».

وَأَوْلَى مَنِ انْطَبَقَ عَلَيْهِمْ سَبِيلُ الْمُؤْمِنِينَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ الْأَمِينِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-.

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي بَيَانِ الِاعْتِقَادِ الْوَاجِبِ نَحْوَ الصَّحَابَةِ: «حُبُّهُمْ سُنَّةٌ، وَالدُّعَاءُ لَهُمْ قُرْبَةٌ، وَالِاقْتِدَاءُ بِهِمْ وَسِيلَةٌ، وَالْأَخْذُ بِآرَائِهِمْ فَضِيلَةٌ، وَخَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا ﷺ أَبُو بَكْرٍ، وَخَيْرُهُمْ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ عُمَرُ، وَخَيْرُهُمْ بَعْدَ عُمَرَ عُثْمَانُ، وَخَيْرُهُمْ بَعْدَ عُثْمَانَ عَلِيٌّ -رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ- خُلَفَاءُ رَاشِدُونَ مَهْدِيُّونَ».

وَقَالَ الْإِمَامُ الطَّحَاوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «وَنُحِبُّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَلَا نُفَرِّطُ فِي حُبِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَلَا نَتَبَرَّأُ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَنُبْغِضُ مَنْ يُبْغِضُهُمْ وَبِغَيْرِ الْخَيْرِ يَذْكُرُهُمْ، وَلَا نَذْكُرُهُمْ إِلَّا بِالْخَيْرِ، وَحُبُّهُمْ دِينٌ وَإِيمَانٌ وَإِحْسَانٌ، وَبُغْضُهُمْ كُفْرٌ وَنِفَاقٌ وَطُغْيَانٌ.

وَنُثْبِتُ الْخِلَافَةَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَوَّلًا لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ تَفْضِيلًا لَهُ وَتَقْدِيمًا عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ، ثُمَّ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، ثُمَّ لِعُثْمَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، ثُمَّ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَهُمُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَالْأَئِمَّةُ الْمَهْدِيُّونَ»، «وَمَنْ أَحْسَنَ الْقَوْلَ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَأَزْوَاجِهِ الطَّاهِرَاتِ مِنْ كُلِّ دَنَسٍ، وَذُرِّيَّاتِهِ الْمُطَهَّرِينَ مِنْ كُلِّ رِجْسٍ.. مَنْ أَحْسَنَ الْقَوْلَ فِيهِمْ؛ فَقَدْ بَرِئَ مِنَ النِّفَاقِ».

مَا مَرَّ ذِكْرُهُ هُوَ بَعْضُ مَا يَتَعَلَّقُ بِفَضْلِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَبِالْوَاجِبِ نَحْوَهُمْ.

وَأَمَّا سَبُّهُمْ وَشَتْمُهُمْ، فَالنُّصُوصُ وَالْأَقْوَالُ فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ وَالتَّحْذِيرِ مِنْهُ وَبَيَانِ عَاقِبَةِ مَنْ وَقَعَ فِيهِ كَثِيرَةٌ ضَافِيَةٌ؛ مِنْهَا:

قَوْلُ الرَّسُولِ ﷺ: ((لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ)). وَهَذَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي ((صَحِيحَيْهِمَا)).

وَقِيلَ لِبَعْضِ السَّلَفِ: إِنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ - وَهُوَ مَنْ هُوَ- يُقَدَّمُ عَلَى مُعَاوِيَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَقَالَ: «وَاللَّهِ! لَغُبَارُ أَنْفِ فَرَسِ مُعَاوِيَةَ فِي مَشْهَدٍ مِنْ مَشَاهِدِهِ مَعَ الرَّسُولِ خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ».

وَعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((أُمِرُوا بِالِاسْتِغْفَارِ لِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ- -فَسَبُّوهُمْ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي ((فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ)) بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((لَا تَسُبُّوا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ ﷺ، فَلَمَقَامُ أَحَدِهِمْ سَاعَةً خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ أَحَدِكُمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي ((فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ)) بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَفِي رِوَايَةٍ: ((خَيْرٌ مِنْ عَمَلِ أَحَدِكُمْ عُمُرَهُ)).

وَعَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ -رَحِمَهُ اللهُ- قَالَ: «السَّيْفُ الَّذِي وَقَعَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فِتْنَةٌ، وَلَا أَقُولُ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ مَفْتُونٌ».

وَقَالَ بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ: قَالَ لِي الْأَوْزَاعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «يَا بَقِيَّةُ! لَا تَذْكُرْ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ نَبِيِّكَ ﷺ إِلَّا بِخَيْرٍ، يَا بَقِيَّةُ! الْعِلْمُ مَا جَاءَ عَنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَمَا لَمْ يَجِئْ عَنْهُمْ فَلَيْسَ بِعِلْمٍ».

وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «إِذَا رَأَيْتَ الرَّجُلَ يَنْتَقِصُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ زِنْدِيقٌ».

تَأَمَّلْ فِي كَلَامِ ذَلِكَ الْحَبْرِ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ: ((إِذَا رَأَيْتَ الرَّجُلَ يَنْتَقِصُ أَحَدًا))، أَحَدًا.. لَيْسَ شَرْطًا أَنْ يَنْتَقِصَهُمْ جُمْلَةً، وَلَكِنْ ((يَنْتَقِصُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ زِنْدِيقٌ؛ وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عِنْدَنَا حَقٌّ، وَالْقُرْآنَ حَقٌّ، وَإِنَّمَا أَدَّى إِلَيْنَا هَذَا الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ أَنْ يَجْرَحُوا شُهُودَنَا لِيُبْطِلُوا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وَالْجَرْحُ بِهِمْ أَوْلَى، وَهُمْ زَنَادِقَةٌ))؛ لِأَنَّهُ إِذَا سَقَطَتِ الثِّقَةُ فِي أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ، مَنِ الَّذِي نَقَلَ إِلَيْنَا الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ؟!!

أَصْحَابُ النَّبِيِّ ﷺ، الَّذِي يَطْعَنُ فِي عَدَالَةِ الصَّحَابَةِ فَهُوَ زِنْدِيقٌ؛ إِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يَجْرَحَ شُهُودَنَا لِيُبْطِلَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وَالْجَرْحُ بِهِمْ أَوْلَى، وَهُمْ زَنَادِقَةٌ.. كَمَا قَالَ أَبُو زُرْعَةَ -رَحِمَهُ اللهُ-.

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ -رَحِمَهُ اللهُ-: «إِذَا رَأَيْتَ الرَّجُلَ يَذْكُرُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِسُوءٍ، فَاتَّهِمْهُ عَلَى الْإِسْلَامِ».

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: «وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: سَلَامَةُ قُلُوبِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ)).

وَقَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ مُبَيِّنًا حَقِيقَةَ فَضْلِ الصَّحَابَةِ: «وَلَوْ لَمْ يَرِدْ مِنَ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَرَسُولِهِ فِيهِمْ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ، لَأَوْجَبَتِ الْحَالُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا مِنَ الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ وَالنُّصْرَةِ، وَبَذْلِ الْمُهَجِ وَالْأَمْوَالِ، وَقَتْلِ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ، وَالْمُنَاصَحَةِ فِي الدِّينِ، وَقُوَّةِ الْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ؛ لَأَوْجَبَ ذَلِكَ كُلُّهُ الْقَطْعَ عَلَى عَدَالَتِهِمْ، وَأَوْجَبَ الْقَطْعَ بِاعْتِقَادِ نَزَاهَتِهِمْ، وَأَنَّهُمْ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْمُعَدَّلِينَ وَالْمُزَكَّيْنَ الَّذِينَ يَجِيئُونَ مِنْ بَعْدِهِمْ أَبَدًا».

ثُمَّ قَالَ: «هَذَا مَذْهَبُ كَافَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَمَنْ يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ مِنَ الْفُقَهَاءِ».

فَالْوَاجِبُ عَلَيْنَا تجَاهَ أَصْحَابِ نَبِيِّنَا ﷺ: سَلَامَةُ قُلُوبِنَا وَأَلْسِنَتِنَا لَهُمْ، وَنَشْرُ فَضَائِلِهِمْ، وَالْكَفُّ عَنْ مَسَاوِيهِمْ وَمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، وَالتَّنْوِيهُ بِشَأْنِهِمْ كَمَا نَوَّهَ -تَعَالَى- بِذِكْرِهِمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ، وَثَبَتَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ مِنَ الْأُمَّاتِ وَغَيْرِهَا فِي فَضَائِلِهِمْ.

وَلَكِنَّ الْمَخْذُولِينَ حَادُوا عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَعَنْ هَذَا الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَأَطْلَقُوا أَلْسِنَتَهُمْ فِيمَنْ لَا يَرْقَى الْوَاحِدُ مِنْهُمْ -مَهْمَا عَمِلَ وَعَلِمَ- إِلَى مَوَاطِنِ أَقْدَامِ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ.

وَنَعْلَمُ وَنَعْتَقِدُ أَنَّ ((اللهَ -تَعَالَى- اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ». وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ رِوَايَةِ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَكَانُوا ثَلَاثَمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ.

وَنَعْلَمُ وَنَعْتَقِدُ أَنَّهُ «لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ مِمَّنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ».

وَنَشْهَدُ بِأَنَّهُمْ أَفْضَلُ الْقُرُونِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي هِيَ أَفْضَلُ الْأُمَمِ، وَأَنَّ «مَنْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مِمَّنْ بَعْدَهُمْ لَمْ يَبْلُغْ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ», مَعَ الِاعْتِقَادِ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مَعْصُومِينَ، بَلْ يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الْخَطَأُ، وَلَكِنَّهُمْ مُجْتَهِدُونَ؛ لِلْمُصِيبِ مِنْهُمْ أَجْرَانِ، وَلِمَنْ أَخْطَأَ أَجْرٌ وَاحِدٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ، وَخَطَؤُهُ مَغْفُورٌ.

وَلَهُمْ مِنَ الْفَضَائِلِ وَالصَّالِحَاتِ وَالسَّوَابِقِ مَا يُذْهِبُ سَيِّئَ مَا وَقَعَ مِنْهُمْ إِنْ وَقَعَ، وَهَلْ يُغَيِّرُ يَسِيرُ النَّجَاسَةِ الْبَحْرَ إِذَا وَقَعَتْ فِيهِ؟!! -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-.

وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي زَوْجَاتِ النَّبِيِّ ﷺ أَهْلِ بَيْتِهِ الَّذِينَ أَذْهَبَ اللهُ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهَّرَهُمْ تَطْهِيرًا، وَنَبْرَأُ مِنْ كُلِّ مَنْ وَقَعَ فِي صَدْرِهِ أَوْ عَلَى لِسَانِهِ سُوءٌ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَأَهْلِ بَيْتِهِ أَوْ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَنُشْهِدُ اللهَ -تَعَالَى- عَلَى حُبِّهِمْ وَمُوَالَاتِهِمْ، وَالذَّبِّ عَنْهُمْ مَا اسْتَطَعْنَا؛ حِفْظًا لِرَسُولِ اللهِ ﷺ فِي وَصِيَّتِهِ؛ إِذْ يَقُولُ: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي»، وَكَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «اللهَ اللهَ فِي أَصْحَابِي», وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفَّلٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

وَقَالَ ﷺ: ((إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ؛ أَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللهِ، فَخُذُوا بِكِتَابِ اللهِ وَتَمَسَّكُوا بِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَأَهْلُ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي)). وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ.

فَأَهْلُ السُّنَّةِ مَوْقِفُهُمْ مِنَ الِاخْتِلَافِ الَّذِي وَقَعَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ فِي وَقْتِ الْفِتْنَةِ مَحْكُومٌ بِهَذَا الْمَوْقِفِ الْعَامِّ تِجَاهَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ، وَالْحُرُوبُ الَّتِي حَصَلَتْ بَيْنَهُمْ وَمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ مِنَ الِاخْتِلَافِ، فَمَوْقِفُ أَهْلِ السُّنَّةِ مِمَّا يُنْسَبُ إِلَى الصَّحَابَةِ مِنْ مَسَاوِئَ وَمَثَالِبَ اتَّخَذَهَا أَعْدَاءُ اللهِ سَبَبًا لِلْوَقِيعَةِ فِيهِمْ وَالنَّيْلِ مِنْهُمْ.. فَمَوْقِفُ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْهُمْ: أَنَّهُمْ يُمْسِكُونَ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ.

فَالصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَقَعَتْ بَيْنَهُمْ بَعْدَ مَقْتَلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- نِزَاعَاتٌ، وَاشْتَدَّ الْأَمْرُ بَعْدَ مَقْتَلِ عُثْمَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَوَقَعَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ مَا وَقَعَ مِمَّا أَدَّى إِلَى الْقِتَالِ، وَهَذِهِ الْقَضَايَا مَشْهُورَةٌ، وَقَدْ وَقَعَتْ بِلَا شَكٍّ عَنْ تَأْوِيلٍ وَاجْتِهَادٍ، كُلٌّ مِنْهُمْ يَظُنُّ أَنَّهُ عَلَى حَقٍّ.

وَلَا يُمْكِنُ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ عَائِشَةَ وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ قَاتَلَا عَلِيًّا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ عَلَى بَاطِلٍ وَأَنَّ عَلِيًّا عَلَى حَقٍّ! وَاعْتِقَادُهُمْ أَنَّهُمْ عَلَى حَقٍّ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونُوا قَدْ أَصَابُوا الْحَقَّ، وَلَكِنْ إِذَا كَانُوا مُخْطِئِينَ وَنَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَمْ يُقْدِمُوا عَلَى هَذَا الْأَمْرِ إِلَّا عَنِ اجْتِهَادٍ, فَإِنَّهُ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ «إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانٍ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ». وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

فَالصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- مَا وَقَعَ مِنْهُمْ مِنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَالْقَوْلُ فِيهِمْ أَنَّهُمْ مُخْطِئُونَ مُجْتَهِدُونَ، فَلَهُمْ أَجْرٌ وَاحِدٌ.

هَذَا مَا يَنْبَغِي عَلَيْنَا تِجَاهَ أَصْحَابِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ.

وَفَضَائِلُ الصَّحَابَةِ بِإِجْمَالٍ هِيَ: الْإِيمَانُ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَالْهِجْرَةُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَالنُّصْرَةُ لِدِينِ اللهِ، وَالْعِلْمُ النَّافِعُ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَهُمْ خَيْرُ الْخَلْقِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَهُمُ الصَّفْوَةُ مِنْ قُرُونِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَهَذِهِ الْأُمَّةُ خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ.

فَمَنْ نَظَرَ فِي سِيرَةِ الْقَوْمِ بِعِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ وَمَا مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ بِهِ مِنَ الْفَضَائِلِ، عَلِمَ يَقِينًا أَنَّهُمْ خَيْرُ الْخَلْقِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ.

إِذَا نَظَرْتَ بِعِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ وَإِنْصَافٍ فِي مَحَاسِنِ الْقَوْمِ وَمَا أَعْطَاهُمُ اللهُ مِنَ الْفَضَائِلِ؛ عَلِمْتَ يَقِينًا أَنَّهُمْ خَيْرُ الْخَلْقِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ، فَهُمْ خَيْرٌ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ أَصْحَابِ عِيسَى، وَخَيْرٌ مِنَ النُّقَبَاءِ أَصْحَابِ مُوسَى، وَخَيْرٌ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَ نُوحٍ وَمَعَ هُودٍ وَغَيْرِهِمْ.

لَا يُوجَدُ أَحَدٌ فِي أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ أَفْضَلَ مِنَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَالْأَمْرُ فِي هَذَا ظَاهِرٌ مَعْلُومٌ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]، وَخَيْرُنَا الصَّحَابَةُ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ خَيْرُ الْخَلْقِ فَأَصْحَابُهُ خَيْرُ الْأَصْحَابِ بِلَا شَكٍّ، هَذَا عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ.

مِنْ كُلِّ ذَلِكَ يَعْتَقِدُ أَهْلُ السُّنَّةِ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَفْضَلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا ﷺ، وَأَعْلَاهُمْ مَنْزِلَةً وَمَكَانَةً عِنْدَ اللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ الصَّحَابَةَ جَمِيعًا مُشْتَرِكُونَ فِي هَذَا الْفَضْلِ الْعَظِيمِ، مَشْمُولُونَ بِجَمِيلِ الثَّنَاءِ وَالْكَرَامَةِ وَالْوَعْدِ الْحَسَنِ مِنَ اللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.


تَرْبِيَةُ النَّبِيِّ ﷺ أَعْظَمَ جِيلٍ فِي التَّارِيخِ

لَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- خَادِمِ النَّبِيِّ ﷺ وَصَاحِبِهِ، قَالَ: ((قَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- -وَذَلِكَ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ-: ((انْطَلِقْ بِنَا إِلَى أُمِّ أَيْمَنَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- نَزُورُهَا كَمَا كَانَ الرَّسُولُ ﷺ يَزُورُهَا)).

قَالَ: ((فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَيْهَا؛ بَكَتْ))؛ حِينَ رَأَتْهُمَا.

فَقَالَا لَهَا: ((مَا يُبْكِيكِ؟!! مَا عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ ﷺ؟!!))؛ أَمَا تَعْلَمِينَ أَنَّ مَا عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ ﷺ؟!!

فَقَالَتْ: ((مَا أَبْكِي أَنِّي لَا أَكُونُ أَعْلَمُ أَنَّ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ ﷺ، وَلَكِنْ أَبْكِي أَنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ مِنَ السَّمَاءِ))؛ فَهَيَّجَتْهُمَا عَلَى الْبُكَاءِ، فَجَعَلَا يَبْكِيَانِ مَعَهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-)).

وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي ((صَحِيحَيْهِمَا)) عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ قَالَ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((إِنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ سُورَةَ: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا...})).

قَالَ أُبَيٌّ: ((وَسَمَّانِي؟!!)).

فَقَالَ: ((نَعَمْ))؛ فَبَكَى.

يَقُولُ أُبَيٌّ لِلنَّبِيِّ ﷺ مُتَسَائِلًا: هَلْ سَمَّانِي اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِتَقْرَأَ عَلَيَّ خَاصَّةً؛ أَمْ أَمَرَكَ بِأَنْ تَقْرَأَ السُّورَةَ عَلَى بَعْضِ أَصْحَابِكَ فَانْتَدَبْتَنِي لِذَلِكَ؟!!

أَهُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قَصْدًا، أَمْ مِنْ عِنْدِكَ يَا رَسُولَ اللهِ تَبَعًا؟!!

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((بَلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- رَأْسًا)).

قَالَ أُبَيٌّ: ((وَسَمَّانِي؟!!)).

قَالَ: ((نَعَمْ))؛ فَبَكَى أُبَيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَرَحًا وَسُرُورًا بِنِعْمَةِ اللهِ عَلَيْهِ، أَوْ وَجَلًا وَخَوْفًا أَلَّا يَقُومَ بِحَقِّ شُكْرِ نِعْمَةِ اللهِ عَلَيْهِ، وَهُمَا قَوْلَانِ لِعُلَمَائِنَا -عَلَيْهِمُ الرَّحْمَةُ-.

وَعَدِّ عَنْكَ ذَلِكَ، وَتَأَمَّلْ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ لِأُبَيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((إِنَّ اللهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ سُورَةَ: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا...})).

وَحْيٌ يَتَنَزَّلُ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ سَلْسَلًا فِي سَلْسَلِ، آيَاتٌ تَتَرَقْرَقُ بِنُورِ الْحِكْمَةِ مُتَنَزَّلَةً مِنْ عِنْدِ اللهِ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يُرَبِّي جِيلَ الصَّحَابَةِ عَلَى يَدَيْ نَبِيِّهِمْ مُحَمَّدٍ ﷺ تَرْبِيَةً فَذَّةً حَقًّا، عَجِيبَةً جِدًّا؛ لِأَنَّ الْجِيلَ الْأَوَّلَ الَّذِي شَهِدَ الْحَيَاةَ مَعَ الرَّسُولِ ﷺ وَالْوَحْيُ يَتَنَزَّلُ مِنْ لَدُنْ رَبِّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- عَلَى قَلْبِ نَبِيِّهِ ﷺ.. هَذَا الْجِيلُ عَاشَ فَتْرَةً فِي الْحَيَاةِ عَجِيبَةً غَرِيبَةً بِحَقٍّ وَصِدْقٍ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ كَانَ يَبِيتُ وَيُصْبِحُ وَفِي ضَمِيرِهِ وَفِي يَقِينِهِ وَفِي خَلَدِهِ لَا يَغِيبُ عَنْ عَيْنَيْ قَلْبِهِ أَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ سَامِعُهُ، وَأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ مُبْصِرُهُ، وَأَنَّهُ رُبَّمَا أَصْبَحَ أَوْ أَمْسَى وَالْقُرْآنُ يَتَنَزَّلُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ فَيَكْشِفُ خَبِيئَةَ نَفْسِهِ، وَالْقُرْآنُ يَتَنَزَّلُ عَلَى قَلْبِ النَّبِيِّ ﷺ يُخْرِجُ مَكْنُونَ صَدْرِهِ، وَالْقُرْآنُ يَتَنَزَّلُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ يُخْرِجُ الْخَبِيءَ مِنْ أَمْرِهِ.

فَلَا يَخْفَى عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، وَمَا مِنْ هَاجِسٍ يَهْجِسُ فِي النَّفْسِ وَلَا خَاطِرٍ يَلُوحُ فِي أُفُقِ الْعَقْلِ إِلَّا وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ.. إِلَّا وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ خَبِيرٌ بِهِ عَلِيمٌ بِأَمْرِهِ.

فَكَانَ الْأَصْحَابُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يَعِيشُونَ فَتْرَةً حِينَ كَانَ الْقُرْآنُ يَتَنَزَّلُ عَلَى قَلْبِ النَّبِيِّ ﷺ.. فَتْرَةً عَجِيبَةً بِحَقٍّ، وَرَبَّاهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالْأَحْدَاثِ الْمَرِيرَةِ، وَآتَاهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ، فَكَانُوا حَقًّا بَاقَةَ الْوَرْدِ حَوْلَ النَّبِيِّ ﷺ فِي بُسْتَانِ الصَّبْرِ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ يُصِيبُهُ مِنْ ذَلِكَ مَا يُصِيبُهُ، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَا يَكْتَفِي بِنُزُولِ الْقُرْآنِ، ثُمَّ يَدَعُ الصَّحَابَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- لِكِتَابِهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ لِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ، وَيُخْرِجَ مَكْنُونَاتِ صُدُورِهِمْ، وَإِنَّمَا كَانَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَعْرِضُهُمْ عَلَى كِيرِ الْمِحْنَةِ، وَيُدْخِلُهُمْ أَتُّونَ الْفِتْنَةِ، حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنَ الْجِهَةِ الْمُقَابِلَةِ؛ خَرَجُوا ذَهَبًا صُرَاحًا خَالِصًا لَا شَائِبَةَ فِيهِ، وَلَا كُدُورَةَ تَعْتَرِيهِ.

وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقُودُ الْمَسِيرَةَ -مَسِيرَةَ الْبَشَرِيَّةِ- بَعْدَ إِذْ أَعْلَنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِلَيْهِ أَنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَأَنَّ الْأَمْرَ قَدْ رَجَعَ إِلَى نِصَابِهِ مِنْ غَيْرِ مَا تَزْيِيفٍ لِمُزَيِّفٍ وَلَا تَحْرِيفٍ لِمُحَرِّفٍ، وَمِنْ غَيْرِ مَا شَائِبَةٍ تَعْلَقُ بِذَاكِرَةِ الْبَشَرِيَّةِ بَعْدَ بَعْثَةِ خَيْرِ الْبَرِيَّةِ ﷺ.

كَانَ رَبُّكَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- بِسُنَّتِهِ الَّتِي مَضَتْ فِي أُمَّةِ النَّبِيِّ ﷺ يُمَحِّصُ الْأَصْحَابَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَكَانَ وَعْيُهُمْ فَائِقًا، وَكَانَ حِسُّهُمْ ثَاقِبًا، وَكَانَ بَصَرُهُمْ نَافِذًا، وَكَانُوا بِحَقٍّ عَلَى قَدْرِ الْمَسْؤُولِيَّةِ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مُلْقَاةً عَلَى أَعْتَاقِهِمْ، يَحْمِلُونَهَا فِي حَيَاتِهِمْ، وَيُبَلِّغُونَهَا إِلَى مَنْ بَعْدَهُمْ لِتَصِلَ إِلَيْهِمْ نَقِيَّةً مِنْ كُلِّ زَيْفٍ بَعْدَ مَمَاتِهِمْ، فَأَدَّوُا الْأَمَانَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَكَانُوا سَابِقِينَ بِحَقٍّ كَمَا أَرَادَ رَبُّكَ -جَلَّ وَعَلَا- لِلْجِيلِ الَّذِي اصْطَفَاهُ مِنَ الْبَشَرِيَّةِ مُصَاحِبًا لِخَيْرِ الْبَرِيَّةِ ﷺ.

كَانُوا يُحِسُّونَ أَنَّ الْوَحْيَ عِنْدَمَا يَتَنَزَّلُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ؛ فَهِيَ النِّعْمَةُ الْكُبْرَى، وَهِيَ الْمِنَّةُ الْعُظْمَى؛ وَلِذَلِكَ لَمَّا انْطَلَقَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- إِلَى أُمِّ أَيْمَنَ يَصِلَانِ مَنْ كَانَ يُحِبُّ نَبِيُّهُمْ ﷺ بَعْدَ مَمَاتِهِ، يَصِلَانِ مَنْ كَانَ يَصِلُهُ الرَّسُولُ ﷺ فِي حَيَاتِهِ، وَهِيَ لَمْحَةٌ مِنْ لَمْحَاتِ الْوَفَاءِ عَزَّ نَظِيرُهَا، وَقَلَّ مَثِيلُهَا إِلَّا فِي هَذَا الْجِيلِ الَّذِي صَاغَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهِ الْوَفَاءَ مُجَسَّمًا، فَكَانَ حَيًّا يَتَحَرَّكُ فِي أَشْخَاصٍ، وَكَانَ مَاثِلًا يَبْدُو فِي ذَوَاتٍ وَأَرْكَانٍ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَى الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ-.

((انْطَلِقْ بِنَا إِلَى أُمِّ أَيْمَنَ نَزُورُهَا كَمَا كَانَ يَزُورُهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ))، وَأُمُّ أَيْمَنَ حَاضِنَةُ نَبِيِّنَا ﷺ مِنْ بَعْدِ وَفَاةِ أُمِّهِ.

وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُحِبُّهَا وَيُجِلُّهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، فَلَمَّا مَاتَ؛ جَاءَ هَذَا الْخَاطِرُ فِي قَلْبِ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَأَخَذَ بِيَدِ الْفَارُوقِ لِكَيْ يَزُورَا مَعًا أُمَّ أَيْمَنَ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا-، ((انْطَلِقْ بِنَا نَزُورُ أُمَّ أَيْمَنَ كَمَا كَانَ يَزُورُهَا النَّبِيُّ ﷺ)).

فَلَمَّا تَحَصَّلَا عِنْدَهَا، وَلَمَّا انْتَهَيَا إِلَيْهَا، لَمَّا رَأَتْهُمَا -وَكَانَتْ تَرَاهُمَا دَائِمًا مَعَ الْحَبِيبِ ﷺ، وَالْآنَ أَيْنَ شَخْصُهُ؟!! وَأَيْنَ رَاحَ جِسْمُهُ؟!! فَابْتَدَرَتِ الدُّمُوعُ بِعَيْنَيْهَا تَسِحُّ سَحًّا، وَأَقْبَلَا عَلَيْهَا يُوَاسِيَانِهَا، وَيُؤَمِّلَانِ خَيْرًا، فَقَالَا: ((أَمَا تَعْلَمِينَ أَنَّ مَا عِنْدَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- هُوَ خَيْرٌ لِنَبِيِّهِ ﷺ؟!!))، وَأَنَّهُ قَدِ انْتَقَلَ ﷺ إِلَى الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، وَأَنَّ مَا أَعَدَّهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ بَرْزَخًا وَمَآلًا هُوَ خَيْرٌ مِنْ هَذِهِ الْفَانِيَةِ الَّتِي هِيَ مُصْطَرَعٌ لِلْأَحْدَاثِ وَمُعْتَرَكٌ لِلنِّيَّاتِ، وَالَّتِي يَتَلَاطَمُ فِيهَا هَذَا الْبَاطِلُ عَلَى سَاحِلِ الْخَيْرِ يَنْحَسِرُ عَنْهُ حِينًا، وَيَطْغَى عَلَيْهِ حِينًا؟!! أَمَا عَلِمْتِ أَنَّ ((مَا عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هُوَ خَيْرٌ لِنَبِيِّهِ ﷺ؟!!)).

وَتَقُولُ الْمَرْأَةُ الْمُؤْمِنَةُ الَّتِي حَضِنَتْ رَسُولَ اللهِ ﷺ صَغِيرًا، فَكَانَ فِي حَضَانَتِهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((مَا أَبْكِي أَنِّي لَا أَكُونُ أَعْلَمُ أَنَّ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ ﷺ، وَلَكِنْ أَبْكِي أَنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ مِنَ السَّمَاءِ))، فَجَعَلَا يَبْكِيَانِ، فَأَخَذَا يَذْرِفَانِ الدُّمُوعَ يَسِحَّانِهَا سَحًّا، فَهَيَّجَتْهُمَا عَلَى الْبُكَاءِ، فَقَعَدَا يَبْكِيَانِ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا-.

كَانَ الْقُرْآنُ يَتَنَزَّلُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ فِي تِلْكَ الْفَتْرَةِ، وَهِيَ فَتْرَةٌ مُتَمَيِّزَةٌ فِي تَارِيخِ الْبَشَرِيَّةِ كُلِّهَا، كَانَ الْقُرْآنُ يَتَنَزَّلُ لِكَيْ يَقُولَ: يَا فُلَانُ! أَسْرَرْتَ فِي نَفْسِكَ كَذَا، وَأَعْلَنْتَ كَذَا، وَعَمِلْتَ فِي الْخَفَاءِ كَذَا وَفِي الْعَلَنِ كَذَا، وَيَا فُلَانُ! وَيَا فُلَانُ! بِذَاتِهِ يُخَاطِبُهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَيُكَلِّمُهُ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، يُكَلِّمُهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْهُ إِلَيْهِ، عِنْدَمَا يَتَنَزَّلُ الْقُرْآنُ كَاشِفًا، وَعِنْدَمَا تَتَعَرَّى النَّفْسُ الْإِنْسَانِيَّةُ؛ فَإِذَا هِيَ مُتَجَرِّدَةٌ مِنْ كُلِّ رِدَاءٍ وَكِسَاءٍ، وَإِذَا هِيَ وَاقِفَةٌ فِي حَالَةٍ مِنْ حَالَاتِ التَّجَرُّدِ الْفَذِّ، يَعْتَرِيهَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ مَا يَعْتَرِيهَا مِنَ الْإِشْفَاقِ وَالْوَجَلِ، وَمِنَ الْمَحَبَّةِ وَالْإِقْبَالِ؛ يَا فُلَانُ! أَسْرَرْتَ كَذَا، مِنْهُ إِلَيْهِ!!

عِنْدَمَا يَتَنَزَّلُ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ وَالْمَرْءُ فِي خَلْوَتِهِ يَعْلَمُ أَنَّ اللهَ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ سَامِعٌ إِلَيْهِ، وَأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِهِ شَيْءٌ.

فِي تِلْكَ الْفَتْرَةِ أَخَذَ النَّبِيُّ ﷺ يُرَبِّي الْأُمَّةَ بِدُرُوسِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَلَكِنَّ الْأَصْحَابَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- كَانُوا يَثْبُتُونَ مَعَ الرَّسُولِ ﷺ فِي مَهَبِّ الْأَعَاصِيرِ، تَأْتِي إِلَيْهِمْ يَنْثَنُونَ مَعَهَا حِينًا وَيَسْتَقِيمُونَ حِينًا، وَفِي كُلِّ الْحَالَاتِ لَا يَخْرُجُونَ عَنِ الطَّبِيعَةِ الْبَشَرِيَّةِ الَّتِي خَلَقَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْإِنْسَانَ عَلَيْهَا.

وَهَذَا وَاحِدٌ مِنْهُمْ -مِنْ أَصْحَابِ نَبِيِّكُمْ ﷺ- يُقَرِّرُ قَاعِدَةً مِنَ الْقَوَاعِدِ الْجَلِيلَةِ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، تَأْتِي فِي حِينِهَا -بِحَوْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَقُوَّتِهِ- كَمَا أَخْرَجَ مُسْلِمٌ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ التَّيْمِيِّ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- قَالَ: ((كُنَّا عِنْدَ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَأَخَذَ يُحَدِّثُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: ((يَا حُذَيْفَةُ! أَدْرَكْتُمْ رَسُولَ اللهِ ﷺ؟)).

قَالَ: ((نَعَمْ)).

قَالَ: ((وَتَرَكْتُمُوهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ؟!! أَمَا إِنِّي لَوْ كُنْتُ أَدْرَكْتُ الرَّسُولَ ﷺ؛ لَقَاتَلْتُ مَعَهُ وَأَبْلَيْتُ)).

فَقَالَ: ((وَيْحَكَ! لَا تَقُلْ هَكَذَا، فَإِنَّا كُنَّا وَكُنَّا -عَلَى مَا يَأْتِي ذِكْرُهُ إِنْ شَاءَ اللهُ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-)).

وَهَاهُنَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ الْأَمْرُ الَّذِي قَرَّرَهُ حُذَيْفَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَلْحَظَ الْجَانِبَ الْبَشَرِيَّ فِي نَفْسِهِ، وَأَلَّا يَغْلُوَ فِي فِكْرِهِ، وَأَلَّا يَشْتَطَّ فِي خَيَالِهِ فَيَسْبَحَ مَعَهُ فِي مَسَابِحِ الْوَهْمِ، حَيْثُ يَتَلَكَّأُ هُنَالِكَ فِي جَنَبَاتِ خَيَالِهِ، ثُمَّ لَا يَعُودُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا بِقَبْضِ الرِّيحِ، لَا يَتَحَصَّلُ مِنَ الْحَقِيقَةِ عَلَى شَيْءٍ!!

وَمَنْ أَدْرَاكَ أَنَّكَ لَوْ كُنْتَ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ؛ لَمْ تَكُنْ عَدُوًّا لِرَسُولِ اللهِ ﷺ؟!!

يَقُولُ الْقَائِلُ: لَوْ كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ لَكُنْتُ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ!!

وَيْحَكَ! وَمَنْ أَدْرَاكَ؟!!

مَنْ أَدْرَاكَ أَنَّكَ لَوْ كُنْتَ مَعَهُ؛ لَمْ تَكُنْ أَبَا جَهْلٍ بِقَضِّهِ وَقَضِيضِهِ وَشَحْمِهِ وَلَحْمِهِ؟!!

وَمَنْ أَدْرَاكَ؟!!

فَالْأَمْرُ قَائِمٌ عَلَى قِسْمَةٍ ثُنَائِيَّةٍ لَا يَزِيدُ شَيْءٌ مِنْهَا عَلَى شَيْءٍ، وَإِنَّمَا الْأَمْرُ مُسْتَوٍ هَكَذَا عَلَى الرُّجْحَانِ مِنْ غَيْرِ رُجْحَانٍ.

النَّبِيُّ ﷺ.. كَمَا سَيَرْوِي حُذَيْفَةُ إِيمَاءً وَضِمْنًا، لَا تَصْرِيحًا وَإِعْلَانًا، فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ، وَكَانَتْ فِي شَوَّالٍ -كَمَا يَقُولُ ابْنُ إِسْحَاقَ- مِنْ سَنَةِ خَمْسٍ، وَكَانَتْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ -كَمَا يَقُولُ فِي ((الْمَغَازِي)) الْوَاقِدِيُّ، رَحْمَةُ اللهِ عَلَى عُلَمَائِنَا أَجْمَعِينَ-.. فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُعَانِي عَنَاءً مُرًّا، كَمَا فِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)) عَنِ الْبَرَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَعَنْ أَبِيهِ- يَقُولُ: ((لَمْ أَكُنْ أَرَى جِلْدَةَ بَطْنِ رَسُولِ اللهِ ﷺ مِنَ الْغُبَارِ))؛ لِأَنَّهُ ﷺ كَانَ يَحْمِلُ التُّرَابَ عَلَى ظَهْرِهِ.

كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَعْمَلُ فِي الْخَنْدَقِ بِيَدَيْهِ ﷺ، فَكَانَ الْبَرَاءُ إِذَا مَا نَظَرَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ لَمْ يَرَ جِلْدَةَ بَطْنِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَلَمْ يُمَيِّزْ لَهَا لَوْنًا مِمَّا تَكَاثَفَ عَلَيْهَا مِنَ الْغُبَارِ وَفِي عُكَنِ بَطْنِ رَسُولِ اللهِ، يَقُولُ: ((وَكَانَ كَثِيرَ الشَّعْرِ)) ﷺ، يَحْمِلُ التُّرَابَ عَلَى عَاتِقِهِ، ((وَظَلَلْنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا نَطْعَمُ شَيْئًا، وَلَا نَجِدُ ذَوَاقًا))؛ يَعْنِي: لَا طَعَامًا وَلَا شَرَابًا -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا-.

وَالنَّبِيُّ ﷺ فِي ذَلِكَ يَقُودُهُمْ؛ حَتَّى فِي مَسِيرَةِ الْجُوعِ يَسِيرُ بِهَا النَّبِيُّ ﷺ رَافِعًا لِوَاءَهَا؛ لِكَيْ يَسِيرَ خَلْفَهُ مِنَ الْأَصْحَابِ، ثُمَّ يَأْتِي بَعْدُ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ مَنْ يَسِيرُ عَلَى قَدَمَيْ نَبِيِّهِ ﷺ؛ لِيَعْلَمَ أَنَّهَا دُنْيَا فَانِيَةٌ -يَا صَاحِبِي-، وَأَنَّهَا لَا تُسَاوِي عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ شَيْئًا، وَلَوْ كَانَتْ تُسَاوِي شَيْئًا عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ مَا تَرَكَ نَبِيَّهُ ﷺ وَالثُّلَّةَ الْمُؤْمِنَةَ فِي الْخَنْدَقِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهِنَّ لَمْ يَذُوقُوا ذَوَاقًا، كَمَا فِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)) -عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ-.

وَلَكِنْ كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ كَمَا حَدَّدَ لَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ لِكُلِّ عَشْرَةٍ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا يَحْفِرُونَهَا حَفْرًا، وَيَنْقُلُونَ التُّرَابَ نَقْلًا؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَكُونَ سَلْعٌ، مِنْ أَجْلِ أَنْ يَكُونَ الْجَبَلُ إِلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَالْجُنْدِ الْمُقَاتِلَةِ فِي حَامِيَةِ الرُّشْدِ عَنْ مَدِينَةِ الرَّسُولِ ﷺ، وَلِيَكُونَ الْخَنْدَقُ بَيْنَ النَّبِيِّ ﷺ وَمَعْهُ جُنْدُهُ، وَالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ جَاءُوا عَشْرَةَ آلَافٍ مِنْ كُلِّ صَوْبٍ؛ إِذْ حَزَّبَتْ يَهُودُ الْأَحْزَابَ عَلَى الرَّسُولِ ﷺ، فَجَاءَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَرْجَاءِ الْجَزِيرَةِ جَمِيعًا يَنْقُضُونَ أَمْرَهَا نَقْضًا بِكِنَانَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِكَيْ يَسْتَأْصِلُوا شَأْفَةَ النَّبِيِّ ﷺ وَمَنْ مَعَهُ.

النَّبِيُّ ﷺ يَعْمَلُ فِي الْخَنْدَقِ بِيَدَيْهِ، وَيَحْمِلُ التُّرَابَ عَلَى ظَهْرِهِ ﷺ، وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- لَا يَجِدَانِ مِكْتَلًا يَحْمِلَانِ فِيهِ التُّرَابَ، فَيَجْعَلَانِ التُّرَابَ فِي ثَوْبَيْهِمَا، وَيَحْمِلَانِ التُّرَابَ حَمْلًا.

الْأَصْحَابُ جَمِيعُهُمْ قَدْ تَشَعَّثَتْ رُءُوسُهُمْ -بَلْ تَلَبَّدَتْ رُءُوسُهُمْ- بِهَذَا التُّرَابِ الَّذِي صَيَّرَهُ الْعَرَقُ الْمُبَارَكُ طِينًا عَلَى تِلْكَ الرُّءُوسِ؛ لِيَكُونَ فَوْقَ الْهَامَاتِ كَأَنَّهُ التِّيجَانُ؛ بَلْ هُوَ التِّيجَانُ فِي الْحَقِيقَةِ، وَالرَّسُولُ ﷺ لَا يَخْرُجُ عَنْ هَذَا الْإِطَارِ، يَعْمَلُ بِيَدَيْهِ، وَهُمْ يَرْتَجِزُونَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ:

اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَة=فَارْحَمِ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَة

يَقُولُهَا النَّبِيُّ ﷺ.. يَقُولُهَا مِنْ بَعْدِ انْتِبَاهِهِ مِنْ رَقْدَتِهِ؛ إِذْ أَخَذَ مِنْهُ التَّعَبُ مَأْخَذًا عَظِيمًا، فَجَلَسَ ﷺ، ثُمَّ اسْتَنَدَ بِجَانِبِهِ الْأَيْسَرِ إِلَى صَخْرَةٍ هُنَالِكَ، فَأَخَذَ النَّوْمُ بِمَعَاقِدِ أَجْفَانِهِ، وَوَقَفَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- نَاحِيَتَيْهِ يَرُدَّانِ النَّاسَ؛ لِكَيْ يَسِيرُوا مِنْ بَعِيدٍ؛ حَتَّى لَا يُحْدِثَ أَحَدٌ صَوْتًا، وَلَا يَتَأَتَّى مِنْ أَحَدٍ نَأْمَةٌ بِصَوْتٍ، فَيَسْتَيْقِظَ الرَّسُولُ ﷺ مِنْ رَقْدَتِهِ، يَنْشُدَانِ لَهُ بَعْضَ الرَّاحَةِ، مِنْ بَعْدِ الْعَنَاءِ، مِنْ بَعْدِ التَّعَبِ، مِنْ بَعْدِ الْجُوعِ، مِنْ بَعْدِ السَّغَبِ ﷺ، فَانْتَبَهَ النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ:

اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَة=فَارْحَمِ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَة

وَأَخَذَ مِعْوَلَهُ، وَأَخَذَ يَعْمَلُ فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ بِيَدَيْهِ ﷺ.

جَاءَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ، وَكَانَ الْيَهُودُ يَخَافُونَ عَلَى الْيَهُودِ مِنْ ذَرَارِيهِمْ، عَلَى صِغَارِهِمْ وَعَلى ذُرِّيَّتِهِمْ يَخَافُونَ يَفْرَقُونَ مِنَ الْيَهُودِ مِنْ أَعْلَاهُمْ وَمِنْ فَوْقِهِمْ، كَمَا وَصَفَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.

وَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ؛ فَيَأْتُونَ يَسْتَأْذِنُونَ النَّبِيَّ ﷺ، فَلَا يَسْتَأْذِنُ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا أَذِنَ لَهُ الرَّسُولُ ﷺ؛ لِأَنَّهُ شَرٌّ يُدْفَعُ، وَهَمٌّ يَنْجَلِي، وَأَمَّا بَقَاؤُهُمْ مَعَ الرَّسُولِ ﷺ؛ فَغُصَّةٌ وَشَجًى فِي الْحَلْقِ -وَهُوَ شَوْكَةٌ تَعْتَرِضُ فِي الْحَلْقِ، تَعْتَرِضُ مَسِيرَ الْمَاءِ وَمَسَاغَهُ-، وَالنَّبِيُّ ﷺ لَا يَأْتِيهِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ إِلَّا أَذِنَ لَهُ ﷺ.

يَقُولُ الْبَرَاءُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((وَاعْتَرَضَتْنَا فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ كُدْيَةٌ -وَهِيَ الصَّخْرَةُ الْعَظِيمَةُ- لَا تَعْمَلُ فِيهَا مَعَاوِلُنَا شَيْئًا))؛ بَلْ تَتَكَسَّرُ عَلَى رَأْسِهَا مِنْ عِنَادِهَا مِنْ صَخْرَةٍ عَظِيمَةٍ جُلْمُودٍ قَدْ قَامَتْ هُنَالِكَ.. قَامَتْ قَائِمَةً فِي جَوْفِ الْخَنْدَقِ مُعْتَرِضَةً تَتَحَدَّى بِرَأْسِهَا شَامِخَةً، تَتَكَسَّرُ عَلَيْهَا حَدِيدُ تِلْكَ الْفُئُوسِ الَّتِي أَخَذُوا بِهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَمَنْ لَهَا إِلَّا النَّبِيُّ ﷺ؟!!

فَقَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! اعْتَرَضَتْنَا كُدْيَةٌ))؛ لِيَتَأَتَّى النُّورُ مِنْ قَلْبِ الظَّلَامِ، مُنْفَجِرًا مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ، وَيَنْزِلُ النَّبِيُّ ﷺ وَلَهُ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْأَيَّامِ لَمْ يَذُقْ ذَوَاقًا، يَنْزِلُ الرَّسُولُ ﷺ، فَيَضْرِبُهَا بِمِعْوَلِهِ، فَإِذَا هِيَ كَثِيبٌ أَهْيَلُ.. فَإِذَا هِيَ كَثِيبٌ أَهْيَمُ يَتَنَاثَرُ تُرَابًا!!

وَالنَّبِيُّ ﷺ يَضْرِبُهَا بِقُدْرَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَفِي رِوَايَةٍ فِي غَيْرِ ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) -عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ-، وَلَا هِيَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-، وَإِنَّمَا هِيَ هُنَالِكَ فِي تِلْكَ الْكُتُبِ -مِنْ كُتُبِ الدَّلَائِلِ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ، وَعِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ فِي ((دَلَائِلِهِمَا)) -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمَا-، وَعِنْدَ ابْنِ عَسَاكِرَ، وَابْنِ مَرْدُويَةَ -كَمَا يَنْطِقُهَا الْمُحَدِّثُونَ عَلَيْهِمُ الرَّحْمَةُ- ابْنِ مَرْدُويَةَ، أَوِ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ -كَمَا يَنْطِقُهَا غَيْرُ الْمُحَدِّثِينَ-، وَأَمَّا الْمُحَدِّثُونَ فَيَكْرَهُونَ (وَيْهِ)؛ يَقُولُونَ: (وَيْهِ) شَيْطَانٌ، فَيَقُولُونَ: إِسْحَاقُ بْنُ رَاهُويَةَ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-، هِيَ هُنَالِكَ: ((أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا أَخَذَ مِعْوَلَهُ وَضَرَبَ ضَرْبَةً أَضَاءَتْ جَنَبَاتِ الْمَدِينَةِ، قَالَ: ((اللهُ أَكْبَرُ، إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ مَلَّكَنِي قُصُورَ الْيَمَنِ، وَهَا أَنَا أَرَى أَبْوَابَ صَنْعَاءَ كَأَمْثَالِ أَنْيَابِ الْكِلَابِ))، يَرَاهَا النَّبِيُّ ﷺ مِنْ خِلَالِ مَا هُنَالِكَ.

ثُمَّ يَضْرِبُ ضَرْبَةً، فَيَقُولُ: ((إِنَّ اللهَ مَلَّكَنِي أَمْرَ الرُّومِ))، ثُمَّ يَضْرِبُ ضَرْبَةً، فَيَقُولُ: ((إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ مَلَّكَنِي أَمْرَ فَارِسَ)).

النَّبِيُّ ﷺ فِي هَذَا الْعَنَاءِ الْمُرِّ، وَفِي هَذَا الْعَنَتِ الْعَانِتِ مَعَهُ أَصْحَابُهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، لَمَّا جَلَسَ حُذَيْفَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -وَذَلِكَ بَعْدَمَا مَرَّ مَرِيرُ الْأَيَّامِ، وَتَدَافَعَ حَبْوُهَا بِسَعْيِهَا نَحْوَ النِّهَايَةِ-، جَلَسَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يُحَدِّثُ بِمَا كَانَ هُنَالِكَ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أُولَئِكَ التَّابِعِينَ لَمْ يَشْهَدْ رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: ((يَا حُذَيْفَةُ! أَدْرَكْتُمْ رَسُولَ اللهِ ﷺ وَرَأَيْتُمُوهُ؟))؛ أَصَحِبْتُمُ النَّبِيَّ ﷺ؟!!

كُنْتُمْ مَعَهُ؟ تَرَوْنَهُ وَتُكَلِّمُونَهُ؟ تُخَاطِبُونَهُ وَتُحَدِّثُونَهُ؟ تَسِيرُونَ فِي رِكَابِهِ؟ تَقْعُدُونَ بِقُعودِهِ؟ وَتَنْطَلِقُونَ بِانْطِلَاقِهِ؟ كُنْتُمْ تَنْظُرُونَ إِلَى وَجْهِ النَّبِيِّ ﷺ كِفَاحًا، وَتَسْمَعُونَ صَوْتَهُ ﷺ؟!!

الرَّجُلُ يَتَفَجَّرُ مِنْ قَلْبِهِ الشَّوْقُ إِلَى نَبِيِّهِ ﷺ -وَلَا حَرَجَ-، وَلَكِنْ زَادَ الْأَمْرُ عَنْ حَدِّهِ فَانْقَلَبَ إِلَى ضِدِّهِ، قَالَ: يَا حُذَيْفَةُ! عِنْدَمَا رَدَّ عَلَيْهِ حُذَيْفَةُ بِالْإِيجَابِ، قَالَ: ((نَعَمْ، كُنَّا نُصَاحِبُهُ وَنَسِيرُ مَعَهُ ﷺ)).

فَقَالَ: ((يَا حُذَيْفَةُ! وَاللهِ لَوْ أَنِّي أَدْرَكْتُ النَّبِيَّ ﷺ؛ لَأَبْلَيْتُ وَقَاتَلْتُ وَجَاهَدْتُ وَنَصَرْتُ)).

فَقَالَ: ((وَيْحَكَ! لَا تَقُلْ هَكَذَا؛ فَإِنَّا كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْخَنْدَقِ، وَجَاءَ النَّبِيُّ ﷺ يَمُرُّ عَلَى الْأَصْحَابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فِي لَيْلَةٍ وَصَفَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَا كَانَ فِيهَا مِنَ الْأَمْرِ، وَمِنْ شِدَّةِ الْخَطْبِ، وَمِنْ عَظِيمِ الْعَنَاءِ مِمَّا أَصَابَ قُلُوبَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.. مَرَّ النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((أَلَا رَجُلٌ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ يَكُونُ مَعِي فِي الْجَنَّةِ؟!!)).

يَقُولُهَا مَرَّةً فَلَا يَقُومُ لَهُ أَحَدٌ، ثُمَّ ثَانِيَةً فَلَا يَقُومُ لَهُ أَحَدٌ، ثُمَّ ثَالِثَةً فَلَا يَقُومُ لَهُ أَحَدٌ، وَلَكَ أَنْ تَتَأَمَّلَ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْآنَ؛ نَبِيُّكَ ﷺ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِكَ يَقُولُ: ((أَلَا هَلْ مِنْ رَجُلٍ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ يَكُونُ مَعِي فِي الْجَنَّةِ؟!!))، تَحْظَى بِالرُّفْقَةِ مَعَ الرَّسُولِ ﷺ فِي جَنَّةِ الْخُلْدِ، وَالنَّبِيُّ ﷺ يَشْتَرِطُ الرَّجْعَةَ، يَشْتَرِطُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ، فَلَرُبَّمَا فَهِمَهَا الْأَصْحَابُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- عَلَى أَنَّ مَنْ ذَهَبَ فَلَمْ يَعُدْ؛ فَإِنَّهُ لَا يَتَحَصَّلُ عَلَى الْوَعْدِ الَّذِي وَعَدَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ؛ إِذْ شَرَطَ الرَّجْعَةَ إِلَيْهِ: ((يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ)).

وَلَكِنْ لَوْ أَنَّكَ تَأَمَّلْتَ فِي الْأَمْرِ بَعِيدًا عَنِ الظَّرْفِ الَّذِي كَانَ فِيهِ؛ مِنَ الْهَوْلِ الْهَائِلِ، وَالشِّدَّةِ الشَّدِيدَةِ، وَالْكَرْبِ الْكَارِبِ، وَمَا كَانَ هُنَالِكَ مِمَّا وَصَفَ حُذَيْفَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مِنَ الْقَرِّ الشَّدِيدِ الَّذِي يَنْخَرُ فِي الْعِظَامِ نَخْرًا، مِنَ الْبَرْدِ الْعَنِيفِ الَّذِي يُحِيطُ الرَّجُلَ يُجَلِّلُهُ، كَأَنَّمَا يَجْعَلُهُ فِي طَوْقٍ مِنْ حَدِيدٍ!!

هَذَا الْبَرْدُ الشَّدِيدُ لَمْ يَكُنْ وَحْدَهُ، وَإِنَّمَا كَانَتِ الرِّيحُ تَزْأَرُ كَأَمْثَالِ الْعَوَاصِفِ، وَلَوْ أَخْرَجَ الرَّجُلُ أُصْبَعَهُ لَمْ يَرَهُ، كَمَا قَالَ حُذَيْفَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي وَصْفِ الْحَالِ، وَهُنَالِكَ مَا هُنَالِكَ مِنْ ذَلِكَ الْخَوْفِ الَّذِي أَخَذَ بِالْقُلُوبِ؛ إِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ، وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ، كَمَا وَصَفَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ حَالَهُمْ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ.

لَكَ أَنْ تَتَصَوَّرَ الْآنَ تِلْكَ الْأَعْيُنَ الَّتِي زَاغَ بَصَرُهَا، وَتِلْكَ الْقُلُوبَ الَّتِي عَلَتْ بِخَوْفِهَا حَتَّى بَلَغَتِ الْحَنَاجِرَ، كَمَا قَالَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.

حُذَيْفَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَقُولُ: إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ؛ لَمْ يَقُمْ لَهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ-، وَمَعَ أَنَّكَ إِذَا مَا تَأَمَّلْتَ فِي الْكَلَامِ بَعِيدًا عَنِ الظَّرْفِ الَّذِي قِيلَ فِيهِ؛ تَجِدُ فِيهِ أَوْ تَشُمُّ مِنْ خِلَالِهِ رَائِحَةَ الْوَعْدِ بِالْعَوْدَةِ -إِنْ شَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ-: ((أَلَا هَلْ مِنْ رَجُلٍ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ يَكُونُ مَعِي فِي الْجَنَّةِ؟!!))؛ يَكُونُ رَفِيقَ الرَّسُولِ ﷺ فِي الْجَنَّةِ؟ لَمْ يَقُمْ أَحَدٌ!

يَقُولُ حُذَيْفَةُ: ((وَكُنْتُ هُنَالِكَ فِي مِرْطٍ لِامْرَأَتِي -فِي مِلَاءَةٍ لِامْرَأَتِهِ قَدْ تَلَفَّحَ بِهَا مِنْ شِدَّةِ الْبَرْدِ؛ إِذْ جَعَلُوا النِّسَاءَ خِلْفَةً-، ثُمَّ إِنَّهُ يَقُومُ جَاثِيًا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، قَالَ: فَلَمَّا جَاءَ الرَّسُولُ ﷺ بِإِزَائِي، قَالَ: ((يَا حُذَيْفَةُ!))؛ تَقَاصَرْتُ لِلْأَرْضِ)) -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

هُوَ يُشْفِقُ الْآنَ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ سَيُعَيِّنُهُ، فَإِذَا مَا عَيَّنَهُ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنَ الْقِيَامِ، فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ ﷺ قَالَ: ((يَا حُذَيْفَةُ!)).

قَالَ: ((لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ!))، وَهُوَ يَتَقَاصَرُ إِلَى الْأَرْضِ.

قَالَ: ((اذْهَبْ فَأْتِنِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ، وَلَا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ))؛ يَعْنِي: لَا تُحَفِّزْهُمْ عَلَيَّ، حَتَّى إِذَا مَا ظَهَرَ شَخْصُكَ هُنَالِكَ؛ رُبَّمَا ظَنُّوا أَنَّكَ طَلِيعَةٌ لِهُجُومٍ شَامِلٍ عَلَيْهِمْ؛ وَحِينَئِذٍ تَكُونُ قَدْ أَثَرْتَ ثَائِرَتَهُمْ عَلَى الرَّسُولِ ﷺ وَمَنْ مَعَهُ.

أَمَّا حُذَيْفَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ فَإِنَّهُ يَقُولُ: ((أَخَذَنِي مِنَ الْبَرْدِ مَا أَقْبَلَ بِي وَأَدْبَرَ، وَأَخَذَنِي مِنَ الْخَوْفِ مَا ارْتَكَزَ فِي الْقَلْبِ ارْتِكَازًا)).

وَأَمَّا الرَّسُولُ ﷺ؛ فَإِنَّهُ يَأْمُرُهُ بِهَذَا الْأَمْرِ فِي صَرَاحَةٍ مَعْهُودَةٍ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ.

((وَلَا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ))؛ وَلَا تُحْدِثْ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنِي.

يَقُولُ حُذَيْفَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((فَوَاللهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ مَضَيْتُ لِأَمْرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ حَتَّى ذَهَبَ مِنِّي وَمِنْ قَلْبِي كُلُّ مَا خَلَقَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهِ مِنْ خَوْفٍ وَقَرٍّ، وَكَأَنَّمَا أَمْشِي فِي حَمَّامٍ)).

فَاجْتَازَ الْخَنْدَقَ وَذَهَبَ، وَكَانَتِ الرِّيحُ تَعْمَلُ عَمَلَهَا هُنَالِكَ فِي الْأَحْزَابِ، كَمَا وَصَفَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، كَانَتْ تَكْفِأُ الْقُدُورَ، وَكَانَتْ تُطَيِّرُ الْخِيَامَ، وَتَقْتَلِعُ الْأَوْتَادَ، وَتُقَطِّعُ الْأَسْبَابَ تُقَطِّعُ الْحِبَالَ، وَيُلْقِي اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي الْقُلُوبِ مِنَ الذُّعْرِ وَمِنَ الرُّعْبِ وَمِنَ الْمَخَافَةِ مَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ عَلِيمٌ.

يَقُولُ حُذَيْفَةُ: ((فَلَمَّا تَحَصَّلْتُ هُنَالِكَ؛ كُنْتُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ، فَرَأَيْتُ رَجُلًا يُصْلِي ظَهْرَهُ النَّارَ مِنْ شِدَّةِ الْبَرْدِ، وَلَمْ أَكُنْ أَعْرِفُ أَبَا سُفْيَانَ قَبْلُ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ أَدْرَكْتُ أَنَّهُ هُوَ، وَإِذَا بِهِ يَقُولُ: لِيَنْظُرْ كُلٌّ مِنْكُمْ جَلِيسَهُ)).

وَأَمَّا حُذَيْفَةُ، ذَلِكَ الطَّلِيعَةُ الرَّبِيئَةُ الَّذِي اخْتَّصَهُ الرَّسُولُ ﷺ بِهَذِهِ الْمُهِمَّةِ الِاسْتِطْلَاعِيَّةِ الِاسْتِكْشَافِيَّةِ لِجُنْدِ الْمُسْلِمِينَ فِي تِلْكَ الْمَعْرَكَةِ الْمَهُولَةِ وَالْمَوْقِعَةِ الْحَاسِمَةِ، أَمَّا حُذَيْفَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ فَلَا تَغِيبُ عَنْهُ فِطْنَتُهُ، فِي التَّوِّ وَاللَّحْظَةِ يُمْسِكُ بِيَدَيْ مَنْ عَلَى يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ، يَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟

يَقُولُ: أَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ.

مَنْ أَنْتَ؟

أَنَا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ.

فَيَقُولُ: نَعَمْ نَعَمْ.

أَمَّا حُذَيْفَةُ؛ فَلَا يَنْتَظِرُ أَنْ يُمْسِكَ أَحَدٌ بِيَدِهِ لِيَسْأَلَهُ، وَإِنَّمَا يَأْخُذُ بِزِمَامِ الْمُبَادَرَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

قَالَ: ((فَلَمَّا رَأَيْتُ أَبَا سُفْيَانَ؛ وَضَعْتُ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ أَقْبَلْتُ عَلَيْهِ، فَتَذَكَّرْتُ قَوْلَ الرَّسُولِ ﷺ: ((وَلَا تُحْدِثْ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنِي)).

حُذَيْفَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَعُودُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ بِخَبَرِ الْقَوْمِ، يَجِدُ النَّبِيَّ ﷺ قَائِمًا يُصَلِّي، فَلَمَّا فَرَغَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ صَلَاتِهِ، كَانَتْ عَلَيْهِ عَبَاءَةٌ، فَجَعَلَ فَضْلَهَا -يَعْنِي: جَعَلَ شَيْئًا مِنْهَا- عَلَى حُذَيْفَةَ؛ لِأَنَّ حُذَيْفَةَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ إِلْقَاءِ بَيَانِهِ الَّذِي أَتَى بِهِ بَيْنَ يَدَيْ نَبِيِّهِ ﷺ؛ عَادَ الْبَرْدُ إِلَيْهِ، يَقُولُ: ((وَإِذَا أَنَا أُقَرْقِفُ مِنْ شِدَّةِ الْبَرْدِ، فَجَعَلَ الرَّسُولُ ﷺ فَضْلَ الْعَبَاءَةِ عَلَيَّ، وَأَخَذَ يُصَلِّي حَامِدًا رَبَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- وَشَاكِرًا)).

يَقُولُ: ((وَأَخَذَنِي النَّوْمُ، فَلَمْ أَسْتَيْقِظْ حَتَّى أَصْبَحْتُ)).

يَقُولُ لِيَ النَّبِيُّ ﷺ: ((قُمْ يَا نَوْمَانُ!))، فَقَامَ حُذَيْفَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

وَإِذَنْ؛ فَهَؤُلَاءِ الْأَصْحَابُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ يُوَارِي مَا جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي ضَمِيرِهِ مِنَ اعْتِمَالِ تِلْكَ الْبَشَرِيَّةِ الَّتِي جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَنَا سِيَاجًا، وَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَنَا قَيْدًا مِمَّا فِينَا مِنْ ضَعْفٍ بَشَرِيٍّ وَعَجْزٍ إِنْسَانِيٍّ، وَلَكِنْ لَا نَتَوَقَّفُ عِنْدَ حُدُودِ هَذَا الْقُصُورِ، وَإِنَّمَا نَسْتَدْرِكُ ذَلِكَ كُلَّهُ -بِفَضْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَرَحْمَتِهِ- مُتَجَاوِزِينَ إِيَّاهُ، قَافِزِينَ فَوْقَ تِلْكَ الْمُعَوِّقَاتِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ نَصِلَ إِلَى الشَّاطِئِ -بِرَحْمَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ- مِنْ غَيْرِ مَا عَجْزٍ وَلَا تَوَانٍ، كَمَا كَانَ أَصْحَابُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ، كَانُوا عَلَى الطَّبِيعَةِ الْبَشَرِيَّةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-؛ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يَتَفَاعَلُونَ مَعَ كِتَابِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَسُنَّةِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ ﷺ، فَصَنَعَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِمْ فِي التَّارِيخِ مَا لَمْ يَحْدُثْ مِثْلُهُ قَطُّ فِي تَارِيخِ الْإِنْسَانِيَّةِ مُنْذُ كَانَ الْإِنْسَانُ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ.

تَسْتَطِيعُ أَنْ تُلَخِّصَ مَا مَضَى كُلَّهُ فِي مَوَاقِفَ مَحْدُودَةٍ، وَفِي دَقَائِقَ مَعْدُودَةٍ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ لَا يَحْتَاجُ كَثِيرَ تَشْقِيقٍ لِكَلَامٍ، وَلَا يَحْتَمِلُ مَزِيدَ تَفْصِيلٍ بِبَيَانٍ؛ لِأَنَّ تَوْضِيحَ الْوَاضِحَاتِ مِنَ الْمُشْكِلَاتِ.

هَذَا نَبِيُّنَا ﷺ يَأْتِيهِ وَحْشِيٌّ قَاتِلُ حَمْزَةَ عَمِّ النَّبِيِّ ﷺ وَأَخِيهِ مِنَ الرَّضَاعِ، وَأَسَدِ اللهِ الْمُنَافِحِ عَنْ دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الْحَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمُّ نَبِيِّنَا ﷺ، يَأْتِي وَحْشِيٌّ مَعَ الرُّسُلِ مِنْ ثَقِيفٍ؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَا يَنَالُ الرُّسُلَ الْمُرْسَلِينَ إِلَيْهِ إِلَّا بِكُلِّ مَعْرُوفٍ، فَمَا رَاعَ الرَّسُولَ ﷺ إِلَّا وَحْشِيٌّ قَائِمٌ بَيْنَ يَدَيْهِ، قَالَ: ((آنْتَ وَحْشِيٌّ؟)).

قَالَ: ((نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ)).

قَالَ: ((أَنْتَ الَّذِي قَتَلْتَ حَمْزَةَ؟!!)).

فَقَالَ: ((قَدْ بَلَغَكَ الَّذِي كَانَ مِنْ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ)). وَلَمْ يُجَبِّهْهُ بِقَوْلِهِ: قَتَلْتُهُ، وَإِنَّمَا: ((كَانَ الَّذِي بَلَغَكَ.. كَانَ الَّذِي بَلَغَكَ))، وَأَنْتَ بِهَذَا الْأَمْرِ عَلِيمٌ.

فَقَالَ: ((تَسْتَطِيعُ أَنْ تُغَيِّبَ عَنِّي وَجْهَكَ؟!!)). فَفَعَلَ، فَلَمْ يَرَ النَّبِيُّ ﷺ وَجْهَهُ حَتَّى انْتَقَلَ الرَّسُولُ ﷺ إِلَى الرَّفِيقِ الْأَعْلَى.

هُنَا أَمْرٌ بَشَرِيٌّ يَعْرِضُ، وَعَدْلٌ نَبَوِيٌّ يَقُومُ، هُنَا أَمْرٌ يَعْتَمِلُ فِي الضَّمِيرِ: ((أَنْتَ قَاتِلُ حَمْزَةَ؟!!))؛ أَنْتَ قَاتِلُ الْأَسَدِ غِيلَةً؛ إِذْ تَكْمُنُ لَهُ هُنَالِكَ وَرَاءَ الصَّخْرَةِ، ثُمَّ تَأْتِي بِالْحَرْبَةِ، فَتَجْعَلُهَا مَا بَيْنَ الْعَانَةِ وَالسُّرَّةِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ بَيْنِ وَرِكَيْهِ؟!! أَنْتَ قَاتِلُ حَمْزَةَ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَتَحَصَّلَ عَلَى الْحُرِّيَّةِ -وَلَا حُرِّيَّةَ-؟!! أَنْتَ قَاتِلُ الْأَسَدِ غِيلَةً وَاغْتِيَالًا؟!!

أَنْتَ قَاتِلُ حَمْزَةَ؟!!

يَقُولُ: ((بَلَغَكَ الَّذِي كَانَ مِنْ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ)).

وَلَا يَنَالُ مِنْهُ النَّبِيُّ ﷺ مَنَالًا سِوَى أَنْ يَقُولَ: ((غَيِّبْ عَنِّي وَجْهَكَ، لَا أُرِيدُ أَنْ أَرَاكَ))؛ لِأَنَّهُ أَتَى مُسْلِمًا يَشْهَدُ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ ﷺ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ، وَإِذَنْ؛ فَلْتَتَوَارَ الطَّبِيعَةُ الْبَشَرِيَّةُ مِنْ هَاهُنَا قَوْلًا وَاحِدًا، وَهُنَا يَتَأَتَّى الْعَدْلُ الْقَائِمُ، فَلَا يَنَالُهُ بِشَيْءٍ، وَمَاذَا يَصْنَعُ لَهُ وَقَدْ أَعْلَنَ الْإِسْلَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ؟!!

وَكَيْفَ يَنَالُ مِنْهُ وَقَدْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ مُسْلِمًا وَوَافِدًا رَسُولًا لِثَقِيفٍ مَعَ وَفْدِهَا؟!!

وَحِينَئِذٍ يَقُولُ: ((أَوَتَسْتَطِيعُ أَنْ تُغَيِّبَ عَنِّي وَجْهَكَ؟!!))، وَلَفْظُ الِاسْتِطَاعَةِ هَاهُنَا سُؤَالًا وَرَدَ كَذَلِكَ فِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)) -عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ-،((أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تُغَيِّبَ عَنِّي وَجْهَكَ؟!!))، فَقَطْ لَا أُرِيدُ أَنْ أَرَاكَ، لَا أُرِيدُ أَنْ أَرَى ذَلِكَ الْمَاضِيَ الدَّامِيَ يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الدَّمُ.. الدَّمُ الزَّكِيُّ الْمَسْفُوحُ مُنْفَجِرًا مِنْ ذَلِكَ الْجُرْحِ الَّذِي أَحْدَثْتَهُ، لَا أَقُولُ أَحْدَثْتَهُ بِأَدِيمِ حَمْزَةَ، وَإِنَّمَا أَحْدَثْتَهُ بِأَدِيمِ قَلْبِي.

وَالنَّبِيُّ ﷺ -كَمَا تَعْلَمُونُ- لَمَّا عَادَ مِنْ بَعْدِ أُحُدٍ.. لَمَّا عَادَ مِنْ بَعْدِ مَقْتَلِ الْأَسَدِ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْأَصْحَابِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَوَجَدَ النِّسَاءَ هُنَالِكَ يَنْدُبْنَ مَنْ قُتِلَ مِنَ الشُّهَدَاءِ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا-، لَا ذَلِكَ النَّدْبَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ الشَّرْعُ الْحَنِيفُ، وَإِنَّمَا كُنَّ يُعَدِّدْنَ الْمَآثِرَ فِيمَا يُعَدِّدْنَ مِنَ الْمآثِرِ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِنَّ-، يَتَفَجَّرُ الْحُزْنُ فِي قَلْبِ النَّبِيِّ ﷺ، يَقُولُ: ((وَلَكِنَّ حَمْزَةَ لَا بَوَاكِيَ لَهُ!!)).

وَيَذْهَبُ الْأَنْصَارُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يَأْمُرُونَ النِّسْوَةَ بِأَنْ يَنْدُبْنَ حَمْزَةَ، فَيَقُولُ: ((أَلَا جَزَاكُمُ اللهُ خَيرًا وَجَزَاكُنَّ، أَمْسِكْنَ عَنْ ذَلِكَ)) -رَضِيَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَنِ الْأَصْحَابِ وَالصَّحَابِيَّاتِ أَجْمَعِينَ وَجَمْعَاوَاتٍ-.

النَّبِيُّ ﷺ يَأْتِي بِهَذَا التَّوَازُنِ الَّذِي بَيَّنَهُ حُذَيْفَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي وَاقِعِ الْحَيَاةِ قَائِمًا مِثَالًا مَضْرُوبًا، مِثَالًا عَمَلِيًّا يَأْتِي بِهِ النَّبِيُّ ﷺ، لَا يَطْغَى أَمْرٌ مِنْ أَمْرِ الْمَشَاعِرِ عَلَى قِيمَةٍ مِنَ الْقِيَمِ مَهْمَا كَانَ ذَلِكَ الْأَمْرُ مِنْ أُمُورِ الْمَشَاعِرِ طَاغِيًا، فَلْيَتَوَقَّفْ عِنْدَ حَدٍّ، وَلْيَنْتَهِ عِنْدَ مُنْتَهًى، يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تُغَيِّبَ عَنِّي وَجْهَكَ؟!!))، فَكَانَ.

وَمِنْهَا يَأْتِي مَا يَأْتِي مِنْ أَمْرِ فِعْلِ الْفَارُوقِ وَقَوْلِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، يَأْتِيهِ رَجُلٌ يَقُولُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! أُرِيدُ أَنْ أُطَلِّقَ امْرَأَتِي.

يَقُولُ: وَيْحَكَ! وَلِمَ؟

يَقُولُ: لَمْ أَعُدْ أُحِبُّهَا.

يَقُولُ: أَوَكُلُّ الْبُيُوتِ تُبْنَى عَلَى الْحُبِّ؛ فَأَيْنَ الرِّعَايَةُ وَأَيْنَ التَّذَمُّمُ؟!!

وَهُنَا أَمْرٌ يَحْدُثُ فِي الْقَلْبِ مَا يَحْدُثُ بِسَبَبِهِ مِنَ اخْتِلَالٍ وَاضْطِرَابٍ.. لَا أُحِبُّهَا, وَأُرِيدُ أَنْ أُفَارِقَهَا.. وَلَمْ يَقُلِ الصَّحَابِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: إِنِّي أُبْغِضُهَا, وَلَكِنْ فَقَطْ لَا أُحِبُّهَا.

فَيَقُولُ: وَيْحَكَ! أَوَكُلُّ الْبُيُوتِ تُبْنَى عَلَى الحُبِّ؟! فَأَيْنَ الرِّعَايَةُ وَأَيْنَ التَّذَمُّمُ؟!!

وَانْظُرْ هَاهُنَا إِلَى هَذَا التَّوَازُنِ بَيْنَ هَذِهِ الْقِيَمِ السَّامِيَةِ؛ رِعَايَةٌ وَتَذَمُّمٌ، وَإِنَّمَا أَخَذْتَهَا بِذِمَّةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ تَرْعَاهَا، وَإِنَّمَا أَخَذْتَهَا بِأَمْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ تَحُوطُهَا، وَإِنَّمَا أَخَذْتَهَا بِفَضْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْكَ، فَلَهَا حَقُّهَا.

وَلَكِنْ لَا أُحِبُّهَا! وَهَذَا قَلْبٌ يَتَمَرَّدُ بَيْنَ الْجَوَانِحِ يُرِيدُ مَحَبَّةً وَيُرِيدُ شَوْقًا!! وَهَذَا قَلْبٌ يَعْتَرِيهِ مَا يَعْتَرِيهِ مِنْ هَذَا الضَّعْفِ الْبَشَرِيِّ؛ وَلَكِنْ زِمَامُهُ مُعَلَّقٌ بِيَدِ الشَّرْعِ.

وَيْحَك! أَوَكُلُّ الْبُيُوتِ تُبْنَى عَلَى الْحُبِّ؟!! فَأَيْنَ الرِّعَايَةُ وَأَيْنَ التَّذَمُّمُ؟!!

وَأَيْضًا فِي مَوْقِفٍ هُوَ أَعْلَى وَأَجَلُّ، يَأْخُذُهُ مِمَّا أَخَذَ مِنْ مِشْكَاةِ النَّبِيِّ ﷺ، يَأْتِيهِ قَاتِلُ أَخِيهِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَقَد قَضَى شَهِيدًا، يَقُولُ: أَنْتَ قَاتِلُ زَيْدٍ؟

فَقَالَ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.

قَالَ: وَاللهِ لَا أُحِبُّكَ.

أَسْلَمَ!! وَاللهِ لَا أُحِبُّكَ حَتَّى تُحِبَّ الْأَرْضُ الدَّمَ.

فَقَالَ: أَوَذَلِكَ يَمْنَعُنِى حَقًّا هُوَ لِي، أَوْ يَطُولُنِي بِشَرٍّ لَا أَسْتَحِقُّهُ؟

قَالَ: لَا.

قَالَ: إِذَنْ؛ لَا أُبَالِي، إِنَّمَا يَبْكِي عَلَى الْحُبِّ النِّسَاءُ.

يَقُولُ: وَاللهِ لَا أُحِبُّكَ.. لَا أُحِبُّكَ حَتَّى تُحِبَّ الْأَرْضُ الدَّمَ.. مَعَ أَنَّهُ أَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ!! ((وَاللهِ لَا أُحِبُّكَ))؛ مَعَ أَنَّهُ كَانَ سَبَبًا لِدُخُولِ أَخِيهِ الْجَنَّةَ شَهِيدًا فِي مَقَامِ الشُّهَدَاءِ، وَاللهِ لَا أُحِبُّكَ!! نَزْعَةُ الْبَشَرِ فِي الْبَشَرِ، أَنْتَ قَاتِلُ أَخِي؟! وَاللهِ لَا أُحِبُّكَ حَتَّى تُحِبَّ الْأَرْضُ الدَّمَ، وَلَكِنَّ الْقِيَمَ هِيَ الْقِيَمُ..

يَقُولُ: هَذَا الَّذِي تَذْكُرُ مِنْ عَدَمِ مَحَبَّتِكَ إِيَّايَ يَمْنَعُنِي حَقًّا هُوَ لِي، أَوْ يَطُولُنِي بِشَرٍّ لَا أَسْتَحِقُّهُ؟

يَقُولُ: لَا.. الْأَمْرُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْعَدْلِ؛ وَإِنْ كُنْتُ لَا أُحِبُّكَ؛ بَلْ لَوْ كُنْتُ أُبْغِضُكَ.

يَقُولُ: إِذَنْ لَا أُبَالِي، إِنَّمَا يَبْكِي عَلَى الْحُبِّ النِّسَاءُ!!

وَهُوَ خَطَأٌ لَا شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّ مَحَبَّةَ عُمَرَ لَا شَكَّ نَافِعَتُهُ، لَا شَكَّ أَنَّ مَحَبَّةَ عُمَرَ مِمَّا يَحْرِصُ عَلَيْهِ الْمَرْءُ الْمُسْلِمُ؛ وَلَكِنْ مَا حِيلَتُهُ وَهُوَ قَاتِلُ أَخِيهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؟!! وَلَكِنْ يَتَأَتَّى هَذَا الْوَسَطُ -الْوَسَطُ الَّذِي جَاءَ بِهِ الدِّينُ-؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَ الْمَشَاعِرِ الْمُتَأَجِّجَةِ فِي الْأَعْمَاقِ عَلَى حَسَبِ الطَّبِيعَةِ الْبَشَرِيَّةِ فِي تَدَنِّيهَا وَتَخَلُّفِهَا، وَلَكِنِ الْعَدْلُ هُوَ الْعَدْلُ، وَالْإِنْصَافُ هُوَ الْإِنْصَافُ، وَالْقِيَمُ هِيَ الْقِيَمُ.

وَمَا أَدْرَاكَ أَنَّكَ لَوْ كُنْتَ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ لَمْ تَكُنْ أَبَا جَهْلٍ؟!! إِذْ تَقُولُ إِنِّي لَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَكُنْتُ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ!!

وَيْحَكَ! وَمَا يُدْرِيكَ؟!!

لَقَدْ كَانُوا عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ، وَتَعْمَلُ الطَّبِيعَةُ الْبَشَرِيَّةُ عَمَلَهَا، يَقُولُ: ((أَلَا هَلْ مِنْ رَجُلٍ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ يَكُونُ مَعِي فِي الْجَنَّةِ؟ يَكُونُ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ؟))

وَأَيْنَ نَبِيُّكُمْ فِي الْجَنَّةِ ﷺ؟!

فِي الْفِرْدَوْسِ الْأَعْلَى مِنْهَا؛ وَلَكِنَّ الْخَوْفَ يَحْجُبُ الْقَلْبَ عَنِ الْإِبْصَارِ أَحْيَانًا، وَلَكِنَّ الْقَرَّ يُقْعِدُ الْمَرْءَ إِلَى الْأَرْضِ لَاطِئًا بِهَا أَحْيَانًا، وَلَكِنَّ الطَّبِيعَةَ الْبَشَرِيَّةَ تَضْرِبُ قَيْدًا وَسِيَاجًا حَوْلَ الْقَلْبِ وَالْجَسَدِ مَعًا، فَلَا يَقُومُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ أَحَدٌ حَتَّى يُعَيِّنَ بِنَفْسِهِ، وَيَقُولُ مَعَ التَّعْيِينِ: ((فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ طَاعَةِ الرَّسُولِ ﷺ)).

فَقَامَ طَاعَةً لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَطَاعَةً لِرَسُولِهِ ﷺ؛ وَحِينَئِذٍ عِنْدَمَا يَأْتِي أَمْرُ الْقِيَمِ يَصِيرُ أَمْرُ الطَّبِيعَةِ الْبَشَرِيَّةِ بِعُجَرِهَا وَبُجَرِهَا، بِكُلِّ مَا فِيهَا مِنْ ضَعْفِهَا وَعَجْزِهَا، يَصِيرُ أَمْرُ الطَّبِيعَةِ الْبَشَرِيَّةِ تَحْتَ الْأَقْدَامِ بِمَوَاطِئِهَا، ثُمَّ فَلْتَنْطَلِقِ الْقِيَمُ إِلَى أَمَامَ أَمَامَ، مِنْ غَيْرِ أَنْ تَنْظُرَ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً، مُيَمِّمَةً وَجْهَهَا صَوْبَ الْحَقِّ، وَصَوْبَ الْحَقِّ وَحْدَهُ.

فَهَذَا هُوَ الدَّرْسُ -عِبَادَ اللهِ- الَّذِي عَلَّمَنَاهُ حُذَيْفَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مِمَّا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ، نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَجْمَعَنَا وَإِيَّاهُمْ فِي الْفِرْدَوْسِ الْأَعْلَى مِنَ الْجَنَّةِ، إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.


صُوَرٌ مُشْرِقَةٌ مِنْ مَحَبَّةِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- لِلنَّبِيِّ ﷺ

لَقَدْ أَحَبَّ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَرَسُولَهُ ﷺ حُبًّا عَظِيمًا؛ فَهَذَا عُمَيْرُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فِي السَّادِسَةَ عَشْرَةَ مِنْ عُمُرِهِ فِي يَوْمِ بَدْرٍ، وَالنَّاسُ يُعْرَضُونَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُجِيزَ الْمُطِيقَ لِلْقِتَالِ لِيَتَقَدَّمَ، وَيَرُدَّ الصِّغَارَ وَالضَّعَفَةَ.

فَأَمَّا عُمَيْرٌ فَيَقُولُ عَنْهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ -أَخُوهُ-: ((رَأَيْتُ عُمَيْرًا أَخِي يَوْمَ بَدْرٍ يَتَوَارَى، فَقُلْتُ: مَا لَكَ؟!!)).

فَقَالَ: ((إِنَّ النَّاسَ سَيُعْرَضُونَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَأَخْشَى أَنْ يَرُدَّنِي فَلَا أَشْهَدُ الْيَوْمَ قِتَالًا، وَإِنِّي وَاللهِ لَأُحِبُّ أَنْ أُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَأُقْتَلَ وَأَذْهَبَ شَهِيدًا، فَأَلْقَى اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ عَلَى ذَلِكَ)).

وَعُرِضَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ فَاسْتَصْغَرَهُ وَرَدَّهُ، وَالنَّبِيُّ ﷺ لَا يُلْقِي بِأَصْحَابِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، هُوَ أَحَنُّ عَلَيْهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، بَلْ أَحْنَى وَأَحَنُّ عَلَيْهِمْ مِنْ نُفُوسِهِمُ الَّتِي بَيْنَ جُنُوبِهِمْ ﷺ.

وَلَكِنَّمَا الصَّحَابَةُ يُرِيدُونَ الشَّهَادَةَ، يَتَدَافَعُونَ مِنْ أَجْلِ الْوُصُولِ إِلَيْهَا.

رَدَّهُ فَبَكَى؛ فَرَحِمَ شَوْقَهُ، وَحَنَى عَلَى لَهْفَتِهِ، وَأَجَازَ شَهَادَتَهُ فَقَدَّمَهُ، يَقُولُ سَعْدٌ: ((وَوَاللهِ إِنِّي لَأَشُدُّ عَلَيْهِ حَمَائِلَ سَيْفِهِ لِصِغَرِهِ، حَتَّى دَخَلَ الْمَعْرَكَةَ فَاسْتُشْهِدَ وَهُوَ ابْنُ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-)).

بَلْ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَأَقَلُّ سِنًّا لَا مَقَامًا؛ فَأَمَّا أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ فَيَأْتِي إِلَى النَّبِيِّ ﷺ وَمَعَهُ أَبُوهُ؛ فَأَمَّا أَبُوهُ فَمُطِيقٌ لِلْقِتَالِ، وَأَمَّا أَبُو سَعِيدٍ فَهُوَ فِي التَّاسِعَةِ مِنْ عُمُرِهِ، وَمَا يَبْلُغُ ابْنُ التَّاسِعَةِ أَنْ يَكُونَ؟!!

وَكَيْفَ يَلْقَى ابْنُ التَّاسِعَةِ أَبَا جَهْلٍ وَأَبَا سُفْيَانَ -وَلَمْ يَكُنْ حَاضِرًا فِي بَدْرٍ-؟! كَيْفَ يَلْقَى أَمْثَالَ هَؤُلَاءِ الصَّنَادِيدِ فِي مَعَارِكَ يَشِيبُ مِنْ هَوْلِهَا الْوِلْدَانُ؟!!

إِلَّا أَنَّهُ الشَّوْقُ الدَّفِينُ يَتَبَدَّى عِنْدَمَا تَسْنَحُ الْفُرْصَةُ، وَعِنْدَمَا يُضِيءُ الْأُفُقُ بِنُورِ الشَّهَادَةِ الْأَحْمَرِ؛ لِأَنَّ لِلشَّهَادَةِ نُورًا أَحْمَرَ، كَمَا أَنَّ لِلْحُرِّيَّةِ بَابًا بِكُلِّ يَدٍ مُضَرَّجَةٍ يُدَقُّ؛ فَكَذَلِكَ لِلشَّهَادَةِ نُورٌ سَاطِعٌ، غَيْرَ أَنَّهُ نُورٌ عَجِيبٌ أَحْمَرُ!! فَإِذَا مَا بَدَا، هَفَتْ إِلَيْهِ الْأَنْفُسُ كَمَا تَهْفُو الْفَرَاشَاتُ إِلَى النُّورِ!!

فَيَأْتِي أَبُو سَعِيدٍ -وَلَهُ تِسْعٌ مِنَ السَّنَوَاتِ- لِيُجِيزَهُ النَّبِيُّ ﷺ، وَمَا يَبْلُغُ ابْنُ التَّاسِعَةِ أَنْ يَكُونَ فِي الْقِتَالِ، وَهُوَ يَشِبُّ عَلَى أَطْرَافِ قَدَمَيْهِ؛ لِيُبْدِيَ لِلنَّبِيِّ أَنَّهُ صَارَ رَجُلًا مُطِيقًا!!

وَأَبُوهُ.. وَهُوَ أَبٌ عَجِيبٌ جِدًّا، قَدْ لَا تَجِدُ لَهُ مِثَالًا الْيَوْمَ، بَلْ لَا تَجِدُ، لَا أَقُولُ عَلَى الشَّكِّ قَدْ لَا تَجِدُ أَوِ التَّرَدُّدِ أَوِ التَّقْلِيلِ، وَإِنَّمَا أَقُولُهَا عَلَى الْجَزْمِ وَالْقَطْعِ: لَا تَجِدُ مِثْلَ هَذَا الْأَبِ الْيَوْمَ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ.

أَبُوهُ بِجَانِبِهِ، وَابْنُهُ فِي التَّاسِعَةِ يُعْرَضُ عَلَى الرَّسُولِ لِيُجِيزَهُ فِي الْقِتَالِ، فَيَشِبُّ عَلَى أَطْرَافِ قَدَمَيْهِ؛ لِيُرِيَ النَّبِيَّ أَنَّهُ قَدْ صَارَ رَجُلًا، وَأَبُوهُ يُزَكِّيهِ، يَقُولُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَجِزْهُ وَأَدْخِلْهُ الْمَعْرَكَةَ؛ لِيَحْظَى بِالشَّهَادَةِ؛ فَوَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّهُ عَبْلُ الْعِظَامِ -يَعْنِي هُوَ وَلَدٌ مَتِينٌ مُكْتَمِلٌ-، فَأَجِزْهُ يَا رَسُولَ اللهِ!!)).

أَيُّ أَبٍّ هَذَا -بِاللهِ عَلَيْكُمْ-؟!!

لَا تَجِدُ مِثْلَهُ الْيَوْمَ وَأَقْطَعُ بِذَلِكَ، يُقَدِّمُ وَلَدَهُ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَظْفَرَ بِالشَّهَادَةِ وَهِيَ إِلَى النَّفْسِ حَبِيبَةٌ، بَلْ كَانُوا يَتَدَافَعُونَهَا، وَكَذَلِكَ الشَّأْنُ؛ عَلَى قَدْرِ مَا تَعْمَلُ هَاهُنَا تَجِدْهُ هُنَاكَ، وَهُنَاكَ هَذِهِ تَبْدَأُ مِنْ عِنْدِ الْمَوْتِ؛ فَأَمَّا الثَّبَاتُ عِنْدَ الْمَمَاتِ فَأَمْرٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَصَوَّرَ الْإِنْسَانُ كَيْفَ كَانَ عَلَيْهِ السَّالِفُونَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-.

عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ لَمَّا أَنْ جَاءَهُ جَبَّارُ بْنُ سُلْمَى الْكَلْبِيُّ، فَطَعَنَهُ فِي ظَهْرِهِ فَأَنْفَذَهُ -يَعْنِي ضَرَبَهُ بِالرُّمْحِ فِي ظَهْرِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، فَخَرَجَ الرُّمْحُ مِنْ صَدْرِهِ، مِنْ حَبَّةِ قَلْبِهِ وَمِنْ سُوَيْدَاءِ فُؤَادِهِ-، وَالدَّمُ يَنْبَجِسُ مُنْفَجِرًا كَأَنَّمَا يَتَصَاعَدُ إِلَى السَّمَاءِ مَوَّارًا فَوَّارًا بِالطُّهْرِ وَالسُّمُوِّ كُلِّهِ، وَأَمَّا عَامِرٌ فَيَتَلَقَّى الدَّمَ بِيَدِهِ وَيَقْذِفُ بِهِ جِهَةَ السَّمَاءِ وَيَقُولُ: ((فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ!! فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ!!)).

أَيُّ أُنَاسٍ هَؤُلَاءِ؟!!

كَيْفَ يُمْكِنُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَقَعَ بِهِ مِثْلُ هَذَا الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ مِنْ أَلَمٍ يَحُطُّ عَلَى الْبَدَنِ؛ مِنَ انْتِظَامٍ لِرُمْحٍ فِي حَبَّةِ الْقَلْبِ كَمَا يَدْخُلُ سِلْكُ السُّبْحَةِ فِيهَا فَيَخْرُجُ مِنَ الطَّرَفِ الْآخَرِ مِنْ حَبَّاتِهَا، وَهُوَ يَتَوَجَّهُ إِلَى السَّمَاءِ، يَقُولُ -وَقَدْ أَخَذَ الدَّمَ الْمُنْبَجِسَ مِنْ قَلْبِهِ الطَّاهِرِ بِيَدَيْهِ، يُلْقِي بِهِ جِهَةَ السَّمَاءِ وَيَقُولُ-: ((فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ!! فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ!!)).

وَأَمَّا الْمَوْقِفُ الصَّعْبُ الشَّدِيدُ الَّذِي وَقَفَهُ هَذَا الرَّجُلُ، فَتَسَامَى فَوْقَهُ، وَتَصَاعَدَ فَوْقَهُ سُمُوًّا صَاعِدًا إِلَى عُلْيَا السَّمَاوَاتِ؛ فَيُؤَثِّرُ فِي قَلْبِ مَنْ ضَرَبَهُ.. فِي قَلْبِ الْكَافِرِ الَّذِي كَانَ.. الَّذِي انْتَظَمَ حَبَّةَ قَلْبِهِ بِرُمْحِهِ فَأَنْفَذَهَا، ثُمَّ أَمَاتَهُ شَهِيدًا، مُقَرِّبًا إِيَّاهُ قُرْبَانًا لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ كَمَا يَفْعَلُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ بَعْدَ حِينٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

فَأَمَّا جَبَّارُ بْنُ سُلْمَى الْكَلْبِيُّ لَمَّا وَجَدَ الْأَمْرَ قَالَ: وَمَا فُزْتُ هَذِهِ الَّتِي يَقُولُ هَذَا الرَّجُلُ؟!!

يَقُولُ: فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ!! بِأَيِّ شَيْءٍ فَازَ؟!!

قَالُوا: إِنَّمَا فَازَ بِالْجَنَّةِ.

فَلَمَّا أَنْ رَأَى ذَلِكَ قَالَ: ((أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ)).

أَيُّ مَحَبَّةٍ هَذِهِ طَغَتْ فَعَمَّتْ وَطَمَّتْ عَلَى أَرْجَاءِ الدُّنْيَا، فَأَحَالَتِ الْحَيَاةَ لَا شَيْءَ.. هَبَاءً مَنْثُورًا، كَالْهَبَاءَةِ عِنْدَمَا تَنْظُرُ إِلَيْهَا فِي بَصِيصٍ مِنْ شُعَاعٍ يَتَسَلَّلُ فِي يَوْمٍ شَاتٍ عَقِيمٍ، تَتَسَلَّلُ بِهِ الشَّمْسُ مِنْ بَيْنِ الْغَمَامِ، فَتُرْسِلُ ضَوْءًا وَاحِدًا فَيَتَسَلَّلُ مِنْ خَصَاصِ بَابٍ أَوْ نَافِذَةٍ، فَتَنْظُرُ الْهَبَاءَةَ فِي ذَلِكَ الْهَبَاءِ، تَصِيرُ الْحَيَاةُ كَذَلِكَ أَرْضًا وَسَمَاءً، وَأَمَّا الْبَاقِيَةُ فَلَيْسَتْ كَذَلِكَ؛ {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64].

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الصَّحَابَةَ أَحَبُّوا الرَّسُولَ ﷺ حُبًّا مَلَكَ عَلَيْهِمْ قُلُوبَهُمْ؛ إِذْ مَحَبَّتُهُ دِينٌ وَإِيمَانٌ، بَلْ مَحَبَّتُهُ صَرِيحُ الدِّينِ وَخَالِصُ الْإِيمَانِ.

وَلَا يَكُونُ الْإِيمَانُ إِيمَانًا حَتَّى تَكُونَ مَحَبَّتُهُ ﷺ مُقَدَّمَةً عَلَى مَحَبَّةِ الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، وَالنَّفْسِ الَّتِي بَيْنَ الْجَنْبَيْنِ، وَحَتَّى يَكُونَ أَمْرُهُ مُطَاعًا مُقَدَّمًا، وَحَتَّى يَكُونَ مُعَزَّرًا وَمُعَظَّمًا وَمُوَقَّرًا ﷺ.

إِنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- قَدْ فَرَضَ عَلَيْنَا أَنْ نُحِبَّ النَّبِيَّ ﷺ حُبًّا عَلَى نَحْوٍ مَخْصُوصٍ، وَهُوَ ﷺ جَدِيرٌ بِأَنْ يُحَبَّ.

لَوْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ آيَاتٌ مُبَيِّنَةٌ=لَكَانَ مَظْهَرُهُ يُنْبِيكَ بِالْخَبَرِ

كَمَا كَانَ الرَّجُلُ يَسْمَعُ بِرَسُولِ اللهِ ﷺ فِي دِيَارِ قَوْمِهِ عَلَى بُعْدِ الدَّارِ وَتَنَائِي الدِّيَارِ، وَيُوصَفُ لَدَيْهِ بِأَنَّهُ كَذَّابٌ، وَيُحَذَّرُ مِنْ لُقْيَاهُ إِذَا مَا نَزَلَ إِلَى بَيْتِ اللهِ الْحَرَامِ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا أَوْ مُتَاجِرًا!!

فَكَانَ الرَّجُلُ يَأْتِي فَيَسْأَلُ عَنْ غُلَامِ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ -يَسْأَلُ عَنِ النَّبِيِّ الْمُهَابِ ﷺ-؛ فَإِذَا نَظَرَ فِي وَجْهِهِ قَالَ: ((أَشْهَدُ أَنَّ وَجْهَ هَذَا لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ ﷺ)).

وَقَبْلَ أَنْ يُرْسِلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالرِّسَالَةِ، وَقَبْلَ أَنْ يُكْرِمَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالنُّبُوَّةِ؛ وَضَعَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَهُ الْمَحَبَّةَ فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ.

لَمَّا جَاءَتِ الرِّسَالَةُ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَحَبَّ إِلَى أَصْحَابِهِ مِنْ أَنْفُسِهِمُ الَّتِي بَيْنَ جُنُوبِهِمْ.

وَتَبَدَّى هَذَا فِي مَوَاطِنَ لَا يُحْصِيهَا الْعَادُّ عَدًّا، وَإِنَّمَا هِيَ مُتَنَاثِرَةٌ فِي ظُلُمَاتٍ الصُّحْبَةِ الْبَشَرِيَّةِ؛ مُتَنَاثِرَةٌ فِيهَا كَالْكَوَاكِبِ تَتَلَأْلَأُ بِلَيْلٍ فَيَغْدُو اللَّيْلُ بِهَا نَهَارًا، وَيَسْتَحِيلُ الْإِظْلَامُ بِهَا ضِيَاءً.

فَهَذَا مُحَمَّدٌ ﷺ؛ يَقُومُ الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِمَكَّةَ مُدَافِعًا عَنْهُ يَقُولُ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللهُ؟!!

مَا سَأَلَكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ!!

وَمَا آدَكُمْ عَلَيْهِ وَلَا حَمَّلَكُمْ عَلَيْهِ مِنْ شَيْءٍ!! وَإِنَّمَا يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ، وَمَا أَمَرَكُمْ أَنْ تُطْرُوهُ كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، وَإِنَّمَا كَانَ يَقُولُ لَهُمْ: «إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ ﷺ».

وَيَدْعُوكُمْ لِتَخْلَعُوا أَثْقَالَ الْأَوْهَامِ بِقُيُودِهَا حَتَّى تَجْعَلُوهَا فِي زِبَالَاتِ التَّارِيخِ، ثُمَّ لِتَنْعَتِقُوا مِنْ تِلْكَ الْأَوْهَامِ، وَتَتَحَرَّرُوا مِنْ قُيُودِهَا بِجَلَالِ التَّوْحِيدِ وَنَظَافَةِ الْعَقِيدَةِ وَصَفَائِهَا: «قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ.. تُفْلِحُوا».

قَامَ أَبُو بَكْرٍ يَدْفَعُ عَنْهُ، يَقُولُ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ؟!!

لَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي الْهِجْرَةِ يَتَحَرَّكُ أَمَامَ النَّبِيِّ ﷺ فِي الطَّرِيقِ وَمِنْ خَلْفِهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، يَقُولُ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَذْكُرُ الرَّصَدَ فَأَكُونُ أَمَامَكَ، وَأَخَافُ الطَّلَبَ فَأَكُونُ خَلْفَكَ، وَأَذْكُرُ مُفَاجَآتِ الطَّرِيقِ فَأَكُونُ عَنْ يَمِينِكَ وَشِمَالِكَ.

يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّكَ إِنْ هَلَكْتَ فَهُلْكُ أُمَّةٍ، وَأَمَّا أَنَا إِنْ هَلَكْتُ فَهُلْكُ وَاحِدٍ لَا أَزِيدُ، أَمَّا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَئِنْ أَصَابَتْكَ شَوْكَةٌ فَهُوَ لَخَطْبٌ جَلِيلٌ تَتَحَرَّكُ مِنْهُ الْجِبَالُ الرَّاسِيَاتُ، وَأَمَّا أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَرُوحِي لَكَ الْفِدَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ ».


صُوَرٌ مُشْرِقَةٌ مِنْ جِهَادِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- فِي الدَّعْوَةِ

لَقَدْ حَفَلَتْ حَيَاةُ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- بِالْعَدِيدِ مِنَ الصُّوَرِ الْمُشْرِقَةِ خَاصَّةً فِي الدَّعْوَةِ لِنَشْرِ دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ فهذا مُصْعَبٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَوَّلُ سَفِيرٍ فِي الإِسْلَامِ، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ فِي مِيزَانِ حَسَنَاتِهِ كُلَّ حَسَنَاتٍ أَتَى بِهَا مَنِ اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ لِمَوْتِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ دَاعِيَةَ الإِسْلَامِ عِنْدَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَهُوَ كَانَ دَاعِيَةَ الإِسْلَامِ عِنْدَ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ الَّذِي تَنَزَّلَتِ الْمَلَائِكَةُ لِتِلَاوَتِهِ لِلْقُرْآنِ الْعَظِيمِ.

وَهَذَا الصَّحَابِيُّ الَّذِي فَتَحَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ بِهِ مَدِينَةَ النَّبِيِّ ﷺ بِالْقُرْآنِ الشَّرِيفِ وَحْدَهُ، وَكَانَ يُسَمَّى الْمُقْرِئَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَوْفَدَهُ الرَّسُولُ ﷺ وَمَا زَالَ شَابًّا بَعْدُ؛ لِكَيْ يَكُونَ سَفِيرَ الْإِسْلَامِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَايَعُوا بَيْعَةَ الْعَقَبَةِ، وَمِنْ أَجْلِ أَنْ يَنْشُرَ الْإِسْلَامَ فِي يَثْرِبَ حَتَّى سُمِّيَتْ مَدِينَةَ الرَّسُولِ ﷺ.

مُصْعَبٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بَاعَ الدُّنْيَا وَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْهَا، نَعَمْ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ رِسَالَةٍ عَلَى الوَجْهِ الْأَتَمِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى الْفَانِي السَّاقِطِ الَّذِي لَا قِيمَةَ لَهُ، وَإنَّمَا يُعَوِّلُ عَلَى طَرِيقِهِ لَا يَلْتَفِتُ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً.

هَذَا هُوَ الْجِيلُ الْأَوَّلُ الَّذِي يَحْمِلُ الرِّسَالَةَ عَالِيَةً شَامِخَةً فِي أَجْوَازِ الْفَضَاءِ، وَهَذَا هُوَ الْجِيلُ الَّذِي فَاخَرَ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ مَنْ جَاءَ بَعْدُ مِمَّنْ يَنْتَمِي إلَى هَذَا الْجِيلِ الْمُبَارَكِ الشَّرِيفِ.

هَذَا الْجِيلُ هُوَ الْجِيلُ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي الدَّعْوَةِ إلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قَائِمًا بِحَقٍّ، وَهَذَا مُصْعَبٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَانَ أَعْطَرَ فَتًى فِي قُرَيشٍ، وَكَانَ أَنْهَدَ فَتًى فِي قُرَيْشٍ، وَكَانَ أَجْمَلَ فَتًى فِي قُرَيْشٍ، وَكَانَ عِطْرُهُ يُؤْتَى بِهِ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا.

وَكَانَتْ أُمُّهُ عَظِيمَةَ الْيَسَارِ، كَثِيرَةَ الْمَالِ، وَكَانَتْ لَا تَبْخَلُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، فَجَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَّا أَسْلَمَ لِلهِ وَجْهُهُ وَقَلْبُهُ وَقَالَبُهُ، وَأَلْقَى الْمَقَادَةَ بَينَ يَدَيْ نَبِيِّهِ ﷺ، أَتَى بِأَطْمَارٍ بَالِيَاتٍ لَمْ يُحَصِّلْ مِنَ الدُّنْيَا شَيْئًا، وَهَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ مَرَّةً وَمَرَةً، ثُمَّ عَادَ إلَى جِوَارِ النَّبِيِّ ﷺ، وَحُرِمَ مِنْ مُدُودِ الْيَسَارِ وَوَارِفِ الثَّرْوَةِ.

حَرَمَهُ أَبَوَاهُ مِن هَذَا كُلِّهِ؛ لِأَنَّهُ صَبَأَ بِزَعْمِهِمَا، وَتَبِعَ مُحَمَّدًا ﷺ، وَلَكِنَّ الرَّجُلَ وَمَا زَالَ شَابًّا بَعْدُ قَدْ بَاعَ وَانتَهَى الأَمْرُ، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ اشْتَرَى وَوَقَعَ الْبَيْعُ رَابِحًا.

وَإذَنْ؛ فَلَا يَلْتَفِتُ بَعْدَهَا أبَدًا، وَإنَّمَا يَتْبَعُ نَبِيَّهُ ﷺ, عَقْلٌ رَاجِحٌ بِحَقٍّ، وَعَلَى أَمْثَالِ هَؤلَاءِ تَقُومُ الأُمَمُ؛ لِأَنَّهُمْ هُمُ الأُسُسُ المَكِينَةُ الرَّكِينَةُ الَّتِي تَقُومُ عَلَيهَا الصُّرُوحُ وَعَلَى مِثْلِهَا تُؤَسَّسُ، عَلَى مِثْلِ هَذَا الرَّجُلَ وَمَا زَالَ شَابًّا بَعْدُ!!

وَتَتَأَمَّلُ فِي حِكْمَتِهِ فِي الدَّعْوَةِ إلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ إِذْ ألْقَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْأَمَانَةَ عَلَى عَاتِقَيهِ، وَأَوْفَدَهُ الرَّسُولُ ﷺ مُقْرِئًا هَؤُلَاءِ كِتَابَ اللهِ فِي يَثْربَ -كَانَت كَذَلكَ تُسَمَّى إِلَى ذَلِكَ الْحِين حَتَّى هِجْرَةِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ ﷺ-، وَهُوَ يَأْخُذُ بِزِمَامِ أُسَيْدِ بْنِ الْحُضَيْرِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَلَا جَلَسْتَ حَتَّى تَسْمَعَ، فَإنْ كَانَ حَسَنًا قَبِلْتَهُ، وَإنْ كَانَ مَبْغُوضًا لَدَيْكَ مَكْرُوهًا عنْدَكَ؛ كَفَفْنَا عَنْكَ مَا يَسُوؤُكَ)).

فَرَكَزَ الرَّجُلُ حَرْبَتَهُ وَقَالَ: ((أَنْصَفْتَ)).

فَجَلَسَ فَاسْتَمَعَ دَعَايَةَ الْإسْلَامِ الْعَظِيمِ، وَتَلَا عَلَيْه مُصْعَبٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَوقَعَ الْإِسْلَامُ فِي قَلْبِهِ، فَتَفَجَّرَ النُّورُ فِي أَطْوَاءِ صَدْرِهِ وَحَنَايَاهُ، ثُمَّ مَا زَالَ يُشْرِقُ شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى عَمَّ وَجْهَهُ وَأَرْكَانَ جَوَارِحِهِ، حَتَّى إِنَّهُ لَمَّا عَادَ إِلَى الْقَوْمِ وَهُمْ عَلَى شِرْكِهِمْ، قَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَلَمْ يَكُنْ قَدْ أَسْلَمَ بَعْدُ، وَإِنَّمَا أَوْفَدَهُ إِلَى مُصْعَبٍ؛ لِكَيْ يَكُفَّهُ عَنْ إِغْوَاءِ السُّفَهَاءِ وَالضُّعَفَاءِ وَتَبَعِ مُحَمَّدٍ ﷺ.

فَلَمَّا رَآهُ مُقْبِلًا، قَالَ: ((أُقْسِمُ لَقَدْ جَاءَكُمْ أُسَيْدٌ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِى ذَهَبَ بِهِ)).

لَا جَرَمَ؛ إِنَّ لِلْإِيمَانِ نُورًا يَكْسُو الْوَجْهَ إِذَا كَانَ إِيمَانًا صَادِقًا وَصَحِيحًا، ثُمَّ جَاءَ سَعْدٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَكَانَ مَا كَانَ مِنَ الدَّعْوَةِ بِالْحِكْمَةِ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَمْ يَذْهَبْ إِلَيْهمْ شَدِيدًا عَنِيفًا، وَلَمْ يَذْهَبْ إِلَيْهمْ مُنَفِّرًا، لَمْ يَذْهَبْ إِلَيْهِمْ مُحَذِّرًا بِغَيْرِ تَبْشِيرٍ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ إِلَيْهِمْ وَالْأَمَانَةُ -وَهُوَ شَابٌّ بَعْدُ- عَلَى عَاتِقَيْهِ فَحَمَلَهَا وَكَانَ كُفْؤًا لَهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

ثُمَّ عَادَ بَعْدَ عَامٍ وَاحِدٍ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فِي مَكَّةَ، وَلَمْ يَبْقَ فِي يَثْرِبَ بَيْتٌ وَاحِدٌ إِلَّا فِيهِ ذِكْرُ مُحَمَّدٍ ﷺ، إِلَّا وَقَدْ دَخَلَهُ الْإِسْلَامُ الْعَظِيمُ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ تَبَعِ ذَلِكَ الشَّاعِرِ الَّذِى حَجَزَ قَوْمَهُ عَنِ الْإِيمَانِ بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَتَبَعِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ ﷺ إِلَى مَا بَعْدَ الْخَنْدَقِ، فَكَانَ شُؤْمًا عَلَيْهِمْ؛ تَأْخِيرًا لِلْهِدَايَةِ أَنْ تَصِلَ إِلَيْهِمْ بِأَسْبَابِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَأَمَّا ابْنُ مُعَاذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فِإِنَّهُ لَمَّا عَادَ مِنْ عِنْدِ مُصْعَبٍ قَالَ القَوْمُ: ((نَشْهَدُ إِنَّهُ لَقَدْ عَادَ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِى ذَهَبَ بِهِ)).

فَوَقَفَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: ((أَيُّ شَيْءٍ أَنَا فِيكُمْ؟)).

قَالُوا: ((سَيِّدُنَا وَمُقَدَّمُنَا وَصَاحِبُ الرَّأْيِ فِينَا)).

فَقَالَ: ((أَمَا إِنَّ كَلَامَ نِسَائِكُمْ وِرِجَالِكُمْ وَأَطْفَالِكُمْ عَلَيَّ حَرَامٌ حَتَّى تُسْلِمُوا لِلَّهِ رَبِّ العَالِمِينَ)).

((فَوَاللهِ مَا أَمْسَى فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فِي دَارِ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ إِلَّا مُسْلِمًا)).

هَذَا الرَّجُلُ الْمُتَجَرِّدُ وَمَا زَالَ شَابًّا بَعْدُ، خَرَجَ مِنَ الدُّنْيَا وَلَمْ يُحَصِّلْ شَيْئًا، وَعَلَى مِثْلِهَا فَقِسْ.

إِنَّ جِيلَ تَأْسِيسِ الدَّعْوَةِ الصَّحِيحَةِ إِلى دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَيْسَتْ لَهُمْ دُنْيَا فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا هُمْ مُقْبِلُونَ عَلَى اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ؛ أَمًّا وَقَصْدًا، وَكَانَتْ هَذِهِ الْحَالُ هِيَ الْغَالِبَةَ عَلَى أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ﷺ مِنَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ-.

وَفِي السَّنَةِ الرَّابِعَةِ مِنْ هِجْرَةِ الْمُخْتَارِ ﷺ، وَفِي شَهْرِ صَفَرٍ -وَأَنْتَ خَبِيرٌ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ مَوْقِعَةِ أُحُدٍ؛ إِذْ وَقَعَتْ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ هِجْرَةِ النَّبِيِّ ﷺ- فِي السَّنَةِ الرَّابِعَةِ وَفِي شَهْرِ صَفَرٍ وَقَعَتْ حَادِثَتَانِ مُؤْلِمَتَانِ عَنِيفَتَانِ دَمَوِيَّتَانِ أَثَّرَتَا فِي قَلْبِ رَسُولِ اللهِ ﷺ, وَأَوْرَثَتَا الْمُسْلِمِينَ حُزْنًا مَا زَالَتْ ظِلَالُهُ تَرُوحُ وَتَجِيءُ إِلَى أَنِ اسْتَخْرَجُوا الْمِنْحَةَ مِنْ جَوْفِ الْمِحْنَةِ, وَإِلَى أَنِ اعْتَصَرُوا الْأَلَمَ فَإِذَا هُوَ شَهْدٌ صُرَاحٌ خَالِصٌ بِنُورِ التَّوْحِيدِ الْأَعْظَمِ.

وَقَعَتْ الْحَادِثَةُ الْأُولَى كَمَا يَقُولُ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَصْحَابِ الْمَغَازِي وَالسِّيَرِ فِي السَّنَةِ الرَّابِعَةِ.

وَأَمَّا ابْنُ إِسْحَاقَ فَقَدْ أَثْبَتَهَا فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ هِجْرَةِ النَّبِيِّ ﷺ.

وَأَمَّا التَّحْقِيقُ, فَإِنَّ الصَّيْرُورَةَ بِهِ إِلَى صَفَرٍ مِنَ السَّنَةِ الرَّابِعَةِ.

جَاءَ قَوْمٌ رَهْطٌ مِنْ (عَضَلٍ) وَ(الْقَارَةِ), وَهُمَا بَطْنَانِ مِنْ بَنِي الْهُونِ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ؛ بَطْنَانِ يَنْتَمِيَانِ إِلَى قَبِيلَةٍ تَجْنَحُ فِي الْمُنْتَهَى إِلَى (هُذَيْلٍ).

فَجَاءَ الرَّهْطُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ فِينَا إِسْلَامًا, وَإِنَّا لَنَرْجُو مِنْكَ أَنْ تُرْسِلَ مَعَنَا مَنْ يُعَلِّمُنَا دِينَنَا, وَمَنْ يُقْرِئُنَا قُرْآنَ رَبِّنَا حَتَّى نَتَفَقَّهَ فِي دِينِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- )).

فَأَرْسَلَ مَعَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ سَبْعَةً مِنْ خِيَارِ أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: مَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ وَمَعَهُ زَيْدُ بْنُ الدَّثِنَّةِ, وَمعَهُمْ -أَيْضًا- خُبَيْبُ بْنُ عَدِيٍّ, وَجَعَلَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي سَبْعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

كُونُوا مَعَهُمْ حَتَّى تَنْزِلُوا دِيَارَهُمْ؛ فَعَلِّمُوهُمْ وَأَقْرِئُوهُمْ, وَقُومُوا عَلَى شَأْنِهِمْ بِدِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَتَّى يَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا.

وَسَارُوا مَعًا حَتَّى نَزَلُوا عِنْدَ (الرَّجِيعِ) -عِنْدَ بِئْرٍ يُقَالُ لَهُ: الرَّجِيعُ، مِنْ أَرْضِ (هُذَيْلٍ)-؛ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَمَّا نَامُوا فَقَامُوا، وَجَدُوا النَّاسَ قَدْ غَدَرُوا بِهِمْ, وَقَالُوا: ((وَاللَّهِ مَا نُرِيدُ قَتْلَكُمْ, وَإِنَّمَا نُرِيدُ أَنْ نَذْهَبَ بِكُمْ إِلَى قُرَيْشٍ عَسَى أَنْ نَتَحَصَّلَ مِنْهُمْ عَلَى بَعْضِ النَّفَقَةِ)).

فَأَمَّا عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَقَالَ: ((وَاللَّهِ! لَا أَنْزِلُ لِكَافِرٍ عَلَى عَهْدٍ وَلَا عَقْدٍ أَبَدًا)).

وَكَانَ قَدْ عَاهَدَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ عَلَى أَمْرٍ عَجِيبٍ؛ عَاهَدَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَلَّا يَمَسَّ مُشْرِكًا أَبَدًا مَا حَيِيَ حَتَّى يَتَوَفَّاهُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-، فَنَازَلَهُمْ بِسَيْفِهِ, وَمَعَهُ بَعْضُ إِخْوَانِهِ مِمَّنْ كَانُوا مِنْ رُسُلِ رَسُولِ اللهِ ﷺ إِلَى (عَضَلٍ) وَ(الْقَارَةِ).

فَمَا زَالَ يُنَازِلُهُمْ حَتَّى قَضَى؛ فَمَضَى!

فَلَمَّا قُتِلَ شَهِيدًا أَقْبَلَ الْقَوْمُ فَقَالُوا: ((لَنَأْخُذَنَّ رَأْسَهُ -لَنَأْخُذَنَّ رَأْسَ عَاصِمِ بْنِ ثَابِتٍ-؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ نَذْهَبَ بِهِ إِلَى سُلَافَةَ بِنْتِ سَعْدِ بْنِ شُهَيْدٍ بِمَكَّةَ)), وَكَانَ قَدْ وَتِرَهَا بِابْنَيْهَا؛ فَنَذَرَتْ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَذْرًا لَئِنْ أَمْكَنَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْ رَأْسِ عَاصِمٍ لَتَشْرَبَنَّ الْخَمْرَ فِي قِحْفِ جُمْجُمَتِهِ!!.

فَقَالُوا: ((فَلْنَذْهَبْ بِرَأْسِ عَاصِمٍ إِلَى سُلَافَةَ؛ لِنَتَحَصَّلَ مِنْهَا عَلَى مَا هُنَالِكَ مِنْ عَطَائِهَا ثَمَنًا لِرَأْسِ الشَّهِيدِ)).

وَأَمَّا رَبُّكَ فَصَاحِبُ الْقُوَى وَالْقُدَرِ؛ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ, عَطَاؤُهُ كَلَامٌ, وَنَعِيمُهُ كَلَامٌ, وَعَذَابُهُ كَلَامٌ؛ يَقُولُ لِلشَّيْءِ كُنْ فَيَكُونُ، وَأَمْرُهُ بَعْدَ الْكَافِ وَالنُّونِ, وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

وَأَرْسَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ جُنْدًا مِنْ جُنْدِهِ -وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ-، أَرْسَلَ الدَّبْرَ -أَرْسَلَ النَّحْلَ-؛ فَكَانَتْ هُنَالِكَ حَامِيَةً لِعَاصِمٍ -عَلَيْهِ الرِّضْوَانُ-، وَحَمَتْ عَاصِمًا عَلَى ضَعْفِهَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ الْكَافِرِينَ.

فَقَالُوا: اهْدَأُوا عَنْهُ, حَتَّى إِذَا مَا جَنَّ اللَّيْلُ وَأَتَى ظَلَامُهُ فَاخْتَلَطَ؛ أَقْبَلْنَا عَلَيْهِ فَحَزَزْنَا رَأْسَهُ, فَذَهَبْنَا بِهَا إِلَى سُلَافَةَ, وَأَخَذْنَا مَا جَعَلَتْهُ جُعْلًا.

فَلَمَّا جَاءَ اللَّيْلُ، أَرْسَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْوَادِيَ فَذَهَبَ بِجَسَدِ عَاصِمٍ؛ فَلَا يُدْرَى أَيْنَ هُوَ.

وَأَمَّا عُمَرُ؛ فَلَمَّا بَلَغَهُ الْأَمْرُ بَعْدُ قَالَ: ((إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَيَحْمِي عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ حَيًّا وَمَيِّتًا)).

وَهَذَا عَاصِمٌ كَانَ قَدْ عَاهَدَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ عَهْدًا؛ أَلَّا يَمَسَّ مُشْرِكًا فِي حَيَاتِهِ أَبَدًا؛ فَآتَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ذَلِكَ حَيًّا وَمَيِّتًا؛ فَلَمْ يَمَسَّ مُشْرِكًا, وَلَمْ يَمَسَّهُ مُشْرِكٌ؛ لَا فِي حَيَاتِهِ وَلَا مِنْ بَعْدِ مَمَاتِهِ، {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر: 31].

وَأَمَّا خُبَيْبٌ وَزَيْدُ بْنُ الدَّثِنَّةِ؛ فَإِنَّهُمَا اسْتَأْسَرَا فَأُخِذَا أَسِيرَيْنِ, وَمَعَهُمَا ثَالِثٌ، فَلَمَّا سَارَا تِلْقَاءَ مَكَّةَ فَكَانَا غَيْرَ بَعِيدٍ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ الْمَلْحَمَةُ، حَنَا الثَّالِثُ عَلَى قُيُودِهِ فَتَمَلَّصَ مِنْهَا؛ فَأَخَذَ سَيْفَهُ مُسْلَطًا مُشْهَرًا، وَأَخَذَ يُجَالِدُ مُجَاهِدًا حَتَّى قَضَى فَمَضَى.

وَأَمَّا خُبَيْبُ بْنُ عَدِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَمَعَهُ زَيْدٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَحُمِلَا أَسِيرَيْنِ حَتَّى دُخِلَ بِهِمَا مَكَّةَ, وَافْتَدَتْ (هُذَيْلٌ) بِهِمَا أَسِيرَيْنِ لَهَا كَانَا هُنَالِكَ مَأْسُورَيْنِ عِنْدَ قُرَيْشٍ؛ فَأَخَذَتْ (هُذَيْلٌ) فِي مُقَابِلِ زَيْدٍ وَخُبَيْبٍ أَسِيرَيْنِ مِنْ (هُذَيْلٍ), ثُمَّ مَضَوْا.

وَأَمَّا صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ؛ فَإِنَّهُ أَخَذَ زَيْدًا لِكَيْ يَقْتُلَهُ بِأَبِيهِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ, وَكَانَ قَدْ قُتِلَ فِي بَدْرٍ, وَذَهَبَ إِلَى حَيْثُ أَلْقَتْ رَحْلَهَا أُمُّ قَشْعَمِ؛ فَقَالَ: ((لَا بُدَّ مِنْ قَتْلِ زَيْدٍ بِأَبِي)).

فَأَخَذَهُ, فَلَمَّا أُخِذَ إِلَى التَّنْعِيمِ وَهَمُّوا بِقَتْلِهِ، أَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ عَلَى زَيْدٍ فَقَالَ: ((يَا زَيْدُ! نَشَدْتُكَ اللهَ! أَتُحِبُّ أَنَّكَ فِي بَيْتِكَ عَلَى فِرَاشِكَ فِي الظِّلِّ الظَّلِيلِ وَالْمَاءِ النَّمِيرِ, لَا يَرُوعُكَ طَائِفٌ مِنْ خَوْفٍ, وَلَا يَنْزِلُ بِكَ طَارِئٌ مِنْ هَمٍّ, وَإِنَّمَا أَنْتَ فِي الظِّلِّ الظَّلِيلِ, وَأَنْتَ فِي الْمَاءِ النَّمِيرِ, وَعَلَى الْفِرَاشِ الْوَطِيءِ, وَأَنَّ مُحَمَّدًا فِي مَكَانِكَ؟!!)).

فَقَالَ زَيْدٌ: ((لَقَدْ أَبْعَدْتَ النَّجْعَةَ؛ وَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنِّي فِيمَا ذَكَرْتَ مِنَ الْهَنَاءَةِ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا فِي مَكَانِهِ -لَا فِي مَكَانِي- يُشَاكُ بِشَوْكَةٍ وَاحِدَةٍ!!)).

فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: ((مَا رَأَيْتُ أَحَدًا يُحِبُّ أَحَدًا كَمِثْلِ حُبِّ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ مُحَمَّدًا!!)) ﷺ.

لَا غَرْوَ! فَعُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ فِي يَوْمِ الْحُدَيْبِيَةِ لَمَّا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ مُفَاوِضًا فَكَانَ عِنْدَهُ، وَجَدَ الْأَصْحَابَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- بَيْنَ نَبِيِّهِمْ ﷺ وَحَوْلَهُ, لَا يَتَوَضَّأُ بِشَيْءٍ مِنْ مَاءٍ إِلَّا وَقَعَ وَضُوءُهُ فِي يَدِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ, وَلَا يَبْصُقُ بُصَاقًا وَلَا يَبْزُقُ بُزَاقًا وَلَا يَتَنَخَّمُ نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَ فِي يَدِ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ، وَاسْتَقْبَلَ بِهَا مَا يَسْتَقْبِلُ مِنْ جَسَدِهِ.

وَرَأَى الْأَصْحَابَ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ حُبًّا مُجَسَّدًا, وَمَحَبَّةً قَائِمَةً، وَطَاعَةً مُطْلَقَةً لِلَّهِ -جَلَّ وَعَلَا- عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ ﷺ آمِرًا وَنَاهِيًا, بَلْ نَاظِرًا وَشَاخِصًا ﷺ.

قَالَ: ((إِنَّهُ لَعَجَبٌ! لَقَدْ أَتَيْتُ كِسْرَى فِي سُلْطَانِهِ, وَأَتَيْتُ قَيْصَرَ فِي سُلْطَانِهِ, وَالنَّجَاشِيَّ فِي مِلْكِهِ، فَمَا وَجَدْتُ أَحَدًا يُحِبُّ أَحَدًا مِثْلَمَا وَجَدْتُ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ يُحِبُّونَ مُحَمَّدًا)) ﷺ.

يَقُولُ زَيْدٌ: ((وَاللهِ مَا أُحِبُّ أَنِّي فِيمَا ذَكَرْتَ مِنَ الْهَنَاءَةِ وَالنَّعِيمِ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا ﷺ فِي مَكَانِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ يُشَاكُ شَوْكَةً وَاحِدَةً)), ثُمَّ أُخِذَ زَيْدٌ فَرَاحَ شَهِيدًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

وَأَمَّا خُبَيْبُ بْنُ عَدِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَهُوَ الَّذِي أُثِرَ عَنْهُ قَوْلُهُ:

وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا = عَلَى أَيِّ جَنْبٍ كَانَ فِي اللهِ مَصْرَعِي

وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الْإِلَهِ, وَإِنْ يَشَأْ = يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ

إِلَى آخِرِ مَا قَالَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

أَمَّا خُبَيْبُ بْنُ عَدِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَإِنَّهُ جُعِلَ هُنَالِكَ عِنْدَ حُجَيْرِ بْنِ أَبِي إِهَابٍ فِي قَتِيلٍ كَانَ لَهُ قَدْ قَتَلَهُ الْمُسْلِمُونَ قَبْلُ؛ فَعَهِدَ بِهِ حُجَيْرٌ إِلَى مَوْلَاةٍ لَهُ تُسَمَّى مَاوِيَّةَ، فَقَالَ: ((دُونَكِ هَذَا الْأَسِيرَ)), وَهُوَ فِي أَغْلَالِهِ يَرْسُفُ فِيهَا وَفِى قُيُودِهِ وَسَلَاسِلِهِ؛ فَكَانَ عِنْدَهَا مُحَصَّلًا.

وَأَمَّا هَذَا الرَّجُلُ, فَكَانَتْ تَنْظُرُ عَلَيْهِ مَاوِيَّةُ مِنْ صِيرِ الْبَابِ -يَعْنِي مِنَ الْخَصَاصِ الَّذِي يَكُونُ هُنَالِكَ بَيْنَ أَلْوَاحٍ مِنْ شِقٍّ هُنَالِكَ-.

قَالَتْ: ((كُنْتُ أَنْظُرُ إِلَى خُبَيْبٍ مِنْ صِيرِ الْبَابِ؛ فَأَجِدُهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ قِطْفٌ مِنَ الْعِنَبِ كَمِثْلِ رَأْسِ الْبَعِيرِ؛ كَأَكْبَرِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنْ قِطْفِ عِنَبٍ قَطُّ, وَوَاللَّهِ مَا فِي الدُّنْيَا مِنْ عِنَبَةٍ وَاحِدَةٍ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ)).

وَأَمَّا خُبَيْبٌ الْجَادُّ الْمُتَرَفِّعُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَتَدَنَّى قَطُّ, وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ اسْتِوَاءِ الْمَنْهَجِ بِوُضُوحِهِ لَا يَخْتَلِطُ عَلَيْهِ مَرْأًى وَلَا يَنْبَهِمُ فِي نَظَرِهِ وَتَحْتَ عَيْنِهِ مَشْهَدٌ، الْأَمْرُ لَا غَبَشَ فِيهِ وَلَا اخْتِلَاطَ, وَإِنَّمَا هُوَ وَاضِحٌ وُضُوحًا مُطْلَقًا كَأَعْظَمِ مَا أَنْتَ رَاءٍ يَوْمًا مِنْ وُضُوحٍ قَطُّ، لَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَقَلْبُهُ قَدِ اسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ؛ فَأَصْلُهُ ثَابِتٌ وَفَرْعُهُ فِي السَّمَاءِ يُؤْتِي أُكُلَهُ كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهِ.

وَرَبُّكَ يُعْطِي مَا يَشَاءُ كَيْفَمَا يَشَاءُ وَوَقْتَمَا يَشَاءُ لِمَنْ يَشَاءُ؛ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

أَمَّا خُبَيْبٌ فَفِي أَغْلَالِهِ، فَلَمَّا أُعْلِمَ بِيَوْمٍ تَنْفِيذُ الْحُكْمِ فِيهِ, وَبِسَوْقِهِ وَحَمْلِهِ إِلَى هُنَالِكَ إِلَى (التَّنْعِيمِ) مِنْ أَجْلِ أَنْ يُقْتَلَ فَيُصْلَبَ بَعْدُ؛ قَالَ لِلْمَرْأَةِ: ((لَوْ أَنَّكِ أَتَيْتِينِي مُوسَى حَتَّى أَسْتَحِدَّ بِهَا, وَأَتَطَهَّرَ لِلِقَاءِ رَبِّي, لِلْقَتْلِ؛ لَكَانَتْ يَدًا لَكِ عِنْدِي مَذْكُورَةً, وَكَانَتْ عَطِيَّةً لَكِ عِنْدِي مَشْكُورَةً)).

فَقَالَتْ: ((أَفْعَلُ)), ثُمَّ أَتَتْ بِغُلَامٍ فَأَعْطَتْهُ الْمُوسَى -حَدِيدَةً مَسْنُونَةً كَأَنْيَابِ أَغْوَالِ-.

فَقَالَتْ: ((دُونَكَ؛ فَاذْهَبْ إِلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ فِي أَغْلَالِهِ فَأَعْطِهِ الْمُوسَى, ثُمَّ ائْتِنِي)).

وَذَهَبَ الْغُلَامُ إِلَى خُبَيْبٍ؛ فَأَكْرَمَ خُبَيْبٌ وِفَادَتَهُ.

وَأَمَّا مَاوِيَّةُ فَبَعْدَ أَنْ ذَهَبَ الْغُلَامُ بِالْحَدِيدَةِ بِالسِّلَاحِ إِلَى هَذَا الْأَسِيرِ؛ قَالَتْ: ((وَيْحِي مَا صَنَعْتُ؟!! لَقَدْ آتَيْتُ الرَّجُلَ الْآنَ ثَأْرَهُ, وَأَعْطَيْتُهُ مُرَادَهُ, وَإِنَّهُ الْآنَ لَقَاتِلٌ لِلْغُلَامِ, وَإِنَّ دَمَهُ لَيَتَرَاءَى تَحْتَ نَاظِرَيَّ؛ فَيَا وَيْحِي! ثُمَّ يَا وَيْحِي!))، وَأَتَتْ تَشْتَدُّ فِي أَثَرِ الْغُلَامِ؛ فَوَجَدَتِ الْغُلَامَ عِنْدَ خُبَيْبٍ مُكَرَّمًا مُعَزَّزًا.

فَأَقْبَلَ عَلَيْهَا خُبَيْبٌ فَقَالَ: ((أَخَشِيتِ أَنْ أَقْتُلَهُ؟ أَخَشِيتِ أَنْ أَعْدُوَ عَلَيْهِ؟ وَاللَّهِ مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ ذَلِكَ قَطُّ!!)).

اسْتِوَاءٌ فِي الْمَنْهَجِ بِوُضُوحٍ لِلرُّؤْيَةِ مِنْ غَيْرِ مَا الْتِوَاءٍ وَلَا عِوَجٍ, وَلَا أَمْتٍ؛ وَإِنَّمَا هِيَ اسْتِقَامَةُ الرُّؤْيَةِ عِنْدَ وُضُوحِ الْمَنْهَجِ مِنْ غَيْرِ مَا اخْتِلَاطٍ قَطُّ.

وَرَبُّكَ يَهَبُ مَنْ يَشَاءُ مَا يَشَاءُ؛ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

ثُمَّ حُمِلَ إِلَى التَّنْعِيمِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَلَمَّا كَانَ هُنَالِكَ قَالَ: ((لَوْ تَرَكْتُمُونِي حَتَّى أُصَلِّيَ لِلَّهِ رَكْعَتَيْنِ لَكَانَ حَسَنًا)).

فَقَامَ فَصَلَّى, فَأَوْجَزَ.

وَاسْتِوَاءُ الْمَنْهَجِ بِوُضُوحِهِ يَتَجَلَّى..

فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ, وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى صَلَاةَ رَكْعَتَيْنِ عَنِ الْقَتْلِ صَبْرًا؛ فَأَقْبَلَ عَلَى الْقَوْمِ فَقَالَ: ((أَمَا وَاللَّهِ لَوْلَا أَنْ تَظُنُّوا بِيَ الْجَزَعَ لَأَطَلْتُ فِيهَا مَا شَاءَ اللهُ)).

ثُمَّ يَقُولُ -كَمَا قَالَ عَاصِمٌ قَبْلُ-: ((اللَّهُمَّ أَعْلِمْ عَنَّا نَبِيَّكَ, وَأَخْبِرْ بِنَا رَسُولَكَ)).

ثُمَّ إِنَّهُ حُمِلَ فَكَانَ هُنَالِكَ مَصْلُوبًا, وَاعْتُدِيَ عَلَيْهِ؛ فَذَهَبَ إِلَى رَبِّهِ شَهِيدًا يَقُولُ: ((اللَّهُمَّ أَهْلِكْهُمْ بَدَدًا, وَأَحْصِهِمْ عَدَدًا, وَلَا تُبْقِ مِنْهُمْ أَحَدًا)).

الْفِطْرَةُ الَّتِي اسْتَقَرَّتْ فِي الْقَلْبِ عَلَى السَّوِيَّةِ لَا بُدَّ أَنْ يَظْهَرَ نُورُهَا يَوْمًا مَا، حَتَّى وَلَوْ تَكَاثَفَتْ عَلَيْهَا الظُّلْمَةُ بِأَرْجَائِهَا؛ فَجَعَلَتِ النُّورَ هُنَالِكَ مَخْنُوقًا مَشْبُوحًا عَلَى أَعْمِدَةٍ كَأَنَّمَا نُصِبَتْ لَهُ مَشَانِقُ فِي جَوْفِ ظُلُمَاتِ السَّعِيرِ.

وَأَمَّا الْفِطْرَةُ فَلَا تَزَالُ تَتَأَلَّقُ حِينًا بَعْدَ حِينٍ.

وَيْحَكَ! خَلِّ عَنْ فِطْرَتِكَ حَتَّى تَنْطَلِقَ، حَتَّى تَنْسَاحَ كَمَا يَنْسَاحُ يُنْبُوعُ النُّورِ يُبَدِّدُ الظَّلَامَ مِنْ جَوْفِهِ مَا يَزَالُ يَخْرُجُ شَفِيفًا رَقِيقًا, ثُمَّ مَا يَزَالُ يَنْسَابُ مُنْسَرِحًا حَتَّى تَمْتَدَّ ظِلَالُهُ بِأَرْكَانِهِ عَلَى أَرْكَانِ الْكَوْنِ؛ فَإِذَا جَحَافِلُ الظُّلْمَةِ تَظَلُّ مُوَلِّيَةً مُدْبِرَةَ الْأَعْقَابِ لَا تَلْتَفِتُ، وَمَا تَزَالُ مَقْتُولَةً هُنَالِكَ وَالنُّورُ بِفُجُّهُ فِي كُلٍّ فَجٍّ يَسْطَعُ بِأَنْوَارِهِ يُبَدِّدُ ظُلُمَاتِ النَّفْسِ فِي أَطْوَائِهَا وَنَوَاحِيهَا.

خَلِّ عَنْ فِطْرَتِكَ، فَإِنَّ فِطْرَتَكَ مَحْبُوسَةٌ!!

وَخَلِّ عَنْ نُورٍ فِي قَلْبِكَ؛ فَإِنَّهُ هُنَالِكَ قَدْ شُنِقَ عَلَى عُودٍ هُنَالِكَ قَدْ رُكِزَ فِي جَوْفِ الظُّلُمَاتِ!!

فَخَلِّ عَنْ فِطْرَتِكَ, وَخَلِّ عَنْ نُورِهَا حَتَّى يَنْسَاحَ؛ وَحِينَئِذٍ يَنْشَرِحُ الصَّدْرُ، وَيُشْرِقُ الْوَجْهُ، وَحِينَئِذٍ يَنْطَلِقُ اللِّسَانُ وَيَنْطَلِقُ مَعَ انْطِلَاقِ اللِّسَانِ عَلَى الصِّرَاطِ الْأَقْدَامُ.

فَالسَّمْتُ وَاضِحٌ, وَالْغَايَةُ مُشْرِقَةٌ دَانِيَةٌ, وَالنَّبْعُ عَلَى ضَرْبَةِ مِعْوَلٍ؛ فَهَلْ مِنْ ضَارِبٍ؟!!

وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

أَبُو سُفْيَانَ كَانَ مَا يَزَالُ عَلَى كُفْرِهِ, وَكَذَا مُعَاوِيَةُ، وَالْقَوْمُ هُنَالِكَ يَنْظُرُونَ فِي فُرْجَةٍ عَظِيمَةٍ كَمَا يَتَجَمَّعُ الْأَطْفَالُ وَقَدْ ذَهَبَتْ عَنْهُمْ غَرَارَةُ الطُّفُولَةِ, وَحَلَّتْ مَحَلَّهَا شَيْطَنَةٌ أَتَتْ بِالصِّبَا, بِكُلِّ زِمَامٍ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَكُونَ قَاتِلَةً شَانِقَةً لِبَرَاءَةِ الطُّفُولَةِ عَلَى ذَلِكَ النُّصُبِ الَّذِي يَكُونُ عَلَى أَعْتَابِ الِاحْتِلَالِ كَمِثْلِ الْأَطْفَالِ إِذَا مَا ذَهَبَتْ عَنْهُمْ بَرَاءَةُ الطُّفُولَةِ, وَوَلَّى عَنْهُمْ طُهْرُ الصِّبَا!!

وَقَفَ الْكُفَّارُ يَتَفَرَّجُونَ!! أَيَّ شَيْءٍ؟!!

إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ يُقْتَلُ كَمَا يُقْتَلُ النَّاسُ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَعَلَى كُلِّ صَعِيدٍ، مَا هُوَ؟!!

هُوَ مِنْ عِنْدِ مُحَمَّدٍ, وَهُوَ شَامِخٌ جِدًّا، لَيْسَ رَجُلًا, بَلْ هُوَ طَوْدٌ وَلَا كَمِثْلِهِ الْأَطْوَادُ, بَلْ هُوَ جَبَلٌ تَتَقَاصَرُ دُونَ هَامَتِهِ دُونَ قَامَتِهِ هَامَاتُ شُمِّ الْجِبَالِ.

مَا يَكُونُ؟!!

رَاسِخٌ فِي الْأَرْضِ جِدًّا, وَهَامَتُهُ فَوْقَ عُلْيَا السَّمَاوَاتِ, وَقَدْ دَانَتْ سَاقَ الْعَرْشِ بِسَجْدَةِ الْقَلْبِ الَّتِي لَا يَقُومُ مِنْهَا إِلَّا عِنْدَ الْبَعْثِ بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ بَيْنَ يَدَيِ الْكَرِيمِ الْمُتَعَالِ.

لَيْسَ رَجُلًا، وَإِنَّمَا هُوَ أُسْطُورَةٌ خَارِقَةٌ مِنْ تِلْكَ الْأَسَاطِيرِ الَّتِي تَمُرُّ عَلَى الْحَيَاةِ الْبَشَرِيَّةِ فَتَأْخُذُ بِزِمَامِهَا لِكَيْ تَرْفَعَهَا عَنْ وَحْلِهَا شَيْئًا فَشَيْئًا لِتَقُولَ لِلْعَالَمِ: نُمُوذَجٌ مُتَفَرِّدٌ فَرِيدٌ يَتَحَدَّى الْعَالَمَ بِشُمُوخِهِ, وَيَعْلُو فَوْقَ الْقِمَمِ فَوْقَ الْهَامَاتِ.

وَهَلْ يُنْكَرُ فَضْلُ امْرِئٍ عَلَمٍ لَهُ عَلَى كُلِّ هَامَةٍ قَدَمُ!!

دَعِ الشُّهْرَةَ الْعَوْرَاءَ تَقْتَادُ جَاهِلًا = عَلَى حُكْمِهَا يَجْرِي وَإِنْ جَارَ أَوْ ظَلَمْ

إِذَا النَّاسُ لَمْ تَعْرِفْ لِذِي الْحَقِّ حَقَّهُ = فَلِلنَّاسِ مِنِّي مَوْطِنُ النَّعْلِ وَالْقَدَمْ

وَأَبَوْا إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَصْلُوبًا، لِكَيْ يَكُونَ نَعْلُهُ فَوْقَ مُسْتَوَى هَامَاتِ أَعْلَى الرُّءُوسِ.

أَبُو سُفْيَانَ لَمَّا قَالَ خُبَيْبٌ: ((اللَّهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا, وَأَهْلِكْهُمْ بَدَدًا, وَلَا تُبْقِ مِنْهُمْ أَحَدًا))؛ انْطَرَحَ أَرْضًا, وَأَخَذَ بِرَقَبَةِ مُعَاوِيَةَ؛ فَطَرَحَهُ أَرْضًا: دُونَكَ يَا وَلَدِي!

مَا شَأْنُكَ يَا أَبِي؟!!

تَزْعُمُ الْعَرَبُ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا دُعِيَ عَلَيْهِ فَانْبَطَحَ, فَإِذَا مَا دُعِيَ عَلَيْهِ فَانْطَرَحَ، كَأَنَّمَا تَمُرُّ الدَّعْوَةُ مِنْ فَوْقِهِ فَلَا تُصِيبُهُ, لَا تُصِيبُهُ الدَّعْوَةُ!!

فَانْطَرَحَ أَبُو سُفْيَانُ أَرْضًا, وَطَرَحَ مُعَاوِيَةَ!!

مِمَّ يَخْشَى؟!!

مِمَّ يَخَافُ؟!!

يَخَافُ مِنْ دَعْوَةِ الْمَظْلُومِ, وَبِخَاصَّةٍ إِذَا كَانَ مِنْ أَتْبَاعِ النَّبِيِّ ﷺ.

يَخَافُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ يَنْطِقُ عَلَى لِسَانِ خُبَيْبٍ، وَلِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ إِلَّا الصَّحِيحُ.

لَمَّا كَانَ خَائِفًا؛ لِمَاذَا لَمْ يَكُنْ مُتَأَمِّلًا؟!!

إِنَّهَا ثَوْرَةُ الْعَادَاتِ وَالْعَوَائِدِ فِي الْقُلُوبِ؛ إِنَّهَا غِشَاوَةُ الْوَهْمِ مَا تَزَالُ تَتَرَاءَى كَالرَّجُلِ الَّذِي يَجْعَلُ عَلَى عَيْنَيْهِ حِجَابًا؛ فَلَا يَرَى الْأَشْيَاءَ عَلَى حَقِيقَتِهَا.

اللهم أَرِنَا الْحَقَّ حَقًّا, وَارْزُقْنَا اتِّبَاعَهُ, وَأَرِنَا الْبَاطِلَ بَاطِلًا وَارْزُقْنَا اجْتِنَابَهُ.

إِذَا مَا تَأَمَّلْتَ فِي هَذَا النُّمُوذَجُ الَّذِي مَرَّ ذِكْرُهُ فِي أَصْحَابِ الرَّجِيعِ بِيَوْمِ الرَّجِيعِ تَرَى أُمُورًا عَظِيمَةً جِدًّا, وَبَاهِرَةً حَقًّا, وَمُبْهِرَةً صِدْقًا!!

وَهَذَا عَاصِمٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَقُولُ: ((وَاللَّهِ لَا أَنْزِلُ فِي عَهْدِ وَلَا عَقْدِ مُشْرِكٍ أَبْدًا))؛ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ.

وَاسْتُؤْسِرَ زَيْدٌ, وَاسْتُؤْسِرَ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ إِخْوَانِهِ, ثُمَّ كَانَ مَا كَانَ مِمَّا ذَكَرْتُ لَكَ!!

وَاللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ, وَيَقْضِي بِمَا يُرِيدُ.


صُوَرٌ مُشْرِقَةٌ مِنْ أَخْلَاقِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-

عِبَادَ اللهِ! لَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَتَعَهَّدُ الصَّحَابَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- بِالتَّعْلِيمِ وَالتَّرْبِيَةِ وَتَزْكِيَةِ النُّفُوسِ وَالْحَثِّ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَيُؤَدِّبُهُمْ بِآدَابِ الْوُدِّ وَالْإِخَاءِ وَالْمَجْدِ وَالشَّرَفِ وَالْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ.

وَبِجَانِبِ هَذَا كَانَ ﷺ يَحُثُّ حَثًّا شَدِيدًا عَلَى الِاسْتِعْفَافِ عَنِ الْمَسْأَلَةِ، وَيَذْكُرُ فَضَائِلَ الصَّبْرِ وَالْقَنَاعَةِ.

وَكَانَ ﷺ يَرْبِطُهُمْ بِالْوَحْيِ النَّازِلِ عَلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ رَبْطًا مُوثَقًا يَقْرَأُهُ عَلَيْهِمْ، وَيَقْرَأُونَهُ، لِتَكُونَ هَذِهِ الدِّرَاسَةُ إِشْعَارًا بِمَا عَلَيْهِمْ مِنْ حُقُوقِ الدَّعْوَةِ وَتَبِعَاتِ الرِّسَالَةِ، فَضْلًا عَنْ ضَرُورَةِ الْفَهْمِ وَالتَّدَبُّرِ.

وَهَكَذَا رَفَعَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مَعْنَوِيَّاتِ وَمَوَاهِبَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَزَوَّدَهُمْ بِأَعْلَى الْقِيَمِ وَالْمُثُلِ، حَتَّى صَارُوا صُورَةً لِأَعْلَى قِمَّةٍ مِنَ الْكَمَالِ عُرِفَتْ فِي تَارِيخِ الْبَشَرِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ.

لَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- مِثَالًا يُحْتَذَى فِي كُلِّ خُلُقٍ فَاضِلٍ وَكُلِّ خَصْلَةٍ مَحْمُودَةٍ، فَكَانُوا أُسْوَةً فِي الْعَفْوِ وَالتَّسَامُحِ؛ فَقَدْ قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النور: 22].

كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْخَائِضِينَ فِي الْإِفْكِ (مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ)، وَهُوَ قَرِيبٌ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَكَانَ مِسْطَحٌ فَقِيرًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَحَلَفَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ لَا يُنْفِقَ عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِهِ الَّذِي قَالَ.

فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، يَنْهَاهُ عَنْ هَذَا الْحَلِفِ الْمُتَضَمِّنِ لِقَطْعِ النَّفَقَةِ عَنْهُ، وَيَحُثُّهُ عَلَى الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ، وَيَعِدُهُ بِمَغْفِرَةِ اللَّهِ إِنْ غَفَرَ لَهُ، فَقَالَ: {أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.

إِذَا عَامَلْتُمْ عَبِيدَهُ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ، عَامَلَكُمْ بِذَلِكَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَمَّا سَمِعَ هَذِهِ الْآيَةَ: ((بَلَى، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي))، فَرَجَّعَ النَّفَقَةَ إِلَى مِسْطَحٍ.

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى النَّفَقَةِ عَلَى الْقَرِيبِ، وَأَنَّهُ لَا تُتْرَكُ النَّفَقَةُ وَالْإِحْسَانُ بِمَعْصِيَةِ الْإِنْسَانِ، وَالْحَثُّ عَلَى الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ وَلَوْ جَرَى مِنْهُ مَا جَرَى مِنْ أَهْلِ الْجَرَائِمِ.

وَكَانَتْ مِنْ أَهَمِّ الْخِصَالِ الَّتِي اتَّصَفَ بِهَا الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: الرَّحْمَةُ وَالرَّأْفَةُ؛ فَعَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ ((أَنَّهُ رَأَى عَبْدَ اللهِ بْنَ جَعْفَرٍ يُقَبِّلُ زَيْنَبَ بِنْتَ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، وَهِيَ ابْنَةُ سَنَتَيْنِ أَوْ نَحْوِهِ)). إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ.

فَالصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- كَانُوا يُقَبِّلُونَ الْأَوْلَادَ الصِّغَارَ مُتَمَشِّينَ فِي ذَلِكَ مَعَ سُنَّةِ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ ﷺ وَمُتَأَسِّينَ بِهِ.

وَقَدْ وَرَدَ فِي مَنَاقِبِ فَاطِمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يُقَبِّلُهَا، وَكَذَا كَانَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يُقَبِّلُ ابْنَتَهُ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-.

وَعَنْ قَبِيصَةَ بْنِ جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: ((مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ، وَلا يُغْفَرُ مَنْ لَا يَغْفِرُ، وَلَا يُعْفَ عَمَّنْ لَمْ يَعْفُ، وَلَا يُوَقَّ مَنْ لَا يَتَوَقَّ)). وَالْحَدِيثُ حَدِيثٌ حَسَنٌ.

الرَّحْمَةُ وَالْمَغْفِرَةُ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ أَسْبَابِ رَحْمَةِ اللهِ وَمَغْفِرَتِهِ بَيْنَهُمْ، وَالْإِسْلَامُ يَحُثُّ عَلَى غَرْزِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَصِفَةِ الرَّحْمَةِ فِي النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ.

فَالَّذِي يَطْمَعُ فِي رَحْمَةِ رَبِّهِ وَمَغْفِرَتِهِ عَلَيْهِ أَنْ يَرْحَمَ النَّاسَ، وَأَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ، وَأَنْ يُسَامِحَهُمْ، وَأَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَدَبَّرَ قَوْلَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ} [النور: ٢٢].

وَمِنْ أَعْظَمِ مَعَالِمِ رَحْمَةِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: رَحْمَتُهُمْ حَتَّى بِالْحَيَوَانَاتِ؛ فَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي لَأَذْبَحُ الشَّاةَ فَأَرْحَمُهَا، أَوْ قَالَ: إِنِّي لَأَرْحَمُ الشَّاةَ أَنْ أَذْبَحَهَا)).

قَالَ: «وَالشَّاةُ إِنْ رَحِمْتَهَا، رَحِمَكَ اللَّهُ» مَرَّتَيْنِ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ فِي «الْمُسْتَدْرَكِ»، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي «الصَّحِيحَةِ» وَفِي غَيْرِهَا.

قَوْلُهُ: «وَالشَّاةُ إِنْ رَحِمْتَهَا، رَحِمَكَ اللهُ»: كَمَا قَالَ ﷺ: «مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ». فَمَنْ رَحِمَ رُحِمَ، سَوَاءٌ كَانَتْ هَذِهِ الرَّحْمَةِ لِإِنْسَانٍ أَوْ حَيَوانٍ أَوْ طَائِرٍ أَوْ نَحْوِهِ.

وَالرَّحْمَةُ تَقْتَضِي عَدَمَ ذَبْحِ الشَّاةِ بِحَضْرَةِ أُخْرَى، وَأَلَّا يُحِدَّ الشَّفْرَةَ أَمَامَهَا فَهَذَا مِنْ الرَّحْمَةِ بِهَا؛ فَقَدْ مَرَّ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى رَجُلٍ وَاضِعٍ رِجْلَهُ عَلَى صَفْحَةِ شَاةٍ وَهُوَ يَحِدُّ شَفْرَتَهُ، وَهِيَ تَلْحَظُ إِلَيْهِ بِبَصَرِهَا، فَقَالَ: «أَفَلَا قَبْلَ هَذَا؟ أَتُرِيدُ أَنْ تُمِيتَهَا مَوْتَتَيْنِ؟!!». رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي «الْكَبِيرِ»، وَ«الْأَوْسَطِ»، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ مُخَرَّجٌ فِي «السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ».

وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «مَنْ رَحِمَ وَلَوْ ذَبِيحَةَ عُصْفُورٍ رَحِمَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».

هَذَا الْخُلُقُ لَا يَتَجَزَّأُ -خُلُقُ الرَّحْمَةِ لَا يتَجَزَّأُ- كَمَا هُوَ وَاضِحٌ فِي خُلُقِ الرَّحْمَةِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَتْ رَحْمَتُهُ عَامَّةً وَغَامِرَةً وَشَامِلَةً، وَقَدْ شَمِلَتِ الطُّيُورَ وَالْحَيَوَانَاتِ، بَلْ شَمَلَتِ الْحَشَرَاتِ لَمَّا نَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ قَتْلِ الْحَشَرَاتِ حَرْقًا، وَدُونَ ذَلِكَ فِي الْإْثِم أَنْ تُقْتَلَ بِالْمَاءِ إِغْرَاقًا، فَهَذَا إِثْمٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلَّا الَّذِي خَلَقَهَا، وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ تَبْدُو مَظَاهِرُ رَحْمَتِهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ وَأَقْوَالِهِ ﷺ.

فَهَذَا الْخُلُقُ لَا يَتَجَزَّأُ، فَالرَّجُلُ يَرْحَمُ الشَّاةَ أَنْ يَذْبَحَهَا أَوْ يُرِيدُ أَنْ يَذْبَحَ الشَّاةَ فَيَرْحَمُهَا، وَيَسْتَفْتِي فِي ذَلِكَ النَّبِيَّ ﷺ، فَيَقُولُ: «وَالشَّاةُ إِنْ رَحِمْتَهَا، رَحِمَكَ اللهُ».

وَكَانَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- مِثَالًا فِي التَّضْحِيَةِ؛ جِهَادًا فِي سَبِيلِ إِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ؛ فَعَنْ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-, فِيمَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ, وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ, وَالْحَاكِمُ, وَالْبَيْهَقِيُّ, وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ الْجَامِعِ)) وَغَيْرِهِ, عَنْ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ: أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَعْرَابِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَآمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ, ثُمَّ قَالَ: أُهَاجِرُ مَعَكَ.

فَأَوْصَى بِهِ النَّبِيُّ ﷺ بَعْضَ أَصْحَابِهِ, فَلَمَّا كَانَتْ غَزْوَةٌ، غَنِمَ النَّبِيُّ ﷺ سَبْيًا، فَقَسَمَهُ وَقَسَمَ لَهُ، فَأَعْطَى أَصْحَابَهُ مَا قَسَمَ لَهُ, وَكَانَ يَرْعَى ظَهْرَهُمْ -كَانَ فِي إِبِلِهِمْ يَرْعَاهَا, فَلَمْ يَكُنْ حَاضِرًا-، فَأَعْطَى أَصْحَابَهُ مَا قَسَمَ لَهُ، فَلَمَّا جَاءَ دَفَعُوهُ إِلَيْهِ, فَقَالَ: مَا هَذَا؟!!

قَالُوا: قَسْمٌ قَسَمَهُ لَكَ النَّبِيُّ ﷺ؛ فَأَخَذَهُ فَجَاءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟

قَالَ: ((قَسَمْتُهُ لَكَ)).

قَالَ: مَا عَلَى هَذَا اتَّبَعْتُكَ، وَلَكِنِّي اتَّبَعْتُكَ عَلَى أَنْ أُرْمَى إِلَى هَاهُنَا -وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ- بِسَهْمٍ؛ فَأَمُوتَ فَأَدْخُلَ الجَنَّةَ.

فَقَالَ: ((إِنْ تَصْدُقِ اللَّهَ يَصْدُقْكَ)).

فَلَبِثُوا قَلِيلًا، ثُمَّ نَهَضُوا فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ، فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ يُحْمَلُ, قَدْ أَصَابَهُ سَهْمٌ حَيْثُ أَشَارَ, فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَهُوَ هُوَ؟!!)).

قَالُوا: نَعَمْ.

قَالَ: ((صَدَقَ اللَّهَ فَصَدَقَهُ اللَّهُ)).

ثُمَّ كَفَّنَهُ النَّبِيُّ ﷺ فِي جُبَّتِهِ، ثُمَّ قَدَّمَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ, فَكَانَ فِيمَا ظَهَرَ مِنْ صَلَاتِهِ -أَيْ مِنْ دُعَائِهِ-: ((اللَّهُمَّ إِنَّ هَذَا عَبْدُكَ، خَرَجَ مُهَاجِرًا فِي سَبِيلِكَ، فَقُتِلَ شَهِيدًا, أَنَا شَهِيدٌ عَلَى ذَلِكَ)).

خُذْ هَذَا السَّبْيَ, فَقَالَ: مَا عَلَى هَذَا اتَّبَعْتُكَ! لَمْ أَتَّبِعْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى أَنْ أُحَصِّلَ فِي الدُّنْيَا مَغْنَمًا, وَلَا أَنْ أُفِيدَ فِيهَا فَائِدَةً، وَإِنَّمَا اتَّبَعْتُكَ عَلَى أَنْ أُرْمَى بِسَهْمٍ هَاهُنَا, يَخْتَارُ مِيتَةً يُؤتِيهِ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِيَّاهَا كَمَا اخْتَارَهَا، وَيُشِيرُ بِأُصْبُعِهِ إِلَى حَلْقِهِ، أَنْ أُرْمَى بِسَهْمٍ هَاهُنَا -وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ-؛ فَأَمُوتَ فَأَدْخُلَ الجَنَّةَ، فَوَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى صِدْقِهِ مَعَ رَبِّهِ, قَالَ: ((إِنْ تَصْدُقِ اللَّهَ يَصْدُقْكَ)).

فَجِيءَ بِهِ مَحْمُولًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَتَأَكَّدَ مِنْهُ: ((أَهُوَ هُوَ؟!!))

قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ.

السَّهْمُ فِي حَلْقِهِ، فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ بِأُصْبُعِهِ، فَقَالَ: ((صَدَقَ اللَّهَ فَصَدَقَهُ اللَّهُ))، ثُمَّ شَهِدَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ بَمَا كَانَ مِنْهُ.

هَذِهِ حَقِيقَةُ الدِّينِ, حَقِيقَةُ الْإِخْلَاصِ, حَقِيقَةُ الْعَمَلِ لِخِدْمَةِ دِينِ رَبِّ الْعَالمِينَ, لَيْسَ هَاهُنَا شَيْءٌ، الْفَائِدَةُ هُنَاكَ، الْأَجْرُ هُنَاكَ، الْمَثُوبَةُ هُنَاكَ، وَأَمَّا هَاهُنَا فِي الدُّنْيَا؛ فَتَعَبٌ وَنَصَبٌ، وَعَنَاءٌ وَبَلَاءٌ، وَأَلَمٌ وَمَشَقَّةٌ, وَاللَّهُ يَشْرَحُ الصَّدْرَ، وَيُصْلِحُ الْبَالَ، وَيُطَمْئِنُ الْقَلْبَ.

وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.

وَكَانَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- أُسْوَةً فِي عُلُوِّ الْهِمَّةِ وَالتَّسَابُقِ فِي الْخَيْرَاتِ؛ لِنَيْلِ رِضَا رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ؛ فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُرَبِّي أَصْحَابَهُ عَلَى الْبَذْلِ وَالْجُودِ وَالْكَرَمِ، وَيَحُضُّهُمْ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَعَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-, قَالَ: ((رَغَّبَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الصَّدَقَةِ يَوْمًا، وَقَدْ صَادَفَ ذَلِكَ مَالًا عِنْدِي، فَقُلْتُ: الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إِنْ سَبَقْتُه يَوْمًا.

قَالَ: فَانْقَلَبْتُ إِلَى أَهْلِي، فَأَتَيْتُ بِشَطْرِ مَالِي -يَعْنِي بِنِصْفِهِ-، حَتَّى وَضَعَتُهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

فَقَالَ: «مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟».

قُلْتُ: مِثْلَهُ.

قَال: ثُمَّ جَاءَ أَبُو بَكْرٍ، فَوَضَعَ مَا أَتَى بِهِ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ ﷺ.

فَقَالَ: «مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟»

قَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللهَ وَرَسُولَهُ.

فَقَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: لَا جَرَمَ، لَا أُسَابِقُكَ إِلَى شَيْءٍ بَعْدَهَا أَبَدًا)).

فَأَذْعَنَ لَهُ بِالسَّبْقِ، وَصَدَّقَ فِعْلُ أَبِي بَكْرٍ مَا كَانَ فِي نَفْسِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: الْيَوْمَ أَسْبِقُهُ إِنْ كُنْتُ سَابِقَهُ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ! وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَسْبِقْهُ.

وَهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَكْنِزُونَ شَيْئًا مِنَ الْمَالِ، وَلَا يَحْرِصُونَ عَلَيْهِ؛ بَلْ كَانُوا أَجْوَدَ الْخَلْقِ بَعْدَ النَّبِيِّ ﷺ بِعَطِيَّةٍ، وَهِبَةٍ، وَصِلَةٍ، وَبِرٍّ.

* الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- كَانُوا الْأُسْوَةَ فِي الْإِيثَارِ وَالْعِفَّةِ وَالْجُودِ وَالْكَرَمِ، وَالرَّسُولُ ﷺ يُعَلِّمُهُمْ، وَيَدْعُوهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَيُرَبِّيهِمْ عَلَيْهِ، حَتَّى إِنَّهُ ﷺ كَانَ جُودُهُ لَا يُبْقِي لَدَيْهِ شَيْئًا مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يُقِيتَ ذَا كَبِدٍ رَطْبَةٍ، حَتَّى إِنَّ رَجُلًا -كَمَا فِي «الصَّحِيحَيْنِ»- جَاءَ النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ: إِنِّي مَجْهُودٌ -يَعْنِي بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ مَبْلَغَهُ، بِفَقْرٍ وَعَوَزٍ وَجُوعٍ-!

فَأَرْسَلَ الرَّسُولُ ﷺ إِلَى بَعْضِ أَبْيَاتِ أَزْوَاجِهِ: «هَلْ عِنْدَكِ مِنْ شَيْءٍ؟».

فَقَالَت -وَقَدْ رَدَّتْ مَنْ أَرْسَلَهُ إِلَيْهَا رَسولُنَا ﷺ بِهَذِهِ الرِّسَالَةِ-: ((لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، مَا عِنْدِي إِلَّا الْمَاءُ)).

فَأَرْسَلَ إِلَى أُخْرَى، حَتَّى ذَهَبَ رَسُولُ رَسُولِ اللهِ إِلَى أَبْيَاتِ أَزْوَاجِهِ جُمَعَ، وَكُلُّهُنَّ يَقُلْنَ: ((وَالَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ مَا عِنْدَنَا إِلَّا الْمَاءُ)).

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مَنْ يُضَيِّفُ ضَيْفَ رَسُولِ اللهِ ﷺ؟»

فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: ((أَنَا)).

لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ رَغَّبَ دَاعِيًا: «مَنْ يُضِفْ ضَيْفَ رَسُولِ اللهِ ﷺ يَرْحَمْهُ اللهُ»، وَعَلَى الرَّفْعِ: «مَنْ يُضِفْ ضَيْفَ رَسُولِ اللهِ ﷺ يَرْحَمُهُ الله».

فَقَال: ((أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ)).

فَأَخَذَ بِيَدِهِ، فَانْقَلَبَ بِهِ إِلَى رَحْلِهِ، ثُمَّ أَتَى أَهْلَهُ فَقَالَ: ((هَلْ عِنْدَكِ مِنْ شَيْءٍ؟)).

قَالَتْ: ((مَا عِنْدِي إِلَّا قُوتُ صِبْيَانِي، مَا عِنْدِي إِلَّا عَشَاءُ صِبْيَانِي)).

قَالَ: ((فَنَوِّمِيهِمْ، فَعَلِّلِيهِمْ؛ حَتَّى إِذَا نَامُوا قَدِّمِي طَعَامَ الصِّبْيَانِ بَيْنَ يَدَيْ ضَيْفِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، ثُمَّ قَومِي إِلَى الْمِصْبَاحِ فَأَطْفِئِيهِ!!))؛ يَعْنِي: قَومِي إِلَى السِّرَاجِ وَلَا تُطْفِئِيهِ فِي هَذِهِ الْـمَسْأَلَةِ إطْفَاءً كَامِلًا، وَإِنَّمَا تَقُومُ إِلَيْهِ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَخْفِضَ مِنْ ضَوْئِهِ شَيْئًا، حَتَّى إِذَا جَلَسْنَا نُرِي الضَّيْفَ أَنَّا نَأْكُلُ، قَوْمِي إِلَى السِّرَاجِ فَأَطْفِئِيهِ.

فَقَرَّبَتِ الطَّعَامَ، وَقَامَتْ إِلَى الْمِصْبَاحِ، ثُمَّ جَاءَتْ إِلَى الطَّعَامِ، حَتَّى إِذَا ظَنَّ الرَّجُلُ أَنَّهُمَا يَأْكُلَانِ قَامَتْ إِلَى الْمِصْبَاحِ فَأَطْفَأَتْهُ.

وَأَكَلَ ضَيْفُ رَسُولِ اللهِ ﷺ طَعَامَ صبْيَانِ الْأَنْصَارِيِّ بِمَحْضَرٍ مِنْ أُمِّهِمْ، لَا تَجِدُ مَسًّا لِلْحُزْنِ فِي قَلْبِهَا، وَلَا ثَارَةً لِلْوَجْدِ فِي نَفْسِهَا، وَإِنَّمَا تَرَى الْبَذْلَ وَالْجُودَ أَحَبَّ إِلَيْهَا مِنْ إِطْعَامِ صبْيَانِهَا، كَذَلِكَ كَانُوا.

وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي هُو حَسَنٌ بِشَوَاهِدِهِ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي «سُنَنِهِ»، عَن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «هَلْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟».

فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: ((أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ؛ دَخَلْتُ الْـمَسْجِدَ فَرَأَيْتُ مِسْكِينًا، وَكِسْرَةٌ مِنْ خُبْزٍ فِي يَدِ وَلَدِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَأَخَذْتُهَا مِنْهُ وَأَعْطَيْتُهَا الْمِسْكِينَ)).

فَيَجِدُ وَقْعَهَا بِحَلَاوَتِهَا بِذَوْقِهِا فِي فَمِهِ، وَعَلَى مَعِدَتِهِ أَحَبَّ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا تَبْقَى بَقَاءً سَرْمَدِيًّا بِثَوَابِهَا وَأَثَرِهَا، وَعَطَائِهَا مِنْ عِنْدِ رَبِّهَا بِعَطَاءٍ لَا يَنْفَدُ، فَيَجِدُ ذَلِكَ أَحْلَى وَأَرْسَخَ فِي ذَوْقِ هَذَا الْفَقِيرِ الَّذِي تَعَرَّضَ وَلَمْ يَسْأَلْ، ثُمَّ يَجِدُ ذَلِكَ أَرْسَخَ ثَبَاتًا فِي نَفْسِهِ وَفِي مَعِدَتِهِ مِمَّا لَوْ كَانَتْ فِي نَفْسِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فِي مَعِدَتِهِ، وَهُوَ فِلْذَةُ كَبِدِهِ.

نَعُودُ إِلَى الْأَنْصَارِيِّ، فَإِنَّهُ لَمَّا أَطْعَمَ ضَيْفَ رَسُولِ اللهِ ﷺ عَلَى ذَلِكَ النَّحْوِ الْمَوْصوفِ، وَمَضَى اللَّيْلُ يَطْوِي سَاعَاتِه طَيًّا، حَتَّى إِذَا انْبَلَجَ الصُّبْحُ، وَإِذَا مَا جَاءَ بِفَلَقٍ نِيِّرٍ مُبِينٍ؛ ذَهَبَ إِلَى النَّبِيِّ الْأَمِينِ ﷺ فَبَشَّرَهُ، فَقَالَ: «عَجِبَ اللهُ مِنْ صنِيعِكُمَا اللَّيْلَةَ»؛ عَجِبَ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- مِنْ صنِيعِكَ وَفُلَانَةَ اللَّيْلَةَ مَعَ ضَيْفِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

لَا تَبْغِ عَلَى الْإِطْعَامِ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا، وَإِنَّمَا تَقَعُ صدَقَتُكَ فِي يَدِ اللهِ، فَيُرَبِّيهَا لَكَ، كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ؛ يَعْنِي مُهْرَهُ، فَمَا يَزَالُ يَرْبُو وَيَرْبُو حَتَّى تَكُونَ التَّمْرَةُ جَبَلًا مِنْ تَمْرٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ: ((يَا رَبِّ! أَنَّى هَذَا، وَمَا امْتَلَكْتُ عُشْرَ مِعْشَارِهِ فِي الدُّنْيَا أَبَدًا!!)).

يَقُولُ: «صَدَقَتُكَ فِي يَوْمِ كَذَا، مَا زِلْتُ أُرَبِّيهَا لَكَ»؛ يَعْنِي: أَزِيدُهَا لَكَ بَرَكَةً، وَعَطَاءً، وَبِرًّا، حَتَّى صارَتْ إِلَى مَا تَرَى.

وَرَوَى الشَّيْخَانِ أَنَّهُ لَمَّا آخَى رَسُولُ اللهِ ﷺ بَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ الْمُهَاجِرِ، وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ سَعْدٌ لِأَخِيهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: ((إِنِّي أَكْثَرُ الْأَنْصَارِ مَالًا، فَأَقْسِمُ مَالِي نِصْفَيْنِ، وَلِيَ امْرَأَتَانِ، فَانْظُرْ أَعْجَبَهُمَا إِلَيْكَ فَسَمِّهَا لِي أُطَلِّقْهَا! فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَتَزَوَّجْهَا)).

فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: ((بَارَكَ اللهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، أَيْنَ سُوقُكُمْ؟!!))، فَدَلُّوهُ عَلَى سُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعَ، فَمَا انْقَلَبَ إِلَّا وَمَعَهُ فَضْلٌ مِنْ أَقِطٍ وَسَمْنٍ، ثُمَّ تَابَعَ الْغُدُوَّ، ثُمَّ جَاءَ يَوْمًا وَبِهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ -أَيْ: زِينَةٍ-، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَهْيَمْ؟))؛ يَسْأَلُهُ عَنْ حَالِهِ.

فَقَالَ: ((تَزَوَّجْتُ)).

قَالَ: ((كَمْ سُقْتَ إِلَيْهَا؟))؛ يَعْنِي: مِنَ الْمَهْرِ.

قَالَ: وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ.

فَكَانَ مِنَ الْأَنْصَارِيِّ الْإِيثَارُ، وَكَانَ مِنَ الْمُهَاجِرِيِّ التَّعَفُّفُ وَعِزَّةُ النَّفْسِ.

وَمِنْ أَسْمَى الْأَخْلَاقِ الَّتِي اتَّصَفَ بِهَا الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: الرُّجُوعُ لِلْحَقِّ؛ يَقُولُ أَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ -وَلَمْ يَكُنْ بَدْرِيًّا صَلِيبَةً، وَإِنَّمَا كَانَ مُقِيمًا بِبَدْرٍ فَنُسِبَ إِلَيْهَا وَلَمْ يَشْهَدْهَا-: ((كُنْتُ أَضْرِبُ غُلَامًا بِالسَّوْطِ، فَسَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ خَلْفِي: «اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ!»، فَلَمْ أَفْهَمِ الصَّوْتَ مِنَ الْغَضَبِ! قَالَ: فَلَمَّا دَنَا مِنِّي إِذَا هُوَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَإِذَا هُوَ يَقُولُ: «اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ! اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ!».

قَالَ: فَأَلْقَيْتُ السَّوْطَ مِنْ يَدِي.

فَقَالَ: «اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ أَنَّ اللهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا الْغُلَامِ».

قَالَ: قُلْتُ: ((لَا أَضْرِبُ مَمْلُوكًا بَعْدَهُ أَبَدًا)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

وَفِي رِوَايَةٍ: فَقُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللهِ)).

فَقَالَ: «أَمَا إِنَّكَ لَوْ لَمْ تَفْعَلْ، لَلَفَحَتْكَ النَّارُ -أَوْ لَمَسَّتْكَ النَّارُ-».

* وَمِنَ الصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ الَّتِي كَانَ فِيهَا الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- عَلَى الْقِمَّةِ السَّامِقَةِ: الْوَرَعُ وَتَحَرِّي الْحَلَالِ؛ فَالنَّبِيُّ ﷺ عَلَّمَ الْأُمَّةَ الْوَرَعَ، وَعَلَى نَهْجِهِ وَدَرْبِهِ سَارَ مَنْ بَعْدَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ.

أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ لَهُ غُلَامٌ عَلَى الْخَرَاجِ -يَعْنِي كَانَ مُكَاتَبًا، وَكَانَ صَنَاعَ الْيَدِ ذَا مِهْنَةٍ، فَتَرَكَهُ يَعْمَلُ، يُؤَدِّي إِلَيْهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ إِلَى أَمَدٍ دِرْهَمًا أَوْ دِرْهَمَيْنِ، فَإِذَا انْقَضَى الْأَمَدُ فَهُوَ حُرٌّ، وَهِيَ الْمُكَاتَبَةُ الْمَعْرُوفَةُ لِمَنْ دَرَى خَبَرَهَا-، فَكَاتَبَهُ فَكَانَ عَلَى الْخَرَاجِ، فَكَانَ يَأْتِيهِ بِخَرَاجِهِ طَعَامًا، فَأَتَاهُ يَوْمًا بِشَيْءٍ فَأَكَلَهُ، وَكَانَ جَائِعًا، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: أَعَلِمْتَ مُنْذُ الْيَوْم مَا أَكَلْتَ؟

قَالَ: وَمَا هُوَ؟

قَالَ: إِنِّي كُنْتُ قَدْ تَكَهَّنْتُ لِامْرِئٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِكَهَانَةٍ، وَلَا أُحْسِنُهَا، وَإِنَّمَا خَدَعْتُهُ، فَمَرَرْتُ بِهِ الْيَوْمَ، فَأَعْطَانِي الْحُلْوَانَ، فَجِئْتُ إِلَيْكَ بِالطَّعَامِ مِنْهُ.

فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَلَى نَفْسِهِ، يُدْخِلُ يَدَهُ فِي جَوْفِهِ، يُرِيدُ أَنْ يَطْرَحَ اللُّقْمَةَ، وَهِيَ لَا تُرِيدُ أَنْ تَخْرُجَ!! فَدَعَا بِطَسْتٍ، وَأَرَادَ أَنْ يَسْتَقِيءَ فَلَمْ يُفْلِحْ.

فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا إِذَا أَسَغْتَهُ بِمَاءٍ. فَدَعَا بِمَاءٍ، فَكَانَ يَشْرَبُ وَيُدْخِلُ أُصْبُعَهُ فِي حَلْقِهِ، حَتَّى طَرَحَهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

فَقَالُوا: سُبْحَانَ اللهِ!! يَعْنِي: وَهَلْ هَذَا يَلْزَمُكَ؟! يَتَعَجَّبُونَ.

فَقَالَ: لَا، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ((وَكُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ))، فَخَشِيتُ أَنْ يَنْبُتَ فِي لَحْمِي شَيْءٌ مِنْهَا)).

وَمَا تَعَمَّدَ شَيْئًا، وَمَا عَلَيْهِ مِنْ جَرِيرَةٍ، وَلَكِنَّهُ صِدِّيقُ الْأُمَّةِ الْأَكْبَرُ، وَصَاحِبُ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْغَارِ.

وَقَدْ أَخْرَجَ طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ بِتَفْصِيلٍ أَبُو نُعَيْمٍ فِي ((الْحِلْيَةِ)) فِيمَا صَنَعَ الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُ-، وَإِنَّهُ لَعَنَاءٌ وَأَيُّ عَنَاءٍ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ، وَإِنَّمَا هُوَ مُتَوَرِّعٌ عَلَى قَدَمِ النَّبِيِّ ﷺ، يَتَّقِي الشُّبُهَاتِ.

وَأَمَّا عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ فَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِيمَا أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي ((الشُّعَبِ))، أَنَّهُ جِيءَ إِلَى عُمَرَ يَوْمًا بِلَبَنٍ فَاسْتَجَادَهُ، وَقَدْ شَرِبَ مِنْهُ، ثُمَّ سَأَلَ عَنْهُ فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ؟

فَقَالَ مَنْ سَقَاهُ: كُنْتُ الْيَوْمَ بِظَاهِرِ الْبَادِيَةِ، فَمَرَرْتُ بِإِبِلِ الصَّدَقَةِ، فَوَجَدْتُهَا عَلَى وُرُودٍ وَقَدْ حَلَبُوهَا، فَجِئْتُكَ مِنْ لَبَنِهَا بِمَا جِئْتُكَ بِهِ.

فَأَخَذَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَسْتَقِيءُ، حَتَّى طَرَحَ مَا دَخَلَ جَوْفَهُ -رَضِيَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُ-.

وَعَلَى دَرْبِهِمَا سَارَ مَنْ بَعْدَهُمَا -رَضِيَ اللهُ عَنِ الصَّحَابَةِ، وَرَحِمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ سَلَفَنَا الصَّالِحِينَ-.


شَهَادَةُ النَّبِيِّ ﷺ لِلسَّابِقِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-

لَقَدِ اخْتَصَّ النَّبِيُّ ﷺ بَعْضَ أَصْحَابِهِ بِالثَّنَاءِ؛ لِبَيَانِ سَبْقِهِمْ وَجِهَادِهِمْ وَفَضْلِهِمْ؛ فَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ آخِذًا بِطَرَفِ ثَوْبِهِ حَتَّى أَبْدَى عَنْ رُكْبَتِهِ، فَلَمَّا رَآهُ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، قَالَ: ((أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ غَامَرَ))؛ أَيْ: فَقَدْ رَكِبَ الْمَخَاطِرَ أَوْ دَخَلَ أَمْرًا عَسِيرًا صَعْبًا، حَتَّى إِنَّهُ لَيَأْتِي عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ وَلَا يَلْتَفِتُ.

فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ، فَسَلَّمَ وَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ الْخَطَّابِ شَيْءٌ، فَأَسْرَعْتُ إِلَيْهِ -يَعْنِي: فَأَغْلَظْتُ لَهُ الْقَوْلَ وَأَخَذْتُهُ بِشَدِيدِهِ- ثُمَّ نَدِمْتُ، فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَغْفِرَ لِي فَأَبَى عَلَيَّ، فَأَقْبَلْتُ إِلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ)).

فَقَالَ: ((يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ - ثَلَاثًا)).

ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ نَدِمَ، فَأَتَى مَنْزِلَ أَبِي بَكْرٍ فَسَأَلَ: ((أَثَّمَ أَبُو بَكْرٍ؟))

فَقَالُوا: لَا.

فَأَتَى إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَسَلَّمَ، فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِيِّ ﷺ يَتَمَعَّرُ -يَعْنِي مِنْ شِدَّةِ الْغَيْظِ وَمِنْ شِدَّةِ الْكَمَدِ عَلَى مَا وَجَدَ الصِّدِّيقُ مِنَ الْفَارُوقِ-.

فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِيِّ ﷺ يَتَمَعَّرُ، حَتَّى أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ، فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَاللَّهِ أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ - مَرَّتَيْنِ)).

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ -لَمَّا قَالَ الصِّدِّيقُ ذَلِكَ وَفَعَلَ-: ((إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ: كَذَبْتَ! وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقَ! وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي - مَرَّتَيْنِ)).

قَالَ أُبُو الدَّرْدَاءُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-)).

وَقَالَ ﷺ: ((لَوْ كُنْتُ مَتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لِاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ))، وَفِي لَفْظٍ: ((وَلَكِنْ أَخِي وَصَاحِبِي)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ جَعَلَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ)).

وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: جَاءَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ بِأَلْفِ دِينَارٍ فِي ثَوْبِهِ حِينَ جَهَّزَ النَّبِيُّ ﷺ جَيْشَ الْعُسْرَةِ، فَصَبَّهَا -يَعْنِي الدَّنَانِيرَ- فِي حِجْرِ النَّبِيِّ ﷺ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ يُقَلِّبُهَا وَهُوَ يَقُولُ: ((مَا ضَرَّ ابْنَ عَفَّانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ))، يُرَدِّدُ ذَلِكَ مِرَارًا.

وَفِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)): عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: صَعِدَ النَّبِيُّ ﷺ أُحُدًا وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ، فَرَجَفَ -أَيْ أُحُدٌ-.

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((اسْكُنْ أُحُدُ؛ فَلَيْسَ عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَانِ)).

فَأَمَّا النَّبِيُّ فَرَسُولُ اللهِ ﷺ، وَأَمَّا الصِّدِّيقُ فَأَبُو بَكْرٍ، وَأَمَّا الشَّهِيدَانِ فَعُمَرُ وَعُثْمَانُ.


الْعِصْمَةُ وَالنَّجَاةُ فِي الِاقْتِدَاءِ بِالصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-

عِبَادَ اللهِ! يَعْتَقِدُ أَهْلُ السُّنَّةِ عَظِيمَ فَضْلِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَعُلُوَّ مَكَانَتِهِمْ، وَوُجُوبَ حُبِّهِمْ وَالتَّقَرُّبِ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَالتَّوَسُّلِ إِلَيْهِ بِمُوَالَاتِهِمْ، وَالدُّعَاءِ لَهُمْ، وَالذَّبِّ عَنْهُمْ، وَأَنَّ الْعِصْمَةَ وَالنَّجَاةَ فِي الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ وَالْتِزَامِ مَنْهَجِهِمْ وَالتَّمَسُّكِ بِسَبِيلِهِمْ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَجَزَاهُمُ اللهُ خَيرَ مَا جَزَى أَصْحَابًا وَأَنْصَارًا عَنْ نَبِيِّهِ وَرَسُولِهِ وَمُصْطَفَاهُ، نَقَلَةً وَحَمَلَةً لِدِينِهِ وَشَرْعِهِ وَمِنْهَاجِهِ إِلَى خَلْقِهِ وَعِبَادِهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

حُبُّ الصَّحَابَةِ إِيمَانٌ، وَبُغْضُهُمْ كُفْرٌ وَنِفَاقٌ، كَمَا مَرَّ النَّقْلُ عَنْ عُلَمَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، هِيَ عَقِيدَةُ الْحَقِّ، عَقِيدَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، فَيَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَعْرِفَ لِأَصْحَابِ نَبِيِّنَا ﷺ وَلِآلِ بَيْتِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- حَقَّهُمْ، وَأَنْ نَكُونَ مَعَهُمْ عَلَى السَّوِيَّةِ وَالْجَادَّةِ الْمَرْضِيَّةِ، وَأَلَّا نَبْخَسَهُمْ حُقُوقَهُمْ، وَأَلَّا نَغْلُوَ فِيهِمْ، وَإِنَّمَا بِالْقَصْدِ نَعْتَقِدُ، وَبِهِ نَعْمَلُ، وَإِلَيْهِ نَسْعَى، رَضِيَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، وَأَذَلَّ وَكَبَتَ مَنْ أَبْغَضَهُمْ أَو دَعَا عَلَيْهِمْ أَو مَكَرَ بِأَمْرِ سِيرَتِهِمْ أَو حَاوَلَ أَنْ يَحُضَّ الْأُمَّةَ عَلَى كَرَاهَتِهِمْ.

أَصْحَابُ النَّبِيِّ ﷺ يُعْقَدُ عَلَيْهِمُ الْوَلَاءُ وَالْبَرَاءُ؛ نُوَالِي مَنْ وَالَاهُمْ وَنُعَادِي مَنْ عَادَاهُمْ، وَنُحِبُّ مَنْ أَحَبَّهُمْ وَنُبْغِضُ مَنْ أَبْغَضَهُمْ، وَنَنْصُرُ مَنْ نَصَرَهُمْ وَنَخْذُلُ مَنْ خَذَلَهُمْ.

وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ رَضِيَ عَنْهُمْ، فَنَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَرْضَى عَنَّا بِتَولِّيهِمْ وَحُبِّنَا إِيَّاهُمْ، إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

اللَّهُمَّ خُذْ بِأَيْدِينَا إِلَيْكَ، وَأَقْبِلْ بِقُلُوبِنَا عَلَيْكَ.

اللَّهُمَّ ثَبِّتْ أَقْدَامَنَا، وَاهْدِ قُلُوبَنَا، وَبَيِّضْ وُجُوهَنَا، وَثَقِّلْ مَوَازِينَنَا.

اللَّهُمَّ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ اجْمَعْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ نَبِيِّكَ كَمَا آمَنَّا بِهِ وَلَمْ نَرَهُ، وَلَا تُفَرِّقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ حَتَّى تُدْخِلَنَا مُدْخَلَهُ.

اللَّهُمَّ أَحْيِنَا عَلَى سُنَّتِهِ، وَأَمِتْنَا عَلَى مِلَّتِهِ، وَاحْشُرْنَا فِي زُمْرَتِهِ، وَتَحْتَ رَايَتِهِ، وَأَوْرِدْنَا حَوْضَهُ.

اللَّهُمَّ إِنَّا قُسَاةٌ فَلَيِّنَا، قُسَاةٌ فَلَيِّنَا، قُسَاةٌ فَلَيِّنَا، جُهَلَاءُ فَعَلِّمْنَا، جُهَلَاءُ فَعَلِّمْنَا.

نَسْأَلُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَرْضَى عَنْ أَصْحَابِ نَبِيِّنَا الْأَمِينِ ﷺ أَجْمَعِينَ، وَأَنْ يَجْمَعَنَا مَعَهُمْ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْجَنَّةِ، إِنَّهُ -تَعَالَى- عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

 

المصدر:صُوَرٌ مُشْرِقَةٌ مِنْ حَيَاةِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  مَظَاهِرُ الْإِيجَابِيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ
  حُبُّ اللهِ وَرَسُولِهِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالِادِّعَاءِ
  مَفْهُومُ التَّنْمِيَةِ الشَّامِلَةِ
  الإِسْلَامُ دِينُ العَمَلِ وَقَضِيَّةُ الرِّزْقِ
  إلى أهل المغرب الحبيب
  التكفير .. أصوله وضوابطه
  إِعْمَالُ الْعَقْلِ فِي فَهْمِ النَّصِّ.. الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَدْرَسَتُهُ الْفِقْهِيَّةُ أُنْمُوذَجًا
  الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ رِسَالَةُ سَلَامٍ لِلْإِنْسَانِيَّةِ
  لو صدق لكان خيرًا له
  فَضْلُ يَوْمِ عَرَفَةَ،وَالدُّرُوسُ الْمُسْتَفَادَةُ مِنْ خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان