وَاجِبُ الْمُعَلِّمِ وَالْمُتَعَلِّمِ

وَاجِبُ الْمُعَلِّمِ وَالْمُتَعَلِّمِ

((وَاجِبُ الْمُعَلِّمِ وَالْمُتَعَلِّمِ))

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((نَصِيحَةٌ غَالِيَةٌ قَبْلَ بِدَايَةِ الْعَامِ الدِّرَاسِيِّ))

فَإِنَّهُ قَبْلَ بِدَايَةِ الْعَامِ الدِّرَاسِيِّ لَا نَجِدُ فِي النُّصْحِ أَفْضَلَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ.. قَبْلَ الْإِقْبَالِ عَلَى الِاخْتِلَاطِ الْمَفْتُوحِ, وَالتَّسَيُّبِ الْمَفْضُوحِ, وَاللَّامُبَالَاةِ الَّتِي لَا حِسَابَ لَهَا, وَالرَّتْعِ فِي شَهَوَاتٍ لَا نِهَايَةَ لِحَدِّهَا، قَبْلَ ذَلِكَ كُلِّهِ لَا يَجِدُ الْإِنْسَانُ خَيْرًا مِنْ كَلَامِ نَبِيِّهِ ﷺ تَذْكِيرًا لِلشَّبَابِ, وَحَضًّا لَهُمْ عَلَى الْأَخْذِ بِمَوْفُورِ الْوَقَارِ, وَالْبُعْدِ عَنْ مَوَاطِنِ الزَّلَلِ؛ لِأَنَّ الْأُمَّةَ قَدْ عَقَدَتْ مَنَاطَ رَجَائِهَا عَلَيْهِمْ, وَأَسْلَمَتْ زِمَامَ قِيَادِهَا إِلَيْهِمْ؛ فَأَصْبَحُوا مَأْمُونِينَ عَلَى أَمَانَةٍ جَلِيلَةٍ مِنْ أَجْلِ إِخْرَاجِ الْأُمَّةِ مِمَّا هِيَ فِيهِ مِنْ تَخَلُّفِهَا, وَبُعْدِهَا عَنِ الرَّكْبِ الَّذِي أَصْبَحَ قَائِدًا الْبَشَرِيَّةَ إِلَى وَهْدَةٍ فِي حَضِيضٍ هَابِطٍ إِلَى أَسْفَلَ سَافِلِينَ؛ مِنْ لَذَّاتٍ, وَشَهَوَاتٍ أُطْلِقَتْ مِنْ عِقَالِهَا بِحَيْثُ لَا يَحْبِسُهَا حَابِسٌ وَلَا يَرُدُّهَا رَادٌّ.

إِنَّ الْأُمَّةَ الْيَوْمَ تَعْقِدُ رَجَاءَهَا بِأَمْرِ رَبِّهَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- عَلَى شَبَابِهَا الَّذِي يُؤْمِنُ بِرَبِّهِ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَعُودَ الْأَمْرُ مُصَحَّحًا إِلَى سَبِيلِهِ السَّوِيِّ, وَطَرِيقِهِ الْمَرْضِيِّ بَعِيدًا عَنْ عَسْفِ الشَّهَوَاتِ, وَتَخَبُّطِ اللَّذَّاتِ, وَبَعِيدًا عَنِ الْخَبْطِ فِي أَوْدِيَةِ الضَّلَالَاتِ, وَرُجُوعًا إِلَى النَّهْجِ الْأَحْمَدِ وَالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.

لَا يَجِدُ الْمَرْءُ فِي النَّصِيحَةِ خَيْرًا مِنْ كَلَامِ رَبِّهِ, وَمِنْ وَحْيِهِ إِلَى نَبِيِّهِ ﷺ: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} [النور: 33], وَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ! مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ».

النَّبِيُّ ﷺ حَضَّ الشَّبَابَ عَلَى مَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ -بِرَحْمَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ- عَاصِمًا لِلشَّابِّ مِنْ أَنْ يَتَلَوَّثَ شَبَابُهُ بِمَا يَشِينُهُ, وَأَنْ يَتَوَرَّطَ فِي مَعْصِيَةٍ مِنْ مَعَاصِي اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- بِإِطْلَاقِ الْبَصَرِ, وَالْبَطْشِ بِالْيَدِ, وَالسَّعْيِ بِالرِّجْلِ اقْتِرَافًا لِلزِّنَا وَإِن لَمْ يَسْتَوْجِبْ حَدًّا, فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظُّهُ مِنَ الزِّنَا, فَهُوَ مُدْرِكٌ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ، وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا الْبَطْشُ، وَاللِّسَانُ يَزْنِي وَزِنَاهُ الْكَلَامُ، وَالْأُذُنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا الِاسْتِمَاعُ، وَالرِّجْلَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا السَّعْيُ، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ».

فَسَمَّى الرَّسُولُ ﷺ ذَلِكَ كُلَّهُ زِنًا, وَبَيَّنَ لَنَا نَبِيُّنَا ﷺ أَنَّهُ مَكْتُوبٌ حَظًّا عَلَى كُلِّ مَنْ كَانَ مِنْ نَسْلِ آدَمَ مَنْسُولًا إِلَّا مَنِ اتَّقَى اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ, وَأَخَذَ بِمَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ الْأَمِينُ ﷺ فَحَبَسَ مَادَّةَ الشَّهْوَةِ مِنْ أَصْلِهَا, وَجَفَّفَهَا فِي مَنَابِعِهَا؛ حَتَّى لَا تَسْرِيَ الدِّمَاءُ, وَحَتَّى لَا تَشْتَعِلَ الْغَرَائِزُ بِثَوْرَةٍ عَارِمَةٍ قَدْ لَا تُكَفُّ إِلَّا بِالْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ.

وَالرَّسُولُ ﷺ يَتَكَلَّمُ بِالْوَحْيِ, وَيَنْطِقُ بِالْغَيْبِ, وَالرَّسُولُ ﷺ كَأَنَّمَا يَنْظُرُ إِلَى الْآتِي مِنْ خِلَالِ سِتْرٍ شَفِيفٍ يُبِينُ عَمَّا وَرَاءَهُ؛ فَيَضَعُ الْحَوَاجِزَ, وَيَضْبِطُ الْقُيُودَ, وَيَجْعَلُ لِلْإِنْسَانِ الْمُسْلِمِ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حِيَاطَةً لَهُ بِأَمْرِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- قَبْلَ بِدَايَةِ الْعَامِ الدِّرَاسِيِّ, قَبْلَ الِاخْتِلَاطِ الْمُبْهَمِ الْمُدَمْدَمِ بِثَوْرَةِ اللَّذَّاتِ, وَالْبُعْدِ عَنِ الْأَخْذِ بِالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حِيَاطَةً لِلنَّفْسِ عَنِ الْوُقُوعِ فِي اللَّذَّاتِ, وَإِثَارَةِ الشَّهَوَاتِ, وَالْإِقْبَالِ عَلَى الرِّسَالَةِ الَّتِي عَقَدَتِ الْأُمَّةُ رَجَاءَهَا فِي اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى تَحْقِيقِهَا مِنْ خِلَالِ شَبَابِهَا, بِإِقْبَالِهِمْ عَلَى الْعِلْمِ, وَتَوَفُّرِهِمْ بِجُهْدِهِمْ عَلَيْهِ فِي الْأَصْبَاحِ وَالْأَمْسَاءِ, وَبَذْلِ الْمَجْهُودِ, وَإِعَانَةِ الْمَكْدُودِ, وَالْأَخْذِ بِمَا أَمَرَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ مِنْ تَحْصِيلِ الْقُوَّةِ إِعْدَادًا؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَمَرَ الْأُمَّةَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ بِإِعْدَادِ مَا اسْتَطَاعُوا مِنَ الْقُوَّةِ, وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَا يُحِبُّ التَّوَانِي, وَلَا يُحِبُّ الْكَسَلَ, وَلَا يُحِبُّ الْعَجْزَ, وَإِنَّمَا مَلَّكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْإِنْسَانَ الْأَسْبَابَ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَكُونَ بِهَا آخِذًا, وَلَهَا آتِيًا, وَبِهَا فِي كَوْنِ اللهِ عَامِلًا، فَإِذَا مَا وَقَعَ التَّفْرِيطُ فِي الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ؛ فَلَا يَلُومَنَّ امْرُؤٌ إِلَّا نَفْسَهُ, وَلَا تَلُومَنَّ أُمَّةٌ إِلَّا نَفْسَهَا.

قَبْلَ بِدَايَةِ الْعَامِ الدِّرَاسِيِّ لَا نَجِدُ نُصْحًا لِشَبَابِنَا الْمُقْبِلِ عَلَى عَامِهِ الدِّرَاسِيِّ الْحَمِيدِ -إِنْ شَاءَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-- إِقْبَالًا عَلَى الْعِلْمِ بِنَهَمٍ لَا يَكَادُ يَشْبَعُ مِنْهُ الْمَرْءُ مَهْمَا أُوتِيَ مِنْ عِلْمٍ, كَمَا بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَنْهُومَانِ لَا يَشْبَعَانِ: طَالِبُ عِلْمٍ, وَطَالِبُ مَالٍ)).

إِنَّ الْأُمَّةَ الَّتِي عَقَدَتْ رَجَاءَهَا عَلَى رَبِّهَا بِأَخْذِ شَبَابِهَا بِأَسْبَابِ الْقُوَّةِ تَحْصِيلًا وَإِعْمَالًا لَهَا فِي كَوْنِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ لِتَعُودَ لِلْأُمَّةِ رِيَادَتُهَا, وَلِيَعُودَ لِلْأُمَّةِ سَبْقُهَا بِفَضْلِ رَبِّهَا, لِأَنَّ الضَّعِيفَ الْعَاجِزَ يُؤَثَّرُ فِيهِ وَلَا يُؤَثِّرُ, وَيَتَأَثَّرُ وَلَا يُؤَثِّرُ, لِأَنَّ الضَّعِيفَ الْعَاجِزَ يَكُونُ الطَّمَعُ فِيهِ قَائِمًا, وَلِأَنَّ الشَّرَّ مَتَى مَا وَجَدَ الْحَقَّ مُتَهَاوِنًا؛ عَدَا عَلَيْهِ بجُنْدِهِ وَرَجِلِهِ وَخَيْلِهِ, وَحَاوَلَ أَنْ يَئِدَهُ فِي مَهْدِهِ, وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.


 

((فَضْلُ الْعِلْمِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ))

لَقَدْ تَضَافَرَتْ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِمَا لَا يُحْصَى عِدَّةً وَلَا يُسْتَقْصَى كَثْرَةً عَلَى بَيَانِ رِفْعَةِ شَأْنِ الْعِلْمِ وَأَهْلِهِ، وَالتَّرْغِيبِ فِي النَّهْلِ مِنْ مَعِينِهِ الصَّافِي وَسَلْسَبِيلِهِ الْعَذْبِ الشَّافِي.

 ((لَقَدْ مَدَحَ اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الْعِلْمَ وَأَهْلَهُ، وَحَثَّ عِبَادَهُ عَلَى الْعِلْمِ وَالتَّزَوُّدِ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ السُّنَّةُ الْمُطَهَّرَةُ.

فَالْعِلْمُ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَهُوَ مِنْ أَفْضَلِ وَأَجَلِّ الْعِبَادَاتِ.. عِبَادَاتِ التَّطَوُّعِ؛ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَإِنَّ دِينَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- إِنَّمَا قَامَ بِأَمْرَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: الْعِلْمُ وَالْبُرْهَانُ.

وَالثَّانِي: الْقِتَالُ وَالسِّنَانُ.

الْعِلْمُ نُورٌ يَهْتَدِي بِهِ الْإِنْسَانُ، وَيَخْرُجُ بِهِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، الْعِلْمُ يَرْفَعُ اللهُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ؛ {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11].

وَلِهَذَا نَجِدُ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ مَحَلُّ الثَّنَاءِ، كُلَّمَا ذُكِرُوا أُثْنِيَ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا رَفْعٌ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، أَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّهُمْ يَرْتَفِعُونَ دَرَجَاتٍ بِحَسَبِ مَا قَامُوا بِهِ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ وَالْعَمَلِ بِمَا عَلِمُوا.

بِالْعِلْمِ يَعْبُدُ الْإِنْسَانُ رَبَّهُ عَلَى بَصِيرَةٍ، فَيَتَعَلَّقُ قَلْبُهُ بِالْعِبَادَةِ، وَيَتَنَوَّرُ قَلْبُهُ بِهَا، وَيَكُونُ فَاعِلًا لَهَا عَلَى أَنَّهَا عِبَادَةٌ لَا عَلَى أَنَّهَا عَادَةٌ، وَلِهَذَا إِذَا صَلَّى الْإِنْسَانُ عَلَى هَذَا النَّحْوِ فَإِنَّهُ مَضْمُونٌ لَهُ مَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ مِنْ أَنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ».

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر: 9].

قَالَ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: (({قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ} رَبَّهُمْ وَيَعْلَمُونَ دِينَهُ الشَّرْعِيَّ وَدِينَهُ الْجَزَائِيَّ وَمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْأَسْرَارِ وَالْحِكَمِ، {وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ؟!!

لَا يَسْتَوِي هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ، كَمَا لَا يَسْتَوِي اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَالضِّيَاءُ وَالظَّلَامُ، وَالْمَاءُ وَالنَّارُ.

{إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ} إِذَا ذُكِّرُوا {أُوْلُوا الأَلْبَابِ}؛ أَيْ: أَهْلُ الْعُقُولِ الزَّكِيَّةِ الذَّكِيَّةِ، فَهُمُ الَّذِينَ يُؤْثِرُونَ الْأَعْلَى عَلَى الْأَدْنَى، فَيُؤْثِرُونَ الْعِلْمَ عَلَى الْجَهْلِ، وَطَاعَةَ اللهِ عَلَى مُخَالَفَتِهِ؛ لِأَنَّ لَهُمْ عُقُولًا تُرْشِدُهُمْ لِلنَّظَرِ فِي الْعَوَاقِبِ، بِخِلَافِ مَنْ لَا لُبَّ لَهُ وَلَا عَقْلَ فَإِنَّهُ يَتَّخِذُ إِلَهَهُ هَوَاهُ)).

وَظَهَرَتْ عِنَايَةُ الْإِسْلَامِ بِالْعِلْمِ وَالتَّرْغِيبِ فِيهِ مَعَ أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1-5].

((هَذِهِ السُّورَةُ أَوَّلُ السُّوَرِ الْقُرْآنِيَّةِ نُزُولًا عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ فَإِنَّهَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ فِي مَبَادِئِ النُّبُوَّةِ؛ إِذْ كَانَ لَا يَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ، فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِالرِّسَالَةِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْرَأَ، فَامْتَنَعَ وَقَالَ: ((مَا أَنَا بِقَارِئٍ))، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى قَرَأَ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}؛ خَلَقَ عُمُومَ الْخَلْقِ، ثُمَّ خَصَّ الْإِنْسَانَ وَذَكَرَ ابْتِدَاءَ خَلْقِهِ.

{خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ}: فَالَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَاعْتَنَى بِتَدْبِيرِهِ لَا بُدَّ أَنْ يُدَبِّرَهُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَذَلِكَ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ، وَلِهَذَا أَتَى بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْقِرَاءَةِ بِخَلْقِهِ لِلْإِنْسَانِ.

ثُمَّ قَالَ: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ}؛ أَيْ: كَثِيرُ الصِّفَاتِ وَاسِعُهَا، كَثِيرُ الْكَرَمِ وَالْإِحْسَانِ، وَاسِعُ الْجُودِ، الَّذِي مِنْ كَرَمِهِ أَنْ عَلَّمَ أَنْوَاعَ الْعُلُومِ.

وَ{الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}؛ فَإِنَّهُ -تَعَالَى- أَخْرَجَهُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا، وَجَعَلَ لَهُ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ، وَيَسَّرَ لَهُ أَسْبَابَ الْعِلْمِ، فَعَلَّمَهُ الْقُرْآنَ، وَعَلَّمَهُ الْحِكْمَةَ، وَعَلَّمَهُ بِالْقَلَمِ الَّذِي تُحْفَظُ بِهِ الْعُلُومُ، وَتُضْبَطُ الْحُقُوقُ، وَتَكُونُ رُسُلًا لِلنَّاسِ تَنُوبُ مَنَابَ خِطَابِهِمْ.

فَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ الَّذِي أَنْعَمَ عَلَى عِبَادِهِ بِهَذِهِ النِّعَمِ الَّتِي لَا يَقْدِرُونَ لَهَا عَلَى جَزَاءٍ وَلَا شُكُورٍ، ثُمَّ مَنَّ عَلَيْهِمْ بِالْغِنَى وَسَعَةِ الرِّزْقِ)).

وَقَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ ۚ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد: 19].

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((لَا يَسْتَوِي مَنْ يَعْلَمُ مِنَ النَّاسِ أَنَّ الَّذِي {أُنزِلَ إِلَيْكَ} يَا مُحَمَّدُ {مِن رَّبِّكَ} هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا مِرْيَةَ، وَلَا لَبْسَ فِيهِ وَلَا اخْتِلَافَ فِيهِ، بَلْ هُوَ كُلُّهُ حَقٌّ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، لَا يُضَادُّ شَيْءٌ مِنْهُ شَيْئًا آخَرَ، فَأَخْبَارُهُ كُلُّهَا حَقٌّ، وَأَوَامِرُهُ وَنَوَاهِيهِ عَدْلٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام: 115]؛ أَيْ: صِدْقًا فِي الْأَخْبَارِ، وَعَدْلًا فِي الطَّلَبِ، فَلَا يَسْتَوِي مَنْ تَحَقَّقَ صِدْقَ مَا جِئْتَ بِهِ يَا مُحَمَّدُ، وَمَنْ هُوَ أَعْمَى لَا يَهْتَدِي إِلَى خَيْرٍ وَلَا يَفْهَمُهُ، وَلَو فَهِمَهُ مَا انْقَادَ لَهُ، وَلَا صَدَّقَهُ وَلَا اتَّبَعَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۚ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر: 20]، وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: { أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ}؛ أَيْ: أَفَهَذَا كَهَذَا؟!! لَا اسْتِوَاءَ.

وَقَوْلُهُ: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ}؛ أَيْ: إِنَّمَا يَتَّعِظُ وَيَعْتَبِرُ وَيَعْقِلُ أُولُو الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ الصَّحِيحَةِ، جَعَلَنَا اللهُ مِنْهُمْ)).

وَكَذَلِكَ سُنَّةُ النَّبِيِّ ﷺ تَكَاثَرَتْ فِيهَا النُّصُوصُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى شَرَفِ الْعِلْمِ وَفَضْلِهِ، وَعَلَى قَدْرِ الْعُلَمَاءِ عِنْدَ اللهِ وَفِي الْحَيَاةِ.

 ((مِنْ فَضَائِلِ الْعِلْمِ: أَنَّهُ طَرِيقُ الْجَنَّةِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَمِنْ فَضَائِلِ الْعِلْمِ: مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ))؛ أَيْ: يَجْعَلْهُ فَقِيهًا فِي دِينِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

وَالْفِقْهُ فِي الدِّينِ لَا يُقْصَدُ بِهِ فِقْهُ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ فِي مُصْطَلَحِ الْفِقْهِ، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ هُوَ: عِلْمُ التَّوْحِيدِ وَأُصُولِ الدِّينِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِشَرِيعَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثُ فِي فَضْلِ الْعِلْمِ لَكَانَ كَافِيًا فِي الْحَثِّ عَلَى طَلَبِ عِلْمِ الشَّرِيعَةِ وَالْفِقْهِ فِيهَا)).

((مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ)): مَنْطُوقٌ ظَاهِرٌ، مَفْهُومُهُ: أَنَّ مَنْ لَمْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا لَمْ يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ لَمْ يُرِدْ بِهِ خَيْرًا.

وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: ((مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ يَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، إِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ».

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٍ آتَاهُ اللهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٍ آتَاهُ اللهُ حِكْمَةً فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا».

وَالْمُرَادُ بِالْحَسَدِ فِي الْحَدِيثِ: الْغِبْطَةُ؛ وَهِيَ: أَنْ يَتَمَنَّى مِثْلَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَزُولَ مَا أَنْعَمَ اللهُ -تَعَالَى- عَلَيْهِ بِهِ.

وَمَعْنَاهُ: يَنْبَغِي أَلَّا يَغْبِطَ أَحَدٌ أَحَدًا إِلَّا فِي هَاتَيْنِ الْخَصْلَتَيْنِ الْمُوصِلَتَيْنِ إِلَى رِضَاءِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ لِعَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((فَوَاللهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ)). أَخْرَجَاهُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَالْعِلْمُ أَفْضَلُ مِنَ الْمَالِ؛ فَقَدْ نَصَحَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كُمَيْلَ بْنَ زِيَادٍ فَقَالَ لَهُ: ((يَا كُمَيْلُ! الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَالِ، الْعِلْمُ يَحْرُسُكَ وَأَنْتَ تَحْرُسُ المَالَ، وَالْمَالُ تُنْقِصُهُ النَّفَقَةُ، وَالْعِلْمُ يَزْكُو عَلَى الْإِنْفَاقِ، وَصَنِيعُ الْمَالِ يَزُولُ بِزَوَالِهِ، الْعِلْمُ حَاكِمٌ وَالْمَالُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ)).

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((قَوْلُهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَالِ، الْعِلْمُ يَحْرُسُكَ وَأَنْتَ تَحْرُسُ المَالَ))؛ يَعْنِي: أَنَّ الْعِلْمَ يَحْفَظُ صَاحِبَهُ وَيَحْمِيهِ مِنْ مَوَارِدِ الْهَلَكَةِ وَمَوَاقِعِ الْعَطَبِ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُلْقِي نَفْسَهُ فِي هَلَكَةٍ إِذَا كَانَ عَقْلُهُ مَعَهُ، وَلَا يُعَرِّضُهَا لِمُتْلِفٍ إِلَّا إِذَا كَانَ جَاهِلًا بِذَلِكَ، لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ، فَهُوَ كَمَنْ يَأْكُلُ طَعَامًا مَسْمُومًا، فَالْعَالِمُ بِالسُّمِّ وَضَرَرِهِ يَحْرُسُهُ عِلْمُهُ، وَيَمْتَنِعُ بِهِ مِنْ أَكْلِهِ، وَالْجَاهِلُ بِهِ يَقْتُلُهُ جَهْلُهُ، فَهَذَا مَثَلُ حِرَاسَةِ الْعِلْمِ لِلْعَالِمِ)).

وَقَالَ -أَيْضًا- -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّ أَوْلَى مَا يَتَنَافَسُ فِيهِ الْمُتَنَافِسُونَ، وَأَحْرَى مَا يَتَسَابَقُ فِي حَلْبَةِ سِبَاقِهِ الْمُتَسَابِقُونَ؛ مَا كَانَ بِسَعَادَةِ الْعَبْدِ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ كَفِيلًا، وَعَلَى طَرِيقِ هَذِهِ السَّعَادَةِ دَلِيلًا، وَذَلِكَ: الْعِلْمُ النَّافِعُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، اللَّذَانِ لَا سَعَادَةَ لِلْعَبْدِ إِلَّا بِهِمَا، وَلَا نَجَاةَ لَهُ إِلَّا بِالتَّعَلُّقِ بِسَبَبِهِمَا، فَمَنْ رُزِقَهُمَا فَقَدْ فَازَ وَغَنِمَ، وَمَنْ حُرِمَهُمَا فَالْخَيْرَ كُلَّهُ حُرِمَ، وَهُمَا مَوْرِدُ انْقِسَامِ الْعِبَادِ إِلَى مَرْحُومٍ وَمَحْرُومٍ، وَبِهِمَا يَتَمَيَّزُ الْبَرُّ مِنَ الْفَاجِرِ، وَالتَّقِيُّ مِنَ الْغَوِيِّ, وَالظَّالِمُ مِنَ الْمَظْلُومِ)).

فَهَذِهِ كُلُّهَا مِنْ آيَاتِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَمِنْ أَحَادِيثِ النَّبِيِّ ﷺ، وَكَذَا هَذِهِ الْإِشَارَةُ.. هَذِهِ الْوَمْضَةُ مِنْ كَلَامِ عُلَمَائِنَا -عَلَيْهِمُ الرَّحْمَةُ- كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى فَضِيلَةِ الْعِلْمِ وَعَظِيمِ قَدْرِهِ، بَلْ يَكْفِي فِي ذَلِكَ -كَمَا قَالَ الْعُلَمَاءُ-: ((أَنَّ الْجَاهِلَ الَّذِي يُقِرُّ بِجَهْلِهِ بَيْنَ نَفْسِهِ وَعِنْدَ غَيْرِهِ إِذَا وُصِفَ بِالْعِلْمِ فَرِحَ، وَإِذَا وُصِفَ بِمَا هُوَ فِيهِ غَضِبَ وَابْتَأَسَ))، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ هَذَا الْأَمْرِ الْكَبِيرِ.

يَكْفِي أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَدَّمَ كَلْبًا عَلَى كَلْبٍ بِالْعِلْمِ, فَإِنَّ الْكَلْبَ الْمُعَلَّمَ إِذَا اصْطَادَ شَيْئًا فَإِنَّهُ يَحِلُّ أَكْلُهُ, وَأَمَّا الْكَلْبُ الْجَاهِلُ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ مَا أَمْسَكَ عَلَى صَاحِبِهِ.

فَرَفَعَ اللهُ -تَعَالَى- بِالْعِلْمِ كَلْبًا عَلَى كَلْبٍ, فَلَيْسَ الْمُعَلَّمُ مِنَ الْكِلَابِ كَالْجَاهِلِ مِنْهَا فَكَيْفَ بِالْبَشَرِ؟!!


 

((أَشْرَفُ الْعُلُومِ وَأَعْلَاهَا وَأَسْمَاهَا))

((إِنَّ الْعِلْمَ الشَّرْعِيَّ هُوَ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الثَّنَاءُ وَيَكُونُ الْحَمْدُ لِفَاعِلِهِ، وَلَكِنِّي مَعَ ذَلِكَ لَا أُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ لِلْعُلُومِ الْأُخْرَى فَائِدَةٌ، وَلَكِنَّهُا فَائِدَةٌ ذَاتُ حَدَّيْنِ: إِنْ أَعَانَتْ عَلَى طَاعَةِ اللهِ وَعَلَى نَصْرِ دِينِ اللهِ وَانْتَفَعَ بِهَا عِبَادُ اللهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ خَيْرًا وَمَصْلَحَةً.

وَقَدْ يَكُونُ تَعَلُّمُهَا وَاجِبًا فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ دَاخِلًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60].

وَقَدْ ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ تَعَلُّمَ الصِّنَاعَاتِ فَرْضُ كِفَايَةٍ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّاسَ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ أَنْ يَطْبُخُوا بِهَا، وَيَشْرَبُوا بِهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يَنْتَفِعُونَ بِهَا)).

 ((اعْلَمْ أَنَّ شَرَفَ الْعِلْمِ تَابِعٌ لِشَرَفِ مَعْلُومِهِ؛ لِوُثُوقِ النَّفْسِ بِأَدِلَّةِ وُجُودِهِ وَبَرَاهِينِهِ، وَلِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَى مَعْرِفَتِهِ، وَعِظَمِ النَّفْعِ بِهَا.

وَلَا رَيْبَ أَنَّ أَجَلَّ مَعْلُومٍ وَأَعْظَمَهُ وَأَكْبَرَهُ؛ فَهُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَقَيُّومُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ، الْمَلِكُ الْحَقُّ الْمُبِينُ، الْمَوْصُوفُ بِالْكَمَالِ كُلِّهِ، الْمُنَزَّهُ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ وَنَقْصٍ، وَعَنْ كُلِّ تَمْثِيلٍ وَتَشْبِيهٍ فِي كَمَالِهِ.

وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْعِلْمَ بِهِ وَبِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ أَجَلُّ الْعُلُومِ وَأَفْضَلُهَا، وَنِسْبَتُهُ إِلَى سَائِرِ الْعُلُومِ كَنِسْبَةِ مَعْلُومِهِ إِلَى سَائِرِ الْمَعْلُومَاتِ.

وَكَمَا أَنَّ الْعِلْمَ بِهِ أَجَلُّ الْعُلُومِ وَأَشْرَفُهَا؛ فَهُوَ أَصْلُهَا كُلِّهَا، كَمَا أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ فَهُوَ مُسْتَنِدٌ فِي وُجُودِهِ إِلَى الْمَلِكِ الْحَقِّ الْمُبِينِ، وَمُفْتَقِرٌ إِلَيْهِ فِي تَحْقِيقِ ذَاتِهِ وَآنِيَّتِهِ، وَكُلُّ عِلْمٍ فَهُوَ تَابِعٌ لِلْعِلْمِ بِهِ، مُفْتَقِرٌ فِي تَحَقُّقِ ذَاتِهِ إِلَيْهِ.

عِبَادَ اللهِ! الْعِلْمُ بِاللهِ أَصْلُ كُلِّ عِلْمٍ، وَهُوَ أَصْلُ عِلْمِ الْعَبْدِ بِسَعَادَتِهِ وَكَمَالِهِ وَمَصَالِحِ دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ، وَالْجَهْلُ بِهِ مُسْتَلْزِمٌ لِلْجَهْلِ بِنَفْسِهِ، وَمَصَالِحِهَا، وَكَمَالِهَا، وَمَا تَزْكُو بِهِ وَتُفْلِحُ بِهِ.

فَالْعِلْمُ بِهِ -تَعَالَى- سَعَادَةُ الْعَبْدِ، وَالْجَهْلُ بِهِ تَعَالَى أَصْلُ شَقَاوَةِ الْعَبْدِ)).


 

((حَثُّ دِينِ الْإِسْلَامِ عَلَى التَّرَقِّي فِي الْعُلُومِ الْمَادِّيَّةِ))

إِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ يَحُضُّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى التَّرَقِّي فِي الْعُلُومِ، وَفِي النَّظَرِ فِي آفَاقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَعَلَى النَّظَرِ فِي الْأَنْفُسِ، بَلْ وَعَلَى النَّظَرِ فِيمَا تَحْتَ الثَّرَى، وَهُوَ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ مَنْ وَصَلَ مِمَّنْ نَظَرُوا فِي أَمْثَالِ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي حَدَّدَهُ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، وَهُوَ مَا تَحْتَ الثَّرَى، فَاسْتَخْرَجُوا الْمَعَادِنَ، وَاسْتَخْرَجُوا تِلْكَ الْمَادَّةَ الَّتِي صَارَتْ طَاقَةً لَا يَسْتَغْنِي عَنْهَا الْعَالَمُ الْيَوْمَ.

وَكُلُّ ذَلِكَ أَشَارَ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ إِشَارَةً مُجْمَلَةً: {وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} [طه: 6].

فَالْمُسْلِمُونَ لَمَّا أَخَذُوا بِتَعَالِيمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَقَدَّمُوا حَتَّى مَلَكُوا الْعَالَمَ الْقَدِيمَ كُلَّهُ.

قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فَهَذَا الدِّينُ الْإِسْلَامِيُّ يَحُثُّ عَلَى الرُّقِّيِّ الصَّحِيحِ وَالْقُوَّةِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، عَكْسَ مَا افْتَرَاهُ أَعْدَاؤُهُ أَنَّهُ -أَيِ: الْإِسْلَامُ- مُخَدِّرٌ مُفَتِّرٌ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ كَذِبَهُمْ وَافْتَرَاءَهُمْ عَنْهُ، وَلَكِنَّ الْمُبَاهَتَاتِ وَالْمُكَابَرَاتِ سَهَّلَتْ عَلَيْهِمْ، وَظَنُّوا مِنْ جَهْلِهِمْ أَنَّهَا تَرُوجُ عَلَى الْعُقَلَاءِ.

وَكُلُّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ كَذِبَهُمْ وَافْتِرَاءَهُمْ، وَإِنَّمَا يَغْتَرُّ بِهِمُ الْجَاهِلُونَ الضَّالُّونَ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ عَنِ الْإِسْلَامِ لَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا.

بَلْ يُصَوِّرُ لَهُمْ هَؤُلَاءِ الْأَعْدَاءُ الْإِسْلَامَ بِصُوَرٍ شَنِيعَةٍ؛ لِيُرَوِّجُوا مَا يَقُولُونَهُ مِنَ الْبَاطِلِ، وَإِلَّا فَمَنْ عَرَفَ الْإِسْلَامَ مَعْرِفَةً صَحِيحَةً عَرَفَ أَنَّهُ لَا تَسْتَقِيمُ أُمُورُ الْبَشَرِ دِينِيُّهَا وَدُنْيَوِيُّهَا إِلَّا بِهِ، وَأَنَّ تَعَالِيمَهُ الْحَكِيمَةَ أَكْبَرُ بُرْهَانٍ عَلَى أَنَّهُ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ، عَالِمٍ بِالْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، رَحِيمٍ بِعِبَادِهِ؛ حَيْثُ شَرَعَ لَهُمْ هَذَا الدِّينَ)). انْتَهَى كَلَامُ السَّعْدِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ-.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! طِيبُوا نَفْسًا بِهَذَا الدِّينِ الْخَاتَمِ الَّذِي رَضِيَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَكُمْ، وَالَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْكُمْ بِهِ.

إِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ يَأْمُرُنَا أَنْ نَعْبُدَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَأَنْ نَجْتَهِدَ فِي النَّظَرِ فِي الْآفَاقِ وَفِي الْأَنْفُسِ، وَفِيمَا بَثَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي تَضَاعِيفِ هَذَا الْكَوْنِ مِنَ الْآيَاتِ؛ لِكَيْ نَضَعَ أَيْدِيَنَا عَلَى الْأَسْرَارِ الَّتِي تَرْتَقِي بِهَا الْحَيَاةُ.

فَجَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كُلَّ مَا يُؤَدِّي إِلَى تَرْقِيَةِ الْإِنْسَانِ فِيمَا هُوَ مَخْلُوقٌ لَهُ، جَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ عِبَادَةً لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

فَهَذَا الدِّينُ الْعَظِيمُ هُوَ دِينُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الَّذِي أَكْمَلَهُ وَرَضِيَهُ لِخَلْقِهِ فِي أَرْضِهِ، وَهُوَ يَحْمِلُ فِي آيَاتِهِ وَتَضَاعِيفِهِ الْبَرَاهِينَ الدَّالَّةَ عَلَى صِدْقِ مَنْ أَتَى بِهِ مِنْ لَدُنْ رَبِّهِ.


 

((آدَابُ الْمُعَلِّمِ))

هَذِهِ جُمْلَةٌ مِنْ آدَابِ الْمُعَلِّمِ وَالْمُتَعَلِّمِ بَيَّنَتْهَا نُصُوصُ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَأَحَادِيثُ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ ﷺ, وَمَنْ أَغْفَلَ هَذِهِ الْآدَابَ مِنْ مُعَلِّمٍ وَمُتَعَلِّمٍ انْمَحَقَتْ بَرَكَةُ عِلْمِهِ, وَسُدَّتْ فِي وَجْهِهِ سُبُلُ التَّحْصِيلِ.

فَمِنْهَا مَا هُوَ حَقٌّ مُتَأَكَّدٌ فِي حَقِّ كُلِّ مُسْلِمٍ؛ كَالْإِخْلَاصِ عِنْدَ التَّعْلِيمِ وَعِنْدَ الطَّلَبِ, فَهَذَا أَمْرٌ مَطْلُوبٌ فِي كُلِّ حِينٍ وَحَالٍ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْآدَابِ الَّتِي أَسْأَلُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يُؤَدِّبَنَا بِهَا أَجْمَعِينَ، وَأَنْ يُوَفِّقَنَا لِلْقِيَامِ بِحُقُوقِهَا عَلَى النَّحْوِ الْمُسْتَقِيمِ, إِنَّهُ -تَعَالَى- هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ.

وَهَذِهِ جُمْلَةٌ مِمَّا يَتَأَدَّبُ بِهِ الْمُعَلِّمُ.

التَّعْلِيمُ هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي بِهِ قِوَامُ الدِّينِ، وَبِهِ يُؤْمَنُ انْمِحَاقُ الْعِلْمِ, فَهُوَ مِنْ أَهَمِّ أُمُورِ الدِّينِ, وَمِنْ أَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ, وَآكَدِ الْفُرُوضِ -فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ-.

قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187].

وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا...} [البقرة: 159] الْآيَةَ.

وَفِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)) مِنْ طُرُقٍ, أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ)).

وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ, وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَيْهِ.

* وَمِنْ آدَابِ الْمُعَلِّمِ: أَنْ يَقْصِدَ بِتَعْلِيمِهِ وَجْهَ اللهِ -تَعَالَى-، وَلَا يَقْصِدَ بِهِ الْأَغْرَاضَ الدُّنْيَوِيَّةَ.

((فَمِنْ آدَابِهِمْ: أَنْ يَقْصِدُوا وَجْهَ اللهِ -تَعَالَى- بِتَعْلِيمِ مَنْ عَلَّمُوهُ، وَيَطْلُبُوا ثَوَابَهُ بِإِرْشَادِ مَنْ أَرْشَدُوا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْتَاضُوا عَلَيْهِ عِوَضًا, وَلَا يَلْتَمِسُوا عَلَيْهِ رِزْقًا)).

رَوَى مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ: رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا, قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟

قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ.

قَالَ: كَذَبْتَ, وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ! فَقَدْ قِيلَ, ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ.

وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ, فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا, قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟

قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ.

قَالَ: كَذَبْتَ, وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ! فَقَدْ قِيلَ, ثُمَّ أُمِرِ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلقِيَ فِي النَّارِ. وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ, فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا, قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟

قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ.

قَالَ: كَذَبْتَ, وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ: هُوَ جَوَادٌ! فَقَدْ قِيلَ, ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ)).

وَقَوْلُ الرَّسُولِ ﷺ فِي الْغَازِي وَالْعَالِمِ وَالْجَوَادِ وَعِقَابِهِمْ عَلَى فِعْلِهِمْ ذَلِكَ لِغَيْرِ اللهِ، وَإِدْخَالِهِمُ النَّارَ؛ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى تَغْلِيظِ تَحْرِيمِ الرِّيَاءِ وَشِدَّةِ عُقُوبَتِهِ، وَعَلَى الْحَثِّ عَلَى وُجُوبِ الْإِخْلَاصِ فِي الْأَعْمَالِ كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5].

فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقِفَ الْمُسْلِمُ عِنْدَ الْعُمُومَاتِ الْوَارِدَةِ فِي فَضْلِ مَا ذَكَرَ اللهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَذَكَرَ رَسُولُهُ ﷺ؛ فَإِنَّ تَحْصِيلَ الْأَجْرِ عَلَى ذَلِكَ، وَالِاسْتِحْوَاذَ عَلَى الثَّوَابِ فِيهِ لَيْسَ بِضَرْبَةِ لَازِبٍ, فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ جَاهَدَ يَكُونُ مُتَحَصِّلًا عَلَى الْأَجْرِ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ يَكُونُ مَأْجُورًا, وَكَذَلِكَ الْمُنْفِقُ, وَكَذَلِكَ مَنْ ذَكَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَذَكَرَ رَسُولُهُ مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ, وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يُؤَسَّسَ ذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى الْإِخْلَاصِ لِلهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

فَعَلَى طَالِبِ الْعِلْمِ أَنْ يُخْلِصَ نِيَّتَهُ لِلهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عِنْدَ بَدْءِ الطَّلَبِ, فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يُفَتِّشَ فِي نِيَّتِهِ حَتَّى تَسْتَقِيمَ عَلَى أَمْرِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-, وَأَنْ يَطْلُبَ الْعِلْمَ لِلهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

وَقَدِيمًا قَالَ عُلَمَاؤُنَا: ((طَلَبْنَا الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللهِ، فَأَبَى الْعِلْمُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِلهِ)).

وَفِيهَا قَوْلَانِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ: طَلَبْنَا الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللهِ؛ فَأَبَى الْعِلْمُ وَرَفَضَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ, إِنَّمَا الْعِلْمُ لِلهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

وَقَوْلٌ آخَرُ وَهُوَ: أَنَّهُمْ طَلَبُوا الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللهِ، فَاسْتَقَامَتْ نِيَّاتُهُمْ بِالْعِلْمِ الَّذِي تَعَلَّمُوهُ حَتَّى صَارَ لِلهِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَنْ يَقْصِدَ بِتَعْلِيمِهِ وَجْهَ اللهِ -تَعَالَى-, وَلَا يَقْصِدَ تَوَصُّلًا إِلَى غَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ؛ كَتَحْصِيلِ مَالٍ أَوْ جَاهٍ أَوْ شُهْرَةٍ أَوْ سُمْعَةٍ أَوْ تَمَيُّزٍ عَنِ الْأَشْبَاهِ أَوْ تَكَثُّرٍ بِالْمُشْتَغِلِينَ عَلَيْهِ أَوِ الْمُخْتَلِفِينَ إِلَيْهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ, وَلَا يَشِينُ عِلْمَهُ وَتَعْلِيمَهُ بِشَيْءٍ مِنَ الطَّمَعِ فِي رُفَقٍ تَحْصُلُ لَهُ مِنْ مُشْتَغِلٍ عَلَيْهِ مِنْ خِدْمَةٍ أَوْ مَالٍ أَوْ نَحْوِهِمَا وَإِنْ قَلَّ, وَلَوْ كَانَ عَلَى صُورَةِ الْهَدِيَّةِ الَّتِي لَوْلَا اشْتِغَالُهُ عَلَيْهِ لَمَا أَهْدَاهَا إِلَيْهِ.

وَدَلِيلُ هَذَا كُلِّهِ إِنَّمَا تَجِدُهُ فِي ذَمِّ مَنْ أَرَادَ بِعِلْمِهِ غَيْرَ اللهِ -تَعَالَى- مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ.

وَقَدْ صَحَّ عَنِ الشَّافِعِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ- أَنَّهُ قَالَ: ((وَدِدْتُ أَنَّ الْخَلْقَ تَعَلَّمُوا هَذَا الْعِلْمَ عَلَى أَلَّا يُنْسَبَ إِلَيَّ حَرْفٌ مِنْهُ))، وَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((مَا نَاظَرْتُ أَحَدًا قَطُّ عَلَى الْغَلَبَةِ))، ((وَدِدْتُ إِذَا نَاظَرْتُ أَحَدًا أَنْ يَظْهَرَ الْحَقُّ عَلَى يَدَيْهِ))، وَقَالَ: ((مَا كَلَّمْتُ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا وَدِدْتُ أَنْ يُوَفَّقَ وَيُسَدَّدَ وَيُعَانَ, وَيَكُونَ عَلَيْهِ رِعَايَةٌ مِنَ اللهِ وَحِفْظٌ)).

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ -رَحِمَهُ اللهُ- قَالَ: ((يَا قَوْمُ! أَرِيدُوا بِعِلْمِكُمُ الْآخِرَةَ؛ فَإِنِّي لَمْ أَجْلِسْ مَجْلِسًا قَطُّ أَنْوِي فِيهِ أَنْ أَتَوَاضَعَ إِلَّا لَمْ أَقُمْ حَتَّى أَعْلُوَهُمْ, وَلَمْ أَجْلِسْ مَجْلِسًا قَطُّ أَنْوِي فِيهِ أَنْ أَعْلُوَهُمْ إِلَّا لَمْ أَقُمْ حَتَّى أُفْتَضَحَ)))).

نَسْأَلُ اللهَ السَّتْرَ وَالْعَافِيَةَ.

قَالَ ابْنُ الْحَاجِّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَلَا تَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْعِلْمَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-)).

فَالْعِلْمُ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-, وَلَا تَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا.

وَإِذَا كَانَ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ فَيَتَعَيَّنُ تَخْلِيصُهُ لِلهِ -تَعَالَى-، فَيَبْتَدِئُهُ أَوَّلًا بِالْإِخْلَاصِ الْمَحْضِ حَتَّى يَكُونَ الْأَصْلُ طَيِّبًا، فَتَأْتِي الْفُرُوعُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الطَّيِّبِ، فَيُرْجَى خَيْرُهُ، وَتَكْثُرُ بَرَكَتُهُ، وَالْقَلِيلُ مِنَ الْعِلْمِ مَعَ حُسْنِ النِّيَّةِ فِيهِ أَنْفَعُ وَأَعْظَمُ بَرَكَةً مِنَ الْكَثِيرِ مِنْهُ مَعَ تَرْكِ الْمُبَالَاةِ بِالْإِخْلَاصِ فِيهِ.

وَمِنْ ((مَراقِيْ الزُّلَفِ)) لِلْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ بْنِ الْعَرَبِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ- قَالَ: ((قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِوَجْهِ اللهِ لَمْ يَزَلْ مُعَانًا, وَمَنْ طَلَبَهُ لِغَيْرِ اللهِ لَمْ يَزَلْ مُهَانًا)).

هَذَا إِذَا كَانَ هُوَ الدِّاخِلَ بِنَفْسِهِ لِطَلَبِ الْعِلْمِ، فَإِنْ كَانَ وَلِيُّهُ هُوَ الَّذِي يُرْشِدُهُ لِذَلِكَ؛ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْوَلِيِّ أَنْ يُعَلِّمَهُ النِّيَّةَ فِيهِ, كَمَا يَأْخُذُ كَثِيرٌ مِنْ إِخْوَانِنَا أَبْنَاءَهُمْ إِلَى طَلَبِ الْعِلْمِ، فَيَنْبَغِي عَلَيْهِمْ أَنْ يُعَلِّمُوا أَبْنَاءَهُمُ النِّيَّةَ فِي الطَّلَبِ, وَلْيَحْذَرْ أَنْ يُرْشِدَهُ لِطَلَبِ الْعِلْمِ بِسَبَبِ أَنْ يَرْأَسَ بِهِ, أَوْ يَأْخُذَ مَعْلُومًا عَلَيْهِ, إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَجْمُلُ بِهِ؛ فَإِنَّ هَذَا سُمٌّ قَاتِلٌ يُخْرِجُ الْعِلْمَ عَنْ أَنْ يَكُونَ لِلهِ -تَعَالَى-.

بَلْ يَقْرَأُ وَيَجْتَهِدُ لِلهِ -جَلَّ وَعَلَا- خَالِصًا, فَإِنْ جَاءَ شَيْءٌ مِنْ غَيْبِ اللهِ -تَعَالَى- قَبِلَهَ عَلَى سَبِيلِ أَنَّهُ فُتُوحٌ مِنَ اللهِ -تَعَالَى- سَاقَهُ اللهُ إِلَيْهِ, لَا لِأَجْلِ إِجَارَةٍ أَوْ مُقَابَلَةٍ عَلَى مَا هُوَ بِصَدَدِهِ؛ إِذْ إِنَّ أَعْمَالَ الْآخِرَةِ لَا يُؤْخَذُ عَلَيْهَا عِوَضٌ.

أَعْمَالُ الْآخِرَةِ لَا يُؤْخَذُ عَلَيْهَا عِوَضٌ.

وَالْمُبَتَدِي يَحْتَاجُ إِلَى تَخْلِيصِ نِيَّتِهِ أَكْثَرَ مِنَ الْمُنْتَهِي؛ لِأَنَّ الْمُنْتَهِي عَارِفٌ بِالدَّسَائِسِ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَيْهِ إِنْ حَصَلَ لَهُ التَّوْفِيقُ لَهُ بِخِلَافِ الْمُبْتَدِي)).

الْأَدَبُ الثَّانِي: أَنْ يُشْفِقَ عَلَى الْمُتَعَلِّمِينَ.

((وَمِنْ آدَابِهِمْ: أَلَّا يُعَنِّفُوا مُتَعَلِّمًا، وَلَا يُحَقِّرُوا نَاشِئًا، وَلَا يَسْتَصْغِرُوا مُبْتَدِئًا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ أَدْعَى إِلَيْهِمْ، وَأَعْطَفُ عَلَيْهِمْ، وَأَحَثُّ عَلَى الرَّغْبَةِ فِيمَا لَدَيْهِمْ)).

قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَيَنْبَغِي أَلَّا يَتَعَظَّمَ عَلَى الْمُتَعَلِّمِينَ, بَلْ يَلِينُ لَهُمْ وَيَتَوَاضَعُ، فَقَدْ أُمِرَ بِالتَّوَاضُعِ لِآحَادِ النَّاسِ.

قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 88].

وَعَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

فَهَذَا فِي التَّوَاضُعِ لِمُطْلَقِ النَّاسِ, فَكَيْفَ بِهَؤُلَاءِ الْمُتَعَلِّمِينَ الَّذِينَ هُمْ كَأَوْلَادِهِ، مَعَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْمُلَازَمَةِ لِطَلَبِ الْعِلْمِ، وَمَعَ مَا لَهُمْ عَلَيْهِ مِنْ حَقِّ الصُّحْبَةِ، وَتَرَدُّدِهِمْ إِلَيْهِ وَاعْتِمَادِهِمْ عَلَيْهِ!)).

رَوَى مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ - يَعْنِي: وَهُمْ فِي الصَّلَاةِ-.

قَالَ: فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللهُ! قَالَ: فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ, فَقُلْتُ: وَاثُكْلَ أُمِّيَاهُ! مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ؟!.

كُلُّ هَذَا وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ..

فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيَهُمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ, فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي لَكِنِّي سَكَتُّ.

فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللهِ ﷺ -بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي- مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ؛ فَوَاللهِ مَا قَهَرَنِي وَلَا ضَرَبَنِي وَلَا شَتَمَنِي, قَالَ: ((إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ, إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ))، أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ.

قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((قَوْلُ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي! مَا أُرِيتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ))..

فِيهِ: بَيَانُ مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ مِنْ عَظِيمِ الْخُلُقِ الَّذِي شَهِدَ اللهُ -تَعَالَى- لَهُ بِهِ، وَرِفْقِهِ بِالْجَاهِلِ، وَرَأْفَتِهِ بِأُمَّتِهِ، وَشَفَقَتِهِ عَلَيْهِمْ.

وَفِيهِ: التَّخَلُّقُ بِخُلُقِهِ ﷺ فِي الرِّفْقِ بِالْجَاهِلِ، وَحُسْنِ تَعْلِيمِهِ، وَاللُّطْفِ بِهِ، وَتَقْرِيبِ الصَّوَابِ إِلَى فَهْمِهِ)).

الْأَدَبُ الثَّالِثُ مِنْ آدَابِ الْمُعَلِّمِينَ: النُّصْحُ لِمَنْ يُعَلِّمُونَهُمْ.

((وَمِنْ آدَابِهِمْ: نُصْحُ مَنْ عَلَّمُوهُمْ، وَالرِّفْقُ بِهِمْ، وَتَسْهِيلُ السَّبِيلِ عَلَيْهِمْ، وَبَذْلُ الْمَجْهُودِ فِي رِفْدِهِمْ وَمَعُونَتِهِمْ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ أَعْظَمُ لِأَجْرِهِمْ, وَأسْنَى لِذِكْرِهِمْ، وَأَنْشَرُ لِعُلُومِهِمْ، وَأَرْسَخُ لِمَعْلُومِهِمْ)).

قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَيَنْبَغِي أَنْ يُحَرِّضَهُمْ عَلَى الِاشْتِغَالِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَيُطَالِبَهُمْ فِي أَوْقَاتٍ بِإِعَادَةِ مَحْفُوظَاتِهِمْ, يَسْأَلُهُمْ عَمَّا ذَكَرَهُ لَهُمْ مِنَ الْمُهِمَّاتِ, فَمَنْ وَجَدَهُ حَافِظًا مُرَاعِيًا لَهُ؛ أَكْرَمَهُ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَأَشَاعَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ مَكْتُومًا مَخْفِيًّا مَا لَمْ يَخَفْ فَسَادَ حَالِهِ بِإِعْجَابٍ وَنَحْوِهِ.

وَمَنْ وَجَدَهُ مُقَصِّرًا عَنَّفَهُ إِلَّا أَنْ يَخَافَ تَنْفِيرَهُ, وَيُعِيدَهُ لَهُ حَتَّى يَحْفَظَهُ حِفْظًا رَاسِخًا، وَيُنْصِفَهُمْ فِي الْبَحْثِ, فَيَعْتَرِفَ بِفَائِدِةٍ يَقُولُهَا بَعْضُهُمْ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا، وَلَا يَحْسُدُ أَحَدًا مِنْهُمْ لِكَثْرَةِ تَحْصِيلِهِ؛ فَالْحَسَدُ حَرَامٌ لِلْأَجَانِبِ, وَهُنَا أَشَدُّ, فَإِنَّ هَذَا الْمُتَعَلِّمَ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ، وَهَذَا الْمُعَلِّمُ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدِ)).

وَمِنْ آدَابِهِمُ: التَّوَاضُعُ، وَمُجَانَبَةُ الْعُجْبِ.

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فَأَمَّا مَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ مِنَ الْأَخْلَاقِ الَّتِي بِهِمْ أَلْيَقُ وَلَهُمْ أَلْزَمُ؛ فَالتَّوَاضُعُ وَمُجَانَبَةُ الْعُجْبِ؛ لِأَنَّ التَّوَاضُعَ عَطُوفٌ، وَأَمَّا الْعُجْبُ فَمُنَفِّرٌ, وَهُوَ بِكُلِّ أَحَدٍ قَبِيحٌ، وَبِالْعُلَمَاءِ أَقْبَحُ؛ لِأَنَّ النَّاسَ بِهِمْ يَقْتَدُونَ، وَكَثِيرًا مَا يُدَاخِلُهُمُ الْإِعْجَابُ لِتَوَحُّدِهِمْ بِفَضِيلَةِ الْعِلْمِ.

وَلَوْ أَنَّهُمْ نَظَرُوا حَقَّ النَّظَرِ، وَعَمِلُوا بِمُوجَبِ الْعِلْمِ؛ لَكَانَ التَّوَاضُعُ بِهِمْ أَوْلَى، وَمُجَانَبَةُ الْعُجْبِ بِهِمْ أَحْرَى؛ لِأَنَّ الْعُجْبَ نَقْصٌ يُنَافِي الْفَضْلَ، فَلَا يَفِي مَا أَدْرَكُوهُ مِنْ فَضِيلَةِ الْعِلْمِ بِمَا لَحِقَهُمْ مِنْ نَقْصِ الْعُجْبِ.

فَيَنْبَغِي لِمَنْ عَلِمَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى نَفْسِهِ بِتَقْصِيرِ مَا قَصَّرَ فِيهِ؛ لِيَسْلَمَ مِنْ عُجْبِ مَا أَدْرَكَ مِنْهُ.

وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: ((إِذَا عَلِمْتَ فَلَا تُفَكِّرْ فِي كَثْرَةِ مَنْ دُونَكَ مِنَ الْجُهَّالِ، وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى مَنْ فَوْقَكَ مِنَ الْعُلَمَاءِ)).

مَنْ شَاءَ عَيْشًا هَنِيئًا يَسْتَفِيدُ بِهِ=فِي دِينِهِ ثُمَّ فِي دُنْيَاهُ إِقْبَالَا

فَلْيَنْظُرَنَّ إِلَى مَنْ فَوْقَهُ أَدَبًا=وَلْيَنْظُرَنَّ إِلَى مَنْ دُونَهُ مَالَا

وَقَلَّ مَا تَجِدُ بِالْعِلْمِ مُعْجَبًا، وَبِمَا أَدْرَكَ مُفْتَخِرًا، إِلَّا مَنْ كَانَ فِيهِ مُقِلًّا وَمُقَصِّرًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَجْهَلُ قَدْرَهُ وَيَحْسَبُ أَنَّهُ نَالَ بِالدُّخُولِ فِيهِ أَكْثَرَهُ.

فَأَمَّا مَنْ كَانَ فِيهِ مُتَوَجِّهًا وَمِنْهُ مُسْتَكْثِرًا؛ فَلَا يَعْلَمُ مِنْ بُعْدِ غَايَتِهِ وَالْعَجْزِ عَنْ إِدْرَاكِ نِهَايَتِهِ مَا يَصُدُّهُ عَنِ الْعُجْبِ بِهِ.

وَقَدْ قَالَ الشَّعْبِيُّ: ((الْعِلْمُ ثَلَاثَةُ أَشْبَارٍ, فَمَنْ نَالَ مِنْهُ شِبْرًا شَمَخَ بِأَنْفِهِ وَظَنَّ أَنَّهُ نَالَهُ, وَمَنْ نَالَ الشِّبْرَ الثَّانِي صَغُرَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَنَلْهُ, وَأَمَّا الشِّبْرُ الثَّالِثُ فَهَيْهَاتَ! لَا يَنَالُهُ أَحَدٌ أَبَدًا)))).

وَمِنْ آدَابِهِمْ: أَلَّا يُحَدِّثَ الْقَلِيلَ الْفَهْمِ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ فَهْمُهُ.

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلْعَالِمِ فِرَاسَةٌ يَتَوَسَّمُ بِهَا الْمُتَعَلِّمَ؛ لِيَعْرِفَ مَبْلَغَ طَاقَتِهِ وَقَدْرَ اسْتِحْقَاقِهِ؛ لِيُعْطِيَهُ مَا يَتَحَمَّلُهُ بِذَكَائِهِ، أَوْ يَضْعُفُ عَنْهُ بِبَلَادَتِهِ، فَإِنَّهُ أَرْوَحُ لِلْعَالِمِ، وَأَنْجَحُ لِلْمُتَعَلِّمِ.

وَقَدْ رَوَى ثَابِتٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ لِلهِ عِبَادًا يَعْرِفُونَ النَّاسَ بِالتَّوَسُّمِ)). أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْأَوْسَطِ)), وَحَسَّنَهُ لِغَيْرِهِ الْأَلْبَانِيُّ.

وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((إِذَا أَنَا لَمْ أَعْلَمْ مَا لَمْ أَرَ؛ فَلَا عَلِمْتُ مَا رَأَيْتُ)).

وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: ((لَا عَاشَ بِخَيْرٍ مَنْ لَمْ يَرَ بِرَأْيِهِ مَا لَمْ يَرَ بِعَيْنَيْهِ)).

وَإِذْ كَانَ الْعَالِمُ فِي تَوَسُّمِ الْمُتَعَلِّمِينَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ, وَكَانَ بِقَدْرِ اسْتِحَقَاقِهِمْ خَبِيرًا، لَمْ يَضِعْ لَهُ عَنَاءٌ، وَلَمْ يَخِبْ عَلَى يَدَيْهِ صَاحِبٌ, وَإِنْ لَمْ يَتَوَسَّمْهُمْ وَخَفِيَتْ عَلَيْهِ أَحْوَالُهُمْ وَمَبْلَغُ اسْتِحْقَاقِهِمْ؛ كَانُوا وَإِيَّاهُ فِي عَنَاءٍ مُكِبٍّ، وَتَعَبٍ غَيْرِ مُجْدٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْدِمُ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ ذَكِيٌّ يَحْتَاجُ إِلَى الزِّيَادَةِ، وَبَلِيدٌ يَكْتَفِي بِالْقَلِيلِ, فَيَضْجَرُ الذَّكِيُّ مِنْهُ, وَيَعْجِزُ الْبَلِيدُ عَنْهُ, وَمَنْ يُرَدِّدُ أَصْحَابَهُ بَيْنَ عَجْزٍ وَضَجَرٍ مَلُّوهُ وَمَلَّهُمْ)).

* وَمِنْ آدَابِهِمْ: أَنْ يَتَحَفَّظَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ وَطْءِ عَقِبِهِ.

قَالَ ابْنُ الْحَاجِّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَيَنْبَغِي لِلْمُعَلِّمِ -أَيْضًا-: أَنْ يَتَحَفَّظَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ مَشْيِ النَّاسِ مَعَهُ وَمِنْ خَلْفِهِ، وَمِنْ وَطْءِ عَقِبِهِ، وَتَقْدِيمِهِمْ نَعْلَهُ، وَاتِّكَائِهِ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا لِضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ؛ فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ مَثَارُهُ مِنَ الْكِبْرِ وَالْخُيَلَاءِ وَقُوَّةِ النَّفْسِ غَالِبًا, وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ مُتَوَاضِعًا, لَكِنْ ظَاهِرُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ تُنَافِي ذَلِكَ، وَتَجُرُّ إِلَى الْمَذْمُومِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ، وَكَفَى بِهِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلسَّلَفِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-.

قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَضَرُّ مَا عَلَى الْإِنْسَانِ وَطْءُ عَقِبِهِ))، أَوْ كَمَا قَالَ.

وَوَطْءُ الْعَقِبِ: هُوَ الْمَشْيُ خَلْفَهُ)).

قَالَ: ((أَضَرُّ مَا عَلَى الْإِنْسَانِ وَطْءُ عَقِبِهِ))؛ يَعْنِي: أَنْ يَمْشِيَ النَّاسُ خَلْفَهُ.

* وَمِنْ آدَابِهِمْ: أَنْ يَكُونَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ عَامِلًا بِعِلْمِهِ, حَاثًّا النَّفْسَ عَلَى أَنْ تَأْتَمِرَ بِمَا يَأْمُرُ بِهِ.

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَلْيَكُنْ مِنْ شِيمَتِهِ الْعَمَلُ بِعِلْمِهِ، وَحَثُّ النَّفْسِ عَلَى أَنْ تَأْتَمِرَ بِمَا يَأْمُرُ بِهِ، وَلَا يَكُنْ مِمَّنْ قَالَ اللهُ -تَعَالَى- فِيهِمْ: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5].

فَقَدْ قَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} [يوسف: 68]؛ يَعْنِي: أَنَّهُ عَامِلٌ بِمَا عَلِمْ.

وَقَالَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((إِنَّمَا زَهِدَ النَّاسُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ لِمَا يَرَوْنَ مِنْ قِلَّةِ انْتِفَاعِ مَنْ عَلِمَ بِمَا عَلِمَ)).

قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَخْوَفُ مَا أَخَافُ إِذَا وَقَفْتُ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ -تَعَالَى- أَنْ يَقُولَ: قَدْ عَلِمْتَ؛ فَمَاذَا عَمِلْتَ إِذْ عَلِمْتَ؟!!)).

وَكَانَ يُقَالُ: ((خَيْرٌ مِنَ الْقَوْلِ فَاعِلُهُ، وَخَيْرٌ مِنَ الصَّوَابِ قَائِلُهُ, وَخَيْرٌ مِنَ الْعِلْمِ حَامِلُهُ)).

وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: ((لَمْ يَنْتَفِعْ بِعِلْمِهِ مَنْ تَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ)).

وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: ((ثَمَرَةُ الْعِلْمِ أَنْ يُعْمَلَ بِهِ، وَثَمَرَةُ الْعَمَلِ أَنْ يُؤْجَرَ عَلَيْهِ)).

وَقَالَ بَعْضُ الصُّلَحَاءِ: ((الْعِلْمُ يَهْتِفُ بِالْعَمَلِ, فَإِنْ أَجَابَهُ أَقَامَ، وَإِلَّا ارْتَحَلَ)).

وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: ((خَيْرُ الْعِلْمِ مَا نَفَعَ, وَخَيْرُ الْقَوْلِ مَا رَدَعَ)).

وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ: ((ثَمَرَةُ الْعُلُومِ الْعَمَلُ بِالْعُلُومِ)).

وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: ((مِنْ تَمَامِ الْعِلْمِ اسْتِعْمَالُهُ، وَمِنْ تَمَامِ الْعَمَلِ اسْتِقْلَالُهُ, فَمَنِ اسْتَعْمَلَ عِلْمَهُ لَمْ يَخْلُ مِنْ رَشَادٍ، وَمَنِ اسْتَقَلَّ عَمَلَهُ لَمْ يَقْصُرْ عَنْ مُرَادٍ)).

وَقَالَ أَبُو تَمَّامٍ الطَّائِيُّ:

وَلَمْ يَحْمَدُوا مِنْ عَالِمٍ غَيْرِ عَامِلٍ=خِلَافًا وَلَا مِنْ عَامِلٍ غَيْرِ عَالِمِ

رَأَوْا طُرُقَاتِ الْمَجْدِ عُوجًا فَظِيعَةً=وَأَفْظَعُ عَجْزٍ عِنْدَهُمْ عَجْزُ حَازِمِ

لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ عِلْمُهُ حُجَّةً عَلَى مَنْ أَخَذَ عَنْهُ وَاقْتَبَسَهُ مِنْهُ حَتَّى يَلْزَمَهُ الْعَمَلُ بِهِ وَالْمَصِيرُ إِلَيْهِ؛ كَانَ عَلَيْهِ أَحَجَّ وَلَهُ أَلْزَمَ؛ لِأَنَّ مَرْتَبَةَ الْعِلْمِ قَبْلَ مَرْتَبَةِ الْقَوْلِ, كَمَا أَنَّ مَرْتَبَةَ الْعِلْمِ قَبْلَ مَرْتَبَةِ الْعَمَلِ.

وَقَدْ قَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ:

اسْمَعْ إِلَى الْأَحْكَامِ تَحْـ=ـمِلُهَا الرُّوَاةُ إِلَيْكَ عَنْكَ

وَاعْلَمْ هُدِيتَ بِأَنَّهَا     =حُجَجٌ تَكُونُ عَلَيْكَ مِنْكَ

ثُمَّ لِيَجْتَنِبْ أَنْ يَقُولَ مَا لَا يَفْعَلُ، وَأَنْ يَأْمُرُ بِمَا لَا يَأْتَمِرُ بِهِ، وَأَنْ يُسِرَّ غَيْرَ مَا يُظْهِرُ, وَلَا يَجْعَلَ قَوْلَ الشَّاعِرِ هَذَا..

اعْمَلْ بِقَوْلِي وَإِنْ قَصَّرْتُ فِي عَمَلِي=يَنْفَعْكَ قَوْلِي وَلَا يَضْرُرْكَ تَقْصِيرِي

عَلَيْه أَلَّا يَجْعَلَ قَوْلَ الشَّاعِرِ هَذَا عُذْرًا لَهُ فِي تَقْصِيرِهِ فَيَضُرَّهُ وَإِنْ لَمْ يَضُرَّ غَيْرَهُ, فَإِنَّ إِعْذَارَ النَّفْسِ يُغْرِيهَا، وَيُحْسِّنُ لَهَا مَسَاوِيهَا.

فَإِنَّ مَنْ قَالَ مَا لَا يَفْعَلُ فَقَدْ مَكَرَ، وَمَنْ أَمَرَ بِمَا لَا يَأْتَمِرُ فَقَدْ خَدَعَ، وَمَنْ أَسَرَّ غَيْرَ مَا يُظْهِرُ فَقَدْ نَافَقَ)).

نَسْأَلُ اللهَ السَّتْرَ وَالْعَافِيَةَ.

الْأَدَبُ الثَّامِنُ: أَلَّا يَبْخَلَ بِتَعْلِيمِ مَا يُحْسِنُ، وَلَا يَمْتَنِعُ مِنْ إِفَادَةِ مَا يَعْلَمُ.

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَمِنْ آدَابِ الْعُلَمَاءِ: أَلَّا يَبْخَلُوا بِتَعْلِيمِ مَا يُحْسِنُونَ, وَلَا يَمْنَعُوا مِنْ إِفَادَةِ مَا يَعْلَمُونَ؛ فَإِنَّ الْبُخْلَ بِهِ لُؤْمٌ وَظُلْمٌ، وَالْمَنْعَ مِنْهُ حَسَدٌ وَإِثْمٌ, وَكَيْفَ يَسُوغُ لَهُمُ الْبُخْلُ بِمَا مُنِحُوهُ جُودًا مِنْ غَيْرِ بُخْلٍ، وَأُوتُوهُ عَفْوًا مَنْ غَيْرِ بَذْلٍ؟!!

أَمْ كَيْفَ يَجُوزُ لَهُمُ الشُّحُّ بِمَا إِنْ بَذَلُوهُ زَادَ وَنَمَا، وَإِنْ كَتَمُوهُ تَنَاقَصَ وَوَهَى؟!!

وَلَوِ اسْتَنَّ بِذَلِكَ مَنْ تَقَدَّمَهُمْ لَمَا وَصَلَ الْعِلْمُ إِلَيْهِمْ، وَلَانْقَرَضَ عَنْهُمْ بِانْقِرَاضِهِمْ، وَلَصَارُوا عَلَى مُرُورِ الْأَيَّامِ جُهَّالًا، وَبِتَقَلُّبِ الْأَحْوَالِ وَتَنَاقُصِهَا أَرْذَالًا.

وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187].

وَعَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: ((مَا أَخَذَ اللهُ الْعَهْدَ عَلَى أَهْلِ الْجَهْلِ أَنْ يَتَعَلَّمُوا حَتَّى أَخَذَ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ الْعَهْدَ أَنْ يُعَلِّمُوا)).

وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: ((إِذَا كَانَ مِنْ قَوَاعِدِ الْحِكْمَةِ: بَذْلُ مَا يَنْقُصُهُ الْبَذْلُ؛ فَأَحْرَى أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوَاعِدِهَا: بَذْلُ مَا يَزِيدُهُ الْبَذْلُ)).

وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: ((كَمَا أَنَّ الِاسْتِفَادَةَ نَافِلَةٌ لِلْمُتَعَلِّمِ, كَذَلِكَ الْإِفَادَةُ فَرِيضَةٌ عَلَى الْمُعَلِّمِ)).

وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: ((مَنْ كَتَمَ عِلْمًا فَكَأَنَّهُ جَاهِلٌ)).

وَقَالَ خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ: ((إِنِّي لَأَفْرَحُ بِإِفَادَةِ الْمُتَعَلِّمِ أَكْثَرَ مِنْ فَرَحِي بِاسْتِفَادَتِي مِنَ الْمُعَلِّمِ)))).

فَيَبْذُلُونَ الْعِلْمَ..

عَلِّمْ مَجَّانًا؛ فَقَدْ عُلِّمْتَ مَجَّانًا!

التَّاسِعُ مِنْ آدَابِهِمْ: نَزَاهَةُ النَّفْسِ عَنْ شُبَهِ الْمَكَاسِبِ، وَالْقَنَاعَةُ بِالْمَيْسُورِ عَنْ كَدِّ الْمَطَالِبِ.

قَالَ الْمَاوْرَدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَمِنْ آدَابِهِمْ: نَزَاهَةُ النَّفْسِ عَنْ شُبَهِ الْمَكَاسِبِ، وَالْقَنَاعَةُ بِالْمَيْسُورِ عَنْ كَدِّ الْمَطَالِبِ؛ فَإِنَّ شُبْهَةَ الْمُكْتَسِبِ إِثْمٌ, وَكَذَا كَدُّ الطَّالِبِ ذُلٌّ، وَالْأَجْرُ أَجْدَرُ بِهِ مِنَ الْإِثْمِ، وَالْعِزُّ أَلْيَقُ بِهِ مِنَ الذُّلِّ)).

الْأَدَبُ الْعَاشِرُ مِنْ آدَابِهِمْ: أَنْ يَتَخَلَّقَ بِالْمَحَاسِنِ الَّتِي وَرَدَ الشَّرْعُ بِهَا.

قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَنْ يَتَخَلَّقَ بِالْمَحَاسِنِ الَّتِي وَرَدَ الشَّرْعُ بِهَا وَحَثَّ عَلَيْهَا، وَالْخِلَالِ الْحَمِيدَةِ وَالشِّيَمِ الْمَرْضِيَّةِ الَّتِي أَرْشَدَ إِلَيْهَا؛ مِنَ التَّزَهُّدِ فِي الدُّنْيَا وَالتَّقَلُّلِ مِنْهَا، وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِفَوَاتِهَا، وَالسَّخَاءِ وَالْجُودِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَطَلَاقَةِ الْوَجْهِ مِنْ غَيْرِ خُرُوجٍ إِلَى حَدِّ الْخَلَاعَةِ، وَالْحِلْمِ وَالصَّبْرِ، وَالتَّنَزُّهِ عَنْ دَنِيءِ الِاكْتِسَابِ وَمُلَازَمَةِ الْوَرَعِ، وَالْخُشُوعِ وَالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ، وَالتَّوَاضُعِ وَالْخُضُوعِ، وَاجْتِنَابِ الضَّحِكِ وَالِإْكْثَارِ مِنَ الْمَزْحِ، وَمُلَازَمَةِ الْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ الطَّاهِرَةِ وَالظَّاهِرَةِ وَالْخَفِيَّةِ؛ كَالتَّنْظِيفِ بِإِزَالَةِ الْأَوْسَاخِ، وَتَنْظِيفِ الْإِبِطِ، وَإِزَالَةِ الرَّوَائِحِ الْكَرِيهَةِ، وَاجْتِنَابِ الرَّوَائِحِ الْمَكْرُوهَةِ، وَتَسْرِيحِ اللِّحْيَةِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ)).

وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يَتَخَلَّقُ بِهِ طَالِبُ الْعِلْمِ وَعَالِمُهُ, وَهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ النُّصُوصَ دَلَّتْ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثَ أَرْشَدَتْ إِلَيْهِ؛ فَإِذَا تَرَكُوا هَذَا فَمَنِ الَّذِي يَأْخُذُ بِهِ؟!! وَإِذَا أَهْمَلُوهُ فَمَنْ يُرَاعِيهِ؟!!

* مِنْ آدَابِهِمُ: الْحَذَرُ مِنَ الْحَسَدِ وَالرِّيَاءِ وَالْإِعْجَابِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الْحَذَرُ مِنَ الْحَسَدِ وَالرِّيَاءِ وَالْإِعْجَابِ وَاحْتِقَارِ النَّاسِ، وَإِنْ كَانُوا دُونَهُ بِدَرَجَاتٍ، وَهَذِهِ أَدْوَاءٌ وَأَمْرَاضٌ يُبْتَلَى بِهَا كَثِيرُونَ مِنْ أَصْحَابِ الْأَنْفُسِ الْخَسِيسَاتِ)).

طَرِيقَةُ طَالِبِ الْعِلْمِ وَعَالِمِهِ فِي نَفْيِ الْحَسَدِ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ حِكْمَةَ اللهِ -تَعَالَى- اقْتَضَتْ جَعْلَ هَذَا الْفَضْلِ فِي هَذَا الْإِنْسَانِ, فَلَا يَعْتَرِضُ، وَلَا يَكْرَهُ مَا اقْتَضَتْهُ الْحِكْمَةُ، وَلَمْ يَذُمَّ اللهَ؛ احْتِرَازًا مِنَ الْمَعَاصِي.

وَطَرِيقَتُهُ فِي نَفْيِ الرِّيَاءِ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْخَلْقَ لَا يَنْفَعُونَهُ وَلَا يَضُرُّونَهُ حَقِيقَةً, فَلَا يَتَشَاغَلُ بِمُرَاعَاتِهِمْ فَيُتْعِبَ نَفْسَهُ، وَيَضُرَّ دِينَهُ، وَيُحْبِطَ عَمَلَهُ، وَيَرْتَكِبَ مَا يَجْلِبُ سَخَطَ اللهِ عَلَيْهِ، وَيُفَوِّتُ رِضَاهُ.

وَطَرِيقَتُهُ فِي نَفْيِ الْإِعْجَابِ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْعِلْمَ فَضْلٌ مِنَ اللهِ -تَعَالَى- وَمِنَّةٌ وَعَارِيَةٌ؛ فَإِنَّ لِلهِ -تَعَالَى- مَا أَخَذَ، وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلُّ شَيْءٌ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى، فَيَنْبَغِي أَلَّا يُعْجَبَ بِشَيْءٍ لَمْ يَخْتَرِعْهُ، وَلَيْسَ مَالِكًا لَهُ, وَلَا عَلَى يَقِينٍ مِنْ دَوَامِهِ؛ فَإِنَّ الْعِلْمَ هِبَةٌ مِنَ اللهِ وَمِنْحَةٌ.

فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يُعْجَبَ بِشَيْءٍ لَمْ يَخْتَرِعْهُ وَلَيْسَ مَالِكًا لَهُ, وَإِنَّمَا هُوَ عَارِيَةٌ مُسْتَرَدَّةٌ, إِذَا أَرَادَ اللهُ أَنْ يَسْلُبَهُ سَلَبَهُ, نَسْأَلُ اللهَ الْعَافِيَةَ.

وَلَيْسَ هُوَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ دَوَامِهِ, وَإِنَّمَا الْفَضْلُ بِيَدِ اللهِ وَحْدَهُ.

وَطَرِيقُهُ فِي نَفْيِ الِاحْتِقَارِ: التَّأَدُّبُ بِمَا أَدَّبَنَا اللهُ -تَعَالَى- بِهِ.

قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ ۖ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىٰ}[النجم: 32].

وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].

فَرُبَّمَا كَانَ هَذَا الَّذِي يَرَاهُ دُونَهُ أَتْقَى لِلهِ -تَعَالَى-, وَأَطْهَرُ قَلْبًا, وَأَخْلَصُ نِيَّةً، وَأَزْكَى عَمَلًا، ثُمَّ إِنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَاذَا يُخْتَمُ لَهُ بِهِ؛ فَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)): ((إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ, حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ؛ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ, فَيَدْخُلُ النَّارَ)))).

نَسْأَلُ اللهَ الْعَافِيَةَ مِنْ كُلِّ دَاءٍ.

وَمِنْ آدَابِهِمْ -وَهُوَ أَهَمُّهَا-: أَلَّا يُذِلَّ الْعِلْمَ.

قَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَلَّا يُذِلَّ الْعِلْمَ, وَلَا يَذْهَبَ بِهِ إِلَى مَكَانٍ يُنْسَبُ إِلَى مَنْ يَتَعَلَّمُهُ مِنْهُ, وَإِنْ كَانَ الْمُتَعَلِّمُ كَبِيرَ الْقَدْرِ, بَلْ يَصُونُ الْعِلْمَ عَنْ ذَلِكَ كَمَا صَانَهُ السَّلَفُ، وَأَخْبَارُهُمْ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ مَعَ الْخُلَفَاءِ وَغَيْرِهِمْ)).

فَإِنَّ الرَّشِيدَ لَمَّا حَجَّ؛ أَرْسَلَ إِلَى مَالِكٍ يَدْعُوهُ, فَلَمْ يَذْهَبْ إِلَيْهِ، وَقَالَ لِلرَّشِيدِ بَعْضُ مَنْ حَضَرَ: هَذَا مِمَّا لَا يَنْبَغِي السُّكُوتُ عَلَيْهِ.

وَذَهَبَ الرَّشِيدُ بِرَأْيِ مَالِكٍ إِلَى مَالِكٍ حَيْثُ هُوَ, فَأَرَادَ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى كُرْسِيٍّ, فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: ((يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ مِنْكُمْ خَرَجَ وَإِلَيْكُمْ يَعُودُ، وَيَنْبَغِي أَنْ تَصُونُوهُ كَمَا صَانَهُ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ)).

فَجَلَسَ الرَّشِيدُ بَيْنَ يَدَيْهِ مَجْلِسَ الْمُتَعَلِّمِ مِنَ الْعَالِمِ الْمُعَلِّمِ، فَعَلَّمَهُ، وَلَمْ يَذْهَبْ إِلَيْهِ بِعِلْمِهِ.

وَإِنَّمَا اسْتَدْعَاهُ لِيَسْمَعَ الْعِلْمَ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ لَا يَهْلِكُ حَتَّى يَكُونَ خَاصًّا, حَتَّى يَكُونَ سِرًّا.

وَأَمَّا بَذْلُهُ فَإِنَّمَا يَكُونُ لِلْعَامَّةِ, فَإِذَا دَعَتْ إِلَيْهِ ضَرُورَةٌ أَوِ اقْتَضَتْ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ عَلَى مَفْسَدَةِ ابْتِذَالِهِ؛ رَجَوْنَا أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ مَا دَامَتِ الْحَالَةُ هَذِهِ, وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا جَاءَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ فِي هَذَا؛ مِنْ أَنَّهُمْ قَصَدُوا الْخُلَفَاءَ وَالْأُمَرَاءَ، وَعَلَّمُوهُمْ حَيْثُ هُمْ؛ لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ كَانَتْ رَاجِحَةً عَلَى حَسَبِ مَا رَأَوْا.

وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُذِلَّ الْعِلْمَ, فَإِذَا آتَاكَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- طَرَفًا مِنَ الْعِلْمِ؛ فَحَافِظْ عَلَيْهِ وَلَا تُذِلَّهُ, وَلَيْسَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ بِهِ, وَإِنَّمَا أَعْطِهِ حَقَّهُ كَمَا فَعَلَ سَلَفُكَ الصَّالِحُونَ.

وَمِنْ آدَابِهِمْ: أَلَّا يَزَالَ الْعَالِمُ الْمُعَلِّمُ مُجْتَهِدًا فِي الِاشْتِغَالِ بِالْعِلْمِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فَيَنْبَغِي أَلَّا يَزَالَ مُجْتَهِدًا فِي الِاشْتِغَالِ بِالْعِلْمِ؛ قِرَاءَةً وَإِقْرَاءً، وَمُطَالَعَةً وَتَعْلِيقًا، وَمُبَاحَثَةً وَمُذَاكَرَةً وَتَصْنِيفًا, وَلَا يَسْتَنْكِفُ مِنَ التَّعَلُّمِ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُ فِي سِنٍّ أَوْ نَسَبٍ أَوْ شُهْرَةٍ أَوْ دِينٍ أَوْ فِي عِلْمٍ آخَرَ, بَلْ يَحْرِصُ عَلَى الْفَائِدَةِ مِمَّنْ كَانَتْ عِنْدَهُ وَإِنْ كَانَ دُونَهُ فِي جَمِيعِ هَذَا، وَلَا يَسْتَحْيِي مِنَ السُّؤَالِ عَمَّا لَمْ يَعْلَمْ, فَقَدْ رُوِّينَا عَنْ عُمَرَ وَابْنِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَا: ((مَنْ رَقَّ وَجْهُهُ رَقَّ عِلْمُهُ)).

وَعَنْ مُجَاهِدٍ: ((لَا يَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ مُسْتَحٍ وَلَا مُسْتَكْبِرٌ)).

وَفِي ((الصَّحِيحِ)) عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ؛ لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ)).

وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: ((لَا يَزَالُ الرَّجُلُ عَالِمًا مَا تَعَلَّمَ, فَإِنْ تَرَكَ الْعِلْمَ وَظَنَّ أَنَّهُ قَدِ اسْتَغْنَى وَاكْتَفَى بِمَا عِنْدَهُ فَهُوَ أَجْهَلُ مَا يَكُونُ)).

* وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مُلَازَمَةُ الِاشْتِغَالِ بِالْعِلْمِ مَطْلُوبَهُ وَرَأْسَ مَالِهِ، فَلَا يَشْتَغِلُ بِغَيْرِهِ, فَإِنِ اضْطُرَّ إِلَى غَيْرِهِ فِي وَقْتٍ فَعَلَ ذَلِكَ الْغَيْرَ بَعْدَ تَحْصِيلِ وَظِيفَتِهِ مِنَ الْعِلْمِ.

* وَعَلَيْهِ أَنْ يَعْتَنِيَ بِالتَّصْنِيفِ إِذَا تَأَهَّلَ لَهُ)).

* وَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّبَ الْمُتَعَلِّمَ عَلَى التَّدْرِيجِ بِالْآدَابِ السَّنِيَّةِ وَالشِّيَمِ الْمَرْضِيَّةِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَيَنْبَغِي أَنْ يُؤَدِّبَ الْمُتَعَلِّمَ عَلَى التَّدْرِيجِ بِالْآدَابِ السَّنِيَّةِ السُّنِّيَّةِ وَالشِّيَمِ الْمَرْضِيَّةِ الْمُرْضِيَةِ، وَرِيَاضَةِ نَفْسِهِ بِالْآدَابِ وَالدَّقَائِقِ الْخَفِيَّةِ, وَيُعَوِّدُهُ الصِّيَانَةَ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ الْكَامِنَةِ وَالْجَلِيَّةِ.

فَأَوَّلُ ذَلِكَ: أَنْ يُحَرِّضَهُ بِأَقْوَالِهِ وَأَحْوَالِهِ الْمُتَكَرِّرَاتِ عَلَى الْإِخْلَاصِ، وَالصِّدْقِ، وَحُسْنِ النِّيَّاتِ، وَمُرَاقَبَةِ اللهِ -تَعَالَى- فِي جَمِيعِ اللَّحَظَاتِ، وَأَنْ يَكُونَ دَائِمًا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى الْمَمَاتِ، وَيُعَرِّفَهَ أَنَّ بِذَلِكَ تَنْفَتِحُ عَلَيْهِ أَبْوَابُ الْمَعَارِفِ، وَيَنْشَرِحُ صَدْرُهُ، وَتَنْفَجِرُ مِنْ قَلْبِهِ يَنَابِيعُ الْحِكَمِ وَاللَّطَائِفِ، وَيُبَارَكُ لَهُ فِي حَالِهِ وَعِلْمِهِ، وَيُوَفَّقُ لِلْإِصَابَةِ فِي قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ, وَيُزَهِّدُهُ فِي الدُّنْيَا، وَيَصْرِفُهُ عَنِ التَّعَلُّقِ بِهَا وَالرُّكُونِ إِلَيْهَا وَالِاغْتِرَارِ بِهَا، وَيُذَكِّرُهُ أَنَّهَا فَانِيَةٌ، وَأَنَّ الْآخِرَةَ آتِيَةٌ بَاقِيَةٌ, فَلْيَتَأَهَّبْ لِلْبَاقِي وَلْيُعْرِضْ عَنِ الْفَانِي, وَهُوَ طَرِيقُ الْحَازِمِينَ وَدَأْبُ عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ)).

فَدَائِمًا يُرَدِّدُ ذَلِكَ عَلَى الْمُتَعَلِّمِ حَتَّى يُذَكِّرَهُ إِنْ نَسِيَ، وَحَتَّى يَحُثَّهُ إِنْ كَانَ ذَاكِرًا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْفَوَائِدِ الَّتِي تَعُودُ عَلَيْهِمَا مَعًا إِذَا كَرَّرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ فِي أَوْقَاتٍ مُتَقَارِبَاتٍ.

* وَعَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ بَاذِلًا وُسْعَهُ فِي تَفْهِيمِ طُلَّابِهِ.

* وَيَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يُوَرِّثَ أَصْحَابَهُ وَطُلَّابَهُ: ((لَا أَدْرِي!)).

قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَقَالُوا: يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يُوَرِّثَ أَصْحَابَهُ: ((لَا أَدْرِي!)).

وَمَعْنَاهُ: يُكْثِرُ مِنْهَا؛ أَيْ: مِنْ قَوْلَةِ: ((لَا أَدْرِي!)).

وَلْيَعْلَمْ أَنَّ مُعْتَقَدَ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّ قَوْلَ الْعَالِمِ: ((لَا أَدْرِي!)) لَا يَضَعُ مَنْزِلَتَهُ, بَلْ هُوَ دَلِيلٌ عَلَى عِظَمِ مَحَلِّهِ وَتَقْوَاهُ، وَكَمَالِ مَعْرِفَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمُتَمَكِّنَ لَا يَضُرُّهُ عَدَمُ مَعْرِفَتِهِ مَسَائِلَ مَعْدُودَةٍ.

وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ)))).

* وَالْأَدَبُ الْأَخِيرُ مِنْ آدَابِ الْمُعَلِّمِينَ: أَلَّا يَتَأَذَّى مِمَّنْ يَقْرَأُ عَلَيْهِ إِذَا قَرَأَ عَلَى غَيْرِهِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَمِنْ أَهَمِّ مَا يُؤْمَرُ بِهِ: أَلَّا يَتَأَذَّى مِمَّنْ يَقْرَأُ عَلَيْهِ إِذَا قَرَأَ عَلَى غَيْرِهِ, وَهَذِهِ مُصِيبَةٌ يُبْتَلَى بِهَا جَهَلَةُ الْمُعَلِّمِينَ لِغَبَاوَتِهِمْ وَفَسَادِ نِيَّتِهِمْ, وَهُوَ مِنَ الدَّلَائِلِ الصَّرِيحَةِ عَلَى عَدَمِ إِرَادَتِهِمْ بِالتَّعْلِيمِ وَجْهَ اللهِ -تَعَالَى- الْكِريمِ)).

وَهَذَا إِذَا كَانَ الْمُعَلِّمُ الْآخَرُ أَهْلًا, فَإِنْ كَانَ فَاسِقًا أَوْ مُبْتَدِعًا أَوْ كَثِيرَ الْغَلَطِ وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ فَلْيُحَذِّرْ مِنَ الِاغْتِرَارِ بِهِ، وَبِاللهِ التَّوْفِيقُ)).


 

((آدَابُ الْمُتَعَلِّمِ))

وَأَمَّا آدَابُ الْمُتَعَلِّمِ؛ فَإِنَّ مَا مَرَّ مِنْ آدَابِ الْمُعَلِّمِ فِيهِ غُنْيَةٌ عَنْ ذِكْرِ آدَابِ الْمُتَعَلِّمِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيمَا ذُكِرَ اشْتِرَاكُهُمَا فِيهِ.

وَلَكِنْ، قَدْ يَخْتَصُّ الْمُتَعَلِّمُ بِبَعْضِ نُبَذٍ يَسِيرَةٍ يَنْبَغِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا.

أَحَدُهَا: أَنْ يُطَهِّرَ قَلْبَهُ مِنَ الْأَدْنَاسِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((يَنْبَغِي أَنْ يُطَهِّرَ الْمُتَعَلِّمُ قَلْبَهُ مِنَ الْأَدْنَاسِ؛ لِيَصْلُحَ لِقَبُولِ الْعِلْمِ وَحِفْظِهِ وَاسْتِثْمَارِهِ؛ فَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً.. إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ؛ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ)).

وَقَالُوا: ((تَطْيِيبُ الْقَلْبِ لِلْعِلْمِ، كَتَطْيِيبِ الْأَرْضِ لِلزِّرَاعَةِ)).

فَكَمَا أَنَّ الْأَرْضَ إِذَا كَثُرَ فِيهَا مَا يُفْسِدُهَا لَمْ يَصِحَّ فِيهَا زَرْعٌ؛ فَكَذَلِكَ الْقَلْبُ إِذَا كَثُرَتْ فِيهِ الْآفَاتُ لَمْ يَصِحَّ فِيهِ عِلْمٌ، فَتَطْيِيبُ الْقَلْبِ لِلْعِلْمِ كَتَطْيِيبِ الْأَرْضِ لِلزِّرَاعَةِ.

الثَّانِي مِنْ آدَابِ الْمُتَعَلِّمِينَ: أَنْ يَصْبِرَ الْمُتَعَلِّمُ عَلَى ضِيقِ الْعَيْشِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَيَنْبَغِي أَنْ يَقْطَعَ الْعَلَائِقَ الشَّاغِلَةَ عَنْ كَمَالِ الِاجْتِهَادِ فِي التَّحْصِيلِ, وَيَرْضَى بِالْيَسِيرِ مِنَ الْقُوتِ، وَيَصْبِرَ عَلَى ضِيقِ الْعَيْشِ.

قَالَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((لَا يَطْلُبُ أَحَدٌ هَذَا الْعِلْمَ بِالْمُلْكِ وَعِزِّ النَّفْسِ فَيُفْلِحُ, وَلَكِنْ مَنْ طَلَبَهُ بِذُلِّ النَّفْسِ وَضِيقِ الْعَيْشِ وَخِدْمَةِ الْعُلَمَاءِ أَفْلَحَ)).

وَقَالَ -أَيْضًا- -رَحِمَهُ اللهُ-: ((لَا يُدْرِكُ أَحَدٌ الْعِلْمَ إِلَّا بِالصَّبْرِ عَلَى الذُّلِّ)).

وَقَالَ -أَيْضًا-: ((لَا يَصْلُحُ طَلَبُ الْعِلْمِ إِلَّا لِمُفْلِسٍ، فَقِيلَ: وَلَا الْغَنِيُّ الْمَكْفِيُّ؟ فَقَالَ: وَلَا الْغَنِيُّ الْمَكْفِيُّ)).

وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((لَا يَبْلُغُ أَحَدٌ مِنْ هَذَا الْعِلْمِ مَا يُرِيدُ حَتَّى يَضُرَّ بِهِ الْفَقْرُ، وَيُؤْثِرَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ)).

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((يُسْتَعَانُ عَلَى الْفِقْهِ بِجَمْعِ الْهِمَمِ, وَيُسْتَعَانُ عَلَى حَذْفِ الْعَلَائِقِ بِأَخْذِ الْيَسِيرِ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَلَا يَزِدْ)).

وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الْآجُرِّىُّ: ((مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ بِالْفَاقَةِ وَرِثَ الْفَهْمَ)).

* وَمِنْ آدَابِ الْمُتَعَلِّمِ: أَنْ يَتَوَاضَعَ لِلْعِلْمِ وَالْمُعَلِّمِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَيَنْبَغِي لِلْمُتَعَلِّمِ أَنْ يَتَوَاضَعَ لِلْعِلْمِ وَالْمُعَلِّمِ, فَبِتَوَاضُعِهِ يَنَالُ الْعِلْمَ, وَقَدْ أُمِرْنَا بِالتَّوَاضُعِ مُطْلَقًا، فَهَاهُنَا أَوْلَى.

وَقَدْ قَالُوا:

الْعِلْمُ حَرْبٌ لِلْفَتَى الْمُتَعَالِي=كَالسَّيْلِ حَرْبٌ لِلْمَكَانِ الْعَالِي

وَيَنْقَادُ لِمُعَلِّمِهِ، وَيُشَاوِرُهُ فِي أُمُورِهِ، وَيَأْتَمِرُ بِأَمْرِهِ, كَمَا يَنْقَادُ الْمَرِيضُ لِطَبِيبٍ حَاذِقٍ نَاصِحٍ, وَهَذَا أَوْلَى؛ لِتَفَاوُتِ مَرْتَبَتَيْهِمَا.

* وَمِنْ آدَابِ الْمُتَعَلِّمِ: أَلَّا يَأْخُذَ الْعِلْمَ إِلَّا مِمَّنْ كَمُلَتْ أَهْلِيَّتُهُ.

قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((قَالُوا: وَلَا يُأْخُذُ الْعِلْمَ إِلَّا مِمَّنْ كَمُلَتْ أَهْلِيَّتُهُ، وَظَهَرَتْ دِيَانَتُهُ، وَتَحَقَّقَتْ مَعْرِفَتُهُ، وَاشْتَهَرَتْ صِيَانَتُهُ وَسِيَادَتُهُ.

فَقَدْ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَمَالِكٌ وَخَلَائِقُ مِنَ السَّلَفِ: ((هَذَا الْعِلْمُ دِينٌ, فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ)).

وَلَا يَكْفِي فِي أَهْلِيَّةِ التَّعْلِيمِ أَنْ يَكُونَ كَثِيرَ الْعِلْمِ, بَلْ يَنْبَغِي مَعَ كَثْرَةِ عِلْمِهِ بِذَلِكِ الْفَنِّ كَوْنُهُ لَهُ مَعْرِفَةٌ فِي الْجُمْلَةِ بِغَيْرِهِ مِنَ الْفُنُونِ الشَّرْعِيَّةِ, فَإِنَّهَا مُرْتَبِطَةٌ, وَيَكُونُ لَهْ دُرْبَةٌ وَدِينٌ, وَخُلُقٌ جَمِيلٌ, وَذِهْنٌ صَحِيحٌ, وَاطِّلَاعٌ تَامٌّ.

* وَمِنْ آدَابِ الْمُتَعَلِّمِ: أَنْ يَنْظُرَ مُعَلِّمَهُ بِعَيْنِ الِاحْتِرَامِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ مُعَلِّمَهُ بِعَيْنِ الِاحْتِرَامِ، وَيَعْتَقِدَ كَمَالَ أَهْلِيَّتِهِ وَرُجْحَانَهُ عَلَى أَكْثَرِ طَبَقَتِهِ، فَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى انْتِفَاعِهِ بِهِ، وَرُسُوخِ مَا سَمِعَهُ مِنْهُ فِي ذِهْنِهِ.

وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ إِذَا ذَهَبَ إِلَى مُعَلِّمِهِ تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَيْبَ مُعَلِّمِي عَنِّي، وَلَا تُذْهِبْ بَرَكَةَ عِلْمِهِ مِنِّي))

وَلَا يُنَالُ الْعِلْمُ إِلَّا بِإِلْقَاءِ السَّمْعِ مَعَ التَّوَاضُعِ؛ فَعَنِ الشَّعْبِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ- قَالَ: ((صَلَّى زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ عَلَى جِنَازَةٍ، ثُمَّ قُرِّبَتْ لَهُ بَغْلَةٌ لِيَرْكَبَهَا، فَجَاءَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَأَخَذَ بِرِكَابِهِ، فَقَالَ لَهُ زَيْدٌ: خَلِّ عَنْهُ يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللهِ ﷺ! فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَكَذَا يُفْعَلُ بِالْعُلَمَاءِ وَالْكُبَرَاءِ)).

وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يُعَظِّمُونَ مَنْ يَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمْ تَعْظِيمًا شَدِيدًا، وَآثَارُهُمْ فِي ذَلِكَ شَاهِدَةٌ عَلَى آدَابِهِمْ فِي مَجَالِسِ التَّعْلِيمِ، وَعَلَى تَوْقِيرِهِمْ لِمُعَلِّمِيهِمْ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْخَطِيبُ فِي ((الْجَامِعِ)) كَثِيرًا مِنْ تِلْكَ الْآثَارِ.

فَسَاقَ بِسَنَدِهِ عَنْ مُغِيرَةَ قَالَ: ((كُنَّا نَهَابُ إِبْرَاهِيمَ -النَّخَعِيَّ- كَمَا يُهَابُ الْأَمِيرُ)).

وَعَنْ أَيُّوبَ قَالَ: ((كَانَ الرَّجُلُ يَجلِسُ إِلَى الْحَسَنِ ثَلَاثَ سِنِينَ، فَلَا يَسْأَلُهُ عَنْ شَيْءٍ هَيْبَةً لَهُ)).

وَعَنْ إِسْحَاقَ الشَّهِيدِيِّ قَالَ: ((كُنْتُ أَرَى يَحْيَى الْقَطَّانَ يُصَلِّي الْعَصْرَ، ثُمَّ يَسْتَنِدُ إِلَى أَصْلِ مَنَارَةِ الْمَسْجِدِ، فَيَقِفُ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، وَالشَّاذَكُونِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَغَيْرُهُم، يَسْأَلُونَهُ عَنِ الْحَدِيثِ وَهُمْ قِيَامٌ عَلَى أَرْجُلِهِمْ، إِلَى أَنْ تَحِينَ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ، لَا يَقُولُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمُ: اجْلِسْ، وَلَا يَجْلِسُونَ هَيْبَةً لَهُ وَإِعْظَامًا)).

وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَرْمَلَةَ الْأَسْلَمِيِّ، قَالَ: ((مَا كَانَ إِنْسَانٌ يَجْتَرِئُ عَلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ يَسْأَلُهُ عَنْ شَيْءٍ، حَتَّى يَسْتَأْذِنَهُ كَمَا يُسْتَأْذَنُ الْأَمِيرُ)).

فَعَلَى طَالِبِ الْعِلْمِ ((أَنْ يَنْقَادَ لِشَيْخِهِ فِي أُمُورِهِ، وَلَا يَخْرُجَ عَنْ رَأْيِهِ وَتَدْبِيرِهِ، بَلْ يَكُونُ مَعَهُ كَالْمَرِيضِ مَعَ الطَّبِيبِ الْمَاهِرِ، فَيُشَاوِرُهُ فِيمَا يَقْصِدُهُ، وَيَتَحَرَّى رِضَاهُ فِيمَا يَتَعَمَّدُهُ، وَيُبَالِغُ فِي حُرْمَتِهِ، وَيَتَقَرَّبُ إِلَى اللهِ -تَعَالَى- بِخِدْمَتِهِ، وَيَعْلَمُ أَنَّ ذُلَّهُ لِشَيْخِهِ عِزٌّ، وَخُضُوعَهُ لَهُ فَخْرٌ، وَتَوَاضُعَهُ لَهُ رِفْعَةٌ.

وَيُقَالُ: إِنَّ الشَّافِعِيَّ -رَحِمَهُ اللهُ- عُوتِبَ عَلَى تَوَاضُعِهِ لِلْعُلَمَاءِ، فَقَالَ:

أُهِينُ لَهُمْ نَفْسِي فَهُمْ يُكْرِمُونَهَا=وَلَنْ تُكْرَمَ النَّفْسُ الَّتِي لَا تُهِينُهَا

وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ -رَحِمَهُ اللهُ- لِخَلَفٍ الْأَحْمَرِ: ((لَا أَقْعُدُ إِلَّا بَيْنَ يَدَيْكَ، أُمِرْنَا أَنْ نَتَوَاضَعَ لِمَنْ نَتَعَلَّمُ مِنْهُ)).

وَعَلَى طَالِبِ الْعِلْمِ أَنْ يَنْظُرَ شَيْخَهُ بِعَيْنِ الْإِجْلَالِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إِلَى نَفْعِهِ بِهِ، وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ إِذَا ذَهَبَ إِلَى شَيْخِهِ تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ، وَقَالَ: ((اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَيْبَ شَيْخِي عَنِّي، وَلَا تُذْهِبْ بَرَكَةَ عِلْمِهِ مِنِّي)).

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((كُنْتُ أَصْفَحُ الْوَرَقَةَ بَيْنَ يَدَيْ مَالِكٍ صَفْحًا رَقِيقًا هَيْبَةً لَهُ؛ لِئَلَّا يَسْمَعَ وَقْعَهَا)).

وَقَالَ حَمْدَانُ الْأَصْفَهَانِيُّ: ((كُنْتُ عِنْدَ شَرِيكٍ، فَأَتَاهُ بَعْضُ أَوْلَادِ الْخَلِيفَةِ الْمَهْدِيِّ، فَاسْتَنَدَ إِلَى الْحَائِطِ وَسَأَلَهُ عَنْ حَدِيثٍ؛ فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، وَأَقْبَلَ عَلَيْنَا، ثُمَّ عَادَ، فَعَادَ لِمِثْلِ ذَلِكَ، فَقَالَ: أَتَستَخِفُّ بِأَوْلَادِ الْخُلَفَاءِ؟!!

فَقَالَ شَرِيكٌ: لَا، وَلَكِنَّ الْعِلْمَ أَجَلُّ عِنْدَ اللهِ مِنْ أَنْ أَضَعَهُ! فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، فَقَالَ شَرِيكٌ: هَكَذَا يُطْلَبُ الْعِلْمُ)).

وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ -رَحِمَهُمَا اللهُ-: ((وَاللهِ مَا اجْتَرَأْتُ أَنْ أَشْرَبَ الْمَاءَ وَالشَّافِعِيُّ يَنْظُرُ إِلَيَّ هَيْبَةً لَهُ)).

وَيَنْبَغِي أَلَّا يُخَاطِبَ شَيْخَهُ بِتَاءِ الْخِطَابِ وَكَافِهِ، وَلَا يُنَادِيهِ مِنْ بُعْدٍ.

قَالَ الْخَطِيبُ: ((يَقُولُ: أَيُّهَا الْعَالِمُ، وَأَيُّهَا الْحَافِظُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ))، وَمَا تَقُولُونَ فِي كَذَا؟ وَمَا رَأْيُكُمْ فِي كَذَا؟ وَشِبْهَ ذَلِكَ، وَلَا يُسَمِّيهِ فِي غَيْبَتِهِ أَيْضًا بِاسْمِهِ إِلَّا مَقْرُونًا بِمَا يُشْعِرُ بِتَعْظِيمِهِ، كَقَوْلِهِ: قَالَ الشَّيْخُ، أَوِ الْأُسْتَاذُ، أَوْ: قَالَ شَيْخُنَا كَذَا.

وَعَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ لِلشَّيْخِ حَقَّهُ، وَلَا يَنْسَى فَضْلَهُ، وَأَنْ يُعَظِّمَ حُرْمَتَهُ، وَيَرُدَّ غِيْبَتَهُ وَيَغْضَبَ لَهَا، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ قَامَ وَفَارَقَ ذَلِكَ الْمَجْلِسَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَدْعُوَ لِلشَّيْخِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ، وَيَرْعَى ذُرِّيَّتَهُ وَأَقَارِبَهُ وَأَوِدَّاءَهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَيَتَعَمَّدَ زِيَارَةَ قَبْرِهِ وَالِاسْتِغْفَارَ لَهُ، وَالصَّدَقَةَ عَنْهُ، وَيَسْلُكَ فِي السَّمْتِ وَالْهَدْيِ مَسْلَكَهُ، وَيُرَاعِيَ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ عَادَتَهُ، وَيَقْتَدِيَ بِحَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ فِي عَادَاتِهِ وَعِبَادَاتِهِ، وَيَتَأَدَّبَ بِآدَابِهِ، وَلَا يَدَعَ الِاقْتِدَاءَ بِهِ)).

((وَعَلَى طَالِبِ الْعِلْمِ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى جَفَاءِ شَيْخِهِ، وَأَنْ يَتَرَفَّقَ بِهِ؛ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: ((قِيلَ لِسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ: إِنَّ قَوْمًا يَأْتُونَكَ مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ تَغْضَبُ عَلَيْهِمْ، يُوشِكُ أَنْ يَذْهَبُوا وَيَتْرُكُوكَ! فَقَالَ لِلْقَائِلِ: ((هُمْ إِذَنْ حَمْقَى مِثْلُكَ إِنْ تَرَكُوا مَا يَنْفَعُهُمْ لِسُوءِ خُلُقِي»».

وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: ((لَمْ أَسْتَخْرِجِ الَّذِي اسْتَخْرَجْتُ مِنْ عَطَاءٍ إِلَّا بِرِفْقِي بِهِ)).

وَعَنِ ابْنِ طَاوُوسٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: ((مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُوَقَّرَ الْعَالِمُ)).

((وَإِذَا وَقَفَهُ الشَّيْخُ عَلَى دَقِيقَةٍ مِنْ أَدَبٍ، أَوْ نَقِيصَةٍ صَدَرَتْ مِنْهُ، وَكَانَ يَعْرِفُهَا مِنْ قَبْلُ؛ فَلَا يُظْهِرْ أَنَّهُ كَانَ عَارِفًا بِهَا وَغَفَلَ عَنْهَا، بَلْ يَشْكُرُ الشَّيْخَ عَلَى إِفَادَتِهِ ذَلِكَ وَاعْتِنَائِهِ بِأَمْرِهِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ فِي ذَلِكَ عُذْرٌ وَكَانَ إِعْلَامُ الشَّيْخِ بِهِ أَصْلَحَ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَإِلَّا تَرَكَهُ، إِلَّا أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى تَرْكِ بَيَانِ الْعُذْرِ مَفْسَدَةٌ فَيَتَعَيَّنُ إِعْلَامُهُ بِهِ)).

وَلْيَحْذَرْ طَالِبُ الْعِلْمِ أَشَدَّ الْحَذَرِ أَنْ يُمَارِيَ أُسْتَاذَهُ؛ فَإِنَّ الْمِرَاءَ شَرٌّ كُلُّهُ، وَهُوَ مَعَ شَيْخِهِ وَقُدْوَتِهِ أَقْبَحُ وَأَبْعَدُ مِنَ الْخَيْرِ، وَأَوْغَلُ فِي الشَّرِّ، وَهُوَ سَبَبٌ لِلْحِرْمَانِ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْخَيْرِ.

فَعَنْ مَيْمُونَ بْنِ مِهْرَانَ -رَحِمَهُ اللهُ- قَالَ: ((لَا تُمَارِ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ، فَإِذَا فَعَلْتَ خَزَنَ عَنْكَ عِلْمَهُ، وَلَمْ تَضُرَّهُ شَيْئًا)).

وَعَنِ الزُّهْرِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ- قَالَ: ((كَانَ أَبُو سَلَمَةَ يُمَارِي ابْنَ عَبَّاسٍ، فَحُرِمَ بِذَلِكَ خَيْرًا كَثِيرًا)).

* وَمِنْ آدَابِ الْمُتَعَلِّمِ: أَنْ يَدْخُلَ عَلَى الْمُعَلِّمِ كَامِلَ الْهَيْئَةِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَمِنْ آدَابِ الْمُتَعَلِّمِ أَنْ يَدْخُلَ كَامِلَ الْهَيْبَةِ وَالْهَيْئَةِ، فَارِغَ الْقَلْبِ مِنَ الشَّوَاغِلِ، مُتَطَهِّرًا مُتَنَظِّفًا بِسِوَاكٍ, وَقَدْ قَصَّ شَارِبَهُ وَظُفُرَهُ، وَأَزَالَ كَرِيهَ رَائِحَتِهِ، وَيُسَلِّمُ عَلَى الْحَاضِرِينَ كُلِّهِمْ بِصَوْتٍ يُسْمِعُهُمْ إِسْمَاعًا مُحَقَّقًا, وَيَخُصُّ الشَّيْخَ بِزِيَادَةِ إِكْرَامٍ، وَكَذَلِكَ يُسَلِّمُ إِذَا انْصَرَفَ؛ فَفِي الْحَدِيثِ الْأَمْرُ بِذَلِكَ, وَلَا الْتِفَاتَ إِلَى مَنْ أَنْكَرَهُ.

قَالَ: وَقَدْ أَوْضَحْتُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ ((الْأَذْكَارِ)))) -رَحِمَهُ اللهُ-.

* وَمِنْ آدَابِ الْمُتَعَلِّمِ: أَنْ يَتَأَدَّبَ مَعَ رُفْقَتِهِ وَحَاضِرِي الْمَجْلِسِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَلَا يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ، وَيَجْلِسُ حَيْثُ انْتَهَى بِهِ الْمَجْلِسُ, إِلَّا أَنْ يُصَرَّحَ لَهُ بِذَلِكَ مِنَ الشَّيْخِ أَوْ مِنَ الْحَاضِرِينَ بِالتَّقَدُّمِ أَوِ التَّخَطِّي, أَوْ يَعْلَمَ مِنْ حَالِهِمْ إِيثَارَ ذَلِكَ، وَلَا يُقِيمُ أَحَدًا مِنْ مَجْلِسِهِ، فَإِنْ آثَرَهُ غَيْرُهُ بِمَجْلِسِهِ لَمْ يَأْخُذْهُ, إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ لِلْحَاضِرِينَ؛ بِأَنْ يَقْرُبَ مِنَ الشَّيْخِ وَيُذَاكِرَهُ مُذَاكَرَةً يَنْتَفِعُ الْحَاضِرُونَ بِهَا.

وَلَا يَجْلِسُ وَسْطَ الْحَلْقَةِ إِلَّا لِضَرُورَةٍ، وَلَا بَيْنَ صَاحِبَيْنِ إِلَّا بِرِضَاهُمَا, وَإِذَا فُسِحَ لَهُ قَعَدَ وَضَمَّ نَفْسَهُ, وَيَحْرِصُ عَلَى الْقُرْبِ مِنَ الشَّيْخِ؛ لِيَفْهَمَ كَلَامَهُ فَهْمًا كَامِلًا بِلَا مَشَقَّةٍ, وَهَذَا بِشَرْطِ أَلَّا يَرْتَفِعَ فِي الْمَجْلِسِ عَلَى أَفْضَلَ مِنْهُ, وَيَتَأَدَّبَ مَعَ رُفْقَتِهِ وَحَاضِرِي الْمَجْلِسِ؛ فَإِنَّ تَأَدُّبَهُ مَعَهُمْ تَأَدُّبٌ مَعَ الشَّيْخِ وَاحْتِرَامٌ لِمَجْلِسِهِ)).

* وَمِنْ آدَابِ الْمُتَعَلِّمِ: أَنْ يَكُونَ حَرِيصًا عَلَى التَّعَلُّمِ، مُوَاظِبًا عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ أَوْقَاتِهِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَرِيصًا عَلَى التَّعَلُّمِ مُوَاظِبًا عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ أَوْقَاتِهِ لَيْلًا وَنَهَارًا، حَضَرًا وَسَفَرًا, وَلَا يَذْهَبُ مِنْ أَوْقَاتِهِ شَيْءٌ فِي غَيْرِ الْعِلْمِ إِلَّا بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ لِأَكْلٍ وَنَوْمٍ قَدْرًا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَنَحْوِهِمَا كَاسْتِرَاحَةٍ يَسِيرَةٍ لِإِزَالَةِ الْمَلَلِ وَشِبْهِ ذَلِكَ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ)).

وَلَيْسَ بِعَاقِلٍ مَنْ أَمْكَنَتْهُ دَرَجَةُ وَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ, ثُمَّ فَوَّتَهَا.

وَوَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ هُمُ الْعُلَمَاءُ.

فَلَيْسَ بِعَاقِلٍ مَنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَصِلَ إِلَى تِلْكَ الدَّرَجَةِ، ثُمَّ فَوَّتَهَا.

قَالَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((رِسَالَتِهِ)): ((حَقٌّ عَلَى طَلَبَةِ الْعِلْمِ: بُلُوغُ غَايَةِ جَهْدِهِمْ فِي الِاسْتِكْثَارِ مِنْ عِلْمِهِ, وَالصَّبْرُ عَلَى كُلِّ عَارِضٍ دُونَ طَلَبِهِ، وَإِخْلَاصُ النِّيَّةِ لِلهِ -تَعَالَى- فِي إِدْرَاكِ عِلْمِهِ نَصًّا وَاسْتِنْبَاطًا، وَالرَّغْبَةُ إِلَى اللهِ -تَعَالَى- فِي الْعَوْنِ عَلَيْهِ)).

وَفِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)), عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: ((لَا يُسْتَطَاعُ الْعِلْمُ بِرَاحَةِ الْجِسْمِ)).

* وَعَلَى الْمُتَعَلِّمِ أَنْ يَغْتَنِمَ التَّحْصِيلَ فِي وَقْتِ الْفَرَاغِ وَالنَّشَاطِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَيَنْبَغِي أَنْ يَغْتَنِمَ التَّحْصِيلَ فِي وَقْتِ الْفَرَاغِ وَالنَّشَاطِ, وَحَالِ الشَّبَابِ وَقُوَّةِ الْبَدَنِ، وَنَبَاهَةِ الْخَاطِرِ، وَقِلَّةِ الشَّوَاغِلِ, قَبْلَ عَوَارِضِ الْبَطَالَةِ وَارْتِفَاعِ الْمَنْزِلَةِ؛ فَقَدْ رُوِّينَا عَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((تَفَقَّهُوا قَبْلَ أَنْ تُسَوَّدُوا)).

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: ((تَفَقَّهْ قَبْلَ أَنْ تَرْأَسَ, فَإِذَا رَأَسْتَ فَلَا سَبِيلَ إِلَى التَّفَقُّهِ)).

* وَعَلَيْهِ أَنْ يَعْتَنِيَ بِالْمَنْهَجِ.

اعْلَمْ أَنَّ لِلْعُلُومِ أَوَائِلَ تُؤَدِّي إِلَى أَوَاخِرِهَا، وَمَدَاخِلَ تُفْضِي إِلَى حَقَائِقِهَا, فَلْيَبْتَدِئْ طَالِبُ الْعِلْمِ بِأَوَائِلِهَا لِيَنْتَهِيَ إِلَى أَوَاخِرِهَا, وَبِمَدَاخِلِهَا لِتُفْضِيَ بِهِ إِلَى حَقَائِقِهَا.

وَلَا يَطْلُبُ الْآخِرَ قَبْلَ الْأَوَّلِ، وَلَا الْحَقِيقَةَ قَبْلَ الْمَدْخَلِ, فَلَا يُدْرِكُ الْآخِرَ وَلَا يَعْرِفُ الْحَقِيقَةَ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ عَلَى غَيْرِ أُسٍّ لَا يُبْنَى، وَالثَّمَرَ مِنْ غَيْرِ غَرْسٍ لَا يُجْنَى.

قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَأَوَّلُ مَا يَبْتَدِئُ بِهِ حِفْظُ الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ؛ فَهُوَ أَهَمُّ الْعُلُومِ, وَكَانَ السَّلَفُ لَا يُعَلِّمُونَ الْحَدِيثَ وَالْفِقْهَ إِلَّا لِمَنْ يَحْفَظُ الْقُرْآنَ.

وَإِذَا حَفِظَهُ فَلْيَحْذَرْ مِنَ الِاشْتِغَالِ عَنْهُ بِالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَغَيْرِهِمَا اشْتِغَالًا يُؤَدِّي إِلَى نِسْيَانِ شَيْءٍ مِنْهُ أَوْ تَعْرِيضِهِ لِلنِّسْيَانِ.

وَبَعْدَ حِفْظِ الْقُرْآنِ يَحْفَظُ مِنْ كُلِّ فَنٍّ مُخْتَصَرًا, وَيَبْدَأُ بِالْأَهَمِّ, وَمِنْ أَهَمِّهَا: الْفِقْهُ وَالنَّحْوُ, ثُمَّ الْحَدِيثُ وَالْأُصُولُ, ثُمَّ الْبَاقِي عَلَى مَا تَيَسَّرَ, ثُمَّ يَشْتَغِلُ بِاسْتِشْرَاحِ مَحْفُوظَاتِهِ، وَيَعْتَمِدُ مِنَ الشُّيُوخِ فِي كُلِّ فَنٍّ أَكْمَلَهُمْ فِي الصِّفَاتِ السِّابِقَةِ, فَإِنْ أَمْكَنَهُ شَرْحُ دُرُوسٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ فَعَلَ, وَإِلَّا اخْتَصَرَ عَلَى الْمُمْكِنِ مِنْ دَرْسَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ وَغَيْرِهَا.

فَإِذَا اعْتَمَد شَيْخًا فِي فَنٍّ وَكَانَ لَا يَتَأَذَّى بِقِرَاءَةِ ذَلِكَ الْفَنِّ عَلَى غَيْرِهِ؛ فَلْيَقْرَأْ -أَيْضًا- عَلَى ثَانٍ وَثَالِثٍ وَأَكْثِرَ مَا لَمْ يَتَأَذَّوْا، فَإِنْ تَأَذَّى الْمُعْتَمَدُ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ، وَرَاعَى قَلْبَهُ فَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى انْتِفَاعِهِ.

وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَلَّا يَتَأَذَّى مِنْ هَذَا, وَإِذَا بَحَثَ الْمُخْتَصَرَاتِ انْتَقَلَ إِلَى بَحْثٍ أَكْبَرَ مِنْهَا مَعَ الْمُطَالَعَةِ الْمُتْقَنَةِ، وَالْعِنَايَةِ الدَّائِمَةِ الْمُحْكَمَةِ, وَتَعْلِيقِ مَا يَرَاهُ مِنَ النَّفَائِسِ وَالْغَرَائِبِ، وَحَلِّ الْمُشْكِلَاتِ مِمَّا يَرَاهُ فِي الْمُطَالَعَةِ أَوْ يَسْمَعُهُ مِنَ الشَّيْخِ.

((وَصِيَّةٌ جَامِعَةٌ لِطَالِبِ الْعِلْمِ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ))

وَهَذِهِ وَصِيَّةٌ لِلْمُسْلِمِ وَلِطَالِبِ الْعِلْمِ عَلَى الْخُصُوصِ: قَالَ فِي ((الْإِصْبَاحِ)): ((أُوصِيكَ يَا أَخِي -أَحْسَنَ اللهُ تَوْفِيقَكَ وَنَفْسِي- بِتَقْوَى اللهِ؛ فَإِنِ اتَّقَيْتَهُ كَفَاكَ كُلَّ هَمٍّ، وَإِنِ اتَّقَيْتَ النَّاسَ فَلَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا، قَالَ تَعَالَى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2-3]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4].

وَأُوصِيكَ بِإِيثَارِ طَاعَةِ اللهِ -تَعَالَى- وَاجْتِنَابِ مُخَالَفَتِهِ، وَالْإِقْبَالِ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَيْهِ، وَالرُّجُوعِ فِي كُلِّ هَمٍّ وَنَائِبَةٍ إِلَيْهِ، وَتَرْكِ الرُّكُونِ إِلَى الْخَلْقِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَيْهِمْ، وَإِيَّاكَ وَالرُّجُوعَ إِلَيْهِمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَسْبَابِكَ، بَلْ يَكُونُ رُجُوعُكَ إِلَى اللهِ وَاعْتِمَادُكَ وَتَوَكُّلُكَ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَعَالَى- يَقُولُ: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3].

وَاعْلَمْ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ عَاجِزُونَ مُدَبَّرُونَ، وَمَنْ عَجَزَ عَنْ نَفْعِ نَفْسِهِ كَيْفَ يَقْدِرُ عَلَى نَفْعِ غَيْرِهِ، لِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: ((اسْتِغَاثَةُ الْمَخْلُوقِ بِالْمَخْلُوقِ، كَاسْتِغَاثَةِ الْمَسْجُونِ بِالْمَسْجُونِ)).

وَانْظُرْ أَلَّا يَشْغَلَكَ عَنِ اللهِ -تَعَالَى- أَهْلٌ وَلَا مَالٌ وَلَا وَلَدٌ فَتَخْسَرَ عُمُرَكَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون: 9].

وَيُقَرِّبُكَ إِلَى اللهِ -تَعَالَى- ذِكْرُهُ بِقِرَاءَةِ كِتَابِهِ، وَالتَّدَبُّرِ وَالتَّفَكُّرِ وَالتَّفَهُّمِ فِيمَا خَاطَبَكَ بِهِ مِنْ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، فَتَمْتَثِلُ لِأَوَامِرِهِ وَتَنْزَجِرُ عَنْ نَوَاهِيهِ.

وَاتَّبِعْ سُنَّةَ النَّبِيِّ ﷺ فِي كُلِّ أَفْعَالِكَ وَأَقْوَالِكَ وَجَمِيعِ أَسْبَابِكَ وَأَحْوَالِكَ، وَإِيَّاكَ وَمُخَالَفَةَ السُّنَّةِ فِيمَا دَقَّ وَجَلَّ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَعَالَى- يَقُولُ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

وَاقْتَدِ بِسِيَرِ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَابْدَأْ فِي ذَلِكَ بِنَفْسِكَ؛ فَإِنَّ اللهَ يَقُولُ مُخْبِرًا عَنْ شُعَيْبٍ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88].

وَعَوِّدْ نَفْسَكَ صُحْبَةَ الْأَخْيَارِ وَالتَّبَاعُدَ عَنْ صُحْبَةِ الْأَشْرَارِ؛ فَإِنَّهُ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ))، وَقَالَ: ((مَنْ أَحَبَّ قَوْمًا فَهُوَ مِنْهُمْ))، وَقَالَ: ((الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ)).

وَأَقْلِلْ مِنَ الدُّخُولِ عَلَى الْمُتْرَفِينَ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا؛ فَإِنَّ الدُّخُولَ عَلَيْهِمْ وَالنَّظَرَ فِي زِينَتِهِمْ يُصَغِّرُ فِي عَيْنَيْكَ عَظِيمَ نِعَمِ اللهِ عَلَيْكَ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَعَالَى- يَقُولُ لِنَبِيِّهِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۚ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ} [طه: 131].

وَعَلَيْكَ بِصُحْبَةِ الزُّهَّادِ فِي الدُّنْيَا وَمُخَالَطَةِ الصَّالِحِينَ وَالرَّاغِبِينَ فِي الْآخِرَةِ وَالتَّارِكِينَ حُظُوظَهُمْ مِنْ هَذِهِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ؛ طَالِبًا بِذَلِكَ رِضَا اللهِ عَنْكَ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَعَالَى- أَخْبَرَ عَنِ الْفَرِيقَيْنِ فَقَالَ: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} [الإسراء: 18-19].

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ -كَمَا فِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ))-: ((انْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ دُونَكَ، وَلَا تَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكَ؛ فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَلَّا تَزْدَرِيَ نِعَمَ اللهِ عَلَيْكَ)).

وَلَا تَهْتَمَّ بِشَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا؛ فَإِنَّهُ وَرَدَ عَنْ يَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ أَنَّهُ قَالَ: ((الدُّنْيَا عَدَمٌ لَا تُسَاوِي غَمَّ سَاعَةٍ، فَكَيْفَ بِغَمِّ طُولِ عُمُرِكَ فِيهَا مَعَ قَلِيلِ نَصِيبٍ مِنْهَا)).

وَطَالِبْ نَفْسَكَ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِمَا هُوَ أَوْلَى بِكَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ؛ فَإِنَّ سَهْلَ بْنَ عَبْدِ اللهِ قَالَ: ((وَقْتُكَ أَعَزُّ الْأَشْيَاءِ عَلَيْكَ، فَاشْغَلْهُ بِأَعَزِّ الْأَشْيَاءِ)).

وَاتْرُكْ مَا لَا يَعْنِيكَ مِنَ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ وَالْحَرَكَاتِ وَالسَّعْيِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَإِيَّاكَ وَاتِّبَاعَ الْهَوَى، قَالَ تَعَالَى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26].

وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ۚ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ} [القصص: 50].

الْهَوَى مِنْ شَرِّ مَا يُمْنَى بِهِ الْعَبْدُ، فَإِنْ هُوَ جَاهَدَهُ وَإِلَّا أَرْدَاهُ وَأَهْلَكَهُ.

وَالْزَمِ الْإِخْلَاصَ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِكَ وَطَاعَاتِكَ وَتَصَرُّفَاتِكَ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- يَقُولُ: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5].

وَأَخْلِصِ الْعَمَلَ يَكْفِكَ الْقَلِيلُ مِنْهُ.

وَطَالِبْ نَفْسَكَ بِالصِّدْقِ فِي إِخْلَاصِكَ وَفِي جَمِيعِ تَصَرُّفَاتِكَ؛ فَإِنَّ كُلَّ حَالٍ خَلَا مِنَ الصِّدْقِ فَهُوَ هَبَاءٌ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23].

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((الصِّدْقُ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ)).

وَدَاوِمِ التَّفَكُّرَ فِيمَا سَبَقَ مِنْكَ مِنَ الْمَعَاصِي وَالْمُخَالَفَاتِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ دَائِمَ التَّفَكُّرِ، مُتَوَاصِلَ الْأَحْزَانِ، وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ.

فَتَفَكَّرْ فِيمَا ارْتَكَبْتَهُ مِنَ الْمُخَالَفَاتِ وَالذُّنُوبِ فَجَدِّدْ لَكَ ذِكْرًا، وَخُذْ بِالتَّذَكُّرِ نَدَمًا وَتَوْبَةً وَاسْتِغْفَارًا، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((النَّدَمُ تَوْبَةٌ)).

وَأَطِعْ وَالِدَيْكَ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَعَالَى- قَرَنَ حَقَّهُمَا بِحَقِّهِ فَقَالَ -تَعَالَى-: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14].

وَسُئِلَ النَّبِيُّ ﷺ: مَنْ أَبَرُّ؟

قَالَ: ((أُمَّكَ)).

قِيلَ: ثُمَّ مَنْ؟

قَالَ: ((أُمَّكَ)).

قِيلَ: ثُمَّ مَنْ؟

قَالَ: ((أُمَّكَ)).

قِيلَ: ثُمَّ مَنْ.

قَالَ: ((أَبَاكَ، ثُمَّ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَإِيَّاكَ وَالْجَدَلَ بِغَيْرِ عِلْمٍ؛ فَإِنَّ مِنْ أَسْبَابِ الْفِتَنِ الْجَدَلَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَقَدْ نَهَى اللهُ -تَعَالَى- عَنْهُ فَقَالَ: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ ۖ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا ۚ كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: 35].

وَصِلْ رَحِمَكَ؛ فَإِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمُرِ، وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ مِنَ الْكَبَائِرِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ((الرَّحِمُ شُجْنَةٌ مِنَ الرَّحْمَنِ، يَقُولُ اللهُ: مَنْ وَصَلَكِ وَصَلْتُهُ، وَمَنْ قَطَعَكِ قَطَعْتُهُ)).

وَأَحْسِنْ خُلُقَكَ لِإِخْوَانِكَ وَأَصْحَابِكَ وَخُدَّامِكَ وَمَنْ وَلَّاكَ اللهُ أَمْرَهُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((أَثْقَلُ مَا يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ خُلُقٌ حَسَنٌ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَأَكْرِمْ جِيرَانَكَ، وَأَحْسِنْ إِلَيْهِمْ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَأَعِنْ مَنْ يَسْتَعِينُ بِكَ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((فَإِنَّ اللهَ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَاقْبَلْ عُذْرَ مَنِ اعْتَذَرَ إِلَيْكَ صَادِقًا كَانَ أَوْ كَاذِبًا؛ فَإِنَّ اللهَ -تَعَالَى- مَدَحَ نَبِيَّهُ يُوسُفَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِقَبُولِ عُذْرِ إِخْوَتِهِ بِقَوْلِهِ: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ۖ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} [يوسف: 92].

وَلَا تَهْتِكْ عَنْ مُسْلِمٍ سِتْرًا؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((مَنْ سَتَرَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ سَتَرَ اللهُ عَوْرَتَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)). أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ، وَبِنَحْوِهِ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

وَاحْذَرِ الْعَجَلَةَ وَالطَّيْشَ، وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ حِينَ وَصَفَ الْخَوَارِجَ أَنَّهُمْ سُفَهَاءُ أَحْلَامٍ.

وَقَابِلِ الْقَطِيعَةَ بِالصِّلَةِ، وَالْإِسَاءَةَ بِالْإِحْسَانِ، وَالظُّلْمَ بِالصَّبْرِ وَالْغُفْرَانِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((صِلْ مَنْ قَطَعَكَ، وَاعْفُ عَمَّنْ ظَلَمَكَ، وَأَحْسِنْ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ)).

وَاجْتَنِبِ الْحَسَدَ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((لَا تَحَاسَدُوا)).

وَعَظِّمِ الْأَكَابِرَ، وَارْحَمِ الْأَصَاغِرَ؛ لِقَوْلِهِ ﷺ: ((لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَلَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا)).

وَالْزَمِ الْحَيَاءَ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((الْحَيَاءُ مِنَ الْإِيمَانِ))، وَقَالَ: ((الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ)).

وَتَوَاضَعْ لِلْفُقَرَاءِ، وَلِنْ لَهُمْ، وَارْفُقْ بِهِمْ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَعَالَى- قَالَ لِنَبِيِّهِ ﷺ: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52].

وَإِذَا صَحَّ عَزْمُكَ بَعْدَ الْمَشُورَةِ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَحْدَهُ، وَاقْطَعْ تَعَلُّقَكَ عَنِ الْخَلْقِ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَعَالَى- يَقُولُ: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: 159].

وَالتَّوَكُّلُ: هُوَ أَنْ تَكِلَ أُمُورَكَ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى اللهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وَتَرْضَى بِحُسْنِ اخْتِيَارِهِ لَكَ؛ فَإِنَّهُ سَيَكْفِيكَ مَعَ أَخْذِكَ بِالْأَسْبَابِ الْمَشْرُوعَةِ.

وَصُنْ نَفْسَكَ وَسَمْعَكَ عَنْ الِاسْتِمَاعِ إِلَى الْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ وَالْبُهْتَانِ وَالْفُضُولِ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَعَالَى- يَقُولُ: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36].

وَاجْتَنِبْ أَكْلَ الْحَرَامِ وَاجْتَنِبِ الشُّبُهَاتِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((كُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنَ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ)).

وَرَاقِبِ اللهَ -تَعَالَى- فِي خَلَوَاتِكَ وَأَفْعَالِكَ وَأَحْوَالِكَ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَعَالَى- يَقُولُ: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].

وَدَاوِمْ عَلَى ذِكْرِ اللهِ؛ فَإِنَّكَ تَسْتَجْلِبُ بِذِكْرِكَ لَهُ ذِكْرَهُ لَكَ، قَالَ تَعَالَى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152].

وَقَالَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: ((يَقُولُ اللهُ -تَعَالَى-: مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي، أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَأَقْلِلِ الضَّحِكَ؛ فَإِنَّهُ وَرَدَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((كَثْرَةُ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ)).

وَقَرِّبْ أَجَلَكَ، وَبَعِّدْ أَمَلَكَ؛ فَإِنَّهُ عَوْنٌ لَكَ عَلَى الْخَيْرَاتِ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَعَالَى- يَقُولُ: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ} [الحجر: 3].

وَالنَّبِيُّ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- رَسَمَ خَطَّيْنِ وَقَالَ: ((هَذَا ابْنُ آدَمَ وَهَذَا أَجَلُهُ، وَثَمَّ أَمَلُهُ)).

وَأَكْثِرْ نَصِيحَةَ الْخَلْقِ؛ فَإِنَّ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((بَايَعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ عَلَى النُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ)).

وَاعْلَمْ أَنَّكَ لَا تَصِلُ إِلَى شَيْءٍ مِمَّا مَرَّ ذِكْرُهُ إِلَّا بِتَوْفِيقِ اللهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لَكَ إِلَى ذَلِكَ، فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ، وَاللهُ يَكْلَؤُكَ وَيَرْعَاكَ، وَيُسَدِّدُ عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ خُطَاكَ.

عَلَى طَالِبِ الْعِلْمِ أَنْ يَكُونَ جَادًّا مُتَرَفِّعًا, وَعَلَيْهِ أَلَّا يَكُونَ هَازِلًا وَلَا مَائِعًا, وَعَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مُتَوَقِّيًا, وَلِلِسَانِهِ خَازِنًا.

وَعَلَيْهِ أَنْ يُعْرَفَ بِلَيْلِهِ إِذَا خَلَدَ النَّاسُ إِلَى الرَّاحَةِ وَالنَّوْمِ, وَبِصَمْتِهِ إِذَا أَكْثَرُوا مِنَ اللَّغْوِ وَالْهَزَرِ, وَبِبُكَائِهِ إِذَا مَا أَكْثَرُوا مِنَ الْهَزْلِ وَالضَّحِكِ, وَعَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ آخِذًا لِلْحَقِّ بَاحِثًا عَنْهُ دَائِرًا عَلَى مِحْوَرِهِ؛ فَحِينَئِذٍ يُفْلِحُ وَيُنْجِحُ إِنْ شَاءَ اللهُ.

فَهَذِهِ جُمْلَةٌ مِنْ آدَابِ الْمُتَعَلِّمِ، وَقَدْ سَبَقَتْهَا جُمْلَةٌ مِنْ آدَابِ الْمُعَلِّمِ.


 

((أَهَمِّيَّةُ الْعِلْمِ وَخُطُورَةُ الْإِعْرَاضِ عَنْهُ))

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! إِنَّ الْعِلْمَ وَالْعُلَمَاءَ سَبَبُ عِصْمَةِ الْأُمَّةِ مِنَ الضَّلَالِ وَالْإِضْلَالِ، وَالْهَلَاكِ وَالضَّيَاعِ؛ فَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ كَمَا فِي حَدِيثِ ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ الْجَهْلَ وَالْجُهَّالَ سَبَبُ الضَّلَالِ وَالْإِضْلَالِ، قَالَ ﷺ: «إِنَّ اللهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا».

وَمَفْهُومُ هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّ الْعِلْمَ وَالْعُلَمَاءَ سَبَبُ الْهِدَايَةِ وَالِاهْتِدَاءِ؛ لِذَا كَانَ مِنَ النِّيَّةِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ الدِّفَاعُ عَنِ الشَّرِيعَةِ؛ لِأَنَّ الْكُتُبَ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُدَافِعَ عَنِ الشَّرِيعَةِ، إِنَّمَا يُدَافِعُ عَنِ الشَّرِيعَةِ حَامِلُهَا.

وَمَا خَانَ أَمِينٌ قَطُّ, وَلَكِنِ ائْتُمِنَ غَيْرُ أَمِينٍ فَخَانَ, وَلَا يُؤْتَى النَّاسُ قَطُّ مِنْ قِبَلِ عُلَمَائِهِمْ، وَإِنَّمَا يُسْتَفْتَى غَيْرُ عَالِمٍ فَيُفْتِي بِالْخَطَأِ -لَا بِالصَّوَابِ- وَحِينَئِذٍ يُؤْتَى النَّاسُ.

فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ مُعَاذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنْتُ رَدِيفَ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى حِمَارٍ، فَقَالَ: ((يَا مُعَاذُ!)).

قُلْتُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ.

قَالَ: ((هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ؟)).

قَالَ: قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.

قَالَ: ((حَقُّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ أَلَّا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا)).

قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَفَلَا أُبَشِّرُ النَّاسَ؟!!

قَالَ: ((لَا؛ إِذَنْ يَتَّكِلُوا)).

فَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا مِنْ كَتْمِ الْعِلْمِ.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ حَقَّ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى عِبَادِهِ، وَهُوَ الْأَمْرُ الَّذِي لِأَجْلِهِ خَلَقَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَالْجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَلِأَجْلِهِ نُصِبَتْ سُوقُ الْجِهَادِ، وَقَامَتِ الْمَلَاحِمُ بَيْنَ أَهْلِ الْحَقِّ وَأَهْلِ الْبَاطِلِ، وَجُنْدِ الرَّحْمَنِ وَجُنْدِ الشَّيْطَانِ.

وَلِأَجْلِ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ يُقِيمُ اللهُ -تَعَالَى- السَّاعَةَ، وَتَتَطَايَرُ الصُّحُفُ، وَتُنْصَبُ الْمَوَازِينُ، وَلِأَجْلِهِ ((يُضْرَبُ الصِّرَاطُ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ، فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ، وَمَخْدُوشٌ مُرْسَلٌ، وَمُكَرْدَسٌ فِي النَّارِ وَبِئْسَ الْقَرَارُ)).

وَلِأَجْلِ هَذَا الْأَمْرِ الْكَبِيرِ خَلَقَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ، وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَعْبُدَ الْخَلْقُ رَبَّهُمْ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، هَذَا حَقُّ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

وَالنَّبِيُّ ﷺ صَدَّقَ عَلَى نَصِيحَةِ سَلْمَانَ لِأَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، عِنْدَمَا قَالَ لَهُ: ((إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا،  وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْرِكَ -أَيْ: لِزَائِرِيكَ- عَلَيْكَ حَقًّا؛ فَآتِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ)).

فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ سَلَامَةَ هَذَا الْمَنْطِقِ وَصِحَّةَ هَذَا الْكَلَامِ؛ فَقَالَ: ((صَدَقَ سَلْمَانُ)).

فَحَقُّ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هُوَ أَوْلَى الْحُقُوقِ بِالْأَدَاءِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُخْلِصَ الْإِنْسَانُ الْعِبَادَةَ لِلهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ لِأَنَّ أَعْظَمَ الْحُقُوقِ عَلَى الْعَبْدِ هُوَ تَوْحِيدُ الرَّبِّ -جَلَّ وَعَلَا-، كَمَا أَنَّ أَظْلَمَ الظُّلْمِ أَنْ يُشْرِكَ الْإِنْسَانُ بِرَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- شَيْئًا؛ لِأَنَّ اللهَ اسْتَقَلَّ بِالْخَلْقِ، وَهُوَ مُسْتَقِلٌّ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَهُوَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مُسْتَقِلٌّ بِالْكَلَاءَةِ وَالْحِفْظِ وَالرِّزْقِ، لَا يُشَارِكُهُ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ وَلَا فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ.

فَإِذَا كَانَ مُتَفَرِّدًا بِخَلْقِكَ، مُتَكَفِّلًا بِرِزْقِكَ، وَهُوَ الَّذِي أَوْجَدَكَ مِنَ الْعَدَمِ، وَأَنْشَأَكَ مِنْهُ وَبَرَاكَ وَسَوَّاكَ، وَهُوَ يَحْفَظُكَ وَيَكْلَؤُكَ وَيَرْعَاكَ؛ فَلَيْسَ مِنَ الْعَدْلِ أَنْ يُصْرَفَ شَيْءٌ مِنَ الْعِبَادَةِ لِغَيْرِ وَجْهِهِ الْكَرِيمِ، بَلْ إِنَّ مِنْ أَظْلَمِ الظُّلْمِ أَنْ يُتَّخَذَ النِّدُّ مَعَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَهُوَ وَحْدَهُ الْخَالِقُ الْعَظِيمُ وَالرَّازِقُ الْكَرِيمُ -سُبْحَانَهُ -جَلَّ وَعَلَا--.

وَهَذَا الَّذِي مَرَّ ذِكْرُهُ مِنَ الْأَمْرِ بِالتَّوْحِيدِ، وَإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هُوَ مَا أَرْسَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهِ جَمِيعَ الرُّسُلِ، وَأَنْزَلَ بِهِ جَمِيعَ الْكُتُبِ.

فَمَا مِنْ نَبِيٍّ نُبِّئَ، وَمَا مِنْ رَسُولٍ أُرْسِلَ؛ إِلَّا قَالَ لِقَوْمِهِ: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ} [هود: 84]، وَهَذَا هُوَ بِالضَّبْطِ يُسَاوِي: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))؛ لِأَنَّ دِينَ الْمُرْسَلِينَ نَفْيٌ وَإِثْبَاتٌ، لَا يُجْزِئُ وَلَا يَنْفَعُ النَّفْيُ وَحْدَهُ، كَمَا أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ وَلَا يَنْفَعُ الْإِثْبَاتُ وَحْدَهُ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْإِتْيَانِ بِالْأَمْرَيْنِ مَعًا؛ بِنَفْيِ اسْتِحْقَاقِ الْأُلُوهِيَّةِ وَالْعِبَادَةِ عَنْ جَمِيعِ خَلْقِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَإِثْبَاتِ ذَلِكَ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ.

فَمَنْ نَفَى اسْتِحْقَاقَ الْأُلُوهِيَّةِ وَالْعِبَادَةِ عَنْ جَمِيعِ الْخَلْقِ، وَلَمْ يُثْبِتْهَا بِالْحَقِّ لِلهِ -جَلَّ وَعَلَا-.. فَلَيْسَ بِمُوَحِّدٍ، وَكَذَلِكَ مَنْ أَثْبَتَهَا لِلهِ وَلَمْ يَنْفِهَا عَمَّنْ سِوَاهُ وَمَا سِوَاهُ فَلَيْسَ بِمُوَحِّدٍ، بَلْ هُوَ مُشْرِكٌ فِي الْحَالَيْنِ.

فَيَنْبَغِي عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَأْتِيَ بِالْأَمْرَيْنِ مَعًا، وَإِلَّا فَلَيْسَ بِمُوَحِّدٍ لِلهِ -جَلَّ وَعَلَا-، لَا بُدَّ مِنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَهُمَا مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))؛ فَإِنَّهَا نَفْيٌ: ((لَا إِلَهَ..)) ((إِلَّا اللهُ)): وَهَذَا إِثْبَاتٌ، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّخْلِيَةِ وَالتَّحْلِيَةِ، مِنْ نَفْيِ اسْتِحْقَاقِ الْعِبَادَةِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَإِثْبَاتِ الْعِبَادَةِ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ.

وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَنَّ مَنْ أَشْرَكَ بِهِ شَيْئًا أَدْخَلَهُ النَّارَ، وَخَلَّدَهُ فِيهَا أَبَدَ الْآبِدِينَ وَدَهْرَ الدَّاهِرِينَ، فَالْأَمْرُ جِدٌّ، وَهُوَ أَمْرٌ عَظِيمٌ، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: 48].

فَاللهُ لَا يَغْفِرُ الشِّرْكَ بِحَالٍ، وَكُلُّ ذَنْبٍ دُونَ الشِّرْكِ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَغْفِرُهُ، أَوْ يُعَذِّبُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يُخْرِجُ مَنْ عُذِّبَ بِهِ فِي النَّارِ مِنَ النَّارِ لِيَدْخُلَ الْجَنَّةَ بَعْدَ ذَلِكَ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ، {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53]؛ يَعْنِي أَنَّ الذُّنُوبَ الَّتِي يَتُوبُ الْعَبْدُ مِنْهَا، وَكَذَا الذُّنُوبُ الَّتِي دُونَ الشِّرْكِ فَمَاتَ مُصِرًّا عَلَيْهَا وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَهِيَ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ؛ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ النَّارَ، لَكِنَّهُ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ أَبَدَ الْآبِدِينَ وَدَهْرَ الدَّاهِرِينَ.

وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ فَضَائِلِ التَّوْحِيدِ، أَنَّ مَنْ أَتَى بِهِ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ، وَأَمَّا الشِّرْكُ وَهُوَ أَظْلَمُ الظُّلْمِ فَإِنَّ مَنْ أَتَى رَبَّهُ بِهِ فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُهُ، وَإِذَا أَدْخَلَهُ بِهِ النَّارَ -وَهُوَ دَاخِلٌ لَا مَحَالَةَ- فَإِنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا أَبَدًا، نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ.

فَلَا بُدَّ مِنْ إِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لِلهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَلَا بُدَّ مِنْ تَحْدِيدِ الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّ الْخَلْقَ تَائِهُونَ، لَا يَدْرُونَ مَا يَأْخُذُونَ وَمَا يَدَعُونَ، وَمَا يَتَكَلَّمُونَ بِهِ وَمَا عَنْهُ يَصْمُتُونَ، وَهَذَا وَاقِعٌ مَلْمُوسٌ لَا يُنْكِرُهُ إِلَّا جَاحِدٌ.

وَأَمَّا مَنْ آتَاهُ اللهُ ذَرَّةً مِنَ الْإِنْصَافِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَكْثَرَ الْخَلْقِ فِي حَيْرَةٍ وَضَلَالٍ، لَا يَدْرِي مَا الْمُرَادُ مِنْهُ، وَإِذَا عَلِمَ الْمُرَادَ مُجْمَلًا فَإِنَّهُ لَا يَقْوَى عَلَى مَعْرِفَةِ بَعْضِ تَفَاصِيلِهِ مِمَّا أَوْجَبَهُ اللهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ مِنْهُ مَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَى التَّعْيِينِ -بِمَعْنَى أَنَّهُ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَيْكَ- كَالصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ وَاجِبَةٌ مَفْرُوضَةٌ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ، وَفِي الْوَقْتِ عَيْنِهِ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ.

وَالْإِنْسَانُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُصَلِّيَ حَتَّى يَعْلَمَ الطَّهَارَةَ؛ مِنْ وُضُوءٍ، وَمِنْ غُسْلٍ، وَمِنْ بَدِيلٍ لَهُمَا وَهُوَ التَّيَمُّمُ عِنْدَ فَقْدِ الْمَاءِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، ثُمَّ يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ كَيْفَ يُصَلِّي، فَإِذَا بَلَغَ الْحُلُمَ فَقَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ، وَبِالتَّالِي وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ كَيْفِيَّةَ الصَّلَاةِ، هَذَا فَرْضٌ وَاجِبٌ كَالصَّلَاةِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، فَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ.

كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يُهْمِلُ فِي الطَّلَبِ، وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى تَحْصِيلِ الْعِلْمِ، وَيَحْسَبُ أَنَّهُ عَلَى خَيْرٍ وَهُوَ يُهْلِكُ نَفْسَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أُمُورَ الِاعْتِقَادِ عِلْمًا مُجْمَلًا؛ لِأَنَّ تَفَاصِيلَ الِاعْتِقَادِ لَا تَلْزَمُ كُلَّ مُسْلِمٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مُجْمَلُ الِاعْتِقَادِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَعْلَمُهُ!! لَا يَعْرِفُ رَبَّهُ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَبِالتَّالِي لَا يَخْشَاهُ، وَلَا يَرْجُو جَنَابَهُ، وَلَا يَرْجُو عَطَايَاهُ، وَهَذَا أَمْرٌ مَلْمُوسٌ.

بَلْ إِنَّ أَكْثَرَ الْخَلْقِ مُرْجِئٌ مِنْ جَانِبٍ، وَهُوَ -أَيْضًا- جَبْرِيٌّ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ، وَهَذَا مِنْ أَعْجَبِ الْعَجَبِ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ الْعَمَلَ الَّذِي كَلَّفَ بِهِ الْإِنْسَانَ -أَعْنِي الْعَمَلَ الصَّالِحَ- جَعَلَهُ مِنْ مَاهِيَّةِ الْإِيمَانِ، فَمَنْ أَخْرَجَ الْعَمَلَ مِنَ الْإِيمَانِ فَهُوَ مُرْجِئٌ.

أَكْثَرُ النَّاسِ يُخْرِجُ الْعَمَلَ مِنَ الْإِيمَانِ وَيَغْلُو فِي الْإِرْجَاءِ، فَتَسْمَعُ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ أَنَّ الصَّلَاةَ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ، وَأَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْقَلْبِ وَطَهَارَةِ الْقَلْبِ، فَمَا دَامَ الْقَلْبُ طَاهِرًا أَبْيَضَ اللَّوْنِ نَقِيًّا نَاصِعَ الْبَيَاضِ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ صَالِحٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ طَائِرًا كَمَا هُوَ فِي وَهْمِ الْوَاهِمِينَ!!

كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى الْعِبَادَةِ، يُخْرِجُهَا مِنَ الْإِيمَانِ، وَهَذَا لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ، هَذَا مُرْجِئٌ غَالٍ فِي الْإِرْجَاءِ، وَهَذِهِ مِنْ أَقْبَحِ الْبِدَعِ الَّتِي أَصَابَتِ الْمُسْلِمِينَ فِي حَيَاتِهِمْ، وَهِيَ الَّتِي لِأَجْلِهَا تَجِدُ الْفَوْضَى الْأَخْلَاقِيَّةَ، وَتَجِدُ انْفِلَاتَ الْأَلْسِنَةِ، وَانْفِلَاتَ السُّلُوكِ الْخُلُقِيِّ، كُلُّ ذَلِكَ بِسَبَبِ الْإِرْجَاءِ؛ لِأَنَّهُ يُخْرِجُ الْعَمَلَ مِنْ مُسَمَّى الْإِيمَانِ.

وَفِي الْمُقَابِلِ أَكْثَرُ النَّاسِ جَبْرِيَّةٌ، إِذَا مَا احْتَجَّ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ -مَثَلًا- احْتَجَّ بِالْقَدَرِ؛ يَعْنِي: إِذَا قُلْتَ لَهُ: لِمْ لَا تُصَلِّي؟! لَقَدْ دَخَلَ الْوَقْتُ وَيُوشِكُ أَنْ يَخْرُجَ!!

فَيَقُولُ لَكَ: إِنَّ اللهَ كَتَبَ عَلَيَّ أَلَّا أُصَلِّيَ!! وَمَا أَصْنَعُ؟! هَذَا قَدَرٌ قَدَّرَهُ اللهُ عَلَيَّ!! وَهُوَ كَاذِبٌ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَعْلَمُ مَا قُدِّرَ عَلَيْهِ حَتَّى يَقَعَ، فَلَا يَسْتَطِيعُ الْإِنْسَانُ أَنْ يَقُولَ: قَدَّرَ اللهُ عَلَيَّ أَنْ أُصَلِّيَ أَوْ لَا أُصَلِّيَ حَتَّى أُصَلِّيَ أَوْ لَا أُصَلِّيَ!!

إِذَنْ؛ هَذَا أَمْرٌ مُغَيَّبٌ، فَكَيْفَ تَحْتَجُّ بِمَا لَا عِلْمَ لَكَ بِهِ؟!!

فَكَثِيرٌ مِنَ الْخَلْقِ يَحْتَجُّ عَلَى الْمَعَاصِي بِالْقَدَرِ، وَيَنْفَلِتُ زِمَامُهُ فِي الْمَعَاصِي وَالْمَلَذَّاتِ الْمُحَرَّمَاتِ وَالشَّهَوَاتِ، فَإِذَا لِيمَ عَلَى ذَلِكَ وَإِذَا أُخِذَ بِهِ احْتَجَّ بِالْقَدَرِ وَفَزَعَ إِلَيْهِ، وَالْقَدَرُ لَا يُذْكَرُ إِلَّا عِنْدَ الْمُصِيبَاتِ، لَا يُذْكَرُ الْقَدَرُ عِنْدَ الْمَعَاصِي وَالسَّيِّئَاتِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ دَائِرٌ بَيْنَ ثَلَاثِ طَبَقَاتٍ، لَا يَخْلُو إِنْسَانٌ مِنْ وَاحِدَةٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ هَذِهِ الطَّبَقَاتِ؛ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي نِعْمَةٍ فَحَقُّهَا الشُّكْرُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي مِحْنَةٍ وَبَلِيَّةٍ فَحَقُّهَا الصَّبْرُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي ذَنْبٍ وَخَطِيَّةٍ فَحَقُّهَا التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ، لَيْسَ مِنْ حَقِّهَا أَنْ يَحْتَجَّ بِالْقَدَرِ عَلَى الْمَعَاصِي.

فَهَذَا الْخَلَلُ الْوَاقِعُ يَشْمَلُ كَثِيرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ يَشْمَلُ جُلَّ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَنْجُ مِنْ هَذَا إِلَّا أَهْلُ الْعِلْمِ أَهْلُ السُّنَّةِ الَّذِينَ عَرَفُوا الْحَقَّ وَالْتَزَمُوا بِهِ، وَحَرَصُوا عَلَى مَعْرِفَتِهِ وَتَعَلُّمِهِ، وَالْقِيَامِ بِهِ حَالًا وَتَطْبِيقًا وَتَعْلِيمًا.

وَأَمَّا الَّذِينَ يُغْفِلُونَ هَذَا فَهُمْ عَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ، قَدْ يَمُوتُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ مُشْرِكًا، قَدْ يَكُونُ مُشَبِّهًا أَوْ مُمَثِّلًا لِلهِ -جَلَّ وَعَلَا- بِخَلْقِهِ؛ لِأَنَّهُ تَوَرَّطَ فِي بَابِ الصِّفَاتِ.

وَقَدْ يَأْتِي مِنَ الرِّيَاءِ مَا يُدْخِلُهُ النَّارَ جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَرُبَّمَا أَخْرَجَهُ مِنَ الْمِلَّةِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ -كَمَا عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي ((الصَّحِيحِ)) بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَرْفَعُهُ-: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ -أَيْ: دَخَلَتْ فِي جِلْدِهِ أَوْ جَسَدِهِ شَوْكَةٌ- فَلَا انْتَقَشَ -يَعْنِي: يَدْعُو عَلَيْهِ بِأَلَّا تُخْرَجَ الشَّوْكَةُ مِنْ جَسَدِهِ بِالْمِنْقَاشِ وَهُوَ الْمِلْقَاطُ الْمَعْرُوفُ-، طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَشْعَثَ رَأْسُهُ، مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ، إِنْ كَانَ فِي الحِرَاسَةِ كَانَ فِي الحِرَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ، إِنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ».

فِي وَصْفِ الْأَوَّلِ يَقُولُ: ((إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ))؛ فَهَذَا يَعْمَلُ لِنَفْسِهِ، لَا يَعْمَلُ لِرَبِّهِ، وَأَمَّا الْآخَرُ ((إِذَا كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ، أَوْ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ))، وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ إِلَهًا وَاحِدًا -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، يَعْبُدُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ دِينَهُمْ، مُقْبِلِينَ عَلَيْهِ بِجِمَاعِ قُلُوبِهِمْ وَبِخَاصَّةِ أَرْوَاحِهِمْ.

عَلَيْنَا أَنْ نَلْتَفِتَ!

وَعَلَيْنَا أَنْ نَتُوبَ!

وَعَلَيْنَا أَنْ نَخْرُجَ مِنْ هَذَا الِاسْتِهْتَارِ وَهَذِهِ الِاسْتِهَانَةِ الَّتِي أَحَاطَتْ بِالْمُجْتَمَعَاتِ الْمُسْلِمَةِ خَاصَّةً فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، فَإِنَّ مَا وَقَعَ مُنْذُ سَبْعَةِ أَعْوَامٍ أَوْ يَزِيدُ فِي مِصْرَ -مَثَلًا- أَدَّى إِلَى انْهِيَارٍ أَخْلَاقِيٍّ كَادَ يَكُونُ تَامًّا، وَأَدَّى إِلَى تَحَلُّلٍ مِنَ الدِّينِ، حَتَّى إِنَّ النَّاسَ نَسُوا تَمَامًا الْوَلَاءَ وَالْبَرَاءَ، فَصَارُوا يُوَالُونَ الْكُفَّارَ، وَيُقَدِّمُونَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَيُعَادُونَ أَوْلِيَاءَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَيُحَارِبُونَهُمْ! تَبَدَّلَتِ الْمَفَاهِيمُ، وَانْقَلَبَتِ الْأُمُورُ؛ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((كَيْفَ بِكَ يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمْرٍو إِذَا بَقِيتَ فِي حُثَالَةٍ مِنَ النَّاسِ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ، وَخَفَّتْ أَمَانَاتُهُمْ، وَكَانُوا هَكَذَا -وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ-)).

قَالَ: مَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟

قَالَ: ((خُذْ مَا تَعْرِفُ، وَدَعْ مَا تُنْكِرُ، وَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ، وَدَعْ عَنْكَ أَمْرَ عَامَّتِهِمْ»، كَمَا بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ ((الْأَمَانَةَ هِيَ أَوَّلُ مَا يُرْفَعُ مِنَ الْأُمَّةِ))، يُوشِكُ أَنْ تَدْخُلَ الْمَسْجِدَ الْجَامِعَ فَلَا تَجِدُ رَجُلًا أَمِينًا فِيهِ، لَا تَجِدُ وَاحِدًا يُوصَفُ بِالْأَمَانَةِ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، فَالْأَمَانَةُ أَوَّلُ مَا يُرْفَعُ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ.

فَنَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُعَلِّمَنَا دِينَنَا، وَأَنْ يَرْزُقَنَا الصَّبْرَ عَلَى الْعِلْمَ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ ذَكَرٌ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا الذُّكْرَانُ مِنَ الرِّجَالِ، وَأَمَّا الْمُخَنَّثُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُحِبُّونَ الْعِلْمَ، وَلَا يَصْبِرُونَ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَشْرَفُ شَيْءٍ، حَتَّى إِنَّ الْجَاهِلَ إِذَا وُصِفَ بِالْعِلْمِ اسْتَبْشَرَ وَفَرِحَ، وَأَمَّا إِذَا وُصِفَ بِمَا هُوَ فِيهِ.. أَمَّا إِذَا مَا وُصِفَ الْجَاهِلُ بِالْجَهْلِ وَهُوَ فِيهِ وَهُوَ مُتَحَقِّقٌ مِنْهُ فِي نَفْسِهِ، غَضِبَ؛ يَعْنِي: لَوْ قُلْتَ لِرَجُلٍ جَاهِلٍ: يَا جَاهِلُ! فَلَرُبَّمَا أَوْسَعَكَ ضَرْبًا، وَلَرُبَّمَا اعْتَدَى عَلَيْكَ اعْتِدَاءً بِدَنِيًّا بِالضَّرْبِ، وَرُبَّمَا بِالْجَرْحِ أَوْ بِالْقَتْلِ، مَعَ أَنَّكَ لَمْ تَصِفْهُ إِلَّا بِمَا فِيهِ.

إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَضَّلَ بِالْعِلْمِ كَلْبًا عَلَى كَلْبٍ، فَإِنَّ الْكَلْبَ الْمُعَلَّمَ إِذَا أَمْسَكَ الصَّيْدَ عَلَى صَاحِبِهِ؛ فَقَدْ أَذِنَ اللهُ -تَعَالَى- لِلصَّائِدِ أَنَّ يَأْكُلَ مِنْهُ، وَأَمَّا الْكَلْبُ الْجَاهِلُ غَيْرُ الْمُعَلَّمِ فَلَوْ أَمْسَكَ الصَّيْدَ عَلَى صَاحِبِهِ فَذَفَّفَهُ -يَعْنِي: خَرَجَتْ رُوحُهُ، وَلَمْ يُدْرِكْهُ صَاحِبُهُ حَيًّا لِيُذَكِّيَهُ-، فَلَيْسَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ صَيْدِ الْكَلْبِ الْجَاهِلِ.

فَضَّلَ اللهُ كَلْبًا عَلَى كَلْبٍ بِالْعِلْمِ؛ فَكَيْفَ بِالْبَشَرِ الَّذِينَ كَرَّمَهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؟!!

أَعْطُوا الْعِلْمَ بَعْضَ أَوْقَاتِكُمْ، بَعْضَ مَجْهُودِكُمْ، بَعْضَ حَيَاتِكُمْ، وَهُوَ أَحَبُّ إِلَيْكُمْ وَأَشَدُّ ضَرُورَةً لَدَيْكُمْ مِنَ النَّفَسِ، ((النَّاسُ يَحْتَاجُونَ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ فِي الْيَوْمِ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَيَحْتَاجُونَ الْعِلْمَ بِعَدَدِ الْأَنْفَاسِ))، بَلْ إِنَّ الْعِلْمَ أَشَدُّ ضَرُورَةً لِلْعَبْدِ مِنَ النَّفَسِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا فَقَدَ النَّفَسَ مَاتَ، وَرُبَّمَا خَرَجَ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ إِلَى الْجَنَّةِ وَنِعْمَ الْقَرَارُ، وَأَمَّا إِذَا فَقَدَ الْعِلْمَ مَاتَ قَلْبُهُ، وَلَا شَكَّ أَنْ مَوْتَ الْقَلْبِ أَشَدُّ مِنْ مَوْتِ الْجَسَدِ بِمَا لَا يُقَاسُ.

فَيَا أَيُّهَا الْأَحِبَّةُ! فَرِّغُوا بَعْضَ أَوْقَاتِكُمْ لِطَلَبِ الْعِلْمِ، وَلَا تُلْقُوا بِأَسْمَاعِكُمْ لِلْمُبْتَدِعَةِ الْمُنْحَرِفِينَ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ جَلَسُوا عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى الْجَنَّةِ بِأَقْوَالِهِمْ، وَيَصُدُّونَ النَّاسَ عَنِ الْجَنَّةِ بِأَفْعَالِهِمْ.

((ثَمَرَةُ الْعِلْمِ الْعَمَلُ وَالْخَشْيَةُ))

عِبَادَ اللهِ! الْحَقُّ أَنَّ الْعِلْمَ لَمْ يَصِرْ فِي هَذَا الْعَصْرِ مُنْتِجًا ثَمَرَهُ، وَلَا مُؤَثِّرًا فِكْرَهُ إِلَّا عِنْدَ مَنْ رَحِمَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْتَ مِنْ بَابِهِ, وَإِنَّمَا تَسَلَّقَ عَلَيْهِ مَنْ تَسَلَّقَ الْأَسْوَارَ, حَتَّى وَقَعَ فِي مِحْرَابِهِ, فَلَا حَصَّلَ عِلْمًا، وَلَا عَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا, وَلَا وَرِثَ أَخْلَاقًا طَيِّبَةً, وَإِنَّمَا ازْدَادَتْ حُجَّةُ اللهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ- إِنْ لَمْ يَنْفَعْكَ ضَرَّكَ.. الْعِلْمُ إِنْ لَمْ يَنْفَعْكَ ضَرَّكَ!!

وَلَا تَسْتَكْثِرَنَّ مِنْ حُجَجِ اللهِ عَلَيْكَ!

اقْرِنِ الْعِلْمَ بِالْعَمَلِ!

وَاتَّقِ اللهَ رَبَّكَ!

وَكُنْ ذَا خُلُقٍ حَسَنٍ!

اصْبِرْ وَأَخْلِصْ وَفِ!

وَاجْتَهِدْ فِي أَنْ تَكُونَ آخِذًا بِالْأَخْلَاقِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ!

وَاعْلَمْ أَنَّ ثَمَرَةَ الْعِلْمِ الْعَمَلُ، وَمَنْ لَمْ يَعْمَلْ بِعِلْمِهِ ذَهَبَ عَنْهُ مَا عَلِمَ, وَكَانَ حُجَّةً عَلَيْهِ كَمَا مَرَّ فِي الْآثَارِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَصَرَ الْخَشْيَةَ عَلَى الْعُلَمَاءِ؛ فَالْعِلْمُ مَا أَوْرَثَكَ الْخَشْيَةَ, وَلَيْسَ بِعِلْمٍ مَا لَا يُورِثُكَ خَشْيَةَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

الْعِلْمُ مَا أَوْرَثَ الْخَشْيَةَ!!

{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].

عَلَيْنَا أَنْ نَتَأَمَّلَ كَثِيرًا فِي آثَارِ سَلَفِنَا, بَلْ فِي أَحَادِيثِ نَبِيِّنَا ﷺ, بَلْ فِي آيَاتِ رَبِّنَا الَّتِي وَضَعَتْ لَنَا سُبُلَ الِاسْتِرْشَادِ مِنْ أَجْلِ طَلَبِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ بِهِ؛ حَتَّى نُحَصِّلَ عِلْمًا نَافِعًا وَعَمَلًا صَالِحًا مُتَقَبَّلًا.

نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَرْزُقَنَا الْإِخْلَاصَ، وَأَنْ يَمُنَّ عَلَيْنَا بِالْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ, وَأَنْ يُقِيمَنَا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى نَلْقَى وَجْهَهُ الْكَرِيمَ.

نَسْأَلُ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- أَنْ يُعَلِّمَنَا مَا يَنْفَعُنَا، وَأَنْ يَنْفَعَنَا بِمَا عَلَّمَنَا، وَأَنْ يَزِيدَنَا عِلْمًا.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

 

المصدر: وَاجِبُ الْمُعَلِّمِ وَالْمُتَعَلِّمِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  ((دُرُوسٌ وَعِظَاتٌ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ)) ((الدَّرْسُ الْخَامِسُ: أَذْكَارٌ وَأَدْعِيَةٌ عَظِيمَةٌ وَقْتَ الْمِحَنِ))
  أَمَانَةُ الْكَلِمَةِ
  خُطْبَةُ عِيدِ الْفِطْرِ 1444هـ
  حياة النبي صلى الله عليه وسلم من الميلاد إلى البعثة
  كَيْفَ نَسْتَمْطِرُ الرَّحَمَاتِ الرَّبَّانِيَّةَ؟
  تَرْبِيَةُ الْأَوْلَادِ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّة وَحُقُوقُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ
  الدِّينُ وَالْإِنْسَانُ
  رِعَايَةُ الْأَيْتَامِ وَاجِبٌ دِينِيٌّ وَمُجْتَمَعِيٌّ
  قَضَاءُ حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ أَفْضَلُ مِنْ نَوَافِلِ الْعِبَادَاتِ
  يَوْمُ بَدْرٍ.. دُرُوسٌ وَعِبَرٌ وَعِبَادَاتُ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان