دُرُوسٌ مِنَ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ

دُرُوسٌ مِنَ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ

((دُرُوسٌ مِنَ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُه، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ يُؤيِّدُ أَنْبِيَاءَهُ بِالْمُعْجِزَاتِ))

فَإِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- خَلَقَ الْإِنْسَانَ، وَمَتَّعَهُ بِنِعْمَةِ الْعَقْلِ وَالْبَيَانِ، وَلَمْ يَجْعَلْ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْعَقْلَ طَلِيقًا فِي مَجَالَاتٍ يَرْتَادُهَا بِغَيْرِ حُدُودٍ، وَإِنَّمَا جَعَلَ لِلْعَقْلِ حُدُودًا يَنْتَهِي عِنْدَهَا وَنِهَايَاتٍ يَتَوَقَّفُ لَدَيْهَا.

وَمِنْ أَجْلِ أَنْ يُسَدِّدَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْأَنْبِيَاءَ فِيمَا آتَاهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِيَّاهُ مِنَ الْوَحْيِ الْمُبِينِ؛ جَعَلَهُمْ آتِينَ بِالْمُعْجِزَاتِ الَّتِي يُجْرِيهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى أَيْدِيهِمْ، مِمَّا يَجْعَلُ الْعَقْلَ الْمُسْتَقِيمَ لَدَى الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ يُقِرُّ وَيُذْعِنُ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ لَدُنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَالْمُعْجِزَةُ: أَمْرٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ مَقْرُونٌ بِالتَّحَدِّي صَرَاحَةً أَوْ ضِمْنًا، يُجْرِيهِ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى يَدَيْ مُدَّعٍ لِلنُّبُوَّةِ؛ تَصْدِيقًا لَهُ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ دَعْوَى الرِّسَالَةِ مِنْ عِنْدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَالتَّأْيِيدُ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا يَكُونُ إِلَّا لِصَادِقٍ؛ لِأَنَّ تَأْيِيدَ الْكَاذِبِ تَصْدِيقٌ لَهُ، وَتَصْدِيقُ الْكَاذِبِ كَذِبٌ، وَالْكَذِبُ مُحَالٌ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

فَإِذَا أَظْهَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَمْرًا خَارِقًا لِلْعَادَةِ عَلَى يَدَيْ مُدَّعٍ لِلنُّبُوَّةِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يَقُومُ فِي مَقَامِ قَوْلِ رَبِّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَوْ أَسْمَعَنَا: صَدَقَ عَبْدِي فِيمَا يُبَلِّغُ عَنِّي.

وَالْمُعْجِزَةُ الَّتِي يَأْتِي بِهَا الرَّسُولُ أَوِ النَّبِيُّ مِنْ عِنْدِ الْعَلِيِّ الْأَعْلَى تُفَارِقُ الْمُخْتَرَعَاتِ الْحَدِيثَةَ الَّتِي يَتَوَصَّلُ إِلَيْهَا النَّاسُ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمُخْتَرَعَاتِ مِمَّا يَخْضَعُ لِقَانُونٍ يَعْرِفُهُ الْعَقْلُ وَيَتَوَصَّلُ إِلَيْهِ، وَلِأَنَّنَا لَمْ نَرَ رَجُلًا اخْتَرَعَ جِهَازًا، ثُمَّ قَامَ يَتَحَدَّى بِهِ الْعَالَمَ، وَيَدَّعِي النُّبُوَّةَ بِسَبَبِ مَا أَتَى بِهِ مِنْ هَذَا الِاخْتِرَاعِ الْعَجِيبِ، وَلَوْ فَعَلَ؛ لَقَامَ إِلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يُعَارِضُونَهُ بِمِثْلِ مَا أَتَى بِهِ وَأَعْلَى مِنْهُ وَأَجَلُّ.

وَأَمَّا الْمُعْجِزَةُ فَلَيْسَ لَهَا قَانُونٌ يُتَوَصَّلُ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهَا نَهْجٌ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا تَأْيِيدٌ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ صَاحِبِ الْقُوَى وَالْقُدَرِ الَّذِي هُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

وَالْمُعْجِزَةُ تَخْتَلِفُ أَيْضًا عَنِ السِّحْرِ؛ لِأَنَّ السِّحْرَ وَإِنْ كَانَ يَأْتِي فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ بِدُرُوبٍ لَا يَتَخَيَّلُهَا الْعَقْلُ، فَإِنَّهُ يَخْضَعُ فِي النِّهَايَةِ لِقَوَاعِدَ وَأُصُولٍ يَعْرِفُهَا السَّاحِرُ، وَيَسِيرُ عَلَيْهَا، وَيَخْضَعُ لَهَا، وَيَذِلُّ عِنْدَهَا، وَلَيْسَتِ الْمُعْجِزَةُ كَذَلِكَ.

وَالْمُعْجِزَةُ الَّتِي يُؤَيِّدُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَا أَنْبِيَاءَهُ تَخْتَلِفُ عَنِ الْكَرَامَةِ الَّتِي يُكْرِمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَا أَوْلِيَاءَهُ؛ لِأَنَّ الْكَرَامَةَ أَمْرٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ يُجْرِيهِ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ صَالِحٍ لَا يَدَّعِي النُّبُوَّةَ، وَأَمَّا الْمُعْجِزَةُ فَفِيهَا ادِّعَاءُ النُّبُوَّةِ، وَفِيهَا تَصْدِيقُ الْمُعْجِزَةِ بِوَحْيِ الرِّسَالَةِ مِنْ عِنْدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَأَمَّا الْكَرَامَةُ: فَتَجْرِي عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ صَالِحٍ يَنْتَسِبُ إِلَى نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، تَكُونُ زِيَادَةً فِي شَرَفِ النَّبِيِّ الْمَتْبُوعِ.

فَأَمَّا إِذَا جَرَى الْأَمْرُ الْخَارِقُ لِلْعَادَةِ عَلَى يَدَيِ الرَّجُلِ الطَّالِحِ؛ فَهَذِهِ هِيَ الشَّعْوَذَةُ، وَهَذَا هُوَ الدَّجَلُ، وَهَذَا هُوَ التَّمْوِيهُ.

وَقَدْ أَيَّدَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمُرْسَلِينَ قَبْلَ مُحَمَّدٍ ﷺ بِدُرُوبٍ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ بِالْمُعْجِزَاتِ الْبَيِّنَاتِ وَالْآيَاتِ الْقَاهِرَاتِ، فَلَمَّا جَاءَ الرَّسُولُ ﷺ؛ جَمَعَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ مَا أَجْرَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ قَبْلَهُ، كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْهُ الْبَيْهَقِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- ، قَالَ: ((مَا آتَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ نَبِيًّا قَطُّ مِنْ آيَةٍ وَلَا مُعْجِزَةٍ إِلَّا أَعْطَى مُحَمَّدًا ﷺ مِثْلَهَا أَوْ أَعْظَمَ مِنْهَا وَأَجَلِّ.

فَقِيلَ لَهُ: إنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَدْ أَجْرَى عَلَى يَدَيِ الْمَسِيحِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِحْيَاءَ الْمَوْتَى، فَأَيْنَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ؟

فَقَالَ الشَّافِعِيُّ الْإِمَامُ -عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ-: إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- أَعْطَى مُحَمَّدًا ﷺ أَجَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَأَعْظَمَ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ الْجِذْعَ -وَهُوَ خَشَبَةٌ لَا حَيَاةَ فِيهَا- تَحِنُّ إِلَيْهِ، وَتَئِنُّ لِفِرَاقِهِ بِمَا كَانَ يُتْلَى عِنْدَ هَذَا الْجِذْعِ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ ﷺ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالذِّكْرِ ، فَهَذَا أَعْظَمُ مِنْ رَدِّ الْحَيَاةِ عَلَى مَيِّتٍ كَانَ حَيًّا قَبْلُ.

وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ قَدْ فَلَقَ الْبَحْرَ لِمُوسَى.

قُلْنَا: إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ قَدْ فَلَقَ الْقَمَرَ وَشَقَّهُ لِمُحَمَّدٍ ﷺ ، وَالْقَمَرُ بِانْشِقَاقِهِ آيَةٌ سَمَاوِيَّةٌ، وَالْبَحْرُ بِانْفِلَاقِهِ آيَةٌ أَرْضِيَّةٌ، وَالْآيَةُ السَّمَاوِيَّةُ أَعْلَى وَأَجَلُّ مِنَ الْآيَةِ الْأَرْضِيَّةِ.

وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ قَدْ أَجْرَى عَلَى يَدَيْ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنَّهُ يَضْرِبُ الْحَجَرَ بِعَصَاهُ؛ فَتَنْبَجِسُ مِنْهُ أَعْيُنُ الْمِيَاهِ.

قُلْنَا: إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَخْرَجَ مِنْ بَيْنِ اللَّحْمِ وَالدَّمِ مِنْ يَدَيْ مُحَمَّدٍ ﷺ الْمَاءَ الْعَذْبَ النَّمِيرَ بِلَا حَدٍّ وَلَا حُدُودٍ ، وَإِخْرَاجُ الْمَاءِ مِنَ الْحَجَرِ هَذَا هُوَ الْمَعْهُودُ.

وَأَمَّا إِخْرَاجُ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ اللَّحْمِ وَالدَّمِ، مِنَ الْجَارِحَةِ الَّتِي هِيَ الْيَدُ؛ فَهَذَا هُوَ الْأَمْرُ الَّذِي لَا يُعْهَدُ، وَأَجْرَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى يَدَيْ مُحَمَّدٍ ﷺ آيَةً بَيِّنَةً وَمُعْجِزَةً قَاهِرَةً.

وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ سَخَّرَ لِسُلَيْمَانَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ.

قُلْنَا: إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ قَدْ عَرَجَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ بَعْدَمَا أَسْرَى بِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، إِلَى السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، ثُمَّ تَقَدَّمَ إِلَى مَقَامٍ يَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الْأَقْلَامِ .

يَقُولُ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- فِي ((مُقَدِّمَةِ شَرْحِهِ عَلَى صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) : ((إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَعْطَى مُحَمَّدًا ﷺ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ مِائَتَيْنِ وَأَلْفًا)).

أَلْفٌ وَمَائِتَانِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ أُوتِيَهَا وَأُعْطَاهَا مُحَمَّدٌ ﷺ.

وَتَنَوَّعَتْ مُعْجِزَاتُ الرَّسُولِ ﷺ، فَشَمَلَتِ الْمُعْجِزَاتِ الْحِسِّيَّةَ الَّتِي يَرَاهَا مَنْ يُعَاصِرُ خَيْرَ الْبَرِيَّةِ ﷺ، وَيَشْهَدُهَا بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ، فَتَقُومُ بِهَا الْحُجَّةُ، وَيَقَعُ بِهَا الْإِذْعَانُ، وَتَسْتَبِينُ بِهَا الْمَحَجَّةُ، ثُمَّ يَتَوَاتَرُ النَّقْلُ بِهَا صَحِيحًا مُسْتَقِرًّا، كَأَنَّمَا نَرَاهَا وَنُشَاهِدُهَا، يُجْرِيهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى يَدَيْ خَلِيلِهِ وَصَفِيِّهِ ﷺ.

ثُمَّ آتَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْمُعْجِزَةَ الْخَالِدَةَ الْبَاقِيَةَ ((الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ))؛ لِأَنَّهُ مَبْعُوثٌ فِي مُطْلَقِ الزَّمَانِ وَمُطْلَقِ الْمَكَانِ، كَمَا جَاءَ فِيمَا صَحَّ عَنْهُ فِيمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ : عَنِ الرَّسُولِ ﷺ، قَالَ: ((وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً)).

فَهُوَ رَسُولُ عَامَّةٍ بِلَا حُدُودٍ وَلَا قُيُودٍ وَلَا سُدُودٍ، فِي مُطْلَقِ الزَّمَانِ وَمُطْلَقِ الْمَكَانِ، فَنَاسَبَ ذَلِكَ أَنْ تَظَلَّ مُعْجِزَتُهُ قَائِمَةً لِلْعِيَانِ، يَشْهَدُهَا مَنْ مَتَّعَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِنِعْمَةِ الْبَصِيرَةِ، وَيُقْبِلُ عَلَيْهَا مَنْ مَتَّعَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِنِعْمَةِ الْعَقْلِ، وَمَا تَزَالُ بَاقِيَةً حَتَّى يَرْفَعَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ مِنَ الصُّدُورِ وَمِنَ السُّطُورِ.

 ((حَدِيثُ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ))

وَبَعْدَ خَمْسِينَ مِنَ الْأَعْوَامِ ... مَضَتْ لِعُمْرِ سَيِّدِ الْأَنَامِ
أَسْرَى بِهِ اللَّهُ إِلَيْهِ فِي الظُّلَمْ ... وَفَرَضَ الْخَمْسَ عَلَيْهِ وَحَتَمْ
وَكَانَ الْإِسْرَاءُ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى, وَالْمِعْرَاجُ مِنَ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، ثُمَّ إِلَى حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-.

قَالَ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي ذِكْرِ الْإِسْرَاءِ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الْإِسْرَاءِ: 1].

تَنَزَّهَ اللهُ سُبْحَانَهُ تَنْزِيهًا عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ، وَكَمَالِ صِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَكَمَالِ أَفْعَالِهِ وَتَصَرُّفَاتِهِ.

فَهُوَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ الْكَامِلِ فِي عُبُودِيَّتِهِ لِرَبِّهِ فِي جُزْءٍ قَلِيلٍ مِنَ اللَّيْلِ بِرُوحِهِ وَجَسَدِهِ يَقَظَةً لَا مَنَامًا، مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمَكَّةَ الَّذِي جَعَلَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- مَكَانَهُ آمِنًا مَمْنُوعًا بِالْأَمْرِ التَّكْوِينِيِّ وَالْأَمْرِ التَّكْلِيفِيِّ، إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَبْعَدِ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ الَّذِي جَعَلْنَا فِيهِ وَحَوْلَهُ بَرَكَاتٍ مَادِّيَّةً مِنْ خَيْرَاتِ الْأَرْضِ، وَمَعْنَوِيَّةً مِنْ عَطَاءَاتِنَا، وَجَعَلْنَاهُ مَقَرَّ الْأَنْبِيَاءِ وَمَهْبِطَ الْوَحْيِ.

وَقَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي ذِكْرِ الْمِعْرَاجِ: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النَّجْمِ: 13-18].

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: ((بَابُ حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ، وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الْإِسْرَاءِ: 1])):

وَرَوَى البُخَارِيُّ : عن أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يقول: ((لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ, قُمْتُ فِي الحِجْرِ, فَجَلَّى اللَّهُ لِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ, فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ)). وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَيْضًا مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

وَرَوَى مُسْلِمٌ : عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ, وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ، يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ», قَالَ: «فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ»، قَالَ: «فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي يَرْبِطُ بها الْأَنْبِيَاءُ».

قَالَ: «ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجْتُ, فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ، فَقَالَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ, ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ».

ورَوَى البخاريُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- : ((بَابٌ: الْمِعْرَاجُ))، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ حَدَّثَهُمْ عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ، قَالَ: ((بَيْنَمَا أَنَا فِي الْحَطِيمِ, وَرُبَّمَا قَالَ فِي الْحِجْرِ, مُضْطَجِعًا إِذْ أَتَانِي آتٍ, فَقَدَّ -قَالَ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: فَشَقَّ -وَهُمَا بِمَعْنَى: الْقَدِّ وَالشَّقِّ لِلثَّوْبِ، وَكَذَلِكَ لِمَا بَيْنَ هَذِهِ إِلَى هَذِهِ وَاحِدٌ-، مَا بَيْنَ هَذِهِ إِلَى هَذِهِ)).

فَقُلْتُ  لِلْجَارُودِ  وَهُوَ إِلَى جَنْبِي: مَا يَعْنِي بِهِ؟

قَالَ: مِنْ ثُغْرَةِ نَحْرِهِ  إِلَى شِعْرَتِهِ .

وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: مِنْ قَصِّهِ  إِلَى شِعْرَتِهِ، ((فَاسْتَخْرَجَ قَلْبِي, ثُمَّ أُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوءَةٍ إِيمَانًا، فَغُسِلَ قَلْبِي, ثُمَّ حُشِيَ, ثُمَّ أُعِيدَ، ثُمَّ أُتِيتُ بِدَابَّةٍ دُونَ الْبَغْلِ وَفَوْقَ الْحِمَارِ أَبْيَضَ)).

فَقَالَ لَهُ الْجَارُودُ: هُوَ الْبُرَاقُ يَا أَبَا حَمْزَةَ؟

فَقَالَ أَنَسٌ: نَعَمْ، «يَضَعُ خَطْوَهُ عِنْدَ أَقْصَى طَرْفِهِ, فَحُمِلْتُ عَلَيْهِ، فَانْطَلَقَ بِي جِبْرِيلُ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الدُّنْيَا فَاسْتَفْتَحَ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وقد أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ, فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. فَفُتِحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا فِيهَا آدَمُ, فَقَالَ: هَذَا أَبُوكَ آدَمُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ. فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ السَّلَامَ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ.

ثُمَّ صَعِدَ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ فَاسْتَفْتَحَ, قِيلَ مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وقد أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ, فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. فَفَتَحَ فَلَمَّا خَلَصْتُ إِذَا يَحْيَى وَعِيسَى، وَهُمَا ابْنَا الْخَالَةِ, قَالَ: هَذَا يَحْيَى وَعِيسَى، فَسَلِّمْ عَلَيْهِمَا، فَسَلَّمْتُ، فَرَدَّا، ثُمَّ قَالَا: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ.

ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ ﷺ.قِيلَ: وقد أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. فَفُتِحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ؛ فَإِذَا يُوسُفُ قَالَ: هَذَا يُوسُفُ, فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ.

ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الرَّابِعَةَ، فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ ﷺ. قيل: أَوْقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ, فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَفُتِحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ إِلَى إِدْرِيسَ، قَالَ: هَذَا إِدْرِيسُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ.

ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الْخَامِسَةَ، فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ ﷺ. قيل: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ, فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. فَلَمَّا خَلَصْتُ، فَإِذَا هَارُونُ، قَالَ: هَذَا هَارُونُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ.

ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ السَّادِسَةَ فَاسْتَفْتَحَ, قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ ﷺ. قيل: أَوْقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: مَرْحَبًا بِهِ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. فَلَمَّا خَلَصْتُ، فَإِذَا مُوسَى، قَالَ: هَذَا مُوسَى، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، فَلَمَّا تَجَاوَزْتُ بَكَى, قِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: أَبْكِي؛ لِأَنَّ غُلَامًا بُعِثَ بَعْدِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِهِ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَدْخُلُهَا مِنْ أُمَّتِي.

ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ ﷺ. قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: مَرْحَبًا بِهِ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. فَلَمَّا خَلَصْتُ، فَإِذَا إِبْرَاهِيمُ، قَالَ: هَذَا أَبُوكَ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ عَليَّ السَّلَامَ قَالَ: مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ.

ثُمَّ رُفِعَتْ لِي سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى، فَإِذَا نَبْقُهَا مِثْلُ قِلَالِ هَجَر, وَإِذَا وَرَقُهَا مِثْلُ آذَانِ الْفِيَلَةِ. قَالَ: هَذِهِ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى, وَإِذَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ: نَهْرَانِ بَاطِنَانِ وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ، فَقُلْتُ: مَا هَذَانِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: أَمَّا الْبَاطِنَانِ: فَنَهْرَانِ فِي الْجَنَّةِ، وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ: فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ.

ثُمَّ رُفِعَ لِي الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ ، ثُمَّ أُتِيتُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ وَإِنَاءٍ مِنْ عَسَلٍ, فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ، فَقَالَ: هِيَ الْفِطْرَةُ، أَنْتَ عَلَيْهَا وَأُمَّتُكَ.

ثُمَّ فُرِضَتْ عَلَيَّ الصَّلَوَاتُ خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ, فَرَجَعْتُ، فَمَرَرْتُ عَلَى مُوسَى، فَقَالَ: بِمَا أُمِرْتَ؟ قَالَ: أُمِرْتُ بِخَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ.

قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ, وَإِنِّي وَاللَّهِ قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ, فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ.

فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا, فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ, فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا, فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ, فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا, فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ, فَرَجَعْتُ فَأُمِرْتُ بِعَشْرِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ, فَرَجَعْتُ فَقَالَ مِثْلَهُ, فَرَجَعْتُ فَأُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ, فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: بِمَا أُمِرْتَ؟

قُلْتُ: أُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ.

قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ خَمْسَ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ, وَإِنِّي قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ؛ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ.

قَالَ: سَأَلْتُ رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ, وَلَكِنِّي أَرْضَى وَأُسَلِّمُ. قَالَ: فَلَمَّا تَجَاوَزْتُ نَادَى مُنَادٍ: أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ مُخْتَصَرًا.

وَلِمُسْلِمٍ : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي الْحِجْرِ وَقُرَيْشٌ تَسْأَلُنِي عَنْ مَسْرَايَ, فَسَأَلَتْنِي عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ أُثْبِتْهَا»؛ لِأَنَّ الْإِسْرَاءَ كَانَ بِلَيْلٍ، وَالنَّبِيُّ ﷺ لَمْ يَكُنْ بِحَيْثُ يَدُورُ فِي أَرْجَاءِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى لِيَعْرِفَ مَعَالِمَهُ.

ثُمَّ هُنَالِكَ مِنَ الْأَبْوَابِ وَالنَّوَافِذِ وَالسُّقُوفِ وَمَا أَشْبَهَ، بَلْ إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا صَلَّى إِمَامًا لِلْأَنْبِيَاءِ فِيهِ -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ-؛ عُرِجَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، ثُمَّ إِلَى مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-.

قَالَ: «لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي الْحِجْرِ وَقُرَيْشٌ تَسْأَلُنِي عَنْ مَسْرَايَ, فَسَأَلَتْنِي عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ أُثْبِتْهَا، فَكُرِبْتُ كُرْبَةً مَا كُرِبْتُ مِثْلَهَا قَطُّ», قَالَ: «فَرَفَعَهُ اللَّهُ لِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ: مَا يَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَنْبَأْتُهُمْ بِهِ». الْحَدِيثَ.

 ((دُرُوسٌ عَظِيمَةٌ مِنَ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ))

إِنَّ مُعْجِزَةَ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ مِنْ أَجَلِّ الْمُعْجِزَاتِ وَأَعْظَمِ الْآيَاتِ الَّتِي أَكْرَمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهَا نَبِيَّهُ ﷺ، وَهَذِهِ بَعْضُ الدُّرُوسِ الْعَظِيمَةِ وَالْعِبَرِ الْجَلِيلَةِ مِنْ هَذَا الْحَدَثِ الْعَظِيمِ.

***

((مِنْ دُرُوسِ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ:

أَنَّ أَشْرَفَ مَقَامٍ وَأَعْلَاهُ مَقَامُ الْعُبُودِيَّةِ))

 

إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ وَصَفَهُ رَبُّهُ بِالْعُبُودِيَّةِ -بِالْوَصْفِ الشَّرِيفِ- فِي أَعْظَمِ الْمَقَامَاتِ.

فِي مَقَامِ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن: 19]؛ أَيْ جَمَاعَاتٍ جَمَاعَاتٍ، يُرِيدُونَ إِيصَالَ الضُّرِّ إِلَيْهِ، وَإِيقَاعَ الْمَكْرُوهِ عَلَيْهِ، وَهَيْهَاتَ.

{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ}: فَوَصَفَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي هَذَا الْمَقَامِ الشَّرِيفِ بِهَذَا الْوَصْفِ الشَّرِيفِ.

بَلْ فِي مَقَامِ الْكِفَايَةِ وَالْحِفْظِ، ذَكَرَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَذَا الْوَصْفِ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36]؟

بَلَى كَافٍ.

وَتَكُونُ الْكِفَايَةُ عَلَى قَدْرِ الْعُبُودِيَّةِ، فَمَنْ جَاءَ بِعُبُودِيَّةٍ كَامِلَةٍ فَلَهُ مِنَ الْكِفَايَةِ بِحَسَبِهَا، وَمَنْ جَاءَ بِعُبُودِيَّةٍ نَاقِصَةٍ فَبِحَسَبِ مَا جَاءَ بِهِ تَكُونُ الْكِفَايَةُ.

وَفِي مَقَامِ التَّحَدِّي وَصَفَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَذَا الْوَصْفِ الشَّرِيفِ: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} [البقرة: 23].

فِي هَذَا الْمَقَامِ الشَّرِيفِ -فِي مَقَامِ التَّحَدِّي- وَصَفَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَذَا الْوَصْفِ.

وَفِي مَقَامِ الْإِسْرَاءِ لَمَّا أُسْرِيَ بِهِ لَيْلًا، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَوَاتِ الْعُلَى حَتَّى كَانَ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، ثُمَّ تَقَدَّمَ فَاخْتَرَقَ، وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ جِهَارًا وَكِفَاحًا مِنْهُ إِلَيْهِ، وَكَلَّفَهُ رَبُّهُ بِمَا كَلَّفَهُ ﷺ.

فِي هَذَا الْمَقَامِ الشَّرِيفِ وَصَفَهُ رَبُّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَذَا الْوَصْفِ الشَّرِيفِ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1].

فَوَصَفَهُ بِوَصْفِ الْعُبُودِيَّةِ.

وَأَمَّا هُوَ -بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي وَنَفْسِي ﷺ- فَإِنَّهُ قَدْ حَقَّقَ هَذَا الْوَصْفَ تَحْقِيقًا، وَأَتَى بِهِ عَلَى وَجْهِهِ الَّذِي لَا يَتَخَلَّفُ ﷺ.

النَّبِيُّ ﷺ يَقُومُ اللَّيْلَ حَتَّى تَتَوَرَّمَ قَدَمَاهُ، حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ، حَتَّى تَتَشَقَّقَ قَدَمَاهُ ﷺ، فَإِذَا رُوجِعَ: أَلَيْسَ قَدَ غَفَرَ لَكَ رَبُّكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟!!

فَلِمَ هَذَا الْعَنَاءُ؟!!

لَيْسَ بِعَنَاءٍ، وَإِنَّمَا هُوَ اقْتِرَابٌ مِنْ حَقِيقَةِ الْعُبُودِيَّةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا خَلَقَهُ اللهُ، وَهُوَ خَيْرُ مَنْ حَقَّقَ الْعُبُودِيَّةَ للهِ، فَإِذَا رُوجِعَ قَالَ: ((أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا ﷺ )) .

الْعِبَادَةُ لِلَّهِ هِيَ الْغَايَةُ الْمَحْبُوبَةُ لَهُ، وَالْمُرْضِيَةُ لَهُ، وَالَّتِي خَلَقَ الْخَلْقَ لَهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].

وَبِهَا أُرْسِلَ جَمِيعُ الرُّسُلِ، كَمَا قَالَ نُوحٌ لِقَوْمِهِ: {اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59].

وَكَذَلِكَ قَالَ هُودٌ، وَصَالِحٌ، وَشُعَيْبٌ، وَغَيْرُهُمْ لِقَوْمِهِمْ.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ۖ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} [النحل: 36].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].

وَجَعَلَ ذَلِكَ لَازِمًا لِرَسُولِهِ إِلَى الْمَوْتِ؛ كَمَا قَالَ: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99].

وَبِذَلِكَ وَصَفَ مَلَائِكَتَهُ وَأَنْبِيَاءَهُ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ}  [الأنبياء: 19- 20].

وَذَمَّ الْمُسْتَكْبِرِينَ عَنْهَا بِقَوْلِهِ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60].

وَنَعَتَ صَفْوَةَ خَلْقِهِ بِالْعُبُودِيَّةِ لَهُ فَقَالَ تَعَالَى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان: 6].

وَقَالَ: {وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا...} الْآيَاتِ [الفرقان: 63- 77].

وَقَالَ تَعَالَى عَنِ الْمَسِيحِ -الَّذِي ادُّعِيَتْ فِيهِ الْإِلَهِيَّةُ وَالنُّبُوَّةُ-: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف: 59].

وَبِالْعُبُودِيَّةِ نَعَتَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كُلَّ مَنِ اصْطَفَى مِنْ خَلْقِهِ فِي قَوْلِهِ: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47)} [ص: 45-47].

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ ((الصَّحِيحِ)) : «لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ؛ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ ».

فَالدِّينُ كُلُّهُ دَاخِلٌ فِي الْعِبَادَةِ.

عِبَادَ اللهِ! {اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ}.

حَقِّقُوا الْعُبُودِيَّةَ للهِ بِالْمَعْنَى الْخَاصِّ، وَهُوَ مَا حَقَّقَهُ نَبِيُّكُمْ ﷺ.

 ((الْإِسْرَاءُ وَالْمِعْرَاجُ وَالْمِنْحَةُ بَعْدَ الْمِحْنَةِ))

مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ -عِبَادَ اللهِ- أَنَّ رِحْلَةَ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ ذَاتُ أَسْرَارٍ عَظِيمَةٍ؛ فَهِيَ رِحْلَةٌ فَرِيدَةٌ فِي تَارِيخِ الْإِنْسَانِيَّةِ، جَاءَتْ تَكْرِيمًا لِخَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَتَسْرِيَةً عَنْهُ ﷺ بَعْدَ سَنَوَاتٍ ذَاقَ خِلَالَهَا هُوَ وَأَصْحَابُهُ أَلْوَانًا مِنَ الِاضْطِهَادِ وَالْأَذَى وَالتَّكْذِيبِ، وَبَعْدَ أَنْ فَقَدَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ مِنَ السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ مِنَ الْبَعْثَةِ عَمَّهُ أَبَا طَالِبٍ الَّذِي كَانَ سَنَدًا لَهُ فِي حَيَاتِهِ، وَزَوْجَتَهُ الْعَاقِلَةَ الْحَنُونَ أُمَّنَا خَدِيجَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- الَّتِي كَانَتْ حِصْنًا وَمَلَاذًا آمِنًا يَلْجَأُ -بَعْدَ اللهِ- إِلَيْهِ فِي شِدَّتِهِ.

فَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ حَادِثَ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ بِعَقِبِ مَا كَانَ مِنْ إِيذَاءِ قُرَيْشٍ لِلنَّبِيِّ ﷺ فِي تَصَاعُدِ خَطِّ الْإِيذَاءِ إِلَى ذُرْوَتِهِ وَأَعْلَاهُ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ مَاتَ عَمُّهُ وَمَاتَتْ خَدِيجَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-.

وَكَانَ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ يُدَافِعُ عَنْهُ، فَيَجِدُ النَّبِيُّ ﷺ هَذَا السَّنَدَ مِنَ الْبَشَرِ فِي الْخَارِجِ -فِي خَارِجِ الْبَيْتِ-، وَلَكِنَّهُ يَجِدُ الْعَنَتَ الْعَانِتَ، فَإِذَا جَاءَ إِلَى الْبَيْتِ وَجَدَ خَدِيجَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، فَكَانَ يَجِدُ السَّكَنَ ﷺ.

خَدِيجَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- -وَهَذَا مِنَ الْآيَاتِ وَمِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ -نُبُوَّةِ الرَّسُولِ ﷺ-، عِنْدَمَا رَجَعَ النَّبِيُّ ﷺ وَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَرَجَعَ يَقُولُ:  ((زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي))، قَالَ: ((إِنِّي أَخْشَى أَنْ يَكُونَ قد أَصَابَنِي شيءٌ)).

قَالَتْ: ((لَا وَاللهِ، لَا يُصِيبُكَ شَرٌّ أَبَدًا؛ إِنَّكَ لَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَاللهِ لَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا)) .

عِنْدَنَا دَلَالَتَانِ:

*الدَّلَالَةُ الْأُولَى: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَتْ أَخْلَاقُهُ لَا تَصَنُّعَ فِيهَا؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَمَا أَخْبَرَ عَنْ أَخْلَاقِهِ، جَعَلَهَا فِي الذُّرْوَةِ الْعُلْيَا مِنْ سُمُوِّ الْأَخْلَاقِ، وَجَلَالِهَا وَكَمَالِهَا وَبَهَائِهَا: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].

وَالتَّعْبِيرُ بِـ (عَلَى) وَهِيَ الِاسْتِعْلَاءُ، فَهُوَ عَلَى الْخُلُقِ الْعَظِيمِ ﷺ، كَأَنَّهُ يَعْلُوهُ وَيَفُوقُهُ، {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقِ عَظِيمٍ} ﷺ، فَكَانَ هَذَا مِمَّا طَبَعَ اللهُ عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ، وَكَمَّلَهُ بِهِ، فَكَانَ في بَيْتِهِ -وَفِي الْبَيْتِ تَبْدُو أَخْلَاقُ الرَّجُلِ- كَانَ عَلَى أَحْسَنِ مَا يَكُونُ مِنَ الْخُلُقِ، فَهَذِهِ دَلَالَةٌ.

*وَالدَّلَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ صَنَائِعَ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ مُحْسِنًا قَوْلًا وَفِعْلًا وَاعْتِقَادًا؛ حَفِظَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عِنْدَ نُزُولِ الْمُلِمَّاتِ.

فَصَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ، قَالَتْ: ((لَا وَاللهِ، لَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا))، ثُمَّ ذَكَرَتِ الْعِلَّةَ: ((إِنَّكَ لَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الدَّهْرِ)).

إِذَنْ؛ مَا دُمْتَ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ بِحَالٍ أَبَدًا أَنْ يُصِيبَكَ شَيْءٌ، أَوْ أَنْ يُخْزِيَكَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، أَوْ أَنْ يَتَخَلَّى عَنْكَ ﷺ.

فَالنَّبِيُّ ﷺ لَمَّا فَقَدَ خَدِيجَةَ وَفَقَدَ عَمَّهُ، وَمِنْ آيَاتِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَدَلَائِلِ النُّبُوَّةِ فِي النَّبِيِّ ﷺ وَلَهُ: أَنَّ عَمَّهُ كَانَ يُنَاصِرُهُ وَهُوَ بَاقٍ عَلَى كُفْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ أَسْلَمَ وَهُوَ مُنَاصِرُهُ؛ لَرُبَّمَا قَالَ قَائِلٌ: إِنَّمَا انْتَصَرَ الْإِسْلَامُ بِالْعَصَبِيَّةِ؛ لِأَنَّ عَمَّهُ قَدْ أَسْلَمَ، فَهُوَ يَنْصُرُ الْإِسْلَامَ عَصَبِيَّةً، بِمَعْنَى أَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَنْصُرُ هَذَا الدِّينَ بِعَصَبِيَّةِ الرَّسُولِ ﷺ، وَلَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا بَقِيَ عَلَى كُفْرِهِ؛ لِيَعْلَمَ النَّاسُ كُلُّ النَّاسِ أَنَّ الَّذِي يَنْصُرُ الدِّينَ هُوَ رَبُّهُ، هُوَ الَّذِي شَرَعَهُ، هُوَ الَّذِي أَنْزَلَهُ، وَأَنَّ الَّذِي يَنْصُرُ الدِّينَ هُوَ اللهُ.

فَيَبْقَى أَبُو طَالِبٍ عَلَى كُفْرِهِ، بَلْ يُخْرِجُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْ أَعْمَامِ النَّبِيِّ ﷺ مَنْ يُحَارِبُهُ عِنْدَمَا اسْتَعْلَنَ بِالدَّعْوَةِ، يَعْنِي لَمْ يَكُنْ فِي قُرَيْشٍ سِوَى أَبِي لَهَبٍ لِكَيْ يَقُولَ لِلنَّبِيِّ ﷺ لَمَّا جَمَعَهُمْ عِنْدَ الصَّفَا وَدَعَاهُم: ((فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ)).

لَمْ يَكُنْ فِي قُرَيْشٍ إِلَّا هَذَا الرَّجُلُ، فَيَقُولُ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ هَذَا الْيَوْمِ!! أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟  هَذَا عَمُّهُ!!

بَلْ كَانَ يُؤْذِيهِ أَبْعَدَ مِنْ ذَلِكَ وَأَبْلَغَ؛ لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَيْضًا أَنَّ هَذَا الدِّينَ لَمْ يُنْصَرْ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَدُورُ عَلَى النَّاسِ فِي مَجَامِعِهِمْ وَفِي مَوَاسِمِهِمْ وَفِي أَسْوَاقِهِمْ.

فَيَأْتِي الْعَرَبُ وُفُودًا إِلَى مَكَّةَ فِي الْمَوْسِمِ، وَكَذَلِكَ كَانُوا يَأْتُونَ وُفُودًا إِلَى مَكَّةَ فِي الْأَسْوَاقِ؛ فِي عُكَاظٍ، وَذِي الْمَجَنَّةِ، وَذِي الْمَجَازِ، أَسْوَاقٌ لِلْعَرَبِ كَانَتْ مَعْلُومَةً تُعْقَدُ فِي كُلِّ عَامٍ كَمَعْرِضِ الْكِتَابِ، فَكَانُوا إِذَا جَاءُوا؛ ذَهَبَ النَّبِيُّ ﷺ يَعْرِضُ عَلَيْهِمُ الْإِسْلَامَ، قُولُوا: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ تُفْلِحُوا)) ، وَرَجُلٌ وَضِيءٌ أَحْوَلُ لَهُ غَدِيرَتَان -ضَفِيرَتَان- يَدُورُ وَرَاءَ النَّبِيِّ ﷺ كُلَّمَا دَعَا قَوْمًا؛ أَقْبَلَ هُوَ عَلَى الْقَوْمِ يَقُولُ: لَا تُصَدِّقُوهُ، هُوَ ابْنُ أَخِي وَهُوَ مَجْنُونٌ!! فَيَقُولُ النَّاسُ: عَمُّهُ أَدْرَى بِهِ، بَلَاءٌ عَظِيمٌ!!

فَلَمَّا مَاتَ أَبُو طَالِبٍ وَمَاتَتْ خَدِيجَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، وَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((وَاللهِ مَا خَلُصَ إِلَيَّ أَحَدٌ بِأَذًى أَوْ بِشَيْءٍ أَكْرَهُهُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ مَاتَ أَبُو طَالِبٍ)) .

وَذَهَبَ النَّبِيُّ ﷺ وَقَدْ أَرَادَ أَنْ يَنْقُلَ الدَّعْوَةَ بِمَرْكَزِهَا -مَرْكَزِ الثِّقَلِ فِي الدَّعْوَةِ- إِلَى الطَّائِفِ؛ لِأَنَّ مَكَّةَ اسْتَعْصَتْ -صَارَتْ حَالَتُهَا مُسْتَعْصِيَةً- يَعْنِي كَمَا يَقُولُونَ أَتَت بِآخِرِ مَا عِنْدَهَا.

الدَّعْوَةُ هَكَذَا وَصَلَتْ إِلَى  الطَّرِيقِ الْمَسْدُودِ فِي مَكَّةَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَأَرَادَ أَنْ يَنْقُلَ مَرْكَزَ الدَّعْوَةِ ﷺ إِلَى الطَّائِفِ، فَذَهَبَ إِلَى ثَقِيفٍ وَحَدَثَ عِنْدَهُمْ مَا حَدَثَ مِنَ الْإِيذَاءِ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ، أَغْرَوْا بِهِ الْغِلْمَانَ وَالسُّفَهَاءَ وَالضُّعَفَاءَ يَقْذِفُونَهُ بِالْحِجَارَةِ، وَالرَّسُولُ ﷺ يَبْتَعِدُ عَنْ هَؤُلَاءِ السُّفَهَاءِ حَتَّى لَا يَكُونَ فِي مَرْمَى أَحْجَارِهِمْ، وَمَعَ ذَلِكَ أَصَابَهُ مَا أَصَابَهُ فِي عَقِبِهِ، وَبَلَغَ مِنْهُ التَّعَبُ مَبْلَغَهُ، حَتَّى مَا كَانَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُومَ عَلَى قَدَمَيْهِ، فَمَا وَصَلَ إِلَى ظِلِّ حَائِطِ عُتْبَةَ وَشَيْبَةَ إِلَّا عَلَى يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، وَكَانَ مَا كَانَ .

مَعَ هَذَا الْأَسَى كُلِّهِ وَمَعَ هَذَا الْعَنَتِ، وَمَعَ هَذَا الْإِيذَاءِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ وَالْمَوْجِدَةِ فِي الْقَلْبِ، وَمَا اسْتَطَاعَ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا فِي جِوَارِ رَجُلٍ مُشْرِكٍ، وَهُوَ الْمُطْعَمُ بْنُ عَدِيٍّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالُوا خَيْرًا فَعَلَ، لَا يَدْخُلُهَا مَرَّةً أُخْرَى، فَلَمْ يَدْخُلِ النَّبِيُّ ﷺ مَكَّةَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا فِي جِوَارِ الْمُطْعَمِ بْنِ عَدِيٍّ .

فَالنَّبِيُّ ﷺ مَعَ هَذَا كُلِّهِ عِنْدَمَا أَتَى مَلَكُ الْجِبَالِ، وَقَالَ: ((إِنْ أَرَدْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ -أَيِ: الجَبَلَيْنِ-؛ فَعَلْتُ، جَعَلَنِي اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- طَوْعَ أَمْرِكَ)).

قَالَ: ((لَا، لَعَلَّ اللهَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أَصْلَابِهِم مَنْ يُوَحِّدُ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ-)) .

فَصَدَقَ مَنْ سَمَّاهُ الرَّؤُوفَ الرَّحِيمَ ﷺ، مَعَ هَذَا كُلِّهِ لَمْ يَأْخُذْهُمْ إِلَّا بِالْحِلْمِ وَالْفَضْلِ؛ لِأَنَّ الْهِدَايَةَ بِيَدِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

جَاءَتْ حَادِثَةُ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ فَتْحًا بَعْدَ أَنْ وَقَعَ هَذَا، لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ وَجَفَاهُ النَّاسُ مِنْ قَرِيبٍ وَبَعِيدٍ.

وَتَعْرِفُ أَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي فِيهِ: «اللهم إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ.. ثُمَّ إِلَى مَنْ تَكِلُنِي، إِلَى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي، أَمْ إِلَى عَدُوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي...» هَذَا ضَعِيفٌ .

وَمَعَ ذَلِكَ فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَسْرَى بِنَبِيِّهِ ﷺ بِعَقِبِ ذَلِكَ، فَإِذَا كَانَ أَهْلُ الْأَرْضِ قَدْ جَفَوْكَ يَا مُحَمَّدُ؛ فَأَهْلُ السَّمَاءِ يَحْتَفُونَ بِكَ!!

وَالنَّبِيُّ ﷺ يُعَلِّمُنَا بِهِ رَبُّنَا، فَهَذِهِ الْبُشْرَيَاتُ يَحْتَاجُهَا الْمُسْلِمُ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ، الدَّاعِي إِلَى اللهِ أَحْيَانًا يَرَى رُؤْيَا، يَحْدُثُ لَهُ أَمْرٌ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تُعَدُّ بِشَارَةً كَمَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُحِبُّ الْفَأْلَ -الْكَلِمَةَ الْحَسَنَةَ-، وَلَكِنْ كَانَ لَا يَتَطَيَّرُ وَلَا يَتَشَاءَمُ، هُوَ يُحِبُّ الْفَأْلَ -هُوَ الْكَلِمَةُ الصَّالِحَةُ، الْكَلِمَةُ الْحَسَنَةُ، الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ-، فَكَانَ يَهَشُّ لَهَا ﷺ .

 ((مِنْ دُرُوسِ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ:

تَعَلُّمُ مَنْهَجِ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ))

إِنَّ الْأَخْذَ بِالْأَسْبَابِ لَا يَتَنَافَى مَعَ صِدْقِ التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ فَقَدْ سَخَّرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِنَبِيِّهِ ﷺ الْبُرَاقَ؛ لِيَكُونَ وَسِيلَةَ انْتِقَالِهِ فِي رِحْلَتِهِ، مَعَ أَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- كَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَسْرِيَ بِنَبِيِّهِ بِدُونِ وَسِيلَةٍ، وَعَلَى الرَّغْمِ مِنْ يَقِينِ النَّبِيِّ ﷺ الْكَامِلِ، وَصِدْقِ تَوَكُّلِهِ عَلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ إِلَّا أَنَّهُ عِنْدَمَا وَصَلَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ رَبَطَ الْبُرَاقَ الَّذِي سَخَّرَهُ اللهُ -تَعَالَى- لَهُ؛ تَعْلِيمًا لِلْأُمَّةِ بِضَرُورَةِ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ؛ فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ, وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ، يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ», قَالَ: «فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ»، قَالَ: «فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي يَرْبِطُ بها الْأَنْبِيَاءُ».

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ، قَالَ «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا؛ فَلْيَغْرِسْهَا». وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ.

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَمَا إِنَّكُمْ لَوْ تَوَكَّلْتُم عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ؛ لَرَزَقَكُمُ اللَّهُ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا، وَتَعُودُ بِطَانًا».

بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَاعِدَتَيْنِ كَبِيرَتَيْنِ فِي أَصْلِ هَذَا الدِّينِ:

*الْأُولَى: هِيَ قَاعِدَةُ التَّوَكُّلِ.

*وَالثَّانِيَةُ: قَاعِدَةُ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ.

فَلَا بُدَّ مِنَ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ مَعَ التَّوَكُّلِ عَلَى رَبِّ الْأَسْبَابِ؛ بِحَيْثُ إِنَّ الْإِنْسَانَ يَخْرُجُ مِنْ قَيْدِ الرُّبُوبِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِيهِ مَدْخَلٌ، وَيَدْخُلُ فِي أَسْرِ الْعُبُودِيَّةِ، فَهَذَا هُوَ التَّوَكُّلُ، أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ الرُّبُوبِيَّةِ، لَا يَدَّعِي رِزْقًا، وَلَا يَدَّعِي حَوْلًا وَلَا حِيلَةً؛ لِأَنَّ اللهَ هُوَ خَالِقُهُ، وَهُوَ رَازِقُهُ، وَهُوَ مَالِكُ أَمْرِهِ، وَنَاصِيَتُهُ بِيَدِهِ.

وَهُوَ يَفْعَلُ بِهِ مَا يَشَاءُ عَلَى مُقْتَضَى حِكْمَتِهِ، وَلَا رَادَّ لِقَضَائِهِ فِيهِ، وَلَا رَادَّ لِحُكْمِهِ فِيهِ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمُ بِمَا يُرِيدُ، وَأَمَّا الْأَخْذُ بِالْأَسْبَابِ؛ فَهَذَا مَوْكُولٌ إِلَى الْعَبْدِ، وَلَا يُعَوِّلُ الْمَرْءُ عَلَى السَّبَبِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَأْخُذُونَ كَثِيرًا بِالْأَسْبَابِ وَلَا يُحَصِّلُونَ شَيْئًا مِنَ النَّتَائِجِ.

 ((مِنْ دُرُوسِ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ:

أُخُوَّةُ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ))

مِنْ دُرُوسِ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ الْعَظِيمَةِ: أُخُوَّةُ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ؛ فَالْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ جَمِيعًا أَصْحَابُ رِسَالَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الْأُصُولِ وَالْعَقَائِدِ؛ وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الشَّرَائِعُ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [المؤمنون:23].

فَهَذَا دَعْوَةُ أَوَّلِ رَسُولٍ بَعْدَ حُدُوثِ الشِّرْكِ.

وَقَالَ هُودٌ لِقَوْمِهِ: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59].

وَقَالَ صَالِحٌ لِقَوْمِهِ: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}.

وَقَالَ شُعَيْبٌ لِقَوْمِهِ: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}.

وقَالَ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِقَوْمِهِ: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 79].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آَلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].

وَقَالَ هِرَقْلُ لِأَبِي سُفْيَانَ -لَمَّا سَأَلَهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ-: مَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَقُولُ: ((اعْبُدُوا اللهَ وَحْدَهُ، وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ .

وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ لَمَّا يَزَلْ عَلَى شِرْكِهِ بَعْدُ -لَمْ يَكُنْ قَدْ أَسْلَمَ بَعْدُ-، فَهَذَا كَانَ فِي فَتْرَةِ الْمُوَادَعَةِ بَيْنَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ وَفَتْحِ مَكَّةَ.

هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ دَعْوَةَ الْمُرْسَلِينَ إِنَّمَا هِيَ: ((دَعْوَةٌ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ)).

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ)).

وَلَقَدْ كَانَ مِنَ الْآيَاتِ الْكُبْرَى الَّتِي أَكْرَمَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِهَا نَبِيَّهُ ﷺ: أَنْ جَمَعَ لَهُ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمُرْسَلِينَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَصَلَّى بِهِمْ إِمَامًا، كَمَا اسْتَقْبَلُوهُ فِي السَّمَوَاتِ الْعُلَا قَائِلِينَ -كَمَا مَرَّ-: ((مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ)) .

 ((مِنْ دُرُوسِ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ:

عِظَمُ قَدْرِ الصَّلَاةِ فِي الْإِسْلَامِ وَعُلُوُّ مَنْزِلَتِهَا))

عِبَادَ اللهِ! فِي لِيْلَةِ الْمِعْرَاجِ فَرَضَ اللهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ وَالْأُمَّةِ الصَّلَاةَ، فَرَضَهَا اللهُ تَعَالَى مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ بِدُونِ وَاسِطَةٍ، وَكَانَ التَّكْلِيفُ بِهَا مِنَ اللهِ تَعَالَى إِلَى نَبِيِّهِ ﷺ مُبَاشَرَةً مِنْهُ إِلَيْهِ.

فَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) , مِنْ رِوَايَةِ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ جَاءَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى، فَأَوْحَى اللَّهُ فِيمَا أَوْحَى إِلَيْهِ خَمْسِينَ صَلَاةً عَلَى أُمَّتِكَ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، ثُمَّ هَبَطَ حَتَّى بَلَغَ مُوسَى، فَاحْتَبَسَهُ مُوسَى، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ؛ مَاذَا عَهِدَ إِلَيْكَ رَبُّكَ؟، قَالَ: عَهِدَ إِلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، فَارْجِعْ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ رَبُّكَ وَعَنْهُمْ.

فَالْتَفَتَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى جِبْرِيلَ كَأَنَّهُ يَسْتَشِيرُهُ فِي ذَلِكَ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ، أَنْ نَعَمْ إِنْ شِئْتَ، فَعَلَا بِهِ إِلَى الْجَبَّارِ، فَقَالَ وَهُوَ مَكَانَهُ: يَا رَبِّ، خَفِّفْ عَنَّا فَإِنَّ أُمَّتِي لَا تَسْتَطِيعُ هَذَا, فَوَضَعَ عَنْهُ عَشْرَ صَلَوَاتٍ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مُوسَى، فَاحْتَبَسَهُ، فَلَمْ يَزَلْ يُرَدِّدُهُ مُوسَى إِلَى رَبِّهِ حَتَّى صَارَتْ إِلَى خَمْسِ صَلَوَاتٍ.

ثُمَّ احْتَبَسَهُ مُوسَى عِنْدَ الْخَمْسِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ؛ وَاللَّهِ لَقَدْ رَاوَدْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَوْمِي عَلَى أَدْنَى مِنْ هَذَا، فَضَعُفُوا، فَتَرَكُوهُ، فَأُمَّتُكَ أَضْعَفُ أَجْسَادًا وَقُلُوبًا وَأَبْدَانًا وَأَبْصَارًا وَأَسْمَاعًا، فَارْجِعْ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ رَبُّكَ.

كُلَّ ذَلِكَ يَلْتَفِتُ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى جِبْرِيلَ لِيُشِيرَ عَلَيْهِ، وَلَا يَكْرَهُ ذَلِكَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَرَفَعَهُ عِنْدَ الْخَامِسَةِ، فَقَالَ: يَا رَبِّ، إِنَّ أُمَّتِي ضُعَفَاءُ أَجْسَادُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ وَأَسْمَاعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَأَبْدَانُهُمْ، فَخَفِّفْ عَنَّا، فَقَالَ الْجَبَّارُ: يَا مُحَمَّدُ.

قَالَ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ.

قَالَ: إِنَّهُ لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ كَمَا فَرَضْتُهُ عَلَيْكَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ، قَالَ: فَكُلُّ حَسَنَةٍ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، فَهِيَ خَمْسُونَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ وَهِيَ خَمْسٌ عَلَيْكَ.

فَرَجَعَ ﷺ إِلَى مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَقَالَ: كَيْفَ فَعَلْتَ؟

فَقَالَ: خَفَّفَ عَنَّا، أَعْطَانَا بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا.

قَالَ مُوسَى: قَدْ وَاللَّهِ رَاوَدْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ، فَتَرَكُوهُ، ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ أَيْضًا.

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: يَا مُوسَى، قَدْ وَاللَّهِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي مِمَّا اخْتَلَفْتُ إِلَيْهِ.

قَالَ: فَاهْبِطْ بِاسْمِ اللَّهِ.

قَالَ: وَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ فِي مَسْجِدِ الْحَرَامِ)). هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ.

فَالصَّلَاةُ فُرِضَتْ خَمْسِينَ صَلَاةً، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى حُبِّ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِلصَّلَاةِ، وَقَدْ خَفَّفَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَنْ عِبَادِهِ؛ فَهِيَ خَمْسٌ فِي الْعَمَلِ وَخَمْسُونَ فِي الْأَجْرِ، وَقَدْ فَرَضَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَوْقَ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى عَظِيمِ قَدْرِهَا وَرِفْعَةِ مَنْزِلَتِهَا.

وَفَرَضَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ وَأُمَّتِهِ مِنْهُ إِلَيْهِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، فَلَمْ يُرْسِلْ بِفَرْضِيَّتِهَا جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَإِنَّمَا فَرَضَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ كِفَاحًا مِنْهُ إِلَى نَبِيِّهِ ﷺ، فَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى عَظِيمِ قَدْرِ هَذِهِ الْفَرِيضَةِ فِي دِينِ اللهِ وَعِنْدَ اللهِ.

 ((مِنْ دُرُوسِ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ:

بَيَانُ مَكَانَةِ الْقُدْسِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى فِي الْإِسْلَامِ))

إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَحَوْلَهُ بَرَكَاتٍ مَادِّيَّةً مِنْ خَيْرَاتِ الْأَرْضِ، وَمَعْنَوِيَّةً مِنْ عَطَاءَاتِهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَجَعَلَهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مَقَرَّ الْأَنْبِيَاءِ وَمَهْبِطَ الْوَحْيِ.

قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأنبياء: 81].

وَسَخَّرْنَا لِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ حَالَةَ كَوْنِهَا شَدِيدَةَ الْهُبُوبِ وَخَفِيفَةً بِحَسَبِ إِرَادَتِهِ، تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِأَرْضِ الشَّامِ، الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا بِكَثْرَةِ الْخَيْرَاتِ الْمَادِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ.

*الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى مَسْرَى نَبِيِّنَا ﷺ:

عِبَادَ اللهِ! لَقَدْ كَانَ إِسْرَاءُ النَّبِيِّ ﷺ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى, وَالْمِعْرَاجُ مِنَ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ثُمَّ إِلَى حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-.

قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1].

إِنَّ الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى جُزْءٌ لَا يَتَجَزَّأُ مِنَ الْمُقَدَّسَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ؛ فَهُوَ ذُو مَكَانَةٍ فِي قُلُوبِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَهُوَ أَمَانَةٌ فِي أَعْنَاقِ الْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ نُفَرِّطَ فِيهَا، أَوْ نَتَهَاوَنَ فِي الْحِفَاظِ عَلَيْهَا، كَمَا يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَغْرِسَ فِي أَبْنَائِنَا هَذَا الْمَعْنَى؛ حَتَّى لَا تَنْسَى الْأَجْيَالُ الْقَادِمَةُ مَكَانَةَ وَقُدْسِيَّةَ الْقُدْسِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى لَدَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ.

((مِنْ دُرُوسِ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ:

خُطَبَاءُ الْفِتْنَةِ.. عِقَابُهُمْ وَخَطَرُهُمْ))

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي بِرِجَالٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنَ النَّارِ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟))

 

فَقَالَ: هَؤُلَاءِ خُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ، يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا يَعْقِلُونَ)).

هَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((مُسْنَدِهِ))، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي ((الصَّمْتِ)) بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا -أَيْضًا- عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ لِغَيْرِهِ- أَنَّ جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَالَ: هَؤُلَاءِ خُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ، يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ.

وَعِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ: ((هَؤُلَاءِ خُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ، يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَيَقْرَؤُونَ كِتَابَ اللهِ وَلَا يَعْمَلُونَ بِهِ)).

فِي مَشْهَدٍ مِنْ مَشَاهِدِ الْإِسْرَاءِ رَأَى النَّبِيُّ ﷺ حَالَةً عَجِيبَةً، فَاسْتَفْهَمَ عَنْهَا جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَأَخْبَرَ الْمُصْطَفَى ﷺ بِمَا هُنَاكَ، وَوَضَّحَ لَهُ هَذَا الْأَمْرَ الَّذِي يَدَعُ الْحَلِيمَ حَيْرَانَ؛ لِأَنَّ الَّذِي رَآهُ الْمُصْطَفَى الْمُخْتَارُ ﷺ أَمْرٌ مُفْظِعٌ حَقًّا!!

((أَقْوَامٌ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ))، وَفِي رِوَايَةٍ: ((بِمَقَارِيضَ مِنْ حَدِيدٍ))، وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُصْنَعُ بِهِمْ ذَلِكَ فِي الْبَرْزَخِ بَعْدَ مَمَاتِهِمْ إِلَى أَنْ يُقِيمَ اللهُ السَّاعَةَ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَعِقَابٌ شَدِيدٌ.

هَؤُلَاءِ لَمَّا حَلَّاهُمْ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِلْمُصْطَفَى الْمُخْتَارِ ﷺ كَانَ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنَّهُمْ أَقْوَامٌ انْتَدَبُوا أَنْفُسَهُمْ لِهِدَايَةِ النَّاسِ، وَلِلدَّلَالَةِ عَلَى سَوَاءِ الطَّرِيقِ.

وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَكْتَفُوا بِالدَّلَالَةِ الصَّامِتَةِ وَلَا بِالدَّلَالَةِ الْهَامِسَةِ، وَإِنَّمَا هُمْ جَهِيرُوا الصَّوْتِ فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ.

هَؤُلَاءِ خُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ.. وَهَؤُلَاءِ الْخُطَبَاءُ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ مِنْ صِفَاتِهِمْ: أَنَّهُمْ يَقُولُونَ شَيْئًا وَيَفْعَلُونَ سِوَاهُ.

وَإِذَنْ؛ فَقَدْ قَعَدُوا عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ وَعَلَى صِرَاطِهَا، يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى الْجَنَّةِ بِأَقْوَالِهِمْ، وَيَصُدُّونَهُمْ عَنْهَا بِأَفْعَالِهِمْ!!

هَؤُلَاءِ أَقْوَامٌ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَآتَاهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْقُرْآنَ فَهُمْ لَا يَعْمَلُونَ بِهِ، وَلَا يُعَوِّلُونَ عَلَيْهِ، وَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا شَأْنُهُمْ أَنَّهُمْ يَنْتَصِبُونَ فِي الْأُمَّةِ بِجَهَارَةِ صَوْتٍ، وَدَلَالَةٍ عَالِيَةِ الزَّعِيقِ عَلَى شَيْءٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ وَلَا تُقِرُّهُ قُلُوبُهُمْ عَلَى وَجْهٍ سَوِيٍّ مُسْتَقِيمٍ.

آتَاهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْقُرْآنَ، فَهُمْ لَا يَأْخُذُونَ بِهِ، وَصِفَاتُهُمُ الَّتِي وَصَفَهُمْ بِهَا جِبْرِيلُ وَالَّتِي اسْتَوْجَبُوا بِهَا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ فِي الْبَرْزَخِ مِنْ بَعْدِ مَمَاتِهِمْ إِلَى أَنْ يُقِيمَ اللهُ السَّاعَةَ، صِفَاتُهُمْ قَدْ شَارَكُوا فِيهَا الْيَهُودَ؛ لِأَنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- أَنْزَلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ قَوْلَهُ: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44].

فَكَانُوا -أَيِ: الْيَهُودُ- يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ -أَيِ: التَّوْرَاةَ- فَاسْتَفْهَمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ اسْتِفْهَامَ تَوْبِيخٍ، وَالْغَرَضُ الْبَلَاغِيُّ: مِنْهُ التَّقْرِيرُ، يَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ}.

فَيُقَرِّرُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنَّ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفْتَهُ، وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ حِلْيَتَهُ فَهُوَ مِنْ غَيْرِ أُولِي النُّهَى، وَمِنْ غَيْرِ أَصْحَابِ الْعُقُولِ، أَفَلَا يَعْقِلُونَ؟!!

وَكَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِاتِّبَاعِ التَّوْرَاةِ وَمَا جَاءَ بِهَا مِنَ التَّعَالِيمِ وَهُمْ يُخَالِفُونَ، وَكَانُوا يَنْهَوْنَ النَّاسَ عَنْ مُوَاقَعَةِ الْفَوَاحِشِ وَفِيهَا يَقَعُونَ!!

فَهَذِهِ صِفَتُهُمُ الَّتِي وَصَفَهُمْ بِهَا رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}.

وَمِنْ مَشَابِهِ هَؤُلَاءِ الْمَلْعُونِينَ أَقْوَامٌ فِي أُمَّةِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ ﷺ -نَسْأَلُ اللهَ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ أَلَّا يَجْعَلَنَا مِنْهُمْ، وَأَنْ يُجَنِّبَنَا صِفَاتِهِمْ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَأَنْ يَرْزُقَنَا الْإِخْلَاصَ أَجْمَعِينَ-.

فَهَذِهِ الْمَرَائِي الْمُجْتَزَأَةُ مِمَّا رَأَى رَسُولُ اللهِ ﷺ تَدُلُّ عَلَى عَظِيمِ شَأْنِ الْكَلِمَةِ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

خُطَبَاءُ الْفِتْنَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَالَّذِينَ لَا يُجِيدُونَ إِلَّا الْإِثَارَةَ وَالتَّهْيِيجَ!!

صَانِعُوا الْفِتَنِ الَّذِينَ يَصْنَعُونَهَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ، وَالَّذِينَ يَطْبُخُونَهَا فِي مَطْبَخِ إِبْلِيسَ، ثُمَّ يَعْرِضُونَهَا شَرَابًا سَائِغًا وَطَعَامًا مُسْتَسَاغًا لِكُلِّ مَنْ كَانَ حَامِضَ النَّفْسِ لَا يَسْتَسِيغُ إِلَّا الْعَفَنَ -نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ-.

كَلِمَةٌ مُنْضَبِطَةٌ بِقَانُونِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ كِتَابًا وَسُنَّةً، إِذَا خَرَجَتِ الْكَلِمَةُ فَلَنْ تَعُودَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ.

{حَتَّىٰ يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40]. إِغْرَاقٌ مِنْ بَعْدِ إِغْرَاقٍ فِي بَيَانِ هَذَا الْمُسْتَحِيلِ.

كَلِمَةٌ تَخْرُجُ مِنْ فِيِّ أَخْرَقَ لَا يَعِي مَا يَقُولُ؛ لِأَنَّ لِسَانَهُ لَيْسَ مِنْ وَرَاءِ قَلْبِهِ، وَإِنَّمَا قَلْبُهُ مِنْ وَرَاءِ لِسَانِهِ، فَلَا يَعْرِضُ مَا يَقُولُ عَلَى قَلْبِهِ، وَإِنَّمَا يَخْرُجُ كَلَامُهُ كَمَا شَاءَ لَهُ هَوَاهُ، ثُمَّ لَا يُبَالِي!!

((وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)) .

((وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَكْتُبُ اللهُ عَلَيْهِ بِهَا سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَكْتُبُ اللهُ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ)) .

كَلِمَةٌ عَظِيمَةٌ؛ لِأَنَّ بِالْكَلِمَةِ يَدْخُلُ الْإِنْسَانُ دِينَ الْإِسْلَامِ، وَبِالْكَلِمَةِ يَخْرُجُ الْإِنْسَانُ مِنَ الدِّينِ، وَبِالْكَلِمَةِ يَسْتَوْجِبُ الْإِنْسَانُ حَدًّا فِي ظَهْرِهِ، وَبِالْكَلِمَةِ يُمْكِنُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَوَرَّطَ فِي شَهَادَةِ الزُّورِ الَّتِي تُغْضِبُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَتُغْضِبُ النَّبِيَّ الْكَرِيمَ ﷺ.

النَّاسُ لَا يَدْخُلُونَ الْإِسْلَامَ ظَاهِرًا إِلَّا بِالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ، فَبِالْكَلِمَةِ -وَبِالْكَلِمَةِ وَحْدَهَا- بَدْءًا يَثْبُتُ عَقْدُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.

وَبِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ يَخْرُجُ الْإِنْسَانُ مِنَ الدِّينِ -نَسْأَلُ اللهَ التَّثْبِيتَ وَالْعَافِيَةَ-.

{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ۚ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ۚ إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة: 65-66].

بِكَلِمَةٍ قَالُوهَا، قَالُوا: لَوْ كَانَ نَبِيًّا لَأَخْبَرَهُ رَبُّهُ وَأَوْحَى إِلَيْهِ عَنْ مَكَانِ نَاقَتِهِ إِخْبَارًا، وَلَكِنْ مَا دَامَ قَدْ وَدَعَهُ، مَا دَامَ تَرَكَهُ، فَلَيْسَ بِنَبِيٍّ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنَ السَّمَاءِ.

وَنُقِلَتْ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ، فَلَمَّا نَبَّأَهُمْ أَنْكَرُوا {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ} [التوبة: 74] -نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ-.

بِالْكَلِمَةِ يَدْخُلُ الْإِنْسَانُ الدِّينَ، وَبِالْكَلِمَةِ يَخْرُجُ الْإِنْسَانُ مِنَ الدِّينِ، وَبِالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ يُجْلَدُ الْعَبْدُ ثَمَانِينَ جَلْدَة، إِذَا مَا تَخَطَّى حَدَّهُ، وَتَجَاوَزَ قَدْرَهُ، فَاعْتَدَى عَلَى عِرْضٍ بِلِسَانِهِ لَا بِيَدِهِ وَلَا بِجَوَارِحِهِ، فَإِنْ سَبَّ امْرَأً وَجَبَ الْحَدُّ قِصَاصًا فِي ظَهْرِهِ -حَدُّ الْقَذْفِ ثَمَانُونَ جَلْدَةً-، ثُمَّ يُسَمَّى فَاسِقًا، وَلَا تُقْبَلُ لَهُ شَهَادَةٌ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ التَّوْبَةَ النَّصُوحَ.

فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَدُلُّنَا عَلَى عِظَمِ خَطَرِ شَأْنِ الْكَلِمَةِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، فَلْنَحْفَظْ أَلْسِنَتَنَا؛ فَإِنَّ فِي الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ لَعِبَرًا وَآيَاتٍ بَيِّنَاتٍ.

فَعَلَيْنَا أَنْ نَلْتَفِتَ لِتِلْكَ الْعِبَرِ وَلِتِلْكَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ عَسَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَنْفَعَنَا بِهَا فِي الْحَيَاةِ وَبَعْدَ الْمَمَاتِ, إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ , صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَومِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((مِنْ دُرُوسِ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ أَنَّ:

مَبْنَى الشَّرِيعَةِ عَلَى التَّيْسِيرِ))

فَإِنَّ مَدَارَ الشَّرِيعَةِ عَلَى نَفْيِ الْحَرَجِ وَإِثْبَاتِ التَّيْسِيرِ،  قَالَ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر} [البقرة: 185].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78].

هُوَ اللهُ الَّذِي اخْتَارَكُمْ -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- مِنْ دُونِ سَائِرِ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ لِحَمْلِ الرِّسَالَةِ الْخَاتِمَةِ، وَحَمَّلَكُمْ وَظِيفَةَ تَبْلِيغِ الدِّينِ الْخَاتَمِ لِلنَّاسِ أَجْمَعِينَ.

وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ الَّذِي تَعَبَّدَكُمْ بِهِ ضِيقًا لَا مَخْرَجَ لَكُمْ مِمَّا ابْتُلِيتُمْ بِهِ، بَلْ وَسَّعَ عَلَيْكُمْ، فَجَعَلَ التَّوْبَةَ فِي بَعْضٍ مَخْرَجًا، وَالْكَفَّارَةَ فِي بَعْضٍ مَخْرَجًا، وَالْقِصَاصَ كَذَلِكَ.

وَشَرَعَ الْيُسْرَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَسَّعَ دِينَكُمْ تَوْسِعَةَ مِلَّةِ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ.

النَّبِيُّ ﷺ لَمَّا فَرَضَ اللهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةَ، رَاجَعَهُ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؛ لِيَسْأَلَ اللهَ التَّخْفِيفَ عَنْ أُمَّتِهِ: قَالَ ﷺ: ((فَرَجَعْتُ فَأُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ, فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: بِمَا أُمِرْتَ؟

قُلْتُ: أُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ.

قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ خَمْسَ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ؛ وَإِنِّي جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ؛ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ.

قَالَ: سَأَلْتُ رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ, وَلَكِنِّي أَرْضَى وَأُسَلِّمُ.

قَالَ: فَلَمَّا تَجَاوَزْتُ نَادَى مُنَادٍ: أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي)) .

وفي رواية: ((قَالَ اللهُ: إِنَّهُ لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ كَمَا فَرَضْتُهُ عَلَيْكَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ، قَالَ: فَكُلُّ حَسَنَةٍ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، فَهِيَ خَمْسُونَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ وَهِيَ خَمْسٌ عَلَيْكَ)) .

فَمَدَارُ شَرِيعَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- عَلَى نَفْيِ الْحَرَجِ وَرَفْعِهِ؛ لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ فِي مُنْتَهَاهَا إِنَّمَا هِيَ جَلْبُ مَنْفَعَةٍ وَدَرْءُ مَفْسَدَةٍ.

وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَا كَلَّفَ الْإِنْسَانَ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا وَجَعَلَ لَهُ فِيهِ تَيْسِيرًا وَرَفَعَ عَنْهُ فِيهِ الْحَرَجَ.

 ((مِنْ دُرُوسِ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ: أَنَّ قُدْرَةَ اللهِ لَا حَدَّ لَهَا))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ أَنَّ الْإِسْرَاءَ وَالْمِعْرَاجَ كَانَا يَقَظَةً لَا مَنَامًا , وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ مَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فِي قَوْلِهِ ﷺ: ((بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ.. )) ، فَإِنَّ ذَلِكَ عِنْدَ أَوَّلِ مَا أَتَيَاهُ وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ اسْتَمَرَّ نَائِمًا.

يَعْنِي أَتَيَاهُ وَهُوَ نَائِمٌ فَاسْتَيْقَظَ، فَأَخَذَاهُ، فَذَهَبَا بِهِ، فَشَقَّا مَا بَيْنَ ثُغْرَةِ نَحْرِهِ إِلَى مَا دُونَ ذَلِكَ، فَاسْتُخْرِجَ قَلْبُهُ، ثُمَّ جُعِلَ فِي طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ فِيهِ مَاءٌ مِنْ زَمْزَمَ، وَغُسِلَ جَوْفُهُ ﷺ، وَحُشِيَ حِكْمَةً وَعِلْمًا.

وَكُلُّ هَذَا مُصَدَّقٌ، وَلَا يُمَارِي فِيهِ أَحَدٌ، لِأَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَإِنَّمَا اسْتَغْرَبَتْ قُرَيْشٌ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مُؤْمِنَةً إِيمَانًا صَحِيحًا بِقُدْرَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَقُدْرَةُ اللهِ طَلِيقَةٌ لَا حَدَّ لَهَا، وَاللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ.

فَإِذَا كَانَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- هُوَ الَّذِي خَلَقَ الزَّمَانَ وَالْمَكَانَ؛ أَفَيُرَاجَعُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي شَيْءٍ يَخْرِقُ بِهِ سِيَاجَ الزَّمَانِ وَسِيَاجَ الْمَكَانِ؟!!

اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَلِذَلِكَ النَّبِيُّ ﷺ أَنْزَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي شَأْنِ الْإِسْرَاءِ بِهِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَسْرَى بِهِ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ}.

اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لَمْ يَقُلْ إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ أَسْرَى بِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا أُسْرِيَ بِهِ، فَهُوَ ﷺ لَمْ يَسْرِ بِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا أُسْرِيَ بِهِ.

مَنِ الَّذِي أَسْرَى بِهِ؟

اللهُ.

إِذَنْ؛ نُرْجِعُ الْمَسْأَلَةَ إِلَى اللهِ، قُدْرَةُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- لَا حَدَّ لَهَا، فَمَهْمَا أَخْبَرَنَا بِهِ مِنْ شَيْءٍ؛ فَنَحْنُ نُصَدِّقُهُ؛ لِأَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَمَا نَسْتَغْرِبُهُ نَحْنُ بِعُقُولِنَا؛ هَذَا رَاجِعٌ إِلَى قُدُرَاتِنَا نَحْنُ -إِلَى قُدْرَةِ الْمَخْلُوقِ- وَقُدْرَةُ الْمَخْلُوقِ عَلَى قَدْرِهِ، وَقُدْرَةُ الْخَالِقِ عَلَى قَدْرِ ذَاتِهِ، وَذَاتُهُ لَيْسَ كَمِثْلِهَا ذَاتٌ، فَقُدْرَةُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- طَلِيقَةٌ.

فَأَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، ثُمَّ إِلَى مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ.

فَأُتِيَ بِالبُرَاقِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَلَا يَمْنَعُ أَبَدًا أَنْ يَكُونَا قَدْ أَتَيَا وَهُوَ نَائِمٌ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ.

فَأُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ ﷺ وَعُرِجَ بِهِ بِجَسَدِهِ وَرُوحِهِ، يَقَظَةً لَا مَنَامًا، بَلْ هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ، وَلَا يُمَارِي فِيهِ مَنْ آتَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ذَرْوًا مِنَ الْعَقْلِ، لِمَ؟

لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَوْ أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ رَأَى رُؤْيَا؛ أَكَانَ أَحَدٌ -مَهْمَا كَانَتِ الرُّؤْيَا عَجِيبَةً- يُجَادِلُهُ فِيهَا، يَعْنِي: عِنْدَمَا يَقُولُ: إِنِّي رَأَيْتُ رُؤْيَا أَنِّي قَدْ أُسْرِيَ بِي مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَعُرِجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ، أَكَانَتْ قُرَيْشٌ تُجَادِلُهُ فِي ذَلِكَ؟ أَوْ تُكَذِّبُهُ فِيهِ؟!!

فَالْإِنْسَانُ يَرَى أَعْجَبَ مِنْ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَافَاتِ الْمُتَبَاعِدَةِ، يَرَى ذَلِكَ وَيُخْبِرُ بِهِ وَلَا يُجَادِلُهُ فِيهِ أَحَدٌ وَلَا يُكَذِّبُهُ.

فَلَوْ كَانَتْ رُؤْيَا مَنَامٍ؛ مَا كَذَّبَتْهُ قُرَيْشٌ، وَإِنَّمَا هِيَ تَيَقَّنَتْ أَنَّهُ ﷺ يُخْبِرُ عَنْ أَمْرٍ وَقَعَ لَهُ يَقَظَةً؛ وَلِذَلِكَ قَالُوا: تَذْهَبُ وَتَجِيءُ وَفِرَاشُكَ لَمَّا يَزَلْ دَافِئًا بَعْدُ؟!!

فَالْإِنْسَانُ يُمْكِنُ أَنْ يَرَى فِي الرُّؤْيَا أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى أَبْعَدَ مِنْ هَذَا -أَيْ: أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ مَكَّةَ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ-، ثُمَّ يَعُودُ وَهُوَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَلَا يَزَالُ دَافِئًا بَعْدُ، وَلَكِنْ هُوَ خَرَجَ مِنْ هَذَا الْفِرَاشِ بِجَسَدِهِ، ثُمَّ أُسْرِيَ بِهِ، فَذَهَبَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ إِلَى السَّابِعَةِ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، ثُمَّ إِلَى مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ، هَذَا مَا اسْتَغْرَبُوهُ.

وَلِذَا كَانَتْ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيًا , وَلَكِنْ فِي سِيَاقِ الْأَحَادِيثِ مِنْ رُكُوبِهِ، وَنُزُولِهِ، وَرَبْطِهِ، وَصَلَاتِهِ، وَصُعُودِهِ وَهُبُوطِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أُسْرِيَ بِرُوحِهِ وَجَسَدِهِ يَقَظَةً لَا مَنَامًا.

وَهَذَا مَوْطِنُ الْإِعْجَازِ فِي الْمَسْأَلَةِ.

وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ مَنَامًا؛ فَالْإِنْسَانُ يَرَى فِي الْمَنَامِ أَعْجَبَ الْأُمُورِ، وَلَا يُرَاجِعُهُ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ، وَلَكِنْ فِي الْيَقَظَةِ يَحْدُثُ هَذَا، هَذَا هُوَ مَوْطِنُ الْآيَةِ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ.

هَلْ إِذَا قِيلَ هَذَا عَبْدٌ، تَنْطَبِقُ عَلَى الرُّوحِ دُونَ الجَسَدِ أَوْ عَلَى الْجَسَدِ دُونَ الرُّوحِ أَوْ تَنْطَبِقُ عَلَى الرُّوحِ وَالْجَسَدِ مَعًا؟

عَلَيْهِمَا مَعًا، {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ}، فَهَذَا شَامِلٌ لِلرُّوحِ وَالْجَسَدِ.

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّجْمِ: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النَّجْمِ: 13]، جَعَلَ رُؤْيَةَ النَّبِيِّ ﷺ لِجِبْرِيلَ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى مُقَابِلًا لِرُؤْيَتِهِ إِيَّاهُ فِي الْأَبْطَحِ, وَهِيَ رُؤْيَةُ عَيْنٍ حَقِيقَةً لَا مَنَامًا .

-عِنْدَمَا رَأَى النَّبِيُّ ﷺ جِبْرِيلَ عَلَى هَيْئَتِهِ الْمَلَكيَّةِ، لَهُ سِتُّمِئَةِ جَنَاحٍ، وَقَدْ سَدَّ الْأُفُقَ ، فَرَآهُ عَلَى هَيْئَتِهِ الْمَلَكِيَّةِ الَّتِي خَلَقَهُ اللهُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَتَشَكَّلُ، وَلَكِنْ رَآهُ عَلَى هَيْئتِهِ الْمَلَكِيَّةِ مَرَّتَيْنِ، مَرَّةً بِالْأَبْطَحِ، ثُمَّ قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى}، كَمَا رَآهُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى عَلَى هَيْئَتِهِ الْمَلَكِيَّةِ؛ رَآهُ مَرَّةً ثَانِيَةً، الْأُولَى كَانَتْ يَقَظَةً أَمْ مَنَامًا؟ كَانَتْ يَقَظَةً، فَالثَّانِيَةُ كَمِثْلِهَا-.

وَلَوْ كَانَ الْإِسْرَاءُ وَالْمِعْرَاجُ بِرُوحِهِ فِي الْمَنَامِ لَمْ تَكُنْ مُعْجِزَةً، وَلَا كَانَ لِتَكْذِيبِ قُرَيْشٍ بِهَا، وَقَوْلِهِمْ: «كُنَّا نَضْرِبُ أَكْبَادَ الْإِبِلِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ شَهْرًا ذَهَابًا وَشَهْرًا إِيَابًا, وَمُحَمَّدٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسَرِيَ بِهِ إِلَيْهِ وَأَصْبَحَ فِينَا», إِلَى آخِرِ تَكْذِيبِهِمْ وَاسْتِهْزَائِهِمْ بِهِ ﷺ.

مَا كَانَ لِذَلِكَ -أَيْ: مِنَ اعْتِرَاضِهِمْ-، مَا كَانَ مِنَ اعْتِرَاضِهِمْ هَذَا مِنْ مَعْنَى، لَوْ أَنَّهُم فَهِمُوا أَنَّهُ كَانَ مَنَامًا؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ نَحْنُ نَذْهَبُ إِلَيْهِ يَقَظَةً بِأَبْدَانِنَا فِي شَهْرٍ، نَضْرِبُ أَكْبَادَ الْإِبِلِ -لِيَحُثُّوهَا عَلَى الْإِسْرَاعِ فِي السَّيْرِ- شَهْرًا فِي الذَّهَابِ وَشَهْرًا فِي الْإِيَابِ، وَمُحَمَّدٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ بِلَيْلٍ وَأَصْبَحَ فِينَا؟!!

لَوْ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ أَوْ فَهِمُوا هُمْ أَنَّهُ إِنَّمَا رَأَى ذَلِكَ رُؤْيَا مَنَامٍ، هَلْ كَانُوا يَعْتَرِضُونَ عَلَيْهِ بِهَذَا؟!!

هَلْ كَانُوا يُكَذِّبُونَهُ؟!!

مَا وَجْهُ التَّكْذِيبِ حِينَئِذٍ؟!!

 ((مِنْ دُرُوسِ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ:

إِعْمَالُ الْعَقْلِ فِي تَوْثِيقِ النَّصِّ، ثُمَّ التَّصْدِيقُ وَالتَّسْلِيمُ))

أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَمْ يَكُنْ شَاهِدًا مَا تَمَّ بَيْنَ النَّبِيِّ ﷺ وَقَوْمِهِ، فَلَمَّا جَاءَ، تَلَقَّفَهُ الْقَوْمُ غَيْرَ بَعِيدٍ، فَقَالُوا لَهُ -لِلصِّدِّيقِ-: يُحَدِّثُ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَنَحْنُ نَذْهَبُ إِلَيْهِ فِي شَهْرٍ، وَعَادَ مِنْ لَيْلَتِهِ، وَنَحْنُ نَؤُوبُ مِنْهُ فِي شَهْرٍ، ثُمَّ لَمْ يَكْتَفِ بِذَلِكَ، بَلْ حَدَّثَ أَنَّهُ عُرِّجَ بِهِ إِلَى السَّمَوَاتِ، كُلُّ ذَلِكَ وَفِرَاشُهُ دَافِئٌ لَمْ يَبْرُدْ بَعْدُ!!

قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنْتُمْ تَكْذِبُونَ عَلَيْهِ.

قَالُوا: لَا، بَلْ قَدْ قَالَ.

قَالَ: إِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ لَقَدْ صَدَقَ ﷺ.

قَالُوا: وَتُصَدِّقُهُ بِذَلِكَ؟!!

قَالَ: نَعَمْ, إِنِّي لَأُصَدِّقُهُ فِيمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ، فِي خَبَرِ السَّمَاءِ يَأْتِيهِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا-أَوْ كَمَا قَالَ-.

فَالْعَقْلُ يَعْمَلُ فِي تَوْثِيقِ النَّصِّ فَقَطْ، فَإِذَا ثَبَتَ النَّصُّ؛ فَمَا هُوَ إِلَّا الْإِذْعَانُ وَالتَّسْلِيمُ، وَهَذَا هُوَ الْإِيمَانُ الصِّدِّيقِيُّ كَمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَمَّا قَالُوا لَهُ: إِنَّ صَاحِبَكَ يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ثُمَّ عَادَ، وَفِرَاشُهُ لَمْ يَزَلْ دَافِئًا بَعْدُ.

فَوَثَّقَ النَّصَّ، قَالَ: أَنْتُمْ تَكْذِبُونَ عَلَيْهِ.

قَالُوا: لَا، بَلْ قَالَ.

قَالَ: إِنْ كَانَ قَالَ فَقَدْ صَدَقَ ﷺ.

إِذَنْ أَمْرَانِ:

*الْأَمْرُ الْأَوَّلُ: تَوْثِيقُ النَّصِّ: ((أَنْتُمْ تَكْذِبُونَ عَلَيْهِ))، قَالُوا: ((لَا؛ بَلْ قَالَ))، فَلَمَّا رَاجَعُوهُ عَلِمَ أَنَّهُ قَالَ، قَالَ: ((إِنْ كَانَ قَالَ فَقَدْ صَدَقَ)).

*الْأَمْرُ الثَّانِي: إِذَا ثَبَتَ النَّصُّ؛ فَلَيْسَ إِلَّا التَّسْلِيمُ لِلْوَحْيِ الْمَعْصُومِ.

إِنْ كُنْتَ نَاقِلًا فَالصِّحَّةُ، أَوْ مُدَّعِيًا فَالدَّلِيلُ، هَذَا قَانُونُ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ، هَذَا هُوَ الْقَانُونُ الْعِلْمِيُّ عِنْدَ جَمَاهِيرِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ سَلَفًا وَخَلَفًا: ((إِنْ كُنْتَ نَاقِلًا فَالصِّحَّةُ، أَوْ مُدَّعِيًا فَالدَّلِيلُ))، كَمَا قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-، وَصَاغَ ذَلِكَ بِصِيَاغَةٍ أُخْرَى، فَقَالَ: ((الْعِلْمُ نَقْلٌ مُصَدَّقٌ))، فَهَذَا النَّقْلُ الْمُصَدَّقُ هُوَ الشَّطْرُ الْأَوَّلُ مِنْ تِلْكَ الْمَقُولَةِ، عِلْمٌ مُحَقَّقٌ، دَعْوَى مُحَقَّقَةٌ وَنَقْلٌ مُصَدَّقٌ.

فَلَا بُدَّ مِنْ مُرَاعَاةِ ذَلِكَ.

تَوْثِيقُ الْخَبَرِ وَتَوْثِيقُ النَّصِّ هُوَ عَمَلُ الْعَقْلِ.

فَكَمَا أَنَّ لِلْبَصَرِ مَجَالًا لَا يَعْدُوهُ، وَأَنْتَ لَا يَنْفُذُ بَصَرُكَ مِنْ وَرَاءِ جِدَارٍ، وَإِنَّمَا بَصَرُكَ يَقِفُ عِنْدَ حُدُودِ الْأَشْيَاءِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَا تُطْلَقُ لَهُ الرُّؤْيَةُ إِلَى الْمَدَى، وَإِنَّمَا يَتَوَقَّفُ عِنْدَ حُدُودٍ، فَكَمَا أَنَّ لِلْبَصَرِ مَجَالًا لَا يَعْدُوهُ فَلِلْعَقْلِ مَجَالٌ لَا يَتَجَاوَزُهُ وَلَا يَتَخَطَّاهُ.

فَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَيُعْمِلُ الْعَقْلَ فِي تَوْثِيقِ النَّصِّ وَتَثْبِيتِ النَّقْلِ.

يَقُولُ: أَنْتُمْ تَكْذِبُونَ عَلَيْهِ.

قَالُوا: لَقَدْ قَالَ.

فَلَمَّا رَاجَعُوهُ عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ قَالَ بِحَقٍّ.

قَالَ: إِنْ كَانَ قَالَ فَقَدْ صَدَقَ.

وَإِذَنْ؛ يَأْتِي الْعَامِلُ الثَّانِي مِنَ الرَّكِيزَتَيْنِ وَالْعَامِلَيْنِ الْأَسَاسِيَّيْنِ فِي حَيَاةِ الْمُؤْمِنِ الْحَقِّ، قَالُوا: ((سَمِعْنَا))؛ بِتَوْثِيقِ النَّصِّ وَتَثْبِيتِ النَّقْلِ، فَإِذَا مَا ثَبَتَ النَّقْلُ، وَإِذَا مَا تَوَثَّقَ النَّصُّ؛ فَلَيْسَ إِلَّا الطَّاعَةُ وَلَيْسَ إِلَّا التَّسْلِيمُ، ((سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا)).

أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَضَعُ الْمَنْهَجَ لِلنَّاسِ فِي حَيَاتِهِمْ، أَمَّا أَنْ يَثْبُتَ النَّصُّ، ثُمَّ يَدْخُلُ الْعَقْلُ لَا فِي تَوْثِيقِ النَّصِّ، وَإِنَّمَا فِي فَلْسَفَةِ النَّصِّ!! وَفِي تَجَاوُزِ حُدُودِ النَّصِّ!! وَفِي تَفْجِيرِ النَّصِّ مِنْ دَاخِلٍ كَمَا يَقُولُ الْعَلْمَانِيُّونَ عِنْدَمَا يُرِيدُونَ تَفْجِيرَ اللُّغَةِ مِنَ الدَّاخِلِ؛ لِأَنَّهَا لُغَةُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، فَيُرِيدُونَ هَدْمَ الْقُرْآنِ -وَهَيْهَاتَ- عَلَى رُؤُوسِ الْمُؤْمِنِينَ وَهَيْهَاتَ!

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ حَفِظَهُ، وَسَيَظَلُّ بِحِفْظِ اللهِ مَحْفُوظًا حَتَّى يَرْفَعَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ عِنْدَمَا يَنَامُ النَّاسُ النَّوْمَةَ قَبْلَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَسْتَيْقِظُونَ وَلَيْسَ فِي الصُّدُورِ وَلَا فِي الْقُلُوبِ وَلَا فِي الْعُقُولِ وَلَا فِي الْقَرَاطِيسِ مِنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

أَمَّا تَفْجِيرُ النَّصِّ؛ مِنْ أَجْلِ هَدْمِهِ، وَأَمَّا تَفْجِيرُ النَّصِّ؛ مِنْ أَجْلِ تَفْرِيغِهِ مِنْ مُحْتَوَاهُ فَلَيْسَ مِنْ عَمَلِ الْمُؤْمِنِينَ.

{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور: 51]، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مُفْلِحًا فَهُوَ مِنَ الْخَاسِرِينَ الْأَخْسَرِينَ.

فَهَذَا دَرْسٌ مِنْ دُرُوسِ الْإِسْرَاءِ الْعَظِيمِ.

 ((مِنْ دُرُوسِ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ:

تَأْيِيدُ اللهِ لِأَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ، وَنُصْرَتُهُ لَهُمْ وَدِفَاعُهُ عَنْهُمْ))

*إِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- يَدْفَعُ عَنْ عِبَادِهِ الَّذِينَ تَوَكَّلُوا عَلَيْهِ وَأَنَابُوا إِلَيْهِ شَرَّ الْأَشْرَارِ وَكَيْدَ الْفُجَّارِ، وَيَحْفَظُهُمْ وَيَكْلَؤُهُمْ وَيَنْصُرُهُمْ؛ فَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج: 38].

وَأَخْبِرْ -أَيُّهَا الرَّسُولُ- الْمُحْسِنِينَ فِي عِبَادَتِهِمْ لِرَبِّهِمْ، وَفِي تَعَامُلِهِمْ مَعَ خَلْقِهِ بِمَا يَسُرُّهُمْ؛ أَنَّ اللهَ يَدْفَعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ شَرَّ أَعْدَائِهِمْ.

دَافَعَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْ نَبِيِّهِ ﷺ لَمَّا كَذَّبَهُ قَوْمُهُ فِيمَا رَآهُ بِعَيْنَيْهِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ، فَقَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ} [النجم: 11].

مَا كَذَبَ قَلْبُ مُحَمَّدٍ ﷺ فِيمَا رَأَى بِعَيْنَيْهِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ، {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ} [النجم: 12]: أَلَا تَعْجَبُونَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ الْمُكَذِّبُونَ لِرَسُولِنَا فِيمَا يَرَاهُ رُؤْيَةَ حَقٍّ، فَتُجَادِلُونَهُ بِالْبَاطِلِ، حَرِيصِينَ عَلَى إِنْكَارِ مَا يَرَى وَتَكْذِيبِهِ فِيهِ.

{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَىٰ * عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَىٰ} [النجم: 13-15].

وَأُؤَكِّدُ لَكُمْ تَأْكِيدًا بَلِيغًا أَنَّ مُحَمَّدًا ﷺ رَأَى جِبْرِيلَ مَرَّةً أُخْرَى فِي صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا، نَازِلًا مِنَ السَّمَاءِ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ شَجَرَةِ نَبْقٍ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، يَنْتَهِي إِلَيْهَا مَا يُعْرَجُ بِهِ مِنَ الْأَرْضِ، وَيَنْتَهِي إِلَيْهَا مَا يُهْبَطُ بِهِ مِنْ فَوْقِهَا، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى جَنَّةُ الْمَأْوَى، الَّتِي يَصِيرُ إِلَيْهَا الْمُتَّقُونَ، وَتَأْوِي إِلَيْهَا أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ.

 {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ} [النجم: 16].

رَأَى مُحَمَّدٌ ﷺ جِبْرِيلَ فِي النَّزْلَةِ الْأُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى حِينَ كَانَ يُجَلِّلُ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى وَيُغَطِّيهَا مِنْ نُورِ الْخَلَّاقِ وَالْمَلَائِكَةِ مَا لَا يَعْلَمُ وَصْفَهُ إِلَّا اللهُ تَعَالَى.

 {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ} [النجم: 17].

مَا اضْطَرَبَ بَصَرُ النَّبِيِّ ﷺ وَلَا انْحَرَفَ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ، وَفِي تِلْكَ الْحَضْرَةِ الْقُدْسِيَّةِ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا، وَمَا زَادَ فِي الرُّؤْيَةِ عَلَى الْحَقِيقَةِ شَيْئًا.

 {لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ} [النجم: 18].

وَأُؤَكِّدُ تَأْكِيدًا بَلِيغًا أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ رَأَى لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ رُؤْيَةً حِسِّيَّةً بَصَرِيَّةً مِنْ آيَاتِ اللهِ الْكُبْرَى الدَّالَّةِ عَلَى عَظَمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ.

*وَمِنْ تَأْيِيدِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِنَبِيِّهِ أَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا سَأَلَتْهُ ﷺ عَنْ مَسْرَاهُ, رَفَعَهُ اللَّهُ لَهُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، مَا يَسْأَلُونَهُ ﷺ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَنْبَأَهُمْ بِهِ، فَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يقول: ((لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ, قُمْتُ فِي الحِجْرِ, فَجَلَّى اللَّهُ لِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ, فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ)). وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَيْضًا مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

 ((هَلْ رَأَى النَّبِيُّ رَبَّهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ؟))

          مِنْ عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَبْصَارِهِمْ، وَالْأَدِلَّةُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَثِيرَةٌ:

*مِنَ الْكِتَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: 22-23].

*وأَمَّا مِن السُّنَّةِ، فَالْأَدِلَّةُ أَيْضًا كَثِيرَةٌ:

فَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ؛ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟

قَالَ: ((فَهَل تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ فِي الظَّهِيرَةِ لَيْسَت فِي سَحَابَةٍ؟))

قَالُوا: لَا.

قَالَ: ((فَهَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ فِي سَحَابَةٍ؟))

قَالُوا: لَا.

قَالَ: ((فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ إِلَّا كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا)).

هَذِهِ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ ، وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ))  مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِنَحْوِهِ.

وَالتَّشْبِيهُ هُنَا لِلرُّؤْيَةِ بِالرُّؤْيَةِ، لَا لِلْمَرْئِيِّ بِالْمَرْئِيِّ، وَهِيَ رُؤْيَةٌ مَعْرُوفَةٌ لَيْسَتْ بِمَجْهُولَةٍ، يُرَى سُبْحَانَهُ بِغَيْرِ إِدْرَاكٍ وَلَا إِحَاطَةٍ، إِذْ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ، وَإِنَّمَا تَرَاهُ فِي الْقِيَامَةِ الْأَبْصَارُ، فَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُحَاطَ بِهِ -جَلَّ شَأْنُهُ-.

وَفِي حَدِيثِ صُهَيْبٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا، أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ، وَتُنْجِنَا مِنَ النَّارِ؟

قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ -عَزَّ وَجَلَّ-)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ في ((صَحِيحِهِ)) .

«جُمْهُورُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّ مَنْ جَحَدَ رُؤْيَةَ اللهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ فَهُوَ كَافِرٌ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَمْ يَبْلُغْهُ الْعِلْمُ فِي ذَلِكَ عُرِّفَ ذَلِكَ، كَمَا يُعَرَّفُ مَنْ لَمْ يَبْلْغْهُ شَيْءٌ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى الْجُحُودِ بَعْدَ بُلُوغِ الْعِلْمِ لَهُ فَهُوَ كَافِرٌ». كَمَا قَرَّرَ ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ، وَمِنْهُمْ شَيْخُ الْإِسْلَامِ .

هَذِهِ مِنَ الْمَسَائِلِ الْمَعْلُومَةِ فِي اعْتِقَادِ أَهْلِ السُّنَّةِ، فَإِعَادَتُهَا عَلَيْكُمْ لَا تَكُونُ مِنْ بَابِ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ، وَإِنَّمَا مِنْ بَابِ الذِّكْرَى الَّتِي تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ، لَنَدْلُفَ مِنْهَا إِلَى أَمْرٍ مُهِمٍّ.

لَمْ يَرَ الرَّسُولُ ﷺ رَبَّهُ عِيَانًا عَلَى الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا رَأَى رَبَّهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ رُؤْيَةً قَلْبِيَّةً، لَا بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ، كَمَا لَمْ يَرَ رَبَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فِي الْأَرْضِ -أَيْ: هُوَ فِي الْأَرْضِ-.

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ : ((كُلُّ حَدِيثٍ فِيهِ: أَنَّ مُحَمَّدًا ﷺ رَأَى رَبَّهُ بِعَيْنِهِ فِي الْأَرْضِ فَهُوَ كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَائِهِمْ؛ هَذَا شَيْءٌ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا رَوَاهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا كَانَ بَعْضُ النِّزَاعِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فِي أَنَّ مُحَمَّدًا ﷺ هَلْ رَأَى رَبَّهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ؟))

وقال : ((وَلَمْ يَثْبُتْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَا عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَأَمْثَالِهِمَا أَنَّهُمْ قَالُوا: إنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ بِعَيْنِهِ، بَلْ الثَّابِتُ عَنْهُمْ إمَّا إطْلَاقُ الرُّؤْيَةِ، وَإِمَّا تَقْيِيدُهَا بِالْفُؤَادِ))

وَقَدْ سُئِلَ رَسُولُ اللهِ: هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟

فَقَالَ: ((نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ)). كَمَا عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي ((الصَّحِيحِ)) .

وَعِنْدَهُ : قَالَ ﷺ: ((حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ)).

قَالَ مَسْرُوقٌ لِعَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((يَا أُمَّتَاهُ، هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ ﷺ رَبَّهُ؟

فَقَالَتْ: لَقَدْ قَفَّ شَعْرِيَ مِمَّا قُلْتَ, أَيْنَ أَنْتَ مِنْ ثَلَاثٍ مَنْ حَدَّثَكَهُنَّ فَقَدْ كَذَبَ: مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا ﷺ رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ كَذَبَ -هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ-، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ: فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللهِ الْفِرْيَةَ -بَدَلَ: فَقَدْ كَذَبَ-، ثُمَّ قَرَأَتْ {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الْأَنْعَامِ: 103]،: {ومَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشُّورَى: 51].

وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ فَقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لُقْمَانَ: 34]، وَمَنْ حَدَّثَ أَنَّهُ كَتَمَ فَقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [الْمَائِدَةِ: 67] الْآيَةَ.

وَلَكِنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي صُورَتِهِ مَرَّتَيْنِ)). وَهَذَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) .

«لَوْ رَآهُ النَّبِيُّ ﷺ نَفْسَهُ بِعَيْنِهِ؛ لَكَانَ ذِكْرُ ذَلِكَ أَوْلَى فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ، فَقَدْ قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ} [النجم: 12] {لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ} [النجم: 18]، وَكَذَلِكَ قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1]، فَلَوْ كَانَ رَأَى رَبَّهُ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ؛ لَكَانَ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ أَوْلَى.

وَقَدْ ثَبَتَ بِالنُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ، وَاتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ أَنَّهُ لَا يَرَى أَحَدٌ فِي الدُّنْيَا رَبَّهُ بِعَيْنَيْهِ إِلَّا مَا نَازَعَ فِيهِ بَعْضُهُمْ مِنْ رُؤْيَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ خَاصَّةً» .

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُ قَالَ: ((رَآهُ بِقَلْبِهِ))  فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالرُّؤْيَةِ، فَيَكُونُ كَلَامُهُ -يَعْنِي كَلَامَ ابْنِ عَبَّاسٍ- مُطَابِقًا لِكَلَامِ غَيْرِهِ مِمَّنْ نَفَى أَنْ يَكُونَ رَآهُ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ، كَقَوْلِ عَائِشَةَ لِمَسْرُوقٍ: ((قَفَّ شَعْرُ رَأْسِي مِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ، فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللهِ الفِرْيَةَ)).

بَلِ النَّبِيُّ ﷺ نَفَى ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ: عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟

قَالَ: ((نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ؟)).

فَابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ يَقُلْ: إِنَّهُ رَآهُ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ، وإنَّمَا قَالَ: رَآهُ بِقَلْبِهِ، أَوْ أَطْلَقَ الرُّؤْيَةَ، فَتُقَيَّدُ بِذَلِكَ الْقَيْدِ.

فَالرُّؤْيَةُ الْمُثْبَتَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُطْلَقَةً، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مُقَيَّدَةً بِالرُّؤْيَةِ الْقَلْبِيَّةِ، فَيَسْتَقِيمُ هَذَا مَعَ مَا قَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-.

 ((تَنْبِيهٌ مُهِمٌّ: الْإِسْرَاءُ وَالْمِعْرَاجُ لَمْ يَقَعَا فِي شَهْرِ رَجَبٍ))

فَمِنَ الْبِدَعِ فِي شَهْرِ رَجَبٍ -عِبَادَ اللهِ- مَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّا أَطْبَقُوا عَلَيْهِ فِي لَيْلَةِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَجَبٍ، يَزْعُمُونَ، بَلْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ ((الْإِسْرَاءَ وَالْمِعْرَاجَ)) قَدْ وَقَعَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ وَيَجْزِمُونَ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي ذَلِكَ، وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ.

وَقَدْ أَخْطَأَ مَنْ جَزَمَ بِهِ كَمَا قَرَّرَ عُلَمَاؤُنَا -عَلَيْهِمُ الرَّحْمَةُ-، وَلَكِنَّهُمْ يَجْعَلُونَهُ دِينًا مُتَّبَعًا وَسُنَّةً يَؤُمُّونَهَا يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إِلَى اللهِ بِزَعْمِهِمْ، ثُمَّ يَزْرِفُونَ الدُّمُوعَ أَوْ دَمْعَةً أَوْ دَمْعَتَيْنِ عَلَى الْأَقْصَى السَّلِيبِ، ثُمَّ يُنْسَى ذَلِكَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ -وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ وَإِلَيْهِ الْمُشْتَكَى- .

 ((الْمِعْرَاجُ وَبَذْلُ الْحُبِّ وَالْوُدِّ))

 

عِبَادَ اللهِ؛ إِنَّ الْأُمَّةَ فِي حَاجَةٍ إِلَى كُلِّ مُسْلِمٍ؛ لِأَنَّ الْهَلَاكَ الْمُبِينَ لَا يُفَرِّقُ -الَّذِينَ يَسُوقُونَهُ مِنْ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ وَأَعْدَاءِ الْمُسْلِمِينَ- بَيْنَ حَاكِمٍ وَمَحْكُومٍ.

إِنَّ ذَلِكَ الْمِعْرَاجَ الَّذِي عُرِجَ مِنْهُ بِرَسُولِ اللهِ ﷺ لَيُنَادِي كُلَّ مُسْلِمٍ أَنْ يُطَهِّرَ قَلْبَهُ، وَأَنْ يَبْذُلَ حُبَّهُ، وَأَنْ يُعْطِيَ وُدَّهُ، وَأَنْ يُقْبِلَ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

عِبَادَ اللهِ؛ تُوبُوا إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَارْجِعُوا إِلَيْهِ، وَاسْتَغْفِرُوهُ، وَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ، وَوَحِّدُوهُ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فَاطْلُبُوا مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الصَّفْحَ وَالْمَغْفِرَةَ، إِنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

 

المصدر: دُرُوسٌ مِنَ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  الْعَدْلُ وَأَثَرُهُ فِي اسْتِقْرَارِ الْمُجْتَمَعِ
  عِنَايَةُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ بِالزَّمَنِ وَحَدِيثُهُ عَنِ الْأَيَّامِ وَالسِّنِينَ
  ماذا لو حكم الإخوان مصر؟
  فَهْمُ مَقَاصِدِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ وَصَلَاحِيَتُهَا لِكُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ
  الْحُقُوقُ وَالْحُرُمَاتُ فِي خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ
  السُّنَنُ الْإِلَهِيَّةُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ
  كيف تصحب النبي صلى الله عليه وسلم ؟
  ثورة يناير والأسرار الخفية
  الصِّدْقُ وَأَثَرُهُ فِي صَلَاحِ الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ
  الرد على الملحدين:تحديد الصلة بين المدنية الحديثة والإسلام، وبيان أن العلم الحديث قرآني في موضوعه
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان