كبف تصحب النبي صلى الله عليه وسلم؟
الجمعة
8 من جمادى الأولى 1436هـ الموافق 27-2-2015م
الْخُطْبَةُ الْأُولَى:
إنَّ
الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ
بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ
يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ
أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ
مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ
وَسَلَّمَ.
أَمَّا
بَعْدُ:
فَإِنَّ
أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وعلي آلِهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ
مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ،
وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا
بَعْدُ:
فإنَّ المرءَ لا يَكْمُلَ عَقْلُهُ إِلاَّ بتمامِ
الاتباعِ للكتابِ والسُّنَّة، وما نقصَ منْ عقلهِ فهو بحسب تخلفه عن اتباع الكتاب
والسنة، وأهلُ الأهواءِ والبدعِ جانبوا هَدْي رَّسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ لذا تجدهم أكثر الناس اقتحامًا للحرام وتعديًا لحدودِ
الله جلَّ وعلا، وقد ذكرَ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ
أنَّ ذلك من قلة عقولهم ومن مجانبتهم للكتاب والسُّنَّة، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله
تعالي عنه –، أنَّ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
("لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكْثُرَ الْهَرْجُ", قَالُوا:
وَمَا الْهَرْجُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ ، قَالَ: "الْقَتْلُ الْقَتْلُ الْقَتْلُ",
ثَلاثَ مَرَّاتٍ, قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لَنَقْتُلُ فِي الْعَامِ الأَلْفَ
وَالأَلْفَيْنِ, قَالَ: "لا أَعِنِّي ذَلِكَ, وَلَكِنْ قَتْلَ بَعْضِكُمْ بَعْضًا",
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَقْتُلُ بَعْضُنَا بَعْضًا, وَنَحْنُ أَحْيَاءُ نَعْقِلُ,
قَالَ: "يُمِيتُ اللَّهُ قُلُوبَ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ كَمَا يُمِيتُ أَبْدَانَهُمْ")،
والحديث في الصَّحِيحِين واللفظُ لمسلم، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله
عنه –، قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ
("وَالَّذِي نَفْسِي
بِيَدِهِ, لا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى النَّاسِ يَوْمٌ لا يَدْرِي
الْقَاتِلُ فِيمَ قَتَلَ، وَلا الْمَقْتُولُ فِيمَ قُتِلَ"، فَقِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ
ذَلِكَ؟ قَالَ: "الْهَرْجُ، الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ")،
وهذا أخرجه مسلم، وَعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ – رضي الله تعالي عنه –، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وآلِهِ وَسَلَّمَ ("إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ الْهَرْجَ"،
قَالَوا: وَمَا الْهَرْجُ ؟ قَالَ: "الْقَتْلُ، إِنَّهُ لَيْسَ بِقَتْلِكُمْ الْمُشْرِكِينَ،
وَلَكِنْ قَتْلُ بَعْضِكُمْ بَعْضًا، حَتَّى يَقْتُلَ الرَّجُلُ جَارَهُ، وَيَقْتُلَ
أَخَاهُ، وَيَقْتُلَ عَمَّهُ، وَيَقْتُلَ ابْنَ عَمِّهِ"، قَالُوا: وَمَعَنَا
عُقُولُنَا يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ "أنَّهُ لَتُنْزَعُ عُقُولُ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ،
وَيُخَلَّفُ لَهُ هَبَاءٌ - وَيُخَلَّفُ لَهُم هَبَاءٌ - مِنَ النَّاسِ، يَحْسِبُ أَكْثَرُهُمْ
أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ، وَلَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ"؛ قَالَ أَبُو مُوسَى: وَالَّذِي
نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مِنْهَا مَخْرَجًا، إِنْ أَدْرَكَتْنِي وَإِيَّاكُمْ،
إِلَّا أَنْ نَخْرُجَ مِنْهَا كَمَا دَخَلْنَا فِيهَا لَمْ نُصِبْ مِنْهَا دَمًا وَلَا
مَالًا) أخرجه أحمد وصححه الألبانيّ، وعنه رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ ("إِنَّ
بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ الْهَرْجَ"، قُلْنَا: وَمَا الْهَرْجُ؟ قَال "الْقَتْلُ
الْقَتْلُ، حَتَّى يَقْتُلَ الرَّجُلُ جَارَهُ، وَابْنَ عَمِّهِ، وَأَبَاهُ"،
قَالَ: فَرَأَيْنَا مَنْ قَتَلَ أَبَاهُ زَمَانَ الأَزَارِقَةِ) .
هذا النصُّ أخرجه أبو يعلي في المسند بسندٍ صحيح، وأما
الْأَزَارِقَةُ فهم أَتْبَاعُ أَبِي رَاشِدٍ نَافِعِ بْنِ الْأَزْرَقِ بْنِ قَيْسٍ
الْحَنَفِيِّ الْبَكْرِيِّ الْوَائِلِيِّ، مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، صَحِبَ فِي أَوَّلِ
أَمْرِهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، ثم كان منْ أنصارِ الثورةِ
عَلَى عُثْمَانَ رضي الله تعالي عنه، وممن والي علياً رضي الله عنه، إلي أنْ خرجَ
عَلَى عَلِيٍّ رضي الله تعالي عنه فِي حَرُورَاءَ، وكان ابْنِ الْأَزْرَقِ جَبَّارًا
فتَّاكًا سَفَّاكًا لِلدِّمَاءِ، ومنْ أَشَدِّ الخوارجِ تطرُّفًا، قُتل سَنة خمس
وستين (65)، والأَزَارِقَة وهم أَتْبَاعُه يُكفِّرون عُثْمَان وَعليًّا والزبير
وطلحة كما يُكفِّرون القَعَدَةَ عن القتال معهم، وقالوا بكُفرِ أصحابِ الكبائر
وخلودِهم في النار وأنَّ دار مخالفيهم دار كُفر وهم فرقةٌ من الخوارج المارقين،
وعنه رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ
(لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَقْتُلَ الرَّجُلُ جَارَهُ
وَأَخَاهُ وَأَبَاهُ) أخرجه البخاري في (الأدب المفرد) وحسنه الألباني.
فهذا الهباء الذي ذكره النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وآلِهِ وَسَلَّمَ إنما يكون مع كثرةِ الفتن حتي أنَّ الرجل لا يُميِّز عند القتلِ
مَنْ قتل وَلا الْمَقْتُولُ يَدْرِي فِيمَ قُتِلَ، فنسأل الله أنْ يعصمنا من ذلك
بمنِّهِ وكرمهِ وجودهِ وفضلهِ وهو أكرمُ الأكرمين.
معشر المسلمين إنَّ الكفار لا يقدرون عليكم ما دمتم
تتلون الوحيين (الكتاب والسُنة)، قَالَ الله جلَّ وعلا (يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ
يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ
تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ
هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)، فها هنا فائدتان:
الأولى: عصمةُ أتباع
الوحيين من الكفر (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى
عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ) هو كتابه المجيد (وَفِيكُمْ
رَسُولُهُ) في حالِ حياتهِ وَفِيكُمْ سُنته بعد وفاتهِ كما يأتي الحديث عنه
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، فها هنا فائدةٌ عظيمة وهي: عصمةُ أتباعِ
الوحيين (الكتابُ والسُنة) من الكفر، قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ (يعني أنَّ الكفر
بعيدٌ منكم وحاشاكم منه؛ فإنَّ ءايات الله تنزل على رسوله ليلاً ونهاراً، وهو يَتْلوها
عليكم ويُبلِّغها إليكم)؛
وأما
الفائدة الثانية فهي: أنَّ الله تعالى اقتصر على ذكرِ أعظم كيدٍ يدبِّره الكفار
للمسلمين وهو إرادةُ تكفيرهم، كما قال الله جلَّ وعلا في الآية الأخرى (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ
إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ
الحَقُّ)، فكأن الله جلَّ وعلا يقول: مهما كان مكرُهم الكُبَّار الذي تزول منه
الجبال كما قال الله جلَّ وعلا (وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ
مِنْهُ الْجِبَالُ)، فإنَّ إيمانكم لا يزول عنكم ما أقمتم على تلاوةِ الوحي
(كتابًا وسُنة)، وليس هذا غريبًا علي من أيقن بقلبهِ أنَّ الله جعل مَعينَ الحياة
في الوحي قال الله جلَّ وعلا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)، وأعظمُ
الحياتَيْن حياةُ القلب، وأحيا الناس أَتْبَعُهم للوحي، وهو آمَنُهم من الضلال، وبهذا
يَدِّقُ فهمك لقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ (تَرَكْتُ فِيكُمْ شَيْئَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا: كِتَابَ
اللَّهِ وَسُنَّتِي وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ)
رواه مالك والحاكم وهو حديث حسن، ومن هنا تعلم جريمة أولئك الذين يريدون أن يصرفوا
الأمة عن السُنة وأنَّ يُشكِّكوها في أحاديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ
وَسَلَّمَ فأنهم يريدون الكفر لأبناء هذه الأمة، لأن أبناء الأمة إن لم يتمسكوا
بالكتاب والسنة نفذَ فيهم قدرُ الله جلَّ وعلا بإرادة تكفيرهم وقوعًا، كما يُريد
ذلك أهل الكتاب وغيرهم، والعصمة من ذلك كما مرَّ التمسك بـ(الكتاب والسُنة)، فمن
هنا تعلم أنَّ الذين يُريدون الطعنَ في سُنة النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ
وَسَلَّمَ ويشكِّكون فيها بالتشكيكِ في حملتِها ونقلتِها بدءًا من أصحاب رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ إلي عصر التدوين هؤلاء إنما يُريدون صرفَ
الأمةِ الإسلام العظيم، بل أنّهم يترقون بذلك إلي الطعنِ في رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، كما قيل لأبي زُرعة إنَّ قومًا يطعنون في الصحابةِ رضي
الله عنهم فقال: أولئك زَنادِقة، وهم إنما أرادوا أنْ يطعنوا في رسولِ الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ وأن يُشكِّكوا في الدين لأنه إذا سقطت العدالة
عن أصحابِ النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ ذهبت الثقة بمروياتِهم
وهم الذين نقلوا السُنة وهم بأعيانهم الذين نقلوا القرآن المجيد، ثم إنه يُقال بعد
ذلك رجلُ سوء كان حوله رجال سوء، ولو كان رجلاً صالحًا لكان حوله رجالٌ صالحون،
فتأمل في هذا حتي لا يخفي عليك مقصدَ القوم، أسال الله أنَّ يردَّ كيدَهم في نحورِهم.
إنَّ الله جلَّ وعلا جعل حياةَ القلب في الاستجابةِ
لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، وهو قد جاء بالوحيين بـ(الكتاب
والسنة)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ
وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)، أعظمُ الحياتين حياة
القلب وأحيا الناس أتبعُهم للوحي.
قال الصدِّيق الأكبر رضي الله تبارك وتعالي عنه (لستُ تاركًا
شيئا كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ يعملُ به إلا عمِلتُ
به، فإني أخشى إنْ تركت شيئًا من أمره أنْ أزيغ) أخرجاه في الصحيحين، فهذا صدِّيق الأمةِ
يخشى على نفسهِ الانحرافَ عن الصراطِ المستقيم إنْ هو فرَّط في شيءٍ من هَدْي النبي
الكريم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، مع أنه رضي الله عنه كان شديد التمسك
بما دَقَّ وجَلَّ من سُنة نبيِّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، فكيف قرَّت
أعْيُن المبتدعة وهدأت جفونهم؟، وقد روي الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله
عنه أنه قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَهُ وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنْ الْعَرَبِ قَالَ عُمَرُ
لِأَبِي بَكْرٍ كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ
حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَمَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ
عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ" فَقَالَ الصِدِّيقُ رضي الله عنه وَاللَّهِ
لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ
الْمَالِ وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ فَقَالَ عُمَرُ
فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُ اللَّهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ
لِلْقِتَالِ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ.
فتأمل هذا الحرص الشديد على أداء الواجب بكلِّ تفاصيله التي
كانت على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، ولو كانت في تقديم
أحقرِ شيء، (لو مَنَعُونِي عِقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ).
ولمَّا كان الرسولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكذا
كان إخوانه من الأنبياء والمرسلين عليهم صلوات الله وسلامهُ أجمعين لما كان الرُسُل
أتبع الخلق للوحي اقترن بهم مِن تأييدِ الله أكملُهُ، كما قال الله جلَّ وعلا (كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) وقال جلَّ
وعلا(وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ
(171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)
وقال جلَّ وعلا (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والَّذِينَ ءَاَمُنوا
في الحَيَاةِ الدُّنْيَا ويَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ).
ومَنْ كان مُتَّبِعاً لهم كان له مِثْلُ ما لهم مِنْ التأييدِ
والنصرة، قال الله جلَّ وعلا لموسى وهارون صلى الله عليهما وسلم ولأتباعِهما (أَنتُمَا ومَن اتَّبَعَكُمَا الغَالِبُون)، وقال لعيسى عليه
السلام ولأتباعِهِ (إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ
وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ
فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ)، قالَ الإمامُ ابن
القيم رحمه الله (فلما كان للنصارى نصيبٌ ما من اتباعه كانوا فوق اليهود إلى يومِ القيامة,
ولمَّا كان المسلمون أتبعَ له من النصارى كانوا فوق النصارى إلى يومِ القيامة).
قال شيخُ الإسلام رحمه الله (ولهذا كل من كان مُتّبعا للرسول
كان اللهُ معه بحسَبِ هذا الاتِّباع، قال الله جلَّ وعلا (يَأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَك مِنَ المُؤْمِنِينَ)،
أي حسْبك وحسْبُ مَنْ اتَّبعك، فكلُّ مَن اتَّبَع الرسولَ مِنْ جميعِ المؤمنين فالله
حسْبه، وهذا معنى كونُ الله معه، والكفاية المطلقة مع الاتِّباع المطلق، والناقصة مع
الناقص، وإذا كان بعضُ المؤمنين به المُتبعين له قد حصَل له مَن يعاديه على ذلك فالله
حسْبُه، وهو معه وله نصيب من قولهِ (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ
لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا)، فإنَّ هذا قَلْبُه موافِقٌ للرسول وإنْ
لم يكن صحِبَه ببدنه، والأصلُ في هذا القلب، كما في الصّحيحين عن النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال (إِنَ بِالْمَدِينَةِ رِجَالاً
مَا سِرْتُمْ مَسِيراً، وَلاَ قَطَعْتُمْ وَادِياً إِلاَ كَانُوا مَعَكُمْ)،
قالوا: وهُم بالمدينة؟ قال (وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ، حَبَسَهُمُ
الْعُذْرُ)، فهؤلاء بقلوبِهم كانوا مع النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَمع أصحابهِ الغُزاة، فلهم معنى صُحبته في الغَزاة، فالله معهم بحسَب تلك الصحبة المعنوية)،
إذ العِبرةُ بالقلب، والصحبة إنما تكون بالقلب قبل أنَّ تكون بالجسدِ- فإذا كنت مع
الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متبعًا له ناصرًا لسنته قائمًا بأمرهِ
فلك من الصُحبة المعنوية بقدْرِ اتباعك وحين إذ يكون لك نصيبٌ من قول الله جلَّ
وعلا (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ
مَعَنَا)، فعلي قدْرِ صُحبة قلبِك لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ
وَسَلَّمَ تكون المعيّةُ الخاصة بالكفاية والكلاءة والحرصِ والنُصرة وغيرِ ذلك.
وقد صدق شيخ الإسلام رحمه الله فيما قال (فإنَّ
في القرآن ما يدل على أنهم صَحِبوهم بباطنهم، وذلك أنهم حين أَتَوا ليحملهم النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معه إلى الجهاد ردَّهم؛ لأنه لا يملك ما يحملهم عليه، رجعوا
وقلوبهم متحرِّقةٌ وعيونُهم دامعةً على ذلك حتى وصفهم الله بقوله (ولاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ
لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ
حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ).
ثم
قال شيخُ الإسلامِ رحمه الله (ولو انفرد الرجلُ في بعضِ الأمصار والأعصار بحقٍ جاء
به الرسول، ولم تنصُرْه الناسُ علي ذلك الحق، فإنَّ الله معه، وله نصيب من قوله (إلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ
كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا في الغَاِر إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ
إِنَّ اللهَ مَعَنَا)، فإنَّ نصر الرسول هو نصرُ دينهِ الذي جاء به حيث كان
ومتى كان، ومن وافقه فهو صاحبهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبارك عليه علي نُصرة هذا الحق في المعنى، فإذا
قام به ذلك الصاحبُ كما أمر الله فإنَّ الله مع ما جاء به الرسول ومع ذلك القائم به،
وهذا المُتبع له: حسْبُه الله، وهو حسْبُ الرسول كما قال الله جلَّ وعلا (يَأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ)،
والذي ينبغي عليك أن تكون ناصرًا للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ
مُتبعًا له محققًا للاتباع ما أمكنك، حينئذ تكون صاحب الرسول في المعني كما قَالَ
شيخ الإسلام وتكون لك من المعية الخاصة ما المعيّةُ الخاصة قائمة به من النصرة
والكلاءة والحفظ والتأييد وغير ذلك وأيضًا يكونُ الله جلَّ وَعلا حَسْبُكَ كما هو
حَسْب رسول الله، فهو كافيك ولو اجتمع عليك مَن بأقطارها فاثبُت علي السُنة ولا
تخشي إلا اللهَ جلَّ وعلا، وتمسك بغرزِ سولِ الله الزمه ولا تحِد عنه وَإن عاندك
وقاتلك مَن بين أقطارها فَإنَّ الله حَسْبُكَ كما هو حَسْب الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وآلِهِ وَسَلَّمَ.
عَنْ
ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ (صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِشَاءَ ثُمَّ انْصَرَفَ فَأَخَذَ بِيَدِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ حَتَّى خَرَجَ بِهِ إِلَى بَطْحَاءِ مَكَّةَ فَأَجْلَسَهُ ثُمَّ
خَطَّ عَلَيْهِ خَطًّا ثُمَّ قَالَ لَا تَبْرَحَنَّ خَطَّكَ فَإِنَّهُ سَيَنْتَهِي
إِلَيْكَ رِجَالٌ فَلَا تُكَلِّمْهُمْ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَلِّمُونَكَ قَالَ ثُمَّ
مَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ أَرَادَ)،
المطلوب ها هنا إلا تتجاوز الخط، هذا خطٌ علي الأرض إذا جاءت نسمة من ريح
عفَّت أثره لكنه قائمٌ لأنه من خطِّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
اتباعُ السُنة، التزام الأمر، القيام به، عدم تجاوزه، (ثُمَّ
مَضَى النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ أَرَادَ)،
قَالَ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه (فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ
فِي خَطِّي إِذْ أَتَانِي رِجَالٌ كَأَنَّهُمْ الزُّطُّ –
والزّطّ قومٌ من السودان أو من الحبشة في سوادهم –
أَشْعَارُهُمْ وَأَجْسَامُهُمْ لَا أَرَى عَوْرَةً وَلَا أَرَى
قِشْرًا وَيَنْتَهُونَ إِلَيَّ وَلَا يُجَاوِزُونَ الْخَطَّ ثُمَّ يَصْدُرُونَ إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ وآله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) (فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ فِي خَطِّي إِذْ أَتَانِي رِجَالٌ كَأَنَّهُمْ
الزُّطُّ أَشْعَارُهُمْ وَأَجْسَامُهُمْ لَا أَرَى عَوْرَةً وَلَا أَرَى قِشْرًا وَيَنْتَهُونَ
إِلَيَّ لَا يُجَاوِزُونَ الْخَطَّ ثُمَّ يَصْدُرُونَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ وآله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، لَكِنَّ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَاءَنِي وَأَنَا جَالِسٌ،
قَالَ لَقَدْ أَرَانِي مُنْذُ اللَّيْلَةَ –
أي: لم أنم منذ الليلة – ثُمَّ
دَخَلَ عَلَيَّ فِي خَطِّي فَتَوَسَّدَ فَخِذِي فَرَقَدَ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَقَدَ نَفَخَ فَبَيْنَا أَنَا قَاعِدٌ وَرَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَسِّدٌ فَخِذِي إِذَا أَنَا بِرِجَالٍ
عَلَيْهِمْ ثِيَابٌ بِيضٌ اللَّهُ أَعْلَمُ مَا بِهِمْ مِنْ الْجَمَالِ فَانْتَهَوْا
إِلَيَّ فَجَلَسَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ عِنْدَ رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَائِفَةٌ مِنْهُمْ عِنْدَ رِجْلَيْهِ ثُمَّ قَالُوا بَيْنَهُمْ
مَا رَأَيْنَا عَبْدًا قَطُّ أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ هَذَا النَّبِيُّ إِنَّ عَيْنَيْهِ
تَنَامَانِ وَقَلْبُهُ يَقْظَانُ اضْرِبُوا لَهُ مَثَلًا مَثَلُ سَيِّدٍ بَنَى قَصْرًا
ثُمَّ جَعَلَ مَأْدُبَةً فَدَعَا النَّاسَ إِلَى طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ فَمَنْ أَجَابَهُ
أَكَلَ مِنْ طَعَامِهِ وَشَرِبَ مِنْ شَرَابِهِ وَمَنْ لَمْ يُجِبْهُ عَاقَبَهُ أَوْ
قَالَ عَذَّبَهُ ثُمَّ ارْتَفَعُوا وَاسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ فَقَالَ سَمِعْتَ مَا قَالَ هَؤُلَاءِ وَهَلْ تَدْرِي مَنْ
هَؤُلَاءِ، قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ هُمْ الْمَلَائِكَةُ فَتَدْرِي
الْمَثَلُ الَّذِي ضَرَبُوا، قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ الْمَثَلُ
الَّذِي ضَرَبُوا الرَّحْمَنُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بَنَى الْجَنَّةَ وَدَعَا إِلَيْهَا
عِبَادَهُ فَمَنْ أَجَابَهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ لَمْ يُجِبْهُ عَاقَبَهُ أَوْ
عَذَّبَهُ)
أخرجه الترمذيُّ وقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ ووافقه الألباني، فتري في هذه القصة
العظيمة أنَّ استجابة ابْنِ مَسْعُود رضي الله عنه لرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين أمره بلزوم مكانه أنَّ هذه الاستجابة دفعت عنه شر قومًا
جاءوه في أبشع صورة، مع أنه لم يكن بينه وبينهم سوي خطٍ لو جاءت عليه الريح لعفا
أثره لكنه ليس كبقية الخطوط إنه خطُّ السُنة من لزمه كفاه الله تعالي ما أنابه،
فهذه بعض أدلة تُثبتُ لأمة المتابعةِ نُصرة الله تبارك وتعالي إياها، وهنا قصة
تشهدُ للأمرين جميعًا بتثبيتِ الأمة التي علي المتابعة وكذلك التي تكون منصورةً
بنصرِ الله جلَّ وعلا وفيها مَنْقَبَةٌ عظيمة للصدِّيق رضي الله تعالي عنه، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: وَاللَّهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ، لَوْلا أَبَو
بَكْرٍ اسْتُخْلِفَ مَا عُبِدَ اللَّه، ثُمَّ قَالَ الثَّانِيَةُ، ثُمَّ قَالَ الثَّالِثَةُ،
فَقِيلَ لَهُ: مَهْ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَّهَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ فِي سَبْعِمِائَةٍ إِلَى الشَّامِ،
فَلَمَّا نَزَلَ بِذِي خُشُبٍ قُبِضَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ
وآلِهِ وَسَلَّمَ، وَارْتَدِّتِ الْعَرَبُ حَوْلَ الْمَدِينَةِ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ
أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: يَا
أَبَا بَكْرٍ، رُدَّ هَؤُلاءِ، تُوُجِّهُ هَؤُلاءِ إِلَى الرُّومِ، وَقَدِ ارْتَدِّتِ
الْعَرَبُ حَوْلَ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: وَالَّذِي لا إِلَهَ غيره، لَوْ جَرَّتِ الْكِلابُ
بِأَرْجِلِ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا رَدَدْتُ
جَيْشًا وَجَّهَهُ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَلا
حَلَلْتُ لِوَاءً عَقَدَهُ رَسُولُ اللَّه، فَوَجَّهَ أُسَامَةَ، فَجَعَلَ لا يَمُرُّ
بِقَبِيلٍ يُرِيدُونَ الارْتِدَادَ إِلا قَالُوا: لَوْلا أَنَّ لِهَؤُلاءِ قُوَّةً
مَا خَرَجَ مِثْلُ هَؤُلاءِ مِنْ عِنْدِهِمْ، وَلَكِنْ نَدَعُهُمْ حَتَّى يَلْقَوا
الرُّومَ، فَلَقُوا الرُّومَ، فَهَزَمُوهُمْ، وَقَتَلُوهم وَرَجَعُوا سَالِمِينَ، فَثَبَتُوا
عَلَى الإِسْلامِ . .، هذا هو تمسك الصِّدّيق رضي الله عنه بالسُنة على الرغم من فاجعةِ
موتِ رسولِ الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وعلي الرغم من فاقرةِ ارتدادِ
العرب، أضف إليهما تثبيط الناس له انطلاقًا من العقل الذي يقضي بما قضوا به، ولكنَّ
الشرعَ الذي تعلَّمه أبو بكر من النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ
هو الذي هداه إلى ما شحَّت به قرائحُهم؛ ألا وهو خوفُهُ رضي الله عنه من تأخيرِ ما
قدَّمه رَسُولُ الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكانت عاقبةُ التمسكِ بالسُنة
الانتصارَ على العدو والثباتَ على الإسلام؛ جماعُ ذلك أَنْ تكون علي التوحيد الحق،
لأنَّ هذا الدين مبنيٌ علي أصلين تجريد التوحيد للعزيز الحميد وتجريد المتابعة
للمعصوم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.
كَلِمَةُ
التَّوْحِيدِ هِيَ الْكَلِمَةُ الَّتِي قَامَتْ بِهَا الْأَرْضُ وَالسَّمَاوَاتُ، وَفَطَرَ
اللَّهُ تعالي عَلَيْهَا جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَعَلَيْهَا أُسِّسَتِ الْمِلَّةُ
وَنُصِبَتِ الْقِبْلَةُ، وَجُرِّدَتْ سُيُوفُ الْجِهَادِ، وَهِيَ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ
تعالي عَلَى جَمِيعِ الْعِبَادِ، وَهِيَ الْكَلِمَةُ الْعَاصِمَةُ فِي هَذِهِ الدَّارِ،
وَالْمُنْجِيَةُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَعَذَابِ النَّارِ، وَهِيَ الْمَنْشُورُ الَّذِي
لَا يُدْخَلُ أحدٌ الْجَنَّةُ إِلَّا بِهِ، وَالْحَبْلُ الَّذِي لَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ
مَنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِسَبَبِهِ، وَهِيَ كَلِمَةُ الْإِسْلَامِ، وَمِفْتَاحُ دَارِ
السَّلَامِ، وَبِهَا انْقَسَمَ النَّاسُ إِلَى شَقِيٍّ وَسَعِيدٍ، وَمَقْبُولٍ وَطَرِيدٍ،
وَبِهَا انْفَصَلَتْ دَارُ الْكُفْرِ مِنْ دَارِ الْإِيمَانِ، وَتَمَيَّزَتْ دَارُ
النَّعِيمِ مِنْ دَارِ الشَّقَاءِ وَالْهَوَانِ، وَهِيَ الْعَمُودُ الْحَامِلُ لِلْفَرْضِ
وَالسُّنَّةِ، (وَمَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ)، أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم وهو حديثٌ صحيح.
كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ رُوحُها وَسِرُّهَا: إِفْرَادُ الرَّبِّ
- جَلَّ ثَنَاؤُهُ، وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ، وَتَبَارَكَ اسْمُهُ، وَتَعَالَى جَدُّهُ،
وَلَا إِلَهَ غَيْرُهُ -بِالْمَحَبَّةِ وَالْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ وَالْخَوْفِ
وَالرَّجَاءِ وَتَوَابِعِ ذَلِكَ: مِنَ التَّوَكُّلِ وَالْإِنَابَةِ وَالرَّغْبَةِ
وَالرَّهْبَةِ، فَلَا يُحَبُّ سِوَاهُ، وَكُلُّ مَا كَانَ يُحَبُّ غَيْرَهُ فَإِنَّمَا
يُحَبُّ تَبَعًا لِمَحَبَّتِهِ، وَكَوْنُهُ وَسِيلَةً إِلَى زِيَادَةِ مَحَبَّتِهِ،
وَلَا يُخَافُ سِوَاهُ، وَلَا يُرْجَى سِوَاهُ، وَلَا يُتَوَكَّلُ إِلَّا عَلَيْهِ،
وَلَا يُرْغَبُ إِلَّا إِلَيْهِ، وَلَا يُرْهَبُ إِلَّا مِنْهُ، وَلَا يُحْلَفُ إِلَّا
بِاسْمِهِ، وَلَا يُنْظَرُ إِلَّا لَهُ، وَلَا يُتَابُ إِلَّا إِلَيْهِ، وَلَا يُطَاعُ
إِلَّا أَمْرُهُ، وَلَا يُتَحَسَّبُ إِلَّا بِهِ، وَلَا يُسْتَغَاثُ فِي الشَّدَائِدِ
إِلَّا بِهِ، وَلَا يُلْتَجَأُ إِلَّا إِلَيْهِ، وَلَا يُسْجَدُ إِلَّا لَهُ، وَلَا
يُذْبَحُ إِلَّا لَهُ وَبِاسْمِهِ، وَيَجْتَمِعُ ذَلِكَ فِي حَرْفٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ:
أَنْ لَا يُعْبَدَ إِلَّا إِيَّاهُ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ، فَهَذَا هُوَ
تَحْقِيقُ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلِهَذَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى
النَّارِ مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ حَقِيقَةَ الشَّهَادَةِ، وَمُحَالٌ
أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ مَنْ تَحَقَّقَ بِحَقِيقَةِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ وَقَامَ بِهَا،
كَمَا قَالَ جلَّ وعلا (وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ
قَائِمُونَ)،
فَيَكُونُ قَائِمًا بِشَهَادَتِهِ فِي ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ،
وفِي قَلْبِهِ وَقَالَبِهِ، فَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ تَكُونُ شَهَادَتُهُ مَيِّتَةً،
وَمِنْهُمْ مَنْ تَكُونُ نَائِمَةً، إِذَا نُبِّهَتِ انْتَبَهَتْ، وَمِنْهُمْ مَنْ
تَكُونُ شَهَادَتُهُ مُضْطَجِعَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ تَكُونُ إِلَى الْقِيَامِ أَقْرَبَ،
وَهِيَ فِي الْقَلْبِ بِمَنْزِلَةِ الرُّوحِ فِي الْبَدَنِ، فَرُوحٌ مَيِّتَةٌ، وَرُوحٌ
مَرِيضَةٌ إِلَى الْمَوْتِ أَقْرَبُ، وَرُوحٌ إِلَى الْحَيَاةِ أَقْرَبُ، وَرُوحٌ صَحِيحَةٌ
قَائِمَةٌ بِمَصَالِحِ الْبَدَنِ.
فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الذي رواه أحمد وابنُ ماجة
عَنْ رَسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَا يَقُولُهَا عَبْدٌ عِنْدَ الْمَوْتِ
إِلَّا وَجَدَتْ رُوحُهُ لَهَا رَوْحًا)، فَحَيَاةُ هَذِهِ الرُّوحِ بِهَذِهِ
الْكَلِمَةِ فِيهَا، كَمَا أَنَّ حَيَاةَ الْبَدَنِ بِوُجُودِ الرُّوحِ فِيهِ، وَكَمَا
أَنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ يَتَقَلَّبُ فِيهَا،
فَمَنْ عَاشَ عَلَى تَحْقِيقِهَا وَالْقِيَامِ بِهَا فَرُوحُهُ تَتَقَلَّبُ فِي جَنَّةِ
الْمَأْوَى وَعَيْشُهُ أَطْيَبُ عَيْشٍ قَالَ جلَّ وعلا (وَأَمَّا
مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ
الْمَأْوَى) فَالْجَنَّةُ مَأْوَاهُ يَوْمَ اللِّقَاءِ.
وَجَنَّةُ الْمَعْرِفَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْأُنْسِ بِاللَّهِ
وَالشَّوْقِ إِلَى لِقَائِهِ وَالْفَرَحِ بِهِ وَالرِّضَا بِهِ وَعَنْهُ مَأْوَى رُوحِهِ
فِي هَذِهِ الدَّارِ، فَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ الْجَنَّةُ مَأْوَاهُ هَاهُنَا كَانَتْ
جَنَّةُ الْخُلْدِ مَأْوَاهُ يَوْمَ الْمِيعَادِ، وَمَنْ حُرِمَ هَذِهِ الْجَنَّةَ
فَهُوَ لِتِلْكَ الْجَنَّةِ أَشَدُّ حِرْمَانًا، وَالْأَبْرَارُ فِي نَّعِيمِ وَإِنِ
اشْتَدَّ بِهِمُ الْعَيْشَ، وَضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الدُّنْيَا، وَالْفُجَّارُ فِي جَحِيمٍ
وَإِنِ اتَّسَعَتْ عَلَيْهِمُ الدُّنْيَا، قَالَ جلَّ وعلا (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ) وَطِيبُ الْحَيَاةِ جَنَّةُ الدُّنْيَا، قَالَ جلَّ وعلا
(فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ
لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا).
فَأَيُّ نَعِيمٍ أَطْيَبُ مِنْ شَرْحِ الصَّدْرِ؟ وَأَيُّ
عَذَابٍ أَمَرُّ مِنْ ضِيقِ الصَّدْرِ؟
قَالَ تَعَالَى (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ
اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا
يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا
تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)) فَالْمُؤْمِنُ
الْمُخْلِصُ لِلَّهِ مِنْ أَطْيَبِ النَّاسِ عَيْشًا، وَأَنْعَمِهِمْ بَالًا، وَأَشْرَحِهِمْ
صَدْرًا، وَأَسَرِّهِمْ قَلْبًا، وَهَذِهِ جَنَّةٌ عَاجِلَةٌ قَبْلَ الْجَنَّةِ الْآجِلَةِ.
قَالَ رَسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا، قَالُوا: وَمَا
رِيَاضُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: حِلَقُ الذِّكْرِ)، أخرجه أحمد والترمذيُّ وهو
حديثٌ حسن؛ وَمِنْ هَذَا قَوْلُ رَسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ
وَسَلَّمَ (مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ
رِيَاضِ الْجَنَّةِ) أخرجاه في الصحيحين؛ وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ سَأَلُوهُ
عَنْ وِصَالِهِ فِي الصَّوْمِ (إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ
إِنِّي أَظَلُّ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي) كما في الصحيحين،
فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الْغِذَاءِ
عِنْدَ رَبِّهِ يَقُومُ مَقَامَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ الْحِسّيين، وَأَنَّ مَا يَحْصُلُ
لَهُ مِنْ ذَلِكَ أَمْرٌ يَخْتَصُّ بِهِ، لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، فَإِذَا
أَمْسَكَ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَلَهُ عَنْهُ عِوَضٌ يَقُومُ مَقَامَهُ وَيَنُوبُ
مَنَابَهُ، وَيُغْنِي عَنْهُ، كَمَا قِيلَ:
لَهَا أَحَادِيثُ مِنْ ذِكْرَاكَ تَشْغَلُهَا ** عَنِ
الشَّرَابِ وَتُلْهِيهَا عَنِ الزَّادِ
لَهَا بِوَجْهِكَ نُورٌ تَسْتَضِيءُ بِهِ ** وَمِنْ
حَدِيثِكَ فِي أَعْقَابِهَا حَادِي
إِذَا اشْتَكَتْ مِنْ كَلَالِ السَّيْرِ أُوعِدُهَا **
رَوْحَ اللِّقَاءِ فَتَحْيَا عِنْدَ مِيعَادِ
وَكُلَّمَا كَانَ وُجُودُ الشَّيْءِ أَنْفَعَ لِلْعَبْدِ
وَهُوَ إِلَيْهِ أَحْوَجُ، كَانَ تَأَلُّمُهُ بِفَقْدِهِ أَشَدَّ، وَكُلَّمَا كَانَ
عَدَمُهُ أَنْفَعَ لَهُ كَانَ تَأَلُّمُهُ بِوُجُودِهِ أَشَدَّ، وَلَا شَيْءَ عَلَى
الْإِطْلَاقِ أَنْفَعُ لِلْعَبْدِ مِنْ إِقْبَالِهِ عَلَى اللَّهِ، وَاشْتِغَالِهِ
بِذِكْرِهِ، وَتَنَعُّمِهِ بِحُبِّهِ، وَإِيثَارِهِ لِمَرْضَاتِهِ، بَلْ لَا حَيَاةَ
لَهُ وَلَا نَعِيمَ وَلَا سُرُورَ وَلَا بَهْجَةَ إِلَّا بِذَلِكَ، فَعَدَمُهُ آلَمُ
شَيْءٍ لَهُ، وَأَشَدُّهُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا تَغِيبُ الرُّوحُ عَنْ شُهُودِ هَذَا
الْعَذَابِ وَالْأَلَمِ لِاشْتِغَالِهَا بِغَيْرِهِ، وَاسْتِغْرَاقِهَا فِي ذَلِكَ
الْغَيْرِ، فَتَغَيَّبُ بِهِ عَنْ شُهُودِ مَا هِيَ فِيهِ مِنْ أَلَمِ الْفَوَاتِ بِفِرَاقِ
أَحَبِّ شَيْءٍ إِلَيْهَا، وَأَنْفَعِهِا لَهَا، وَهَذِهِ مَنْزِلَةُ السَّكْرَانِ
الْمُسْتَغْرِقِ فِي سُكْرِهِ، الَّذِي احْتَرَقَتْ دَارُهُ وَأَمْوَالُهُ وَأَهْلُهُ
وَأَوْلَادُهُ، وَهُوَ لِاسْتِغْرَاقِهِ فِي السُّكْرِ لَا يَشْعُرُ بِأَلَمِ ذَلِكَ
الْفَوَاتِ وَحَسْرَتِهِ، حَتَّى إِذَا صَحَا، وَكُشِفَ عَنْهُ غِطَاءُ السُّكْرِ،
وَانْتَبَهَ مِنْ رَقْدَةِ الْخَمْرِ، فَهُوَ أَعْلَمُ بِحَالِهِ حِينَئِذٍ.
الْمَحَبَّةُ جِنْسٌ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ مُتَفَاوِتَةٌ فِي
الْقَدْرِ وَالْوَصْفِ، وَأَغْلَبَ مَا يُذْكَرُ فِي الْمَحَبَّةِ فِي حَقِّ اللَّهِ
جلَّ وعلا مَا يُخْتَصُّ بِهِ وَيَلِيقُ بِهِ مِنْ أَنْوَاعِهَا، وَمَا لَا تَصْلُحُ
إِلَّا لَهُ وَحْدَهُ، كالْعِبَادَةِ وَالْإِنَابَةِ وَنَحْوِهَا، فَإِنَّ الْعِبَادَةَ
لَا تَصْلُحُ إِلَّا لَهُ وَحْدَهُ، وَكَذَلك الْإِنَابَةُ، وَقَدْ تُذَكَرَ الْمَحَبَّةَ
بِاسْمِهَا الْمُطْلَقِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى (فَسَوْفَ يَأْتِي
اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)، وَقَوْلِهِ تَعَالَى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ
كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ).
وَأَعْظَمُ أَنْوَاعِ الْمَحَبَّةِ الْمَذْمُومَةِ: الْمَحَبَّةُ
مَعَ اللَّهِ الَّتِي يُسَوِّي الْمُحِبُّ فِيهَا بَيْنَ مَحَبَّتِهِ لِلَّهِ وَمَحَبَّتِهِ
لِلنِّدِّ الَّذِي اتَّخَذَهُ مِنْ دُونِ الله.
وَأَعْظَمُ أَنْوَاعِهَا الْمَحْمُودَةِ: مَحَبَّةُ اللَّهِ
وَحْدَهُ، وَمَحَبَّةُ مَا أحبَّ، وَهَذِهِ الْمَحَبَّةُ أَصْلُ السَّعَادَةِ وَرَأْسُهَا
الَّتِي لَا يَنْجُو أَحَدٌ مِنَ الْعَذَابِ إِلَّا بِهَا، وَالْمَحَبَّةُ الْمَذْمُومَةُ
الشِّرْكِيَّةُ هِيَ أَصْلُ الشَّقَاوَةِ وَرَأْسُهَا الَّتِي لَا يَبْقَى فِي الْعَذَابِ
إِلَّا أَهْلُهَا، فَأَهْلُ الْمَحَبَّةِ الَّذِينَ أَحَبُّوا اللَّهَ وَعَبَدُوهُ
وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَا يَدْخُلُونَ النَّارَ، وَمَنْ دَخَلَهَا مِنْهُمْ بِذُنُوبِهِ
فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى فِيهَا مِنْهُمْ أَحَدٌ.
وَمَدَارُ الْقُرْآنِ عَلَى الْأَمْرِ بِتِلْكَ الْمَحَبَّةِ
وَلَوَازِمِهَا، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمَحَبَّةِ الْأُخْرَى وَلَوَازِمِهَا، وَضَرَبِ
الْأَمْثَالَ وَالْمَقَايِيسَ لِلنَّوْعَيْنِ، وَذَكَرَ قَصَصَ النَّوْعَيْنِ، وَتَفْصِيلَ
أَعْمَالِ النَّوْعَيْنِ وَأَوْلِيَائِهِمْ وَمَعْبُودَ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَإِخْبَارِهِ
الَّتي ذَكَرَها عَنْ فِعْلِهِ بِالنَّوْعَيْنِ، وَعَنْ حَالِ النَّوْعَيْنِ فِي الدُّورِ
الثَّلَاثَةِ: دَارِ الْقُرْآنُ، وَدَارِ الْبَرْزَخِ، وَدَارِ الْقَرَارِ.
علي المرءِ أن يجتهدَ في تحقيقِ هذا لأنه لن ينجو من
الفتن في الدنيا ومنْ العذابِ في الآخرة إلا بتحقيق الأصليين؛ وأما أهلُ الأهواء
فهم وأن ادَّعو أنَّهم يحققون التوحيد أو يسعون إلي تحقيقه فأإنَّهم يخالفون
رَسُولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَمَحَبَّة الله جلَّ
وعلا داعية إلي مَحَبَّةِ من أحبَّ وَمَا أحبَّ، والنَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَآلِهِ وَسَلَّمَ هو خليلُ الله فهو أولي الخلقِ بالمحبة صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ
وَبَاركَ عليه.
مَحَبَّةُ الله
جلَّ وعلا، من أعجب الْأَشْيَاء أَن تعرفه ثمَّ لَا تحبه وَأَن تسمع داعيه ثمَّ
تتأخر عَن الْإِجَابَة وَأَن تعرف قدر الرِّبْح فِي مُعَامَلَته ثمَّ تعْمل غَيره وَأَن
تعرف قدرَ غَضَبه ثمَّ تتعرّض لَهُ وَأَن تذوقَ ألم الوحشة فِي مَعْصِيَته ثمَّ لَا
تطلب الْأنس بِطَاعَتِهِ وَأَن تذوق عصرةَ الْقلب عِنْد الْخَوْض فِي غير حَدِيثه والْحَدِيث
عَنهُ ثمَّ لَا تشتاقَ إِلَى انْشِرَاحِ الصَّدْر بِذكرِهِ ومناجاتهِ وَأَن تذوقَ الْعَذَاب
عِنْد تعلُّق الْقلب بِغَيْرِهِ وَلَا تهرب مِنْهُ إِلَى نعيم الإقبال عَلَيْهِ والإنابة
إِلَيْهِ وأعجب من هَذَا عِلمُك أَنَّك لابد لَك مِنْهُ وَأَنَّك أحْوجُ شَيْءٍ إِلَيْهِ
وَأَنت معرض عنه وَفِيمَا يُبعدك عَنهُ رَاغِب.
ولكنَّ المسألة تدور علي المحل فإذا كان المحلُ غير
فارغٍ وكان مشغولًا بالضد فأإنَّه لا يتسع حين إذًا لشيء،
قبُول الْمحل لما يوضع فِيهِ مَشْرُوط بتفريغه من ضدّه، وَهَذَا
كَمَا أَنه فِي الذوات والأعيان فَكَذَلِك هُوَ فِي الاعتقادات والإرادات، فَإِذا كَانَ
الْقلب ممتلئًا بِالْبَاطِلِ اعتقادًا ومحبّة لم يبْق فِيهِ لاعتقاد الْحق ومحبّته
مَوضِع، كَمَا أَنَّ اللِّسَان إِذا اشْتغل بالتكلم بِمَا لَا ينفع لم يتَمَكَّن صَاحبه
من النُّطْق بِمَا يَنْفَعهُ إِلَّا إِذا فرغَ لِسَانه من النُّطْقِ بِالْبَاطِلِ،
وَكَذَلِكَ الْجَوَارِح إِذا اشتغلت بِغَيْر الطَّاعَة لم يُمكن شغْلها بِالطَّاعَةِ
إِلَّا إِذا فرغها من ضدّها، فَكَذَلِك الْقلب المشغولُ بمحبّة غير الله وإرادتهِ والشوقِ
إِلَيْهِ والأنس بِهِ لا يُمكن شغْله بمحبة الله وإرادته وحبه والشوق إِلَى لِقَائِه
إلَا بتفريغه من تعلّقه بِغَيْرِهِ، وَكذلك حَرَكَة اللِّسَان بِذكرِهِ والجوارحِ بعبادتِه،
لا يمكن أَنَّ يتم هذا إِلَّا إِذا فرَّغه من ذِكر غَيره وخدمته فَإِذا امْتَلَأَ الْقلبُ
بِالشغلِ بالمخلوق وبالعلوم الَّتِي لَا تَنْفَع لم يبْق فِيهَا مَوضِعٌ للشغل بِاللَّه
وَمَعْرِفَة أَسْمَائِهِ وَصِفَاته وَأَحْكَامه.
فعلي الإنسان أنْ يُقبلَ علي قلبِه وأَنْ يجتهد في
تفريغهِ من الأغيار حتي يكون صالحًا لمحبَّة الله رب العالمين وللعلومِ النافعة
وَما يَصلُح به في حالِ حياتهِ وما ينتهي به إلي السعادةِ بعد مماتِه.
والله تعالي المُستَعان وعليه التُّكْلانُ، وَصَلَّى اللَّـهُ
وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأصحابه أجمعين.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ وحده، والصَلَاة وَالسَلَام علي من لا
نَّبي بعده.
أَمَّا بَعْدُ:
فإنَّ طالبَ اللهِ والدارِ الآخرة لا يستقيمُ له سيرهُ وطلبهُ
إلا بحَبْسين، حَبْس قلبه في طلبه ومطلوبه, و حَبْسه عن الالتفات إلى غيره، وحَبْس لسانهِ عما لا يفيد,
وحَبْسهِ على ذكرِ الله وما يزيد في إيمانهِ ومعرفته، وحَبْسِ جوارحهِ عن المعاصي والشهوات,
وحَبْسها على الواجبات والمندوبات, فلا يفارقُ الحَبْسَ حتى يلقى ربه فيخلِّصَه من
السجن إلى أوسع فضاءٍ وأطيبه، ومتى لم يصبر على هذين الحَبْسين وفرَّ منهما إلى فضاءِ
الشهوات أعقبه ذلك الحَبْس الفظيع عند خروجهِ من الدنيا, فكلُّ خارجٍ من الدنيا إما
متخلصٌ من الحَبْسِ وإما ذاهبٌ إلى الحَبْسِ؛ كلُّ خارجٌ من الدنيا إما متخلصٌ من الحَبْسِ
في افعل ولا تفعل في أنْ يكون فاعلًا ما طلب الله منه ومنتهيًا عن ما نهي الله عنه
فهذا حبْس، والتُقي مُلْجِم والتَّقِي مُلْجَمٌ، وَهَذِهِ الدُّنْيَا إنما هي
جَنَّةُ الْكَافِرِ وَسِجْنُ الْمُؤْمِنِ، لأنه يكونُ عند حدودِ الأمرِ وَالنُّهى
وَقَّافا، هذا حبْس، فإذا كان في ذلك الحَبْس وَخرجت رُوحه، خرجت من الحَبْسِ إلي
فضاءِ الانْعِتاق منه، وأما إذا كان في هذه الدنيا بلا حَبْس في قيدِ افعل ولا
تفعل، خرج إلي الحَبْسِ بعد المماتِ، نسأل الله السلامة والعافية، فكلُّ خارجٌ من
الدنيا إما متخلِّص من الحَبْسِ وإما ذاهِبٌ إلي الحَبْسِ.
لا بد من تعظيم الأَمْرُ وَالنُّهى، هذه الأُمَّة التي
هي اليوم علي حسبِ ما تري في هذا العالم من شأنِ الأمم، في ذيل الأمم هذه الأمة
إذا قلت إنَّ ما عندنا ليس عند غيرِنا منه شيء، قال هؤلاء إنما يُريد الذين يقولون
هذا الكلام أن يتمسكوا بما كان عليه أسلافُهم ويحنِّون إلي المجدِ الغابر والعز
الداثر كذا يقولون، وهم يقولون إنكم تدغدغون عواطفَ الناس بذكرِ ما كان لهم من مجدٍ
قد ذهب، وأيضا تذكِّرونهم بما عندهم مما ليس عند غيرهم وتدَّعون لهم ادعاءات
فارغة، بهذا يُدندن القوم، يقولون ولكنَّ الواقع شاهدٍ علي المذلَّةِ, والمذلَّة
قد بَيَّنَ الله رب العالمين أنها واقعة، عند الأخذ بالأمور التي ذكرها الرسول صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ
وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ
سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ)،
هذا حق، ولكنَّ مقومات رفعِ هذا الذل ونزعهِ موجودة في الأمة بَيَّنَتها نصوص الكتاب ونصوص السُنة، ولكنْ أين الآخذ
بذلك؟! وأين المتوقف عليه؟! وأين الدالُّ إليه؟! ، قد يكون هنالك من ذلك طرفٌ ويقع
منه شيء ولكنه لا يتعدى اللسان ولا يقع إلي القلب مُحدثًا الوجدان فضلًا عن أن يقعَ
في الدنيا عملًا بالجوارحِ والأركان، هذا أمرٌ لا ينبغي أن يُصبر عليه ينبغي أن
تتحول النصوص إلي واقع يُعاش، ينبغي علينا أن نربط بين العلم والتربية لأنَّ النَّبيّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ربط بين العلم والعمل، بل كان أصحابهُ رضي
الله عنهم وهم الجيلُ المثالي الذين ملكوا الدنيا القديمة، وذلَّت لهم الأباطرة
وخضعت لهم القياصرة، كلُّ ذلك بـ(لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ
مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ)، هؤلاء كانوا يربطونَ العلمَ بالعمل، لا يجاوزون
العلمَ إلي شيءٍ أخر قبل أنْ يأتوا به عملًا واقعًا في هذه الحياة، عن أَبُي عَبْدِ
الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ قَاَلَ (أخبرنا الذين اقرَأَونا الْقُرْآنَ مِنْ أَصْحَابِ
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ أخذوا الْقُرْآنَ أو
تَعَلَّمُوه عَشْرَ آيَاتٍ عَشْرَ آيَاتٍ، قَاَلَوا فتعلّمنا الْعِلْم وَالْعَمَل
جميعًا) لأنهم كانوا لا يُجَاوِزُوهَن حتي يفقهوهن ويعملوا بهن، فتعلَّموا
الْعِلْم وَالْعَمَل جميعًا، فهذا نهجُكم يا أهل السُنَّة، ألستم تقولون إنما نأخذ
الكتابَ والسُنَّة بفهمِ الصحابة ومن تبِعهم بإحسان؟ ، ألستم تصدِّقون بقول
نَّبيّكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ (مَنْ كَانَ
عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي)، هذا ما كان عليه
أصحاب نَّبيّكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنَّ أردتم أن تكونوا من أهلِ
النجاة بغير أنَّ تكونوا علي ما كان عليه أصحابُ رسولِ الله فقد أبعدتم النجعة وسِرتم
علي غير سبيل وكنتم من التائهين الحيارى، وأهل السُنة لا حَيرة عندهم، أصحاب نَّبيّكم
تعلموا العلم والعمل جميعًا أخذوا القرآن عشر آيات عشر آيات لا يجاوزهم حتي
يفقهوهن ويعملوا بهن، فأين نحن من هذا؟! ، عندنا كلامٌ كثير، تنقضي الأيامُ
والليالي ولا ينقضي، عندنا شقشقةُ اللسان وجودةُ البيان، عندنا كلامٌ لا يجاوزُ
الآذان ولا يقع في الجَنان وعندما يجاوز الآذان منطلقًا تمامًا كالسهم الذي يصيب
الرميَّة، يجاوزها ولا يبقي عليه منها شيء، وهذا ليس من فِعل أهل السُنَّة، هذا
مما عليه الخوارج، قَاَلَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ (يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ) أوَ
قَاَلَ (لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ) (يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ)،
ولستم من الخوارج، الخوارجُ عندهم شقشقةُ اللسان، عندهم تحريرٌ بالبنان للبيان
وليس عندهم عملٌ منضبطٌ علي كتابِ الله وسُنةِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وآله وَسَلَّمَ، أهلُ السُنَّةِ يجانبون هؤلاء، أهلُ السُنَّة من أهلِ العمل
يربطون بين العلم والعمل، يُحصِّلون المقامات ترقيًا للوصول إلي رضوان الله جلَّ
وعلا يحققون المحبة باطنًا وظاهرًا، يُعظِّمون الأمر والنهي يتوقفون عند حدود ما
نهي الله تعالي عنه ولا يتعدون حدود ما نهي الله تعالي عنه بحالِ لا ظاهرًا ولا
باطنًا.
نجاةُ الأمة في العلمِ والعمل وليس هذا عند أحدٍ منْ الأمةِ
إلا عند الطائفة المنصورة إلا عند أهل السُنَّةِ، هم الذين يربطون بين العلم
والعمل، وأما الخوارج فإنهم يقولون من قول خير البريّة هذا من وصفِهم يقولون قولًا
حسنًا، يتكلمون كلامًا جيدًا ولكنه كلامٌ ميتٌ لا رُوح فيه فلا يثمرُ شيئا ولا يُنتج
أثرا، وإذا ما وقع علي القلوبِ انزلق عنها كالوابلِ الصيّبِ ينزلق علي الصفوان ولا
عليه تُراب، أهل السُنة ليسوا كذلك، أهل السُنة يقولون من قول خيرِ البرية ويعملون
بعمل خير البرية
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ.
أربطوا بين العلم والعمل، لا يكن من همِّ أحدكم أنْ يحفظَ
ولا يفهم فضلًا عن أنَّ يعمل، تأملوا في النصوصِ توفروا علي العلم واقرنوا بين العلم
والعمل، وادعوا إلي الله فإنَّ الله قد أقسم في كتابهِ المجيد أنه لا فلاحَ ولا
نجاحَ ولا نجاةَ ولا سرور ولا حُبور إلا لمن توفرت فيه أمور، وأقسم ربُّنا جلَّ
وعلا بالزمان الذي هو محلُّ وقوعِ الحوادث من خيرٍ وشر علي أنَّ جِنس الإنسان في
خسران إلا من توفرت فيه الشروط وقامت به الخصال ومنه العمل ومنه العمل الصالح (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا
بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)، وهذا سبيلُ كل سلفىٍّ صادق وكل سُنيٍّ
علي الحق، معرفةُ الحق بدليلهِ والعملُ به والدعوة إليه والصبرُ علي الأذى فيه،
فمن تحقق بهذا فهو الناجي حقًا، وهو الذي فرَّ من الخُسران، وهو الذي حقق النجاح
والفلاح في الدنيا والآخرة، (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ
لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ
وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ).
يا أهلَ السُنَّة لا تكونوا آخذين بكلام لا مردودَ له
فهذا شأنُ المنافقين، وَمهما حصَّلتم من علم لا يتحول عندكم إلي خشيةٍ وعمل فهذا
قد أقمتم به الحُجة علي أنفسكم بين يدي ربكم جلَّ وعلا، فكلُّ علمٍ لا يُورثُ
الخشية فليس بعلمٍ علي الحقيقة (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ
مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)، والعلم ما أورثك الخشية، والعلمُ إنْ لم
ينفعك ضرَّك، العلم إن لم ينفعك ضرَّك إن لم يكن لك كان عليك يعني: إن لم يكن
العلمُ حجةً لك كان حجةً عليك، فيقال لك يوم القيامة ما عملت فيما علمت ولن تزولا
قدماك من يدي الله جلَّ وعلا حتي تُسأل عن أسئلةٍ منها هذا السؤال (ماذا عمِلت
فيما علمت؟) ، تعلم واعمل وادعو الناس إلي علمت وعملت به واصبر علي الأذى في ذلك
فإنَّ ضياع هذا الأصل الكبير هو الذي أوصل الأمة إلي ما ترون.
في بدءِ ما قيل له الصحوة، أقبل شبابٌ علي دينِ الله
جلَّ وعلا بعد الحظر فأقبلوا عليه تَعلمًا، العلمُ قليل والصلاحُ كثير، فأقبلوا
علي العبادةِ وأنا علي ذلك شاهد، أقبلوا علي العبادة بقلوبٍ مخمومة كانت تُقبل علي
الله تبارك وتعالي إقْبالاً كاملًا بل عِلم، فتُخطفت من مبادئِ الطريق، وعدت
الجماعات التي كانت نائمةً فاستيقظت وكانت هاجعةً فقامت من رقدتها، قامت فوجدت تلك
الحصيلةَ العظيمة فتخطفتها، فذهب كلٌ في سبيل، و أَقام اللهُ جلَّ وعلا مَن أقام علي الحقِ لا يريم وألزمه الصراط المستقيم
وأقبل من أقبل علي العلم، فذهب العمل وكثُر الكلام، ووقع الناس فيما لا يُحمد،
ومعلومٌ أنَّ المرء لا نجاة له إلا بأنْ يحققَ التوازن بين أمرين عظيمين بين القوةِ
العلمية والقوة العملية، فمهما حقق واحدًا من هذين الأمرين علي حسابِ الآخر ضَلَّ ضَلالاً بعيدًا، من حقق القوة العلمية علي حساب
القوة العملية وقع في الرياءِ لا محالة ووقع في القولِ علي الله بلا علم كشأنِ
أولئك الجُهَّال الذين يتكلمون بما لا يعرفون، وأما من حقق القوة العملية علي حساب
القوة العلمية فإنه عابدٌ لله تبارك وتعالي بما لم يشرعه فوقع في البدعة، فالأول
يقعُ في الرياء والثاني يقعُ في البدعة وهما من شَرِّ الأمور، نسأل الله السلامة
والعافية.
اتقوا الله يا أهل السُنَّة، اتقوا الله يا طلاب العلم
وعليكم بالعمل أقلِّوا من الكلام رحمكم الله رب العالمين، فما الذي أدت إلية كثرةُ
الكلام؟ أنما أدَّت إلي الضياع إلي الشتات إلي الشُرُود إلي الحيرة، كُونْوا
كأصحابِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بل كُونْوا كرسولِ الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، كان يتكلمُ بكلامٍ فَصل لو عدَّهُ العادُّ
لأحصاه كما قالت الصدِّيقة بنت الصدِّيق رضي الله عنهما، ولكن كان لا يأمر بأمرٍ
إلا كان أسرع الناس إليه، ولا ينهي عن شيء إلا كان أبعد الناس عنه، ما الذي تحتاجه
الأمة اليوم؟! ، الكُتُب؟! ، ما أكثرها وما أعظمَ تحقيقها وما أفخمَ تجليدها وما
أجودَ ورقها، وما كنا نجد مثل ذلك، بل كانت الكُتُب المتاحة يومًا من الدّهْرِ
كانت تلك الكُتُب الصفراء هي التي تغلب علي سوق الكُتُب، وهذه الكُتُب وما أدراك
ما هي؟!! لا تُقرأ إلا بشقِّ النفس، ويقع ضَّلالٌ عظيمٌ في الخطأِ في القراءة
وتبعًا في المعني، فَمَنّ اللهُ عليكم وأحسن إليكم وصارت الأمورُ مبذولةً لديكم،
بل صار الواحدُ منكم يحمل معه ما لو سافر عالمٌ من علماءكم المتقدمين إلي أقصي
الأرض لكي يحصِّل عُشْر مِعشاره لنفد عُمره قبل أنَّ يُحصل شيئًا من ذلك، الواحدُ
منكم يحمل المكتبة الشاملة في يده، فماذا تعلمتم؟!! ، وبماذا عمِلتُم مما عَلِمتُم؟!!
، وبماذا عمِلتُم مما عَلِمتُم ؟!! ، وبماذا عمِلتُم مما عَلِمتُم ؟!! ، اتقوا
الله فَإنَّ الأمةَ اليوم ناظرةٌ إليكم، جعلكم اللهُ يا أهلَ السُنَّة عصمةً لهذه
الأمة أنْ تجتمعَ علي ضلالة، فَوالذي رفع السماء بلا عمد لقد عصمَ الله بأهل السُنَّة
هذه الأمة أنْ تجتمعَ علي ضلالة، أنتم علي الحقِ علي الحقِّ المبينِ تعلموه
واعملوا به وادعوا إليه واصبروا علي الأذى فيه، واللهُ يرعاكم ويتولاكم ويُسدد علي
طريقِ الحقِّ خُطاكم، وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ علي نَّبيّنا محمدًا وعلي آله
وأصحابه أجمعين.