وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا

وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا

((وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((شَأْنُ الْكَلِمَةِ فِي الْإِسْلَامِ))

فَقَدْ ضَرَبَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْمَثَلَ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ لِلْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ وَالْكَلِمَةِ الْخَبِيثَةِ، فَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ كَالشَّجَرَةِ الطَّيِّبَةِ، أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا، وَالْكَلِمَةُ الْخَبِيثَةُ كَالشَّجَرَةِ الْخَبِيثَةِ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ.

قَالَ تَعَالَى: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ۗ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ۚ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} ]إبراهيم: 24-27[.

قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((يَقُولُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً}: وَهِيَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَفُرُوعُهَا {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ}: وَهِيَ النَّخْلَةُ، {أَصْلُهَا ثَابِتٌ}: فِي الْأَرْضِ، {وَفَرْعُهَا}: مُنْتَشِرٌ {فِي السَّمَاءِ}، وَهِيَ كَثِيرَةُ النَّفْعِ دَائِمًا، {تُؤْتِي أُكُلَهَا} أَيْ: ثَمَرَتَهَا، {كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا}.

فَكَذَلِكَ شَجَرَةُ الْإِيمَانِ {أَصْلُهَا ثَابِتٌ} فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ عِلْمًا وَاعْتِقَادًا، {وَفَرْعُهَا} مِنَ الْكَلِمِ الطَّيِّبِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَالْأَخْلَاقِ الْمَرْضِيَّةِ، وَالْآدَابِ الْحَسَنَةِ {فِي السَّمَاءِ} دَائِمًا، يَصْعَدُ إِلَى اللهِ مِنْهُ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ الَّتِي تُخْرِجُهَا شَجَرَةُ الْإِيمَانِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُؤْمِنُ، وَيَنْتَفِعُ بِهِ غَيْرُهُ.

{وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}: لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ, وَنَهَاهُمْ عَنْهُ؛ فَإِنَّ فِي ضَرْبِ الْأَمْثَالِ تَقْرِيبًا لِلْمَعَانِي الْمَعْقُولَةِ مِنَ الْأَمْثَالِ الْمَحْسُوسَةِ، وَيَتَبَيَّنُ الْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ اللهُ غَايَةَ الْبَيَانِ، وَيَتَّضِحُ غَايَةَ الْوُضُوحِ، وَهَذَا مِنْ رَحْمَتِهِ وَحُسْنِ تَعْلِيمِهِ -فَلِلهِ أَتَمُّ الْحَمْدِ وَأَكْمَلُهُ وَأَعَمُّهُ-.

فَهَذِهِ صِفَةُ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، وَصِفَةُ ثَبَاتِهَا فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ.

ثُمَّ ذَكَرَ ضِدَّهَا؛ وَهِيَ كَلِمَةُ الْكُفْرِ وَفُرُوعُهَا، فَقَالَ: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ}: خَبِيثَةِ الْمَأْكَلِ وَالْمَطْعَمِ, وَهِيَ: شَجَرَةُ الْحَنْظَلِ ونَحْوُهَا، {اجْتُثَّتْ}: هَذِهِ الشَّجَرَةُ، {مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} أَيْ: مِنْ ثُبُوتٍ، فَلَا عُرُوقَ تُمْسِكُهَا، وَلَا ثَمَرَةَ صَالِحَةَ تُنْتِجُهَا، بَلْ إِنْ وُجِدَ فِيهَا ثَمَرَةٌ فَهِيَ ثَمَرَةٌ خَبِيثَةٌ، كَذَلِكَ كَلِمَةُ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي لَيْسَ لَهَا ثُبُوتٌ نَافِعٌ فِي الْقَلْبِ، وَلَا تُثْمِرُ إِلَّا كُلَّ قَوْلٍ خَبِيثٍ, وَعَمَلٍ خَبِيثٍ يَسْتَضِرُّ بِهِ صَاحِبُهُ وَلَا يَنْتَفِعُ، وَلَا يَصْعَدُ إِلَى اللهِ مِنْهُ عَمَلٌ صَالِحٌ، وَلَا يَنْفَعُ نَفْسَهُ، وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ غَيْرُهُ.

{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}: يُخْبِرُ -تَعَالَى- أَنَّهُ يُثَبِّتُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ، أَيِ: الَّذِينَ قَامُوا بِمَا عَلَيْهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ الْقَلْبِيِّ التَّامِّ الَّذِي يَسْتَلْزِمُ أَعْمَالَ الْجَوَارِحِ وَيُثْمِرُهَا، فَيُثَبِّتُهُمُ اللهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا عِنْدَ وُرُودِ الشُّبُهَاتِ بِالْهِدَايَةِ إِلَى الْيَقِينِ، وَعِنْدَ عُرُوضِ الشَّهَوَاتِ بِالْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ عَلَى تَقْدِيمِ مَا يُحِبُّهُ اللهُ عَلَى هَوَى النَّفْسِ وَمُرَادِهَا.

وَفِي الْآخِرَةِ عِنْدَ الْمَوْتِ بِالثَّبَاتِ عَلَى الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ وَالْخَاتِمَةِ الْحَسَنَةِ، وَفِي الْقَبْرِ عِنْدَ سُؤَالِ الْمَلَكَيْنِ بِالْجَوَابِ الصَّحِيحِ؛ إِذَا قِيلَ لِلْمَيِّتِ: مَنْ رَبُّكَ؟ وَمَا دِينُكَ؟ وَمَنْ نَبِيُّكَ؟ هَدَاهُمْ لِلْجَوَابِ الصَّحِيحِ؛ بِأَنْ يَقُولَ الْمُؤْمِنُ: رَبِّيَ اللهُ، وَدِينِيَ الْإِسْلَامُ، وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَأَزْكَى السَّلَامِ-.

{وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ}: عَنِ الصَّوَابِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} ]النحل: 33])).

وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ قَدْرَ الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ، وَقَدْرَ الْكَلِمَةِ الْخَبِيثَةِ، فَقَالَ ﷺ: ((إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا  يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَقَالَ ﷺ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا يَزِلُّ بِهَا إلى النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((مَعْنَي: ((يَتَبَيَّنُ)) أَيْ: يُفَكِّرُ أَنَّهَا خَيْرٌ أَمْ لَا)).

وَقَالَ الْحَافِظُ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((قَوْلُهُ: ((مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا)) أَيْ: لَا يَتَطَلَّبُ مَعْنَاهَا، أَيْ: لَا يُثْبِتُهَا بِفِكْرِهِ، وَلَا يَتَأَمَّلُهَا حَتَّى يَتَثَبَّتَ فِيهَا، فَلَا يَقُولُهَا إِلَّا إِنْ ظَهَرَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي الْقَوْلِ)).

وَعَنْ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللهِ -تَعَالَى-، مَا كَانَ يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، يَكْتُبُ اللهُ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ، مَا كَانَ يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، يَكْتُبُ اللهُ لَهُ بِهَا سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ)). أَخْرَجَهُ مَالِكٌ فِي ((الْمُوَطَّأِ))، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: ((حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ))، وَأَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ بَيَانٌ شَافٍ بِشَأْنِ الْكَلِمَةِ، وَأَيْنَ تَبْلُغُ بِصَاحِبِهَا مِنْ دَرَجَاتِ الرِّضْوَانِ فِي الْجِنَانِ إِنْ كَانَتْ طَيِّبَةً، وَكَيْفَ تَهْوِي بِقَائِلِهَا دَرَكَاتٍ فِي الشَّقَاءِ وَالنَّارِ إِنْ كَانَتْ خَبِيثَةً.

 

((أَلْفَاظُ الْعِبَادِ مُحْصَاةٌ عَلَيْهِمْ))

لَقَدْ أَخْبَرَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ أَنَّ أَلْفَاظَ الْعِبَادِ مُحْصَاةٌ عَلَيْهِمْ، لَا يَنِدُّ مِنْهَا عَنِ الْإِحْصَاءِ لَفْظٌ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} ]ق: 18[ أَيْ: مَا يَلْفِظُ الْعَبْدُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا وَلَدَيْهِ مَلَكٌ يَرْقُبُهُ، {عَتِيدٌ} أَيْ: حَاضِرٌ مَعَهُ لَا يَغِيبُ عَنْهُ.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: (({مَا يَلْفِظُ} أَيِ: ابْنُ آدَمَ {مِنْ قَوْلٍ} أَيْ: مَا يَتَكَلَّمُ بِكَلِمَةٍ، {إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} أَيْ: إِلَّا وَلَهَا مَنْ يَرْقُبُهَا مُعِدٌّ لِذَلِكَ يَكْتُبُهَا، لَا يَتْرُكُ كَلِمَةً وَلَا حَرَكَةً، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 10-12].

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ عَلَى قَوْلَيْنِ:

((هَلْ يَكْتُبُ الْمَلَكُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْكَلَامِ؟)) وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ.

((أَمْ يَكْتُبُ مَا فِيهِ ثَوَابٌ وَعِقَابٌ؟)) كَمَا هُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- .

وَظَاهِرُ الْآيَةِ الْأَوَّلُ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} ]قّ:18[)).

قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((الْمَدَارِجِ)): ((وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ؛ هَلْ فِي حَقِّهِ كَلَامٌ مُبَاحٌ مُتَسَاوِي الطَّرَفَيْنِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ذَكَرَهُمَا ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَخْلُو كُلُّ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ؛ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ فِي حَقِّهِ شَيْءٌ مِنَ الْكَلَامِ لَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ.

وَالتَّحْقِيقُ؛ أَنَّ حَرَكَةَ اللِّسَانِ بِالْكَلَامِ لَا تَكُونُ مُتَسَاوِيَةَ الطَّرَفَيْنِ، بَلْ إِمَّا رَاجِحَةٌ, وَإِمَّا مَرْجُوحَةٌ؛ لِأَنَّ لِلِّسَانِ شَأْنًا لَيْسَ لِسَائِرِ الْجَوَارِحِ، وَإِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ فَإِنَّ الْأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ -أَيْ: تَذِلُّ لَهُ وَتَخْضَعُ-، تَقُولُ: اتَّقِ اللهَ فِينَا؛ فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ، فَإِنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وَإِنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا، وَأَكْثَرُ مَا يُكَبُّ النَّاسُ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِي النَّارِ بِحَصَائِدِ أَلْسِنَتِهِمْ.

وَكُلُّ مَا يَتَلَفَّظُ بِهِ اللِّسَانُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُرْضِي اللهَ وَرَسُولَهُ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ الرَّاجِحُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَهُوَ الْمَرْجُوحُ، وَهَذَا بِخِلَافِ حَرَكَاتِ سَائِرِ الْجَوَارِحِ؛ فَإِنَّ صَاحِبَهَا يَنْتَفِعُ بِتَحْرِيكِهَا فِي الْمُبَاحِ الْمُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ؛ لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الرَّاحَةِ وَالْمَنْفَعَةِ، فَأُبِيحَ لَهُ اسْتِعْمَالُهَا فِيمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ لَهُ، وَلَا مَضَرَّةَ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، وَأَمَّا حَرَكَةُ اللِّسَانِ بِمَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ فَلَا يَكُونُ إِلَّا مَضَرَّةً؛ فَتَأَمَّلْهُ)).

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَهَذَا الْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ يَنْبَغِي أَلَّا يَتَكَلَّمَ إِلَّا إِذَا كَانَ الْكَلَامُ خَيْرًا، وَهُوَ الَّذِي ظَهَرَتْ مَصْلَحَتُهُ، وَمَتَى شَكَّ فِي ظُهُورِ الْمَصْلَحَةِ فَلَا يَتَكَلَّمُ.

((اللِّسَانُ مِنْ نِعَمِ اللهِ الْعَظِيمَةِ))

((وَاللِّسَانُ مِنْ نِعَمِ اللهِ الْعَظِيمَةِ، وَلَطَائِفِ صُنْعِهِ الْغَرِيبَةِ؛ فَإِنَّهُ صَغِيرٌ جِرْمُهُ، عَظِيمٌ طَاعَتُهُ وَجُرْمُهُ؛ إِذْ لَا يَسْتَبِينُ الْكُفْرُ وَالْإِيمَانُ إِلَّا بِشَهَادَةِ اللِّسَانِ، وَهُمَا غَايَةُ الطَّاعَةِ وَالْعِصْيَانِ، ثُمَّ إِنَّهُ مَا مِنْ مَوْجُودٍ أَوْ مَعْدُومٍ؛ خَالِقٍ أَوْ مَخْلُوقٍ، مُتَخَيَّلٍ أَوْ مَعْلُومٍ، مَظْنُونٍ أَوْ مَوْهُومٍ إِلَّا وَاللِّسَانُ يَتَنَاوَلُهُ، وَيَتَعَرَّضُ لَهُ بِإِثْبَاتٍ أَوْ نَفْيٍ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْعِلْمُ يُعْرِبُ عَنْهُ اللِّسَانُ، إِمَّا بِحَقٍّ أَوْ بَاطِلٍ، وَلَا شَيْءَ إِلَّا وَالْعِلْمُ مُتَنَاوِلٌ لَهُ، وَهَذِهِ خَاصِّيَّةٌ لَا تُوجَدُ فِي سَائِرِ الْأَعْضَاءِ؛ فَإِنَّ الْعَيْنَ لَا تَصِلُ إِلَى غَيْرِ الْأَلْوَانِ وَالصُّوَرِ، وَالْآذَانَ لَا تَصِلُ إِلَى غَيْرِ الْأَصْوَاتِ، وَالْيَدَ لَا تَصِلُ إِلَى غَيْرِ الْأَجْسَامِ, وَكَذَا سَائِرُ الْأَعْضَاءِ.

وَاللِّسَانُ رَحْبُ الْمَيْدَانِ، لَيْسَ لَهُ مَرَدٌّ، وَلَا لِمَجَالِهِ مُنْتَهًى وَحَدٌّ، لَهُ فِي الْخَيْرِ مَجَالٌ رَحْبٌ، وَلَهُ فِي الشَّرِّ ذَيْلٌ سَحْبٌ، فَمَنْ أَطْلَقَ عَذَبَةَ اللِّسَانِ، وَأَلْهَمَهُ مرْخَى الْعَنَانِ؛ سَلَكَ بِهِ الشَّيْطَانُ فِي كُلِّ مَيْدَانٍ، وَسَاقَهُ إِلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ، إِلَى أَنْ يَضْطَرَّهُ إِلَى الْبَوَارِ، وَلَا يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ، وَلَا يَنْجُو مِنْ شَرِّ اللِّسَانِ إِلَّا مَنْ قَيَّدَهُ بِلِجَامِ الشَّرْعِ، فَلَا يُطْلِقُهُ إِلَّا فِيمَا يَنْفَعُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَيَكُفُّهُ عَنْ كُلِّ مَا يَخْشَى غَائِلَتَهُ فِي عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ.

وَعِلْمُ مَا يُحْمَدُ فِيهِ إِطْلَاقُ اللِّسَانِ أَوْ يُذَمُّ غَامِضٌ عَزِيزٌ، وَالْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهُ عَلَى مَنْ عَرَفَهُ ثِقْلٌ عَسِيرٌ، وَأَعْصَى الْأَعْضَاءِ عَلَى الْإِنْسَانِ اللِّسَانُ، وَقَدْ تَسَاهَلَ الْخَلْقُ فِي الِاحْتِرَازِ عَنْ آفَاتِهِ وَغَوَائِلِهِ، وَالْحَذَرِ مِنْ مَصَائِدِهِ وَحَبَائِلِهِ، وَإِنَّهُ أَعْظَمُ آلَةِ الشَّيْطَانِ فِي اسْتِغْوَاءِ الْإِنْسَانِ)).

يُصَابُ الْفَتَى مِنْ عَثْرَةٍ بِلِسَانِهِ  =   وَلَيْسَ يُصَابُ الْمَرْءُ مِنْ عَثْرَةِ الرِّجْلِ

فَعَثْرَتُهُ فِي الْقَوْلِ تُذْهِبُ رَأْسَهُ     =    وَعَثْرَتُهُ بِالرِّجْلِ تَبْرَا عَلَى مَهْلِ

والكلامُ تَرْجُمَانٌ يُعَبِّرُ عَنْ مُسْتَوْدَعَاتِ الضَّمَائِرِ، وَيُخْبِرُ بِمَكْنُونَاتِ السَّرَائِرِ، لَا يُمْكِنُ اسْتِرْجَاعُ بَوَادِرِهِ، وَلَا يُقْدَرُ عَلَى رَدِّ شَوَارِدِهِ, فَحَقٌّ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَحْتَرِزَ مِنْ زَلَلِهِ بِالْإِمْسَاكِ عَنْهُ أَوْ بِالْإِقْلَالِ مِنْهُ، فَلَا يَتَكَلَّمُ إِلَّا فِيمَا يَرْجُو فِيهِ الرِّبْحَ وَالزِّيَادَةَ فِي دِينِهِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالْكَلِمَةِ نَظَرَ؛ هَلْ فِيهَا رِبْحٌ وَفَائِدَةٌ أَوْ لَا؟

فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا رِبْحٌ أَمْسَكَ عَنْهَا، وَإِنْ كَانَ فِيهَا رِبْحٌ نَظَرَ؛ هَلْ تَفُوتُهُ بِهَا كَلِمَةٌ هِيَ أَرْبَحُ مِنْهَا؟ فَلَا يُضَيِّعُهَا بِهَذِهِ، وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَسْتَدِلَّ عَلَى مَا فِي الْقُلُوبِ فَاسْتَدِلَّ عَلَيْهِ بِحَرَكَةِ اللِّسَانِ؛ فَإِنَّهُ يُطْلِعُكَ عَلَى مَا فِي قَلْبِ صَاحِبِهِ.

((حِفْظُ اللِّسَانِ))

يَقُولُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ* مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} ]ق:17-18.[

فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَذْكِيرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِرِقَابَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- الَّتِي لَا تَتْرُكُ الْإِنْسَانَ لَحْظَةً مِنَ اللَّحَظَاتِ، وَلَا تَغْفُلُ عَنْهُ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ؛ حَتَّى فِيمَا يَصْدُرُ عَنْهُ مِنْ أَقْوَالٍ، وَمَا يَخْرُجُ مِنْ فَمِهِ مِنْ كَلِمَاتٍ؛ فَكُلُّ قَوْلٍ مَحْسُوبٌ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ، وَكُلُّ كَلِمَةٍ مَرْصُودَةٌ فِي سِجِلِّ أَعْمَالِهِ، يُسَجِّلُهُ الْمَلَكَانِ فِي الدُّنْيَا، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَنْكَشِفُ الْحِسَابُ وَيَكُونُ الْجَزَاءُ.

وَعَنْ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللهِ تَعَالَى، مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، يَكْتُبُ اللهُ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ تَعَالَى، مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، فَيَكْتُبُ اللهُ تَعَالَى بِهَا عَلَيْهِ سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ، وَغَيْرُهُ.

وَلِذَلِكَ كَانَ عَلْقَمَةُ -رَحِمَهُ اللهُ- -وَهَوُ أَحَدُ رُوَاةِ هَذَا الْحَدِيثِ- يَقُولُ: ((كَمْ مِنْ كَلَامٍ قَدْ مَنَعَنِيهِ حَدِيثُ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ!)).

فَكَانَ يَمْتَنِعُ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْكَلَامِ؛ حَتَّى لَا يُسَجَّلَ عَلَيْهِ قَوْلٌ, أَوْ تُرْصَدَ عَلَيْهِ كَلِمَةٌ مِنَ اللَّغْوِ الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ.

وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَهُونُ عَلَيْهِ التَّحَفُّظُ وَالِاحْتِرَازُ مِنْ أَكْلِ الْحَرَامِ, وَالظُّلْمِ, وَالزِّنَا, وَالسَّرِقَةِ, وَشُرْبِ الْخَمْرِ, وَمِنَ النَّظَرِ الْمُحَرَّمِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ, وَيَصْعُبُ عَلَيْهِ التَّحَفُّظُ مِنْ حَرَكَةِ لِسَانِهِ؛ حَتَّى يُرَي الرَّجُلُ يُشَارُ إِلَيْهِ بِالدِّينِ, وَالزُّهْدِ, وَالْعِبَادَةِ, وَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا, يَنْزِلُ بِالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْهَا أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ, وَكَمْ تَرَى مِنْ رَجُلٍ مُتَوَرِّعٍ عَنِ الْفَوَاحِشِ وَالظُّلْمِ, وَلِسَانُهُ يَفْرِي فِي أَعْرَاضِ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ, وَلَا يُبَالِي مَا يَقُولُ!! فَإِنَّ أَيْسَرَ حَرَكَاتِ الْجَوَارِحِ حَرَكَةُ اللِّسَانِ, وَهِيَ أَضَرُّهَا عَلَى الْعَبْدِ.

وَقَدْ قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 1-3].

[وَمِنْ هُنَا؛ كَانَ حَرِيًّا بِالْمُسْلِمِ أَنْ يَضْبِطَ لِسَانَهُ, وَيُسَائِلَ نَفْسَهُ -قَبْلَ أَنْ يَتَحَدَّثَ- عَنْ جَدْوَى الْحَدِيثِ وَفَائِدَتِهِ, وَلَمَّا كَانَتْ آفَاتُ اللِّسَانِ كَثِيرَةً, وَلَهَا فِي الْقَلْبِ حَلَاوَةٌ, وَلَهَا بَوَاعِثُ مِنَ الطَّبْعِ، فَلَا نَجَاةَ مِنْ خَطَرِهَا إِلَّا بِالصَّمْتِ؛ سَأَلَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- رَسُولَ اللهِ ﷺ: ((مَا النَّجَاةُ؟)).

قَالَ: ((أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ, وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ, وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ, وَهُوَ صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ.

فَإِنْ كَانَ خَيْرًا تَكَلَّمَ وَإِلَّا سَكَتَ, وَالسُّكُوتُ فِي هَذِهِ الْحَالِ عِبَادَةٌ يُؤْجَرُ عَلَيْهَا.

وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَاللِّسَانُ هُوَ تُرْجُمَانُ الْقَلْبِ، وَقَدْ كَلَّفَنَا اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنْ نُحَافِظَ عَلَى اسْتِقَامَةِ قُلُوبِنَا, وَاسْتِقَامَةُ الْقَلْبِ مُرْتَبِطَةٌ بِاسْتِقَامَةِ اللِّسَانِ، وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ)).

وَعَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ فَإِنَّ الْأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ أَيْ: تَذِلُّ لَهُ وَتَخْضَعُ- فَتَقُولُ: اتَّقِ اللهَ فِينَا؛ فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ، فَإِنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وَإِنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا)).

وَعَنْ أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَيُّ الْمُسْلِمِينَ أَفْضَلُ؟)).

قَالَ: ((مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ, وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ)). أَخْرَجَاهُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ فَقُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ؛ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟)).

قَالَ: ((الصَّلَاةُ عَلَى مِيقَاتِهَا)).

قُلْتُ: ((ثُمَّ مَاذَا يَا رَسُولَ اللهِ؟)).

قَالَ: ((أَنْ يَسْلَمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِكَ)). أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْكَبِيرِ)) بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! عَلِّمْنِي عَمَلًا يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ)).

قَالَ: ((إِنْ كُنْتَ أَقْصَرْتَ الْخُطْبَةَ لَقَدْ أَعْرَضْتَ الْمَسْأَلَةَ؛ أَعْتِقِ النَّسَمَةَ, وَفُكَّ الرَّقَبَةَ, فَإِنْ لَمْ تُطِقْ ذَلِكَ فَأَطْعِمِ الْجَائِعَ, وَاسْقِ الظَّمْآنَ, وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ, وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ, فَإِنْ لَمْ تُطِقْ ذَلِكَ فَكُفَّ لِسَانَكَ إِلَّا عَنْ خَيْرٍ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ, وَابْنُ حِبَّانَ, وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَعَنْ ثَوْبَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((طُوبَى لِمَنْ مَلَكَ لِسَانَهُ, وَوَسِعَهُ بَيْتُهُ, وَبَكَى عَلَى خَطِيئَتِهِ)). أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْأَوْسَطِ)) وَ((الصَّغِيرِ))، وَهُوَ حَسَنٌ لِغَيْرِهِ.

وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ وَقَاهُ اللهُ شَرَّ مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَشَرَّ مَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ)). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ, وَابْنُ حِبَّانَ فِي ((صَحِيحِهِ)).

وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا؛ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: ((مَنْ حَفِظَ مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ)).

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ! مَا عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ شَيْءٌ أَحْوَجَ إِلَى طُولِ سَجْنٍ مِنْ لِسَانٍ)). رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مَوْقُوفًا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((مَنْ وَقَاهُ اللهُ شَرَّ اثْنَيْنِ وَلَجَ الْجَنَّةَ))

فَقَالَ رَجُلٌ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَلَا تُخْبِرُنَا؟)).

فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ ﷺ, فَأَعَادَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مَقَالَتَهُ.

فَقَالَ الرَّجُلُ: ((أَلَا تُخْبِرُنَا يَا رَسُولَ اللهِ؟)).

ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مِثْلَ ذَلِكَ -أَيْضًا-, ثُمَّ ذَهَبَ الرَّجُلُ يَقُولُ مَقَالَتَهُ، فَأَسْكَتَهُ رَجُلٌ إِلَى جَنْبِهِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ وَقَاهُ اللهُ شَرَّ اثْنَيْنِ وَلَجَ الْجَنَّةَ؛ مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ, وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ)). رَوَاهُ مَالِكٌ مُرْسَلًا هَكَذَا, وَهُوَ صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ.

وَ ((وَلَجَ الْجَنَّةَ)) أَيْ: دَخَلَهَا.

وَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللهِ الثَّقَفِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! حَدِّثْنِي بِأَمْرٍ أَعْتَصِمُ بِهِ)).

قَالَ: ((قُلْ: رَبِّيَ اللهُ، ثُمَّ اسْتَقِمْ)).

قَالَ: قُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! مَا أَخْوَفُ مَا تَخَافُ عَلَيَّ؟!)).

فَأَخَذَ بِلِسَانِ نَفْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: ((هَذَا)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ, وَابْنُ مَاجَهْ, وَابْنُ حِبَّانَ, وَالْحَاكِمُ, وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ.

وَعَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَيَّ شَيْءٍ أَتَّقِي؟! فَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى لِسَانِهِ)). رَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ فِي ((الثَّوَابِ)) بِسَنَدٍ حَسَنٍ صَحِيحٍ.

وَعَنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ: ((أَخْبِرْنِي بِأَمْرٍ أَعْتَصِمُ بِهِ)).

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((امْلِكْ هَذَا)), وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ)). أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْكَبِيرِ)) بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ, وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ, وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ رَجُلٌ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي سَفَرٍ، فَأَصْبَحْتُ يَوْمًا قَرِيبًا مِنْهُ وَنَحْنُ نَسِيرُ, فَقُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ, وَيُبَاعِدُنِي عَنِ النَّارِ)).

قَالَ: ((لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمٍ, وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللهُ عَلَيْهِ؛ تَعْبُدُ اللهَ وَلَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا, وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ, وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ, وَتَصُومُ رَمَضَانَ, وَتَحُجُّ الْبَيْتَ)).

ثُمَّ قَالَ: ((أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ؟!))

قُلْتُ: ((بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ)).

قَالَ: ((الصَّوْمُ جُنَّةٌ, وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ, وَصَلَاةُ الرَّجُلِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ)).

ثُمَّ تَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى: {تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ...}، حَتَّى بَلَغَ { ... يَعْمَلُونَ} [السجدة: 16-19]، ثُمَّ قَالَ: ((أَلَا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الْأَمْرِ، وَعَمُودِهِ، وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ؟)).

قُلْتُ: ((بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ)).

قَالَ: ((رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ, وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ, وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ)).

ثُمَّ قَالَ: ((أَلَا أُخْبِرُكَ بِمِلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟)).

قُلْتُ: ((بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ)).

قَالَ: ((كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا))، وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ.

قُلْتُ: ((يَا نَبِيَّ اللهِ! وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟!)).

قَالَ: ((ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ, وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ -أَوْ قَالَ: عَلَى مَنَاخِرِهِمْ- إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟!)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ, وَالتِّرْمِذِيُّ, وَالنَّسَائِيُّ, وَابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ لِغَيْرِهِ.

وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مُخْتَصَرًا قَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَكُلُّ مَا نَتَكَلَّمُ بِهِ يُكْتَبُ عَلَيْنَا؟)).

قَالَ: ((ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ! وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِي النَّارِ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟! إِنَّكَ لَنْ تَزَالَ سَالِمًا مَا سَكَتَّ, فَإِذَا تَكَلَّمْتَ كُتِبَ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ)).

وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ أَنَّ مُعَاذًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ ﷺ فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟!)).

قَالَ: ((الصَّلَاةُ بَعْدَ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ)).

قَالَ: ((لَا؛ وَنِعِمَّا هِيَ)).

قَالَ: ((الصَّوْمُ بَعْدَ صِيَامِ رَمَضَانَ)).

قَالَ: ((لَا؛ وَنِعِمَّا هِيَ)).

قَالَ: ((فَالصَّدَقَةُ بَعْدَ الصَّدَقَةِ الْمَفْرُوضَةِ)).

قَالَ: ((لَا؛ وَنِعِمَّا هِيَ)).

قَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟)) أَيْ: لَيْسَ عَمَّا أَجَبْتَ عَنْهُ سَأَلْتُكَ.

قَالَ: ((فَأَخْرَجَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِسَانَهُ, ثُمَّ وَضَعَ إِصْبَعَهُ عَلَيْهِ)).

فَاسْتَرْجَعَ مُعَاذٌ فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَنُؤَاخَذُ بِمَا نَقُولُ كُلِّهِ، وَيُكْتَبُ عَلَيْنَا؟!)).

قَالَ: ((فَضَرَبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مَنْكِبَ مُعَاذٍ مِرَارًا فَقَالَ لَهُ: ((ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ! وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟)).

وَعَنْ أَسْوَدَ بْنِ أَصْرَمَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ أَوْصِنِي)).

قَالَ: ((تَمْلِكُ يَدَكَ)).

قُلْتُ: ((فَمَا أَمْلِكُ إِذَا لَمْ أَمْلِكْ يَدِي؟)).

قَالَ: ((تَمْلِكُ لِسَانَكَ))

قُلْتُ: ((فَمَاذَا أَمْلِكُ إِذَا لَمْ أَمْلِكْ لِسَانِي؟)).

قَالَ: ((لَا تَبْسُطْ يَدَكَ إِلَّا إِلَى خَيْرٍ, وَلَا تَقُلْ بِلِسَانِكَ إِلَّا مَعْرُوفًا)). رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْكَبِيرِ))، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي ((السُّنَنِ)) بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَوْصِنِي)).

قَالَ: ((أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللهِ؛ فَإِنَّهَا زَيْنٌ لِأَمْرِكَ كُلِّهِ)).

قُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! زِدْنِي)).

قَالَ: ((عَلَيْكَ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ, وَذِكْرِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ فَإِنَّهُ ذِكْرٌ لَكَ فِي السَّمَاءِ, وَنُورٌ لَكَ فِي الْأَرْضِ)).

قَالَ: قُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! زِدْنِي)).

قَالَ: ((وَإِيَّاكَ وَكَثْرَةَ الضَّحِكِ؛ فَإِنَّهُ يُمِيتُ الْقَلْبَ, وَيُذْهِبُ نُورَ الْوَجْهِ)).

قُلْتُ: ((زِدْنِي)).

قَالَ: ((قُلِ الْحَقَّ وَإِنْ كَانَ مُرًّا)).

قَالَ: قُلْتُ: ((زِدْنِي)).

قَالَ: ((لَا تَخَفْ فِي اللهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ, وَالطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْكَبِيرِ)) بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ لِغَيْرِهِ.

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَوْصِنِي)).

قَالَ: ((عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللهِ؛ فَإِنَّهَا جِمَاعُ كُلِّ خَيْرٍ, وَعَلَيْكَ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ؛ فَإِنَّهَا رَهْبَانِيَّةُ الْمُسْلِمِينَ, وَعَلَيْكَ بِذِكْرِ اللهِ وَتِلَاوَةِ كِتَابِهِ؛ فَإِنَّهُ نُورٌ لَكَ فِي الْأَرْضِ، وَذِكْرٌ لَكَ فِي السَّمَاءِ)). أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي ((الصَّغِيرِ)) بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ لِغَيْرِهِ.

وَعَنْ مُعَاذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَوْصِنِي)).

قَالَ: ((اعْبُدِ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ, وَاعْدُدْ نَفْسَكَ فِي الْمَوْتَى, وَإِنْ شِئْتَ أَنْبَأْتُكَ بِمَا هُوَ أَمْلَكُ بِكَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ؛ قَالَ: هَذَا))؛ وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى لِسَانِهِ ﷺ )). أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ لِغَيْرِهِ.

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَرْفَعُهُ، قَالَ ﷺ: ((إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ فَإِنَّ الْأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ -أَيْ: تَذِلُّ لَهُ وَتَخْضَعُ-، تَقُولُ: اتَّقِ اللهَ فِينَا؛ فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ, فَإِنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وَإِنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

وَعَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ ارْتَقَى الصَّفَا، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ فَقَالَ: ((يَا لِسَانُ! قُلْ خَيْرًا تَغْنَمْ, وَاسْكُتْ عَنْ شَرٍّ تَسْلَمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَنْدَمَ)).

ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((أَكْثَرُ خَطَايَا ابْنِ آدَمَ فِي لِسَانٍ)). أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْكَبِيرِ)) بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَعَنْ أَسْلَمَ أَنَّ عُمَرَ دَخَلَ يَوْمًا عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- وَهُوَ يَجْبِذُ -أَيْ: يَشُدُّ- لِسَانَهُ, فَقَالَ عُمَرُ: ((مَهْ! غَفَرَ اللهُ لَكَ)).

فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: ((إِنَّ هَذَا أَوْرَدَنِي شَرَّ الْمَوَارِدِ)). رَوَاهُ مَالِكٌ, وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا, وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَفِي لَفْظٍ لِلْبَيْهَقِيِّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ قَالَ: ((إِنَّ هَذَا أَوْرَدَنِي الْمَوَارِدَ)).

إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْجَسَدِ إِلَّا يَشْكُو ذَرْبَ اللِّسَانِ عَلَى حِدَّتِهِ)).

وَ ((مَهْ)) أَيِ: اكْفُفْ عَمَّا تَفْعَلُهُ, وَ ((ذَرْبُ اللِّسَانِ)): حِدَّتُهُ، وَشَرُّهُ، وَفُحْشُهُ.

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ  -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((مَنْ صَمَتَ نَجَا)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ, وَالطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا؛ يَزِلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ)). أَخْرَجَاهُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ, وَالتِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ؛ إِلَّا أَنَّهُمَا قَالَا: ((إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا؛ يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا)).

وَرَوَى عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ((إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا؛ يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: ((صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ))، وَلَفْظُهُ: ((إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ؛ يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ)).

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((أَلَا هَلْ عَسَى رَجُلٌ مِنْكُمْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالْكَلِمَةِ يُضْحِكُ بِهَا الْقَوْمَ، فَيَسْقُطَ بِهَا أَبْعَدَ مِنَ السَّمَاءِ، أَلَا عَسَى رَجُلٌ يَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ يُضْحِكُ بِهَا أَصْحَابَهُ، فَيَسْخَطُ اللهُ بِهَا عَلَيْهِ، لَا يَرْضَى عَنْهُ حَتَّى يُدْخِلَهُ النَّارَ)). وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ فِي وَصَايَاهُ يُرَكِّزُ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ، وَهُوَ أَمْرٌ هَيِّنٌ عَلَى مَنْ هَوَّنَهُ اللهُ عَلَيْهِ؛ وَلَكِنَّهُ صَعْبٌ عَسِرٌ عَلَى مَنْ لَمْ يُهَوِّنْهُ اللهُ -تَعَالَى- عَلَيْهِ.

عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((إِنَّ اللهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا؛ قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَمُسْلِمٌ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ)). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: ((حَدِيثٌ غَرِيبٌ))، وَحَسَّنَهُ لِغَيْرِهِ الْأَلْبَانِيُّ.

وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((تُوُفِّيَ رَجُلٌ، فَقَالَ رَجُلٌ آخَرُ وَرَسُولُ اللهِ ﷺ يَسْمَعُ: ((أَبْشِرْ بِالْجَنَّةِ)).

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَوَلَا تَدْرِي، فَلَعَلَّهُ تَكَلَّمَ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ، أَوْ بَخِلَ بِمَا لَا يَنْقُصُهُ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَهُوَ صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ.

وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا, وَأَبُو يَعْلَى عَنْ أَنَسٍ أَيْضًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((اسْتُشْهِدَ رَجُلٌ مِنَّا يَوْمَ أُحُدٍ، فَوُجِدَ عَلَى بَطْنِهِ صَخْرَةٌ مَرْبُوطَةٌ مِنَ الْجُوعِ، فَمَسَحَتْ أُمُّهُ التُّرَابَ عَنْ وَجْهِهِ، وَقَالَتْ: ((هَنِيئًا لَكَ يَا بُنَيَّ الْجَنَّةُ)).

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَا يُدْرِيكِ! لَعَلَّهُ كَانَ يَتَكَلَّمُ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ، وَيَمْنَعُ مَا لَا يَضُرُّهُ)). وَهُوَ حَسَنٌ لِغَيْرِهِ.

وَرَوَى أَبُو يَعْلَى, وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((قُتِلَ رَجُلٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ شَهِيدًا، فَبَكَتْ عَلَيْهِ بَاكِيَةٌ، فَقَالَتْ: ((وَاشَهِيدَاهْ!)).

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَا يُدْرِيكِ أَنَّهُ شَهِيدٌ! لَعَلَّهُ كَانَ يَتَكَلَّمُ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ، أَوْ يَبْخَلُ بِمَا لَا يَنْقُصُهُ)). وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ.

((شُرُوطُ الْكَلَامِ))

اعْلَمْ -عَلَّمَنِي اللهُ وَإِيَّاكَ- أَنَّ لِسَانَكَ أَدَاةٌ مُصْلَتَةٌ، يَتَغَالَبُ عَلَيْهِ عَقْلُكَ وَغَضَبُكَ وَهَوَاكَ، فَكُلٌّ غَالِبٌ عَلَيْهِ؛ مُسْتَمْتِعٌ بِهِ، وَصَارِفُهُ فِي مَحَبَّتِهِ، فَإِذَا غَلَبَ عَلَى لِسَانِكَ عَقْلُكَ فَهُوَ لَكَ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَشْبَاهِ مَا سَمَّيْتُ لَكَ فَهُوَ لِعَدُوِّكَ، فَإِذَا اسْتَطَعْتَ أَنْ تَحْتَفِظَ بِهِ وَتَصُونَهُ فَلَا يَكُونَ إِلَّا لَكَ، وَلَا يَسْتَوْلِيَ عَلَيْهِ أَوْ يُشَارِكَكَ فِيهِ عَدُوُّكَ فَافْعَلْ.

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْكَلَامِ شُرُوطًا لَا يَسْلَمُ الْمُتَكَلِّمُ مِنَ الزَّلَلِ إِلَّا بِهَا، وَلَا يَعْرَى مِنَ النَّقْصِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَسْتَوْفِيَهَا، وَهِيَ أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ:

فَالشَّرْطُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ لِدَاعٍ يَدْعُو إِلَيْهِ، إِمَّا فِي اجْتِلَابِ نَفْعٍ، أَوْ فِي دَفْعِ ضَرَرٍ.

وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَأْتِيَ بِهِ فِي مَوْضِعِهِ، وَيَتَوَخَّى بِهِ إِصَابَةَ فُرْصَتِهِ.

وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَقْتَصِرَ مِنْهُ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ.

وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَتَخَيَّرَ اللَّفْظَ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ)).

وَقَالُوا: ((خَيْرُ الْأَلْسُنِ الْمَخْزُونُ, وَخَيْرُ الْكَلَامِ الْمَوْزُونُ؛ فَحَدِّثْ إِنْ حَدَّثْتَ بِأَفْضَلَ مِنَ الصَّمْتِ, وَزَيِّنْ حَدِيثَكَ بِالْوَقَارِ وَحُسْنِ السَّمْتِ)).

((الْكَلَامُ الطَّيِّبُ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ))

لَقَدْ سُئِلَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ أَكْثَرِ شَيْءٍ يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ، فَقَالَ: ((تَقْوَى اللهِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ)).

وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ عَلَى الْقِمَّةِ الْعَالِيَةِ وَعَلَى ذِرْوَةِ السَّنَامِ، وَمَدَحَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِذَلِكَ، وَأَثْبَتَهُ لَهُ، فَقَالَ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فِي حَقِّ نَبِيِّهِ ﷺ: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] ﷺ.

وَقَالَ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ: ((إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ)).

وَمَعَ أَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- وَصَفَ النَّبِيَّ ﷺ بِأَنَّهُ فِي الْخُلُقِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ الَّتِي قَالَ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ إِلَّا أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ إِذَا قَامَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَقُومَ اللَّيْلَ، وَيُصَلِّيَ بِاللَّيْلِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ اسْتَفْتَحَ بِدُعَاءِ اسْتِفْتَاحِ الْقِيَامِ، فَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَدْعُو رَبَّهُ كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ اللَّيْلَ -وَمَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَتَخَلَّفُ عَنْهُ قِيَامُ اللَّيْلِ لَيْلَةً وَاحِدَةً حَضَرًا وَلَا سَفَرًا ﷺ؛ حَتَّى إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ إِذَا كَانَ مُسَافِرًا بِلَيْلٍ؛ صَلَّى قِيَامَ اللَّيْلِ، وَتَهَجَّدَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى رَاحِلَتِهِ ﷺ-، مَعَ أَنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ- أَكْمَلَ نَبِيَّهُ ﷺ، وَأَدَّبَهُ، وَحَسَّنَ أَخْلَاقَهُ حَتَّى صَارَ ذَهَبًا صِرْفًا مَحْضًا؛ بَلْ صَارَ كَمِثْلِهِ الذَّهَبُ الصِّرْفُ الْمَحْضُ ﷺ؛ إِلَّا أَنَّهُ ﷺ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ اللَّيْلَ يَقُولُ: ((اللَّهُمَّ اهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ، لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا، لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ)).

فِي دُعَاءٍ عَظِيمٍ يَسْتَفْتِحُ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ ظَرْفَ الْمُنَاجَاةِ لِلْعَلِيِّ الْأَعْلَى ذِي الْقُوَى وَالْقُدَرِ إِذَا مَا صَفَّ الْقَدَمَيْنِ، وَوَقَفَ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: ((اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيُّومُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ)).

وَهَذِهِ أَلْفَاظٌ شَفِيفَةٌ تَخْرُجُ مِنَ الْقَلْبِ مِنْ غَيْرِ وَسَاطَةِ لِسَانٍ، إِنَّمَا هِيَ لُغَةُ الْقَلْبِ الْحَيِّ، وَلُغَةُ الْقَلْبِ النَّابِضِ، وَلُغَةُ الدَّمِ الْمُتَأَجِّجِ الْمُشْتَعِلِ بِالْمَحَبَّةِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، ثُمَّ يَدْعُو النَّبِيُّ ﷺ رَبَّهُ: ((اللَّهُمَّ اهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ، لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا، لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ)).

مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ بِالْمَكَانِ الَّذِي يَعْرِفُ أَعْدَاؤُهُ قَبْلَ أَصْدِقَائِهِ وَأَحِبَّائِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَقَبْلَ تِلْكَ الْمَنْزِلَةِ الَّتِي يُثْبِتُهَا لَهُ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ ﷺ؛ مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ الَّتِي وَصَفَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، فَقَالَ: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ وَاللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عِنْدَمَا يَصِفُ شَيْئًا بِأَنَّهُ عَظِيمٌ فَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَصَوَّرَ إِنْسَانٌ مَدَى عَظَمَتِهِ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَصِفُهُ هُوَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الَّذِي لَهُ الْعَظَمَةُ الْمُتَفَرِّدَةُ، وَلَهُ الْجَنَابُ الْأَعْلَى، وَلَهُ الْمَقَامُ الْأَسْنَى، وَهُوَ اللهُ ذُو الْقُوَى وَالْقُدَرِ.

اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عِنْدَمَا يَصِفُ شَيْئًا بِأَنَّهُ عَظِيمٌ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَصَوَّرَ إِنْسَانٌ مَدَى عَظَمَتِهِ مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ عَلَى الْغَايَةِ وَفَوْقَ الْمُنْتَهَى ﷺ، وَشَهِدَ لَهُ رَبُّهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ}، وَمَعَ ذَلِكَ كَانَ يَقُولُ وَهُوَ يُعَلِّمُنَا: ((اللَّهُمَّ اهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ، لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا، لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ)).

إِنَّ بِحُسْنِ الْخُلُقِ يَبْلُغُ الرَّجُلُ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ.

إِنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ لَيْسَ كَلَامًا يُقَالُ، وَإِنَّمَا هُوَ صِفَةٌ رَاسِخَةٌ فِي النَّفْسِ..

إِنَّ عِفَّةَ اللِّسَانِ، وَطِيبَ الْكَلَامِ، وَسَدِيدَ الْقَوْلِ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْحَسَنَةِ الرَّفِيعَةِ وَدَلِيلٌ عَلَيْهَا، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((حُسْنُ الْخُلُقِ: أَنْ يَكُونَ سَهْلَ الْعَرِيكَةِ، لَيِّنَ الْجَانِبِ، طَلْقَ الْوَجْهِ، قَلِيلَ النُّفُورِ، طَيِّبَ الْكَلِمَةِ)).

قَالَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَدْوَأِ الدَّاءِ؟)).

قَالُوا: ((بَلَى)).

قَالَ: ((الْخُلُقُ الدَّنِيُّ، وَاللِّسَانُ البَذِيُّ)).

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((كِتَابِ الْإِيمَانِ)): «مَا هَمَّ الْعَبْدُ بِهِ مِنَ الْقَوْلِ الْحَسَنِ وَالْعَمَلِ الْحَسَنِ فَإِنَّمَا يُكْتَبُ لَهُ بِهِ حَسَنَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِذَا صَارَ قَوْلًا وَعَمَلًا؛ كُتِبَ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِ مِائَةٍ؛ وَذَلِكَ لِلْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ فِي الْهَمِّ».

((وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا!))

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83].

وَمِنَ الْقَوْلِ الْحَسَنِ: أَمْرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْيُهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتَعْلِيمُهُمُ الْعِلْمَ، وَبَذْلُ السَّلَامِ، وَالْبَشَاشَةُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ كَلَامٍ طَيِّبٍ.

فِي الْمِيثَاقِ الَّذِي أَخَذَ اللهُ -تَعَالَى- عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83].

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- : «قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}؛ أَيْ: كَلِّمُوهُمْ طَيِّبًا، وَلِينُوا لَهُمْ جَانِبًا، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ بِالْمَعْرُوفِ، كَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}.

فَالْحَسَنُ مِنَ الْقَوْلِ: يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيَحْلُمُ وَيَعْفُو وَيَصْفَحُ، وَيَقُولُ لِلنَّاسِ حُسْنًا كَمَا قَالَ اللهُ، وَهُوَ كُلُّ خُلُقٍ حَسَنٍ رَضِيَهُ اللهُ».

وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الْقَوْلَ الطَّيِّبَ الْحَسَنَ لَا يَذْهَبُ سُدًى، وَلَا يَضِيعُ بَدَدًا، بَلْ صَاحِبُهُ مَأْجُورٌ عَلَيْهِ مُثَابٌ عَلَى قَوْلِهِ، فَفِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: «وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ».

وَالْقَوْلُ السَّدِيدُ مِمَّا حَضَّ الْقُرْآنُ عَلَى الِالْتِزَامِ بِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء: 9].

وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- : «يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِتَقْوَاهُ، وَأَنْ يَعْبُدُوهُ عِبَادَةَ مَنْ كَأَنَّهُ يَرَاهُ، وَأَنْ يَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا؛ أَيْ: مُسْتَقِيمًا لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ وَلَا انْحِرَافَ.

وَوَعَدَهُمْ أَنَّهُمْ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ أَثَابَهُمْ عَلَيْهِ بِأَنْ يُصْلِحَ لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ؛ أَيْ: يُوَفِّقَهُمْ لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَأَنْ يَغْفِرَ لَهُمُ الذُّنُوبَ الْمَاضِيَةَ، وَمَا قَدْ يَقَعُ مِنْهُمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ يُلْهِمُهُمُ التَّوْبَةَ مِنْهَا.

قَالَ عِكْرِمَةُ: الْقَوْلُ السَّدِيدُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ.

وَقَالَ غَيْرُهُ: السَّدِيدُ: الصِّدْقُ.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ السَّدَادُ.

وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ الصَّوَابُ.

وَالْكُلُّ حَقٌّ».

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} [الإسراء: 53].

((وَهَذَا مِنْ لُطْفِهِ بِعِبَادِهِ؛ حَيْثُ أَمَرَهُمْ بِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ الْمُوجِبَةِ لِلسَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَقَالَ: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، وَهَذَا أَمْرٌ بِكُلِّ كَلَامٍ يُقَرِّبُ إِلَى اللَّهِ؛ مِنْ قِرَاءَةٍ، وَذِكْرٍ، وَعِلْمٍ، وَأَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ، وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ، وَكَلَامٍ حَسَنٍ لَطِيفٍ مَعَ الْخَلْقِ عَلَى اخْتِلَافِ مَرَاتِبِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ، وَأَنَّهُ إِذَا دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ حَسَنَيْنِ؛ فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِإِيثَارِ أَحْسَنِهِمَا إِنْ لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا.

وَالْقَوْلُ الْحَسَنُ دَاعٍ لِكُلِّ خُلُقٍ جَمِيلٍ وَعَمَلٍ صَالِحٍ؛ فَإِنَّ مَنْ مَلَكَ لِسَانَهُ مَلَكَ جَمِيعَ أَمْرِهِ.

وَقَوْلُهُ: {إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} أَيْ: يَسْعَى بَيْنَ الْعِبَادِ بِمَا يُفْسِدُ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَدُنْيَاهُمْ، فَدَوَاءُ هَذَا أَلَّا يُطِيعُوهُ فِي الْأَقْوَالِ غَيْرِ الْحَسَنَةِ الَّتِي يَدْعُوهُمْ إِلَيْهَا، وَأَنْ يَلِينُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ؛ لِيَنْقَمِعَ الشَّيْطَانُ الَّذِي يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ؛ فَإِنَّهُ عَدُوُّهُمُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُحَارِبُوهُ؛ فَإِنَّهُ يَدْعُوهُمْ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ.

وَأَمَّا إِخْوَانُهُمْ؛ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَسَعَى فِي الْعَدَاوَةِ فَإِنَّ الْحَزْمَ كُلَّ الْحَزْمِ السَّعْيُ فِي ضِدِّ عَدُوِّهِمْ، وَأَنْ يَقْمَعُوا أَنْفُسَهُمُ الْأَمَّارَةَ بِالسُّوءِ، الَّتِي يَدْخُلُ الشَّيْطَانُ مِنْ قِبَلِهَا؛ فَبِذَلِكَ يُطِيعُونَ رَبَّهُمْ، وَيَسْتَقِيمُ أَمْرُهُمْ، وَيُهْدَوْنَ لِرُشْدِهِمْ)).

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت: 46].

((يَنْهَى -تَعَالَى- عَنْ مُجَادَلَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِذَا كَانَتْ مِنْ غَيْرِ بَصِيرَةٍ مِنَ الْمُجَادِلِ، أَوْ بِغَيْرِ قَاعِدَةٍ مَرْضِيَّةٍ، وَأَلَّا يُجَادِلُوا إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ؛ بِحُسْنِ خُلُقٍ، وَلُطْفٍ، وَلِينِ كَلَامٍ، وَدَعْوَةٍ إِلَى الْحَقِّ وَتَحْسِينِهِ، وَرَدٍّ عَنِ الْبَاطِلِ وَتَهْجِينِهِ بِأَقْرَبِ طَرِيقٍ مُوَصِّلٍ لِذَلِكَ، وَأَلَّا يَكُونَ الْقَصْدُ مِنْهَا مُجَرَّدَ الْمُجَادَلَةِ وَالْمُغَالَبَةِ، وَحُبِّ الْعُلُوِّ، بَلْ يَكُونُ الْقَصْدُ بَيَانَ الْحَقِّ وَهِدَايَةَ الْخَلْقِ؛ إِلا مَنْ ظَلَمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِأَنْ ظَهَرَ مِنْ قَصْدِهِ وَحَالِهِ أَنَّهُ لَا إِرَادَةَ لَهُ فِي الْحَقِّ، وَإِنَّمَا يُجَادِلُ عَلَى وَجْهِ الْمُشَاغَبَةِ وَالْمُغَالَبَةِ، فَهَذَا لَا فَائِدَةَ فِي جِدَالِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا ضَائِعٌ.

{وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ} أَيْ: وَلْتَكُنْ مُجَادَلَتُكُمْ لِأَهْلِ الْكِتَابِ مَبْنِيَّةً عَلَى الْإِيمَانِ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَأُنْزِلَ إِلَيْهِمْ، وَعَلَى الْإِيمَانِ بِرَسُولِكُمْ وَرَسُولِهِمْ، وَعَلَى أَنَّ الْإِلَهَ وَاحِدٌ، وَلَا تَكُنْ مُنَاظَرَتُكُمْ إِيَّاهُمْ عَلَى وَجْهٍ يَحْصُلُ بِهِ الْقَدْحُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ، أَوْ بِأَحَدٍ مِنَ الرُّسُلِ، كَمَا يَفْعَلُهُ الْجَهَلَةُ عِنْدَ مُنَاظَرَةِ الْخُصُومِ، يَقْدَحُ بِجَمِيعِ مَا مَعَهُمْ مِنْ حَقٍّ وَبَاطِلٍ، فَهَذَا ظُلْمٌ وَخُرُوجٌ عَنِ الْوَاجِبِ وَآدَابِ النَّظَرِ؛ فَإِنَّ الْوَاجِبَ أَنْ يَرُدَّ مَا مَعَ الْخَصْمِ مِنَ الْبَاطِلِ، وَيَقْبَلَ مَا مَعَهُ مِنَ الْحَقِّ، وَلَا يَرُدَّ الْحَقَّ لِأَجْلِ قَوْلِهِ وَلَوْ كَانَ كَافِرًا.

وَأَيْضًا فَإِنَّ بِنَاءَ مُنَاظَرَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ فِيهِ إِلْزَامٌ لَهُمْ بِالْإِقْرَارِ بِالْقُرْآنِ وَبِالرَّسُولِ الَّذِي جَاءَ بِهِ؛ فَإِنَّهُ إِذَا تَكَلَّمَ فِي الْأُصُولِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي اتَّفَقَتْ عَلَيْهَا الْأَنْبِيَاءُ وَالْكُتُبُ، وَتَقَرَّرَتْ عِنْدَ الْمُتَنَاظِرَيْنِ، وَثَبَتَتْ حَقَائِقُهَا عِنْدَهُمَا، وَكَانَتِ الْكُتُبُ السَّابِقَةُ وَالْمُرْسَلُونَ مَعَ الْقُرْآنِ وَمُحَمَّدٍ ﷺ قَدْ بَيَّنَتْهَا، وَدَلَّتْ عَلَيْهَا، وَأَخْبَرَتْ بِهَا؛ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ التَّصْدِيقُ بِالْكُتُبِ كُلِّهَا، وَالرُّسُلِ كُلِّهِمْ، وَهَذَا مِنْ خَصَائِصِ الْإِسْلَامِ.

فَأَمَّا أَنْ يُقَالَ: نُؤْمِنُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ الْفُلَانِيُّ دُونَ الْكِتَابِ الْفُلَانِيِّ وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي صَدَّقَ مَا قَبْلَهُ، فَهَذَا ظُلْمٌ وَهَوًى، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِ بِالتَّكْذِيبِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَذَّبَ الْقُرْآنَ الدَّالَّ عَلَيْهَا، الْمُصَدِّقَ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ؛ فَإِنَّهُ مُكَذِّبٌ لِمَا زَعَمَ أَنَّهُ بِهِ مُؤْمِنٌ.

وَأَيْضًا فَإِنَّ كُلَّ طَرِيقٍ تَثْبُتُ بِهِ نُبُوَّةُ أَيِّ نَبِيٍّ كَانَ فَإِنَّ مِثْلَهَا وَأَعْظَمَ مِنْهَا دَالَّةٌ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَكُلَّ شُبْهَةٍ يُقْدَحُ بِهَا فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ فَإِنَّ مِثْلَهَا أَوْ أَعْظَمَ مِنْهَا يُمْكِنُ تَوْجِيهُهَا إِلَى نُبُوَّةِ غَيْرِهِ، فَإِذَا ثَبَتَ بُطْلَانُهَا فِي غَيْرِهِ فَثُبُوتُ بُطْلَانِهَا فِي حَقِّهِ ﷺ أَظْهَرُ وَأَظْهَرُ.

وَقَوْلُهُ: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} أَيْ: مُنْقَادُونَ مُسْتَسْلِمُونَ لِأَمْرِهِ، وَمَنْ آمَنَ بِهِ، وَاتَّخَذَهُ إِلَهًا، وَآمَنَ بِجَمِيعِ كُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَانْقَادَ لِلَّهِ، وَاتَّبَعَ رُسُلَهُ؛ فَهُوَ السَّعِيدُ، وَمَنِ انْحَرَفَ عَنْ هَذَا الطَّرِيقِ فَهُوَ الشَّقِيُّ)).

وَقَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 33-35].

((هَذَا اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى النَّفْيِ الْمُتَقَرِّرِ، أَيْ: لَا أَحَدَ أَحْسَنُ قَوْلًا -أَيْ: كَلَامًا وَطَرِيقَةً وَحَالَةً- مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ بِتَعْلِيمِ الْجَاهِلِينَ، وَوَعْظِ الْغَافِلِينَ وَالْمُعْرِضِينَ، وَمُجَادَلَةِ الْمُبْطِلِينَ، بِالْأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهَا، وَالْحَثِّ عَلَيْهَا، وَتَحْسِينِهَا مَهْمَا أَمْكَنَ، وَالزَّجْرُ عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَتَقْبِيحُهُ بِكُلِّ طَرِيقٍ يُوجِبُ تَرْكَهُ؛ خُصُوصًا مِنْ هَذِهِ الدَّعْوَةِ إِلَى أَصْلِ دِينِ الْإِسْلَامِ وَتَحْسِينِهِ، وَمُجَادَلَةِ أَعْدَائِهِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَالنَّهْيُ عَمَّا يُضَادُّهُ مِنَ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ.

وَمِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ: تَحْبِيبُهُ إِلَى عِبَادِهِ بِذِكْرِ تَفَاصِيلِ نِعَمِهِ، وَسَعَةِ جُودِهِ، وَكَمَالِ رَحْمَتِهِ، وَذِكْرِ أَوْصَافِ كَمَالِهِ وَنُعُوتِ جَلَالِهِ.

وَمِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ: التَّرْغِيبُ فِي اقْتِبَاسِ الْعِلْمِ وَالْهُدَى مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَالْحَثُّ عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ طَرِيقٍ مُوَصِّلٍ إِلَيْهِ.

وَمِنْ ذَلِكَ: الْحَثُّ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَالْإِحْسَانُ إِلَى عُمُومِ الْخَلْقِ، وَمُقَابَلَةُ الْمُسِيءِ بِالْإِحْسَانِ، وَالْأَمْرُ بِصِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ.

وَمِنْ ذَلِكَ: الْوَعْظُ لِعُمُومِ النَّاسِ فِي أَوْقَاتِ الْمَوَاسِمِ، وَالْعَوَارِضِ، وَالْمَصَائِبِ بِمَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ الْحَالَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا تَنْحَصِرُ أَفْرَادُهُ مِمَّا تَشْمَلُهُ الدَّعْوَةُ إِلَى الْخَيْرِ كُلِّهِ، وَالتَّرْهِيبِ مِنْ جَمِيعِ الشَّرِّ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَعَمِلَ صَالِحًا} أَيْ: مَعَ دَعْوَتِهِ الْخَلْقَ إِلَى اللَّهِ بَادَرَ هُوَ بِنَفْسِهِ إِلَى امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي يُرْضِي رَبَّهُ، {وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} أَيِ: الْمُنْقَادِينَ لِأَمْرِهِ، السَّالِكِينَ فِي طَرِيقِهِ، وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ تَمَامُهَا لِلصِّدِّيقِينَ الَّذِينَ عَمِلُوا عَلَى تَكْمِيلِ أَنْفُسِهِمْ، وَتَكْمِيلِ غَيْرِهِمْ، وَحَصَلَتْ لَهُمُ الْوِرَاثَةُ التَّامَّةُ مِنَ الرُّسُلِ، كَمَا أَنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ قَوْلًا: مَنْ كَانَ مِنْ دُعَاةِ الضَّالِّينَ السَّالِكِينَ لِسُبُلِهِ.

وَبَيْنَ هَاتَيْنِ الْمَرْتَبَتَيْنِ الْمُتَبَايِنَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ارْتَفَعَتْ إِحْدَاهُمَا إِلَى أَعْلَى عِلِّيِّينَ وَنَزَلَتِ الْأُخْرَى إِلَى أَسْفَلَ سَافِلِينَ مَرَاتِبُ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ، وَكُلُّهَا مَعْمُورَةٌ بِالْخَلْقِ، {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}.

يَقُولُ تَعَالَى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ} أَيْ: لَا يَسْتَوِي فِعْلُ الْحَسَنَاتِ وَالطَّاعَاتِ لِأَجْلِ رِضَا اللَّهِ -تَعَالَى-، وَلَا فِعْلُ السَّيِّئَاتِ وَالْمَعَاصِي الَّتِي تُسْخِطُهُ وَلَا تُرْضِيهِ، وَلَا يَسْتَوِي الْإِحْسَانُ إِلَى الْخَلْقِ، وَلَا الْإِسَاءَةُ إِلَيْهِمْ، لَا فِي ذَاتِهَا، وَلَا فِي وَصْفِهَا، وَلَا فِي جَزَائِهَا {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ}؟!

ثُمَّ أَمَرَ بِإِحْسَانٍ خَاصٍّ لَهُ مَوْقِعٌ كَبِيرٌ، وَهُوَ الْإِحْسَانُ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ، فَقَالَ: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أَيْ: فَإِذَا أَسَاءَ إِلَيْكَ مُسِيءٌ مِنَ الْخَلْقِ -خُصُوصًا مَنْ لَهُ حَقٌّ كَبِيرٌ عَلَيْكَ؛ كَالْأَقَارِبِ، وَالْأَصْحَابِ، وَنَحْوِهِمْ- إِسَاءَةً بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْفِعْلِ؛ فَقَابِلْهُ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، فَإِنْ قَطَعَكَ فَصِلْهُ، وَإِنْ ظَلَمَكَ فَاعْفُ عَنْهُ، وَإِنْ تَكَلَّمَ فِيكَ غَائِبًا أَوْ حَاضِرًا فَلَا تُقَابِلْهُ، بَلِ اعْفُ عَنْهُ، وَعَامِلْهُ بِالْقَوْلِ اللَّيِّنِ، وَإِنْ هَجَرَكَ، وَتَرَكَ خِطَابَكَ؛ فَطَيِّبْ لَهُ الْكَلَامَ، وَابْذُلْ لَهُ السَّلَامَ، فَإِذَا قَابَلْتَ الْإِسَاءَةَ بِالْإِحْسَانِ؛ حَصَلَتْ فَائِدَةٌ عَظِيمَةٌ: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} أَيْ: كَأَنَّهُ قَرِيبٌ شَفِيقٌ.

{وَمَا يُلَقَّاهَا} أَيْ: وَمَا يُوَفَّقُ لِهَذِهِ الْخَصْلَةِ الْحَمِيدَةِ إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا نُفُوسَهُمْ عَلَى مَا تَكْرَهُ، وَأَجْبَرُوهَا عَلَى مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ؛ فَإِنَّ النُّفُوسَ مَجْبُولَةٌ عَلَى مُقَابَلَةِ الْمُسِيءِ بِإِسَاءَتِهِ، وَعَدَمِ الْعَفْوِ عَنْهُ؛ فَكَيْفَ بِالْإِحْسَانِ؟!!

فَإِذَا صَبَّرَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ، وَامْتَثَلَ أَمْرَ رَبِّهِ، وَعَرَفَ جَزِيلَ الثَّوَابِ، وَعَلِمَ أَنَّ مُقَابَلَتَهُ لِلْمُسِيءِ بِجِنْسِ عَمَلِهِ لَا يُفِيدُهُ شَيْئًا، وَلَا يَزِيدُ الْعَدَاوَةَ إِلَّا شِدَّةً، وَأَنَّ إِحْسَانَهُ إِلَيْهِ لَيْسَ بِوَاضِعِ قَدْرِهِ، بَلْ مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ؛ هَانَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ، وَفَعَلَ ذَلِكَ مُتَلَذِّذًا مُسْتَحْلِيًا لَهُ.

{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}؛ لِكَوْنِهَا مِنْ خِصَالِ خَوَاصِّ الْخَلْقِ الَّتِي يَنَالُ بِهَا الْعَبْدُ الرِّفْعَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، الَّتِي هِيَ مِنْ أَكْبَرِ خِصَالِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ)).

وَذَكَرَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جُمْلَةً مِنْ أَخْلَاقِ وَخِصَالِ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ؛ مِنْهَا: أَنَّ الْجَاهِلِينَ بِاللهِ إِذَا خَاطَبُوهُمْ بِمَا يَكْرَهُونَهُ مِنَ الْقَوْلِ أَجَابُوهُمْ بِالْمَعْرُوفِ مِنَ الْقَوْلِ, وَالسَّدَادِ مِنَ الْخِطَابِ، قَالَ تَعَالَى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63].

((الْعُبُودِيَّةُ لِلَّهِ نَوْعَانِ: عُبُودِيَّةٌ لِرُبُوبِيَّتِهِ، فَهَذِهِ يَشْتَرِكُ فِيهَا سَائِرُ الْخَلْقِ؛ مُسْلِمُهُمْ وَكَافِرُهُمْ، بَرُّهُمْ وَفَاجِرُهُمْ، فَكُلُّهُمْ عَبِيدٌ لِلَّهِ، مَرْبُوبُونَ مُدَبَّرُونَ: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}.

وَعُبُودِيَّةٌ لِأُلُوهِيَّتِهِ وَعِبَادَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَهِيَ عُبُودِيَّةُ أَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ، وَهِيَ الْمُرَادُ هُنَا؛ وَلِهَذَا أَضَافَهَا إِلَى اسْمِهِ (الرَّحْمَن)، إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا وَصَلُوا إِلَى هَذِهِ الْحَالِ بِسَبَبِ رَحْمَتِهِ، فَذَكَرَ أَنَّ صِفَاتِهِمْ أَكْمَلُ الصِّفَاتِ، وَنُعُوتَهُمْ أَفْضَلُ النُّعُوتِ، فَوَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ {يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} أَيْ: سَاكِنِينَ مُتَوَاضِعِينَ لِلَّهِ وَالْخَلْقِ، فَهَذَا وَصْفٌ لَهُمْ بِالْوَقَارِ وَالسَّكِينَةِ وَالتَّوَاضُعِ لِلَّهِ وَلِعِبَادِهِ، {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ} أَيْ: خِطَابَ جَهْلٍ؛ بِدَلِيلِ إِضَافَةِ الْفِعْلِ وَإِسْنَادِهِ لِهَذَا الْوَصْفِ {قَالُوا سَلامًا} أَيْ: خَاطَبُوهُمْ خِطَابًا يَسْلَمُونَ فِيهِ مِنَ الْإِثْمِ، وَيَسْلَمُونَ مِنْ مُقَابَلَةِ الْجَاهِلِ بِجَهْلِهِ، وَهَذَا مَدْحٌ لَهُمْ بِالْحِلْمِ الْكَثِيرِ، وَمُقَابَلَةِ الْمُسِيءِ بِالْإِحْسَانِ، وَالْعَفْوِ عَنِ الْجَاهِلِ، وَرَزَانَةِ الْعَقْلِ الَّذِي أَوْصَلَهُمْ إِلَى هَذِهِ الْحَالِ.

فَوَصَفَهُمُ اللهُ بِالْوَقَارِ وَالسَّكِينَةِ، وَالتَّوَاضُعِ لَهُ وَلِعِبَادِهِ، وَحُسْنِ الْأَدَبِ، وَالْحِلْمِ، وَسِعَةِ الْخُلُقِ، وَالْعَفْوِ عَنِ الْجَاهِلِينَ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ، وَمُقَابَلَةِ إِسَاءَتِهِمْ بِالْإِحْسَانِ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114].

((أَيْ: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِمَّا يَتَنَاجَى بِهِ النَّاسُ وَيَتَخَاطَبُونَ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ خَيْرٌ؛ فَإِمَّا لَا فَائِدَةَ فِيهِ؛ كَفُضُولِ الْكَلَامِ الْمُبَاحِ، وَإِمَّا شَرٌّ وَمَضَرَّةٌ مَحْضَةٌ؛ كَالْكَلَامِ الْمُحَرَّمِ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهِ.

ثُمَّ اسْتَثْنَى -تَعَالَى- فَقَالَ: {إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ}: مِنْ مَالٍ، أَوْ عِلْمٍ، أَوْ أَيِّ نَفْعٍ كَانَ؛ بَلْ لَعَلَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ الْعِبَادَاتُ الْقَاصِرَةُ؛ كَالتَّسْبِيحِ، وَالتَّحْمِيدِ، وَنَحْوِهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ...)) الْحَدِيثَ.

{أَوْ مَعْرُوفٍ}: وَهُوَ الْإِحْسَانُ وَالطَّاعَةُ وَكُلُّ مَا عُرِفَ فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ حُسْنُهُ، وَإِذَا أُطْلِقَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقْرَنَ بِالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ؛ دَخَلَ فِيهِ النَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ تَرْكَ الْمَنْهِيَّاتِ مِنَ الْمَعْرُوفِ، وَأَيْضًا لَا يَتِمُّ فِعْلُ الْخَيْرِ إِلَّا بِتَرْكِ الشَّرِّ؛ وَأَمَّا عِنْدَ الِاقْتِرَانِ فَيُفَسَّرُ الْمَعْرُوفُ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ، وَالْمُنْكَرُ بِتَرْكِ الْمَنْهِيِّ.

{أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ}: وَالْإِصْلَاحُ لَا يَكُونُ إِلَّا بَيْنَ مُتَنَازِعِينَ مُتَخَاصِمِينَ، وَالنِّزَاعُ وَالْخِصَامُ وَالتَّغَاضُبُ يُوجِبُ مِنَ الشَّرِّ وَالْفُرْقَةِ مَا لَا يُمْكِنُ حَصْرُهُ؛ فَلِذَلِكَ حَثَّ الشَّارِعُ عَلَى الْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ فِي الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ؛ بَلْ وَفِي الْأَدْيَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ...} الْآيَةَ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}.

وَالسَّاعِي فِي الْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلُ مِنَ الْقَانِتِ بِالصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالْمُصْلِحُ لَا بُدَّ أَنْ يُصْلِحَ اللَّهُ سَعْيَهُ وَعَمَلَهُ، كَمَا أَنَّ السَّاعِيَ فِي الْإِفْسَادِ لَا يُصْلِحُ اللَّهُ عَمَلَهُ، وَلَا يُتِمُّ لَهُ مَقْصُودَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ}، فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ حَيْثُمَا فُعِلَتْ فَهِيَ خَيْرٌ، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ؛ وَلَكِنَّ كَمَالَ الْأَجْرِ وَتَمَامَهُ بِحَسَبِ النِّيَّةِ وَالْإِخْلَاصِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}: فَلِهَذَا يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَقْصِدَ وَجْهَ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَيُخْلِصَ الْعَمَلَ لِلَّهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَفِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْخَيْرِ؛ لِيَحْصُلَ لَهُ بِذَلِكَ الْأَجْرُ الْعَظِيمُ، وَلِيَتَعَوَّدَ الْإِخْلَاصَ فَيَكُونَ مِنَ الْمُخْلِصِينَ، وَلِيَتِمَّ لَهُ الْأَجْرُ؛ سَوَاءٌ تَمَّ مَقْصُودُهُ أَمْ لَا؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ حَصَلَتْ، وَاقْتَرَنَ بِهَا مَا يُمْكِنُ مِنَ الْعَمَلِ)).

وَكَمَا أَمَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِحُسْنِ الْكَلَامِ فِي كِتَابِهِ كَذَلِكَ أَمَرَ بِهِ رَسُولُهُ ﷺ فِي سُنَّتِهِ؛ فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرَفًا يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا ، وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا، أَعَدَّهَا اللهُ لِمَنْ أَطْعَمَ الطَّعَامَ ، وَأَفْشَى السَّلَامَ، وَصَلَّى بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ)).

وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ هَانِئِ بْنِ يَزِيدَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَخْبِرْنِي بِأَيِّ شَيْءٍ يُوجِبُ لِيَ الْجَنَّةَ)).

قَالَ: ((عَلَيْكَ بِحُسْنِ الْكَلَامِ، وَبَذْلِ الطَّعَامِ)).

وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ: ((عَلَيْكَ بِطِيبِ الْكَلَامِ، وَبَذْلِ السَّلَامِ، وَإِطْعَامِ الطَّعَامِ)).

وَأَصْلُ الطِّيبِ كَمَا يَقُولُ ابْنُ حَجَرٍ: ((مَا تَسْتَلِذُّهُ الْحَوَاسُّ، وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مُتَعَلَّقِهِ)).

وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: ((طِيبُ الْكَلَامِ مِنْ جَلِيلِ عَمَلِ الْبِرِّ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت: 34]، وَالدَّفْعُ قَدْ يَكُونُ بِالْقَوْلِ كَمَا يَكُونُ بِالْفِعْلِ)).

عَلَيْكَ بِحُسْنِ الْكَلَامِ بَيْنَ الْأَنَامِ، وَبَذْلِ الطَّعَامِ لِلْخَاصِّ وَالْعَامِّ.

قَالُوا: ((وَحُسْنُ الْكَلَامِ أَنْ يَزِنَ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ قَبْلَ النُّطْقِ بِهِ بِمِيزَانِ الْعَقْلِ، وَلَا يَتَكَلَّمَ إِلَّا بِمَا تَمَسُّ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ؛ فَقَدْ قِيلَ: لَا تُكْثِرِ الْكَلَامَ وَإِنْ كَانَ حَسَنًا؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَثُرَ سَمُجَ، وَلَا يَتَكَلَّمُ بِمَا يُحَرِّكُ النَّفْسَ وَيُثِيرُ الشَّرَّ؛ فَإِنَّهُ إِذَا صَدَرَ مِنْ نَفْسٍ ثَائِرَةٍ حَرَّكَ نَفْسَ الْمُخَاطَبِ وَإِنْ كَانَ كَلَامًا حَسَنًا، وَمَنْ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ فِيهِ خُشُونَةٌ عَنْ نَفْسٍ طَيِّبَةٍ لَا يُؤَثِّرُ إِزْعَاجًا)).

وَقَدْ قَالَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((مَغْرِسُ الْكَلَامِ الْقَلْبُ، وَمُسْتَوْدَعُهُ الْفِكْرُ، وَمُقَوِّيهِ الْقَلْبُ، وَمُبْدِؤُهُ اللِّسَانُ، وَجِسْمُهُ الْحُرُوفُ، وَرُوحُهُ الْمَعْنَى, وَحِلْيَتُهُ الْإِعْرَابُ)).

قَالُوا: ((وَلْيُحْذَرْ مِنْ فَاحِشِ الْكَلَامِ وَلَوْ عَلَى وَجْهِ الْحِكَايَةِ، وَفِي حَالِ الْقَبْضِ وَالْغَضَبِ؛ لِأَنَّهُ إِلَى الزَّلَلِ أَقْرَبُ، وَأَحْسَنُ ضَابِطٍ أَنْ يُقَالَ: لَا يُتَكَلَّمُ إِلَّا بِمَا تَمَسُّ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ، وَرُبَّ كَلَامٍ جَوَابُهُ السُّكُوتُ)).

((أَحْسَنُ الْكَلَامِ ذِكْرُ الْمَلِكِ الْعَلَّامِ))

إِنَّ أَحْسَنَ الْكَلَامِ وَأَجَلَّهُ وَأَعْظَمَهُ أَجْرًا وَأَحَبَّهُ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: ذِكْرُهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-؛ فَذِكْرُ اللهِ هُوَ عِمَارَةُ الْأَوْقَاتِ, وَبِهِ تَزُولُ الْهُمُومُ وَالْغُمُومُ وَالْكُدُورَاتُ, وَبِهِ تَحْصُلُ الْأَفرَاحُ وَالْمَسَرَّاتُ, وَهُوَ عِمَارَةُ الْقُلُوبِ الْمُقْفِرَاتِ, كَمَا أَنَّهُ غِرَاسُ الْجَنَّاتِ.

وَهُوَ مُوصِلٌ لِأَعْلَى الْمَقَامَاتِ, وَفِيهِ مِنَ الْفَوَائِدِ مَا لَا يُحْصَى, وَمِنَ الْفَضَائِلِ مَا لَا يُعَدُّ وَلَا يُسْتَقْصَى, قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب: 41-42].

يَقُولُ الرَّسُولُ ﷺ: ((مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُ رَبَّهُ؛ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ)).

فَالْإِنْسَانُ الَّذِي يَذْكُرُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-, وَيُدَاوِمُ عَلَى ذِكْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- حَيٌّ, حَيٌّ بِمَعْنَى الْحَيَاةِ الْحَقِيقِيَّةِ, وَأَمَّا الَّذِي لَا يَذْكُرُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ذِكْرًا كَثِيرًا, وَلَا يُقْبِلُ عَلَى ذِكْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَهُوَ مَيِّتٌ.

وَفِي ((صَحِيحَيِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ))  عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ العَظيمِ)).

وَفِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ))  عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَلَا أُخْبِرُكَ بِأَحَبِّ الْكَلامِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى؟

إِنَّ أَحَبَّ الْكَلامِ إِلَى اللهِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ)).

إِنَّ الذِّكْرَ مِنْ أَيْسَرِ الْأُمُورِ، لَا يَحْتَاجُ إِلَى بَذْلِ مَالٍ, وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى كَبِيرِ مَجْهُودٍ.

((أَحْسَنُ الْكَلَامِ وَالذِّكْرِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))

قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83].

قَالَ الطَّبَرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((عَنِ الضَّحَّاكِ, عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي قَوْلِهِ: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}، أَمَرَهُمْ أَنْ يَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا: أَنْ يَأْمُرُوا بِـ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) مَنْ لَمْ يَقُلْهَا وَرَغِبَ عَنْهَا، حَتَّى يَقُولُوهَا كَمَا قَالُوهَا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ قُرْبَةٌ مِنَ اللهِ -جَلَّ ثَنَاؤُهُ-، وَقَالَ الْحَسَنُ -أَيْضًا-: لِينُ الْقَوْلِ مِنَ الْأَدَبِ الْحَسَنِ الْجَمِيلِ وَالْخُلُقِ الْكَرِيمِ, وَهُوَ مِمَّا ارْتَضَاهُ اللهُ وَأَحَبَّهُ)).

إِنَّ أَوَّلَ وَاجِبٍ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَقُولَ: ((أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)), وَهِيَ آخِرُ مَا يَخْرُجُ بِهِ الْعَبْدُ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى يَسْلَمَ؛ ((مَنْ كَانَ آخِرَ كَلَامِهِ مِنَ الدُّنْيَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ دَخَلَ الْجَنَّةَ)) .

 فَهِيَ أَوَّلُ مَا يَدْخُلُ بِهِ الدِّينَ, وَآخِرُ مَا يُفَارِقُ عَلَيْهِ الْحَيَاةَ, وَهُوَ يَحْيَا بَيْنَ هَاتَيْنِ الْغَايَتَيْنِ, بَيْنَ الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ مِنْ أَجْلِ تَحْقِيقِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ وَهِيَ نَفْيٌ: لَا إِلَهَ, وَإِثْبَاتٌ: إِلَّا اللهُ.

فَأَوَّلُ وَاجِبٍ عَلَى الإنسَانِ مَعْرِفَةُ مَعْنَى هَذِهِ الكَلِمَةِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى لِنَبيِّه ﷺ: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19]، أَي: فَاعْلَمْ -يَا مُحَمَّدُ- أنَّهُ لَا مَعْبُودَ بِحَقٍّ إلَّا اللهُ.

فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) أَوَّلُ الوَاجِبَاتِ:

فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ  مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى اليَمَنِ قَالَ لَهُ: ((إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)).

وَفِي رِوَايَةٍ: ((أَنْ يُوَحِّدُوا اللهَ)).

قَالَ شَيْخُ الإسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَقَد عُلِمَ بالاضْطِرَارِ مِن دِينِ الرَّسُولِ ﷺ، وَاتَّفَقَتْ عَلَيهِ الأمَّةُ: أنَّ أَصْلَ الإسْلَامِ، وَأَوَّلَ مَا يُؤْمَرُ بِهِ الخَلْقُ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ.

فَبِذَلِكَ يَصِيرُ الكَافِرُ مُسْلِمًا، وَالعَدُوُّ وَلِيًّا، وَالمُبَاحُ دَمُهُ وَمَالُهُ مَعْصُومَ الدَّمِ وَالمَالِ.

ثُمَّ إِنْ كَانَ ذَلِكَ مِن قَلْبِهِ؛ فَقَد دَخَلَ فِي الإيمَانِ، وَإِن قَالَهُ بِلِسَانِهِ دُونَ قَلْبِهِ، فَهُو فِي ظَاهِرِ الإسْلَامِ دُونَ بَاطِنِ الإيمَانِ)).

لَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ فَضْلَ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، وَفَضْلَ الذِّكْرِ بِهَا، مَعَ تَحْقِيقِهَا، وَالصِّدْقِ فِيهَا، وَالإِخْلَاصِ، مَعَ المَحَبَّةِ لَهَا، وَمُوَالَاةِ أَهْلِهَا.

*فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ فَضْلَ الصِّدْقِ فِيهَا:

فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ  مِنْ رِوَايَةِ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ إِلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ)).

*وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ صَاحِبَ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) مَعْصُومُ الدَّمِ وَالمَالِ:

فَعَنْ طَارِقِ بْنِ أَشْيَمَ الأَشْجَعِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ؛ حَرُمَ مَالُهُ وَدَمُهُ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ .

*وَقَد عَلَّقَ النَّبيُّ ﷺ عِصْمَةَ المَالِ وَالدَّمِ بِأَمْرَينِ:

الأوَّلُ: قَولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ.

وَالثَّانِي: الكُفْرُ بِمَا يُعْبَدُ مِن دُونِ اللهِ، فَلَمْ يَكْتَفِ بِاللَّفْظِ المُجَرَّدِ عَن المَعْنَى، بَل لَابُدَّ مِن قَولِهَا وَالعَمَلِ بِهَا.

وَهَذَا مِن أَعْظَمِ مَا يبيِّنُ مَعْنَى ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، فَإنَّهُ لَم يَجْعَلِ التَّلَفُّظَ بِهَا عَاصِمًا للدَّمِ وَالمَالِ، بَلْ وَلَا مَعْرِفَةَ مَعْنَاهَا مَع التَّلفُّظِ بِهَا، بَلْ وَلَا الإقْرَارَ بِذَلِكَ، بَلْ وَلَا كَونَهُ لَا يَدْعُو إلَّا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، بَل لَا يَحْرُمُ دَمُهُ وَمَالُهُ حَتَّى يُضِيفَ إِلَى ذَلِكَ الكُفْرَ بِمَا يُعْبَدُ مِن دُونِ اللهِ، فَإِنْ شَكَّ أَو تَرَدَّدَ؛ لَم يَحْرُمْ مَالُهُ وَدَمُهُ.

*وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) يُرِيدُ بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ:

كَمَا فِي ((الصَّحِيحَينِ)) , مِنْ رِوَايَةِ: عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؛ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ)).

قَولُهُ ﷺ: ((فَإِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ))؛ أَي: مَنَعَ مِن النَّارِ، أَو مَنَعَ النَّارَ أَنْ تُصِيبَهُ.

قَولُهُ ﷺ: ((مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))؛ أَي: بِشَرْطِ الإخْلَاصِ.

*وَمَنْ أَتَى بِشَرْطِ العِلْمِ دَخَلَ الجَنَّةَ:

فَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ  مِنْ رِوَايَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؛ دَخَلَ الْجَنَّةَ)).

يَنْبَغِي أَن يَعْلَمَ الشَّاهِدُ بـ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) مَعْنَاهَا.

وَهَذِهِ الكَلِمَةُ العَظِيمَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الكُفْرِ بِالطَّاغُوتِ، وَالإيمَانِ باللهِ، فَإِنَّ مَنْ نَفَى الإلَهِيَّةَ، وَأَثْبَتَ الإيجَابَ للهِ سُبْحَانَهُ؛ كَانَ مِمَّنْ كَفَرَ بِالطَّاغُوتِ، وَآمَنَ باللهِ.

وَالإلَهُ: هُو المَعْبُودُ المُطَاعُ، وَهُو الَّذِي يُطاعُ فَلَا يُعْصَى هيبةً لَهُ وَإِجْلَالًا، وَمَحَبَّةً، وَخَوْفًا، وَرَجَاءً، وَتَوَكُّلًا عَلَيهِ، وَسُؤَالًا مِنْهُ، وَدُعَاءً لَهُ، وَلَا يَصْلُحُ ذَلِكَ كُلُّهُ إلَّا للهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

فَمَنْ أَشْرَكَ مَخْلُوقًا فِي شَيءٍ مِن هَذِهِ الأمُورِ الَّتِي هِي مِن خَصَائِصِ الألُوهِيَّة؛ كَانَ ذَلِكَ قَدْحًا فِي قَولِ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، وَنَقْصًا فِي تَوْحِيدِهِ، وَكَانَ فِيهِ مِن عُبُودِيَّةِ المَخْلُوقِ بحَسَبِ مَا فِيهِ مِن ذَلِكَ، وَهَذَا كُلُّهُ مِن فُرُوعِ الشِّرْكِ.

وَعُبَّادُ القُبُورِ لَم يَعْرِفُوا مَعْنَى هَذِهِ الكَلِمَةِ، وَلَا عَرَفُوا الإلَهِيَّةَ المَنْفِيَّةَ عَن غَيرِ اللهِ، الثَّابِتَةَ لَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.

*ومَنْ أَتَى بِشَرْطِ الإِخْلَاصِ؛ فَهُوَ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَةِ النَّبِيِّ ﷺ يَوْمَ القِيَامَةِ:

فَقَدْ أَخْرَجَ البُخَارِيُّ , مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ: مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؛ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ)).

وَمَنْ قَالَهَا، وَأَتَى بِشَرْطِ اليَقِينِ فِيهَا؛ فَقَدْ بَشَّرَهُ النَّبِيُّ ﷺ بِالجَنَّةِ، كَمَا فِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) , مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ لَقِيتَ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْحَائِطِ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ؛ فَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ)).

 ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) أَعْلَى مَرَاتِبِ الإِيمَانِ:

كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) , مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً -وَهَذِهِ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ- أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً؛ فَأَفْضَلُهَا: قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ -هِيَ أَعْلَى مَرَاتِبِ الإِيمَانِ-، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ)).

فـ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) أَعْلَى مَرَاتِبِ الإِيمَانِ.

((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) سَبَبٌ لِدُخُولِ الجَنَّةِ، وَالنَّجَاةِ مِن النَّارِ، وَمُقْتَضٍ لِذَلِكَ، وَلَكِنَّ المُقْتَضِي لَا يَعْمَلُ عَمَلَهُ إلَّا باسْتِجْمَاعِ شُرُوطِهِ وَانتِفَاءِ مَوَانعِهِ، فَقَد يَتَخلَّفُ عَنهُ مُقتَضَاهُ لِفَوَاتِ شَرْطٍ مِن شُرُوطِهِ أَو لوُجُودِ مَانِعٍ؛ وَلِهَذَا قِيلَ للحَسَنِ: إنَّ نَاسًا يَقُولُونَ: مَنْ قَالَ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا الله)) دَخَلَ الجَنَّةَ.

فَقَالَ: مَنْ قَالَ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا الله))، فَأَدَّى حَقَّهَا وفَرْضَهَا؛ دَخَلَ الجَنَّةَ.

وَقَالَ وَهْبُ بنُ مُنَبِّهٍ لِمَنْ سَأَلَهُ: أَلَيْسَ ((لَا إِلَهَ إِلَّا الله)) مِفْتَاحَ الجَنَّةِ؟

قَالَ: بَلَى؛ وَلَكِنْ مَا مِنْ مِفْتَاحٍ إلَّا وَلَهُ أَسْنَانٌ، فَإِن جِئْتَ بِمِفْتَاحٍ لَهُ أَسْنَانٌ؛ فُتِحَ لَكَ، وإلَّا لَم يُفْتَحْ .

((حُسْنُ الْكَلَامِ مَعَ عُمُومِ النَّاسِ))

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! إِنَّ ((خَيْرَ الْأَلْسُنِ الْمَخْزُونُ, وَخَيْرَ الْكَلَامِ الْمَوْزُونُ, فَحَدِّثْ إِنْ حَدَّثْتَ بِأَفْضَلَ مِنَ الصَّمْتِ, وَزَيِّنْ حَدِيثَكَ بِالْوَقَارِ وَحُسْنِ السَّمْتِ)).

إِنَّ الطَّيْشَ فِي الْكَلَامِ يُتَرْجِمُ عَنْ خِفَّةِ الْأَحْلَامِ، وَمَا دَخَلَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَمَا زَانَ الْمُتَكَلِّمَ إِلَّا الرَّزَانَةُ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((اعْلَمْ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِكُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَحْفَظَ لِسَانَهُ عَنْ جَمِيعِ الْكَلَامِ؛ إِلَّا كَلَامًا تَظْهَرُ الْمَصْلَحَةُ فِيهِ، وَمَتَى اسْتَوَى الْكَلَامُ وَتَرْكُهُ فِي الْمَصْلَحَةِ؛ فَالسُّنَّةُ الْإِمْسَاكُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْجَرُّ الْكَلَامُ الْمُبَاحُ إِلَى حَرَامٍ أَوْ مَكْرُوهٍ، بَلْ هَذَا كَثِيرٌ، بَلْ هَذَا غَالِبٌ فِي الْعَادَةِ، وَالسَّلَامَةُ لَا يَعْدِلُهَا شَيْءٌ)).

إِنَّ الْكَلَامَ الطَّيِّبَ الْعَفَّ.. الْكَلَامَ اللَّيِّنَ يَجْمُلُ مَعَ الْجَمِيعِ، يَجْمُلُ مَعَ الْأَهْلِ وَالْأَصْدِقَاءِ وَعُمُومِ النَّاسِ إِلَّا مَا اقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ وَأَمَرَتِ الشَّرِيعَةُ بِالْغِلْظَةِ مَعَهُ وَالشِّدَّةِ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنكُمْ وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ} [البقرة: 83].

((وَاذْكُرُوا يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ حِينَ أَخَذْنَا عَلَيْكُمْ عَهْدًا مُؤَكَّدًا: بِأَنْ تَعْبُدُوا اللهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنْ تُحْسِنُوا لِلْوَالِدَيْنِ، وَلِلْأَقْرَبِينَ، وَلِلْأَوْلَادِ الَّذِينَ مَاتَ آبَاؤُهُمْ وَهُمْ دُونَ بُلُوغِ الْحُلُمِ، وَلِلْمَسَاكِينِ، وَأَنْ تَقُولُوا لِلنَّاسِ أَطْيَبَ الْكَلَامِ، مَعَ أَدَاءِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، ثُمَّ أَعْرَضْتُمْ وَنَقَضْتُمُ الْعَهْدَ -إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ ثَبَتَ عَلَيْهِ- وَأَنْتُمْ مُسْتَمِرُّونَ فِي إِعْرَاضِكُمْ)).

{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}: وَأَنْ تَقُولُوا لِلنَّاسِ أَطْيَبَ الْكَلَامِ.

((حُسْنُ الْكَلَامِ مَعَ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَهْلِ))

عِبَادَ اللهِ! وَإِذَا كَانَ لِينُ الْكَلَامِ يُطْلَبُ مَعَ الْجَمِيعِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مِنْ بَابِ أَوْلَى مَعَ أَصْحَابِ الْحُقُوقِ، وَمِنْ أَعْظَمِ هَؤُلَاءِ الْآبَاءُ وَالْأُمَّهَاتُ، يَقُولُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 23-24].

((لَمَّا نَهَى -تَعَالَى- عَنِ الشِّرْكِ بِهِ أَمَرَ بِالتَّوْحِيدِ فَقَالَ: {وَقَضَى رَبُّكَ} قَضَاءً دِينِيًّا وَأَمَرَ أَمْرًا شَرْعِيًّا {أَلا تَعْبُدُوا} أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ {إِلا إِيَّاهُ}؛ لِأَنَّهُ الْوَاحِدُ الْأَحَدُ الْفَرْدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَهُ كُلُّ صِفَةِ كَمَالٍ، وَلَهُ مِنْ تِلْكَ الصِّفَةِ أَعْظَمُهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يُشْبِهُهُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَهُوَ الْمُنْعِمُ بِالنِّعَمِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، الدَّافِعُ لِجَمِيعِ النِّقَمِ، الْخَالِقُ الرَّازِقُ الْمُدَبِّرُ لِجَمِيعِ الْأُمُورِ، فَهُوَ الْمُتَفَرِّدُ بِذَلِكَ كُلِّهِ، وَغَيْرُهُ لَيْسَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ.

ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ حَقِّهِ الْقِيَامَ بِحَقِّ الْوَالِدَيْنِ فَقَالَ: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} أَيْ: أَحْسِنُوا إِلَيْهِمَا بِجَمِيعِ وُجُوهِ الْإِحْسَانِ الْقَوْلِيِّ وَالْفِعْلِيِّ؛ لِأَنَّهُمَا سَبَبُ وُجُودِ الْعَبْدِ، وَلَهُمَا مِنَ الْمَحَبَّةِ لِلْوَلَدِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ وَالْقُرْبِ مَا يَقْتَضِي تَأَكُّدَ الْحَقِّ وَوُجُوبَ الْبِرِّ.

{إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا} أَيْ: إِذَا وَصَلَا إِلَى هَذَا السِّنِّ الَّذِي تَضْعُفُ فِيهِ قُوَاهُمَا وَيَحْتَاجَانِ مِنَ اللُّطْفِ وَالْإِحْسَانِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}: وَهَذَا أَدْنَى مَرَاتِبِ الْأَذَى نَبَّهَ بِهِ عَلَى مَا سِوَاهُ، وَالْمَعْنَى لَا تُؤْذِهِمَا أَدْنَى أَذِيَّةٍ {وَلا تَنْهَرْهُمَا} أَيْ: تَزْجُرْهُمَا وَتَتَكَلَّمْ لَهُمَا كَلَامًا خَشِنًا، {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا}: بِلَفْظٍ يُحِبَّانِهِ، وَتَأَدَّبْ وَتَلَطَّفْ بِكَلَامٍ لَيِّنٍ حَسَنٍ يَلَذُّ عَلَى قُلُوبِهِمَا وَتَطْمَئِنُّ بِهِ نُفُوسُهُمَا، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْعَوَائِدِ وَالْأَزْمَانِ.

{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} أَيْ: تَوَاضَعْ لَهُمَا؛ ذُلًّا لَهُمَا، وَرَحْمَةً، وَاحْتِسَابًا لِلْأَجْرِ، لَا لِأَجْلِ الْخَوْفِ مِنْهُمَا، أَوِ الرَّجَاءِ لِمَا لَهُمَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْمَقَاصِدِ الَّتِي لَا يُؤْجَرُ عَلَيْهَا الْعَبْدُ.

{وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا} أَيِ: ادْعُ لَهُمَا بِالرَّحْمَةِ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا؛ جَزَاءً عَلَى تَرْبِيَتِهِمَا إِيَّاكَ صَغِيرًا.

وَفُهِمَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ كُلَّمَا ازْدَادَتِ التَّرْبِيَةُ ازْدَادَ الْحَقُّ، وَكَذَلِكَ مَنْ تَوَلَّى تَرْبِيَةَ الْإِنْسَانِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ تَرْبِيَةً صَالِحَةً غَيْرَ الْأَبَوَيْنِ فَإِنَّ لَهُ عَلَى مَنْ رَبَّاهُ حَقَّ التَّرْبِيَةِ)).

فَأَمَرَ اللهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بِحُسْنِ الْكَلَامِ وَلِينِهِ مَعَ الْوَالِدَيْنِ: {فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}، {وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا}.

وَأَمَرَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِحُسْنِ الْكَلَامِ مَعَ الزَّوْجَةِ، وَمُجَانَبَةِ بَذَاءَةِ اللِّسَانِ مَعَهَا، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19].

(({وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}: هَذَا يَشْمَلُ الْمُعَاشَرَةَ الْقَوْلِيَّةَ وَالْفِعْلِيَّةَ، فَعَلَى الزَّوْجِ أَنْ يُعَاشِرَ زَوْجَتَهُ بِالْمَعْرُوفِ، مِنَ الصُّحْبَةِ الْجَمِيلَةِ، وَكَفِّ الْأَذَى وَبَذْلِ الْإِحْسَانِ، وَحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ)).

مِنْ أَهَمِّ الْأُمُورِ الَّتِي انْتَشَرَتْ فِي أَوْسَاطِ بَعْضِ الْأُسَرِ الْمُسْلِمَةِ مِنَ الْمُخَالَفَاتِ فِي تِلْكَ الْمُعَامَلَةِ الْحَسَنَةِ الَّتِي أُمِرْنَا بِهَا: بَذَاءَةُ اللِّسَانِ، وَتَقْبِيحُ الْمَرْأَةِ خِلْقَةً وَخُلُقًا، وَالتَّأَفُّفُ مِنْ أَهْلِهَا بِذِكْرِ نَقَائِصِهِمْ وَعُيُوبِهِمْ، مَعَ سَبِّهَا وَشَتْمِهَا، وَمُنَادَاتِهَا بِالْأَسْمَاءِ وَالْأَلْقَابِ الْقَبِيحَةِ.

وَمِنْ ذَلِكَ: إِظْهَارُ النُّفُورِ وَالِاشْمِئْزَازِ مِنْهَا.

وَمِنْ ذَلِكَ -أَيْضًا-: تَجْرِيحُهَا بِذِكْرِ مَحَاسِنِ نِسَاءٍ أُخَرَ، وَأَنَّهُنَّ أَجْمَلُ وَأَفْضَلُ، وَأَحْلَى وَأَكْمَلُ!! وَذَلِكَ يُكَدِّرُ خَاطِرَهَا فِي أَمْرٍ لَيْسَ لَهَا فِيهِ يَدٌ.

وَمِنَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى شُعُورِ الزَّوْجَةِ، وَمِنْ إِكْرَامِهَا: مُنَادَاتُهَا بِأَحَبِّ أَسْمَائِهَا إِلَيْهَا، وَإِلْقَاءُ السَّلَامِ عَلَيْهَا حِينَ دُخُولِ الْمَنْزِلِ، وَالتَّوَدُّدُ إِلَيْهَا بِالْهَدِيَّةِ وَالْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ.

قَالَ ﷺ: ((أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ.

((التَّلَطُّفُ وَحُسْنُ الْكَلَامِ مَعَ أَصْحَابِ الْحَاجَاتِ))

وَيَنْبَغِي التَّلَطُّفُ وَحُسْنُ الْكَلَامِ مَعَ أَصْحَابِ الْحَاجَاتِ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ مِنَ الضُّعَفَاءِ فِي الْمُجْتَمَعِ، وَاللهُ -جَلَّ وَعَلَا- يَقُولُ لِنَبِيِّهِ ﷺ: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} [الضحى: 9-10].

(({فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} أَيْ: لَا تُسِئْ مُعَامَلَةَ الْيَتِيمِ، وَلَا يَضِقْ صَدْرُكَ عَلَيْهِ، وَلَا تَنْهَرْهُ، بَلْ أَكْرِمْهُ، وَأَعْطِهِ مَا تَيَسَّرَ، وَاصْنَعْ بِهِ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُصْنَعَ بِوَلَدِكَ مِنْ بَعْدِكَ.

{وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} أَيْ: لَا يَصْدُرْ مِنْكَ كَلَامٌ لِلسَّائِلِ يَقْتَضِي رَدَّهُ عَنْ مَطْلُوبِهِ بِنَهْرٍ وَشَرَاسَةِ خُلُقٍ، بَلْ أَعْطِهِ مَا تَيَسَّرَ عِنْدَكَ أَوْ رُدَّهُ بِمَعْرُوفٍ وَإِحْسَانٍ، وَيَدْخُلُ فِي هَذَا السَّائِلُ لِلْمَالِ، وَالسَّائِلُ لِلْعِلْمِ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْمُعَلِّمُ مَأْمُورًا بِحُسْنِ الْخُلُقِ مَعَ الْمُتَعَلِّمِ، وَمُبَاشَرَتِهِ بِالْإِكْرَامِ وَالتَّحَنُّنِ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ مَعُونَةً لَهُ عَلَى مَقْصِدِهِ، وَإِكْرَامًا لِمَنْ كَانَ يَسْعَى فِي نَفْعِ الْعِبَادِ وَالْبِلَادِ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا} [النساء: 5].

((السُّفَهَاءُ: جَمْعُ (سَفِيهٍ) وَهُوَ: مَنْ لَا يُحْسِنُ التَّصَرُّفَ فِي الْمَالِ؛ إِمَّا لِعَدَمِ عَقْلِهِ كَالْمَجْنُونِ وَالْمَعْتُوهِ، وَنَحْوِهِمَا، وَإِمَّا لِعَدَمِ رُشْدِهِ كَالصَّغِيرِ وَغَيْرِ الرَّشِيدِ.

فَنَهَى اللَّهُ الْأَوْلِيَاءَ أَنْ يُؤْتُوا هَؤُلَاءِ أَمْوَالَهُمْ خَشْيَةَ إِفْسَادِهَا وَإِتْلَافِهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْأَمْوَالَ قِيَامًا لِعِبَادِهِ فِي مَصَالِحِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَهَؤُلَاءِ لَا يُحْسِنُونَ الْقِيَامَ عَلَيْهَا وَحِفْظَهَا، فَأَمَرَ الْوَلِيَّ أَلَّا يُؤْتِيَهُمْ إِيَّاهَا، بَلْ يَرْزُقُهُمْ مِنْهَا وَيَكْسُوهُمْ، وَيَبْذُلُ مِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِضَرُورَاتِهِمْ وَحَاجَاتِهِمُ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَأَنْ يَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا، بِأَنْ يَعِدُوهُمْ -إِذَا طَلَبُوهَا- أَنَّهُمْ سَيَدْفَعُونَهَا لَهُمْ بَعْدَ رُشْدِهِمْ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَيَلْطُفُوا لَهُمْ فِي الْأَقْوَالِ جَبْرًا لِخَوَاطِرِهِمْ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى ۗ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} [البقرة: 263].

((ذَكَرَ اللَّهُ أَرْبَعَ مَرَاتِبَ لِلْإِحْسَانِ:

الْمَرْتَبَةُ الْعُلْيَا: النَّفَقَةُ الصَّادِرَةُ عَنْ نِيَّةٍ صَالِحَةٍ، وَلَمْ يُتْبِعْهَا الْمُنْفِقُ مَنًّا وَلَا أَذًى.

ثُمَّ يَلِيهَا قَوْلُ الْمَعْرُوفِ، وَهُوَ: الْإِحْسَانُ الْقَوْلِيُّ بِجَمِيعِ وُجُوهِهِ، الَّذِي فِيهِ سُرُورُ الْمُسْلِمِ، وَالِاعْتِذَارُ مِنَ السَّائِلِ إِذَا لَمْ يُوَافِقْ عِنْدَهُ شَيْئًا، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِ الْمَعْرُوفِ.

وَالثَّالِثَةُ: الْإِحْسَانُ بِالْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ عَمَّنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ.

وَهَذَانِ أَفْضَلُ مِنَ الرَّابِعَةِ وَخَيْرٌ مِنْهَا وَهِيَ الَّتِي يُتْبِعُهَا الْمُتَصَدِّقُ الْأَذَى لِلْمُعْطَى، لِأَنَّهُ كَدَّرَ إِحْسَانَهُ وَفَعَلَ خَيْرًا وَشَرًّا.

فَالْخَيْرُ الْمَحْضُ- وَإِنْ كَانَ مَفْضُولًا- خَيْرٌ مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي يُخَالِطُهُ شَرٌّ وَإِنْ كَانَ فَاضِلًا، وَفِي هَذَا التَّحْذِيرُ الْعَظِيمُ لِمَنْ يُؤْذِي مَنْ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ، كَمَا فَعَلَهُ أَهْلُ اللُّؤْمِ وَالْحُمْقِ وَالْجَهْلِ.

وَاللَّهُ -تَعَالَى- غَنِيٌّ عَنْ صَدَقَاتِهِمْ، وَعَنْ جَمِيعِ عِبَادِهِ، حَلِيمٌ مَعَ كَمَالِ غِنَاهُ وَسَعَةِ عَطَايَاهُ، يَحْلُمُ عَنِ الْعَاصِينَ، وَلَا يُعَاجِلُهُمْ بِالْعُقُوبَةِ، بَلْ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ، وَيُدِرُّ عَلَيْهِمْ خَيْرَهُ، وَهُمْ مُبَارِزُونَ لَهُ بِالْمَعَاصِي)).

وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلًا مَّيْسُورًا} [الإسراء: 28].

((يَقُولُ -تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَإِنْ تُعْرِضْ -يَا مُحَمَّدُ- عَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَمَرْتُكَ أَنْ تُؤْتِيَهُمْ حُقُوقَهُمْ إِذَا وَجَدْتَ إِلَيْهَا السَّبِيلَ بِوَجْهِكَ عِنْدَ مَسْأَلَتِهِمْ إِيَّاكَ مَا لَا تَجِدُ إِلَيْهِ سَبِيلًا حَيَاءً مِنْهُمْ وَرَحْمَةً لَهُمْ {ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ} يَقُولُ: انْتِظَارَ رِزْقٍ تَنْتَظِرُهُ مِنْ عِنْدِ رَبِّكَ، وَتَرْجُو تَيْسِيرَ اللَّهِ إِيَّاهُ لَكَ، فَلَا تُؤْيِسْهُمْ، وَلَكِنْ قُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا: يَقُولُ: وَلَكِنْ عِدْهُمْ وَعْدًا جَمِيلًا بِأَنْ تَقُولَ: سَيَرْزُقُ اللَّهُ فَأُعْطِيكُمْ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْقَوْلِ اللَّيِّنِ غَيْرِ الْغَلِيظِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ-: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ})).

فَهَؤُلَاءِ أَصْحَابُ الْحَاجَاتِ يَنْبَغِي أَنْ يُتَلَطَّفَ بِهِمْ، وَأَلَّا يُذَلُّوا، وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْسَنَ مَعَهُمُ الْكَلَامُ، وَأَنْ يُتَرَفَّقَ بِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى: 10].

((وَأَمَّا مَنْ سَأَلَكَ مِنْ ذِي حَاجَةٍ فَلَا تَنْهَرْهُ)).

((حُسْنُ الْكَلَامِ فِي مَقَامِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ))

إِنَّ مِنَ الْمَقَامَاتِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي تَتَطَلَّبُ حُسْنَ الْكَلَامِ وَسَدِيدَ الْقَوْلِ مَعَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ: الدَّعْوَةَ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، قَالَ تَعَالَى:  {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125].

يَدْعُو الْمُسْلِمُ إِلَى اللهِ بِمَا يَسْتَطِيعُ، وَبِالْحُسْنَى الَّتِي لَا أَحْسَنَ مِنْهَا: {وَجَادِلْهُم}: وَهَذَا هُوَ فِي الْمَقَامِ الْأَخِيرِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُجَادَلُ إِنْ كَانَ فِيهِ خَيْرٌ فَهُوَ يُوعَظُ، كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} الْحِكْمَةُ: الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَهِيَ السُّنَّةُ كَمَا فِي كِتَابِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَبِالطَّرِيقَةِ الْمُسْتَقِيمَةِ، وَوَضْعِ الشَّيْءِ فِي مَوْضِعِهِ، {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ}.

فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُجْدِيًا مُتَقَبَّلًا لِلْوَهْلَةِ الْأُولَى بَادِيَ الرَّأْيِ، وَوَجَدْتَ الْخَيْرَ هُنَالِكَ، وَهَذَا مِنْ كَيْفِيَّةِ الدَّعْوَةِ، وَمِنْ مَعْرِفَةِ حَالِ الْمَدْعُوِّ -أَيْضًا-؛ فَسَتَجِدُ هُنَالِكَ عَلَائِمَ الْخَيْرِ، وَتَجِدُ هُنَالِكَ مُنْتَفِيًا مُنْتَبِذًا مَقَاذِيرَ الشَّرِّ، وَحِينَئِذٍ تُقْبِلُ بِالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ تَرْغِيبًا وَتَرْهِيبًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ؛ أَصَرَّ الْمُعَانِدُ عَلَى الْجِدَالِ؛ فَلْيَكُنِ الْجِدَالُ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ

{وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}: وَحَذَفَ الْمُفَضَّلَ عَلَيْهِ لِلتَّعْمِيمِ، يَعْنِي: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، لَا أَحْسَنَ مِنْهَا قَطُّ.

فَذَلِكَ سَبِيلُ نَبِيِّنَا ﷺ.

وَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].

((أَيْ: بِرَحْمَةِ اللَّهِ لَكَ وَلِأَصْحَابِكَ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ أَنْ أَلَنْتَ لَهُمْ جَانِبَكَ، وَخَفَضْتَ لَهُمْ جَنَاحَكَ، وَتَرَقَّقْتَ عَلَيْهِمْ، وَحَسَّنْتَ لَهُمْ خُلُقَكَ، فَاجْتَمَعُوا عَلَيْكَ، وَأَحَبُّوكَ، وَامْتَثَلُوا أَمْرَكَ.

{وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا} أَيْ: سَيِّئَ الْخُلُقِ {غَلِيظَ الْقَلْبِ} أَيْ: قَاسِيَهُ، {لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}؛ لِأَنَّ هَذَا يُنَفِّرُهُمْ وَيُبَغِّضُهُمْ لِمَنْ قَامَ بِهِ هَذَا الْخُلُقُ السَّيِّئُ، فَالْأَخْلَاقُ الْحَسَنَةُ مِنَ الْمُقَدَّمِ فِي الدِّينِ تَجْذِبُ النَّاسَ إِلَى دِينِ اللَّهِ، وَتُرَغِّبُهُمْ فِيهِ، مَعَ مَا لِصَاحِبِهِ مِنَ الْمَدْحِ وَالثَّوَابِ الْخَاصِّ، وَالْأَخْلَاقُ السَّيِّئَةُ مِنَ الْمُقَدَّمِ فِي الدِّينِ تُنَفِّرُ النَّاسَ عَنِ الدِّينِ، وَتُبَغِّضُهُمْ إِلَيْهِ، مَعَ مَا لِصَاحِبِهَا مِنَ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ الْخَاصِّ، فَهَذَا الرَّسُولُ الْمَعْصُومُ يَقُولُ اللَّهُ لَهُ مَا يَقُولُ، فَكَيْفَ بِغَيْرِهِ؟!

أَلَيْسَ مِنْ أَوْجَبِ الْوَاجِبَاتِ وَأَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ الِاقْتِدَاءُ بِأَخْلَاقِهِ الْكَرِيمَةِ، وَمُعَامَلَةُ النَّاسِ بِمَا يُعَامِلُهُمْ بِهِ ﷺ مِنَ اللِّينِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ وَالتَّأْلِيفِ؛ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ، وَجَذْبًا لِعِبَادِ اللَّهِ لِدِينِ اللَّهِ.

ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ -تَعَالَى- بِأَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ مَا صَدَرَ مِنْهُمْ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي حَقِّهِ ﷺ، وَيَسْتَغْفِرَ لَهُمْ فِي التَّقْصِيرِ فِي حَقِّ اللَّهِ، فَيَجْمَعُ بَيْنَ الْعَفْوِ وَالْإِحْسَانِ.

{وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} أَيِ: الْأُمُورِ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى اسْتِشَارَةٍ وَنَظَرٍ وَفِكْرٍ؛ فَإِنَّ فِي الِاسْتِشَارَةِ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ مَا لَا يُمْكِنُ حَصْرُهُ)).

 ((مِنْ حُسْنِ الْكَلَامِ: مُجَانَبَةُ آفَاتِ اللِّسَانِ))

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! لَقَدْ جَاءَتِ الشَّرِيعَةُ وَحَثَّتْ عَلَى اخْتِيَارِ الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ، وَأَمَرَتْ بِحُسْنِ الْكَلَامِ، وَنَهَتْ عَنِ الضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83]، فَمَنْ أَرَادَ امْتِثْالَ أَمْرِ اللهِ بِلُزُومِ حُسْنِ الْكَلَامِ، وَطِيبِ الْقَوْلِ، وَسَدِيدِ الْمَنْطِقِ؛ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَجَنَّبَ فُحْشَ الْقَوْلِ، وَجَمِيعَ آفَاتِ اللِّسَانِ؛ فَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «مَا شَيْءٌ أَثْقَلَ فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ، وَإِنَّ اللهَ لَيُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ».

لُزُومُ حُسْنِ الْكَلَامِ يَقْتَضِي مُجَانَبَةَ آفَاتِ اللِّسَانِ، وَمِنْ آفَاتِ اللِّسَانِ الَّتِي نَهَى اللهُ عَنْهَا، وَحَذَّرَ مِنْهَا رَسُولُهُ ﷺ: الْكَذِبُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الفُجُورِ، وَإِنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا)). وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

وَالْكَذِبُ مِنَ الْأُمُورِ الْمُحَرَّمَةِ؛ بَلْ هُوَ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ ﷺ تَوَعَّدَ الْكَذَّابَ بِأَنَّهُ يُكْتَبُ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا.

وَمِنْ آفَاتِ اللِّسَانِ الَّتِي حَرَّمَهَا دِينُ الْإِسْلَامِ: السَّبُّ، وَاللَّعْنُ, وَالْبَذَاءُ, وَالْهُجَرُ مِنَ الْقَوْلِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((الْمُسْتَبَّانِ مَا قَالَا، فَعَلَى الْبَادِئِ مِنْهُمَا حَتَّى يَتَعَدَّى الْمَظْلُومُ)) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ)) . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((لَا يَنْبَغِي لِصِدِّيقٍ أَنْ يَكُونَ لَعَّانًا)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ.

إِنَّ مِنْ أَخْطَرِ آفَاتِ اللِّسَانِ الَّتِي حَذَّرَ مِنْهَا وَنَهَى عَنْهَا دِينُ الْإِسْلَامِ: الْغِيبَةُ، وَهِيَ: ذِكْرُ الْعَيْبِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ, ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ؛ سَوَاءٌ أَكَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ أَمْ لَمْ يَكُنْ.

فَهَكَذَا بَيَّنَهَا الرَّسُولُ ﷺ, قَالَ عَنِ الْغِيبَةِ: ((ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ)).

قِيلَ: ((أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟)).

قَالَ: ((إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْحُجُرَاتِ: ((وَالْغِيبَةُ مُحَرَّمَةٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا رَجَحَتْ مَصْلَحَتُهُ، كَمَا فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَالنَّصِيحَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ)).

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ((الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهَا مِنَ الْكَبَائِرِ, وَأَنَّهُ يَجِبُ التَّوْبَةُ مِنْهَا إِلَى اللهِ -تَعَالَى-)).

وَهَذَا بَيِّنٌ وَاضِحٌ فِي قَوْلِهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12].

((ثَمَرَاتُ حُسْنِ الْكَلَامِ))

إِنَّ الْكَلَامَ الطَّيِّبَ وَالْقَوْلَ اللَّيِّنَ لَهُ ثِمَارُهُ الطَّيِّبَةُ، وَظِلَالُهُ الْوَارِفَةُ، أَمَّا مَعَ الْأَصْدِقَاءِ فَإِنَّهُ تُسْتَدَامُ بِهِ الصَّدَاقَةُ، وَيُدْفَعُ بِهِ كَيْدُ الشَّيْطَانِ،  وَأَمَّا مَعَ الْأَعْدَاءِ فَإِنَّهُ يُطْفِئُ نَارَ الْعَدَاوَةِ، وَيَكْسِرُ حِدَّتَهَا، وَمَنْ لَانَتْ كَلِمَتُهُ وَجَبَتْ مَحَبَّتُهُ؛ فَالنَّاسُ يُحِبُّونَ وَيَمِيلُونَ إِلَى مَنْ يَتَلَطَّفُ بِهِمْ بِالْقَوْلِ، وَيَنْفِرُونَ غَايَةَ النُّفُورِ مِمَّنْ يُخَاشِنُهُمْ فِي الْكَلَامِ، وَيَزْجُرُهُمْ فِي الْمُخَاطَبَةِ، قَالَ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34].

((ادْفَعْ بِعَفْوِكَ وَحِلْمِكَ وَإِحْسَانِكَ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ، وَقَابِلْ إِسَاءَتَهُ لَكَ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، فَبِذَلِكَ يَصِيرُ الْمُسِيءُ إِلَيْكَ الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ قَرِيبٌ لَكَ شَفِيقٌ عَلَيْكَ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ ۚ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 96].

((إِذَا أَسَاءَ إِلَيْكَ أَعْدَاؤُكَ -أَيُّهَا الرَّسُولُ- بِالْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ فَلَا تُقَابِلْهُمْ بِالْإِسَاءَةِ، وَلَكِنِ ادْفَعْ إِسَاءَتَهُمْ بِالْإِحْسَانِ مِنْكَ إِلَيْهِمْ، نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُهُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الشِّرْكِ وَالتَّكْذِيبِ، وَسَنُجَازِيهِمْ عَلَيْهِ أَسْوَأَ الْجَزَاءِ)).

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} [الإسراء: 53].

((وَقُلْ لِعِبَادِي الْمُؤْمِنِينَ يَقُولُوا فِي تَخَاطُبِهِمْ وَتَحَاوُرِهِمُ الْكَلَامَ الْحَسَنَ الطَّيِّبَ، فَإِنَّهُمْ إِنْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ أَلْقَى الشَّيْطَانُ بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْفَسَادَ وَالْخِصَامَ، إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا ظَاهِرَ الْعَدَاوَةِ)).

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «إِذَا حَسُنَتْ أَخْلَاقُ الْإِنْسَانِ كَثُرَ مُصَافُوهُ، وَقَلَّ مُعَادُوهُ، فَتَسَهَّلَتْ عَلَيْهِ الْأُمُورُ الصِّعَابُ، وَلَانَتْ لَهُ الْقُلُوبُ الْغِضَابُ)).

وَمِنْ ثَمَرَاتِ الْكَلَامِ الْحَسَنِ الطَّيِّبِ: الْفَلَاحُ وَالسَّعَادَةُ دُنْيَا وَآخِرَةً؛ فَقَدْ وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُعْرِضِينَ عَنِ الْبَاطِلِ وَهُوَ يَشْمَلُ الشِّرْكَ وَالْمَعَاصِيَ وَمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ.. وَعَدَهُمُ اللهُ بِالْفَلَاحِ وَالسَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 1-3].

((هَذَا تَنْوِيهٌ مِنَ اللَّهِ بِذِكْرِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَذِكْرِ فَلَاحِهِمْ وَسَعَادَتِهِمْ، وَبِأَيِّ شَيْءٍ وَصَلُوا إِلَى ذَلِكَ، وَفِي ضِمْنِ ذَلِكَ الْحَثُّ عَلَى الِاتِّصَافِ بِصِفَاتِهِمْ، وَالتَّرْغِيبُ فِيهَا؛ فَلْيَزِنِ الْعَبْدُ نَفْسَهُ وَغَيْرَهُ عَلَى هَذِهِ الْآيَاتِ يَعْرِفْ بِذَلِكَ مَا مَعَهُ وَمَا مَعَ غَيْرِهِ مِنَ الْإِيمَانِ؛ زِيَادَةً وَنَقْصًا، كَثْرَةً وَقِلَّةً.

فَقَوْلُهُ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} أَيْ: قَدْ فَازُوا وَسَعِدُوا وَنَجَحُوا، وَأَدْرَكُوا كُلَّ مَا يُرَامُ، الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ، الَّذِينَ مِنْ صِفَاتِهِمُ الْكَامِلَةِ أَنَّهُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ: وَالْخُشُوعُ فِي الصَّلَاةِ: هُوَ حُضُورُ الْقَلْبِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ -تَعَالَى-، مُسْتَحْضِرًا لِقُرْبِهِ، فَيَسْكُنُ لِذَلِكَ قَلْبُهُ، وَتَطْمَئِنُّ نَفْسُهُ، وَتَسْكُنُ حَرَكَاتُهُ، وَيَقِلُّ الْتِفَاتُهُ، مُتَأَدِّبًا بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ، مُسْتَحْضِرًا جَمِيعَ مَا يَقُولُهُ وَيَفْعَلُهُ فِي صَلَاتِهِ، مِنْ أَوَّلِ صَلَاتِهِ إِلَى آخِرِهَا، فَتَنْتَفِي بِذَلِكَ الْوَسَاوِسُ وَالْأَفْكَارُ الرَّدِيَّةُ، وَهَذَا رُوحُ الصَّلَاةِ وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا، وَهُوَ الَّذِي يُكْتَبُ لِلْعَبْدِ، فَالصَّلَاةُ الَّتِي لَا خُشُوعَ فِيهَا وَلَا حُضُورَ قَلْبٍ -وَإِنْ كَانَتْ مُجْزِيَةً مُثَابًا عَلَيْهَا- فَإِنَّ الثَّوَابَ عَلَى حَسَبِ مَا يَعْقِلُ الْقَلْبُ مِنْهَا.

{وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ}: وَهُوَ الْكَلَامُ الَّذِي لَا خَيْرَ فِيهِ وَلَا فَائِدَةَ {مُعْرِضُونَ}؛ رَغْبَةً عَنْهُ، وَتَنْزِيهًا لِأَنْفُسِهِمْ وَتَرَفُّعًا عَنْهُ، وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا، وَإِذَا كَانُوا مُعْرِضِينَ عَنِ اللَّغْوِ فَإِعْرَاضُهُمْ عَنِ الْمُحَرَّمِ مِنْ بَابِ أَوْلَى وَأَحْرَى، وَإِذَا مَلَكَ الْعَبْدُ لِسَانَهُ وَخَزَنَهُ -إِلَّا فِي الْخَيْرِ- كَانَ مَالِكًا لِأَمْرِهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ وَصَّاهُ بِوَصَايَا قَالَ: ((أَلَا أُخْبِرُكُ بِمِلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟))، قُلْتُ: ((بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ))، فَأَخَذَ بِلِسَانِ نَفْسِهِ وَقَالَ: ((كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا))، فَالْمُؤْمِنُونَ مِنْ صِفَاتِهِمُ الْحَمِيدَةِ كَفُّ أَلْسِنَتِهِمْ عَنِ اللَّغْوِ وَالْمُحَرَّمَاتِ)).

وَجَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْجَنَّةَ -وَهِيَ سِلْعَتُهُ الْغَالِيَةُ -جَلَّ وَعَلَا-- ثَمَرَةً لِمَنْ أَلَانَ الْكَلَامَ وَحَسَّنَهُ، قَالَ ﷺ: ((إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرَفًا يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا ، وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا، أَعَدَّهَا اللهُ لِمَنْ أَطْعَمَ الطَّعَامَ ، وَأَفْشَى السَّلَامَ، وَصَلَّى بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ)).

وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ هَانِئِ بْنِ يَزِيدَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَخْبِرْنِي بِأَيِّ شَيْءٍ يُوجِبُ لِيَ الْجَنَّةَ)).

قَالَ: ((عَلَيْكَ بِحُسْنِ الْكَلَامِ، وَبَذْلِ الطَّعَامِ)).

وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ: ((عَلَيْكَ بِطِيبِ الْكَلَامِ، وَبَذْلِ السَّلَامِ، وَإِطْعَامِ الطَّعَامِ)).

((رَحِمَ اللهُ رَجُلًا قَالَ خَيْرًا فَسَلِمَ أَوْ صَمَتَ فَغَنِمَ!))

عِبَادَ اللهِ! عَلَيْنَا أَنْ نَحْفَظَ أَلْسِنَتَنَا؛ لِنَحْفَظَ طَاقَةَ عُقُولِنَا، وَصَفَاءَ أَذْهَانِنَا؛ وَلْنَفْرُغْ لِذِكْرِ رَبِّنَا، وَعِبَادَةِ إِلَهِنَا؛ وَلِكَيْ يَنْقَطِعَ ذَلِكَ السَّيْلُ الْهَادِرُ الْجَارِفُ، مِمَّا يُمَزِّقُ الْعَلَاقَاتِ الِاجْتِمَاعِيَّةَ، وَيُنْشِئُ الْعَدَاوَاتِ الْأَثِيمَةَ فِي صُفُوفِ الْمُسْلِمِينَ؛ مِنَ الْغِيبَةِ، وَالنَّمِيمَةِ، وَالْكَذِبِ، وَالْبُهْتَانِ، وَالرِّيبَةِ، وَمَا أَشْبَهَ.

رَحِمَ اللهُ رَجُلًا قَالَ خَيْرًا فَسَلِمَ، أَوْ صَمَتَ فَغَنِمَ.

وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ، وَهُوَ حَسْبُنَا ونِعْمَ الْوَكِيلُ.

نَسْأَلُ اللهَ أَلَّا يُنْطِقَنَا إِلَّا بِخَيْرٍ، وَأَنْ يَكُفَّ أَلْسِنَتَنَا عَنِ الشَّرِّ كُلِّهِ؛ ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلَهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

 المصدر: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  «محمد أسد» وحقيقة الإسلام
  أَهْلُ الِاسْتِجَابَةِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ
  تَكْرِيمُ المَرْأَةِ فِي الإِسْلَامِ وَدَوْرُهَا فِي بِنَاءِ المُجْتَمَعِ
  حُقُوقُ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ وَحُرْمَةُ قَتْلِ السَّائِحِينَ وَالْمَدَنِيِّينَ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ
  وا خوفاه على مصر !!
  عاشوراء والإخوان
  حَقُّ الطِّفْلِ وَالنَّشْءِ وَرِعَايَتُهُ بَيْنَ الضَّرُورِيَّاتِ وَالْحَاجِيَّاتِ وَالتَّحْسِينِيَّاتِ
  الشيعة في مصر
  سُنَنُ العِيدِ وَآدَابُهُ
  الْحَمْدُ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان