تَطْبِيقَاتُ حُسْنِ الْخُلُقِ

تَطْبِيقَاتُ حُسْنِ الْخُلُقِ

((تَطْبِيقَاتُ حُسْنِ الْخُلُقِ))

 

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((حُسْنُ الْخُلُقِ مَقْصِدُ إِرْسَالِ النَّبِيِّ ﷺ ))

فَقَدْ حَصَرَ النَّبِيُّ ﷺ مَقْصِدَ إِرْسَالِهِ ﷺ فِي إِتْمَامِ صَالِحِ الْأَخْلَاقِ؛ فَقَدْ سُئِلَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ أَكْثَرِ شَيْءٍ يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ، فَقَالَ: ((تَقْوَى اللهِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ)).

وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ عَلَى الْقِمَّةِ الْعَالِيَةِ وَعَلَى ذِرْوَةِ السَّنَامِ، وَمَدَحَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِذَلِكَ، وَأَثْبَتَهُ لَهُ، فَقَالَ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فِي حَقِّ نَبِيِّهِ ﷺ: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] .

حَصَرَ النَّبِيُّ ﷺ مَقْصِدَ إِرْسَالِهِ فِي إِتْمَامِ صَالِحِ الْأَخْلَاقِ، فَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ: ((إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ)).

فَأَتَى النَّبِيُّ ﷺ بِأَدَاةِ الْحَصْرِ (إِنَّمَا)، وَحَصَرَ النَّبِيُّ ﷺ مَقْصِدَ إِرْسَالِهِ فِي إِتْمَامِ صَالِحِ الْأَخْلَاقِ ﷺ.

وَمَعَ أَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- وَصَفَ النَّبِيَّ ﷺ بِأَنَّهُ فِي الْخُلُقِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ الَّتِي قَالَ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ}؛ إِلَّا أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ إِذَا قَامَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَقُومَ اللَّيْلَ، وَيُصَلِّيَ بِاللَّيْلِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ اسْتَفْتَحَ بِدُعَاءِ اسْتِفْتَاحِ الْقِيَامِ، فَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَدْعُو رَبَّهُ كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ اللَّيْلَ -وَمَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَتَخَلَّفُ عَنْهُ قِيَامُ اللَّيْلِ لَيْلَةً وَاحِدَةً حَضَرًا وَلَا سَفَرًا ﷺ؛ حَتَّى إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ إِذَا كَانَ مُسَافِرًا بِلَيْلٍ؛ صَلَّى قِيَامَ اللَّيْلِ، وَتَهَجَّدَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى رَاحِلَتِهِ ﷺ-، مَعَ أَنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ- أَكْمَلَ نَبِيَّهُ ﷺ، وَأَدَّبَهُ، وَحَسَّنَ أَخْلَاقَهُ حَتَّى صَارَ ذَهَبًا صِرْفًا مَحْضًا؛ بَلْ صَارَ كَمِثْلِهِ الذَّهَبُ الصِّرْفُ الْمَحْضُ ﷺ؛ إِلَّا أَنَّهُ ﷺ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ اللَّيْلَ يَقُولُ: ((اللهم اهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ، لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا، لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ)).

فِي دُعَاءٍ عَظِيمٍ يَسْتَفْتِحُ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ ظَرْفَ الْمُنَاجَاةِ لِلْعَلِيِّ الْأَعْلَى ذِي الْقُوَى وَالْقُدَرِ إِذَا مَا صَفَّ الْقَدَمَيْنِ، وَوَقَفَ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: ((اللهم لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيُّومُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ)).

وَهَذِهِ أَلْفَاظٌ شَفِيفَةٌ تَخْرُجُ مِنَ الْقَلْبِ مِنْ غَيْرِ وَسَاطَةِ لِسَانٍ، إِنَّمَا هِيَ لُغَةُ الْقَلْبِ الْحَيِّ، وَلُغَةُ الْقَلْبِ النَّابِضِ، وَلُغَةُ الدَّمِ الْمُتَأَجِّجِ الْمُشْتَعِلِ بِالْمَحَبَّةِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، ثُمَّ يَدْعُو النَّبِيُّ ﷺ رَبَّهُ: ((اللهم اهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ، لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا، لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ)).

مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ بِالْمَكَانِ الَّذِي يَعْرِفُ أَعْدَاؤُهُ قَبْلَ أَصْدِقَائِهِ وَأَحِبَّائِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَقَبْلَ تِلْكَ الْمَنْزِلَةِ الَّتِي يُثْبِتُهَا لَهُ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ ﷺ؛ مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ الَّتِي وَصَفَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، فَقَالَ: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ}، وَاللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عِنْدَمَا يَصِفُ شَيْئًا بِأَنَّهُ عَظِيمٌ فَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَصَوَّرَ إِنْسَانٌ مَدَى عَظَمَتِهِ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَصِفُهُ هُوَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الَّذِي لَهُ الْعَظَمَةُ الْمُتَفَرِّدَةُ، وَلَهُ الْجَنَابُ الْأَعْلَى، وَلَهُ الْمَقَامُ الْأَسْنَى، وَهُوَ اللهُ ذُو الْقُوَى وَالْقُدَرِ.

اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عِنْدَمَا يَصِفُ شَيْئًا بِأَنَّهُ عَظِيمٌ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَصَوَّرَ إِنْسَانٌ مَدَى عَظَمَتِهِ مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ عَلَى الْغَايَةِ وَفَوْقَ الْمُنْتَهَى ﷺ، وَشَهِدَ لَهُ رَبُّهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ}، وَمَعَ ذَلِكَ كَانَ يَقُولُ وَهُوَ يُعَلِّمُنَا: ((اللهم اهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ، لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا، لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ)).

إِنَّ بِحُسْنِ الْخُلُقِ يَبْلُغُ الرَّجُلُ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ.

إِنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ لَيْسَ كَلَامًا يُقَالُ، وَإِنَّمَا هُوَ صِفَةٌ رَاسِخَةٌ فِي النَّفْسِ..

((مَعْنَى حُسْنِ الْخُلُقِ))

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: ((الْأَخْلَاقُ: غَرَائِزُ كَامِنَةٌ تَظْهَرُ بِالِاخْتِيَارِ، وَتُقْهَرُ بِالِاضْطِرَارِ)).

وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ: ((الْخُلُقُ: عِبَارَةٌ عَنْ هَيْئَةٍ لِلنَّفْسِ رَاسِخَةٍ يَصْدُرُ عَنْهَا الْأَفْعَالُ بِسُهُولَةٍ وَيُسْرٍ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى فِكْرٍ وَرَوِيَّةٍ، فَإِنْ كَانَتِ الْهَيْئَةُ بِحَيْثُ يَصْدُرُ عَنْهَا الْأَفْعَالُ الْجَمِيلَةُ عَقْلًا وَشَرْعًا بِسُهُولَةٍ؛ سُمِّيَتِ الْهَيْئَةُ خُلُقًا حَسَنًا، وَإِنْ كَانَ الصَّادِرُ مِنْهَا الْأَفْعَالَ الْقَبِيحَةَ؛ سُمِّيَتِ الْهَيْئَةُ الَّتِي هِيَ مَصْدَرُ ذَلِكَ خُلُقًا سَيِّئًا، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ هَيْئَةٌ رَاسِخَةٌ؛ لِأَنَّ مَنْ يَصْدُرُ مِنْهُ بَذْلُ الْمَالِ عَلَى النُّدُورِ بِحَالَةٍ عَارِضَةٍ؛ لَا يُقَالُ خُلُقُهُ السَّخَاءُ مَا لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ)).

قَالَ الْقَزْوِينِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((مَعْنَى حُسْنِ الْخُلُقِ: سَلَامَةُ النَّفْسِ نَحْوَ الْأَرْفَقِ الْأَحْمَدِ مِنَ الْأَفْعَالِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ فِي ذَاتِ اللهِ -تَعَالَى-، وَقَدْ يَكُونُ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ)).

أَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِذَاتِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ فَهُوَ: ((أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مُنْشَرِحَ الصَّدْرِ بِأَوَامِرِ اللهِ -تَعَالَى- وَنَوَاهِيهِ، يَفْعَلُ مَا فُرِضَ عَلَيْهِ، طَيِّبَ النَّفْسِ بِهِ، سَلِسًا نَحْوَهُ، وَيَنْتَهِي عَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِ، رَاضِيًا بِهِ، غَيْرَ مُتَضَجِّرٍ مِنْهُ، وَيَرْغَبُ فِي نَوَافِلِ الْخَيْرِ، وَيَتْرُكُ كَثِيرًا مِنَ الْمُبَاحِ لِوَجْهِهِ -تَعَالَى وَتَقَدَّسَ- إِذَا رَأَى أَنَّ تَرْكَهُ أَقْرَبُ إِلَى الْعُبُودِيَّةِ مِنْ فِعْلِهِ، مُسْتَبْشِرًا لِذَلِكَ، غَيْرَ ضَجِرٍ مِنْهُ، وَلَا مُتَعَسِّرٍ بِهِ)).

فَهَذَا حُسْنُ الْخُلُقِ مَعَ الْحَقِّ.

وَأَمَّا فِي الْمُعَامَلَاتِ بَيْنَ النَّاسِ -وَهُوَ حُسْنُ الْخُلُقِ مَعَ الْخَلْقِ-؛ فَهُوَ: ((أَنْ يَكُونَ سَمِحًا لِحُقُوقِهِ، لَا يُطَالِبُ غَيْرَهُ بِهَا، وَيُوفِي مَا يَجِبُ لِغَيْرِهِ عَلَيْهِ مِنْهَا، فَإِنْ مَرِضَ وَلَمْ يُعَدْ، أَوْ قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَلَمْ يُزَرْ، أَوْ سَلَّمَ فَلَمْ يُرَدَّ عَلَيْهِ، أَوْ ضَافَ فَلَمْ يُكْرَمْ، أَوْ شَفَعَ فَلَمْ يُجَبْ، أَوْ أَحْسَنَ فَلَمْ يُشْكَرْ، أَوْ دَخَلَ عَلَى قَوْمٍ فَلَمْ يُمَكَّنْ، أَوْ تَكَلَّمَ فَلَمْ يُنْصَتْ لَهُ، أَوِ اسْتَأْذَنَ عَلَى صَدِيقٍ فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، أَوْ خَطَبَ فَلَمْ يُزَوَّجْ، أَوِ اسْتَمْهَلَ الدَّيْنَ فَلَمْ يُمْهَلْ، أَوِ اسْتَنْقَصَ مِنْهُ فَلَمْ يُنْقَصْ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ لَمْ يَغْضَبْ، وَلَمْ يُعَاقِبْ، وَلَمْ يَتَنَكَّرْ مِنْ حَالٍ حَالُهُ، وَلَمْ يَسْتَشْعِرْ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ قَدْ حَفِيَ وَأُوحِشَ، وَأَنَّهُ لَا يُقَابِلُ كُلَّ ذَلِكَ إِذَا وَجَدَ السَّبِيلَ إِلَيْهِ بِمِثْلِهِ، بَلْ يُضْمِرُ أَنَّهُ لَا يَعْتَدُّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَيُقَابِلُ كُلًّا مِنْهُ بِمَا هُوَ أَحْسَنُ وَأَفْضَلُ وَأَقْرَبُ مِنْهُ إِلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَأَشْبَهُ بِمَا يُحْمَدُ وَيُرْضَى.

ثُمَّ يَكُونُ فِي إِيفَاءِ مَا يَكُونُ عَلَيْهِ كَهُوَ فِي حِفْظِ مَا يَكُونُ لَهُ، فَإِذَا مَرِضَ أَخُوهُ الْمُسْلِمُ عَادَهُ، وَإِنْ جَاءَ فِي شَفَاعَةٍ شَفَّعَهُ، وَإِنِ اسْتَمْهَلَهُ فِي قَضَاءِ دَيْنٍ أَمْهَلَهُ، وَإِنِ احْتَاجَ مِنْهُ إِلَى مَعُونَتِهِ أَعَانَهُ، وَإِنِ اسْتَسْمَحَهُ فِي بَيْعٍ سَمَحَ لَهُ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَى أَنَّ الَّذِي يُعَامِلُهُ كَيْفَ كَانَتْ مُعَامَلَتُهُ إِيَّاهُ فِيمَا خَلَا، وَكَيْفَ يُعَامِلُ النَّاسَ، إِنَّمَا يَتَّخِذُ الْأَحْسَنَ إِمَامًا لِنَفْسِهِ، فَيَنْحُو نَحْوَهُ، وَلَا يُخَالِفُهُ)).

وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((حُسْنُ الْخُلُقِ: أَنْ يَكُونَ سَهْلَ الْعَرِيكَةِ، لَيِّنَ الْجَانِبِ، طَلْقَ الْوَجْهِ، قَلِيلَ النُّفُورِ، طَيِّبَ الْكَلِمَةِ)).

قَالَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «حُسْنُ الْخُلُقِ فِي ثَلَاثِ خِصَالٍ: اجْتِنَابُ الْمَحَارِمِ، وَطَلَبُ الْحَلَالِ، وَالتَّوْسِعَةُ عَلَى الْعِيَالِ».

وَعَنِ الْحَسَنِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «حُسْنُ الْخُلُقِ: الْكَرَمُ، وَالْبَذْلَةُ، وَالِاحْتِمَالُ».

وَعَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «حُسْنُ الْخُلُقِ: بَسْطُ الْوَجْهِ، وَبَذْلُ النَّدَى، وَكَفُّ الْأَذَى».

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُبَارَكِ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي تَفْسِيرِ حُسْنِ الْخُلُقِ قَالَ: «هُوَ طَلَاقَةُ الْوَجْهِ، وَبَذْلُ الْمَعْرُوفِ، وَكَفُّ الْأَذَى».

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ -رَحِمَهُ اللهُ-: «حُسْنُ الْخُلُقِ: أَنْ تَحْتَمِلَ مَا يَكُونُ مِنَ النَّاسِ».

 وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: ((حُسْنُ الْخُلُقِ: أَلَّا تَغْضَبَ، وَلَا تَحْقِدَ)).

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ: قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: «حُسْنُ الْخُلُقِ: كَظْمُ الْغَيْظِ للهِ، وَإِظْهَارُ الطَّلَاقَةِ وَالْبِشْرِ إِلَّا لِلْمُبْتَدِعِ وَالْفَاجِرِ، وَالْعَفْوُ عَنِ الزَّالِّينَ إِلَّا تَأْدِيبًا أَوْ إِقَامَةً لِحَدٍّ، وَكَفُّ الْأَذَى عَنْ كُلِّ مُسْلِمٍ وَمُعَاهَدٍ إِلَّا تَغْيِيرًا لِمُنْكَرٍ، أَوْ أَخْذًا بِمَظْلِمَةٍ لِمَظْلُومٍ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ».

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((كِتَابِ الْإِيمَانِ)): «مَا هَمَّ الْعَبْدُ بِهِ مِنَ الْقَوْلِ الْحَسَنِ وَالْعَمَلِ الْحَسَنِ فَإِنَّمَا يُكْتَبُ لَهُ بِهِ حَسَنَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِذَا صَارَ قَوْلًا وَعَمَلًا؛ كُتِبَ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةٍ؛ وَذَلِكَ لِلْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ فِي الْهَمِّ».

وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: «جَمَعَ النَّبِيُّ ﷺ بَيْنَ تَقْوَى اللهِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ؛ لِأَنَّ تَقْوَى اللهِ تُصْلِحُ مَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ، وَأَمَّا حُسْنُ الْخُلُقِ؛ فَيُصْلِحُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، فَتَقْوَى اللهِ تُوجِبُ لَهُ مَحَبَّةَ اللهِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ يَدْعُو النَّاسِ إِلَى مَحَبَّتِهِ».

قَالَ ابْنُ رَجَبٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ قَدْ يُرَادُ بِهِ: التَّخَلُّقُ بِأَخْلَاقِ الشَّرِيعَةِ، وَالتَّأَدُّبُ بِآدَابِ اللهِ الَّتِي أَدَّبَ بِهَا عِبَادَهُ فِي كِتَابِهِ، كَمَا قَالَ لِرَسُولِهِ ﷺ: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] ».

قَالَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَدْوَأِ الدَّاءِ؟)).

قَالُوا: ((بَلَى)).

قَالَ: ((الْخُلُقُ الدَّنِيُّ، وَاللِّسَانُ البَذِيُّ)).

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «إِذَا حَسُنَتْ أَخْلَاقُ الْإِنْسَانِ كَثُرَ مُصَافُوهُ، وَقَلَّ مُعَادُوهُ، فَتَسَهَّلَتْ عَلَيْهِ الْأُمُورُ الصِّعَابُ، وَلَانَتْ لَهُ الْقُلُوبُ الْغِضَابُ)).

وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَأَمَّا الْخِصَالُ الْمُكْتَسَبَةُ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ وَالْآدَابِ الشَّرِيفَةِ الَّتِي اتَّفَقَ جَمِيعُ الْعُقَلَاءِ عَلَى تَفْضِيلِ صَاحِبِهَا، وَتَعْظِيمِ الْمُتَّصِفِ بِالْخُلُقِ الْوَاحِدِ مِنْهَا؛ فَضْلًا عَمَّا فَوْقَهُ، وَأَثْنَى الشَّرْعُ عَلَى جَمِيعِهَا، وَأَمَرَ بِهَا، وَوَعَدَ السَّعَادَةَ الدَّائِمَةَ لِلْمُتَخَلِّقِ بِهَا، وَوَصَفَ بَعْضَهَا بِأَنَّهُ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ، وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِحُسْنِ الْخُلُقِ، وَهُوَ الِاعْتِدَالُ فِي قُوَى النَّفْسِ وَأَوْصَافِهَا، وَالتَّوَسُّطُ فِيهَا دُونَ الْمَيْلِ إِلَى مُنْحَرِفِ أَطْرَافِهَا، فَجَمِيعُهَا قَدْ كَانَتْ خُلُقَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ عَلَى الِانْتِهَاءِ فِي كَمَالِهَا، وَالِاعْتِدَالِ إِلَى غَايَتِهَا ﷺ )).

وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: «الْحَسَنُ الْخُلُقِ مِنْ نَفْسِهِ فِي رَاحَةٍ، وَالنَّاسُ مِنْهُ فِي سَلَامَةٍ، وَالسَّيِّءُ الْخُلُقِ النَّاسُ مِنْهُ فِي بَلَاءٍ، وَهُوَ مِنْ نَفْسِهِ فِي عَنَاءٍ)).

الدِّينُ كُلُّهُ خُلُقٌ، فَمَنْ زَادَ عَلَيْكَ فِي الْخُلُقِ؛ زَادَ عَلَيْكَ فِي الدِّينِ.

وَقَدْ قِيلَ: ((إِنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ: بَذْلُ النَّدَى، وَكَفُّ الْأَذَى، وَاحْتِمَالُ الْأَذَى)).

وَقِيلَ: ((حُسْنُ الْخُلُقِ: بَذْلُ الْجَمِيلِ، وَكَفُّ الْقَبِيحِ)).

وَقِيلَ: ((التَّخَلِّي مِنَ الرَّذَائِلِ، وَالتَّحَلِّي بِالْفَضَائِلِ)).

((فَضَائِلُ حُسْنِ الْخُلُقِ وَثَمَرَاتُهُ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ))

إِنَّ كِتَابَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيهِ الْأَمْرُ بِالتَّقْوَى، وَفِيهِ النَّهْيُ عَنِ الرَّذَائِلِ، وَالْحَثُّ عَلَى الْفَضَائِلِ، وَفِيهِ التَّخْوِيفُ بِالنَّارِ، وَالتَّرْغِيبُ فِي الْجَنَّةِ، وَفِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَفْهَمُهُ كُلُّ أَحَدٍ، فَهَذَا عَطَاءُ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ لِكُلِّ مَنْ سَمِعَهُ أَوْ تَلَاهُ.

قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء: 9].

إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الْقَرِيبَ مِنْكُمْ، الَّذِي يُتْلَى عَلَيْكُمْ لَهُ وَظَائِفُ كُبْرَى، مِنْهَا: أَنَّهُ يَدُلُّ وَيُرْشِدُ إِلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي هِيَ أَقْرَبُ إِلَى الِاعْتِدَالِ الْكَامِلِ فِي كُلِّ سُلُوكٍ بَشَرِيٍّ، وَيُبَشِّرُ الْقُرْآنُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا صَحِيحًا صَادِقًا الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ بِأَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا يَنَالُونَهُ فِي الْجَنَّةِ.

((لَقَدْ أَعَدَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِأَوْلِيَائِهِ الْمُسْتَقِيمِينَ عَلَى الْأَخْلَاقِ الَّتِي أَمَرَ بِهَا وَدَعَا إِلَيْهَا الْجَنَّةَ وَالْكَرَامَةَ، مَعَ التَّوْفِيقِ فِي الدُّنْيَا، وَالْإِعَانَةِ عَلَى الْخَيْرِ، وَأَعَدَّ لِمَنْ حَادَ عَنْهَا وَاسْتَكْبَرَ عَنْهَا دَارَ الْهَوَانِ، وَهِيَ النَّارُ، وَبِئْسَ الْمَصِيرُ -نَسْأَلُ اللهَ الْعَافِيَةَ-.

وَالْأَخْلَاقُ الْإِسْلَامِيَّةُ هِيَ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بِهَا فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ، أَوْ أَمَرَ بِهَا رَسُولُهُ الْكَرِيمُ مُحَمَّدٌ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، أَوْ مَدَحَ أَهْلَهَا، وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ، وَوَعَدَهُمْ عَلَيْهَا الْأَجْرَ الْعَظِيمَ وَالْفَوْزَ الْكَبِيرَ)).

وَهَذِهِ بَعْضُ الْآيَاتِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ فِيهَا بِالْأَخْلَاقِ الْحَسَنَةِ، وَالْخِصَالِ الْفَاضِلَةِ، قَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ} [البقرة: 83].

(({وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}: هَذَا مِنْ قَسْوَتِهِمْ؛ أَنَّ كُلَّ أَمْرٍ أُمِرُوا بِهِ اسْتَعْصَوْا، فَلَا يَقْبَلُونَهُ إِلَّا بِالْأَيْمَانِ الْغَلِيظَةِ وَالْعُهُودِ الْمُوَثَّقَةِ {لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ}: هَذَا أَمْرٌ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ، وَنَهْيٌ عَنِ الشِّرْكِ بِهِ، وَهَذَا أَصْلُ الدِّينِ، فَلَا تُقْبَلُ الْأَعْمَالُ كُلُّهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا أَسَاسَهَا، فَهَذَا حَقُّ اللَّهِ -تَعَالَى- عَلَى عِبَادِهِ.

ثُمَّ قَالَ: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} أَيْ: أَحْسِنُوا بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا، وَهَذَا يَعُمُّ كُلَّ إِحْسَانٍ قَوْلِيٍّ وَفِعْلِيٍّ مِمَّا هُوَ إِحْسَانٌ إِلَيْهِمْ، وَفِيهِ النَّهْيُ عَنِ الْإِسَاءَةِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ، أَوْ عَدَمِ الْإِحْسَانِ وَالْإِسَاءَةِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْإِحْسَانُ، وَالْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ.

وَلِلْإِحْسَانِ ضِدَّانِ: الْإِسَاءَةُ، وَهِيَ أَعْظَمُ جُرْمًا، وَتَرْكُ الْإِحْسَانِ بِدُونِ إِسَاءَةٍ، وَهَذَا مُحَرَّمٌ؛ لَكِنْ لَا يَجِبُ أَنْ يَلْحَقَ بِالْأَوَّلِ، وَكَذَا يُقَالُ فِي صِلَةِ الْأَقَارِبِ، وَالْيَتَامَى، وَالْمَسَاكِينِ، وَتَفَاصِيلُ الْإِحْسَانِ لَا تَنْحَصِرُ بِالْعَدِّ، بَلْ تَكُونُ بِالْحَدِّ.

ثُمَّ أَمَرَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ عُمُومًا، فَقَالَ: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} وَمِنَ الْقَوْلِ الْحَسَنِ: أَمْرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْيُهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتَعْلِيمُهُمُ الْعِلْمَ، وَبَذْلُ السَّلَامِ، وَالْبَشَاشَةُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ كَلَامٍ طَيِّبٍ.

وَلَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ لَا يَسَعُ النَّاسَ بِمَالِهِ؛ أَمَرَ بِأَمْرٍ يَقْدِرُ بِهِ عَلَى الْإِحْسَانِ إِلَى كُلِّ مَخْلُوقٍ، وَهُوَ الْإِحْسَانُ بِالْقَوْلِ، فَيَكُونُ فِي ضِمْنِ ذَلِكَ: النَّهْيُ عَنِ الْكَلَامِ الْقَبِيحِ لِلنَّاسِ؛ حَتَّى لِلْكُفَّارِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.

وَمِنْ أَدَبِ الْإِنْسَانِ الَّذِي أَدَّبَ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ: أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ نَزِيهًا فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، غَيْرَ فَاحِشٍ وَلَا بَذِيءٍ، وَلَا شَاتِمٍ، وَلَا مُخَاصِمٍ، بَلْ يَكُونُ حَسَنَ الْخُلُقِ، وَاسِعَ الْحِلْمِ، مُجَامِلًا لِكُلِّ أَحَدٍ، صَبُورًا عَلَى مَا يَنَالُهُ مِنْ أَذَى الْخَلْقِ؛ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ، وَرَجَاءً لِثَوَابِهِ.

ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ مُتَضَمِّنَةٌ لِلْإِخْلَاصِ لِلْمَعْبُودِ، وَالزَّكَاةَ مُتَضَمِّنَةٌ لِلْإِحْسَانِ إِلَى الْعَبِيدِ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ}.

((هَذَا مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِهَا، فَقَالَ: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} أَيْ: إِذَا أَسَاءَ إِلَيْكَ أَعْدَاؤُكَ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ فَلَا تُقَابِلْهُمْ بِالْإِسَاءَةِ، مَعَ أَنَّهُ يَجُوزُ مُعَاقَبَةُ الْمُسِيءِ بِمِثْلِ إِسَاءَتِهِ؛ وَلَكِنِ ادْفَعْ إِسَاءَتَهُمُ إِلَيْكَ بِالْإِحْسَانِ مِنْكَ إِلَيْهِمْ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ فَضْلٌ مِنْكَ عَلَى الْمُسِيءِ.

وَمِنْ مَصَالِحِ ذَلِكَ: أَنَّهُ تَخِفُّ الْإِسَاءَةُ عَنْكَ فِي الْحَالِ وَفِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَأَنَّهُ أَدْعَى لِجَلْبِ الْمُسِيءِ إِلَى الْحَقِّ، وَأَقْرَبُ إِلَى نَدَمِهِ وَأَسَفِهِ، وَرُجُوعِهِ بِالتَّوْبَةِ عَمَّا فَعَلَ، وَيَتَّصِفُ الْعَافِي بِصِفَةِ الْإِحْسَانِ، وَيَقْهَرُ بِذَلِكَ عَدُوَّهُ الشَّيْطَانَ، وَيَسْتَوْجِبُ الثَّوَابَ مِنَ الرَّبِّ، قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}، وَقَالَ تَعَالَى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا} أَيْ: مَا يُوَفَّقُ لِهَذَا الْخُلُقِ الْجَمِيلِ {إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}.

{نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} أَيْ: بِمَا يَقُولُونَ مِنَ الْأَقْوَالِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ بِالْحَقِّ، قَدْ أَحَاطَ عِلْمُنَا بِذَلِكَ، وَقَدْ حَلِمْنَا عَنْهُمْ، وَأَمْهَلْنَاهُمْ، وَصَبَرْنَا عَلَيْهِمْ، وَالْحَقُّ لَنَا، وَتَكْذِيبُهُمْ لَنَا، فَأَنْتَ -يَا مُحَمَّدُ- يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَصْبِرَ عَلَى مَا يَقُولُونَ، وَتُقَابِلَهُمْ بِالْإِحْسَانِ، هَذِهِ وَظِيفَةُ الْعَبْدِ فِي مُقَابَلَةِ الْمُسِيءِ مِنَ الْبَشَرِ)).

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} [الإسراء: 53].

((وَهَذَا مِنْ لُطْفِهِ بِعِبَادِهِ؛ حَيْثُ أَمَرَهُمْ بِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ الْمُوجِبَةِ لِلسَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَقَالَ: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، وَهَذَا أَمْرٌ بِكُلِّ كَلَامٍ يُقَرِّبُ إِلَى اللَّهِ؛ مِنْ قِرَاءَةٍ، وَذِكْرٍ، وَعِلْمٍ، وَأَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ، وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ، وَكَلَامٍ حَسَنٍ لَطِيفٍ مَعَ الْخَلْقِ عَلَى اخْتِلَافِ مَرَاتِبِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ، وَأَنَّهُ إِذَا دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ حَسَنَيْنِ؛ فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِإِيثَارِ أَحْسَنِهِمَا إِنْ لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا.

وَالْقَوْلُ الْحَسَنُ دَاعٍ لِكُلِّ خُلُقٍ جَمِيلٍ وَعَمَلٍ صَالِحٍ؛ فَإِنَّ مَنْ مَلَكَ لِسَانَهُ مَلَكَ جَمِيعَ أَمْرِهِ.

وَقَوْلُهُ: {إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} أَيْ: يَسْعَى بَيْنَ الْعِبَادِ بِمَا يُفْسِدُ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَدُنْيَاهُمْ، فَدَوَاءُ هَذَا أَلَّا يُطِيعُوهُ فِي الْأَقْوَالِ غَيْرِ الْحَسَنَةِ الَّتِي يَدْعُوهُمْ إِلَيْهَا، وَأَنْ يَلِينُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ؛ لِيَنْقَمِعَ الشَّيْطَانُ الَّذِي يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ؛ فَإِنَّهُ عَدُوُّهُمُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُحَارِبُوهُ؛ فَإِنَّهُ يَدْعُوهُمْ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ.

وَأَمَّا إِخْوَانُهُمْ؛ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَسَعَى فِي الْعَدَاوَةِ فَإِنَّ الْحَزْمَ كُلَّ الْحَزْمِ السَّعْيُ فِي ضِدِّ عَدُوِّهِمْ، وَأَنْ يَقْمَعُوا أَنْفُسَهُمُ الْأَمَّارَةَ بِالسُّوءِ، الَّتِي يَدْخُلُ الشَّيْطَانُ مِنْ قِبَلِهَا؛ فَبِذَلِكَ يُطِيعُونَ رَبَّهُمْ، وَيَسْتَقِيمُ أَمْرُهُمْ، وَيُهْدَوْنَ لِرُشْدِهِمْ)).

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت: 46].

((يَنْهَى -تَعَالَى- عَنْ مُجَادَلَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِذَا كَانَتْ مِنْ غَيْرِ بَصِيرَةٍ مِنَ الْمُجَادِلِ، أَوْ بِغَيْرِ قَاعِدَةٍ مَرْضِيَّةٍ، وَأَلَّا يُجَادِلُوا إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ؛ بِحُسْنِ خُلُقٍ، وَلُطْفٍ، وَلِينِ كَلَامٍ، وَدَعْوَةٍ إِلَى الْحَقِّ وَتَحْسِينِهِ، وَرَدٍّ عَنِ الْبَاطِلِ وَتَهْجِينِهِ بِأَقْرَبِ طَرِيقٍ مُوَصِّلٍ لِذَلِكَ، وَأَلَّا يَكُونَ الْقَصْدُ مِنْهَا مُجَرَّدَ الْمُجَادَلَةِ وَالْمُغَالَبَةِ، وَحُبِّ الْعُلُوِّ، بَلْ يَكُونُ الْقَصْدُ بَيَانَ الْحَقِّ وَهِدَايَةَ الْخَلْقِ؛ إِلا مَنْ ظَلَمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِأَنْ ظَهَرَ مِنْ قَصْدِهِ وَحَالِهِ أَنَّهُ لَا إِرَادَةَ لَهُ فِي الْحَقِّ، وَإِنَّمَا يُجَادِلُ عَلَى وَجْهِ الْمُشَاغَبَةِ وَالْمُغَالَبَةِ، فَهَذَا لَا فَائِدَةَ فِي جِدَالِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا ضَائِعٌ.

{وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ} أَيْ: وَلْتَكُنْ مُجَادَلَتُكُمْ لِأَهْلِ الْكِتَابِ مَبْنِيَّةً عَلَى الْإِيمَانِ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَأُنْزِلَ إِلَيْهِمْ، وَعَلَى الْإِيمَانِ بِرَسُولِكُمْ وَرَسُولِهِمْ، وَعَلَى أَنَّ الْإِلَهَ وَاحِدٌ، وَلَا تَكُنْ مُنَاظَرَتُكُمْ إِيَّاهُمْ عَلَى وَجْهٍ يَحْصُلُ بِهِ الْقَدْحُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ، أَوْ بِأَحَدٍ مِنَ الرُّسُلِ، كَمَا يَفْعَلُهُ الْجَهَلَةُ عِنْدَ مُنَاظَرَةِ الْخُصُومِ، يَقْدَحُ بِجَمِيعِ مَا مَعَهُمْ مِنْ حَقٍّ وَبَاطِلٍ، فَهَذَا ظُلْمٌ وَخُرُوجٌ عَنِ الْوَاجِبِ وَآدَابِ النَّظَرِ؛ فَإِنَّ الْوَاجِبَ أَنْ يَرُدَّ مَا مَعَ الْخَصْمِ مِنَ الْبَاطِلِ، وَيَقْبَلَ مَا مَعَهُ مِنَ الْحَقِّ، وَلَا يَرُدَّ الْحَقَّ لِأَجْلِ قَوْلِهِ وَلَوْ كَانَ كَافِرًا.

وَأَيْضًا فَإِنَّ بِنَاءَ مُنَاظَرَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ فِيهِ إِلْزَامٌ لَهُمْ بِالْإِقْرَارِ بِالْقُرْآنِ وَبِالرَّسُولِ الَّذِي جَاءَ بِهِ؛ فَإِنَّهُ إِذَا تَكَلَّمَ فِي الْأُصُولِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي اتَّفَقَتْ عَلَيْهَا الْأَنْبِيَاءُ وَالْكُتُبُ، وَتَقَرَّرَتْ عِنْدَ الْمُتَنَاظِرَيْنِ، وَثَبَتَتْ حَقَائِقُهَا عِنْدَهُمَا، وَكَانَتِ الْكُتُبُ السَّابِقَةُ وَالْمُرْسَلُونَ مَعَ الْقُرْآنِ وَمُحَمَّدٍ ﷺ قَدْ بَيَّنَتْهَا، وَدَلَّتْ عَلَيْهَا، وَأَخْبَرَتْ بِهَا؛ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ التَّصْدِيقُ بِالْكُتُبِ كُلِّهَا، وَالرُّسُلِ كُلِّهِمْ، وَهَذَا مِنْ خَصَائِصِ الْإِسْلَامِ.

فَأَمَّا أَنْ يُقَالَ: نُؤْمِنُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ الْفُلَانِيُّ دُونَ الْكِتَابِ الْفُلَانِيِّ وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي صَدَّقَ مَا قَبْلَهُ، فَهَذَا ظُلْمٌ وَهَوًى، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِ بِالتَّكْذِيبِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَذَّبَ الْقُرْآنَ الدَّالَّ عَلَيْهَا، الْمُصَدِّقَ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ؛ فَإِنَّهُ مُكَذِّبٌ لِمَا زَعَمَ أَنَّهُ بِهِ مُؤْمِنٌ.

وَأَيْضًا فَإِنَّ كُلَّ طَرِيقٍ تَثْبُتُ بِهِ نُبُوَّةُ أَيِّ نَبِيٍّ كَانَ فَإِنَّ مِثْلَهَا وَأَعْظَمَ مِنْهَا دَالَّةٌ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَكُلَّ شُبْهَةٍ يُقْدَحُ بِهَا فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ فَإِنَّ مِثْلَهَا أَوْ أَعْظَمَ مِنْهَا يُمْكِنُ تَوْجِيهُهَا إِلَى نُبُوَّةِ غَيْرِهِ، فَإِذَا ثَبَتَ بُطْلَانُهَا فِي غَيْرِهِ فَثُبُوتُ بُطْلَانِهَا فِي حَقِّهِ ﷺ أَظْهَرُ وَأَظْهَرُ.

وَقَوْلُهُ: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} أَيْ: مُنْقَادُونَ مُسْتَسْلِمُونَ لِأَمْرِهِ، وَمَنْ آمَنَ بِهِ، وَاتَّخَذَهُ إِلَهًا، وَآمَنَ بِجَمِيعِ كُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَانْقَادَ لِلَّهِ، وَاتَّبَعَ رُسُلَهُ؛ فَهُوَ السَّعِيدُ، وَمَنِ انْحَرَفَ عَنْ هَذَا الطَّرِيقِ فَهُوَ الشَّقِيُّ)).

وَقَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 33-35].

((هَذَا اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى النَّفْيِ الْمُتَقَرِّرِ، أَيْ: لَا أَحَدَ أَحْسَنُ قَوْلًا -أَيْ: كَلَامًا وَطَرِيقَةً وَحَالَةً- مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ بِتَعْلِيمِ الْجَاهِلِينَ، وَوَعْظِ الْغَافِلِينَ وَالْمُعْرِضِينَ، وَمُجَادَلَةِ الْمُبْطِلِينَ، بِالْأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهَا، وَالْحَثِّ عَلَيْهَا، وَتَحْسِينِهَا مَهْمَا أَمْكَنَ، وَالزَّجْرُ عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَتَقْبِيحُهُ بِكُلِّ طَرِيقٍ يُوجِبُ تَرْكَهُ؛ خُصُوصًا مِنْ هَذِهِ الدَّعْوَةِ إِلَى أَصْلِ دِينِ الْإِسْلَامِ وَتَحْسِينِهِ، وَمُجَادَلَةِ أَعْدَائِهِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَالنَّهْيُ عَمَّا يُضَادُّهُ مِنَ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ.

وَمِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ: تَحْبِيبُهُ إِلَى عِبَادِهِ بِذِكْرِ تَفَاصِيلِ نِعَمِهِ، وَسَعَةِ جُودِهِ، وَكَمَالِ رَحْمَتِهِ، وَذِكْرِ أَوْصَافِ كَمَالِهِ وَنُعُوتِ جَلَالِهِ.

وَمِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ: التَّرْغِيبُ فِي اقْتِبَاسِ الْعِلْمِ وَالْهُدَى مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَالْحَثُّ عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ طَرِيقٍ مُوَصِّلٍ إِلَيْهِ.

وَمِنْ ذَلِكَ: الْحَثُّ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَالْإِحْسَانُ إِلَى عُمُومِ الْخَلْقِ، وَمُقَابَلَةُ الْمُسِيءِ بِالْإِحْسَانِ، وَالْأَمْرُ بِصِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ.

وَمِنْ ذَلِكَ: الْوَعْظُ لِعُمُومِ النَّاسِ فِي أَوْقَاتِ الْمَوَاسِمِ، وَالْعَوَارِضِ، وَالْمَصَائِبِ بِمَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ الْحَالَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا تَنْحَصِرُ أَفْرَادُهُ مِمَّا تَشْمَلُهُ الدَّعْوَةُ إِلَى الْخَيْرِ كُلِّهِ، وَالتَّرْهِيبِ مِنْ جَمِيعِ الشَّرِّ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَعَمِلَ صَالِحًا} أَيْ: مَعَ دَعْوَتِهِ الْخَلْقَ إِلَى اللَّهِ بَادَرَ هُوَ بِنَفْسِهِ إِلَى امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي يُرْضِي رَبَّهُ، {وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} أَيِ: الْمُنْقَادِينَ لِأَمْرِهِ، السَّالِكِينَ فِي طَرِيقِهِ، وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ تَمَامُهَا لِلصِّدِّيقِينَ الَّذِينَ عَمِلُوا عَلَى تَكْمِيلِ أَنْفُسِهِمْ، وَتَكْمِيلِ غَيْرِهِمْ، وَحَصَلَتْ لَهُمُ الْوِرَاثَةُ التَّامَّةُ مِنَ الرُّسُلِ، كَمَا أَنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ قَوْلًا: مَنْ كَانَ مِنْ دُعَاةِ الضَّالِّينَ السَّالِكِينَ لِسُبُلِهِ.

وَبَيْنَ هَاتَيْنِ الْمَرْتَبَتَيْنِ الْمُتَبَايِنَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ارْتَفَعَتْ إِحْدَاهُمَا إِلَى أَعْلَى عِلِّيِّينَ وَنَزَلَتِ الْأُخْرَى إِلَى أَسْفَلَ سَافِلِينَ مَرَاتِبُ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ، وَكُلُّهَا مَعْمُورَةٌ بِالْخَلْقِ، {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}

يَقُولُ تَعَالَى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ} أَيْ: لَا يَسْتَوِي فِعْلُ الْحَسَنَاتِ وَالطَّاعَاتِ لِأَجْلِ رِضَا اللَّهِ -تَعَالَى-، وَلَا فِعْلُ السَّيِّئَاتِ وَالْمَعَاصِي الَّتِي تُسْخِطُهُ وَلَا تُرْضِيهِ، وَلَا يَسْتَوِي الْإِحْسَانُ إِلَى الْخَلْقِ، وَلَا الْإِسَاءَةُ إِلَيْهِمْ، لَا فِي ذَاتِهَا، وَلَا فِي وَصْفِهَا، وَلَا فِي جَزَائِهَا {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ} ؟!

ثُمَّ أَمَرَ بِإِحْسَانٍ خَاصٍّ لَهُ مَوْقِعٌ كَبِيرٌ، وَهُوَ الْإِحْسَانُ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ، فَقَالَ: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أَيْ: فَإِذَا أَسَاءَ إِلَيْكَ مُسِيءٌ مِنَ الْخَلْقِ -خُصُوصًا مَنْ لَهُ حَقٌّ كَبِيرٌ عَلَيْكَ؛ كَالْأَقَارِبِ، وَالْأَصْحَابِ، وَنَحْوِهِمْ- إِسَاءَةً بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْفِعْلِ؛ فَقَابِلْهُ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، فَإِنْ قَطَعَكَ فَصِلْهُ، وَإِنْ ظَلَمَكَ فَاعْفُ عَنْهُ، وَإِنْ تَكَلَّمَ فِيكَ غَائِبًا أَوْ حَاضِرًا فَلَا تُقَابِلْهُ، بَلِ اعْفُ عَنْهُ، وَعَامِلْهُ بِالْقَوْلِ اللَّيِّنِ، وَإِنْ هَجَرَكَ، وَتَرَكَ خِطَابَكَ؛ فَطَيِّبْ لَهُ الْكَلَامَ، وَابْذُلْ لَهُ السَّلَامَ، فَإِذَا قَابَلْتَ الْإِسَاءَةَ بِالْإِحْسَانِ؛ حَصَلَتْ فَائِدَةٌ عَظِيمَةٌ: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} أَيْ: كَأَنَّهُ قَرِيبٌ شَفِيقٌ.

{وَمَا يُلَقَّاهَا} أَيْ: وَمَا يُوَفَّقُ لِهَذِهِ الْخَصْلَةِ الْحَمِيدَةِ إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا نُفُوسَهُمْ عَلَى مَا تَكْرَهُ، وَأَجْبَرُوهَا عَلَى مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ؛ فَإِنَّ النُّفُوسَ مَجْبُولَةٌ عَلَى مُقَابَلَةِ الْمُسِيءِ بِإِسَاءَتِهِ، وَعَدَمِ الْعَفْوِ عَنْهُ؛ فَكَيْفَ بِالْإِحْسَانِ؟!!

فَإِذَا صَبَرَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ، وَامْتَثَلَ أَمْرَ رَبِّهِ، وَعَرَفَ جَزِيلَ الثَّوَابِ، وَعَلِمَ أَنَّ مُقَابَلَتَهُ لِلْمُسِيءِ بِجِنْسِ عَمَلِهِ لَا يُفِيدُهُ شَيْئًا، وَلَا يَزِيدُ الْعَدَاوَةَ إِلَّا شِدَّةً، وَأَنَّ إِحْسَانَهُ إِلَيْهِ لَيْسَ بِوَاضِعِ قَدْرِهِ، بَلْ مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ؛ هَانَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ، وَفَعَلَ ذَلِكَ مُتَلَذِّذًا مُسْتَحْلِيًا لَهُ.

{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}؛ لِكَوْنِهَا مِنْ خِصَالِ خَوَاصِّ الْخَلْقِ الَّتِي يَنَالُ بِهَا الْعَبْدُ الرِّفْعَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، الَّتِي هِيَ مِنْ أَكْبَرِ خِصَالِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ)).

وَذَكَرَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جُمْلَةً مِنْ أَخْلَاقِ وَخِصَالِ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ، قَالَ تَعَالَى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ ۖ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (70) وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُولَٰئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا ۚ حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان: 63-76].

((الْعُبُودِيَّةُ لِلَّهِ نَوْعَانِ: عُبُودِيَّةٌ لِرُبُوبِيَّتِهِ، فَهَذِهِ يَشْتَرِكُ فِيهَا سَائِرُ الْخَلْقِ؛ مُسْلِمُهُمْ وَكَافِرُهُمْ، بَرُّهُمْ وَفَاجِرُهُمْ، فَكُلُّهُمْ عَبِيدٌ لِلَّهِ، مَرْبُوبُونَ مُدَبَّرُونَ: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}.

وَعُبُودِيَّةٌ لِأُلُوهِيَّتِهِ وَعِبَادَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَهِيَ عُبُودِيَّةُ أَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ، وَهِيَ الْمُرَادُ هُنَا؛ وَلِهَذَا أَضَافَهَا إِلَى اسْمِهِ (الرَّحْمَن)، إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا وَصَلُوا إِلَى هَذِهِ الْحَالِ بِسَبَبِ رَحْمَتِهِ، فَذَكَرَ أَنَّ صِفَاتِهِمْ أَكْمَلُ الصِّفَاتِ، وَنُعُوتَهُمْ أَفْضَلُ النُّعُوتِ، فَوَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ {يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} أَيْ: سَاكِنِينَ مُتَوَاضِعِينَ لِلَّهِ وَالْخَلْقِ، فَهَذَا وَصْفٌ لَهُمْ بِالْوَقَارِ وَالسَّكِينَةِ وَالتَّوَاضُعِ لِلَّهِ وَلِعِبَادِهِ، {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ} أَيْ: خِطَابَ جَهْلٍ؛ بِدَلِيلِ إِضَافَةِ الْفِعْلِ وَإِسْنَادِهِ لِهَذَا الْوَصْفِ {قَالُوا سَلامًا} أَيْ: خَاطَبُوهُمْ خِطَابًا يَسْلَمُونَ فِيهِ مِنَ الْإِثْمِ، وَيَسْلَمُونَ مِنْ مُقَابَلَةِ الْجَاهِلِ بِجَهْلِهِ، وَهَذَا مَدْحٌ لَهُمْ بِالْحِلْمِ الْكَثِيرِ، وَمُقَابَلَةِ الْمُسِيءِ بِالْإِحْسَانِ، وَالْعَفْوِ عَنِ الْجَاهِلِ، وَرَزَانَةِ الْعَقْلِ الَّذِي أَوْصَلَهُمْ إِلَى هَذِهِ الْحَالِ.

{وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} أَيْ: يُكْثِرُونَ مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ، مُخْلِصِينَ فِيهَا لِرَبِّهِمْ، مُتَذَلِّلِينَ لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.

{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ} أَيِ: ادْفَعْهُ عَنَّا بِالْعِصْمَةِ مِنْ أَسْبَابِهِ، وَمَغْفِرَةِ مَا وَقَعَ مِنَّا مِمَّا هُوَ مُقْتَضٍ لِلْعَذَابِ {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} أَيْ: مُلَازِمًا لِأَهْلِهَا بِمَنْزِلَةِ مُلَازَمَةِ الْغَرِيمِ لِغَرِيمِهِ، {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} وَهَذَا مِنْهُمْ عَلَى وَجْهِ التَّضَرُّعِ لِرَبِّهِمْ، وَبَيَانِ شِدَّةِ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُمْ لَيْسَ فِي طَاقَتِهِمُ احْتِمَالُ هَذَا الْعَذَابِ، وَلِيَتَذَكَّرُوا مِنَّةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّ صَرْفَ الشِّدَّةِ بِحَسَبِ شِدَّتِهَا وَفَظَاعَتِهَا يَعْظُمُ وَقْعُهَا، وَيَشْتَدُّ الْفَرَحُ بِصَرْفِهَا.

{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا} النَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةَ وَالْمُسْتَحَبَّةَ {لَمْ يُسْرِفُوا} بِأَنْ يَزِيدُوا عَلَى الْحَدِّ فَيَدْخُلُوا فِي قِسْمِ التَّبْذِيرِ، وَلَمْ يَقْتُرُوا فَيَدْخُلُوا فِي بَابِ الْبُخْلِ وَالشُّحِّ، وَإِهْمَالِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ، وَكَانَ إِنْفَاقُهُمْ بَيْنَ ذَلِكَ، بَيْنَ الْإِسْرَافِ وَالتَّقْتِيرِ {قَوَامًا} يَبْذُلُونَ فِي الْوَاجِبَاتِ مِنَ الزَّكَوَاتِ، وَالْكَفَّارَاتِ، وَالنَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةِ، وَفِيمَا يَنْبَغِي عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَنْبَغِي مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ وَلَا ضِرَارٍ، وَهَذَا مِنْ عَدْلِهِمْ وَاقْتِصَادِهِمْ.

{وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} بَلْ يَعْبُدُونَهُ وَحْدَهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ، مُقْبِلِينَ عَلَيْهِ، مُعْرِضِينَ عَمَّا سِوَاهُ، {وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ}: وَهِيَ نَفْسُ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ الْمُعَاهَدِ {إِلا بِالْحَقِّ}؛ كَقَتْلِ النَّفْسِ بِالنَّفْسِ، وَقَتْلِ الزَّانِي الْمُحْصَنِ، وَالْكَافِرِ الَّذِي يَحِلُّ قَتْلُهُ، {وَلا يَزْنُونَ} بَلْ يَحْفَظُونَ فُرُوجَهُمْ إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ، {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} أَيِ: الشِّرْكَ بِاللَّهِ، أَوْ قَتْلَ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، أَوِ الزِّنَا؛ فَسَوْفَ {يَلْقَ أَثَامًا}، ثُمَّ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ} أَيْ: فِي الْعَذَابِ {مُهَانًا}؛ فَالْوَعِيدُ بِالْخُلُودِ لِمَنْ فَعَلَهَا كُلَّهَا ثَابِتٌ لَا شَكَّ فِيهِ، وَكَذَلِكَ لِمَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ، وَكَذَلِكَ الْوَعِيدُ بِالْعَذَابِ الشَّدِيدِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ؛ لِكَوْنِهَا إِمَّا شِرْكٌ، وَإِمَّا مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ.

وَأَمَّا خُلُودُ الْقَاتِلِ وَالزَّانِي فِي الْعَذَابِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُهُ الْخُلُودُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ دَلَّتِ النُّصُوصُ الْقُرْآنِيَّةُ وَالسُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ أَنَّ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ سَيَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ، وَلَا يَخْلُدُ فِيهَا مُؤْمِنٌ وَلَوْ فَعَلَ مِنَ الْمَعَاصِي مَا فَعَلَ، وَنَصَّ -تَعَالَى- عَلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؛ فَالشِّرْكُ فِيهِ فَسَادُ الْأَدْيَانِ، وَالْقَتْلُ فِيهِ فَسَادُ الْأَبْدَانِ، وَالزِّنَا فِيهِ فَسَادُ الْأَعْرَاضِ.

{إِلا مَنْ تَابَ} عَنْ هَذِهِ الْمَعَاصِي وَغَيْرِهَا بِأَنْ أَقْلَعَ عَنْهَا فِي الْحَالِ، وَنَدِمَ عَلَى مَا مَضَى لَهُ مِنْ فِعْلِهَا، وَعَزَمَ عَزْمًا جَازِمًا أَلَّا يَعُودَ، {وَآمَنَ} بِاللَّهِ إِيمَانًا صَحِيحًا يَقْتَضِي تَرْكَ الْمَعَاصِي، وَفِعْلَ الطَّاعَاتِ، {وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا} مِمَّا أَمَرَ بِهِ الشَّارِعُ إِذَا قَصَدَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ؛ {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} أَيْ: تَتَبَدَّلُ أَفْعَالُهُمْ وَأَقْوَالُهُمُ الَّتِي كَانَتْ مُسْتَعِدَّةً لِعَمَلِ السَّيِّئَاتِ.. تَتَبَدَّلُ حَسَنَاتٍ، فَيَتَبَدَّلُ شِرْكُهُمْ إِيمَانًا، وَمَعْصِيَتُهُمْ طَاعَةً، وَتَتَبَدَّلُ نَفْسُ السَّيِّئَاتِ الَّتِي عَمِلُوهَا، ثُمَّ أَحْدَثُوا عَنْ كُلِّ ذَنْبٍ مِنْهَا تَوْبَةً وَإِنَابَةً وَطَاعَةً؛ تَتَبَدَّلُ حَسَنَاتٍ، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ، وَوَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ الرَّجُلِ الَّذِي حَاسَبَهُ اللَّهُ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِ، فَعَدَّدَهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ أَبْدَلَ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً، فَقَالَ: ((يَا رَبِّ! إِنَّ لِي سَيِّئَاتٍ لَا أَرَاهَا هَاهُنَا))، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

{وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} لِمَنْ تَابَ، يَغْفِرُ الذُّنُوبَ الْعَظِيمَةَ، {رَحِيمًا} بِعِبَادِهِ؛ حَيْثُ دَعَاهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ بَعْدَ مُبَارَزَتِهِ بِالْعَظَائِمِ، ثُمَّ وَفَّقَهُمْ لَهَا، ثُمَّ قَبِلَهَا مِنْهُمْ.

{وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} أَيْ: فَلْيَعْلَمْ أَنَّ تَوْبَتَهُ فِي غَايَةِ الْكَمَالِ؛ لِأَنَّهَا رُجُوعٌ إِلَى الطَّرِيقِ الْمُوصِلِ إِلَى اللَّهِ، الَّذِي هُوَ عَيْنُ سَعَادَةِ الْعَبْدِ وَفَلَاحُهُ؛ فَلْيُخْلِصْ فِيهَا، وَلْيُخَلِّصْهَا مِنْ شَوَائِبِ الْأَغْرَاضِ الْفَاسِدَةِ، فَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا: الْحَثُّ عَلَى تَكْمِيلِ التَّوْبَةِ، وَإِيقَاعِهَا عَلَى أَفْضَلِ الْوُجُوهِ وَأَجَلِّهَا؛ لِيَقْدَمَ عَلَى مَنْ تَابَ إِلَيْهِ فَيُوَفِّيَهُ أَجْرَهُ بِحَسَبِ كَمَالِهَا.

{وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} أَيْ: لَا يَحْضُرُونَ الزُّورَ، أَيِ: الْقَوْلَ وَالْفِعْلَ الْمُحَرَّمَ، فَيَجْتَنِبُونَ جَمِيعَ الْمَجَالِسِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْأَقْوَالِ الْمُحَرَّمَةِ، أَوِ الْأَفْعَالِ الْمُحَرَّمَةِ؛ كَالْخَوْضِ فِي آيَاتِ اللَّهِ، وَالْجِدَالِ الْبَاطِلِ، وَالْغِيبَةِ، وَالنَّمِيمَةِ، وَالسَّبِّ، وَالْقَذْفِ، وَالِاسْتِهْزَاءِ، وَالْغِنَاءِ الْمُحَرَّمِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَفُرُشِ الْحَرِيرِ، وَالصُّوَرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِذَا كَانُوا لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ؛ فَمِنْ بَابِ أَوْلَى وَأَحْرَى أَلَّا يَقُولُوهُ وَيَفْعَلُوهُ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ دَاخِلَةٌ فِي قَوْلِ الزُّورِ، تَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْأَوْلَوِيَّةِ.

{وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ}: وَهُوَ الْكَلَامُ الَّذِي لَا خَيْرَ فِيهِ، وَلَا فِيهِ فَائِدَةٌ دِينِيَّةٌ وَلَا دُنْيَوِيَّةٌ؛ كَكَلَامِ السُّفَهَاءِ وَنَحْوِهِمْ؛ {مَرُّوا كِرَامًا} أَيْ: نَزَّهُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَكْرَمُوهَا عَنِ الْخَوْضِ فِيهِ، وَرَأَوْا أَنَّ الْخَوْضَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ لَا إِثْمَ فِيهِ فَإِنَّهُ سَفَهٌ وَنَقْصٌ لِلْإِنْسَانِيَّةِ وَالْمُرُوءَةِ، فَرَبَؤُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْهُ.

وَفِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ} إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ لَا يَقْصِدُونَ حُضُورَهُ وَلَا سَمَاعَهُ، وَلَكِنْ عِنْدَ الْمُصَادَفَةِ الَّتِي مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ يُكْرِمُونَ أَنْفُسَهُمْ عَنْهُ.

{وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} الَّتِي أَمَرَهُمْ بِاسْتِمَاعِهَا، وَالِاهْتِدَاءِ بِهَا؛ {لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} أَيْ: لَمْ يُقَابِلُوهَا بِالْإِعْرَاضِ عَنْهَا، وَالصَّمَمِ عَنْ سَمَاعِهَا، وَصَرْفِ النَّظَرِ وَالْقُلُوبِ عَنْهَا، كَمَا يَفْعَلُهُ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهَا وَلَمْ يُصَدِّقْ، وَإِنَّمَا حَالُهُمْ فِيهَا وَعِنْدَ سَمَاعِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ}: يُقَابِلُونَهَا بِالْقَبُولِ، وَالِافْتِقَارِ إِلَيْهَا، وَالِانْقِيَادِ وَالتَّسْلِيمِ لَهَا، وَتَجِدُ عِنْدَهُمْ آذَانًا سَامِعَةً، وَقُلُوبًا وَاعِيَةً، فَيَزْدَادُ بِهَا إِيمَانُهُمْ، وَيَتِمُّ بِهَا إِيقَانُهُمْ، وَتُحْدِثُ لَهُمْ نَشَاطًا، وَيَفْرَحُونَ بِهَا سُرُورًا وَاغْتِبَاطًا.

{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا} أَيْ: قُرَنَائِنَا؛ مِنْ أَصْحَابٍ، وَأَقْرَانٍ، وَزَوْجَاتٍ {وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} أَيْ: تَقَرُّ بِهِمْ أَعْيُنُنَا، وَإِذَا اسْتَقْرَأْنَا حَالَهُمْ وَصِفَاتِهِمْ عَرَفْنَا مِنْ هِمَمِهِمْ وَعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِمْ أَنَّهُمْ لَا تَقَرُّ أَعْيُنُهُمْ حَتَّى يَرَوْهُمْ مُطِيعِينَ لِرَبِّهِمْ، عَالِمِينَ عَامِلِينَ، وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ دُعَاءٌ لِأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ فِي صَلَاحِهِمْ فَإِنَّهُ دُعَاءٌ لِأَنْفُسِهِمْ؛ لِأَنَّ نَفْعَهُ يَعُودُ عَلَيْهِمْ؛ وَلِهَذَا جَعَلُوا ذَلِكَ هِبَةً لَهُمْ، فَقَالُوا: {هَبْ لَنَا}؛ بَلْ دُعَاؤُهُمْ يَعُودُ إِلَى نَفْعِ عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ بِصَلَاحِ مَنْ ذُكِرَ يَكُونُ سَبَبًا لِصَلَاحِ كَثِيرٍ مِمَّنْ يَتَعَلَّقُ بِهِمْ وَيَنْتَفِعُ بِهِمْ.

{وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} أَيْ: أَوْصِلْنَا يَا رَبَّنَا إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ الْعَالِيَةِ؛ دَرَجَةِ الصِّدِّيقِينَ وَالْكُمَّلِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، وَهِيَ دَرَجَةُ الْإِمَامَةِ فِي الدِّينِ، وَأَنْ يَكُونُوا قُدْوَةً لِلْمُتَّقِينَ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، يُقْتَدَى بِأَفْعَالِهِمْ، وَيُطْمَئَنُّ لِأَقْوَالِهِمْ، وَيَسِيرُ أَهْلُ الْخَيْرِ خَلْفَهُمْ، فَيَهْدُونَ وَيَهْتَدُونَ.

وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الدُّعَاءَ بِبُلُوغِ شَيْءٍ دُعَاءٌ بِمَا لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهِ، وَهَذِهِ الدَّرَجَةُ -دَرَجَةُ الْإِمَامَةِ فِي الدِّينِ- لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالصَّبْرِ وَالْيَقِينِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}، فَهَذَا الدُّعَاءُ يَسْتَلْزِمُ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَالصَّبْرِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَأَقْدَارِهِ الْمُؤْلِمَةِ، وَعَنْ مَعْصِيَتِهِ، وَمِنَ الْعِلْمِ التَّامِّ الَّذِي يُوصِلُ صَاحِبَهُ إِلَى دَرَجَةِ الْيَقِينِ خَيْرًا كَثِيرًا وَعَطَاءً جَزِيلًا، وَأَنْ يَكُونُوا فِي أَعْلَى مَا يُمْكِنُ مِنْ دَرَجَاتِ الْخَلْقِ بَعْدَ الرُّسُلِ.

وَلِهَذَا لَمَّا كَانَتْ هِمَمُهُمْ وَمَطَالِبُهُمْ عَالِيَةً؛ كَانَ الْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، فَجَازَاهُمْ بِالْمَنَازِلِ الْعَالِيَاتِ، فَقَالَ: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} أَيِ: الْمَنَازِلَ الرَّفِيعَةَ، وَالْمَسَاكِنَ الْأَنِيقَةَ الْجَامِعَةَ لِكُلِّ مَا يُشْتَهَى وَتَلَذُّهُ الْأَعْيُنُ؛ وَذَلِكَ بِسَبَبِ صَبْرِهِمْ نَالُوا مَا نَالُوا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}؛ وَلِهَذَا قَالَ هُنَا: {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا} مِنْ رَبِّهِمْ، وَمِنْ مَلَائِكَتِهِ الْكِرَامِ، وَمِنْ بَعْضٍ عَلَى بَعْضٍ، وَيَسْلَمُونَ مِنْ جَمِيعِ الْمُنَغِّصَاتِ وَالْمُكَدِّرَاتِ.

وَالْحَاصِلُ: أَنَّ اللَّهَ وَصَفَهُمْ بِالْوَقَارِ وَالسَّكِينَةِ، وَالتَّوَاضُعِ لَهُ وَلِعِبَادِهِ، وَحُسْنِ الْأَدَبِ، وَالْحِلْمِ، وَسِعَةِ الْخُلُقِ، وَالْعَفْوِ عَنِ الْجَاهِلِينَ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ، وَمُقَابَلَةِ إِسَاءَتِهِمْ بِالْإِحْسَانِ، وَقِيَامِ اللَّيْلِ وَالْإِخْلَاصِ فِيهِ، وَالْخَوْفِ مِنَ النَّارِ، وَالتَّضَرُّعِ لِرَبِّهِمْ أَنْ يُنْجِيَهُمْ مِنْهَا، وَإِخْرَاجِ الْوَاجِبِ وَالْمُسْتَحَبِّ فِي النَّفَقَاتِ، وَالِاقْتِصَادِ فِي ذَلِكَ -وَإِذَا كَانُوا مُقْتَصِدِينَ فِي الْإِنْفَاقِ الَّذِي جَرَتِ الْعَادَةُ بِالتَّفْرِيطِ فِيهِ أَوِ الْإِفْرَاطِ؛ فَاقْتِصَادُهُمْ وَتَوَسُّطُهُمْ فِي غَيْرِهِ مِنْ بَابِ أَوْلَى-، وَالسَّلَامَةِ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ، وَالِاتِّصَافِ بِالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ فِي عِبَادَتِهِ، وَالْعِفَّةِ عَنِ الدِّمَاءِ وَالْأَعْرَاضِ، وَالتَّوْبَةِ عِنْدَ صُدُورِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.

وَأَنَّهُمْ لَا يَحْضُرُونَ مَجَالِسَ الْمُنْكَرِ وَالْفُسُوقِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ، وَلَا يَفْعَلُونَهَا بِأَنْفُسِهِمْ، وَأَنَّهُمْ يَتَنَزَّهُونَ مِنَ اللَّغْوِ، وَالْأَفْعَالِ الرَّدِيَّةِ الَّتِي لَا خَيْرَ فِيهَا، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ مُرُوءَتَهُمْ، وَإِنْسَانِيَّتَهُمْ، وَكَمَالَهُمْ، وَرِفْعَةَ أَنْفُسِهِمْ عَنْ كُلِّ خَسِيسٍ قَوْلِيٍّ وَفِعْلِيٍّ، وَأَنَّهُمْ يُقَابِلُونَ آيَاتِ اللَّهِ بِالْقَبُولِ لَهَا، وَالتَّفَهُّمِ لِمَعَانِيهَا، وَالْعَمَلِ بِهَا، وَالِاجْتِهَادِ فِي تَنْفِيذِ أَحْكَامِهَا، وَأَنَّهُمْ يَدْعُونَ اللَّهَ -تَعَالَى- بِأَكْمَلِ الدُّعَاءِ فِي الدُّعَاءِ الَّذِي يَنْتَفِعُونَ بِهِ، وَيَنْتَفِعُ بِهِ مَنْ يَتَعَلَّقُ بِهِمْ، وَيَنْتَفِعُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ صَلَاحِ أَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّتِهِمْ، وَمِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ: سَعْيُهُمْ فِي تَعْلِيمِهِمْ، وَوَعْظِهِمْ، وَنُصْحِهِمْ؛ لِأَنَّ مَنْ حَرَصَ عَلَى شَيْءٍ، وَدَعَا اللَّهَ بِهِ؛ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُتَسَبِّبًا فِيهِ، وَأَنَّهُمْ دَعَوُا اللَّهَ بِبُلُوغِ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ الْمُمْكِنَةِ لَهُمْ، وَهِيَ دَرَجَةُ الْإِمَامَةِ وَالصِّدِّيقِيَّةِ.

فَلِلَّهِ! مَا أَعْلَى هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَأَرْفَعَ هَذِهِ الْهِمَمَ، وَأَجَلَّ هَذِهِ الْمَطَالِبَ، وَأَزْكَى تِلْكَ النُّفُوسَ، وَأَطْهَرَ تِلْكَ الْقُلُوبَ، وَأَصْفَى هَؤُلَاءِ الصَّفْوَةَ، وَأَتْقَى هَؤُلَاءِ السَّادَةَ!

وَلِلَّهِ! فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَنِعْمَتُهُ وَرَحْمَتُهُ الَّتِي جَلَّلَتْهُمْ، وَلُطْفُهُ الَّذِي أَوْصَلَهُمْ إِلَى هَذِهِ الْمَنَازِلِ!

وَلِلَّهِ! مِنَّةُ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ بَيَّنَ لَهُمْ أَوْصَافَهُمْ، وَنَعَتَ لَهُمْ هَيْئَاتِهِمْ، وَبَيَّنَ لَهُمْ هِمَمَهُمْ، وَأَوْضَحَ لَهُمْ أُجُورَهُمْ؛ لِيَشْتَاقُوا إِلَى الِاتِّصَافِ بِأَوْصَافِهِمْ، وَيَبْذُلُوا جُهْدَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَيَسْأَلُوا الَّذِي مَنَّ عَلَيْهِمْ وَأَكْرَمَهُمْ، الَّذِي فَضْلُهُ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ وَفِي كُلِّ وَقْتٍ وَأَوَانٍ أَنْ يَهْدِيَهُمْ كَمَا هَدَاهُمْ، وَيَتَوَلَّاهُمْ بِتَرْبِيَتِهِ الْخَاصَّةِ كَمَا تَوَلَّاهُمْ.

فَاللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، وَإِلَيْكَ الْمُشْتَكَى، وَأَنْتَ الْمُسْتَعَانُ، وَبِكَ الْمُسْتَغَاثُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ، لَا نَمْلِكُ لِأَنْفُسِنَا نَفْعًا وَلَا ضَرًّا، وَلَا نَقْدِرُ عَلَى مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنَ الْخَيْرِ إِنْ لَمْ تُيَسِّرْ ذَلِكَ لَنَا؛ فَإِنَّا ضُعَفَاءُ عَاجِزُونَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، نَشْهَدُ أَنَّكَ إِنْ وَكَلْتَنَا إِلَى أَنْفُسِنَا طَرْفَةَ عَيْنٍ؛ وَكَلْتَنَا إِلَى ضَعْفٍ وَعَجْزٍ وَخَطِيئَةٍ، فَلَا نَثِقُ يَا رَبَّنَا إِلَّا بِرَحْمَتِكَ الَّتِي بِهَا خَلَقْتَنَا، وَرَزَقْتَنَا، وَأَنْعَمْتَ عَلَيْنَا بِمَا أَنْعَمْتَ مِنَ النِّعَمِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَصَرَفْتَ عَنَّا مِنَ النِّقَمِ، فَارْحَمْنَا رَحْمَةً تُغْنِينَا بِهَا عَنْ رَحْمَةِ مَنْ سِوَاكَ؛ فَلَا خَابَ مَنْ سَأَلَكَ وَرَجَاكَ)).

وَهَذِهِ وَصَايَا وَصَّى بِهَا لُقْمَانُ ابْنَهُ، تَجْمَعُ أُمَّهَاتِ الْحِكَمِ، وَتَسْتَلْزِمُ مَا لَمْ يُذْكَرْ مِنْهَا، وَكُلُّ وَصِيَّةٍ يُقْرَنُ بِهَا مَا يَدْعُو إِلَى فِعْلِهَا إِنْ كَانَتْ أَمْرًا، وَإِلَى تَرْكِهَا إِنْ كَانَتْ نَهْيًا.

قَالَ تَعَالَى: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}[لقمان: 17].

يَا بُنَيَّ الْقَرِيبَ مِنْ قَلْبِي وَالْحَبِيبَ لِي! إِنِّي أُوصِيكَ بِهَذِهِ الْوَصَايَا الثَّمَانِيَةِ بَعْدَ أَنْ أَوْصَيْتُكَ بِعَهْدٍ مُؤَكَّدٍ مُشَدَّدٍ أَلَّا تُشْرِكَ بِاللهِ:

*الْوَصِيَّةُ الْأُولَى: أَدِّ الصَّلَاةَ تَامَّةً بِأَرْكَانِهَا، وَشُرُوطِهَا، وَوَاجِبَاتِهَا.

الْوَصِيَّةُ الثَّانِيَةُ: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي يَعْرِفُهُ الشَّرْعُ وَالْعَقْلُ.

الْوَصِيَّةُ الثَّالِثَةُ: انْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ الَّذِي يُنْكِرُهُ الشَّرْعُ وَالْعَقْلُ.

الْوَصِيَّةُ الرَّابِعَةُ: وَسَيُصِيبُكَ أَذًى مِنَ الَّذِينَ تَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ؛ فَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ؛ إِنَّ ذَلِكَ الصَّبْرَ عَلَى مَا يُصِيبُ الْقَائِمَ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ يَحْتَاجُ إِرَادَةً قَوِيَّةً رَفِيعَةً هِيَ مِنْ مُسْتَوَى الْعَزْمِ الَّذِي يَدْفَعُ أَصْحَابَهُ إِلَى تَنْفِيذِ مَا يُرِيدُونَ مِمَّا يُرْضِي اللهَ -جَلَّ وَعَلَا-؛ وَلَوِ اقْتَرَنَ بِهِ تَحَمُّلُ أَشَدِّ الصُّعُوبَاتِ، وَتَحَمُّلُ أَعْظَمِ الْآلَامِ.

{وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18].

*الْوَصِيَّةُ الْخَامِسَةُ: وَلَا تَتَكَبَّرْ؛ فَتَحْقِرَ النَّاسَ، وَتُعْرِضَ بِوَجْهِكَ عَنْهُمْ إِذَا كَلَّمُوكَ كَمَا يَفْعَلُ أَهْلُ الْكِبْرِ.

*الْوَصِيَّةُ السَّادِسَةُ: وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مُخْتَالًا مُتَبَخْتِرًا فِي مِشْيَتِكَ؛ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فِي مَشْيِهِ، مُسْتَكْبِرٍ عَلَى النَّاسِ بِإِعْرَاضِهِ عَنْهُمْ، مُبَالِغٍ فِي الْفَخْرِ عَلَى النَّاسِ بِنَفْسِهِ، أَوْ بِمَا آتَاهُ اللهُ مِنْ قُوَّةٍ، أَوْ مَالٍ، أَوْ نَسَبٍ، أَوْ جَاهٍ، أَوْ ذَكَاءٍ، أَوْ جَمَالِ وَجْهٍ وَحُسْنِ طَلْعَةٍ.

وَمَنْ لَا يُحِبُّهُ اللهُ فَإِنَّهُ يُعَرِّضُ نَفْسَهُ لِعِقَابِهِ.

{وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ۚ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 19].

الْوَصِيَّةُ السَّابِعَةُ: وَلْتَكُنْ فِي مِشْيَتِكَ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الْإِسْرَاعِ وَالتَّأَنِّي، فِي سَكِينَةٍ وَوَقَارٍ.

الْوَصِيَّةُ الثَّامِنَةُ: وَاخْفِضْ مِنْ صَوْتِكَ بِقَدْرِ حَاجَةِ الْمُسْتَمِعِينَ؛ إِنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ دُونَ حَاجَةٍ إِلَى رَفْعِهِ مِنْ صِفَاتِ الْحَمِيرِ؛ فَلَا تَكُنْ يَا بُنَيَّ مُتَّصِفًا بِصِفَةٍ هِيَ مِنْ صِفَاتِ الْحَمِيرِ الَّتِي تَنْهَقُ فَتَرْفَعُ أَصْوَاتَهَا الْمُنْكَرَةَ؛ إِنَّ أَقْبَحَ الْأَصْوَاتِ وَأَكْثَرَهَا تَنْفِيرًا لِلْأَسْمَاعِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ.

يَا بُنَيَّ! إِنَّ السَّيِّئَةَ أَوِ الْحَسَنَةَ مَهْمَا كَانَتْ صَغِيرَةً مِثْلَ وَزْنِ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ، وَكَانَتْ فِي بَطْنِ صَخْرَةٍ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا أَحَدٌ، أَوْ كَانَتْ فِي أَيِّ مَكَانٍ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُجَازِي الْعَبْدَ عَلَيْهَا.

إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ، خَبِيرٌ بِهِمْ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أُمُورِهِمْ شَيْءٌ.

يَا بُنَيَّ! أَقِمِ الصَّلَاةَ بِأَدَائِهَا عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ، وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَاصْبِرْ عَلَى مَا نَالَكَ مِنْ مَكْرُوهٍ فِي ذَلِكَ؛ إِنَّ مَا أُمِرْتَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ مِمَّا عَزَمَ اللهُ بِهِ عَلَيْكَ أَنْ تَفْعَلَهُ؛ فَلَا خِيرَةَ لَكَ فِيهِ.

وَلَا تُعْرِضْ بِوَجْهِكَ عَنِ النَّاسِ تَكَبُّرًا، وَلَا تَمْشِ فَوْقَ الْأَرْضِ مُخْتَالًا مُتَكَبِّرًا؛ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فِي مِشْيَتِهِ، فَخُورٍ بِمَا أُوتِيَ مِنْ نِعَمٍ لَا يَشْكُرُ اللهَ عَلَيْهَا، بَلْ يُبْغِضُهُ.

وَتَوَسَّطْ فِي مَشْيِكَ بَيْنَ الْإِسْرَاعِ وَالدَّبِيبِ، مَشْيًا يُظْهِرُ الْوَقَارَ.

وَاخْفِضْ مِنْ صَوْتِكَ، لَا تَرْفَعْهُ رَفْعًا يُؤْذِي؛ إِنَّ أَقْبَحَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ فِي ارْتِفَاعِ أَصْوَاتِهَا.

وَذَكَرَ اللهُ -تَعَالَى- لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: وَإِنَّكَ يَا مُحَمَّدُ لَعَلَى أَدَبٍ عَظِيمٍ، وَذَلِكَ أَدَبُ الْقُرْآنِ الَّذِي أَدَّبَهُ اللهُ بِهِ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ وَشَرَائِعُهُ، قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 3-4].

((وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا عَظِيمًا -كَمَا يُفِيدُهُ التَّنْكِيرُ- غَيْرَ مَقْطُوعٍ، بَلْ هُوَ دَائِمٌ مُسْتَمِرٌّ؛ وَذَلِكَ لِمَا أَسْلَفَهُ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَالْأَخْلَاقِ الْكَامِلَةِ، وَالْهِدَايَةِ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} أَيْ: عَلِيٌّ بِهِ، مُسْتَعْلٍ بِخُلُقِكَ الَّذِي مَنَّ اللهُ عَلَيْكَ بِهِ.

{وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: ((لَعَلَى دِينٍ عَظِيمٍ، لَا دِينَ أَحَبُّ إِلَيَّ وَلَا أَرْضَى عِنْدِي مِنْهُ)).

وَقَالَ الْحَسَنُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((هُوَ آدَابُ الْقُرْآنِ)).

وَقَالَ قَتَادَةُ: ((هُوَ مَا كَانَ يَأْتَمِرُ بِهِ مِنْ أَمْرِ اللهِ، وَيَنْتَهِي عَنْهُ مِنْ نَهْيِ اللهِ)).

وَالْمَعْنَى: إِنَّكَ لَعَلَى الْخُلُقِ الَّذِي آثَرَكَ اللهُ بِهِ فِي الْقُرْآنِ.

وَحَاصِلُ خُلُقِهِ الْعَظِيمِ: مَا فَسَّرَتْهُ بِهِ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- لِمَنْ سَأَلَهَا عَنْهُ، فَقَالَتْ: ((كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ)).

وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْلِهِ -تَعَالَى- لَهُ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ} الْآيَةَ، {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} الْآيَةَ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّاتِ عَلَى اتِّصَافِهِ ﷺ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَالْآيَاتِ الْحَاثَّاتِ عَلَى كُلِّ خُلُقٍ جَمِيلٍ؛ فَكَانَ لَهُ مِنْهَا أَكْمَلُهَا وَأَجَلُّهَا، وَهُوَ فِي كُلِّ خَصْلَةٍ مِنْهَا فِي الذُّرْوَةِ الْعُلْيَا.

فَكَانَ ﷺ سَهْلًا لَيِّنًا، قَرِيبًا مِنَ النَّاسِ، مُجِيبًا لِدَعْوَةِ مَنْ دَعَاهُ، قَاضِيًا لِحَاجَةِ مَنِ اسْتَقْضَاهُ، جَابِرًا لِقَلْبِ مَنْ سَأَلَهُ، لَا يَحْرِمُهُ، وَلَا يَرُدُّهُ خَائِبًا، وَإِذَا أَرَادَ أَصْحَابُهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- مِنْهُ أَمْرًا؛ وَافَقَهُمْ عَلَيْهِ، وَتَابَعَهُمْ فِيهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَحْذُورٌ.

وَإِنْ عَزَمَ عَلَى أَمْرٍ؛ لَمْ يَسْتَبِدَّ بِهِ دُونَهُمْ، بَلْ يُشَاوِرُهُمْ وَيُؤَامِرُهُمْ، وَكَانَ يَقْبَلُ مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَيَعْفُو عَنْ مُسِيئِهِمْ.

وَلَمْ يَكُنْ يُعَاشِرُ جَلِيسًا لَهُ إِلَّا أَتَمَّ عِشْرَةً وَأَحْسَنَهَا، فَكَانَ لَا يَعْبَسُ فِي وَجْهِهِ، وَلَا يُغْلِظُ عَلَيْهِ فِي مَقَالِهِ، وَلَا يَطْوِي عَنْهُ بِشْرَهُ، وَلَا يُمْسِكُ عَلَيْهِ فَلَتَاتِ لِسَانِهِ، وَلَا يُؤَاخِذُهُ بِمَا يَصْدُرُ مِنْهُ مِنْ جَفْوَةٍ، بَلْ يُحْسِنُ إِلَيْهِ غَايَةَ الْإِحْسَانِ، وَيَحْتَمِلُهُ غَايَةَ الِاحْتِمَالِ ﷺ )) .

لَقَدْ جَمَعَ اللهُ -تَعَالَى- لَهُ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199].

قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((أَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ ﷺ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَجْمَعَ لِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ)).

وَأَمَرَنَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالِاقْتِدَاءِ بِالنَّبِيِّ ﷺ فِي أَقْوَالِهِ، وَأَفْعَالِهِ، وَأَخْلَاقِهِ، قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].

«لَقَدْ كَانَ لَكُمْ -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- فِي أَقْوَالِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَأَفْعَالِهِ، وَأَخْلَاقِهِ، وَثِقَتِهِ بِاللهِ، وَثَبَاتِهِ فِي الشَّدَائِدِ وَالْمِحَنِ، وَصَبْرِهِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَقِتَالِهِ بِنَفْسِهِ، وَكُلِّ جُزْئِيَّاتِ سُلُوكِهِ فِي الْحَيَاةِ.. لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِ قُدْوَةٌ صَالِحَةٌ، وَخَصْلَةٌ حَسَنَةٌ مِنْ حَقِّهَا أَنْ يُؤْتَسَى وَيُقْتَدَى بِهَا لِمَنْ كَانَ يُؤَمِّلُ مُرْتَقِبًا ثَوَابَ اللهِ، وَيَرْجُو السَّعَادَةَ الْخَالِدَةَ يَوْمَ الدِّينِ، وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا فِي جَمِيعِ الْمَوَاطِنِ بِالسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ».

عِبَادَ اللهِ! لَقَدْ أَوْلَتِ السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ اهْتِمَامًا كَبِيرًا بِحُسْنِ الْخُلُقِ، وَالنَّبِيُّ ﷺ الْمَثَلُ الْكَامِلُ، النَّبِيُّ ﷺ الْمَثَلُ الْمَضْرُوبُ عَلَمًا عَلَى الْأَخْلَاقِ، وَكَمَالِ الْقِيَمِ، وَشِيَمِ التَّصَوُّرِ الصَّحِيحِ لِمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ مَنْ يُرِيدُهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ خُلَفَاءَ فِي الْأَرْضِ يَحْمِلُونَ الْهِدَايَةَ وَالسَّعَادَةَ وَالنُّورَ، وَعَلَى رَأْسِهِمْ مُحَمَّدٌ ﷺ.

وَهَذِهِ جُمْلَةٌ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ:

عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ». أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ.

وَعَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أُتِيَ اللهُ بِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِهِ آتَاهُ اللهُ مَالًا، فَقَالَ لَهُ: مَاذَا عَمِلْتَ فِي الدُّنْيَا؟

قَالَ: وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا، قَالَ: يَا رَبِّ آتَيْتَنِي مَالَكَ، فَكُنْتُ أُبَايِعُ النَّاسَ، وَكَانَ مِنْ خُلُقِي الْجَوَازُ، فَكُنْتُ أَتَيَسَّرُ عَلَى الْمُوسِرِ، وَأُنْظِرُ الْمُعْسِرَ.

فَقَالَ اللهُ تَعَالَى: أَنَا أَحَقُّ بِذَا مِنْكَ، تَجَاوَزُوا عَنْ عَبْدِي». أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَاللَّفْظُ لَهُ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ خُلُقًا». أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَاللَّفْظُ لَهُ، وَأَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَنَا زَعِيمٌ -الزَّعِيمُ هَاهُنَا: الضَّامِنُ- بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ -رَبَضُ الْجَنَّةِ: مَا حَوْلَهَا خَارِجًا عَنْهَا، تَشْبِيهًا بِالْأَبْنِيَةِ الَّتِي تَكُونُ حَوْلَ الْمَدِينَةِ وَتَحْتَ الْقِلَاعِ- لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ -أَيِ: الْجَدَلَ- وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسُنَ خُلُقُهُ». أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَاللَّفْظُ لَهُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

فَجَعَلَ الْبَيْتَ الْعُلْوِيَّ جَزَاءً لِأَعْلَى الْمَقَامَاتِ الثَّلَاثَةِ، وَهِيَ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالْأَوْسَطَ لِأَوْسَطِهَا، وَهُوَ تَرْكُ الْكَذِبِ، وَالْأَدْنَى لِأَدْنَاهَا، وَهُوَ تَرْكُ الْمُمَارَاةِ؛ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ حَقٌّ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ مُشْتَمِلٌ عَلَى هَذَا كُلِّهِ.

وَعِنْدَ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، أَنَّ سَعْدَ بْنَ هِشَامٍ سَأَلَهَا فَقَالَ: ((يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ! أَنْبِئِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللهِ ﷺ )).

قَالَتْ: ((أَلَيْسَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟)).

قَالَ: ((بَلَى)).

قَالَتْ: «فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللهِ ﷺ كَانَ الْقُرْآنَ».

وَعَنْهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَغَيْرُهُمَا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ، وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ، وَالْمُتَشَدِّقُونَ، وَالْمُتَفَيْهِقُونَ».

قَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! قَدْ عَلِمْنَا الثَّرْثَارُونَ، وَالْمُتَشَدِّقُونَ، فَمَا الْمُتَفَيْهِقُونَ؟)).

قَالَ: «الْمُتَكَبِّرُونَ». أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَغَيْرُهُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

الثَّرْثَارُ: هُوَ كَثِيرُ الْكَلَامِ بِغَيْرِ فَائِدَةٍ دِينِيَّةٍ، وَالْمُتَشَدِّقُ: الْمُتَكَلِّمُ بِمِلْءِ فِيهِ تَفَاصُحًا وَتَعَاظُمًا وَتَطَاوُلًا، وَإِظْهَارًا لِفَضْلِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْفَهْقِ، وَهُوَ الِامْتِلَاءُ. وَأَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنَّ الْبِرَّ: هُوَ حُسْنُ الْخُلُقِ؛ فَفِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنِ الْبِرِّ، وَالْإِثْمِ؟

فَقَالَ: ((الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ)).

فَقَابَلَ الْبِرَّ بِالْإِثْمِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ الْبِرَّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالْإِثْمَ حَوَّازُ الصُّدُورِ، أَيْ: مَا يَحِيكُ فِيهَا.

وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ هُوَ الدِّينُ كُلُّهُ، وَهُوَ حَقَائِقُ الْإِيمَانِ، وَشَرَائِعُ الْإِسْلَامِ؛ وَلِهَذَا قَابَلَهُ بِالْإِثْمِ.

وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: ((الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي الصَّدْرِ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالدَّارِمِيُّ، وَأَبُو يَعْلَى، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَهُوَ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

وَقَدْ فُسِّرَ حُسْنُ الْخُلُقِ بِأَنَّهُ الْبِرُّ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ: طُمَأْنِينَةُ النَّفْسِ وَالْقَلْبِ، وَالْإِثْمَ حَوَّازُ الصُّدُورِ، وَمَا حَاكَ فِيهَا وَاسْتَرَابَتْ بِهِ، وَهَذَا غَيْرُ حُسْنِ الْخُلُقِ وَسُوئِهِ فِي عُرْفِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ.

وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: (({خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [الأعراف: 199] قَالَ: مَا أَنْزَلَ اللهُ –يَعْنِي: هَذِهِ الْآيَةَ- إِلَّا فِي أَخْلَاقِ النَّاسِ)).

وَعَنْهُ -أَيْضًا- قَالَ: ((أَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ ﷺ أَنْ يَأْخُذَ الْعَفْوَ مِنْ أَخْلَاقِ النَّاسِ)) أَوْ كَمَا قَالَ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ؟

فَقَالَ: «تَقْوَى اللهِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ)).

وَسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ؟

فَقَالَ: «الْفَمُ، وَالْفَرْجُ». أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَغَيْرُهُمَا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) -وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((لَمَّا بَلَغَ أَبَا ذَرٍّ مَبْعَثُ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ لِأَخِيهِ: ارْكَبْ إِلَى هَذَا الْوَادِي فَاعْلَمْ لِي عِلْمَ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ يَأْتِيهِ الْخَبَرُ مِنَ السَّمَاءِ، وَاسْمَعْ مِنْ قَوْلِهِ، ثُمَّ ائْتِنِي)).

فَانْطَلَقَ الْأَخُ حَتَّى قَدِمَهُ، وَسَمِعَ مِنْ قَوْلِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَبِي ذَرٍّ، فَقَالَ لَهُ: ((رَأَيْتُهُ يَأْمُرُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَكَلَامًا مَا هُوَ بِالشِّعْرِ)). الْحَدِيثَ.

وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «مَا شَيْءٌ أَثْقَلَ فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ، وَإِنَّ اللهَ لَيُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ».

وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ((مَا مِنْ شَيْءٍ يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ، وَإِنَّ صَاحِبَ حُسْنِ الْخُلُقِ لَيَبْلُغُ بِهِ دَرَجَةَ صَاحِبِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا، فَأَرْسَلَنِي يَوْمًا لِحَاجَةٍ، فَقُلْتُ: وَاللهِ لَا أَذْهَبُ، وَفِي نَفْسِي أَنْ أَذْهَبَ لِمَا أَمَرَنِي بِهِ نَبِيُّ اللهِ ﷺ)).

قَالَ أَنَسٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((فَخَرَجْتُ حَتَّى أَمُرَّ عَلَى صِبْيَانٍ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي السُّوقِ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ ﷺ قَابِضٌ بِقَفَايَ مِنْ وَرَائِي، فَنَظَرْتُ إِلَيْه وَهُوَ يَضْحَكُ)).

فَقَالَ: «يَا أُنَيْسُ! اذْهَبْ حَيْثُ أَمَرْتُكَ».

قُلْتُ: ((نَعَمْ، أَنَا أَذْهَبُ يَا رَسُولَ اللهِ)).

قَالَ أَنَسٌ: ((وَاللهِ! لَقَدْ خَدَمْتُهُ سَبْعَ سِنِينَ أَوْ تِسْعَ سِنِينَ مَا عَلِمْتُ قَالَ لِشَيْءٍ صَنَعْتُ: لِمَ فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا؟ وَلَا لِشَيْءٍ تَرَكْتُ: هَلَّا فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا؟)).

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الْآخَرِ حَتَّى تَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُحْزِنَهُ». أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ.

وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ، وَالصَّلَاةِ، وَالصَّدَقَةِ؟».

قَالُوا: ((بَلَى)).

قَالَ: «صَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ؛ فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ، أَوْ بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّارُ؟ عَلَى كُلِّ قَرِيبٍ هَيِّنٍ سَهْلٍ». أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَعَنْ أَبِي هُبَيْرَةَ عَائِذِ بْنِ عَمْرٍو الْمُزَنِيِّ -وَهُوَ مِنْ أَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ--، أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَتَى عَلَى سَلْمَانَ وَصُهَيْبٍ وَبِلَالٍ فِي نَفَرٍ، فَقَالُوا: ((وَاللهِ! مَا أَخَذَتْ سُيُوفُ اللهِ مِنْ عُنُقِ عَدُوِّ اللهِ مَأْخَذَهَا)).

فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَتَقُولُونَ هَذَا لِشَيْخِ قُرَيْشٍ وَسَيِّدِهِمْ؟!)).

فَأَتَى النَّبِيَّ ﷺ، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ! لَعَلَّكَ أَغْضَبْتَهُمْ، لَئِنْ كُنْتَ أَغْضَبْتَهُمْ لَقَدْ أَغْضَبْتَ رَبَّكَ».

فَأَتَاهُمْ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: ((يَا إِخْوَتَاهُ! آغْضَبْتُكُمْ؟)).

قَالُوا: ((لَا، يَغْفِرُ اللهُ لَكَ يَا أُخَيَّ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لِأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ: «إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ؛ الْحِلْمُ، وَالْأَنَاةُ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ اللهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا؛ حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «إِنَّمَا مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السُّوءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ -أَيْ: يُعْطِيَكَ-، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا خَبِيثَةً». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «كَانَ تَاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَإِذَا رَأَى مُعْسِرًا؛ قَالَ لِفِتْيَانِهِ: تَجَاوَزُوا عَنْهُ؛ لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا، فَتَجَاوَزَ اللهُ عَنْهُ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ وَأَصْحَابُهُ يَعْفُونَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا أَمَرَهُمُ اللهُ، وَيَصْطَبِرُونَ عَلَى الْأَذَى، قَالَ تَعَالَى: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ..} [آل عمران: 186] الْآيَةَ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا..} [البقرة: 109] الْآيَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَتَأَوَّلُ الْعَفْوَ مَا أَمَرَهُ اللهُ بِهِ حَتَّى أَذِنَ اللهُ -تَعَالَى- فِيهِمْ..)). الْحَدِيثَ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا؛ وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ، فَيُعْرِضُ هَذَا، وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَا يَفْرَكُ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

وَ((لَا يَفْرَكُ)) أَيْ: لَا يُبْغِضُهَا بُغْضًا مُصْمَتًا يُؤَدِّي بِهِ إِلَى تَرْكِهَا.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَرَّ رَجُلٌ بِغُصْنِ شَجَرَةٍ عَلَى ظَهْرِ طَرِيقٍ، فَقَالَ: وَاللهِ! لَأُنَحِّيَنَّ هَذَا عَنِ الْمُسْلِمِينَ لَا يُؤْذِيهِمْ، فَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الْخَيْرِ، وَمَنْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الْخَيْرِ». أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «وَمَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ». أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَسَكِّنُوا وَلَا تُنَفِّرُوا».

 

 

((مِنْ تَطْبِيقَاتِ حُسْنِ الْخُلُقِ: الْكَلَامُ الْحَسَنُ))

عِبَادَ اللهِ! لِحُسْنِ الْخُلُقِ تَطْبِيقَاتٌ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا: حُسْنُ الْحَدِيثِ، وَانْتِقَاءُ أَطَايِبِ الْكَلَامِ، وَالْبُعْدُ عَنِ الْفُحْشِ فِي الْقَوْلِ؛ فَهَذَا -بَعْدَ صِحَّةِ الْعَقِيدَةِ- عُنْوَانُ الِاسْتِقَامَةِ، وَدَلِيلُ دَمَاثَةِ الْخُلُقِ، وَسَبِيلُ النَّجَاةِ مِنْ نَزْغِ الشَّيْطَانِ بَيْنَ النَّاسِ لِلْإِفْسَادِ بَيْنَهُمْ؛ حَيْثُ يَقُولُ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ-: وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} [الإسراء: 53].

((يَأْمُرُ -تَعَالَى- رَسُولَهُ ﷺ أَنْ يَأْمُرَ عِبَادَ اللهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا فِي مُخَاطَبَاتِهِمْ وَمُحَاوَرَاتِهِمُ الْكَلَامَ الْأَحْسَنَ وَالْكَلِمَةَ الطَّيِّبَةَ؛ فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنَهُمْ، وَأَخْرَجَ الْكَلَامَ إِلَى الْفَعَالِ، وَوَقَعَ الشَّرُّ وَالْمُخَاصَمَةُ وَالْمُقَاتَلَةُ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ عَدُوٌّ لِآدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ مِنْ حِينَ امْتَنَعَ مِنَ السُّجُودِ لِآدَمَ، فَعَدَاوَتُهُ ظَاهِرَةٌ بَيِّنَةٌ؛ وَلِهَذَا نُهِيَ أَنْ يُشِيرَ الرَّجُلُ إِلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ بِحَدِيدَةٍ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِي يَدِهِ -أَيْ: فَرُبَّمَا أَصَابَهُ بِهَا-)).

وَيَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83].

((أَيْ: كَلِّمُوهُمْ طَيِّبًا، وَلِينُوا لَهُمْ جَانِبًا، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ بِالْمَعْرُوفِ، كَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي قَوْلِهِ: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}: فَالْحَسَنُ مِنَ الْقَوْلِ: يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيَحْلُمُ، وَيَعْفُو، وَيَصْفَحُ، وَيَقُولُ لِلنَّاسِ حُسْنًا كَمَا قَالَ اللهُ، وَهُوَ كُلُّ خُلُقٍ حَسَنٍ رَضِيَهُ اللهُ)).

وَيَقُولُ نَبِيُّنَا : ((لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «مَا شَيْءٌ أَثْقَلَ فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ، وَإِنَّ اللهَ لَيُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ».

((مِنْ تَطْبِيقَاتِ حُسْنِ الْخُلُقِ: احْتِرَامُ الْكَبِيرِ))

وَمِنْ تَطْبِيقَاتِ حُسْنِ الْخُلُقِ: احْتِرَامُ الْكَبِيرِ سِنًّا أَوْ مَقَامًا، وَتَوْقِيرُهُ؛ فَقَدْ أَعْطَى الْإِسْلَامُ الْكَبِيرَ حَقَّهُ مِنَ الشَّرَفِ وَالتَّقْدِيرِ وَالتَّوْقِيرِ؛ لِمَا خُصَّ بِهِ مِنَ السَّبْقِ فِي الْوُجُودِ وَتَجْرِبَةِ الْأُمُورِ.

وَإِجْلَالُ الْكَبِيرِ هُوَ حَقُّ سِنِّهِ؛ لِكَوْنِهِ تَقَلَّبَ فِي الْعُبُودِيَّةِ للهِ فِي أَمَدٍ طَوِيلٍ، وَرَحْمَةُ الصَّغِيرِ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى رفَعَ عَنْهُ التَّكْلِيفَ.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيَعْرِفْ حَقَّ كَبِيرِنَا، فَلَيْسَ مِنَّا». وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَالْحَاكِمُ فِي «الْمُسْتَدْرَكِ»، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

قَوْلُهُ ﷺ: «فَلَيْسَ مِنَّا»: أَيْ: لَيْسَ عَلَى سُنَّتِنَا، أَوْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْكَمَالِ مِنَّا.

فِي الْحَدِيثِ: دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ حُسْنِ الْأَخْلَاقِ وَوُجُوبِ الرَّحْمَةِ، مِنْ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ لِبَعْضٍ، وَمِنْ مُقْتَضَى حُسْنِ الْخُلُقِ وَالرَّحْمَةِ أَنْ يُوَقِّرَ الصَّغِيرُ الْكَبِيرَ، لِوُجُودِ حُسْنِ الْخُلُقِ لَدَيْهِ، وَأَنْ يَرْحَمَ الْكَبِيرُ الصَّغِيرَ؛ لِأَنَّ الْكَبِيرَ قَدْ عَقَلَ مَا لَا يَعْقِلُ الصَّغِيرُ، وَعَلِمَ مَا لَا يَعْلَمُ الصَّغِيرُ.

وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيُجِلَّ كَبِيرَنَا، فَلَيْسَ مِنَّا». وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

«يُجِلُّ»: يُعَظِّمُ قَدْرَهُ.

فِي الْحَدِيثِ: وُجُوبُ التَّوْقِيرِ مِنَ الصَّغِيرِ لِلْكَبِيرِ؛ احْتِسَابًا وَطَلَبًا لِلْأَجْرِ كَذَلِكَ، وَرَحْمَةِ الْكَبِيرِ لِلصَّغِيرِ؛ احْتِسَابًا وَطَلَبًا لِلْأَجْرِ، وَاتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ، وَحِرْصًا عَلَى التَّحَلِّي بِالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا رَحْمَةُ الْكَبِيرِ لِلصَّغِيرِ، وَتَوْقِيرُ الصَّغِيرِ لِلْكَبِيرِ.

وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: «إِنَّ مِنَ إِجْلَالِ اللهِ: إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَلَا الْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ». وَالْحَدِيثُ حَدِيثٌ حَسَنٌ، أَخْرَجَهُ -أَيْضًا- أَبُو دَاوُدَ مَرْفُوعًا.

«إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللهِ» أَيْ: مِنْ تَبْجِيلِهِ وَتَعْظِيمِهِ -جَلَّ وَعَلَا- «إِكْرَامَ ذَيِ الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ»: تَعْظِيمَ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ فِي الْإِسْلَامِ بِتَوْقِيرِهِ فِي الْمَجَالِسِ، وَالرِّفْقِ بِهِ، وَالشَّفَقَةِ عَلَيْهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ كَمَالِ تَعْظِيمِ اللهِ -تَعَالَى-؛ لِحُرْمَةِ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ عِنْدَ اللهِ.

فَالَّذِي يَتَدَبَّرُ مُتَأَمِّلًا يَرَى أَهَمِّيَّةَ هَذِهِ الْمَعْطُوفَاتِ فِي الْأَحَادِيثِ، وَيَعْلَمُ سُمُوَّ مَنْزِلَتِهَا؛ فَإِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللهِ -تَعَالَى- ومِنْ تَعْظِيمِهِ: أَنْ يَعْرِفَ الْمَرْءُ حَقَّ هَؤُلَاءِ عَلَيْهِ.

فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ: تَأْكِيدٌ نَبَوِيٌّ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى تَوْقِيرِ الْكِبَارِ، وَإِجْلَالِهِمْ، وَالِاعْتِرَافِ بِحُقُوقِهِمْ، وَالْمُعَامَلَةِ مَعَهُمْ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ.

وَفِيهَا: بَيَانُ فَضِيلَةِ وَأَسَاسِ الْمُجْتَمَعِ الْإِسْلَامِيِّ، مَعَ بَيَانِ الْخَيْرِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَيْهِ هَذَا الْمُجْتَمَعُ الْفَاضِلُ؛ لِأَنَّ خَلَلًا عَظِيمًا جِدًّا يَحْدُثُ فِي مُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَمَا لَا يُعْرَفُ لِلْكَبِيرِ حَقُّهُ، وَالنَّبِيُّ ﷺ شَدَّدَ فِي ذَلِكَ كَمَا فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ.

وَأَوْلَى النَّاسِ بِالِاحْتِرَامِ وَالتَّقْدِيرِ هُمَا الْوَالِدَانِ؛ حَيْثُ يَقُولُ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 23-24].

((يَقُولُ -تَعَالَى- آمِرًا بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ فَإِنَّ الْقَضَاءَ هَاهُنَا بِمَعْنَى الْأَمْرِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: {وَقَضَى} يَعْنِي: وَصَّى، وَكَذَا قَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَالضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ، وَوَصَّى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ؛ وَلِهَذَا قَرَنَ بِعِبَادَتِهِ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ فَقَالَ: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} أَيْ: وَأَمَرَ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكِ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14].

وَقَوْلُهُ: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ} أَيْ: لَا تُسْمِعْهُمَا قَوْلًا سَيِّئًا؛ حَتَّى وَلَا التَّأْفِيفَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى مَرَاتِبِ الْقَوْلِ السَّيِّءِ، {وَلَا تَنْهَرْهُمَا} أَيْ: وَلَا يَصْدُرْ مِنْكَ إِلَيْهِمَا فِعْلٌ قَبِيحٌ.

وَلَمَّا نَهَاهُ عَنِ الْقَوْلِ الْقَبِيحِ وَالْفِعْلِ الْقَبِيحِ أَمَرَهُ بِالْقَوْلِ الْحَسَنِ وَالْفِعْلِ الْحَسَنِ فَقَالَ: {وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} أَيْ: لَيِّنًا طَيِّبًا حَسَنًا بِتَأَدُّبٍ وَتَوْقِيرٍ وَتَعْظِيمٍ، {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} أَيْ: تَوَاضَعْ لَهُمَا بِفِعْلِكَ، {وقل رب ارحمهما} أَيْ: فِي كِبَرِهِمَا وَعِنْدَ وَفَاتِهِمَا {كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا})).

((مِنْ تَطْبِيقَاتِ حُسْنِ الْخُلُقِ: كَفُّ الْأَذَى عَنِ الْمُسْلِمِينَ))

وَمِنْ تَطْبِيقَاتِ حُسْنِ الْخُلُقِ: كَفُّ الْأَذَى عَنِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَمِنْ حَقِّ الْمُسْلِمِ عَلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ: أَلَّا يُؤْذِيَهُ بِفِعْلٍ وَلَا قَوْلٍ، وَقَدْ حَذَّرَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ ذَلِكَ تَحْذِيرًا شَدِيدًا، وَبَيَّنَ الرَّسُولُ ﷺ فَضْلَ الَّذِي يَجْتَهِدُ فِي تَنْحِيَةِ الْأَذَى عَنِ الْمُسْلِمِينَ؛ سَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْأَذَى يَعْتَرِضُ الْمُسْلِمِينَ فِي طُرُقِهِمْ، أَوْ يَعْتَرِضُ الْمُسْلِمِينَ فِي حَيَاتِهِمْ.

النَّبِيُّ ﷺ يُبَيِّنُ حَالَ الْمُسْلِمِ فِي كَمَالِ إِسْلَامِهِ فَيَقُولُ: ((الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ)).

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَفْضَلُ الْمُسْلِمِينَ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ)).

وَهَذَا الْجُزْءُ الْأَوَّلُ فِيمَا ذَكَرَهُ الرَّسُولُ ﷺ مِنْ أَصْعَبِ الْأُمُورِ؛ لِأَنَّكَ يُمْكِنُ أَنْ تَكُفَّ يَدَكَ عَنِ الْأَذَى يَصِلُ بِسَبَبِهَا إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَكِنْ مِنْ أَصْعَبِ الْأَشْيَاءِ أَنْ تَكُفَّ أَذَى لِسَانِكَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ اللِّسَانَ يَتَمَرَّدُ عَلَى صَاحِبِهِ تَمَرُّدًا عَظِيمًا، وَلَا يُمْكِنُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُذَلِّلَ اللِّسَانَ لِدِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ إِلَّا بِتَوْفِيقٍ مِنَ اللهِ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-، وَإِلَّا بِبَذْلِ جُهْدٍ عَظِيمٍ فِي رِيَاضَةٍ مُتَّصِلَةٍ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ وَاعِيًا لِكُلِّ لَفْظَةٍ يَلْفِظُهَا؛ حَتَّى لَا يَتَعَرَّضَ لِسَخَطِ اللهِ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-.

الرَّسُولُ ﷺ يَقُولُ: ((لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَتَقَلَّبُ فِي الْجَنَّةِ فِي شَجَرَةٍ قَطَعَهَا عَنْ ظَهْرِ الطَّرِيقِ كَانَتْ تُؤْذِي الْمُسْلِمِينَ)).

شَجَرَةٌ عَلَى ظَهْرِ الطَّرِيقِ إِذَا مَا مَرَّ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الطَّرِيقِ؛ آذَتْ مَنْ يَمُرُّ بِجِوَارِهَا أَوْ تَحْتَهَا، فَقَالَ رَجُلٌ لِنَفْسِهِ: إِنَّ هَذِهِ تُؤْذِي إِخْوَانِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَامَ بِقَطْعِهَا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِنِيَّةِ أَلَّا يَصِلَ أَذَاهَا إِلَى الْمُسْلِمِينَ، فَرَآهُ الرَّسُولُ ﷺ يَتَقَلَّبُ فِي الْجَنَّةِ فِي شَجَرَةٍ قَطَعَهَا عَنْ ظَهْرِ الطَّرِيقِ كَانَتْ تُؤْذِي الْمُسْلِمِينَ.

وَقَالَ أَبُو بَرْزَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((يَا نَبِيَّ اللهِ! عَلِّمْنِي شَيْئًا أَنْتَفِعُ بِهِ)).

قَالَ: ((اعْزِلِ الْأَذَى عَنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ)).

وَقَدْ بَيَّنَ لَنَا الرَّسُولُ ﷺ أَنَّ ((إِمَاطَةَ الْأَذَى شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ)) فِيمَا صَحَّ عَنْهُ ﷺ.

يَقُولُ الرَّسُولُ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ يَكْرَهُ أَذَى الْمُؤْمِنِينَ)).

اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَكْرَهُ أَنْ يَصِلَ مِنَ الْمُؤْمِنِ لِأَخِيهِ الْمُؤْمِنِ وَمِنَ الْمُسْلِمِ لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ أَذًى بِأَيِّ صُورَةٍ مِنَ الصُّوَرِ، هَذَا مِمَّا يَكْرَهُهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَلَا يُحِبُّهُ.

وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ: ((النَّاسُ رَجُلَانِ؛ مُؤْمِنٌ فَلَا تُؤْذِهِ، وَجَاهِلٌ فَلَا تُجَاهِلْهُ)).

النَّاسُ إِمَّا مُؤْمِنٌ فَيَجِبُ عَلَيْكَ أَلَّا تُؤْذِيَ الْمُؤْمِنَ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الصِّنْفَ الْآخَرَ؛ وَهُوَ الْجَاهِلُ، فَالْجَاهِلُ يَجِبُ عَلَيْكَ أَلَّا تُجَاهِلَهُ.

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: صَعِدَ رَسُولُ اللهِ ﷺ المِنْبَرَ؛ فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ، وَلَمْ يُفْضِ الإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ! لَا تُؤْذُوا المُسْلِمِينَ».

قَالَ: وَنَظَرَ ابْنُ عُمَرَ يَوْمًا إِلَى البَيْتِ، أَوْ إِلَى الكَعْبَةِ فَقَالَ: «مَا أَعْظَمَكِ! وَمَا أَعْظَمَ حُرْمَتَكِ! وَالْمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللهِ مِنْكِ». وَهَذَا الحَدِيثُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ».

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ ثَلَاثَةٌ: مُلْحِدٌ فِي الحَرَمِ، وَمُبْتَغٍ فِي الإِسْلَامِ سُنَّةَ الجَاهِلِيَّةِ، وَمُطَّلِبُ دَمِ امْرِئٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لِيُهْرِيقَ دَمَهُ». أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ.

وَفي «الصَّحِيحَيْنِ»: عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «المُسْلمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللهُ -تَعَالَى- عَنْهُ».

وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللهِ ﷺ عَنِ الإِشَارَةِ بِالسِّلَاحِ أَوِ الحَدِيدِ إِلَى المُسْلِمِ؛ جَادًّا، أَوْ مَازِحًا، أَوْ مُمَثِّلًا، وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ قَدْ يُوقِعُ فَاعِلَهُ فِي حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مَلْعُونٌ إِذَا فَعَلَ؛ فَكَيْفَ بِمَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ عَمْدًا؟!

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «لَا يُشِيرُ أَحَدُكُمْ إِلَى أَخِيهِ بِالسِّلَاحِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِي يَدِهِ، فَيَقَعُ فِي حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: قَالَ أَبُو القَاسِمِ ﷺ: «مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ؛ فَإِنَّ المَلَائِكَةَ تَلْعَنُهُ؛ حَتَّى وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ».

فَهَذَا لَا يَجُوزُ؛ لَا عَلَى سَبِيلِ الجِدِّ، وَلَا عَلَى سَبِيلِ المُزَاحِ، وَلَا عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ، وَأَنَّهُ يَكُونُ مَلْعُونًا إِذَا أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِالحَدِيدَةِ؛ أَيْ: بِالسِّلَاحِ؛ وَلَوْ كَانَ مَازِحًا، وَلَوْ كَانَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ، كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ.

وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ دُخُولِ المَسَاجِدِ وَالأَسْوَاقِ وَأَمَاكِنِ تَجَمُّعِ النَّاسِ بِالأَسْلِحَةِ إِذَا كَانَ فِي حَمْلِهَا ضَرَرٌ عَلَى المُسْلِمِينَ.

عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «مَنْ مَرَّ فِي شَيْءٍ مِنْ مَسَاجِدِنَا أَوْ أَسْوَاقِنَا وَمَعَهُ نَبْلٌ فَلْيُمْسِكْ -أَوْ قَالَ: فَلْيَأْخُذْ، أَوْ: لِيَقْبِضْ- عَلَى نِصَالِهَا بِكَفِّهِ؛ أَنْ يُصِيبَ أَحَدًا مِنَ المُسْلِمِينَ مِنْهَا بِشَيءٍ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ فِي المَسْجِدِ وَمَعَهُ سِهَامٌ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَمْسِكْ بِنِصَالِهَا». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَفِي لَفْظٍ: «أَنَّ رَجُلًا مَرَّ بِأَسْهُمٍ فِي المَسْجِدِ قَدْ أَبْدَى نُصُولَهَا، فَأُمِرَ أَنْ يَأْخُذَ بِنُصُولِهَا؛ كَيْ لَا يَخْدِشَ مُسْلِمًا».

وَنَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ إِخَافَةِ المُسْلِمِينَ، وَعَنْ إِرْهَابِهِمْ؛ فَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ:«مَنْ أَخَافَ أَهْلَ المَدِينَةِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ، وَالمَلَائِكَةِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا، مَنْ أَخَافَهَا فَقَدْ أَخَافَ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ، وَأَشَارَ إِلَى مَا بَيْنَ جَنْبَيْهِ ﷺ ».

وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ ﷺ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسِيرُونَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ، فَنَامَ رَجُلٌ مِنهُمْ، فَانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ إِلَى حَبْلٍ مَعَهُ -مَعَ النَّائِمِ-، فَأَخَذَهُ فَفَزِعَ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا».

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الْآخَرِ حَتَّى تَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنَّ ذَلِكَ يُحزِنُهُ». أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ.

وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ أَبِى هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ‏)).

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يُسْلِمُهُ، مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً؛ فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». هَذَا حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ.

((مِنْ تَطْبِيقَاتِ حُسْنِ الْخُلُقِ:

الْكَفُّ عَنِ الْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالسُّخْرِيَةِ))

وَمِنْ تَطْبِيقَاتِ حُسْنِ الْخُلُقِ: الْبُعْدُ وَالْكَفُّ عَنِ الْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالسُّخْرِيَةِ مِنْ خَلْقِ اللهِ -تَعَالَى-؛ حَيْثُ يَقُولُ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} [الحجرات: 11-12].

هَذَا مِنْ حُقُوقِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ؛ أَلَّا يَسْخَرَ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ بِكُلِّ كَلَامٍ وَقَوْلٍ وَفِعْلٍ دَالٍّ عَلَى تَحْقِيرِ الْأَخِ الْمُسْلِمِ، فَإِنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى إِعْجَابِ السَّاخِرِ بِنَفْسِهِ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ الْمَسْخُورُ بِهِ خَيْرًا مِنَ السَّاخِرِ، وَهُوَ الْغَالِبُ وَالْوَاقِعُ، فَإِنَّ السُّخْرِيَةَ لَا تَقَعُ إِلَّا مِنْ قَلْبٍ مُمْتَلِئٍ مِنْ مَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ، مُتَحَلٍّ بِكُلِّ خُلُقٍ ذَمِيمٍ، مُتَخَلٍّ مِنْ كُلِّ خُلُقٍ كَرِيمٍ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((بِحَسَبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يُحَقِّرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ}؛ أَيْ: لَا يَعِبْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَاللَّمْزُ: بِالْقَوْلِ، وَالْهَمْزِ: بِالْفِعْلِ، وَكِلَاهُمَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ حَرَامٌ، مُتَوَعَّدٌ عَلَيْهِ بِالنَّارِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} الْآيَةُ، وَسُمِّيَ الْأَخُ الْمُسْلِمُ نَفْسًا لِأَخِيهِ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَكَذَا حَالُهُمْ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ، وَلِأَنَّهُ إِذَا هَمَزَ غَيْرَهُ؛ أَوْجَبَ لِلْغَيْرِ أَنْ يَهْمِزَهُ، فَيَكُونُ هُوَ الْمُتَسَبِّبَ لِذَلِكَ.

{وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ}؛ أَيْ: لَا يُعَيِّرْ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، وَلَا يُلَقِّبْهُ بِلَقَبِ ذَمٍّ يَكْرَهُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ وَهَذَا هُوَ التَّنَابُزُ، وَأَمَّا الْأَلْقَابُ غَيْرُ الْمَذْمُومَةِ فَلَا تَدْخُلُ فِي هَذَا.

{بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ}؛ أَيْ: بِئْسَمَا تَبَدَّلْتُمْ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ بِشَرَائِعِهِ وَمَا تَقْتَضِيهِ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ بِاسْمِ الْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، الَّذِي هُوَ التَّنَابُزُ بِالْأَلْقَابِ.

{وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}: وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى الْعَبْدِ؛ أَنْ يَتُوبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَيَخْرُجَ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، بِاسْتِحْلَالِهِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَالْمَدْحِ لَهُ مُقَابَلَةً عَلَى ذَمِّه إِيَّاهِ.

{وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}؛ فَالنَّاسُ قِسْمَانِ: ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ غَيْرُ تَائِبٍ، وَتَائِبٌ مُفْلِحٌ، وَلَا ثَمَّ قِسْمٌ ثَالِثٌ غَيْرُهُمَا.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ}.

نَهَى -تَعَالَى- عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الظَّنِّ السُّوءِ بِالْمُؤْمِنِينَ {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} وَذَلِكَ كَالظَّنِّ الْخَالِي مِنَ الْحَقِيقَةِ وَالْقَرِينَةِ، وَكَظَنِّ السَّوْءِ الَّذِي يَقْتَرِنُ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ الْمُحَرَّمَةِ، فَإِنَّ بَقَاءَ ظَنِّ السَّوْءِ بِالْقَلْبِ لَا يَقْتَصِرُ صَاحِبُهُ عَلَى مُجَرَّدِ ذَلِكَ، بَلْ لَا يَزَالُ بِهِ حَتَّى يَقُولَ مَا لَا يَنْبَغِي، وَيَفْعَلَ مَا لَا يَنْبَغِي، وَفِي ذَلِكَ أَيْضًا إِسَاءَةُ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ، وَبُغْضُهُ، وَعَدَاوَتُهُ الْمَأْمُورُ بِخِلَافِهَا مِنْهُ.

{وَلا تَجَسَّسُوا}؛ أَيْ: لَا تُفَتِّشُوا عَنْ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَّبِعُوهَا، وَدَعُوا الْمُسْلِمَ عَلَى حَالِهِ، وَاسْتَعْمِلُوا التَّغَافُلَ عَنْ زَلَّاتِهِ الَّتِي إِذَا فَتَّشْتَ ظَهَرَ مِنْهَا مَا لَا يَنْبَغِي.

{وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا}؛ وَالْغَيْبَةُ، كَمَا قَالَ رسول الله ﷺ: ((ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ وَلَوْ كَانَ فِيهِ)).

ثُمَّ ذَكَرَ -تَعَالَى- مَثَلًا مُنَفِّرًا عَنِ الْغَيْبَةِ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ}؛ فَشَبَّهَ أَكْلَ لَحْمِهِ مَيْتًا، وَهُوَ مَكْرُوهٌ لِلنُّفُوسِ غَايَةَ الْكَرَاهَةِ.. شَبَّهَهُ بِاغْتِيَابِهِ، فَكَمَا أَنَّكُمْ تَكْرَهُونَ أَكْلَ لَحْمِهِ، وَخُصُوصًا إِذَا كَانَ مَيْتًا فَاقِدَ الرُّوحِ، فَكَذَلِكَ فَلْتَكْرَهُوا غَيْبَتَهُ، وَأَكْلَ لَحْمِهِ حَيًّا.

{وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ}؛ وَالتَّوَّابُ: الَّذِي يَأْذَنُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ، فَيُوَفِّقُهُ لَهَا، ثُمَّ يَتُوبُ عَلَيْهِ بِقَبُولِ تَوْبَتِهِ، رَحِيمٌ بِعِبَادِهِ، حَيْثُ دَعَاهُمْ إِلَى مَا يَنْفَعُهُمْ، وَقَبِلَ مِنْهُمُ التَّوْبَةَ.

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ: دَلِيلٌ عَلَى التَّحْذِيرِ الشَّدِيدِ مِنَ الْغَيْبَةِ، وَأَنَّهَا مِنَ الْكَبَائِرِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ شَبَّهَهَا بِأَكْلِ لَحْمِ الْمَيْتِ، وَذَلِكَ مِنَ الْكَبَائِرِ.

فَيَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّقِيَ اللهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فِي أَلْسِنَتِنَا، وَلْنَعْلَمْ أَنَّ الْغِيبَةَ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ؛ يَعْنِي: لَنْ تَتُوبَ مِنْهَا إِلَّا إِذَا أَحَلَّكَ مَنِ اغْتَبْتَهُ، تَوَرَّطْتَ؛ لِأَنَّكَ إِذَا تُبْتَ إِلَى اللهِ، فَكَفَفْتَ عَنِ الْغِيبَةِ، وَعَزَمْتَ عَلَى أَلَّا تَعُودَ، وَنَدِمْتَ عَلَى مَا فَعَلْتَ؛ لَا تَصِحُّ تَوْبَتُكَ.

إِذَا كَانَتِ التَّوْبَةُ مُتَعَلِّقَةً بِحُقُوقِ الْعِبَادِ؛ فَإِنَّهَا لَا تُقْبَلُ حَتَّى تُؤَدِّيَ الْحُقُوقَ إِلَى أَصْحَابِهَا.

هَلْ تَذْهَبُ إِلَى مَنِ اغْتَبْتَهُ لِتَقُولَ: اغْتَبْتُكَ؛ فَاجْعَلْنِي فِي حِلٍّ؟!!

سَيَقُولُ لَكَ: مَاذَا قُلْتَ؟!!

فَإِنْ قُلْتَ؛ دَارَتِ الْمَعْرَكَةُ، وَرُبَّمَا سُفِكَتِ الدِّمَاءُ، وَإِنْ لَمْ تَقُلْ؛ قَالَ: لَا وَاللهِ، لَا أُسَامِحُكَ حَتَّى نَمْثُلَ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

لِمَاذَا تُوَرِّطُ نَفْسَكَ؟!!

قَالَ الْحَسَنُ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((لَوْ كُنْتُ مُغْتَابًا أَحَدًا؛ لَاغْتَبْتُ أَبَوَيَّ، هُمَا أَوْلَى بِحَسَنَاتِي)).

مَا دُمْتَ تُوَزِّعُ الْحَسَنَاتِ؛ فَأَبَوَاكَ أَوْلَى بِحَسَنَاتِكَ!!

وَمِنَ السَّفَهِ الْعَقْلِيِّ، وَالْفَسَادِ الْفِكْرِيِّ، وَالْخَلَلِ النَّفْسِيِّ: أَنْ يَقَعَ الْمَرْءُ فِي الْغِيبَةِ؛ لِأَنَّهُ لَنْ يَغْتَابَ إِلَّا مَنْ يُبْغِضُهُ، لَنْ يَغْتَابَ إِلَّا مَنْ يَكْرَهُهُ، فَأَنْتَ تُهْدِي لَهُ حَسَنَاتِكَ، تَجْعَلُ رَقَبَتَكَ فِي يَدِهِ وَهُوَ لَكَ عَدُوٌّ، وَهُوَ لَكَ مُبْغِضٌ، وَأَنْتَ لَهُ كَذَلِكَ!!

هَلْ هَذَا مِنَ الْعَقْلِ فِي شَيْءٍ؟!!

هَذِهِ الطَّوَائِفُ مِنَ الْأَذَى؛ مِنَ السُّخْرِيَةِ بِالنَّاسِ، وَتَعْيِيرِهِمْ، وَمُنَادَاتِهِمْ بِالْأَسْمَاءِ الَّتِي يَكْرَهُونَهَا، وَإِسَاءَةِ الظَّنِّ بِهِمْ، وَالتَّجَسُّسِ عَلَيْهِمْ، وَغِيبَتِهِمْ؛ كُلُّهَا حَرَامٌ وَإِجْرَامٌ، وَمَعَاصٍ شَنِيعَةٌ حَرَّمَهَا الرَّبُّ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ لِأَنَّهَا تُفْسِدُ أَحْوَالَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَنْتَشِرَ بَيْنَهُمْ.

هَذِهِ الشُّرُورُ وَالْآثَامُ بِهَذِهِ الْحُرْمَةِ إِذَا كَانَتْ مُوَجَّهَةً إِلَى عُمُومِ النَّاسِ؛ فَكَيْفَ بِهَا إِذَا كَانَتْ تَسْتَهْدِفُ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْجِيرَانَ وَالْأَصْحَابَ؟!! فَهِيَ بِلَا شَكٍّ أَشَدُّ إِثْمًا، وَأَعْظَمُ جُرْمًا.

نَسْأَلُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يَمُنَّ عَلَيْنَا بِمَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ، وَأَنْ يُدِيمَنَا عَلَيْهَا وَأَنْ يُدِيمَهَا عَلَيْنَا، حَتَّى يَقْبِضَنَا عَلَيْهَا، وَأَنْ يَحْشُرَنَا فِي زُمْرَةِ مَنْ بَعَثَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِيُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنَهَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى أَصْحَابِهِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

المصدر: تَطْبِيقَاتُ حُسْنِ الْخُلُقِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  التَّضْحِيَةُ لِأَجْلِ الْوَطَنِ سَبِيلُ الشُّرَفَاءِ وَالْعُظَمَاءِ الْأَوْفِيَاءِ
  ذِكْرُ اللهِ فِي رَمَضَانَ
  فضائل الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم
  مَعَالِمُ الرَّحْمَةِ فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ
  صِفَاتُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ
  إرهاب الطابور الخامس
  الْعَدْلُ وَأَثَرُهُ فِي اسْتِقْرَارِ الْمُجْتَمَعِ
  الرد على الملحدين:الدليل الخُلُقي ودلالته على وجود الخالق
  مواعظ رمضانية - الجزء الثالث
  الشِّتَاءُ.. أَحْكَامٌ وَآدَابٌ وَمَحَاذِير
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان