((وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ!))
فَكَثِيرًا مَا يَشْتَكِي الْعِبَادُ مِنْ قَسْوَةِ الْقُلُوبِ، وَمَحْقِ الْبَرَكَاتِ، وَوَسَاوِسِ الشَّيَاطِينِ، وَالِانْشِغَالِ بِالدُّنْيَا عَنِ الدِّينِ، وَغَفَلُوا عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم: 42].
قَالَ مَيْمُونُ بْنُ هَارُونَ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ: ((هِيَ تَعْزِيَةٌ لِلْمَظْلُومِ، وَوَعِيدٌ لِلظَّالِمِ)).
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((نَحْنُ نَسْلٌ مِنْ نَسْلِ الْجَنَّةِ، سَبَانَا إِبْلِيسُ مِنْهَا بِالْمَعْصِيَةِ، وَحَقِيقٌ عَلَى الْمُسِيءِ أَلَّا يَهْنَأَ بِعَيْشِهِ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى وَطَنِهِ)).
وَهَذَا كُلُّهُ إِنَّمَا هُوَ ثَمَرَةُ الْمَعْصِيَةِ وَشُؤْمُهَا.
قَالَ تَعَالَى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 35-36].
وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ۚ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21].
وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28].
((وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ))
لَقَدْ أَمَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- النَّاسَ أَنْ يَتْرُكُوا جَمِيعَ الْمَعَاصِي؛ مَا كَانَ مِنْهَا عَلَانِيَةً وَمَا كَانَ سِرًّا، إِنَّ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ الْمَعَاصِيَ سَيُعَاقِبُهُمْ رَبُّهُمْ بِسَبَبِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَهُ مِنَ السَّيِّئَاتِ، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 120].
وَاتْرُكُوا -أَيُّهَا النَّاسُ- مَا أَعْلَنْتُمْ بِهِ وَمَا جَاءَكُمْ بِهِ الْبَيَانُ مِنْ رَبِّكُمْ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنَ الذُّنُوبِ كُلِّهَا، فَذَرُوا ذَلِكَ مِمَّا أَعْلَنْتُمْ بِهِ وَمَا أَسْرَرْتُمْ بِهِ مِنَ الذُّنُوبِ كُلِّهَا؛ كَبَائِرِهَا وَصَغَائِرِهَا، وَمَا كَانَ مِنْهَا بِالْجَوَارِحِ، وَمَا كَانَ مِنْهَا بِالْقُلُوبِ؛ كَالنِّفَاقِ، وَالرِّيَاءِ، وَالْحَسَدِ، وَالنِّيَّاتِ الْفَاسِدَةِ؛ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ بِفِعْلِ مَا نُهُوا عَنْهُ نَهْيَ تَحْرِيمٍ وَتَرْكِ مَا أُمِرُوا بِهِ أَمْرَ إِيجَابٍ سَيُجْزَوْنَ فِي الْآخِرَةِ بِسَبَبِ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْآثَامِ وَالْأَعْمَالِ الْخَبِيثَةِ.
((الْمُرَادُ بِالْإِثْمِ: جَمِيعُ الْمَعَاصِي الَّتِي تُؤَثِّمُ الْعَبْدَ، أَيْ: تُوقِعُهُ فِي الْإِثْمِ وَالْحَرَجِ، مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِحُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ، فَنَهَى اللَّهُ عِبَادَهُ عَنِ اقْتِرَافِ الْإِثْمِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، أَيِ: السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْبَدَنِ وَالْجَوَارِحِ، وَالْمُتَعَلِّقَةِ بِالْقَلْبِ، وَلَا يَتِمُّ لِلْعَبْدِ تَرْكُ الْمَعَاصِي الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَتِهَا وَالْبَحْثِ عَنْهَا، فَيَكُونُ الْبَحْثُ عَنْهَا وَمَعْرِفَةُ مَعَاصِي الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ وَالْعِلْمُ بِذَلِكَ وَاجِبًا مُتَعَيِّنًا عَلَى الْمُكَلَّفِ.
وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ تَخْفَى عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمَعَاصِي؛ خُصُوصًا مَعَاصِيَ الْقَلْبِ؛ كَالْكِبْرِ، وَالْعُجْبِ، وَالرِّيَاءِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ حَتَّى إِنَّهُ يَكُونُ بِهِ كَثِيرٌ مِنْهَا وَهُوَ لَا يُحِسُّ بِهِ وَلَا يَشْعُرُ، وَهَذَا مِنَ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْعِلْمِ، وَعَدَمِ الْبَصِيرَةِ.
ثُمَّ أَخْبَرَ -تَعَالَى- أَنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ الظَّاهِرَ وَالْبَاطِنَ سَيُجْزَوْنَ عَلَى حَسْبِ كَسْبِهِمْ وَعَلَى قَدْرِ ذُنُوبِهِمْ، قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ، وَهَذَا الْجَزَاءُ يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الدُّنْيَا يُعَاقَبُ الْعَبْدُ فَيُخَفَّفُ عَنْهُ بِذَلِكَ مِنْ سَيِّئَاتِهِ)).
((مَعْنَى الْمَعْصِيَةِ وَجُمْلَةٌ مِنْ أَسْمَائِهَا))
الْمَعْصِيَةُ فِي اللُّغَةِ: الْخُرُوجُ مِنَ الطَّاعَةِ، يُقَالُ: عَصَاهُ مَعْصِيَةً وَعِصْيَانًا: خَرَجَ مِنْ طَاعَتِهِ، وَخَالَفَ أَمْرَهُ، فَهُوَ عَاصٍ وَعَصَّاءٌ وَعَصِيٌّ.
وَالْعِصْيَانُ خِلَافُ الطَّاعَةِ، عَصَى الْعَبْدُ رَبَّهُ إِذَا خَالَفَ أَمْرَهُ، وَعَصَى فُلَانٌ أَمِيرَهُ يَعْصِيهِ عَصْيًا وَعِصْيَانًا وَمَعْصِيَةً إِذَا لَمْ يُطِعْهُ؛ فَهُوَ عَاصٍ وَعَصِيٌّ.
الْعِصْيَانُ: تَرْكُ الِانْقِيَادِ.
وَالْمَعَاصِي فِي الِاصْطِلَاحِ الشَّرْعِيِّ: تَرْكُ الْمَأْمُورَاتِ، وَفِعْلُ الْمَحْظُورَاتِ.
الْمَعَاصِي: تَرْكُ مَا أَمَرَ اللهُ -تَعَالَى- بِهِ أَوْ أَمَرَ بِهِ رَسُولُهُ ﷺ، وَفِعْلُ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ أَوْ نَهَى عَنْهُ رَسُولُهُ ﷺ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ وَالْمَقَاصِدِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ.
قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [النساء: 14].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} [الأحزاب: 36].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}.
وَقَدْ جَاءَ مَعْنَى الْمَعْصِيَةِ بِأَلْفَاظٍ كَثِيرَةٍ، مِنْ ذَلِكَ:
* الْفُسُوقُ وَالْعِصْيَانُ، قَالَ تَعَالَى: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات: 7].
* وَالْحُوبُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَآتُوا الْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ ۖ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ۖ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء: 2] أَيْ: مَعْصِيَةً كَبِيرَةً وَإِثْمًا كَبِيرَةً.
* الذَّنْبُ، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ قَوْمَ لُوطٍ، وَمَدْيَنَ، وَعَادٍ، وَثَمُودَ، وَقَارُونَ، وَفِرْعَوْنَ، وَهَامَانَ-: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ ۖ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 40].
* الْخَطِيئَةُ، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي ذِكْرِهِ لِقَوْلِ إِخْوَةِ يُوسُفَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} [يوسف: 97].
* وَالسَّيِّئَةُ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114].
* وَكَذَلِكَ الْإِثْمُ، قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33].
* وَمِنْ أَسْمَاءِ الْمَعَاصِي: الْفَسَادُ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33].
* الْعُتُوُّ، قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف: 166].
فَهَذِهِ بَعْضُ أَسْمَاءِ الْمَعَاصِي الَّتِي وَرَدَتْ فِي كِتَابِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
((سَبَبُ الْمَعْصِيَةِ))
سَبَبُ الْمَعْصِيَةِ كَمَا قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّ صَاحِبَ الْمَعْصِيَةِ يَحْدُوهُ فِي ذَلِكَ الْغَفْلَةُ وَالشَّهْوَةُ، وَهِيَ أَصْلُ الشَّرِّ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28].
وَالْهَوَى لَا يَسْتَقِلُّ بِفِعْلِ السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَعَ الْجَهْلِ؛ وَإِلَّا فَصَاحِبُ الْهَوَى إِذَا عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ يَضُرُّهُ ضَرَرًا رَاجِحًا انْصَرَفَتْ نَفْسُهُ عَنْهُ بِالطَّبْعِ؛ لِذَلِكَ قَالَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: ((كُلُّ مَنْ عَصَى اللهَ فَهُوَ جَاهِلٌ)) )).
وَلَكِنَّ هَذَا الْمِسْكِينَ لَا يُعْذَرُ بِذَلِكَ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ تَدَبُّرِ الْعَوَاقِبِ وَمَا تَضُرُّهُ الذُّنُوبُ بِآثَارِهَا، وَمَا تَجُرُّهُ عَلَيْهِ مِنْ شُؤْمٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ -عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ-؛ لِأَنَّ الْعَاصِيَ حِينَ يَعْصِي إِنَّمَا يَعْصِي مَلِكَ الْمُلُوكِ، قَالَ بِلَالُ بْنُ سَعْدٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((لَا تَنْظُرْ إِلَى صِغَرِ الْخَطِيئَةِ، لَكِنِ انْظُرْ إِلَى عِظَمِ مَنْ عَصَيْتَ)).
الْمَعَاصِي لَهَا أَسْبَابٌ وَدَوَاعٍ يَرْجِعُ مُجْمَلُهَا إِلَى أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ لَخَّصَهَا الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- فِيمَا يَلِي:
* تَعَلُّقُ الْقَلْبِ بِغَيْرِ اللهِ، وَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى الشِّرْكِ.
* طَاعَةُ الْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ، وَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى الظُّلْمِ.
* طَاعَةُ الْقُوَّةِ الشَّهْوَانِيَّةِ، وَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى الْفَوَاحِشِ.
فَغَايَةُ التَّعَلُّقِ بِغَيْرِ اللهِ الشِّرْكُ، وَأَنْ يُدْعَى مَعَهُ إِلَهٌ آخَرُ، وَغَايَةُ طَاعَةِ الْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ الْقَتْلُ، وَغَايَةُ طَاعَةِ الْقُوَّةِ الشَّهْوَانِيَّةِ الزِّنَا؛ لِهَذَا جَمَعَ اللهُ -سُبْحَانَهُ- بَيْنَ الثَّلَاثَةِ فِي قَوْلِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68].
فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ يَدْعُو بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ؛ فَالشِّرْكُ يَدْعُو إِلَى الظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ، كَمَا أَنَّ التَّوْحِيدَ وَالْإِخْلَاصَ يَصْرِفُهَا عَنْ صَاحِبِهِ، وَهَذَا -وَاللهِ- حَاصِلُ وَاقِعِنَا؛ حَيْثُ تَسَلَّطَ أَرْبَابُ الْكُفْرِ عَلَى رِقَابِ الْمُسْلِمِينَ بِلَا هَوَادَةٍ وَلَا رَحْمَةٍ، فَلَا تَكَادُ تَسْمَعُ بِمَأْسَاةٍ فِي جَمِيعِ أَرْجَاءِ الْعَالَمِ إِلَّا وَلِلْمُسْلِمِينَ النَّصِيبُ الْأَكْبَرُ مِنْ تِلْكَ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ -فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ-.
وَهَذَا كُلُّهُ بِسَبَبِ شُؤْمِ الْمَعْصِيَةِ.
مِنْ أَسْبَابِ الْمَعَاصِي: ضَعْفُ الْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ بِاللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَالْجَهْلُ بِهِ -سُبْحَانَهُ-؛ فَإِنَّ عَدَمَ الْمُرَاقَبَةِ للهِ -تَعَالَى-، وَعَدَمَ الْخَوْفِ مِنْهُ، وَعَدَمَ مَحَبَّتِهِ وَإِجْلَالِهِ وَتَعْظِيمِهِ وَخَشْيَتِهِ تَجْعَلُ الْإِنْسَانَ يَسْتَخِفُّ بِوَعْدِ اللهِ -تَعَالَى- وَوَعِيدِهِ، وَاللهُ -سُبْحَانَهُ- لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، قَالَ تَعَالَى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19]، وقال سبحانه-: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء: 218-219].
فَضَعْفُ الْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ مَعَ الْجَهْلِ بِاللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ كُلُّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى الْوُقُوعِ فِي الْمَعَاصِي.
وَمِمَّا هُوَ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْوُقُوعِ فِي الْمَعَاصِي: الشُّبُهَاتُ، قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَالْفِتْنَةُ نَوْعَانِ: فِتْنَةُ الشُّبُهَاتِ، وَهِيَ أَعْظَمُ الْفِتْنَتَيْنِ، وَفِتْنَةُ الشَّهَوَاتِ، وَقَدْ يَجْتَمِعَانِ لِلْعَبْدِ، وَقَدْ يَنْفَرِدُ بِإِحْدَاهُمَا، فَفِتْنَةُ الشُّبُهَاتِ تَنْشَأُ مِنْ ضَعْفِ الْبَصِيرَةِ، وَقِلَّةِ الْعِلْمِ، وَفَسَادِ الْقَصْدِ، وَحُصُولِ الْهَوَى، وَتَنْشَأُ -أَيْضًا- فِتْنَةُ الشُّبُهَاتِ مِنْ فَهْمٍ فَاسِدٍ، وَتَارَةً مِنْ نَقْلٍ كَاذِبٍ، وَتَارَةً مِنْ حَقٍّ ثَابِتٍ خَفِيَ عَلَى الرَّجُلِ فَلَمْ يَظْفَرْ بِهِ، وَتَارَةً مِنْ غَرَضٍ فَاسِدٍ وَهَوًى مُتَّبَعٍ؛ فَهِيَ مِنْ عَمًى فِي الْبَصِيرَةِ، وَفَسَادٍ فِي الْإِرَادَةِ.
الشَّهَوَاتُ مِنْ أَسْبَابِ الْوُقُوعِ فِي الْمَعَاصِي.
وَقَدْ جَمَعَ اللهُ -تَعَالَى- بَيْنَ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُم بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} [التوبة: 69].
قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: أَيْ: تَمَتَّعُوا بِنَصِيبِهِمْ مِنَ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهِمْ، وَالْخَلَاقُ: هُوَ النَّصِيبُ وَالْقَدْرُ، ثُمَّ قَالَ: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا}: فَهَذَا الْخَوْضُ بِالْبَاطِلِ، وَهُوَ الشُّبُهَاتُ.
فَأَشَارَ -سُبْحَانَهُ- فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى مَا يَحْصُلُ بِهِ فَسَادُ الْقُلُوبِ وَالْأَدْيَانِ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْخَلَاقِ، وَالْخَوْضِ بِالْبَاطِلِ؛ لِأَنَّ فَسَادَ الدِّينِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِاعْتِقَادٍ بَاطِلٍ، وَالتَّكَلُّمِ بِهِ، أَوْ بِالْعَمَلِ، بِخِلَافِ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ؛ فَالْأَوَّلُ هُوَ الْبِدَعُ وَمَا وَالَاهَا، وَالثَّانِي فِسْقُ الْأَعْمَالِ، فَالْأَوَّلُ فَسَادٌ مِنْ جِهَةِ الشُّبُهَاتِ، وَالثَّانِي مِنْ جِهَةِ الشَّهَوَاتِ.
وَفِتْنَةُ الشُّبُهَاتِ تُدْفَعُ بِالْيَقِينِ، وَفِتْنَةُ الشَّهَوَاتِ تُدْفَعُ بِالصَّبْرِ؛ لِهَذَا جَعَلَ اللهُ -تَعَالَى- إِمَامَةَ الدِّينِ بِالصَّبْرِ وَالْيَقِينِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ بِالصَّبْرِ وَالْيَقِينِ تُنَالُ الْإِمَامَةُ فِي الدِّينِ.
فَبِكَمَالِ الْعَقْلِ وَالصَّبْرِ تُدْفَعُ فِتْنَةُ الشَّهْوَةِ، وَبِكَمَالِ الْبَصِيرَةِ وَالْيَقِينِ تُدْفَعُ فِتْنَةُ الشُّبْهَةِ)).
وَلَا شَكَّ أَنَّ الشَّهَوَاتِ مِنْهَا مَا يَكُونُ مُبَاحًا حَلَالًا، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ حَرَامًا؛ فَحَلَالُهَا مَا أَحَلَّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَحَرَامُهَا مَا حَرَّمَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ.
وَمِنْ أَسْبَابِ الْوُقُوعِ فِي الْمَعَاصِي -بَلْ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ وُقُوعِ الْمَعَاصِي-: الشَّيْطَانُ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَثُ عَدُوٍّ لِلْإِنْسَانِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ۚ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6].
وَالشَّيَاطِينُ نَوْعَانِ: شَيَاطِينُ الْإِنْسِ، وَشَيَاطِينُ الْجِنِّ.
قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112].
وَالْمَخْرَجُ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ، وَبِالدَّفْعِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَمُقَابَلَةِ السَّيِّئَةِ بِالْحَسَنَةِ.
أَمَّا شَيَاطِينُ الْجِنِّ فَالْمَخْرَجُ مِنْ فِتْنَتِهَا وَوَسْوَسَتِهَا بِالِاسْتِعَاذَةِ بِاللهِ -تَعَالَى- مِنْهَا، قَالَ تَعَالَى: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ۚ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 200].
وَالشَّيْطَانُ يُرِيدُ أَنْ يَظْفَرَ بِالْإِنْسَانِ فِي عَقَبَةٍ مِنْ سَبْعِ عَقَبَاتٍ بَعْضُهَا أَصْعَبُ مِنْ بَعْضٍ، لَا يَنْزِلُ مِنْهَا -أَيْ: مِنَ الْعَقَبَةِ الشَّاقَّةِ إِلَى مَا دُونَهَا- إِلَّا إِذَا عَجَزَ عَنِ الظَّفَرِ بِهِ فِيهَا.
* الْعَقَبَةُ الْأُولَى: عَقَبَةُ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ بِاللهِ، وَبِدِينِهِ، وَلِقَائِهِ، وَبِصِفَاتِ كَمَالِهِ، وَبِمَا أَخْبَرَتْ رُسُلُهُ عَنْهُ؛ فَإِنَّهُ إِنْ ظَفِرَ بِهِ فِي هَذِهِ الْعَقَبَةِ بَرَدَتْ نَارُ عَدَاوَتِهِ وَاسْتَرَاحَ.
* فَإِنْ نَجَا الْعَبْدُ مِنْ هَذِهِ الْعَقَبَةِ طَلَبَهُ عَلَى الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ: وَهِيَ عَقَبَةُ الْبِدْعَةِ؛ إِمَّا بِاعْتِقَادِ خِلَافِ الْحَقِّ الَّذِي أَرْسَلَ اللهُ بِهِ رَسُولَهُ ﷺ، وَإِمَّا بِالتَّعَبُّدِ بِمَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ مِنَ الْأُمُورِ الْمُحْدَثَةِ فِي الدِّينِ الَّتِي لَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْهَا شَيْئًا.
* فَإِنْ وُفِّقَ الْعَبْدُ لِقَطْعِ هَذِهِ الْعَقَبَةِ طَلَبَهُ الشَّيْطَانُ عَلَى الْعَقَبَةِ الثَّالِثَةِ: وَهِيَ عَقَبَةُ الْكَبَائِرِ، فَإِنْ ظَفِرَ بِهِ فِيهَا زَيَّنَهَا لَهُ، وَحَسَّنَهَا فِي عَيْنَيْهِ.
* فَإِنْ قَطَعَ الْعَبْدُ هَذِهِ الْعَقَبَةَ -بِتَوْفِيقِ اللهِ- طَلَبَهُ الشَّيْطَانُ عَلَى الْعَقَبَةِ الرَّابِعَةِ: وَهِيَ عَقَبَةُ الصَّغَائِرِ، فَكَالَ لَهُ مِنْهَا بِالْمَكَايِيلِ الْعَظِيمَةِ، وَمَا يَزَالُ يُهَوِّنُ عَلَيْهِ أَمْرَهَا حَتَّى يُصِرَّ عَلَيْهَا؛ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ مُرْتَكِبُ الْكَبِيرَةِ الْخَائِفُ الْوَجِلُ النَّادِمُ أَحْسَنَ حَالًا مِنْهُ؛ فَالْإِصْرَارُ عَلَى الذَّنْبِ أَقْبَحُ مِنْهُ، وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَلَا صَغِيرَةَ مَعَ الْإِصْرَارِ.
* فَإِنْ نَجَا الْعَبْدُ مِنْ هَذِهِ الْعَقَبَةِ -وَهِيَ عَقَبَةُ الصَّغَائِرِ-؛ طَلَبَهُ الشَّيْطَانُ عَلَى الْعَقَبَةِ الْخَامِسَةِ: وَهِيَ عَقَبَةُ الْمُبَاحَاتِ الَّتِي لَا حَرَجَ فِيهَا، فَيَشْغَلُهُ بِهَا عَنْ الِاسْتِكْثَارِ مِنَ الطَّاعَاتِ، وَعَنْ الِاجْتِهَادِ فِي التَّزَوُّدِ لِمَعَادِهِ، ثُمَّ طَمِعَ فِيهِ أَنْ يَسْتَدْرِجَهُ مِنْهَا إِلَى تَرْكِ السُّنَنِ، ثُمَّ مِنْ تَرْكِ السُّنَنِ إِلَى تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ، وَأَقَلُّ مَا يَنَالُ مِنْهُ تَفْوِيتُ الْأَرْبَاحِ وَالْمَكَاسِبِ الْعَظِيمَةِ.
* فَإِنْ نَجَا الْعَبْدُ مِنْ هَذِهِ الْعَقَبَةِ بِبَصِيرَةٍ تَامَّةٍ، وَنُورٍ هَادٍ، وَمَعْرِفَةٍ بِقَدْرِ الطَّاعَاتِ؛ طَلَبَهُ الشَّيْطَانُ عَلَى الْعَقَبَةِ السَّادِسَةِ: وَهِيَ عَقَبَةُ الْأَعْمَالِ الْمَرْجُوحَةِ الْمَفْضُولَةِ مِنَ الطَّاعَاتِ، فَأَمَرَهُ بِهَا، وَحَسَّنَهَا فِي عَيْنِهِ، وَزَيَّنَهَا لَهُ؛ لِيَشْغَلَهُ بِهَا عَمَّا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا، وَأَعْظَمُ كَسْبًا وَرِبْحًا، فَشَغَلَهُ بِالْمَفْضُولِ عَنِ الْفَاضِلِ، وَبِالْمَرْجُوحِ عَنِ الرَّاجِحِ.
* فَإِنْ نَجَا الْعَبْدُ مِنْ هَذِهِ الْعَقَبَةِ بِفِقْهِ الْأَعْمَالِ، وَمَرَاتِبِهَا عِنْدَ اللهِ، وَمَنَازِلِهَا فِي الْفَضْلِ؛ لَمْ يَبْقَ هُنَاكَ عَقَبَةٌ يَطْلُبُهُ عَلَيْهَا سِوَى وَاحِدَةٍ لَا بُدَّ مِنْهَا؛ وَهِيَ الْعَقَبَةُ السَّابِعَةُ: تَسْلِيطُ جُنْدِهِ عَلَيْهِ بِأَنْوَاعِ الْأَذَى؛ بِالْيَدِ، وَاللِّسَانِ، وَالْقَلْبِ، عَلَى حَسَبِ مَرْتَبَتِهِ فِي الْخَيْرِ، فَكُلَّمَا عَلَتْ مَرْتَبَتُهُ أَجْلَبَ عَلَيْهِ الْعَدُوُّ بِخَيْلِهِ وَرَجِلِهِ، وَظَاهَرَ عَلَيْهِ بِجُنْدِهِ، وَسَلَّطَ عَلَيْهِ حِزْبَهُ وَأَهْلَهُ بِأَنْوَاعِ التَّسْلِيطِ، وَهَذِهِ الْعَقَبَةُ لَا حِيلَةَ لِلْعَبْدِ فِي التَّخَلُّصِ مِنْهَا؛ فَإِنَّهَا كُلَّمَا جَدَّ فِي الِاسْتِقَامَةِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ جَدَّ الْعَدُوُّ فِي إِغْرَاءِ السُّفَهَاءِ بِهِ، وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.
((أَوَّلُ ذَنْبٍ عُصِيَ اللهُ بِهِ فِي السَّمَاءِ وَفِي الْأَرْضِ))
أَوَّلُ ذَنْبٍ عُصِيَ اللهُ -تَعَالَى- بِهِ فِي السَّمَاءِ: هُوَ حَسَدُ إِبْلِيسَ لِآدَمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؛ حَيْثُ لَمْ يَمْتَثِلْ إِبْلِيسُ لِأَمْرِ اللهِ -تَعَالَى- فِي السُّجُودِ لَهُ، وَقَدْ نَتَجَ ذَلِكَ عَنْ كِبْرِهِ وَغُرُورِهِ وَتَكَبُّرِهِ، بَعْدَ ذَلِكَ وَقَعَ عِصْيَانُ آدَمَ وَحَوَّاءَ؛ بَيْنَمَا أَكَلَا مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نَهَاهُمَا اللهُ -تَعَالَى- عَنِ الْأَكْلِ مِنْهَا، وَكَانَ ذَلِكَ بِتَحْرِيضِ إِبْلِيسَ وَوَسْوَسَتِهِ، ثُمَّ تَابَ آدَمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَقَبِلَ اللهُ تَوْبَتَهُ؛ ذَلِكَ لِأَنَّ تَرْكَ الْأَمْرِ عِنْدَ اللهِ أَعْظَمُ مِنَ ارْتِكَابِ النَّهْيِ؛ لِأَنَّ آدَمَ نُهِيَ عَنْ أَكْلِ الشَّجَرَةِ فَأَكَلَ مِنْهَا، فَتَابَ اللهُ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا إِبْلِيسُ فَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْجُدَ لِآدَمَ فَلَمْ يَسْجُدْ، فَلَمْ يَتُبْ عَلَيْهِ، وَأَيْضًا لِأَنَّ الذَّنْبَ الَّذِي وَقَعَ مِنْ إِبْلِيسَ إِنَّمَا نَشَأَ عِنْ كِبْرِهِ، وَأَمَّا الذَّنْبُ الَّذِي وَقَعَ مِنْ آدَمَ فَإِنَّمَا نَشَأَ عَنْ جَهْلِهِ وَنِسْيَانِهِ.
فَذَنْبُ ارْتِكَابِ النَّهْيِ مَصْدَرُهُ فِي الْغَالِبِ الشَّهْوَةُ وَالْحَاجَةُ، وَأَمَّا ذَنْبُ تَرْكِ الْأَمْرِ فَمَصْدَرُهُ فِي الْغَالِبِ الْكِبْرُ وَالْعِزَّةُ، ((وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ))، وَيَدْخُلُهَا مَنْ مَاتَ عَلَى التَّوْحِيدِ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ.
إِذَنْ؛ مَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ أَوَامِرِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- كَالصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا فَهُوَ بِلَا شَكٍّ فِي خَطَرٍ عَظِيمٍ.
وَأَمَّا أَوَّلُ ذَنْبٍ عُصِيَ اللهُ -تَعَالَى- بِهِ فِي الْأَرْضِ؛ فَهُوَ حَسَدُ قَابِيلَ لِأَخِيهِ هَابِيلَ حَتَّى قَتَلَهُ؛ فَفِي الْحَدِيثِ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَا مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا؛ ذَلِكَ بِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)).
فَمَا مِنْ إِنْسَانٍ يُقْتَلُ ظُلْمًا إِلَّا وَيَلْحَقُ بَعْضُ إِثْمِهِ بِابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ الَّذِي كَانَ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ، وَذَلِكَ كُلُّهُ بِسَبَبِ شُؤْمِ الْمَعْصِيَةِ.
((الذُّنُوبُ جِرَاحَاتٌ))
لَقَدْ تَسَاهَلَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي اقْتِرَافِ الْمَعْصِيَةِ، وَتَصَوَّرُوا أَنَّ مُجَرَّدَ التَّوْبَةِ كَافٍ فِي مَحْوِ الذُّنُوبِ.
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الذُّنُوبُ جِرَاحَاتٌ، وَرُبَّ جُرْحٍ وَقَعَ فِي مَقْتَلٍ)).
وَوَاللهِ! إِنَّهُ لَا يَكْفِي مُجَرَّدُ اسْمِ التَّوْبَةِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ النَّدَمِ، وَالْخَوْفِ، وَمُلَازَمَةِ الِاسْتِغْفَارِ، مَعَ بَذْلِ الْحَسَنَاتِ وَأَعْمَالِ الْبِرِّ؛ حَتَّى نَكُونَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ النَّاجِينَ، قَالَ تَعَالَى: {إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الفرقان: 70]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان: 71])).
((ضَرَرُ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي وَخَطَرُهَا))
عِبَادَ اللهِ! مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ: أَنَّ الذُّنُوبَ وَالْمَعَاصِيَ تَضُرُّ وَلَا بُدَّ، وَأَنَّ ضَرَرَها فِي الْقُلُوبِ كَضَرَرِ السُّمُومِ فِي الْأَبْدَانِ عَلَى اخْتِلَافِ دَرَجَاتِهَا فِي الضَّرَرِ.
وَهَلْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ شَرٌّ وَدَاءٌ إِلَّا وَسَبَبُهُ الذُّنُوبُ وَالْمَعَاصِي؟!
فَمَا الَّذِي أَخْرَجَ الْأَبَوَيْنِ مِنَ الْجَنَّةِ؛ دَارِ اللَّذَّةِ وَالنَّعِيمِ وَالْبَهْجَةِ وَالسُّرُورِ إِلَى دَارِ الْآلَامِ وَالْأَحْزَانِ وَالْمَصَائِبِ؟!
وَمَا الَّذِي أَخْرَجَ إِبْلِيسَ مِنْ مَلَكُوتِ السَّمَاءِ، وَطَرَدَهُ وَلَعَنَهُ، وَمَسَخَ ظَاهِرَهُ وَبَاطِنَهُ، فَجَعَلَ صُورَتَهُ أَقْبَحَ صُورَةٍ وَأَشْنَعَهَا، وَبَاطِنَهُ أَقْبَحَ مِنْ صُورَتِهِ وَأَشْنَعَ، وَبُدِّلَ بِالْقُرْبِ بُعْدًا، وَبِالرَّحْمَةِ لَعْنَةً، وَبِالْجَمَالِ قُبْحًا، وَبِالْجَنَّةِ نَارًا تَلَظَّى، وَبِالْإيمَانِ كُفْرًا، وَبِمُوَالَاةِ الْوَلِيِّ الْحَمِيدِ أَعْظَمَ عَدَاوَةٍ وَمُشَاقَّةٍ، وَبِزَجَلِ التَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ وَالتَّهْلِيلِ زَجَلَ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ وَالْكَذِبِ وَالزُّورِ وَالْفُحْشِ، وَبِلِبَاسِ الْإِيمَانِ لِبَاسَ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ؟!
فَهَانَ عَلَى اللهِ غَايَةَ الْهَوَانِ، وَسَقَطَ مِنْ عَيْنِهِ غَايَةَ السُّقُوطِ، وَحَلَّ عَلَيْهِ غَضَبُ الرَّبِّ تَعَالَى فَأَهْوَاهُ، وَمَقَتَهُ أَكْبَرَ الْمَقْتِ فَأَرْدَاهُ، فَصَارَ قَوَّادًا لِكُلِّ فَاسِقٍ وَمُجْرِمٍ، رَضِيَ لِنَفْسِهِ بِالْقِيَادَةِ بَعْدَ تِلْكَ الْعِبَادَةِ وَالسِّيَادَةِ؛ فَعِيَاذًا بِكَ اللَّهُمَّ مِنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِكَ، وَارْتِكَابِ نَهْيِكَ.
وَمَا الَّذِي أَغْرَقَ أَهْلَ الْأَرْضِ كُلَّهُمْ؛ حَتَّى عَلَا الْمَاءُ فَوْقَ رُؤُوسِ الْجِبَالِ؟!
وَمَا الَّذِي سَلَّطَ الرِّيحَ عَلَى قَوْمِ عَادٍ؛ حَتَّى أَلْقَتْهُمْ مَوْتَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ، وَدَمَّرَتْ مَا مَرَّتْ عَلَيْهِ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَحُرُوثِهِمْ، وَزُرُوعِهِمْ، وَدَوَابِّهِمْ؛ حَتَّى صَارُوا عِبْرَةً لِلْأُمَمِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؟!
وَمَا الَّذِي أَرْسَلَ عَلَى قَوْمِ ثَمُودَ الصَّيْحَةَ؛ حَتَّى قُطِّعَتْ قُلُوبُهُمْ فِي أَجْوَافِهِمْ، وَمَاتُوا عَنْ آخِرِهِمْ؟!
وَمَا الَّذِي رَفَعَ قُرَى اللُّوطِيَّةِ؛ حَتَّى سَمِعَتِ الْمَلَائِكَةُ نَبِيحَ كِلَابِهِمْ، ثُمَّ قَلَبَهَا عَلَيْهِمْ، فَجَعَلَ عَالِيَهَا سَافِلَهَا، فَأَهْلَكَهُمْ جَمِيعًا، ثُمَّ أَتْبَعَهُمْ حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَمْطَرَهَا عَلَيْهِمْ، فَجَمَعَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعُقُوبَاتِ مَا لَمْ يَجْمَعْهُ عَلَى أُمَّةٍ غَيْرِهِمْ؟!
وَلِإِخْوَانِهِمْ أَمْثَالُهَا {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود: 83]؟!
وَمَا الَّذِي أَرْسَلَ عَلَى قَوْمِ شُعَيْبٍ سَحَابَ الْعَذَابِ كَالظُّلَلِ، فَلَمَّا صَارَ فَوْقَ رُؤُوسِهِمْ أَمْطَرَ عَلَيْهِمْ نَارًا تَلَظَّى؟!
وَمَا الَّذِي أَغْرَقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ فِي الْبَحْرِ، ثُمَّ نَقَلَ أَرْوَاحَهُمْ إِلَى جَهَنَّمَ؛ فَالْأَجْسَادُ لِلْغَرَقِ، وَالْأَرْوَاحُ لِلْحَرَقِ؟!
وَمَا الَّذِي خَسَفَ بِقَارُونَ، وَدَارِهِ، وَمَالِه،ِ وَأَهْلِهِ؟!
وَمَا الَّذِي أَهْلَكَ الْقُرُونَ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ بِأَنْوَاعِ الْعُقُوبَاتِ، وَدَمَّرَهَا تَدْمِيرًا؟!
وَمَا الَّذِي أَهْلَكَ قَوْمَ صَاحِبِ يَاسِينَ بِالصَّيْحَةِ؛ حَتَّى خَمَدُوا عَنْ آخِرِهِمْ؟!
وَمَا الَّذِي بَعَثَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ قَوْمًا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ، فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ، وَقَتَّلُوا الرِّجَالَ، وَسَبَوُا الذُّرِّيَّةَ وَالنِّسَاءَ، وَأَحْرَقُوا الدِّيارَ، وَنَهَبُوا الْأَمْوَالَ، ثُمَّ بَعَثَهُمْ عَلَيْهِمْ مَرَّةً ثَانِيَةً فأَهْلَكُوا مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ، وَتَبَّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا؟!
وَمَا الَّذِي سَلَّطَ عَلَيْهِمْ أَنْوَاعَ الْعُقُوبَاتِ؛ مَرَّةً بِالْقَتْلِ، وَالسَّبْيِ، وَخَرَابِ الْبِلَادِ، وَمَرَّةً بِجَوْرِ الْمُلُوكِ، وَمَرَّةً بِمَسْخِهِمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، وَآخِرُ ذَلِكَ: أَقْسَمَ الرَّبُّ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ؟!
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: ((لَمَّا فُتِحَتْ قُبْرُصُ فُرِّقَ بَيْنَ أَهْلِهَا، فَبَكَى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَرَأَيْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ جَالِسًا وَحْدَهُ يَبْكِي.
فَقُلْتُ: ((يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ! مَا يُبْكِيكَ فِي يَوْمٍ أَعَزَّ اللهُ فِيهِ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ؟!)).
فَقَالَ: ((وَيْحَكَ يَا جُبَيْرُ! مَا أَهْوَنَ الْخَلْقَ عَلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- إِذَا أَضَاعُوا أَمْرَهُ، بَيْنَا هِيَ أُمَّةٌ قَاهِرَةٌ ظَاهِرَةٌ لَهُمُ الْمُلْكُ؛ تَرَكُوا أَمْرَ اللهِ، فَصَارُوا إِلَى مَا تَرَى)). أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((الزُّهْدِ)) بِسَنَدٍ صَحِيحٍ.
وَقَالَ ﷺ: ((لَنْ يَهْلِكَ النَّاسُ حَتَّى يُعْذَرُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
فِي ((مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ)) مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((إِذَا ظَهَرَتِ الْمَعَاصِي فِي أُمَّتِي عَمَّهُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ)).
فَقُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَمَا فِيهِمْ يَوْمَئِذٍ أُنَاسٌ صَالِحُونَ؟)).
قَالَ: ((بَلَى)).
قُلْتُ: ((فَكَيْفَ يُصْنَعُ بِأُولَئِكَ؟)).
قَالَ: ((يُصِيبُهُمْ مَا أَصَابَ النَّاسَ، ثُمَّ يَصِيرُونَ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ)). الْحَدِيثُ فِي سَنَدِهِ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ؛ وَلَكِنْ لِلْحَدِيثِ شَوَاهِدُ تُثْبِتُهُ.
وَفِي مَرَاسِيلِ الْحَسَنِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((لَا تَزَالُ هَذِهِ الْأُمَّةُ تَحْتَ يَدَيِ اللهِ وَفِي كَنَفِهِ مَا لَمْ يُمَالِئْ قُرَّاؤُهَا أُمَرَاءَهَا، وَمَا لَمْ يُزَكِّ صُلَحَاؤُهَا فُجَّارَهَا، وَمَا لَمْ يُهِنْ خِيَارَهَا أَشْرَارُهَا، فَإِذَا هُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ رَفَعَ اللهُ يَدَهُ عَنْهُمْ، ثُمَّ سَلَّطَ عَلَيْهِمْ جَبَابِرَتَهُمْ فَسَامُوهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ، ثُمَّ ضَرَبَهُمُ اللهُ بِالْفَاقَةِ وَالْفَقْرِ)).
وَفِي ((الْمُسْنَدِ))، وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالطَّبَرَانِيِّ عَنْ ثَوْبَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِسَنَدٍ حَسَنٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((يُوشِكُ أَنْ تَتَدَاعَى عَلَيْكُمُ الْأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا)).
قُلْنَا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ؟)).
قَالَ: ((أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ؛ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، تُنْزَعُ الْمَهَابَةُ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ، وَيُجْعَلُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنُ)).
قَالُوا: ((وَمَا الْوَهْنُ؟)).
قَالَ: ((حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهَةُ الْمَوْتِ)).
وَفِي ((الْمُسْنَدِ)) مِنْ حَدِيثِ أنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَمَّا عَرَجَ بِي رَبِّي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ، يَخْمُشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ.
فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟
قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ، وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ)).
وَفِي ((سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ))، وَعِنْدَ الْحَاكِمِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((كُنْتُ عَاشِرَ عَشْرَةِ رَهْطٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَأَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ بِوَجْهِهِ فَقَالَ: ((يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ! خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ: لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ، وَشِدَّةِ الْمَؤُونَةِ، وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ)).
وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ صَفِيَّةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((زُلْزِلَتِ الْمَدِينَةُ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ، فَقَالَ: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ! مَا هَذَا؟! مَا أَسْرَعَ مَا أَحْدَثْتُمْ، لَئِنْ عَادَتْ لَا أُسَاكِنُكُمْ فِيهَا)).
وَقَالَ كَعْبٌ: ((إِنَّمَا تُزَلْزَلُ الْأَرْضُ إِذَا عُمِلَ فِيهَا بِالْمَعَاصِي، فَتَرْعَدُ فَرَقًا مِنَ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهَا)).
وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ -رَحِمَهُ اللهُ- إِلَى الْأَمْصَارِ: ((أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ هَذَا الرَّجْفَ شَيْءٌ يُعَاتِبُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِهِ الْعِبَادَ، وَقَدْ كَتَبْتُ إِلَى الْأَمْصَارِ أَنْ يَخْرُجُوا فِي يَوْمِ كَذَا وَكَذَا، فِي شَهْرِ كَذَا وَكَذَا، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ فَلْيَتَصَدَّقْ بِه؛ فَإِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَقُولُ: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ} [الأعلى: 14-15]، وَقُولُوا كَمَا قَالَ آدَمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]، وَقُولُوا كَمَا قَالَ نُوحٌ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 47]، وَقُولُوا كَمَا قَالَ يُونُسُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87])).
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ))، وَفِي ((الزُّهْدِ)): حَدَّثَنَا الْأَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((إِذَا ضَنَّ النَّاسُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَم، وَتَبَايَعُوا بِالْعِينَةِ، وَاتَّبَعُوا أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَتَرَكُوا الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ؛ أَنْزَلَ اللهُ بِهِمْ بَلَاءً فَلَمْ يَرْفَعْهُ عَنْهُمْ حَتَّى يُرَاجِعُوا دِينَهُمْ)). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: ((إِنَّ الْفِتْنَةَ وَاللهِ مَا هِيَ إِلَّا عُقُوبَةٌ مِنَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَى النَّاسِ)).
فِي ((مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ)) وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ مُجَاهِدٍ وَطَاوُوسَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَا طَفَّفَ قَوْمٌ كَيْلًا، وَلَا بَخَسُوا مِيزَانًا إِلَّا مَنَعَهُمُ اللَّهُ الْقَطْرَ، وَمَا ظَهَرَ فِي قَوْمٍ الزِّنَا إِلَّا ظَهَرَ فِيهِمُ الْمَوْتُ، وَمَا ظَهَرَ فِي قَوْمٍ الرِّبَا إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجُنُونَ، وَلَا ظَهَرَ فِي قَوْمٍ الْقَتْلُ -يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا- إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوَّهُمْ، وَلَا ظَهَرَ فِي قَوْمٍ عَمَلُ قَوْمِ لُوطٍ إِلَّا ظَهَرَ فِيهِمُ الْخَسْفُ، وَمَا تَرَكَ قَوْمٌ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ إِلَّا لَمْ تُرْفَعْ أَعْمَالُهُمْ، وَلَمْ يُسْمَعْ دُعَاؤُهُمْ)). وَهَذَا الْحَدِيثُ حَسَنٌ بِشَوَاهِدِهِ، ورَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا مِنْ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْأَشْعَثِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدٍ بِهِ.
وَقَالَ الْعُمَرِيُّ الزَّاهِدُ: ((إِنَّ مِنْ غَفْلَتِكَ عَنْ نَفْسِكَ، وَإِعْرَاضِكَ عَنِ اللهِ: أَنْ تَرَى مَا يُسْخِطُ اللهَ فَتَتَجَاوَزَهُ، وَلَا تَأْمُرَ فِيهِ، وَلَا تَنْهَى عَنْهُ؛ خَوْفًا مِمَّنْ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا)).
وَقَالَ: ((مَنْ تَرَكَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ مَخَافَةً مِنَ الْمَخْلُوقِينَ؛ نُزِعَتْ مِنْهُ الطَّاعَةُ، وَلَوْ أَمَرَ وَلَدَهُ أَوْ بَعْضَ مَوَالِيهِ لَاسْتَخَفَّ بِحَقِّهِ)).
وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((مُسْنَدِهِ)) مِنْ حَدِيثِ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّكُمْ تَتْلُونَ هَذِهِ الْآيَةَ، وَإِنَّكُمْ تَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَوْضِعِهَا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 105]، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ -وَفِي لَفْظٍ: إِذَا رَأَوُا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ-؛ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْ عِنْدِهِ». أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: ((تُوشِكُ الْقُرَى أَنْ تُخَرَّبَ وَهِيَ عَامِرَةٌ)).
قِيلَ: ((وَكَيْفَ تُخَرَّبُ وَهِيَ عَامِرَةٌ؟)).
قَالَ: ((إِذَا عَلَا فُجَّارُهَا أَبْرَارَهَا، وَسَادَ الْقَبِيلَةَ مُنَافِقُوهَا)).
وَذَكَرَ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «سَيَظْهَرُ شِرَارُ أُمَّتِي عَلَى خِيَارِهَا؛ حَتَّى يَسْتَخْفِيَ الْمُؤْمِنُ فِيهِمْ كَمَا يَسْتَخْفِي الْمُنَافِقُ فِينَا الْيَوْمَ».
حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ- تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ؛ فَالْحَدِيثُ مُرْسَلٌ.
وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي هُمْ أَعَزُّ وَأَكْثَرُ مِمَّنْ يَعْمَلُهُ لَمْ يُغَيِّرُوهُ إِلَّا عَمَّهُمُ اللهُ بِعِقَابِهِ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَهُوَ حَدِيثٌ حسَنٌ.
وَفِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)) عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ، فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الحِمَارُ بِرَحَاهُ، فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ: أَيْ فُلَانُ! مَا شَأْنُكَ؟ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَانَا عَنِ المُنْكَرِ؟!
قَالَ: كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ المُنْكَرِ وَآتِيهِ)).
وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ؛ فَإِنَّهُنَّ تَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ)).
فِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالًا هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ مِنَ الشَّعْرِ؛ إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ مِنَ المُوبِقَاتِ» أَيْ: مِنَ الْمُهْلِكَاتِ.
وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ، فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ، لَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَلَا سَقَتْهَا إِذْ حَبَسَتْهَا، وَلَا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ)) أَيْ: مِنْ هَوَامِّهَا.
وَفِي ((الْحِلْيَةِ)) لِأَبِي نُعَيْمٍ عَنْ حُذَيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: ((فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ تَرَكَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ دِينَهُمْ؟)).
قَالَ: ((لَا، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أُمِرُوا بِشَيْءٍ تَرَكُوهُ، وَإِذَا نُهُوا عَنْ شَيْءٍ رَكِبُوهُ، حَتَّى انْسَلَخُوا مِنْ دِينِهِمْ كَمَا يَنْسَلِخُ الرَّجُلُ مِنْ قَمِيصِهِ)).
وَمِنْ هَاهُنَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: ((الْمَعَاصِي بَرِيدُ الْكُفْرِ، كَمَا أَنَّ الْقُبْلَةَ بَرِيدُ الْجِمَاعِ، وَالْغِنَاءَ بَرِيدُ الزِّنَا، وَالنَّظَرَ بَرِيدُ الْعِشْقِ، وَالْمَرَضُ بَرِيدُ الْمَوْتِ)).
وَفِي ((الْحِلْيَةِ)) أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُ قَالَ: ((يَا صَاحِبَ الذَّنْبِ! لَا تَأْمَنَنَّ مِنْ سُوءِ عَاقِبَتِهِ، وَلَمَا يَتْبَعُ الذَّنْبَ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ إِذَا عَلِمْتَهُ؛ فَإِنَّ قِلَّةَ حَيَائِكَ مِمَّنْ عَلَى الْيَمِينِ وَعَلَى الشِّمَالِ وَأَنْتَ عَلَى الذَّنْبِ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ الَّذِي عَمِلْتَهُ، وَضَحِكَكَ وَأَنْتَ لَا تَدْرِي مَا اللهُ صَانِعٌ بِكَ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ، وَفَرَحَكَ بِالذَّنْبِ إِذَا ظَفَرْتَ بِهِ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ، وَحُزْنَكَ عَلَى الذَّنْبِ إِذَا فَاتَكَ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ إِذَا ظَفَرْتَ بِهِ، وَخَوْفَكَ مِنَ الرِّيحِ إِذَا حَرَّكَتْ سِتْرَ بَابِكَ وَأَنْتَ عَلَى الذَّنْبِ وَلَا يَضْطَرِبُ فُؤَادُكَ مِنْ نَظَرِ اللهِ إِلَيْكَ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ)).
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((الزُّهْدِ)): حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، قَالَ: سَمِعْتُ الْأَوْزَاعِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ بِلَالَ بْنَ سَعْدٍ يَقُولُ: ((لَا تَنْظُرْ إِلَى صِغَرِ الْمَعْصِيَةِ، وَلَكِنِ انْظُرْ مَنْ عَصَيْتَ)).
وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((بِقَدْرِ مَا يَصْغُرُ الذَّنْبُ عِنْدَكَ يَعْظُمُ عِنْدَ اللهِ، وَبِقَدْرِ مَا يَعْظُمُ عِنْدَكَ يَصْغُرُ عِنْدَ اللهِ)).
وَقِيلَ: ((أَوْحَى اللهُ إِلَى مُوسَى: يَا مُوسَى إِنَّ أَوَّلَ مَنْ مَاتَ مِنْ خَلْقِي إِبْلِيسُ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ عَصَانِي، وَإِنَّمَا أَعُدُّ مَنْ عَصَانِي مِنَ الْأَمْوَاتِ)).
وَفِي ((الْمُسْنَدِ))، وَجَامِعِ التِّرْمِذِيِّ، وَسُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ، وَمُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ ذَنْبًا نُكِتَ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِذَا تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ زَادَ زَادَتْ حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، فَذَلِكَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14])). قَالَ التِّرْمِذِيُّ: ((هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ)).
وَقَالَ حُذَيْفَةُ: ((إِذَا أَذْنَبَ الْعَبْدُ نُكِتَ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، حَتَّى يَصِيرَ قَلْبُهُ كَالشَّاةِ الرَّبْدَاءِ)). رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي ((الْحِلْيَةِ))، وَالشَّاةُ الرَّبْدَاءُ: هِيَ السَّوْدَاءُ الْمُنَقَّطَةُ بِحُمْرَةٍ.
وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((الزُّهْدِ)) عَنْ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا، عَنْ عَامِرٍ قَالَ: كَتَبَتْ عَائِشَةُ إِلَى مُعَاوِيَةَ: ((أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا عَمِلَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ عَادَ حَامِدُهُ مِنَ النَّاسِ ذَامًّا)).
وَذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «حَذَرَ امْرُؤٌ أَنْ تُبْغِضَهُ قُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ».
ثُمَّ قَالَ: «أَتَدْرِي مَا هَذَا؟».
قُلْتُ: ((لَا)).
قَالَ: «الْعَبْدُ يَخْلُو بِمَعَاصِي اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَيُلْقِي اللهُ بُغْضَهُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ».
((جُمْلَةٌ مِنْ عُقُوبَاتِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي))
عِبَادَ اللهِ! لِلْمَعَاصِي مِنَ الْآثَارِ الْقَبِيحَةِ الْمَذْمُومَةِ وَالْمُضِرَّةِ بِالْقَلْبِ وَالْبَدَنِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ.
فَمِنْ آثَارِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي: حِرْمَانُ الْعِلْمِ؛ فَإِنَّ الْعِلْمَ نُورٌ يَقْذِفُهُ اللهُ فِي الْقَلْبِ، وَالْمَعْصِيَةُ تُطْفِئُ ذَلِكَ النُّورَ، وَلَمَّا جَلَسَ الشَّافِعِيُّ بَيْنَ يَدَيْ مَالِكٍ وَقَرَأَ عَلَيْهِ؛ أَعْجَبَهُ مَا رَأَى مِنْ وُفُورِ فِطْنَتِهِ، وَتَوَقُّدِ ذَكَائِهِ، وَكَمَالِ فَهْمِهِ، فَقَالَ: ((إِنِّي أَرَى اللهَ قَدْ أَلْقَى عَلَى قَلْبِكَ نُورًا؛ فَلَا تُطْفِئْهُ بِظُلْمَةِ الْمَعْصِيَةِ)).
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-:
شَكَوْتُ إِلَى وَكِيعٍ سُوءَ حِفْظِي = فَأَرْشَدَنِي إِلَى تَرْكِ الْمَعَاصِي
وَقَالَ اعْلَمْ بِأَنَّ الْعِلْمَ فَضْلٌ = وَفَضْلُ اللهِ لَا يُؤْتَاهُ عَاصِي
وَمِنْ آثَارِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي: حِرْمَانُ الرِّزْقِ؛ فَكَمَا أَنَّ تَقْوَى اللهِ مَجْلَبَةٌ لِلرِّزْقِ؛ فَتَرْكُ التَّقْوَى مَجْلَبَةٌ لِلْفَقْرِ، فَمَا اسْتُجْلِبَ رِزْقُ اللهِ بِمِثْلِ تَرْكِ الْمَعَاصِي.
وَمِنْ عُقُوبَاتِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي: وَحْشَةٌ يَجِدُها الْعَاصِي فِي قَلْبِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ، لَا تُوَازِنُهَا وَلَا تُقَارِنُهَا لَذَّةٌ أَصْلًا، وَلَوِ اجْتَمَعَتْ لَهُ لَذَّاتُ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا لَمْ تَفِ بِتِلْكَ الْوَحْشَةِ، وَهَذَا أَمْرٌ لَا يُحِسُّ بِهِ إِلَّا مَنْ فِي قَلْبِهِ حَيَاةٌ، وَمَا لِجُرْحٍ بِمَيِّتٍ إِيلَامُ.
فَلَوْ لَمْ تُتْرَكِ الذُّنُوبُ إِلَّا حَذَرًا مِنْ وُقُوعِ تِلْكَ الْوَحْشَةِ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ؛ لَكَانَ الْعَاقِلُ حَرِيًّا بِتَرْكِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي.
وَشَكَا رَجُلٌ إِلَى بَعْضِ الْعَارِفِينَ وَحْشَةً يَجِدُهَا فِي نَفْسِهِ.
فَقَالَ لَهُ:
إِذَا كُنْتَ قَدْ أَوْحَشَتْكَ الذُّنُوبُ = فَدَعْهَا إِذَا شِئْتَ وَاسْتَأْنِسِ
وَلَيْسَ عَلَى الْقَلْبِ أَمَرُّ مِنْ وَحْشَةِ الذَّنْبِ عَلَى الذَّنْبِ؛ فَاللهُ الْمُسْتَعَانُ.
وَمِنْ عُقُوبَاتِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي: الْوَحْشَةُ الَّتِي تَحْصُلُ بَيْنَ الْمُذْنِبِ وَبَيْنَ النَّاسِ؛ لَا سِيَّمَا أَهْلُ الْخَيْرِ مِنْهُمْ؛ فَإِنَّهُ يَجِدُ وَحْشَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، وَكُلَّمَا قَوِيَتْ تِلْكَ الْوَحْشَةُ بَعُدَ مِنْهُمْ وَمِنْ مُجَالَسَتِهِمْ، وَحُرِمَ بَرَكَةَ الِانْتِفَاعِ بِهِمْ، وَقُرِّبَ مِنْ حِزْبِ الشَّيْطَانِ بِقَدْرِ مَا بَعُدَ مِنْ حِزْبِ الرَّحْمَنِ، وَتَقْوَى هَذِهِ الْوَحْشَةُ حَتَّى تَسْتَحْكِمَ، فَتَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ وَوَلَدِهِ وَأَقَارِبِهِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ، فَتَرَاهُ مُسْتَوْحِشًا بِنَفْسِهِ.
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: ((إِنِّي لَأَعْصِي اللهَ فَأَرَى ذَلِكَ فِي خُلُقِ دَابَّتِي وَامْرَأَتِي)).
وَمِنْ عُقُوبَاتِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي: تَعْسِيرُ أُمُورِ الْعَاصِي عَلَيْهِ؛ فَلَا يَتَوَجَّهُ لِأَمْرٍ إِلَّا يَجِدُهُ مُغْلَقًا دُونَهُ، أَوْ مُتَعَسِّرًا عَلَيْهِ، وَهَذَا كَمَا أَنَّ مَنِ اتَّقَاهُ جَعَلَ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا؛ فَمَنْ عَطَّلَ التَّقْوَى جُعِلَ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ عُسْرًا، وَيَا للهِ الْعَجَبُ! كَيْفَ يَجِدُ الْعَبْدُ أَبْوَابَ الْخَيْرِ وَأَبْوَابَ الْمَصَالِحِ مَسْدُودَةً عَنْهُ، وَطُرُقَهَا مُعَسَّرَةً عَلَيْهِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ أُتِيَ!
وَمِنْ آثَارِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي: ظُلْمَةٌ يَجِدُهَا فِي قَلْبِهِ حَقِيقَةً، يُحِسُّ بِهَا كَمَا يُحِسُّ بِظُلْمَةِ اللَّيْلِ الْبَهِيمِ إِذَا ادْلَهَمَّ، فَتَصِيرُ ظُلْمَةُ الْمَعْصِيَةِ لِقَلْبِهِ كَالظُّلْمَةِ الْحِسِّيَّةِ لِبَصَرِهِ؛ فَإِنَّ الطَّاعَةَ نُورٌ، وَالْمَعْصِيَةَ ظُلْمَةٌ، وَكُلَّمَا قَوِيَتِ الظُّلْمَةُ ازْدَادَتْ حَيْرَتُهُ، حَتَّى يَقَعَ فِي الْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ وَالْأُمُورِ الْمُهْلِكَةِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ؛ كَأَعْمَى خَرَجَ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ يَمْشِي وَحْدَهُ، وَتَقْوَى هَذِهِ الظُّلْمَةُ حَتَّى تَظْهَرَ فِي الْعَيْنِ، ثُمَّ تَقْوَى حَتَّى تَعْلُوَ الْوَجْهَ، وَتَصِيرَ سَوَادًا فِيهِ يَرَاهُ كُلُّ أَحَدٍ.
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((إِنَّ لِلْحَسَنَةِ ضِيَاءً فِي الْوَجْهِ، وَنُورًا فِي الْقَلْبِ، وَسَعَةً فِي الرِّزْقِ، وَقُوَّةً فِي الْبَدَنِ، وَمَحَبَّةً فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ، وَإِنَّ لِلسَّيِّئَةِ سَوَادًا فِي الْوَجْهِ، وَظُلْمَةً فِي الْقَلْبِ، وَوَهَنًا فِي الْبَدَنِ، وَنَقْصًا فِي الرِّزْقِ، وَبَغْضَةً فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ)).
وَمِنْ عُقُوبَاتِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي: أَنَّ الذُّنُوبَ تُوهِنُ الْقَلْبَ وَالْبَدَنَ.
أَمَّا وَهَنُهَا لِلْقَلْبِ فَأَمْرٌ ظَاهِرٌ؛ بَلْ لَا تَزَالُ تُوهِنُ الْقَلْبَ حَتَّى تُزِيلَ حَيَاتَهُ بِالْكُلِّيَّةِ.
وأَمَّا وَهَنُهَا لِلْبَدَنِ؛ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ قُوَّتُهُ مِنْ قَلْبِهِ، وَكُلَّمَا قَوِيَ قَلْبُهُ قَوِيَ بَدَنُهُ.
وَأَمَّا الْفَاجِرُ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَوِيَّ الْبَدَنِ فَهُوَ أَضْعَفُ شَيْءٍ عِنْدَ الْحَاجَةِ، فَتَخُونُهُ قُوَّتُهُ أَحْوَج مَا يَكُونُ إِلَى نَفْسِهِ.
وَتَأَمَّلْ قُوَّةَ أَبْدَانِ فَارِسَ وَالرُّومِ؛ كَيْفَ خَانَتْهُمْ أَحْوَج مَا كَانُوا إِلَيْهَا، وقَهَرَهُمْ أَهْلُ الْإِيمَانِ بِقُوَّةِ أَبْدَانِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ.
وَمِنْ عُقُوبَاتِ الذُّنُوبِ وَالْمَعاصِي: حِرْمَانُ الطَّاعَةِ؛ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلذَّنْبِ عُقُوبَةٌ إِلَّا أَنْ يَصُدَّ عَنْ طَاعَةٍ تَكُونُ بَدَلَهُ، وَأَنْ يَقْطَعَ طَرِيقَ طَاعَةٍ أُخْرَى، فَيَنْقَطِعُ عَلَيْهِ بِالذَّنْبِ طَرِيقٌ ثَالِثَةٌ، ثُمَّ رَابِعَةٌ، وَهَلُمَّ جَرَّا؛ فَتَنْقَطِعُ عَنْهُ بِالذَّنْبِ طَاعَاتٌ كَثِيرَةٌ، كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا.
وَهَذَا كَرَجُلٍ أَكَلَ أَكْلَةً أَوْجَبَتْ لَهُ مَرْضَةً طَوِيلَةً مَنَعَتْهُ مِنْ عِدَّةِ أَكَلَاتٍ أَطْيَبَ مِنْهَا؛ فَاللهُ الْمُسْتَعَانُ.
مِنْ عُقُوبَاتِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي: أَنَّ الْمَعَاصِيَ يُوَلِّدُ بَعْضُهَا بَعْضًا؛ فَالْمَعَاصِي تَزْرَعُ أَمْثَالَهَا، وَيُوَلِّدُ بَعْضُهَا بَعْضًا، حَتَّى يَعِزَّ عَلَى الْعَبْدِ مُفَارَقَتُهَا وَالْخُرُوجُ مِنْهَا.
كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: ((إِنَّ مِنْ عُقُوبَةِ السَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ بَعْدَهَا، وَإِنَّ مِنْ ثَوَابِ الْحَسَنَةِ الْحَسَنَةَ بَعْدَهَا)).
فَالْعَبْدُ إِذَا عَمِلَ حَسَنَةً قَالَتْ أُخْرَى إِلَى جَنْبِهَا: اعْمَلْنِي أَيْضًا، فَإِذَا عَمِلَهَا قَالَتِ الثَّالِثَةُ كَذَلِكَ، وَهَلُمَّ جَرَّا.
مِنْ آثَارِ الْمَعَاصِي -وَهُوَ مِنْ أَخْوَفِهَا عَلَى الْعَبْدِ-: أَنَّهَا تُضْعِفُ الْقَلْبَ عَنْ إِرَادَتِهِ، فَتُقَوِّي إِرَادَةَ الْمَعْصِيَةِ، وَتُضْعِفُ إِرَادَةَ التَّوْبَةِ شَيْئًا فَشَيْئًا، إِلَى أَنْ تَنْسَلِخَ مِنْ قَلْبِهِ إِرَادَةُ التَّوْبَةِ بِالْكُلِّيَّةِ.
فَلَوْ مَاتَ نِصْفُهُ لَمَا تَابَ إِلَى اللهِ، فَيَأْتِي بِالِاسْتِغْفَارِ وَتَوْبَةِ الْكَذَّابِينَ بِاللِّسَانِ بِشَيْءٍ كَثِيرٍ، وقَلْبُهُ مَعْقُودٌ بِالْمَعْصِيَةِ، مُصِرٌّ عَلَيْهَا، عَازِمٌ عَلَى مُوَاقَعَتِهَا مَتَى أَمْكَنَهُ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْأَمْرَاضِ وَأَقْرَبِهَا إِلَى الْهَلَاكِ.
وَمِنْ آثَارِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي: أَنَّهُ يَنْسَلِخُ مِنَ الْقَلْبِ اسْتِقْبَاحُهَا، فَتَصِيرُ لَهُ عَادَةً، فَلَا يَسْتَقْبِحُ مِنْ نَفْسِهِ رُؤْيَةَ النَّاسِ لَهُ، وَلَا كَلَامَهُمْ فِيهِ.
وَهَذَا عِنْدَ أَرْبَابِ الْفُسُوقِ هُوَ غَايَةُ التَّهَتُّكِ وَتَمَامُ اللَّذَّةِ؛ حَتَّى يَفْتَخِرَ أَحَدُهُمْ بِالْمَعْصِيَةِ، وَيُحَدِّثَ بِهَا مَنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ عَمِلَهَا، فَيَقُولُ: يَا فُلَانُ! عَمِلْتُ كَذَا وَكَذا، وَهَذَا الضَّرْبُ مِنَ النَّاسِ لَا يُعَافَوْنَ، وَتُسَدُّ عَلَيْهِمْ طَرِيقُ التَّوْبَةِ، وَتُغْلَقُ عَلَيْهِمْ أَبْوَابُهَا فِي الْغَالِبِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ الْإِجْهَارِ أَنْ يَسْتُرَ اللهُ عَلَى الْعَبْدِ، ثُمَّ يُصْبِحُ يَفْضَحُ نَفْسَهُ، وَيَقُولُ: يَا فُلَانُ! عَمِلْتُ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذا، فَيَهْتِكُ نَفْسَهُ، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الْمَعْصِيَةُ سَبَبٌ لِهَوَانِ الْعَبْدِ عَلَى رَبِّهِ، وَسُقُوطِهِ مِنْ عَيْنِهِ، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((هَانُوا عَلَيْهِ فَعَصَوْهُ، وَلَوْ عَزُّوا عَلَيْهِ لَعَصَمَهُمْ)).
وَإِذَا هَانَ الْعَبْدُ عَلَى رَبِّهِ لَمْ يُكْرِمْهُ أَحَدٌ، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {مَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ} [الحج: 18].
وَإِنْ عَظَّمَهُمُ النَّاسُ فِي الظَّاهِرِ لِحَاجَتِهِمْ إِلَيْهِمْ، أَوْ خَوْفًا مِنْ شَرِّهِمْ؛ فَهُمْ فِي قُلُوبِ النَّاسِ أَحْقَرُ شَيْءٍ وَأَهْوَنُهُ.
وَالْعَبْدُ لَا يَزَالُ يَرْتَكِبُ الذَّنْبَ حَتَّى يَهُونَ عَلَيْهِ، وَيَصْغُرَ فِي قَلْبِهِ، وَذَلِكَ عَلَامَةُ الْهَلَاكِ؛ فَإِنَّ الذَّنْبَ كُلَّمَا صَغُرَ فِي عَيْنِ الْعَبْدِ عَظُمَ عِنْدَ اللهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ فِي أَصْلِ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ وَقَعَ عَلَى أَنْفِهِ، فَقَالَ بِه هَكَذَا فَطَارَ)).
مِنْ شُؤْمِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي: أَنَّ غَيْرَ الْمُذْنِبِ مِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ يَعُودُ عَلَيْهِ شُؤْمُ ذُنُوبِهِ، فَيَحْتَرِقُ هُوَ وَغَيْرُهُ بِشُؤْمِ الذُّنُوبِ وَالظُّلْمِ.
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((إِنَّ الْحُبَارَى -هُوَ طَائِرٌ طَوِيلُ الْعُنُقِ- إِنَّ الْحُبَارَى لَتَمُوتُ فِي وَكْرِهَا مِنْ ظُلْمِ الظَّالِمِ)).
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ((إِنَّ الْبَهَائِمَ تَلْعَنُ عُصَاةَ بَنِي آدَمَ إِذَا اشْتَدَّتِ السَّنَةُ، وَأُمْسِكَ الْمَطَرُ، وَتَقُولُ: هَذَا بِشُؤْمِ مَعْصِيَةِ بَنِي آدَمَ)).
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: ((دَوَابُّ الْأَرْضِ وَهَوَامُّهَا حَتَّى الْخَنَافِسُ وَالْعَقَارِبُ يَقُولُونَ: مُنِعْنَا الْقَطْرَ بِذُنُوبِ بَنِي آدَمَ)).
فَلَا يَكْفِي الْعَاصِيَ الْمُذْنِبَ عِقَابُ ذَنْبِهِ حَتَّى يَبُوءَ بِلَعْنَةِ مَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ.
مِنْ شُؤْمِ الْمَعَاصِي: أَنَّها تُورِثُ الذُّلَّ، وَتُفْسِدُ الْعَقْلَ، وَتُؤَدِّي إِلَى الطَّبْعِ عَلَى الْقَلْبِ.
الْمَعْصِيَةُ تُورِثُ الذُّلَّ وَلَا بُدَّ؛ فَإِنَّ الْعِزَّ كُلَّ الْعِزِّ فِي طَاعَةِ اللهِ تَعَالَى.
قَالَ تَعَالَى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر: 10] أَيْ: فَلْيَطْلُبْهَا بِطَاعَةِ اللهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَجِدُهَا إِلَّا فِي طَاعَتِهِ.
وَكَانَ مِنْ دُعَاءِ بَعْضِ السَّلَفِ: ((اللَّهُمَّ أَعِزَّنِي بِطَاعَتِكَ، وَلَا تُذِلَّنِي بِمَعْصِيَتِكَ)).
قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّهُمْ وَإِنْ طَقْطَقَتْ بِهِمُ الْبِغَالُ، وَهَمْلَجَتْ بِهِمُ الْبَرَاذِينُ -أَيْ: إِنْ صَوَّتَتْ لَهُمُ الْبِغَالُ بِحَوَافِرِهَا، وَأَشْعَرَتْ بِهِمُ الْخُيُولُ بِخِفَّةٍ-؛ فَإِنَّ ذُلَّ الْمَعْصِيَةِ لَا يُفَارِقُ قُلُوبَهُمْ، أَبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُذِلَّ مَنْ عَصَاهُ)).
وَالْمَعَاصِي تُفْسِدُ الْعَقْلَ؛ فَإِنَّ لِلْعَقْلِ نُورًا، وَالْمَعْصِيَةُ تُطْفِئُ نُورَ الْعَقْلِ وَلَا بُدَّ، وَإِذَا طُفِئَ نُورُهُ ضَعُفَ وَنَقَصَ.
قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: ((مَا عَصَى اللهَ أَحَدٌ حَتَّى يَغِيبَ عَقْلُهُ)).
وَالذُّنُوبُ إِذَا تَكَاثَرَتْ طُبِعَ عَلَى قَلْبِ صَاحِبِهَا، فَكَانَ مِنَ الْغَافِلِينَ.
كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]، قَالَ: ((هُوَ الذَّنْبُ بَعْدَ الذَّنْبِ)).
وَقَالَ الْحَسَنُ: ((هُوَ الذَّنْبُ عَلَى الذَّنْبِ حَتَّى يَعْمَى الْقَلْبُ)).
وَقَالَ غَيْرُهُ: ((لَمَّا كَثُرَتْ ذُنُوبُهُمْ وَمَعاصِيهِمْ أَحَاطَتْ بِقُلُوبِهِمْ)).
مِنْ آثَارِ الْمَعَاصِي وَالذُّنُوبِ: مَحْقُ الْبَرَكَةِ.
مِنْ تَأْثِيرِ الْمَعَاصِي فِي الْأَرْضِ: مَا يَحِلُّ بِهَا مِنَ الْخَسْفِ وَالزَّلَازِلِ، وَيَمْحَقُ بَرَكَتَهَا.
وَقَدْ مَرَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَى دِيَارِ ثَمُودَ كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) ، فَمَنَعَهُمْ مِنْ دُخُولِ دِيَارِهِمْ إِلَّا وَهُمْ بَاكُونَ، وَمِنْ شُرْبِ مِيَاهِهِمْ، وَمِنَ الِاسْتِقَاءِ مِنْ آبَارِهِمْ؛ حَتَّى أَمَرَ أَنْ يُعْلَفَ الْعَجِينُ الَّذِي عُجِنَ بِمِيَاهِهِمْ لِلنَّوَاضِحِ –أَيْ: لِلْإِبِلِ-؛ لِتَأْثِيرِ شُؤْمِ الْمَعْصِيَةِ فِي الْمَاءِ.
وَكَذَلِكَ تَأْثِيرُ شُؤْمِ الذُّنُوبِ فِي نَقْصِ الثِّمَارِ وَمَا تُرْمَى بِهِ مِنَ الْآفَاتِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ)) فِي ضِمْنِ حَدِيثِهِ قَالَ: ((وُجِدَ فِي خَزَائِنِ بَنِي أُمَيَّةَ حِنْطَةٌ؛ الْحَبَّةُ بِقَدْرِ نَوَاةِ التَّمْرِ، وَهِيَ فِي سُرَّةٍ مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا: هَذَا كَانَ يَنْبُتُ فِي زَمَنِ الْعَدْلِ)).
وَكَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ الْآفَاتِ أَحْدَثَهَا اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بِمَا أَحْدَثَ الْعِبَادُ مِنَ الذُّنُوبِ، قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَأَخْبَرَنِي جَمَاعَةٌ مِنْ شُيُوخِ الصَّحْرَاءِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْهَدُونَ الثِّمَارَ أَكْبَرَ مِمَّا هِيَ الْآنَ، وَكَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ الْآفَاتِ الَّتِي تُصِيبُهَا لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَهَا، وَإِنَّمَا حدَثَتْ مِنْ قُرْبٍ)).
مِنْ عُقُوبَاتِ الْمَعَاصِي: أَنَّهَا تُزِيلُ النِّعَمَ، وَتُحِلُّ النِّقَمَ، فَمَا زَالَتْ عَنِ الْعَبْدِ نِعْمَةٌ إِلَّا بِذَنْبٍ، وَلَا حَلَّتْ بِهِ نِقْمَةٌ إِلَّا بِذَنْبٍ.
كَمَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((مَا نَزَلَ بَلَاءٌ إِلَّا بِذَنْبٍ، وَلَا رُفِعَ إِلَّا بِتَوْبَةٍ)).
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشُّورَى: 30] .
وَقَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الْأَنْفَال: 53] .
فَأَخْبَرَ اللَّهُ -تَعَالَى- أَنَّهُ لَا يُغَيِّرُ نِعَمَهُ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَى أَحَدٍ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يُغَيِّرُ مَا بِنَفْسِهِ.
فَيُغَيِّرُ طَاعَةَ اللَّهِ بِمَعْصِيَتِهِ، وَشُكْرَهُ بِكُفْرِهِ، وَأَسْبَابَ رِضَاهُ بِأَسْبَابِ سُخْطِهِ، فَإِذَا غَيَّرَ غُيِّرَ عَلَيْهِ؛ جَزَاءً وِفَاقًا، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}.
فَإِنْ غَيَّرَ الْمَعْصِيَةَ بِالطَّاعَةِ؛ غَيَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ بِالْعَافِيَةِ، وَالذُّلَّ بِالْعِزِّ.
وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرَّعْد: 11] .
وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ الْإِلَهِيَّةِ عَنِ الرَّبِّ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّهُ قَالَ: «وَعِزَّتِي وَجَلَالِي! لَا يَكُونُ عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِي عَلَى مَا أُحِبُّ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ عَنْهُ إِلَى مَا أَكْرَهُ إِلَّا انْتَقَلْتُ لَهُ مِمَّا يُحِبُّ إِلَى مَا يَكْرَهُ، وَلَا يَكُونُ عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِي عَلَى مَا أَكْرَهُ، فَيَنْتَقِلُ عَنْهُ إِلَى مَا أُحِبُّ إِلَّا انْتَقَلْتُ لَهُ مِمَّا يَكْرَهُ إِلَى مَا يُحِبُّ». رَوَى نَحْوَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْأَوْسَطِ)).
وَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِلُ:
إِذَا كُنْتَ فِي نِعْمَةٍ فَارْعَهَا = فَإِنَّ الذُّنُوبَ تُزِيلُ النِّعَمْ
وَحُطْهَا بِطَاعَةِ رَبِّ الْعِبَا = دِ فَرَبُّ الْعِبَادِ سَرِيعُ النِّقَمْ
وَإِيَّاكَ وَالظُّلْمَ مَهْمَا اسْتَطَعْ = تَ فَظُلْمُ الْعِبَادِ شَدِيدُ الْوَخَمْ
وَسَافِرْ بِقَلْبِكَ بَيْنَ الْوَرَى = لِتَبْصُرَ آثَارَ مَنْ قَدْ ظَلَمْ
فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ بَعْدَهُمْ = شُهُودٌ عَلَيْهِمْ وَلَا تَتَّهِمْ
وَمَا كَانَ شَيْءٌ عَلَيْهِمْ أَضَ = رَّ مِنَ الظُّلْمِ وَهُوَ الَّذِي قَدْ قَصَمْ
فَكَمْ تَرَكُوا مِنْ جِنَانٍ وَمِنْ = قُصُورٍ وَأُخْرَى عَلَيْهِمْ أُطُمْ
صَلَوْا بِالْجَحِيمِ وَفَاتَ النَّعِي = مُ وَكَانَ الَّذِي نَالَهُمْ كَالْحُلُمْ
((كُلُّ الْمَعَاصِي قَبِيحَةٌ))
كُلُّ الْمَعَاصِي قَبِيحَةٌ، وَبَعْضُهَا أَقْبَحُ مِنْ بَعْضٍ؛ فَإِنَّ الزِّنَا مِنْ أَقْبَحِ الذُّنُوبِ؛ فَإِنَّهُ يُفْسِدُ الْفُرُشَ، وَيُغَيِّرُ الْأَنْسَابَ، وَهُوَ بِالْجَارَةِ أَقْبَحُ؛ فَقَدْ رُوِيَ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَيُّ ذَنْبٍ أَعْظَمُ؟)).
قَالَ: ((أَنْ تَجْعَلَ للهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ)).
قُلْتُ: ((ثُمَّ أَيٌّ؟)).
قَالَ: ((أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ)).
قُلْتُ: ((ثُمَّ أَيٌّ؟)).
قَالَ: ((أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ)).
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي ((تَارِيخِهِ)) مِنْ حَدِيثِ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((لَأَنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ بِعَشْرِ نِسْوَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَزْنِيَ بِامْرَأَةِ جَارِهِ، وَلَأَنْ يَسْرِقَ مِنْ عَشْرَةِ أَبْيَاتٍ أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَسْرِقَ مِنْ بَيْتِ جَارِهِ)).
وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا لِأَنَّهُ يَضُمُّ إِلَى مَعْصِيَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- انْتِهَاكَ حَقِّ الْجَارِ.
وَمِنْ أَقْبَحِ الذُّنُوبِ: أَنْ يَزْنِيَ الشَّيْخُ؛ فَفِي الْحَدِيثِ: ((إِنَّ اللهَ يُبْغِضُ الشَّيْخَ الزَّانِيَ)). أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ؛ لِأَنَّ شَهْوَةَ الطَّبْعِ قَدْ مَاتَتْ، وَلَيْسَ فِيهَا قُوَّةٌ تَغْلِبُ، فَهُوَ يُحَرِّكُهَا وَيُبَالِغُ، فَكَانَتْ مَعْصِيَتُهُ عِنَادًا.
وَمِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي تُشْبِهُ الْمُعَانَدَةَ: لُبْسُ الرَّجُلِ الْحَرِيرَ وَالذَّهَبَ؛ خُصُوصًا خَاتَمَ الذَّهَبِ الَّذِي يَتَحَلَّى بِهِ الشَّيْخُ، وَإِنَّهُ مِنْ أَبْرَدِ الْأَفْعَالِ، وَأَقْبَحِ الْخَطَايَا.
وَمِنْ هَذَا الْفَنِّ: الرِّيَاءُ وَالتَّخَاشُعُ، وَإِظْهَارُ التَّزَهُّدِ لِلْخَلْقِ؛ فَإِنَّهُ كَالْعِبَادَةِ لَهُمْ، مَعَ إِهْمَالِ جَانِبِ الْحَقِّ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَكَذَلِكَ الْمُعَامَلَةُ بِالرِّبَا الصَّرِيحِ؛ خُصُوصًا مِنَ الْغَنِيِّ الْكَثِيرِ الْمَالِ.
وَمِنْ أَقْبَحِ الْأَشْيَاءِ: أَنْ يَطُولَ الْمَرَضُ بِالشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَلَا يَتُوبُ مِنْ ذَنْبٍ، وَلَا يَعْتَذِرُ مِنْ زَلَّةٍ، وَلَا يَقْضِي دَيْنًا، وَلَا يُوصِي بِإِخْرَاجِ حَقٍّ عَلَيْهِ.
وَمِنْ قَبَائِحِ الذُّنُوبِ: أَنْ يَتُوبَ السَّارِقُ أَوِ الظَّالِمُ وَلَا يَرُدُّ الْمَظَالِمَ، وَالْمُفَرِّطُ فِي الزَّكَاةِ أَوْ فِي الصَّلَاةِ وَلَا يَقْضِي.
وَمِنْ أَقْبَحِهَا: أَنْ يَحْنَثَ فِي يَمِينِ طَلَاقِهِ، ثُمَّ يُقِيمَ مَعَ الْمَرْأَةِ!
وَقِسْ عَلَى مَا ذَكَرْتُهُ؛ فَالْمَعَاصِي كَثِيرَةٌ، وَأَقْبَحُهَا لَا يَخْفَى، وَهَذِهِ الْمُسْتَقْبَحَاتُ -فَضْلًا عَنِ الْقَبَائِحِ- تُشْبِهُ الْعِنَادَ لِلْآمِرِ، فَيَسْتَحِقَّ صَاحِبُهَا اللَّعْنَ، وَدَوَامَ الْعُقُوبَةِ.
وَإِنِّي لَأَرَى شُرْبَ الْخَمْرِ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مُشْتَهَاةً لِذَاتِهَا، وَلَا لِرِيحِهَا، وَلَا لِطَعْمِهَا -فِيمَا يُذْكَرُ-، إِنَّمَا لَذَّتُهَا -فِيمَا يُقَالُ- بَعْدَ تَجَرُّعِ مَرَارَتِهَا؛ فَالْإِقْدَامُ عَلَى مَا لَا يَدْعُو إِلَيْهِ الطَّبْعُ -إِلَى أَنْ يَصِلَ التَّنَاوُلُ إِلَى اللَّذَّةِ- مُعَانَدَةٌ.
نَسْأَلُ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- إِيمَانًا يَحْجِزُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مُخَالَفَتِهِ، وَتَوْفِيقًا لِمَا يُرْضِيهِ؛ فَإِنَّمَا نَحْنُ بِهِ وَلَهُ-.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
((حُرْمَةُ الْعُنْفِ ضِدَّ الْمَرْأَةِ فِي الْإِسْلَامِ))
----------------------------------
((تَكْرِيمُ النِّسَاءِ فِي الْإِسْلَامِ))
فَإِنَّ مِنْ أَظْلَمِ الظُّلْمِ أَنْ تُوصَفَ الْحَسَنَاتُ بِأَنَّهَا سَيِّئَاتٌ، وَمِنْ أَظْلَمِ الظُّلْمِ أَنْ يُوصَفَ الْحُسْنُ وَالْمَلَاحَةُ بِالْقُبْحِ وَالدَّمَامَةِ، وَإِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ لِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ رَبِّ الْعَالَمِينَ دِينٌ كَامِلٌ، لَيْسَ فِيهِ نَقْصٌ بِحَالٍ أَبَدًا، أَكْمَلَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَأَتَمَّهُ، وَأَتَمَّ بِهِ النِّعْمَةَ عَلَى عِبَادِهِ، وَجَعَلَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- صَالِحًا مُنَاسِبًا لِكُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَضَبَطَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهِ نِسَبَ الْأَشْيَاءِ، فَلَا تَجِدُ فِيهِ خَلَلًا أَبَدًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ.
وَمِنْ أَعْظَمِ الْحَسَنَاتِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ: مَا آتَاهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنَ الْحُقُوقِ لِلنِّسَاءِ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ كَانَتْ لَا تُسَاوِي شَيْئًا، كَانَتْ تُورَثُ إِذَا مَاتَ مَنْ يَمْتَلِكُهَا -يَعْنِي: إِذَا مَاتَ زَوْجُهَا فَإِنَّهَا تُورَثُ كَمَا تُورَثُ الْأَشْيَاءُ-.
وَنَهَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْ أَنْ يَرِثَ الْوَارِثُ الْمَرْأَةَ إِذَا مَاتَ الْمُوَرِّثُ.
وَأَعْطَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْمَرْأَةَ الْحُقُوقَ الْكَثِيرَةَ، وَلَيْسَ هُنَاكَ الْآنَ فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ مَزِيَّةٌ وَلَا عَطِيَّةٌ وَلَا مِيزَةٌ تَتَمَتَّعُ بِهَا امْرَأَةٌ فِي الْعَالَمِ مَا دَامَتْ هَذِهِ الْمَزِيَّةُ وَالْمِنْحَةُ وَالْعَطِيَّةُ مُوَافِقَةً لِلشَّرْعِ -يَعْنِي: غَيْرَ خَارِجَةٍ عَنْ حُدُودِ الْآدَابِ الْإِسْلَامِيَّةِ- لَيْسَ هُنَاكَ امْرَأَةٌ تَتَمَتَّعُ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ بِمِيزَةٍ؛ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ أَمْ فِي غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ؛ حَتَّى عِنْدَ أَرْبَابِ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ وَالْعِبَادَاتِ الْكَافِرَةِ وَالْمُلْحِدَةِ، كُلُّ ذَلِكَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ أَنْوَارِ الْإِسْلَامِ فِيمَا آتَاهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- النِّسَاءَ مِنْ تِلْكَ الْمِنَحِ وَالْعَطَايَا الَّتِي لَا يَسْتَطِيعُ إِنْسَانٌ أَنْ يُحْصِيَهَا وَلَا أَنْ يَعُدَّهَا.
مِنَحٌ عَظِيمَةٌ جِدًّا، أَعْطَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْمَرْأَةَ حَقَّهَا وَأَعَادَهَا إِلَى مَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ عَلَيْهِ؛ إِنْسَانَةٌ لَهَا قَلْبٌ تُحِسُّ وَتَشْعُرُ، وَتُحِبُّ وَتَكْرَهُ، وَتَرِثُ؛ لِأَنَّهُ إِلَى هَذَا الْعَصْرِ الْحَدِيثِ عِنْدَ الْإِنْجِلِيزِ لَيْسَ لِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ فِي الْمِيرَاثِ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَهُمْ-؛ بَلْ وَلَيْسَ لِلْأَوْلَادِ الَّذِينَ يَأْتُونَ بَعْدَ الِابْنِ الْبِكْرِ مِنْ نَصِيبٍ فِي الْمِيرَاثِ!! يَصِيرُ الْمِيرَاثُ كُلُّهُ إِلَى الِابْنِ الْبِكْرِ، وَلَا يَرِثُ أَحَدٌ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْئًا، لَا مِنَ الرِّجَالِ وَلَا مِنَ النِّسَاءِ!!
وَأَمَّا عِنْدَنَا فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ فَقَدْ وَضَعَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْحُقُوقَ وَفَصَّلَهَا، وَمِنْ أَعْظَمِ مَا آتَاهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَفْرَادَ هَذِهِ الْأُمَّةِ: مَا أَعْطَاهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ حُقُوقِ النِّسَاءِ.
((رَفْعُ الْإِسْلَامِ الظُّلْمَ عَنِ الْمَرْأَةِ))
إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ حَرَّرَ الْمَرْأَةَ مِنْ ظُلْمِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ؛ فَلَقَدْ بَعَثَ اللهُ مُحَمَّدًا ﷺ وَالْمَرْأَةُ مَظْلُومَةٌ مَهْضُومَةٌ، تُعَامَلُ كَمَا يُعَامَلُ سَقَطُ الْمَتَاعِ؛ حَتَّى قَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «وَاللهِ مَا كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ نَعُدُّ النِّسَاءَ شَيْئًا، حَتَّى أَنْزَلَ اللهُ فِيهِنَّ مَا أَنْزَلَ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
فَبَعَثَ اللهُ نَبِيَّهُ ﷺ بِهَذَا الدِّينِ الْقَوِيمِ، فَجَعَلَ الْمَرْأَةَ دُرَّةً مَصُونَةً وَجَوْهَرَةً مَكْنُونَةً، حَرَّرَهَا مِنْ ظُلْمِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَعْطَاهَا حُقُوقَهَا الشَّرْعِيَّةَ الَّتِي تُنَاسِبُ فِطْرَتَهَا وَطَبِيعَتَهَا، لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ.
لَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ رَفَعَ الْمَظَالِمَ عَنِ الْمَرْأَةِ، وَأَعَادَ لَهَا الِاعْتِبَارَ فِي الْإِنْسَانِيَّةِ بَدْءًا، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات: 13].
فَهُنَا تَسَاوٍ فِي الْإِنْسَانِيَّةِ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ.
وَذَكَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّهَا شَرِيكَةٌ لِلرَّجُلِ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ عَلَى الْعَمَلِ، فَسَوَّى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ عَلَى الْعَمَلِ، {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].
فَسَوَّى فِي قَاعِدَةِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، لَا فَارِقَ، وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَقُولُ: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ} [الأحزاب: 73].
فَالثَّوَابُ يَصِلُ إِلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ عِنْدَمَا يَكُونُ هُنَاكَ عَمَلٌ صَالِحٌ، وَالْعِقَابُ يَصِلُ إِلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ عِنْدَمَا يَكُونُ هُنَاكَ عَمَلَ فَاسِدٌ وَطَالِحٌ.
حَرَّمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى الرِّجَالِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ -وَكَانَ هَذَا مَعْمُولًا بِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ النَّبِيُّ الْأَمِينُ ﷺ-؛ حَرَّمَ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَوْرُوثَاتِ، يَقُولُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} [النساء: 19].
أَيْ: لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوهُنَّ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ، فَيَمُوتُ الرَّجُلُ عَنِ الْمَرْأَةِ، فَيَأْتِي ابْنُهُ مِنْ غَيْرِهَا فَيَرِثُهَا، فَتُصْبِحُ مِيرَاثًا لَهُ، إِنْ شَاءَ بَقِيَتْ عِنْدَهُ، وَإِنْ شَاءَ سَرَّحَهَا، فَيَقُولُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوهُنَّ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ، فَتَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ أَحَقُّ بِهِنَّ مِنْ غَيْرِكُمْ، وَتَحْبِسُوهُنَّ لِأَنْفُسِكُمْ كَمَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَفْعَلُونَ، هَذَا مَمْنُوعٌ.
وَأَعْطَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْمَرْأَةَ حَقَّهَا، وَرَدَّ عَلَيْهَا كَرَامَتَهَا؛ حَتَّى كَانَتْ نِسَاءُ النَّبِيِّ ﷺ يُرَاجِعْنَهُ -يُرَاجِعْنَ الرَّسُولَ ﷺ- وَيَسْأَلْنَهُ النَّفَقَةَ؛ حَتَّى إِنَّ الرَّسُولَ ﷺ لَمَّا أَكْثَرْنَ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْأَمْرِ اعْتَزَلَهُنَّ ﷺ، وَهُوَ أَطْيَبُ الْخَلْقِ خُلُقًا وَأَحْسَنُهُم شِيمَةً ﷺ.
عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عِنْدَمَا جَاءَ وَظَنَّ ﷺ -وَالظَّنُّ هَاهُنَا: الِاعْتِقَادُ- أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَنْ يُضَيِّعَهُ، فَإِمَّا أَنْ يَبْقِينَ عِنْدَهُ، وَإِمَّا أَنْ يُطَلِّقَهُنَّ ﷺ، جَاءَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -وَكَانَ قَدْ ظَنَّ عُمَرُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ طَلَّقَ نِسَاءَهُ-، فَلَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقِ النِّسَاءَ بَعْدُ، وَالْمُسْلِمُونَ جَالِسُونَ يَبْكُونَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ طَلَّقَ نِسَاءَهُ؛ دَخَلَ عُمَرُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ، -لِأَنَّهُنَّ يُرَاجِعْنَ النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ يَعْلَمُ-، فَدَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، وَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ، لَوْ رَأَيْتُنِي وَابْنَةُ خَارِجَةَ -يَعْنِي: زَوْجَتَهُ؛ زَوْجَةَ عُمَرَ- تَسْأَلُنِي النَّفَقَةَ وَأَنَا أَجَأُ فِي عُنُقِهَا حَتَّى اسْتَلْقَتْ لِقَفَاهَا، فَظَلَّ النَّبِيُّ ﷺ يَضْحَكُ)).
النَّبِيُّ لَمْ يَكُنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَأَمَّا عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَقُولُ: هِيَ وَقَفَتْ تَقُولُ لِي: أُرِيدُ كَذَا وَكَذَا، وَالْيَوْمَ نَسْتَطِيعُ أَنْ نَشْتَرِيَ مِنَ السُّوقِ كَذَا وَكَذَا، تَسْأَلُهُ النَّفَقَةَ وَهُوَ يَجَأُ بِأُصْبُعَيْهِ فِي عُنُقِهَا -بِأُصْبُعَيْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-! (وَأَنَا أَجَأُ فِي عُنُقِهَا بِأُصْبُعَيَّ هَاتَيْنِ حَتَّى اسْتَلْقَتْ لِقَفَاهَا، فَضَحِكَ النَّبِيُّ ﷺ).
النَّبِيُّ ﷺ أَرْفَقُ الْخَلْقِ ﷺ.
((مِنْ مَظَاهِرِ حِيَاطَةِ وَتَكْرِيمِ الْإِسْلَامِ لِلْمَرْأَةِ))
إِنَّ الْإِسْلَامَ عِنْدَمَا يَمْنَعُ الْمَرْأَةَ مِنْ أَنْ تَخْرُجَ فِي مَسَافَةٍ تُقْصَرُ فِيهَا الصَّلَاةُ مِنْ غَيْرِ مَحْرَمٍ، وَيُحَرِّمُ عَلَيْهَا أَنْ تَذْهَبَ إِلَى الْحَجِّ وَإِلَى الْعُمْرَةِ مِنْ غَيْرِ مَحْرَمٍ، لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَذْهَبَ إِلَى الْحَجِّ وَلَا إِلَى الْعُمْرَةِ مَا دَامَ لَيْسَ عِنْدَهَا مَحْرَمٌ؛ وَلَوْ كَانَتْ تَملِكُ مَالَ الْأَرْضِ، وَلَوْ كَانَتْ صِحَّتُهَا مِثْلَ صِحَّةِ الْجَمَلِ -صِحَّةِ النَّاقَةِ-، يَعْنِي: لَوْ كَانَتْ مُتَمَتِّعَةً بِالِاسْتِطَاعَةِ الْمَالِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ وَلَيْسَ عِنْدَهَا مَحْرَمٌ؛ لَا يَلْزَمُهَا، وَلَا يَسْأَلُهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَوْمَ الْقِيَامَةِ: لِمَ لَمْ تَحُجِّي؛ لِأَنَّ عِنْدَهَا الْعُذْرَ فِي عَدَمِ أَدَاءِ الْفَرِيضَةِ، وَهُوَ عَدَمُ وُجُودِ الْمَحْرَمِ.
لَا يَجُوزُ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَخْرُجُ لِلْحَجِّ وَلَا لِلْعُمْرَةِ وَلَا لِسَفَرٍ تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهَا مَحْرَمٌ؛ حِيَاطَةً لِلْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَمْ يَجْعَلِ الْمَرْأَةَ سِلْعَةً؛ يُبَاعُ جَسَدُهَا، وَتُتَأَمَّلُ مَفَاتِنُهَا، وَيُتَاجَرُ بِعِرْضِهَا أَبَدًا، جَعَلَهَا الْإِسْلَامُ مَصُونَةً.
وَجَعَلَهَا الْإِسْلَامُ مَحْجُوبَةً عَنِ الْأَعْيُنِ أَنْ تَنُوشَهَا وَأَنْ تَنتَهِكَ عِرْضَهَا، لَمْ يَجْعَلْهَا الْإِسْلَامُ كَذَلِكَ، وَلَمْ يَجْعَلْهَا الْإِسْلَامُ دُمْيَةً لَيْسَ لَهَا قِيمَةً، وَإِنَّمَا جَعَلَ الْإِسْلَامُ الْمَرْأَةَ فِي مَوْضِعِهَا إِنْسَانَةً لَهَا جَمِيعُ الْحُقُوقِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ لِلْإِنْسَانَةِ الْحَقَّةِ.
وَكَذَلِكَ جَعَلَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَمِيرَةً فِي بَيْتِهَا، أَمِيرَةً عَلَى أَبْنَائِهَا، وَفَرَضَ عَلَى الْأَوْلَادِ الطَّاعَةَ لِلْأُمِّ فَرْضًا مُؤَبَّدًا مَرَّةً مِنْ بَعْدِ مَرَّةٍ مِنْ بَعْدِ مَرَّةٍ، وَقَالَ الرَّسُولُ ﷺ لِلرَّجُلِ: «الْزَمْهَا فَإِنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ قَدَمَيْهَا». هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ الْمَكْذُوبُ أَوْ غَيْرُ الصَّحِيحِ: الْجَنَّةُ تَحْتَ أَقْدَامِ الْأُمَّهَاتِ؛ فَهُوَ بِهَذَا اللَّفْظِ غَيْرُ ثَابِتٍ.
الثَّابِتُ: «الْزَمْهَا فَإِنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ رِجْلَيْهَا». كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ.
الْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا، وَمَسْؤُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، فَهِيَ أَمِيرَةٌ عَلَى أَوْلَادِهَا.
وَأَوْجَبَ عَلَى الزَّوْجِ نَفَقَتَهَا وَكِسْوَتَهَا مَهْمَا كَانَتْ هِيَ تَمْلِكُ مِنَ الْمَالِ، مَهْمَا كَانَتْ تَمْلِكُ مِنَ الْمَالِ.. كَانَتْ ذِمَّتُهَا الْمَالِيَّةُ فِيهَا قَدْرٌ كَبِيرٌ مِنَ الْمَالِ مُتَعَلِّقٌ بِهَا، تَمْلِكُهُ مِلْكَ يَمِينٍ، إِذَا هِيَ حَجَبَتْ ذَلِكَ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا هِيَ أَنْ تُنْفِقَ عَلَى أَحَدٍ وَلَا عَلَى نَفْسِهَا.
أَيُّ كَرَامَةٍ أَعْلَى مِنْ هَذَا لِلْمَرْأَةِ؟!!
فَعَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَتَّقِيَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي نَفْسِهَا.
كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُزَوِّجُونَ الْمَرْأَةَ بِدُونِ عِلْمِهَا وَلَا إِذْنِهَا وَلَا رِضَاهَا، فَجَاءَتِ الشَّرِيعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ وَأَعْطَتِ الْمَرْأَةَ حَقَّهَا فِي ذَلِكَ.
فِي الزَّوَاجِ لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا أَنْ يُزَوِّجَ الْوَلِيُّ وَلِيَّتَهُ إِطْلَاقًا مِنْ غَيْرِ مَا رِضًا مِنْهَا، وَلَوْ حَدَثَ فَهَذَا الزَّوَاجُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ، لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مُوَافِقَةً؛ سَوَاءٌ كَانَتْ ثَيِّبًا أَمْ بِكْرًا، ثَيِّبًا كَانَتْ أَمْ بِكْرًا لَا بُدَّ مِنْ رِضَاهَا، وَلَا يَجُوزُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ أَنْ يُزَوِّجَ وَلِيَّتَهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهَا.
لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ رَاضِيَةً بِالْإِقْنَاعِ وَبِالْحُسْنَى، وَهِيَ فِي الْوَقْتِ ذَاتِهِ لَا يَجُوزُ لَهَا مُطْلَقًا أَنْ تَتَزَوَّجَ مِنْ غَيْرِ رِضَا وَلِيِّهَا، «وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ أَنْكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ»، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يَقُولُهَا الرَّسُولُ ﷺ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَا تُنْكَحُ الْأَيِّمُ -أَيِ الثَّيِّبُ- حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلَا الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَالَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَحْنَافُ وَأَخَذُوا بِهِ مِنْ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ الثَّيِّبِ أَوِ الْعَاقِلِ الرَّشِيدِ مِنَ النِّسَاءِ أَنْ تُزَوِّجَ نَفْسَهَا؛ هَذَا النِّكَاحُ بَاطِلٌ، وَفِيهِ شُبْهَةُ زِنًى وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ ﷺ هُوَ الَّذِي قَالَ مَا قَالَ.
وَبَعَثَ اللهُ -تَعَالَى- نَبِيَّهُ ﷺ وَمِنْ أَنْكِحَةِ الْجَاهِلِيَّةِ مَا يُسَمَّى (بِالشِّغَارِ)، يَقُولُ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: زَوِّجْنِي ابْنَتَكَ عَلَى أَنْ أُزَوِّجَكَ ابْنَتِي، أَوْ زَوِّجْنِي أُخْتَكَ وَأُزَوِّجُكَ أُخْتِي دُونَ أَنْ يُعْطِيَ الْمَرْأَةَ شَيْئًا مِنَ الْمَهْرِ وَدُونَ رِضَاهَا، فَأَبْطَلَ النَّبِيُّ ﷺ هَذَا النِّكَاحَ الَّذِي فِيهِ ظُلْمٌ لِلْمَرْأَةِ، فَقَالَ: «لَا شِغَارَ فِي الْإِسْلَامِ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَبَعَثَ اللهُ نَبِيَّهُ ﷺ وَالرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ يُطَلِّقُ زَوْجَتَهُ مَا شَاءَ ثُمَّ يُرَاجِعُ، فَأَنْزَلَ اللهُ -تَعَالَى- عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ۖ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229].
فَرُفِعَ الظُّلْمُ عَنِ الْمَرْأَةِ بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ السَّمْحَةِ.
وَبَعَثَ اللهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ وَالْيَهُودُ إِذَا حَاضَتْ فِيهِمُ الْمَرْأَةُ لَمْ يُؤَاكِلُوهَا، وَلَمْ يَجْتَمِعُوا مَعَهَا تَحْتَ سَقْفٍ، فَخَالَفَهُمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ: «اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا النِّكَاحَ».
عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا إِذَا حَاضَتْ فِيهِمُ الْمَرْأَةُ لَمْ يُؤَاكِلُوهَا، وَلمْ يُجَامِعُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ، فَسَألَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ النَّبِيَّ ﷺ، فَأَنْزَلَ اللهُ -تَعَالَى- قَوْلَهُ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222].
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا النِّكَاحَ».
فَبَلَغَ ذَلِكَ اليَهُودَ، فَقَالُوا: ((مَا يُرِيدُ هَذَا الرَّجُلُ أَنْ يَدَعَ مِنْ أَمْرِنَا شَيْئًا إِلَّا خَالَفَنَا فِيهِ)). رَوَاهُ مُسلِمٌ.
وَبَعَثَ اللهُ -تَعَالَى- نَبِيَّهُ ﷺ وَأَهلُ الْجَاهِليَّةِ لَا يَرَوْنَ النِّسَاءَ شَيْئًا، فَأَعْطَاهُنَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ حُقُوقَهُنَّ، وَأَوْصَى بِهِنَّ خَيْرًا.
الْمَرْأَةُ فَاعِلَةٌ وَمَشُورَتُهَا قَائِمَةٌ؛ فَالرَّسُولُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- أَخَذَ بِمَشُورَةِ أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فِي مَسْأَلَةِ عُمْرَةِ التَّحَلُّلِ عِنْدَمَا جَاءَ الْحُدَيْبِيَّةِ، وَعَقَدَ الْعَقْدَ مَعَ الْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ، وَأَرَادَ أَنْ يَعُودَ ﷺ، وَخَرَجَ يَأْمُرُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- بِأَنْ يَتَحَلَّلُوا مِنَ الْإِحْرَامِ.
فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، نُرِيدُ أَنْ نَدْخُلَ، الْبَيْتُ مِنَّا عَلَى رَمْيَةِ حَجَرٍ، نَحْنُ فِي وَادِي الْحُدَيْبِيَّةِ قَرِيبٍ مِنْ مَكَّةَ، وَنَحْنُ سُقْنَا الْهَدْيَ، وَالْهَدْيُ أَكَلَ جِلْدَهُ.. أَكَلَ صُوفَهُ مِنْ كَثْرَةِ مَا احْتُبِسَ، يُرِيدُونَ أَنْ يُهْدُوا هَذِهِ الْهَدَايَا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَنْ يَحُجُّوا بَيْتَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَهُمْ فِي مَلَابِسِ الْإِحْرَامِ، وَخَرَجُوا مُهَلِّلِينَ وَمُلَبِّينَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَهْلُ مَكَّةَ لَا يَمْنَعُونَ الْكُفَّارَ الْأَصْلِيِّينَ مِنْ دُخُولِ مَكَّةَ؛ فَكَيْفَ يَمْنَعُونَ مُحَمَّدًا وَمَنْ مَعَهُ ﷺ؟!!
كَانَ الْأَمْرُ شَدِيدًا، وَخَرَجَ الرَّسُولُ ﷺ بَعْدَ الْمُعَاهَدَةِ يَقُولُ لَهُمْ: ((قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا، قالَ: فَوَاللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ))، فَتَلَكَّئُوا، فَخَافَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ بِسَبَبِ التَّأْخِيرِ فِي اتِّبَاعِ الْبَشِيرِ النَّذِيرِ ﷺ.
((فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنَ النَّاسِ)).
قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: ((يَا نَبِيَّ اللَّهِ! أَتُحِبُّ ذَلِكَ؟ اخْرُجْ ثُمَّ لَا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ)).
فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ؛ نَحَرَ بُدْنَهُ، وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا)).
خَرَجَ الرَّسُولُ ﷺ فَدَعَا حَالِقَهُ، فَأَخَذَ يَحْلِقُ رَأْسَهُ، فَلَمَّا وَجَدَ الْمُسْلِمُونَ الْأَمْرَ بِهَذِهِ الصُّورَةِ، وَأَنَّ الرَّسُولَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- نَفَّذَ الْأَمْرَ الَّذِي أَمَرَهُمْ بِهِ، وَهُمْ تَخَلَّفُوا وَتَأَخَّرُوا؛ خَافُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَأَخَذَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ رَأْسَ بَعْضٍ، وَتَسِيلُ الدِّمَاءُ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْحُزْنِ وَالْبُكَاءِ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا-.
إِذَنِ؛ الرَّسُولُ ﷺ أَخَذَ بِمَشُورَةِ أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فِي أَمْرٍ خَطِيرٍ جِدًّا أَنْقَذَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهِ الصَّحَابَةَ مِنْ أَنْ يَنْزِلَ بِهِمْ عِقَابٌ مِنَ اللهِ؛ لِتَأَخُّرِهِمْ عَنِ اتِّبَاعِ أَمْرِ نَبِيِّهِمْ ﷺ.
وَحَثَّ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى تَعْلِيمِ الْمَرْأَةِ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «ثَلاثَةٌ لَهُمْ أَجْرَانِ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ وَآمَنَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ، وَالعَبْدُ المَمْلُوكُ إِذَا أدَّى حَقَّ اللهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ، وَرَجُلٌ كَانَتْ عِندَهُ أَمَةٌ فَأدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأدِيبَهَا، وَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا، ثُمَّ أعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا، فَلَهُ أَجْرَانِ». أَخرَجَهُ البُخَارِيُّ.
وَعَن أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «طَلَبُ العِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسلِمٍ». أَخرَجَهُ ابنُ مَاجَه بِإِسنَادٍ صَحِيحٍ، وَهَذَا يَشمَلُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاء.
وَعَن مَالِكِ بنِ الحُوَيْرِثِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: أَتَيْنَا النَّبِيَّ ﷺ وَنَحْنُ شَبَبَةٌ مُتَقَارِبُونَ، فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً، فَظَنَّ أَنَّا اشْتَقْنَا أَهْلَنَا، وَسَأَلَنَا عَمَّنْ تَرَكْنَا فِي أَهْلِنَا فَأَخْبَرْنَاهُ، وَكَانَ رَفِيقًا رَحِيمًا ﷺ، فَقَالَ: «ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ فَعَلِّمُوهُمْ وَمُرُوهُمْ، وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي، وَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ، ثُمَّ لْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ». أَخرَجَهُ البُخَارِيُّ.
وَعَن أَبِي سَعِيدٍ الخُدرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَتِ النِّسَاءُ لِلنَّبِيِّ ﷺ: غَلَبَنَا عَلَيْكَ الرِّجَالُ فَاجْعَلْ لَنَا يَوْمًا مِنْ نَفْسِكَ، فَوَعَدَهُنَّ يَوْمًا لَقِيَهُنَّ فِيهِ فَوَعَظَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ، فَكَانَ فِيمَا قَالَ لَهُنَّ: «مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُقَدِّمُ ثَلَاثَةً مِنْ أَولَادِهَا إِلَّا كَانَ لَهَا حِجَابًا مِنَ النَّارِ».
فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: ((وَاثْنَيْنِ)).
فَقَالَ: «وَاثْنَيْنِ». أَخرَجَهُ البُخَارِيُّ.
عِبَادَ اللهِ، الْإِسْلَامُ كَرَّمَ الْمَرْأَةَ إِنسَانًا مُنْذُ أَعْلَنَ أَنَّهَا مُكَلَّفَةٌ كَالرَّجُل، وَأَنَّهَا مُثَابَةٌ وَمُعَاقَبَةٌ مِثْلُهُ، وَأَنَّهَا أَحَدُ شِقَّيِ الْإِنْسَانِيَّةِ، فَلَا بَقَاءَ لِلنَّوعِ بِغَيرِهَا، قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ} [الحجرات: 13].
وَقَالَ تَعَالَى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ} [آل عمران: 195].
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35].
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّمَا النِّسَاءُ شَقَائقُ الرِّجَال».
وَكَرَّمَهَا بِنتًا؛ فَأَنْكَرَ أَشَدَّ الْإِنكَارِ وَأْدَهَا خَشْيَةَ الْإِمْلَاقِ، أَوْ خَوْفَ الْعَارِ، أَوْ لِأَيِّ سَبَبٍ كَانَ؛ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ فَضْلِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ إِلَّا تَحْرِيمُ هَذِهِ الْعَادَةِ الْقَبِيحَةِ لَكَفَاهَا فَخْرًا.
كَمَا أَوْجَبَ حُسْنَ تَأْدِيبِهَا، وَأَوْجَبَ تَعلِيمَهَا وَرِعَايَتَهَا وَالْإِنْفَاقَ عَلَيْهَا حَتَّى تَتَزَوَّجَ، وَفَرَضَ عَلَى أَبِيهَا أَلَّا يُزَوِّجَهَا إِلَّا بِرِضَاهَا وَإِذْنِهَا، وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا تَسْتَحْيِي مِنْ إِظْهَارِ الْإِذْنِ وَالرِّضَا بَالْقَوْلِ؛ فَجَعَلَ إِذْنَهَا صُمَاتَهَا.
كَرَّمَهَا بِنْتًا؛ فَرَتَّبَ الشَّرْعُ عَلَى تَرْبِيَةِ الْبَنَاتِ وَالصَّبْرِ عَلَيْهِنَّ الْأَجْرَ الْعَظِيمَ؛ فَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنِ ابْتُلِيَ مِنَ الْبَنَاتِ بِشَيْءٍ فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَكَرَّمَهَا زَوْجَةً؛ فَجَعَلَ لَهَا مِثْلَ مَا لِلرَّجُلِ مِنْ حُقُوقٍ؛ إِلَّا فِي دَرَجَةِ الْقَوَامَةِ وَالْمَسْؤُولِيَّةِ عَنِ الْأُسْرَةِ فَجَعَلَهَا لِلرَّجُلِ؛ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ بَصَرًا بِالْعَوَاقِبِ مِنَ الْمَرْأَةِ، وَلِأَنَّهُ الْغَارِمُ فِي بِنَاءِ الْأُسْرَةِ، فَيَظَلُّ حَرِيصًا عَلَى بَقَائِهَا، قَالَ تَعَالَى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 228].
وَأَوْجَبَ لَهَا النَّفَقَةَ، وَتَمَامَ الْكِفَايَةِ، وَالْمُعَامَلَةَ بِالْحُسْنَى، فَقَالَ: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19].
وَكَرَّمَهَا أُمًّا، وَأَمَرَ بِحُسْنِ مُصَاحَبَتِهَا وَمُعَاشَرَتِهَا؛ إِكْرَامًا لِأُمُومَتِهَا، وَجَزَاءً لِمَا عَانَتْ فِي سَبِيلِ أَوْلَادِهَا، قَالَ تَعَالَى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15].
وَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ، وَوَأْدَ الْبَنَاتِ، وَمَنْعًا وَهَاتِ، وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَكَرَّمَهَا بِاعْتِبَارِهَا عُضْوًا فِي الْأُسْرَةِ وَالْمُجْتَمَعِ، فَأَنْكَرَ اعْتِبَارَهَا عِنْدَ مَوْتِ زَوْجِهَا شَيْئًا يُورَثُ كَمَا يُورَثُ الْمَتَاعُ وَالدَّوَابُّ، قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} [النساء: 19].
*وَقَرَّرَ أَهْلِيَّتَهَا لِلتَّمَلُّكِ وَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَسَائِرِ الْعُقُودِ؛ فَهِيَ تَمْلِكُ كَمَا يَمْلِكُ الرَّجُلُ، قَالَ تَعَالَى: {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ} [النساء: 32].
وَأَصْبَحَ لِلْمَرْأَةِ حَظٌّ مِنَ الْإِرْثِ الَّذِي كَانَ مَقْصُورًا عَلَى الرِّجَالِ، قَالَ تَعَالَى: {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا} [النساء: 7].
فَهَلْ بَعْدَ كُلِّ مَا سَبَقَ يَمْتَرِي ذُو لُبٍّ فِي أَنَّ الشَّرِيعَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ السَّمْحَاءَ الَّتِي جَاءَ بِهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ قَدْ أَنْصَفَتِ الْمَرْأَةَ، وَأَعْطَتْهَا حُقُوقَهَا الْعَادِلَةَ بَعْدَمَا ظَلَمَتْهَا الْجَاهِلِيَّةُ كُلُّهَا، فَحَرَّرَهَا الْإِسْلَامُ مِنْ قُيُودِهَا، وَكَرَّمَهَا وَأَعْلَى مَكَانَتَهَا بِاعْتِبَارِهَا إِنْسَانًا، وَبِنْتًا، وَزَوْجَةً، وَأُمًّا، وَعُضْوًا فِي الْأُسْرَةِ وَالْمُجْتَمَعِ؟!!
كَرَّمَهَا إِنْسَانًا مُنْذُ أَعْلَنَ أَنَّهَا مُكَلَّفَةٌ كَالرَّجُلِ، وَأَنَّهَا مُثَابَةٌ وَمُعَاقَبَةٌ مِثْلُهُ، وَأَنَّهَا أَحَدُ شِقَّيِ الْإِنْسَانِيَّةِ، فَلَا بَقَاءَ لِلنَّوْعِ بِغَيْرِهَا.
((حُسْنُ الْعِشْرَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ))
إِنَّ بَابَ عِشْرَةِ النِّسَاءِ بَابٌ عَظِيمٌ تَجِبُ الْعِنَايَةُ بِهِ؛ لِأَنَّ تَطْبِيقَهُ مِنْ أَخْلَاقِ الْإِسْلَامِ، وَلِأَنَّ تَطْبِيقَهُ تَدُومُ بِهِ الْمَوَدَّةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَلِأَنَّ تَطْبِيقَهُ يَحْيَا بِهِ الزَّوْجَانِ حَيَاةً سَعِيدَةً.
وَلِأَنَّ تَطْبِيقَهُ سَبَبٌ لِكَثْرَةِ الْوِلَادَةِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا حَسُنَتِ الْعِشْرَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ ازْدَادَتِ الْمَحَبَّةُ، وَإِذَا ازْدَادَتِ الْمَحَبَّةُ ازْدَادَ الِاجْتِمَاعُ عَلَى الْجِمَاعِ، وَبِالْجِمَاعِ يَكُونُ الْأَوْلَادُ، فَالْمُعَاشَرَةُ أَمْرُهَا عَظِيمٌ.
اعْلَمْ أَنَّ مُعَامَلَتَكَ لِزَوْجَتِكَ؛ يَجِبُ أَنْ تُقَدِّرَ كَأَنَّ رَجُلًا زَوْجًا لِابْنَتِكَ؛ كَيْفَ يُعَامِلُهَا؟
فَهَلْ تَرْضَى أَنْ يُعَامِلَهَا بِالْجَفَاءِ وَالْقَسْوَةِ؟
الْجَوَابُ: لَا.
إِذَنْ؛ لَا تَرْضَى أَنْ تُعَامِلَ بِنْتَ النَّاسِ بِمَا لَا تَرْضَى أَنْ تُعَامَلَ بِهِ ابْنَتُكَ، وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ يَنْبَغِي أَنْ يَعْرِفَهَا كُلُّ إِنْسَانٍ.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((الْمُسْنَدِ)): ((أَنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! ائْذَنْ لِي بِالزِّنَى!
فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ وَقَالُوا: مَهْ مَهْ، فَقَالَ: «ادْنُهْ»، فَدَنَا حَتَّى جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟».
قَالَ: ((لَا)).
قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ، أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ؟».
قَالَ: ((لَا)).
قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ، أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ؟».
قَالَ: ((لَا)).
قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ، أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟».
قَالَ: ((لَا)).
قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ، أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟».
قَالَ: ((لَا)).
قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ».
قَالَ: فَوَضَعَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ، وَقَالَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ»،... الْحَدِيثَ.
فَهَذَا مِقْيَاسٌ عَقْلِيٌّ وَاضِحٌ جِدًّا، فَكَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَرْضَى أَنْ تَكُونَ ابْنَتُهُ تَحْتَ رَجُلٍ يُقَصِّرُ فِي حَقِّهَا وَيُهِينُهَا، وَيَجْعَلُهَا كَالْأَمَةِ يَجْلِدُهَا جَلْدَ الْعَبْدِ؛ فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يُعَامِلَ زَوْجَتَهُ بِهَذَا، لَا بِالصَّلَفِ وَالِاسْتِخْدَامِ الْخَارِجِ عَنِ الْعَادَةِ.
وَعَلَى الزَّوْجَةِ -أَيْضًا- أَنْ تُعَامِلَ زَوْجَهَا مُعَامَلَةً طَيِّبَةً، أَطْيَبَ مِنْ مُعَامَلَتِهِ لَهَا؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ فِي كِتَابِهِ: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228].
وَلِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- سَمَّى الزَّوْجَ سَيِّدًا، فَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي سُورَةِ يُوسُفَ: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف: 25].
وَلِأَنَّ النَّبِيَّﷺ سَمَّى الزَّوْجَةَ أَسِيرَةً، فَقَالَ: «اتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ؛ فَإِنَّهُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٌ».
«وَعَوَان»: جَمْعُ عَانِيَةٍ، وَهِيَ الْأَسِيرَةُ.
فَعَلَى كُلِّ حَالٍ؛ الْوَاجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ إِذَا كَانَ يُحِبُّ أَنْ يَحْيَا حَيَاةً سَعِيدَةً مُطْمَئِنَّةً هَادِئَةً؛ أَنْ يُعَاشِرَ زَوْجَتَهُ بِالْمَعْرُوفِ.
وَكَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلزَّوْجَةِ مَعَ زَوْجِهَا، وَإِلَّا ضَاعَتِ الْأُمُورُ، وَصَارَتِ الْحَيَاةُ شَقَاءً، ثُمَّ هَذَا -أَيْضًا- يُؤَثِّرُ عَلَى الْأَوْلَادِ؛ فَالْأَوْلَادُ إِذَا رَأَوُا الْمَشَاكِلَ بَيْنَ أُمِّهِمْ وَأَبِيهِمْ؛ سَوْفَ يَتَأَلَّمُونَ وَيَنْزَعِجُونَ، وَإِذَا رَأَوُا الْأُلْفَةَ فَسَيُسَرُّونَ، فَعَلَيْكَ -أَيُّهَا الْأَخُ الْحَبِيبُ- بِالْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]، وَهَذَا أَمْرٌ، وَالْأَصْلُ فِي الْأَمْرِ الْوُجُوبِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228].
فَأَثْبَتَ أَنَّ عَلَيْهِنَّ عِشْرَةً، فَيَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ.. كُلٌّ مِنْهُمَا أَنْ يُعَاشِرَ الْآخَرَ بِالْمَعْرُوفِ.
وَقَوْلُهُ: «بِالْمَعْرُوفِ» يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ: مَا عَرَفَهُ الشَّرْعُ وَأَقَرَّهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ: مَا اعْتَادَهُ النَّاسُ وَعَرَفُوهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ نَقُولَ بِالْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، مَا عَرَفَهُ الشَّارِعُ وَأَقَرَّهُ، وَمَا اعْتَادَهُ النَّاسُ وَعَرَفُوهُ، فَلَوِ اعْتَادَ النَّاسُ أَمْرًا مُحَرَّمًا؛ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ؛ وَلَوْ كَانَ عَادَةً؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَا يُقِرُّهُ.
وَمَا سَكَتَ عَنْهُ الشَّرْعُ وَلَكِنَّ الْعُرْفَ يُلْزِمُ بِهِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ تَمَامِ الْعَقْدِ، إِذِ الْعُقُودُ الْجَارِيَةُ بَيْنَ النَّاسِ تَتَضَمَّنُ كُلَّ مَا يَسْتَلْزِمُهُ هَذَا الْعَقْدُ شَرْعًا أَوْ عُرْفًا، فَلَوْ قَالَتِ الزَّوْجَةُ: أَنْتَ مَا شَرَطْتَ عَلَيَّ أَنِّي أَفْعَلُ كَذَا؛ نَقُولُ: لَكِنَّ مُقْتَضَى الْعَقْدِ عُرْفًا أَنْ تَفْعَلِي هَذَا الشَّيْءَ.
وَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ: يَا فُلَانَةُ اصْنَعِي طَعَامًا، فَإِنَّ مَعِيَ رِجَالًا، فَقَالَتْ: لَا أَصْنَعُ، أَنَا مَا تَزَوَّجْتُ إِلَّا لِلِاسْتِمْتَاعِ فَقَطْ، أَمَّا أَنْ أَخْدُمَكَ فَلَا، فَهَلْ يَلْزَمُهَا أَنْ تَصْنَعَ مَا أَمَرَهَا بِهِ أَوْ لَا؟
نَعَمْ، يَلْزَمُهَا؛ لِأَنَّ هَذَا مُقْتَضَى الْعُرْفِ، وَمَا اطَّرَدَ بِهِ الْعُرْفُ كَالْمَشْرُوطِ لَفْظًا، وَبَعْضُهُمْ يُعَبِّرُ بِقَوْلِهِ: الشَّرْطُ الْعُرْفِيُّ كَالشَّرْطِ اللَّفْظِيِّ.
وَيَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ فِي مُعَاشَرَتِهِ لِزَوْجَتِهِ بِالْمَعْرُوفِ أَلَّا يَقْصِدَ السَّعَادَةَ الدُّنْيَوِيَّةَ، وَالْأُنْسَ وَالْمُتْعَةَ فَقَطْ، بَلْ يَنْوِي مَعَ ذَلِكَ التَّقَرُّبَ إِلَى اللهِ -تَعَالَى- بِفِعْلِ مَا يَجِبُ، وَهَذَا أَمْرٌ نَغْفُلُ عَنْهُ كَثِيرًا، فَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِي مُعَاشَرَتِهِ لِزَوْجَتِهِ بِالْمَعْرُوفِ؛ قَصْدُهُ أَنْ تَدُومَ الْعِشْرَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ، وَيَغِيبُ عَنْ ذِهْنِهِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ تَقَرُّبًا إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَهَذَا كَثِيرًا مَا نَنْسَاهُ، يُنْسِينَا إِيَّاهُ الشَّيَاطِينُ.
وَعَلَى هَذَا فَيَنْبَغِي أَنْ تَنْوِيَ بِهَذَا أَنَّكَ قَائِمٌ بِأَمْرِ اللهِ: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}، فَهَذَا أَمْرٌ، وَأَنْتَ إِذَا عَاشَرْتَ بِالْمَعْرُوفِ؛ فَإِنَّكَ تَكُونُ مُمْتَثِلًا لِهَذَا الْأَمْرِ الْإِلَهِيِّ الْكَرِيمِ، وَإِذَا نَوَيْتَ ذَلِكَ؛ حَصَلَ لَكَ الْأَمْرُ الثَّانِي، وَهُوَ دَوَامُ الْعِشْرَةِ الطَّيِّبَةِ، وَالْمُعَامَلَةِ الطَّيِّبَةِ، وَكَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلزَّوْجَةِ.
وَكَذَا كُلُّ مَا أَمَرَ بِهِ الشَّرْعُ؛ يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ عِنْدَ فِعْلِهِ أَنْ يَنْوِيَ امْتِثْالَ الْأَمْرِ؛ لِيَكُونَ عِبَادَةً، فَفِي الْوُضُوءِ -مَثَلًا-: إِذَا أَرَدْنَا أَنْ نَتَوَضَّأَ؛ نَقْصِدُ أَنَّ هَذَا شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ، لَا بُدَّ مِنَ الْقِيَامِ بِهِ، وَنَسْتَحْضِرُ أَنَّنَا نَقُومُ بِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6].
قَدْ نَذْكُرُ ذَلِكَ أَحْيَانًا، وَلَكِنَّنَا نَنْسَاهُ كَثِيرًا، وَهَلْ عِنْدَمَا نَفْعَلُ هَذَا نَشْعُرُ بِأَنَّ الرَّسُولَ ﷺ كَأَنَّهُ أَمَامَنَا، وَأَنَّنَا نَقْتَدِي بِهِ، فَنَكُونُ بِذَلِكَ مُتَّبِعِينَ؟!
هَذَا قَدْ نَفْعَلُهُ أَحْيَانًا، وَلَكِنَّهُ يَفُوتُنَا كَثِيرًا، فَيَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ حَازِمًا لَا تَفُوتُهُ الْأُمُورُ وَالْأُجُورُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْغَفْلَةِ.
فَإِذَا عَاشَرَ بِالْمَعْرُوفِ؛ فَيَنْبَغِي أَنْ يَنْوِيَ طَاعَةَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي قَوْلِهِ وَأَمْرِهِ: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}.
وَيَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى الزَّوْجَةِ؛ وَلَوْ رَأَى مِنْهَا مَا يَكْرَهُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].
مَا أَبْلَغَ الْقُرْآنَ! لَمْ يَقُلْ -جَلَّ وَعَلَا-: فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوهُنَّ، بَلْ قَالَ: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا} أَيَّ شَيْءٍ يَكُونُ، فَقَدْ يَكْرَهُ الْإِنْسَانُ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى بَيْتِ صَاحِبِهِ، وَيَجْعَلُ اللهُ فِي هَذَا الذَّهَابِ خَيْرًا كَثِيرًا، وَقَدْ يَكْرَهُ الْإِنْسَانُ أَنْ يَشْتَرِي شَيْئًا، وَيَشْتَرِي هَذَا الشَّيْءَ وَهُوَ كَارِهٌ، فَيَجْعَلُ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا.
وَكَذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: «لَا يَفْرَكُ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا؛ رَضِيَ مِنْهَا خُلُقًا آخَرَ».
وَنَبَّهَ الرَّسُولُ ﷺ عَلَى هَذَا بِقَوْلِهِ: «لَا يَجْلِدُ أَحَدُكُمُ امْرَأَتَهُ جَلْدَ الْعَبْدِ، ثُمَّ يُضَاجِعُهَا».
وَالْمَرْأَةُ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ- نَاقِصَةُ عَقْلٍ وَدِينٍ، وَقَرِيبَةُ الْعَاطِفَةِ، كَلِمَةٌ مِنْكَ تُبْعِدُهَا عَنْكَ بُعْدَ الثُّرَيَّا، وَكَلِمَةٌ تُدْنِيهَا مِنْكَ حَتَّى تَكُونَ إِلَى جَنْبِكَ، فَلِهَذَا يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُرَاعِيَ هَذِهِ الْأَحْوَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ.
وَلَكِنْ -نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ- الْآنَ لَمَّا كَانَ عِنْدَ النَّاسِ شَيْءٌ مِنْ ضَعْفِ الْإِيمَانِ؛ صَارَ أَقَلُّ شَيْءٍ يُوجَدُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ، وَأَقَلُّ غَضَبٍ؛ وَلَوْ عَلَى أَتْفَهِ الْأَشْيَاءِ تَجِدُهُ يَغْضَبُ، وَيُطَلِّقُ، وَلَيْتَهُ إِذْ يَفْعَلُ؛ يُطَلِّقُ طَلَاقًا شَرْعِيًّا، بَلْ تَجِدُهُ يُطَلِّقُ زَوْجَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، أَوْ فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ، أَوْ طَلَاقًا بِدْعِيًّا بَعَدَدِهِ، وَبَعْضُهُمْ يَزِيدُ عَلَى هَذَا، فَيُظَاهِرُ مِنْهَا -نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ-.
كُلُّ هَذَا مِنْ ضَعْفِ الْإِيمَانِ، وَقِلَّةِ التَّرْبِيَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ.
وَيَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَلَّا يَغْضَبَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ قُصُورٌ، حَتَّى الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ مُقَصِّرٌ، وَلَيْسَ صَحِيحًا أَنَّهُ كَامِلٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَهِيَ أَيْضًا أَوْلَى بِالتَّقْصِير.
وَأَيْضًا: يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَقِيسَ الْمَسَاوِئَ بِالْمَحَاسِنِ، فَبَعْضُ الزَّوْجَاتِ إِذَا مَرِضَ زَوْجُهَا قَدْ لَا تَنَامُ اللَّيْلَ، وَتُطِيعُهُ فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ، ثُمَّ إِذَا فَارَقَهَا؛ فَمَتَى يَجِدُ زَوْجَةً؟!
وَإِذَا وَجَدَ؛ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ أَسْوَأَ مِنَ الْأُولَى؛ لِهَذَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُقَدِّرَ الْأُمُورَ؛ حَتَّى يَكُونَ سَيْرُهُ مَعَ أَهْلِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ، وَالْإِنْسَانُ إِذَا عَوَّدَ نَفْسَهُ حُسْنَ الْأَخْلَاقِ انْضَبَطَ، وَبِذَلِكَ يَسْتَرِيحُ.
((تَحْرِيمُ الْإِسْلَامِ الْعُنْفَ ضِدَّ الْمَرْأَةِ))
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! إِنَّ الْإِسْلَامَ لَمْ يَشْرَعْ لِلرَّجُلِ أَنْ يُمَارِسَ أَيَّ عُنْفٍ مَعَ الْمَرْأَةِ؛ فَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) قَالَ ﷺ: ((يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ فَيَجْلِدُ امْرَأَتَهُ جَلْدَ الْعَبْدِ، فَلَعَلَّهُ يُضَاجِعُهَا مِنْ آخِرِ يَوْمِهِ)).
وَالْقَانُونُ عِنْدَ السَّلَفِ -رَحِمَهُمُ اللهُ-: أَنَّهُ لَيْسَ الْإِحْسَانُ إِلَى الزَّوْجَةِ أَنْ تَكُفَّ الْأَذَى عَنْهَا، وَإِنَّمَا الْإِحْسَانُ فِي عِشْرَتِهَا أَنْ تَتَحَمَّلَ الْأَذَى مِنْهَا.
وَالنَّبِيُّ ﷺ كَانَ قَدْ أَمَرَ الرِّجَالَ أَلَّا يَضْرِبُوا النِّسَاءَ؛ فَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَه، عَنْ إِيَاسِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ذُبَابٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا تَضْرِبُوا إِمَاءَ اللَّهِ))؛ يَعْنِي: النِّسَاءَ.
فَجَاءَ عُمَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: ((زَئِرْنَ النِّسَاءُ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ)) يَعْنِي: نَشَزْنَ وَتَجَرَّأْنَ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ.
فَرَخَّصَ فِي ضَرْبِهِنَّ ﷺ، فَأَطَافَ بِآلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ نِسَاءٌ كَثِيرٌ بِشَكْوَى أَزْوَاجِهِنَّ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِلرِّجَالِ: «لَقَدْ طَافَ بِآلِ مُحَمَّدٍ نِسَاءٌ كَثِيرٌ يَشْكُونَ أَزْوَاجَهُنَّ، لَيْسَ أُولَئِكَ بِخِيَارِكُمْ» . وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
((لَيْسَ أُولَئِكَ بِخِيَارِكُمْ» يَعْنِي: لَيْسَ الضَّارِبُونَ بِخِيَارِكُمْ، فَهَذَا حَقٌّ.
الْوَصِيَّةُ بِالنِّسَاءِ خَيْرًا؛ امْتِثَالًا لِقوْلِ اللهِ، وَقَوْلِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
وَمَا ضَرَبَ النَّبِيُّ ﷺ امْرَأةً قَطُّ؛ فَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَتْ: «مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ شَيْئًا بِيَدِهِ قَطُّ، وَلَا امْرَأَةً وَلَا خَادِمًا؛ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمُ مِنْ صَاحِبِهِ؛ إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللهِ فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِِ -عَزَّ وَجَلَّ-». رَوَاهُ مُسلِمٌ.
وَمِنْ رَحْمَةِ النَّبِيِّ ﷺ بِأَزْوَاجِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُنَّ-: أَنَّهُ أَمَرَ سَائِقَ إِبِلِهِنَّ أَنْ يَرْفُقَ بِهِنَّ؛ فَعَن أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَتَى عَلَى أَزْوَاجِهِ وَسَوَّاقٌ يَسُوقُ بِهِنَّ يُقَالُ لَهُ: أَنْجَشَةُ، فَقَالَ: «وَيْحَكَ يَا أَنْجَشَةُ! رُوَيْدًا سَوْقَكَ بِالْقَوَارِيرِ» .
وَعَنهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَان لِرَسُولِ اللهِ ﷺ حَادٍ حَسَنُ الصَّوتِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «رُوَيدًا يَا أَنجَشَةُ، لَا تَكْسِرِ القَوَارِيرَ»؛ يَعنِي: ضَعَفَةَ النِّسَاءِ، رَوَاهُ مُسلِمٌ.
إِنَّ مِنْ أَخْطَاءِ الْأَزْوَاجِ: ضَرْبَ الزَّوْجَةِ بِلَا مُسَوِّغٍ؛ فَمِنَ الْأَزْوَاجِ مَنْ قَسَا قَلْبُهُ، وَغَلُظَ طَبْعُهُ، وَتَعَدَّى طَوْرَهُ، وَسَاءَ لِلدِّينِ فَهْمُهُ؛ حَيْثُ يَضْرِبُ زَوْجَتَهُ ضَرْبَ غَرَائِبِ الْإِبِلِ، وَيَسُومُهَا سُوءَ الْعَذَابِ عِنْدَ أَتْفَهِ الْأَسْبَابِ، وَرُبَّمَا تَسَتَّرَ بَعْضُ أُولَئِكَ الْعُتَاةِ الْقُسَاةِ بِالْإِذْنِ الْقُرْآنِيِّ بِالضَّرْبِ، فَفَهِمُوهُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ.
وَبَعْضُهُمْ يَرَى أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الرُّجُولَةِ؛ فَالرُّجُولَةُ فِي نَظَرِهِمْ تَعْنِي الظُّلْمَ، وَالْقَهْرَ، وَالتَّسَلُّطَ، وَالِاسْتِعْلَاءَ، وَالِاسْتِبْدَادَ، وَالْقِوَامَةُ عِنْدَهُمْ طَوْقٌ فِي عُنُقِ الْمَرْأَةِ لِإِذْلَالِهَا وَتَسْخِيرِهَا.
وَالْعَجِيبُ أَنْ تَرَى بَعْضَ هَؤُلَاءِ يَتَذَلَّلُ وَيَتَمَسْكَنُ لِأَهْلِ الزَّوْجَةِ قَبْلَ الزَّوَاجِ، فَإِذَا مَا ظَفَرَ بِإِرْبِهِ تَنَكَّرَ وَقَلَبَ ظَهْرَ الْمِجَنِّ، فَانْقَلَبَتْ ذِلَّتُهُ طُغْيَانًا، وَتَبَدَّلَتْ مَسْكَنَتُهُ تَسَلُّطًا وَجَبَرُوتًا.
فَتَرَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ يَرْفَعُ يَدَهُ أَوْ عَصَاهُ عَلَى زَوْجَتِهِ عِنْدَ أَدْنَى سَبَبٍ، وَرُبَّمَا بِلَا سَبَبٍ، وَرُبَّمَا ضَرَبَهَا هِيَ وَأَوْلَادَهَا، وَرُبَّمَا جَمَعَ إِلَى الضَّرْبِ الشَّتْمَ، ، وَالْقَذْفَ، وَالسَّبَّ.
إِنَّ الْمَرْأَةَ لَيْسَتْ هَمَلًا مُضَاعًا، وَلَا لَقًى مُزْدَرًى، وَلَيْسَتْ بَهِيمَةً تُبَاعُ وَتُشْتَرَى، فَيَصْنَعُ بِهَا رَبُّهَا كَيْفَمَا يَشَاءُ.
إِنَّ لِلْمَرْأَةِ فِي هَذِهِ الْحَالِ الْحَقَّ الْكَامِلَ فِي أَنْ تَشْكُوَ حَالَهَا إِلَى أَوْلِيَائِهَا، أَوْ أَنْ تَرْفَعَ إِلَى الْحَاكِمِ أَمْرَهَا؛ لِأَنَّهَا إِنْسَانٌ مُكَرَّمٌ دَاخِلٌ فِي قَوْلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70].
وَلَيْسَ حُسْنُ الْمُعَاشَرَةِ أَمْرًا اخْتِيَارِيًّا مَتْرُوكًا لِلزَّوْجِ.. إِنْ شَاءَ فَعَلَهُ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ، بَلْ إِنَّ حُسْنَ الْمُعَاشَرَةِ وَاجِبٌ تَكْلِيفِيٌّ.
وَلَيْسَ الرِّفْقُ بِالْمَرْأَةِ مِنْ بَابِ الرِّفْقِ بِالْحَيَوَانِ الْأَعْجَمِ، وَلَكِنَّهُ حَقٌّ لَهَا، وَوَاجِبٌ عَلَى زَوْجِهَا؛ فَهِيَ مُكَرَّمَةٌ مِثْلُهُ بِالْخَلْقِ السَّوِيِّ، وَالصُّورَةِ الْحَسَنَةِ، وَالتَّقْوِيمِ الْحَسَنِ، وَهِيَ مُكَرَّمَةٌ كَذَلِكَ بِالْبَيَانِ وَالْعَقْلِ، وَحَمْلِ الْأَمَانَةِ؛ فَهَذِهِ الْمَزَايَا مُشَاعَةٌ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُعَامِلَ الزَّوْجَةَ مُعَامَلَةَ الدَّابَّةِ أَوِ السِّلْعَةِ فَقْدَ كَفَرَ نِعْمَةَ اللهِ، وَعَرَّضَ نَفْسَهُ لِلْعُقُوبَةِ، فَأَيْنَ أُولَئِكَ الْقُسَاةُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14]؟!!
وَأَيْنَ هُمْ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: ((إِنِّي أُحَرِّجُ عَلَيْكُمْ حَقَّ الضَّعِيفَيْنِ؛ الْيَتِيمِ وَالْمَرْأَةِ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَه، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: ((النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَكَمَا فِي قَوْلِهِ ﷺ: ((لَا يَجْلِدُ أَحَدُكُمُ امْرَأَتَهُ جَلْدَ الْعَبْدِ، ثُمَّ يُضَاجِعُهَا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
فَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَبْلَغِ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي تَشْنِيعِ ضَرْبِ النِّسَاءِ؛ إِذْ كَيْفَ يَلِيقُ بِالْإِنْسَانِ أَنْ يَجْعَلَ امْرَأَتَهُ -وَهِيَ كَنَفْسِهِ- مَهِينَةً كَمَهَانَةِ عَبْدِهِ، بِحَيْثُ يَضْرِبُهَا بِسَوْطِهِ أَوْ بِيَدِهِ، مَعَ أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنَ الِاجْتِمَاعِ وَالِاتِّصَالِ الْخَاصِّ بِهَا.
قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ -وَأَذْكُرُ أَنَّنِي هُدِيتُ إِلَى مَعْنَاهُ الْعَالِي قَبْلَ أَنْ أَطَّلِعَ عَلَى لَفْظِهِ الشَّرِيفِ- أَقُولُ: يَا للهِ الْعَجَبُ! كَيْفَ يَسْتَطِيعُ الْإِنْسَانُ أَنْ يَعِيشَ عِيشَةَ الْأَزْوَاجِ مَعَ امْرَأَةٍ تُضْرَبُ، تَارَةً يَسْطُو عَلَيْهَا بِالضَّرْبِ، فَتَكُونُ مِنْهُ كَالشَّاةِ مَعَ الذِّئْبِ، وَتَارَةً يَذِلُّ لَهَا كَالْعَبْدِ طَالِبًا مُنْتَهَى الْقُرْبِ؟!!
وَمِنَ الشُّبُهَاتِ الْمُثَارَةِ: شُبْهَةُ ضَرْبِ الزَّوْجَةِ، وَلَكِنْ ضَرْبُ أَيٍّ مِنَ الزَّوْجَاتِ؟ وَمَتَى يَكُونُ؟ وَمَا صِفَتُهُ؟ الْحَقُّ أَنَّ مَعْنَى الضَّرْبِ -إِذَا وَصَلْنَا إِلَيْهِ- مَعْنَى التَّأْدِيبِ وَطَلَبِ الِاسْتِقَامَةِ لَا عَلَى مَعْنَى الْإِهَانَةِ وَالْإِذْلَالِ؛ فَلَا شَكَّ أَنَّ الْحَيَاةَ الزَّوْجِيَّةَ قَدْ تَعْتَرِيهَا بَعْضُ الْأُمُورِ الَّتِي قَدْ تَنَالُ مِنَ الصَّفَاءِ الْأُسَرِيِّ؛ لِذَلِكَ نَجِدُ أَنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ قَدْ وَضَعَ الْعِلَاجَ النَّاجِعَ لَهَا، وَبَيَّنَ أَنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ فِي الصُّلْحِ، وَالتَّوَافُقِ، وَالتَّرَاضِي، وَالْإِحْسَانِ؛ حَيْثُ يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا ۚ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ۗ وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ ۚ وَإِن تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}.
((النُّشُوزُ: مَعْصِيَتُهَا إِيَّاهُ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهَا، فَإِذَا ظَهَرَ مِنْهَا أَمَارَاتُهُ بِأَلَّا تُجِيبَهُ إِلَى الِاسْتِمْتَاعِ، أَوْ تُجِيبُهُ مُتَبَرِّمَةً أَوْ مُتَكَرِّهَةً؛ وَعَظَهَا.
وَالنُّشُوزُ يَكُونُ مِنَ الزَّوْجِ، وَيَكُونُ مِنَ الزَّوْجَةِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} [النساء: 34].
وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} [النساء: 128].
((يَعِظُهَا)): وَالْمَوْعِظَةُ: هِيَ التَّذْكِيرُ بِمَا يُرَغِّبُ أَوْ يُخَوِّفُ، فَيَعِظُهَا بِذِكْرِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْعِشْرَةِ بِالْمَعْرُوفِ، وَبِذِكْرِ الْأَحَادِيثِ الْمُحَذِّرَةِ مِنْ عِصْيَانِ الزَّوْجِ.
فَيَعِظُهَا أَوَّلًا، فَإِنْ أَصَرَّتْ هَجَرَهَا فِي الْمَضْجَعِ مَا شَاءَ؛ أَيْ: يَتْرُكُهَا فِي الْمَضْجَعِ مَا شَاءَ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء: 34] وَلَمْ يُقَيِّدْ، وَهَذِهِ هِيَ الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ، وَتَرْكُهَا فِي الْمَضْجَعِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: أَلَّا يَنَامَ فِي حُجْرَتِهَا، وَهَذَا أَشَدُّ شَيْءٍ.
الثَّانِي: أَلَّا يَنَامَ عَلَى الْفِرَاشِ مَعَهَا، وَهَذَا أَهْوَنُ مِنَ الْأَوَّلِ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَنَامَ مَعَهَا فِي الْفِرَاشِ؛ وَلَكِنْ يُلْقِيهَا ظَهْرَهُ وَلَا يُحَدِّثُهَا، وَهَذَا أَهْوَنُهَا.
فَيَبْدَأُ بِالْأَهْوَنِ فَالْأَهْوَنِ.
فَمَتَى اسْتَقَامَتْ وَجَبَ عَلَيْهِ قَطْعُ الْهَجْرِ.
فَإِنْ أَصَرَّتْ ضَرَبَهَا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، هَذِهِ الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ.
فَيَضْرِبُهَا ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ؛ لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَاضْرِبُوهُنَّ}.
فَعَلَيْهِ نَقُولُ: الْمَسْأَلَةُ عِلَاجٌ وَدَوَاءٌ، فَنَبْدَأُ بِالْأَخَفِّ: الْمَوْعِظَةُ، ثُمَّ الْهَجْرُ فِي الْمَضَاجِعِ، وَيُضَافُ إِلَيْهَا الْهَجْرُ فِي الْمَقَالِ، ثُمَّ الضَّرْبُ.
لَيْسَ الضَّرْبُ كَمَا يُرِيدُ، فَلَا يَأْتِي بِخَشَبَةٍ مِثْلَ الذِّرَاعِ وَيَضْرِبُهَا، مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَضْرِبَهَا بِسَوْطٍ مِثْلِ الْأُصْبَعِ، فَنَقُولُ: إِنَّهُ أَخْطَأَ لَا شَكَّ، فَيَضْرِبُهَا ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَضْرِبَهَا فِي الْوَجْهِ، وَلَا فِي الْمَقَاتِلِ، وَلَا فِيمَا هُوَ أَشَدُّ أَلَمًا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ التَّأْدِيبُ.
فَإِنْ لَمْ يُفِدْ؛ أَيْ: أَنَّهُ وَعَظَهَا، ثُمَّ هَجَرَهَا، ثُمَّ ضَرَبَهَا وَلَا فَائِدَةَ؛ فَمَاذَا نَصْنَعُ؟
قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُّرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} [النساء: 35].
وَإِنْ عَلِمْتُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ شِقَاقًا وَمُخَالَفَةً بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ يُؤَدِّي إِلَى الْفِرَاقِ؛ فَأَرْسِلُوا إِلَيْهِمَا حَكَمًا عَدْلًا مِنْ أَهْلِ الزَّوْجِ، وَحَكَمًا عَدْلًا مِنْ أَهْلِ الزَّوْجَةِ؛ لِيَنْظُرَا فِي أَمْرِهِمَا، وَيَحْكُمَا بِمَا يَرَيَانِهِ مَصْلَحَةً مِنَ الْجَمْعِ أَوِ التَّفْرِيقِ.
إِنْ يُرِدِ الزَّوْجَانِ إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا، فَيَجْعَلُ كُلَّ قَلْبٍ يَلْتَقِي مَعَ الْآخَرِ، إِنَّ اللهَ كَانَ مِنَ الْأَزَلِ إِلَى الْأَبَدِ عَلِيمًا عِلْمًا كَامِلًا شَامِلًا، خَبِيرًا بِظَوَاهِرِ الْأَشْيَاءِ وَبَوَاطِنِهَا عِلْمَ حُضُورٍ وَشُهُودٍ وَتَدْبِيرِ.
فَصَارَتِ الْمَرَاتِبُ أَرْبَعًا:
وَعْظٌ، هَجْرٌ، ضَرْبٌ، إِقَامَةُ الْحَكَمَيْنِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].
وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُعَامَلَةً تَلِيقُ بِأَمْثَالِهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مِنْكُمْ مَا يُسْتَنْكَرُ عَقْلًا أَوْ شَرْعًا، وَذَلِكَ بِإِعْطَائِهِنَّ حُقُوقَ الزَّوْجِيَّةِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِنَّ، وَالتَّلَطُّفِ بِهِنَّ، وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِنَّ، وَالصَّبْرِ عَلَى عِوَجِهِنَّ، وَعَدَمِ إِيذَائِهِنَّ، فَإِنْ كَرِهْتُمْ عِشْرَتَهُنَّ وَصُحْبَتَهُنَّ، وَآثَرْتُمْ فِرَاقَهُنَّ؛ فَاصْبِرُوا عَلَيْهِنَّ مَعَ الْفِرَاقِ.
فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ خَيْرًا كَثِيرًا؛ فَكَمْ مِنِ امْرَأَةٍ لَمْ تَأْتِ عَلَى مِزَاجِ الزَّوْجِ، وَلَا عَلَى ذَوْقِهِ، وَلَيْسَ فِيهَا سُوءُ خُلُقٍ، أَوْ ضَعْفُ دِينٍ، أَوْ قِلَّةُ أَمَانَةٍ، فَصَبَرَ عَلَيْهَا زَوْجُهَا، وَعَاشَرَهَا بِالْمَعْرُوفِ، وَتَغَاضَى عَنِ الْجَوَانِبِ الَّتِي لَا تَمِيلُ إِلَيْهَا نَفْسُهُ فِيهَا، فَجَعَلَ اللهُ مِنْهَا خَيْرًا كَثِيرًا، فَكَانَتْ مُعِينَةً لَهُ، وَحَافِظَةً لَهُ وَلِمَالِهِ وَلِوَلَدِهِ، وَأَنْجَبَتْ لَهُ ذُرِّيَّةً صَالِحَةً يَسْعَدُ بِهَا.
إِنَّ طِيبَ الْحَيَاةِ وَمُتْعَتَهَا يَتَحَقَّقَانِ فِي زَوْجِيَّةٍ سَعِيدَةٍ، وَسَعَادَةُ الزَّوْجِيَّةِ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجَانِ عَلَى دِينٍ صَحِيحٍ، وَعَقْلٍ رَجِيحٍ، وَخُلُقٍ سَجِيحٍ.
وَأَنْ يَجْمَعَا إِلَى ذَلِكَ صَفَاءَ الْوُدِّ، وَالْقِيَامَ بِالْحُقُوقِ، وَنُصْحَ كُلِّ وَاحِدٍ لِصَاحِبِهِ.
وَإِذَا قَامَ كُلٌّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ بِوَاجِبِهِ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ؛ حَلَّتِ الْأَفْرَاحُ وَالْمَسَرَّاتُ، وَزَالَتْ أَوْ قَلَّتِ الْمُشْكِلَاتُ، وَكَانَ لِذَلِكَ أَبْلَغُ الْأَثَرِ فِي صَلَاحِ الْأُسْرَةِ، وَقُوَّةِ الْأُمَّةِ.
رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ