خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ.. جَمَالُ الْمَظْهَرِ وَالْجَوْهَرِ

خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ.. جَمَالُ الْمَظْهَرِ وَالْجَوْهَرِ

((خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ.. جَمَالُ الْمَظْهَرِ وَالْجَوْهَرِ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((مَكَانَةُ الْمَسْجِدِ فِي الْإِسْلَامِ))

فَإِنَّ حَاجَةَ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ إِلَى الْمَسْجِدِ نَابِعَةٌ مِنْ حَاجَتِهَا إِلَى الْعَقِيدَةِ الصَّافِيَةِ، وَالتَّمَسُّكِ بِالْمُثُلِ وَالْقِيَمِ وَالْأَخْلَاقِ، وَالِالْتِزَامِ بِالشَّرْعِ وَأَحْكَامِهِ، وَاسْتِقَامَتِهَا عَلَى الْعُبُودِيَّةِ الْخَالِصَةِ للهِ -سُبْحَانَهُ-، وَهَذَا كُلُّهُ لَا يَتِمُّ بَعِيدًا عَنِ الْمَسْجِدِ؛ لِذَلِكَ أَمَرَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ لَهُ وَحْدَهُ، وَعَظَّمَ الْأَجْرَ وَالثَّوَابَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ فِي جَنَّةِ الْفِرْدَوْسِ، كَمَا أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ حَثَّ وَرَغَّبَ الْمُسْلِمِينَ، وَبَيَّنَ لَهُمُ الْفَضْلَ وَالثَّوَابَ فِي بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ.

وَالْمَسْجِدُ أَحَبُّ الْبِقَاعِ إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ رَوَى مُسْلِمٌ فِي ((الصَّحِيحِ)) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ مَسَاجِدُهَا)). الْحَدِيثَ.

فَالْمَسْجِدُ أَحَبُّ الْبِقَاعِ إِلَى اللهِ -تَعَالَى-، هُوَ قَلْعَةُ الْإِيمَانِ، وَحِصْنُ الْفَضِيلَةِ، وَهُوَ الْمَدْرَسَةُ الْأُولَى الَّتِي يَتَخَرَّجُ مِنْهَا الْمُسْلِمُ، هُوَ بَيْتُ الْأَتْقِيَاءِ، وَمَكَانُ اجْتِمَاعِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمِيًّا، وَمَرْكَزُ مُؤْتَمَرَاتِهِمْ، وَمَحَلُّ مُشَاوُرَاتِهِمْ وَتَنَاصُحِهِمْ، وَالْمُنْتَدَى الَّذِي فِيهِ يَتَعَارَفُونَ وَيَتَآلَفُونَ، وَعَلَى الْخَيْرِ يَتَعَاوَنُونَ.

وَمِنْهُ خَرَجَتْ جُيُوشُهُمْ فَفَتَحَتْ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ مُسَافِرُهُمْ أَوَّلَ مَا يَرْجِعُ؛ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)): ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لَا يَقْدَمُ مِنْ سَفَرٍ إِلَّا نَهَارًا فِي الضُّحَى، فَإِذَا قَدِمَ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ)).

فَإِلَى الْمَسْجِدِ يَرْجِعُ مُسَافِرُ الْمُسْلِمِينَ أَوَّلَ مَا يَرْجِعُ، فِيهِ السَّلْوَى، وَفِيهِ يُعَزِّي الْمُسْلِمُ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ إِذَا أَصَابَهُ مُصَابٌ؛ بِشَرْطِ أَلَّا يَتَقَصَّدَ صَاحِبُ الْمُصِيبَةِ الْجُلُوسَ لِلتَّعْزِيَةِ؛ فَإِنَّ هَذَا الْجُلُوسَ مِنَ النِّيَاحَةِ الْمُحَرَّمَةِ.

مِنَ الْمَسْجِدِ تَخَرَّجَ الْعُلَمَاءُ وَالْفُقَهَاءُ، وَفِيهِ كَانَ الْجَرْحَى يُمَرَّضُونَ، فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((أُصِيبَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فِي الْأَكْحَلِ، فَضَرَبَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ خَيْمَةً فِي الْمَسْجِدِ؛ لِيَعُودَهُ مِنْ قَرِيبٍ))، وَذَلِكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ.

وَالْأَكْحَلُ: وَرِيدٌ فِي وَسَطِ الذِّرَاعِ.

فِيهِ كَانَ الْجَرْحَى يُمَرَّضُونَ، وَبِسَوَارِيهِ كَانَ الْأَسْرَى يُرْبَطُونَ؛ فَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)): ((أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَعَثَ خَيْلًا قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ: ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ، فَرَبَطُوهُ بسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي المَسْجِدِ، فَاغْتَسَلَ ثُمَّ دَخَلَ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ)).

فَرَبْطُ الْأَسْرَى بِسَوَارِي الْمَسْجِدِ يَكُونُ عِنْدَ الْحَاجَةِ.

وَفِي رِحَابِ الْمَسْجِدِ كَانَ التَّقَاضِي، فِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)): ((أَنَّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ تَقَاضَى  ابْنَ أبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُما حَتَّى سَمِعَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ فِي بَيْتِهِ، فَخَرَجَ إلَيْهِمَا حَتَّى كَشَفَ عَنْ سِجْفِ حُجْرَتِهِ، فَنَادَى: ((يَا كَعْبُ!)).

قَالَ: ((لَبَّيْكَ يا رَسولَ اللَّهِ)).

قَالَ: ((ضَعْ مِنْ دَيْنِكَ هَذَا))، وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ -أَيِ: الشَّطْرَ-.

قَالَ: ((قَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ)).

قَالَ: ((قُمْ فَاقْضِهِ)).

لَكِنْ بَعْدَ أَنْ كَثُرَتِ الْقَضَايَا صَارَ لَا بُدَّ مِنَ اتِّخَاذِ الْمَحَاكِمِ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ؛ حِرْصًا عَلَى حُرْمَتِهِ، وَدَفْعًا لِلتَّشْوِيشِ عَلَى الْمُصَلِّينَ.

فِي رِحَابِ الْمَسْجِدِ كَانَ التَّقَاضِي وَالْقَضَاءُ، وَمُحَاسَبَةُ الْخُلَفَاءِ، وَفِيهِ كَانَتِ الْمُلَاعَنَةُ تَجْرِي بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّ رَجُلًا قَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا؛ أَيَقْتُلُهُ؟!!)).

حَتَّى قَالَ: ((فَتَلَاعَنَا فِي الْمَسْجِدِ وَأَنَا شَاهِدٌ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَهَذَا الْحُكْمُ -أَيْضًا- كَالَّذِي سَبَقَ، يَكُونُ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَبِشَرْطِ عَدَمِ التَّشْوِيشِ عَلَى الْمُصَلِّينَ.

فِي الْمَسْجِدِ كَانَتْ تَتِمُّ قِسْمَةُ الْغَنَائِمِ، أُتِيَ النَّبِيُّ ﷺ بِمَالٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ، فَقَالَ: ((انْثُرُوهُ فِي الْمَسْجِدِ)).

فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ جَاءَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ، فَمَا كَانَ يَرُدُّ أَحَدًا إِلَّا أَعْطَاهُ، فَمَا قَامَ وَثَمَّ دِرْهَمٌ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ)).

وَفِي الْمَسْجِدِ كَانُوا يُعَلِّقُونَ الْعِذْقَ، لِيَأْكُلَ الْجَائِعُونَ وَالْغِلْمَانُ، فِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)): ((بَابٌ: تَعْلِيقُ الْقِنْوِ فِي الْمَسْجِدِ)).

وَالْقِنْوُ: عُنْقُودُ النَّخْلِ، وَمِثْلُهُ الْعِذْقُ.

فَالْمَسْجِدُ مُلْتَقَى الْأُمَّةِ وَنَادِيهَا، وَجَامِعَتُهَا، وَمَكَانُ مُشَاوَرَتِهَا.

وَالْمَسْجِدُ أَوَّلُ شَيْءٍ اهْتَمَّ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَنَزَلَ فِي أَعْلَاهَا، ثُمَّ أَمَرَ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ، فَأَرْسَلَ إِلَى مَلَأٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، فَقَالَ: ((يَا بَنِي النَّجَّارِ! ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ هَذَا)).

قَالُوا: ((وَاللهِ لَا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلَّا إِلَى اللهِ)).

((وَكَانَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ قُبُورٌ لِلْمُشْرِكِينَ، وَفِيهِ خِرَبٌ وَفِيهِ نَخْلٌ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِقُبُورِ الْمُشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ -أَمَّا قُبُورُ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَجُوزُ نَبْشُهَا لِتُتَّخَذَ مَسَاجِدَ، وَإِنَّ كَسْرَ عَظْمِ الْمُؤْمِنِ مَيِّتًا كَكَسْرِهِ حَيًّا؛ فَلَا تُقَاسُ قُبُورُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى قُبُورِ الْمُشْرِكِينَ-.

كَانَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ قُبُورٌ لِلْمُشْرِكِينَ، وَفِيهِ خِرَبٌ وَفِيهِ نَخْلٌ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِقُبُورِ الْمُشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ، ثُمَّ بِالْخِرَبِ فَسُوِّيَتْ، وَبِالنَّخْلِ فَقُطِعَ، فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ، وَجَعَلُوا عِضَادَتَيْهِ الْحِجَارَةَ، وَجَعَلُوا يَنْقُلُونَ الصَّخْرَ وَهُمْ يَرْتَجِزُونَ، وَالنَّبِيُّ ﷺ مَعَهُمْ وَهُوَ يَقُولُ: ((اللهم لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُ الْآخِرَةِ؛ فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَةِ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

هَكَذَا بِمِثْلِ هَذَا الْيُسْرِ وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ مِنَ التَّعَاوُنِ الْأَخَوِيِّ رَفَعَ الرَّسُولُ ﷺ أَرْكَانَ هَذَا الْبَيْتِ الْعَظِيمِ الَّذِي صَارَ مَوْئِلًا لِأَعْظَمِ رِجَالٍ عَرَفَتْهُمُ الْإِنْسَانِيَّةُ، وَالَّذِي خَرَّجَ أَرْحَمَ الْأَبْطَالِ وَأَشْجَعَهُمْ، وَأَعْظَمَ الْخُلَفَاءِ وَأَرْأَفَهُمْ.

إِنَّ لِلْمَسْجِدِ شَأْنًا كَبِيرًا فِي دِينِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ عَمُودُ الدِّينِ.

الْمَسْجِدُ رَمْزُ الْإِسْلَامِ؛ فَحَيْثُ لَا أَذَانَ وَلَا صَلَاةَ وَلَا جَمَاعَةَ لَا إِسْلَامَ وَلَا مُسْلِمِينَ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ ۖ فَعَسَىٰ أُولَٰئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18].

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18].

((خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ))

إِنَّ الْمَسَاجِدَ بُيُوتُ اللهِ فِي الْأَرْضِ، فِي رِحَابِهَا يُعْبَدُ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ- وَيُذْكَرُ، وَيُتْلَى كِتَابُهُ الْكَرِيمُ وَيُتَدَبَّرُ، وَقَدْ كَرَّمَ اللهُ -سُبْحَانَهُ- الْمَسَاجِدَ بِأَنْ أَضَافَهَا إِلَى نَفْسِهِ إِضَافَةَ تَشْرِيفٍ وَتَعْظِيمٍ، وَأَخْبَرَ أَنَّهَا أَحَبُّ الْأَمَاكِنِ إِلَيْهِ، وَأَكْرَمَ زُوَّارَهَا فَجَعَلَهُمْ زُوَّارَهُ -سُبْحَانَهُ-؛ حَيْثُ يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18].

(({وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} أَيْ: لَا دُعَاءَ عِبَادَةٍ، وَلَا دُعَاءَ مَسْأَلَةٍ؛ فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ مَحَالِّ الْعِبَادَةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ، وَالْخُضُوعِ لِعَظَمَتِهِ، وَالِاسْتِكَانَةِ لِعِزَّتِهِ)).

وَيَقُولُ : ((مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ أَوْ رَاحَ أَعَدَّ اللهُ لَهُ نُزُلًا مِنَ الْجَنَّةِ كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ)).

لِذَلِكَ اشْتَدَّتْ عِنَايَةُ الْإِسْلَامِ بِالْحِفَاظِ عَلَى الْمَسَاجِدِ وَتَشْيِيدِهَا، فَأَمَرَتْ بِنَظَافَتِهَا، وَأَخْذِ الزِّينَةِ عِنْدَ الْقُدُومِ إِلَيْهَا؛ رِعَايَةً لِمَكَانَتِهَا وَقُدْسِيَّتِهَا، فَذَلِكَ مِنْ تَعْظِيمِ شَعَائِرِ اللهِ -تَعَالَى- فِي الْقُلُوبِ؛ حَيْثُ يَقُولُ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ-: {ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32].

((ذَلِكَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ مِنْ تَوْحِيدِهِ وَإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ، وَمَنْ يَمْتَثِلْ أَمْرَ اللهِ، وَيُعَظِّمْ مَعَالِمَ الدِّينِ؛ فَهَذَا التَّعْظِيمُ مِنْ أَفْعَالِ أَصْحَابِ الْقُلُوبِ الْمُتَّصِفَةِ بِتَقْوَى اللهِ وَخَشْيَتِهِ))؛ ((فَتَعْظِيمُ شَعَائِرِ اللَّهِ صَادِرٌ مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ، فَالْمُعَظِّمُ لَهَا يُبَرْهِنُ عَلَى تَقْوَاهُ وَصِحَّةِ إِيمَانِهِ؛ لِأَنَّ تَعْظِيمَهَا تَابِعٌ لِتَعْظِيمِ اللَّهِ وَإِجْلَالِهِ)).

وَقَالَ -تَعَالَى ذِكْرُهُ-: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31].

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((لِهَذِهِ الْآيَةِ وَمَا وَرَدَ فِي مَعْنَاهَا مِنَ السُّنَّةِ يُسْتَحَبُّ التَّجَمُّلُ عِنْدَ الصَّلَاةِ؛ وَلَا سِيَّمَا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَيَوْمِ الْعِيدَيْنِ، وَكَذَلِكَ يُسْتَحَبُّ الطِّيبُ لِأَنَّهُ مِنَ الزِّينَةِ، وَالسِّوَاكُ لِأَنَّهُ مِنْ تَمَامِ ذَلِكَ، وَمِنْ أَفْضَلِ اللِّبَاسِ: الْبَيَاضُ)).

((يَا بَنِي آدَمَ! كُونُوا عِنْدَ أَدَاءِ كُلِّ صَلَاةٍ عَلَى حَالَةٍ مِنَ الزِّينَةِ الْمَشْرُوعَةِ؛ مِنْ ثِيَابٍ سَاتِرَةٍ لِعَوْرَاتِكُمْ، وَنَظَافَةٍ وَطَهَارَةٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ)).

((يَقُولُ -تَعَالَى- بَعْدَمَا أَنْزَلَ عَلَى بَنِي آدَمَ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِهِمْ وَرِيشًا: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} أَيِ: اسْتُرُوا عَوْرَاتِكُمْ عِنْدَ الصَّلَاةِ كُلِّهَا؛ فَرْضِهَا وَنَفْلِهَا؛ فَإِنَّ سَتْرَهَا زِينَةٌ لِلْبَدَنِ، كَمَا أَنَّ كَشْفَهَا يَدَعُ الْبَدَنَ قَبِيحًا مُشَوَّهًا.

وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالزِّينَةِ هُنَا: مَا فَوْقَ ذَلِكَ مِنَ اللِّبَاسِ النَّظِيفِ الْحَسَنِ؛ فَفِي هَذَا: الْأَمْرُ بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَبِاسْتِعْمَالِ التَّجَمُّلِ فِي الصَّلَاةِ، وَنَظَافَةِ السُّتْرَةِ مِنَ الْأَدْنَاسِ وَالْأَنْجَاسِ)).

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَلْبَسْ ثَوْبَيْهِ؛ فَإِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- أَحَقُّ مَنْ تُزُيِّنَ لَهُ)). أَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ فِي «شَرْحِ مَعَانِي الْآثَارِ»، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْأَوْسَطِ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)).

وَتَقُولُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((أَمَرَ رَسُولُ اللهِ بِبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ فِي الدُّور -يَعْنِي: فِي الْقَبَائِلِ وَالْأَحْيَاءِ-، وَأَنْ تُنَظَّفَ وَتُطَيَّبَ)).

وَقَدِ امْتَدَحَ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ- أَهْلَ مَسْجِدِ قُبَاءٍ؛ لِحِرْصِهِمْ عَلَى الطَّهَارَةِ وَالنَّظَافَةِ؛ حَيْثُ يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ ۚ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا ۚ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108].

(({لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} ظَهَرَ فِيهِ الْإِسْلَامُ فِي (قُبَاء) وَهُوَ مَسْجِدُ قُبَاء؛ أُسِّسَ عَلَى إِخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ، وَإِقَامَةِ ذِكْرِهِ وَشَعَائِرِ دِينِهِ، وَكَانَ قَدِيمًا فِي هَذَا، عَرِيقًا فِيهِ، فَهَذَا الْمَسْجِدُ الْفَاضِلُ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ وَتَتَعَبَّدَ، وَتَذْكُرَ اللَّهَ -تَعَالَى-؛ فَهُوَ فَاضِلٌ، وَأَهْلُهُ فُضَلَاءُ؛ وَلِهَذَا مَدَحَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} مِنَ الذُّنُوبِ، وَيَتَطَهَّرُوا مِنَ الْأَوْسَاخِ وَالنَّجَاسَاتِ وَالْأَحْدَاثِ.

وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا لَا بُدَّ أَنْ يَسْعَى لَهُ، وَيَجْتَهِدَ فِيمَا يُحِبُّ، فَلَا بُدَّ أَنَّهُمْ كَانُوا حَرِيصِينَ عَلَى التَّطَهُّرِ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْأَوْسَاخِ وَالْأَحْدَاثِ؛ وَلِهَذَا كَانُوا مِمَّنْ سَبَقَ إِسْلَامُهُ، وَكَانُوا مُقِيمِينَ لِلصَّلَاةِ، مُحَافِظِينَ عَلَى الْجِهَادِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَإِقَامَةِ شَرَائِعِ الدِّينِ، وَمِمَّنْ كَانُوا يَتَحَرَّزُونَ مِنْ مُخَالَفَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.

وَسَأَلَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ بَعْدَمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي مَدْحِهِمْ عَنْ طَهَارَتِهِمْ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ يُتْبِعُونَ الْحِجَارَةَ الْمَاءَ، فَحَمِدَهُمْ عَلَى صَنِيعِهِمْ.

{وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} الطَّهَارَةَ الْمَعْنَوِيَّةَ؛ كَالتَّنَزُّهِ مِنَ الشِّرْكِ، وَالْأَخْلَاقِ الرَّذِيلَةِ، وَالطَّهَارَةَ الْحِسِّيَّةَ؛ كَإِزَالَةِ الْأَنْجَاسِ، وَرَفْعِ الْأَحْدَاثِ)).

وَيَقُولُ نَبِيُّنَا : ((الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ)).

وَلَا أَدَلَّ عَلَى فَضِيلَةِ نَظَافَةِ الْمَسَاجِدِ مِنْ تَفَقُّدِ نَبِيِّنَا ﷺ أَحْوَالَ الْمَرْأَةِ الَّتِي كَانَتْ تَقُمُّ مَسْجِدَهُ الشَّرِيفَ، وَصَلَاتِهِ عَلَيْهَا بَعْدَ مَوْتِهَا.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ تَقُمُّ (وَفِي رِوَايَةٍ: تَلْتَقِطُ الْخِرَقَ وَالْعِيدَانَ مِنَ الْمَسْجِدِ)؛ كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ -يَعْنِي: تَكْنُسُهُ، وَالْقُمَامَةُ: الْكُنَاسَةُ-، فَمَاتَتْ، فَفَقَدَهَا النَّبِيُّ ﷺ، فَسَأَلَ عَنْهَا بَعْدَ أَيَّامٍ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهَا مَاتَتْ، فَقَالَ: ((هَلَّا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي؟)) أَيْ: أَعْلَمْتُمُونِي.

(قَالُوا: مَاتَتْ مِنَ اللَّيْلِ وَدُفِنَتْ، وَكَرِهْنَا أَنْ نُوقِظَكَ).

(قَالَ: فَكَأَنَّهُمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا.

فَقَالَ: ((دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهَا))، فَدَلُّوهُ، فَأَتَى قَبْرَهَا فَصَلَّى عَلَيْهَا)، ثُمَّ قَالَ: [قَالَ ثَابِتٌ -أَحَدُ رُوَاةِ الْحَدِيثِ-: عِنْدَ ذَاكَ أَوْ فِي حَدِيثٍ آخَرَ]: ((إِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا، وَإِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- مُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلَاتِي عَلَيْهِمْ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ.

كَمَا حَثَّتْنَا الشَّرِيعَةُ الْغَرَّاءُ عَلَى دُخُولِ الْمَسَاجِدِ بِأَجْمَلِ طِيبٍ وَأَعْطَرِ رِيحٍ؛ حَيْثُ يَقُولُ نَبِيُّنَا : ((لَا يَغْتَسِلُ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَيَتَطَهَّرُ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْرٍ، وَيَدَّهِنُ مِنْ دُهْنِهِ، أَوْ يَمَسُّ مِنْ طِيبِ بَيْتِهِ، ثُمَّ يَخْرُجُ فَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، ثُمَّ يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ، ثُمَّ يُنْصِتُ إِذَا تَكَلَّمَ الْإِمَامُ إِلَّا غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى)).

 ((الْإِسْلَامُ دِينُ جَمَالِ الْمَظْهَرِ وَالْجَوْهَرِ))

فَإِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ هُوَ دِينُ الطَّهَارَةِ، دِينُ طَهَارَةِ الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ عَلَى السَّوَاءِ.

{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33].

أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِطَهَارَةِ الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ وَالْأَنْفُسِ، وَأَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِطَهَارَةِ الْأَبْدَانِ وَالثِّيَابِ وَالْأَمْكِنَةِ.

قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108].

فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا طَهَارَةَ الْبَاطِنِ مِنَ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ وَالْمَعَاصِي، وَطَهَارَةَ الظَّاهِرِ مِنَ الْأَحْدَاثِ وَالْأَنْجَاسِ بِالْمَاءِ؛ لِأَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ صَادِقُو الْإِيمَانِ، وَحَرِيصُونَ عَلَى أَنْ يَظْفَرُوا بِمَحَبَّةِ اللهِ لَهُمْ، وَاللهُ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ، وَمَنْ أَحَبَّهُ اللهُ ضَاعَفَ لَهُ الثَّوَابَ عَلَى أَعْمَالِهِ، وَزَادَهُ مِنْهُ قُرْبًا، وَغَمَرَهُ بِفُيُوضِ إِحْسَانِهِ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ فِي كَلِمَةٍ جَامِعَةٍ؛ لِكَيْ تَعْلَمَ أَنَّ الْمُسْلِمَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ آخِذًا بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، لَا يَنْتَقِي؛ لِأَنَّ مَا الَّذِي يُنْتَقَى مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ وَكُلُّهُ خِيَارٌ فِي خِيَارٍ؟!! وَإِنَّمَا يَنْتَقِي الْإِنْسَانُ مِمَّا فِيهِ حَسَنٌ وَأَحْسَنُ، وَفِيهِ سَيِّءٌ وَأَسْوَأُ، وَأَمَّا مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ فَهُوَ الْأَحْسَنُ كُلُّهُ؛ الرَّسُولُ ﷺ فِي كَلِمَةٍ جَامِعَةٍ يَقُولُ: ((الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ)).

النَّظَافَةُ شَطْرُ الدِّينِ.

الْفَيْصَلُ الْقَائِمُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ صَحَابَةِ نَبِيِّنَا؛ بَيْنَ هَزِيمَتِنَا وَنَصْرِهِمْ، وَذِلَّتِنَا وَعِزَّتِهِمْ، وَانْحِطَاطِنَا وَارْتِفَاعِهِمْ، الْفَاصِلُ الْفَيْصَلُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ: أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَتَعَلَّمُونَ وَلَا يَسْمَعُونَ وَلَا يَقْرَؤُونَ مَتَاعًا، وَإِنَّمَا هُوَ الْبَيَانُ كَالْجُنْدِيِّ فِي الْمَعْرَكَةِ بِإِزَاءِ قَائِدِهِ، يَسْمَعُ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ لِكَيْ يَكُونَ قَيْدَ التَّنْفِيذِ فِي الْحَالِ.

الْجُنْدِيُّ فِي الْمَعْرَكَةِ مَعَ قَائِدِهِ يَسْمَعُ الْأَمْرَ لِلتَّنْفِيذِ، لَا لِلْجِدَالِ وَلَا لِلْمِحَالِ.

النَّبِيُّ ﷺ عَلَى ذَلِكَ رَبَّاهُمْ فَسَادُوا، وَأَمَّا نَحْنُ فَتَخَلَّفْنَا لِتَخَلُّفِنَا عَمَّا تَمَسَّكُوا بِهِ؛ يَعْنِي إِذَا قِيلَ لِلْمُسْلِمِ: إِنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ النَّظَافَةِ -وَهُوَ كَذَلِكَ بِحَقٍّ-؛ مَا الَّذِي يَمْنَعُهُ أَنْ يَكُونَ نَظِيفًا إِذَنْ؟!!

أَوَيَحْتَاجُ الدَّاعِي إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَظَلَّ دَهْرًا يَطُولُ؛ أَنْ يَظَلَّ دَهْرَهُ كُلَّهُ وَعُمُرَهُ أَجْمَعَ يُرَدِّدُ عَلَى مَسَامِعِ الْمُسْلِمِ: (إِنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ النَّظَافَةِ) لِكَيْ يَكُونَ نَظِيفًا؟!!

إِنَّمَا هِيَ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ: ((إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ))، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ الْمُخْتَارُ ﷺ، وَتُحْسَمُ الْقَضِيَّةُ.

يَا أَخِي كُنْ نَظِيفًا؛ كُنْ نَظِيفًا حَتَّى تُطِيعَ النَّبِيَّ ﷺ: ((الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ)).

طَهَارَةُ بَاطِنٍ وَظَاهِرٍ، قَلْبٌ سَوِيٌّ، لَا غِشَّ وَلَا غِلَّ، وَلَا حَسَدَ وَلَا حِقْدَ وَلَا خِدَاعَ، نَفْسٌ صَافِيَةٌ مُحِبَّةٌ لِلْخَيْرِ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً، كَمَا يُحِبُّ لِذَاتِهِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ، مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ، إِيثَارٌ لَا أَثَرَةَ فِيهِ، وَعَطَاءٌ لَا مَنْعَ مَعَهُ.

طَهَارَةُ بَاطِنٍ، بَاطِنٌ نَظِيفٌ تَنْعَكِسُ أَنْوَارُ نَظَافَتِهِ عَلَى ظَاهِرٍ نَظِيفٍ، نَعَمْ.. ظَاهِرٍ نَظِيفٍ.

النَّبِيُّ ﷺ يَجْعَلُهَا فِطْرَةً، فِطْرَةً يُبَيِّنُهَا ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- فِي كَلَامٍ حَسَنٍ نَظِيفٍ؛ إِذْ يَتَنَاوَلُ قَوْلَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124]، قَالَ: ((ابْتَلَاهُ بِخِصَالٍ فِي رَأْسِهِ وَفِي جَسَدِهِ، فَأَمَّا فِي رَأْسِهِ فَفَرْقُ شَعْرِهِ..)).

أَوَفِي هَذَا مِنْ شَيْءٍ؟!!

هِيَ مِنْ خِصَالِ الْفِطْرَةِ كَمَا بَيَّنَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

تَقُولُ عَائِشَةُ -كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ))-: ((كَأَنِّي أَرَى وَبِيصَ الطِّيبِ -يَعْنِي: لَمَعَانَ الطِّيبِ- فِي مَفَارِقِ شَعْرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَهُوَ مُحْرِمٌ)).

يَقُولُ: ((ابْتَلَاهُ بِأُمُورٍ فِي شَعْرِهِ، بِالْفَرْقِ فِي شَعْرِهِ، بِالْمَضْمَضَةِ، بِالِاسْتِنْشَاقِ، بِالسِّوَاكِ، ابْتَلَاهُ بِإِعْفَاءِ اللِّحْيَةِ، بِقَصِّ الشَّارِبِ، ابْتَلَاهُ فِي بَدَنِهِ بِالِاسْتِحْدَادِ يَعْنِي: بِأَخْذِ شَعْرِ الْعَانَةِ بِالْحَدِيدَةِ، بِالْمُوسَى إِنْ أَطَاقَهُ؛ وَإِلَّا فَبِأَيِّ وَسِيلَةٍ يُطِيقُهَا-، بِنَتْفِ الْإِبِطِ -إِنِ اسْتَطَاعَ؛ وَإِلَّا فَلْيَأْخُذِ الشَّعْرَ مِنْ تِلْكَ الْمَوَاضِعِ بِأَيِّ صُورَةٍ أَطَاقَهَا-، انْتِقَاصُ الْمَاءِ -يَعْنِي: اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ لِلِاسْتِنْجَاءِ بَعْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ بَوْلًا وَغَائِطًا- مِنْ سُنَنِ الْفِطْرَةِ)).

مُسْلِمٌ نَظِيفٌ ظَاهِرًا.

النَّبِيُّ ﷺ جَعَلَ أُمُورًا مِنْ خِصَالِ الْفِطْرَةِ.

تَدْرِي مَا هُوَ الَّذِي يُعْجِبُكَ وَيُعَجِّبُكَ مِنْ ذَلِكَ الْمَذْكُورِ فِي تِلْكَ الْخِصَالِ؟!!

يَقُولُ: ((وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ)).

وَالْبَرَاجِمُ: جَمْعُ بُرْجُمَةٍ؛ وَهِيَ تِلْكَ الْمَفَاصِلُ بِأَصَابِعِ الْيَدَيْنِ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ إِذَا مَا أَكَلَتْ لَا تَغْسِلُ أَيْدِيَهَا، فَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَبْقَى مِنْ أَثَرِ الطَّعَامِ بِزُهُومَتِهِ، يَبْقَى فِي تِلْكَ الْمَوَاضِعِ عِنْدَ تِلْكَ الْمَفَاصِلِ، فَيَأْتِي فِيهِ مِنَ الْوَسَخِ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَأْتِي.

فَمِنْ سُنَنِ الْفِطْرَةِ -الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللهُ النَّاسَ عَلَيْهَا، هَذَا الدِّينُ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ دِينُ الْفِطْرَةِ، دِينُ النَّظَافَةِ- ((انْتِقَاصُ الْمَاءِ)): اسْتِخْدَامُ الْمَاءِ عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ كَمَا بَيَّنَ الرَّسُولُ ﷺ، ثُمَّ مَا يَأْخُذُهُ الْعَبْدُ مِنْ ذَلِكَ الشَّعْرِ الزَّائِدِ فِي تِلْكَ الْمَوَاضِعِ الْمَذْكُورَةِ.

((تَقْلِيمُ الْأَظَافِرِ)): نَعَمْ! تَقْلِيمُ الْأَظَافِرِ مِنَ الْفِطْرَةِ؛ {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30].

النَّبِيُّ ﷺ يُقِيمُ وَجْهَهُ بِأَمْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ للِدِّينِ حَنِيفًا؛ يَعْنِي: مَائِلًا إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، مَائِلًا إِلَى رَبِّهِ بِكُلِّيَّتِهِ: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا}، {حَنِيفًا} يَعْنِي: مَائِلًا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، مَائِلًا إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِكُلِّيَّتِكَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}.

دِينٌ هُوَ دِينُ الْفِطْرَةِ؛ بَلْ هُوَ الْفِطْرَةُ، وَمِنَ الْفِطْرَةِ هَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي يُرَكِّزُ عَلَيْهَا الشَّرْعُ الْأَغَرُّ، جَاءَ بِهَا مُحَمَّدٌ ﷺ، وَدَلَّ عَلَيْهَا.

((طَهَارَةُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ))

الطَّهَارَةُ مِنْ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ فِي دِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ خَاصَّةً إِذَا تَعَلَّقَتْ بِالْبَاطِنِ وَالْقَلْبِ، فَأَهَمِّيَّتُهَا دَلَّتْ عَلَيْهَا نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَكَذَلِكَ مَرَاتِبُهَا.

قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6].

وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ أَيْ: نِصْفُهُ-، وَالْحَمْدُ للهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ للهِ تَمْلَآنِ -أَوْ تَمْلَأُ- مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَالصَّلَاةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو؛ فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا)).

وَعَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْحَسَنِ الَّذِي أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ- قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطُّهُورُ، وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ)).

خِصَالُ الْإِيمَانِ عَلَى قِسْمَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: يُطَهِّرُ الظَّاهِرَ.

وَأَمَّا الْآخَرُ: فَيُطَهِّرُ الْبَاطِنَ.

فَالْأَعْمَالُ وَالْأَقْوَالُ كُلُّهَا تُطَهِّرُ الْقَلْبَ وَتُزَكِّيهِ، وَأَمَّا الطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ فَهِيَ تَخْتَصُّ بِتَطْهِيرِ الْجَسَدِ وَتَنْظِيفِهِ، فَصَارَتِ الطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ شَطْرَ الْإِيمَانِ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ.

الْمُسْلِمُ الَّذِي يَحْرِصُ عَلَى دِينِهِ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الِاهْتِمَامَ بِطَهَارَةِ الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَهْتَمَّ بِطَهَارَةِ قَلْبِهِ مِنْ أَدْرَانِ وَأَوْسَاخِ الشِّرْكِ وَالْإِلْحَادِ، وَالْبِدْعَةِ وَرَذَائِلِ الْأَخْلَاقِ وَسَفَاسِفِ الْأُمُورِ، كَمَا يَهْتَمُّ بِطَهَارَةِ ظَاهِرِهِ مِنَ الْأَنْجَاسِ وَالْأَحْدَاثِ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ أَخْبَرَنَا ((أَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِنَا، وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِنَا وَأَعْمَالِنَا))، فَالْقَلْبُ مَحَلُّ نَظَرِ الْحَقِّ إِلَى الْخَلْقِ، وَأَمَّا الْوَجْهُ وَالْبَدَنُ فَمَحَلُّ نَظَرِ الْخَلْقِ إِلَى الْعَبْدِ.

وَالنَّاسُ يَعْكِسُونَ الْقَضِيَّةَ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ وَقَّرَ رَبَّهُ تَوْقِيرًا؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَحْرِصَ عَلَى أَنْ يُطَهِّرَ مَحَلَّ نَظَرِ رَبِّهِ إِلَيْهِ، وَهُوَ الْقَلْبُ، فَيُطَهِّرُ الْقَلْبَ مِنَ الْبِدْعَةِ، وَيُطَهِّرُ الْقَلْبَ مِنَ الشِّرْكِ، وَمِنْ رَذَائِلِ الْأَخْلَاقِ وَمَذْمُومِ الصِّفَاتِ.

وَلَكِنَّ النَّاسَ يَعْكِسُونَ الْقَضِيَّةَ؛ يَهْتَمُّونَ بِتَجْمِيلِ مَحَلِّ نَظَرِ الْخَلْقِ إِلَيْهِمْ، وَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى تَطْهِيرِ مَحَلِّ نَظَرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَيْهِمْ، وَهِيَ قُلُوبُهُمْ.

فَالْكَيِّسُ الَّذِي يُرَاعِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ؛ حَتَّى لَا تَنْعَكِسَ عَلَيْهِ.

الْوُضُوءُ -كَمَا مَرَّ فِي رِوَايَةٍ- شَطْرُ الْإِيمَانِ، وَإِسْبَاغُهُ -كَمَا فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى مَرَّتْ- شَطْرُ الْإِيمَانِ؛ لِذَلِكَ بَيَّنَ لَنَا نَبِيُّنَا ﷺ عَظِيمَ فَضْلِهِ، وَكَبِيرَ أَثَرِهِ.

فَعَنْ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ قَالَ: أَتَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِوَضُوءٍ -وَالْوَضُوءُ بِفَتْحِ الْوَاوِ: مَا يُتَوَضَّأُ بِهِ؛ كَالسَّحُورِ بِفَتْحِ السِّينِ: مَا يُتَسَحَّرُ بِهِ، وَأَمَّا الْوُضُوءُ فَالْفِعْلُ وَالْمَصْدَرُ، وَأَمَّا السُّحُورُ فَالْفِعْلُ وَالْمَصْدَرُ-، قَالَ: أَتَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ بِوَضُوءٍ، فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ نَاسًا يَتَحَدَّثُونَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَحَادِيثَ لَا أَدْرِي مَا هِيَ؛ إِلَّا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ تَوَضَّأَ مِثْلَ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ قَالَ: ((مَنْ تَوَضَّأَ هَكَذَا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَكَانَتْ صَلَاتُهُ وَمَشْيُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ نَافِلَةً)). الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) .

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ -أَوِ الْمُؤْمِنُ- فَغَسَلَ وَجْهَهُ؛ خَرَجَ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنَيْهِ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ، فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَ مِنْ يَدَيْهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ كَانَ بَطَشَتْهَا يَدَاهُ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ، فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتْ كُلُّ خَطِيئَةٍ مَشَتْهَا رِجْلَاهُ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ، حَتَّى يَخْرُجَ نَقِيًّا مِنَ الذُّنُوبِ)). الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

وَالطَّهَارَةُ هِيَ مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ، وَآكَدُ شُرُوطِهَا؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ شَرْطُ صِحَّةٍ لِلصَّلَاةِ، فَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ، وَالشَّرْطُ لَا بُدَّ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَى الْمَشْرُوطِ.

هَذَا كُلُّهُ مِمَّا يَدُلُّكَ عَلَى فَضْلِ الطَّهَارَةِ؛ حَتَّى فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَدَنِ، حَتَّى فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَعْضَاءِ الْوُضُوءِ.

عِبَادَ اللهِ! الطَّهَارَةُ عَلَى مَرَاتِبَ:

الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: تَطْهِيرُ الظَّاهِرِ عَنِ الْأَحْدَاثِ وَالْأَنْجَاسِ وَالْفَضَلَاتِ.

وَالْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: تَطْهِيرُ الْجَوَارِحِ عَنِ الْآثَامِ وَالْجَرَائِمِ.

وَالْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: تَطْهِيرُ الْقَلْبِ عَنِ الْأَخْلَاقِ الْمَذْمُومَةِ وَالرَّذَائِلِ الْمَمْقُوتَةِ.

وَالْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: تَطْهِيرُ الْقَلْبِ عَمَّا سِوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

وَتَحْصِيلُ كُلِّ مَرْتَبَةٍ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِتَحْصِيلِ مَا قَبْلَهَا، فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَسْعَى إِلَى تَحْصِيلِ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ، فَيُطَهِّرَ ظَاهِرَهُ عَنِ الْأَحْدَاثِ وَالْأَنْجَاسِ بِالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ، وَأَدَاءِ الْعِبَادَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا؛ فَإِنَّ مِفْتَاحَ الصَّلَاةِ الطُّهُورُ، فَإِذَا حَصَّلَ ذَلِكَ طَهَّرَ جَوَارِحَهُ عَنِ الْآثَامِ وَالْجَرَائِمِ: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت: 45].

فَإِذَا حَصَّلَ ذَلِكَ طَهَّرَ قَلْبَهُ عَنِ الْأَخْلَاقِ الْمَذْمُومَةِ وَالرَّذَائِلِ، وَخَلَصَ قَلْبُهُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ -أَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَنَا، وَأَنْ يُسَلِّمَهَا مِمَّا يَشِينُهَا-؛ فَإِنَّهُ لَا يَنْجُو يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ؛ وَهُوَ الْقَلْبُ الَّذِي سَلِمَ مِنَ الشِّرْكِ، وَالْبِدْعَةِ، وَالشَّهْوَةِ، وَصَارَ خَالِصًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

فَالطَّهَارَةُ عَلَى قِسْمَيْنِ؛ وَهِيَ النَّزَاهَةُ وَالنَّظَافَةُ مِنَ الْأَقْذَارِ الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ.

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: طَهَارَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ؛ وَهِيَ: طَهَارَةُ الْقَلْبِ مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي وَكُلِّ مَا رَانَ عَلَيْهِ، وَهِيَ أَهَمُّ مِنْ طَهَارَةِ الْبَدَنِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَتَحَقَّقَ طَهَارَةُ الْبَدَنِ مَعَ وُجُودِ نَجَسِ الشِّرْكِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28].

هَذِهِ النَّجَاسَةُ نَجَاسَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ، هَذِهِ النَّجَاسَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} هِيَ النَّجَاسَةُ الْمَعْنَوِيَّةُ، هِيَ نَجَاسَةُ الْقَلْبِ بِالشِّرْكِ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ مَعْنَوِيَّةٌ، وَهِيَ طَهَارَةُ الْقَلْبِ مِنَ الشِّرْكِ، وَالْمَعَاصِي، وَالْبِدَعِ، وَكُلِّ مَا رَانَ عَلَى الْقَلْبِ، وَهِيَ أَهَمُّ مِنْ طَهَارَةِ الْبَدَنِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَتَحَقَّقَ طَهَارَةُ الْبَدَنِ مَعَ وُجُودِ نَجَاسَةِ الشِّرْكِ.

الْقِسْمُ الثَّانِي: الطَّهَارَةُ الْحِسِّيَّةُ.

فَالطَّهَارَةُ طَهَارَتَانِ:

طَهَارَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ: وَهِيَ طَهَارَةُ الْقَلْبِ وَالْبَاطِنِ مِنْ نَجَسِ وَنَجَاسَةِ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَالْبِدْعَةِ وَالْمَعَاصِي، وَهَذِهِ الطَّهَارَةُ الْمَعْنَوِيَّةُ -وَهِيَ طَهَارَةُ الْقَلْبِ وَالْبَاطِنِ- أَهَمُّ مِنَ الطَّهَارَةِ الْحِسِّيَّةِ؛ لِأَنَّ طَهَارَةَ الْبَدَنِ فَرْعٌ عَنْ طَهَارَةِ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ وَالضَّمِيرِ؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ إِذَا اسْتَقَامَ اسْتَقَامَ الْبَدَنُ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِذَا صَلَحَ الْقَلْبُ صَلَحَ الْبَدَنُ، وَإِذَا فَسَدَ الْقَلْبُ فَسَدَ الْبَدَنُ)).

((جَمَالُ الْمَظْهَرِ فِي الْإِسْلَامِ))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْإِسْلَامَ أَرَادَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَكُونُوا شَامَةً فِي النَّاسِ، مُتَمَيِّزِينَ فِي زِيِّهِمْ وَهَيْآتِهِمْ، وَتَصَرُّفَاتِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ؛ حَتَّى يَكُونُوا قُدْوَةً حَسَنَةً تَجْعَلُهُمْ جَدِيرِينَ بِحَمْلِ رِسَالَتِهِمُ الْعُظْمَى لِلنَّاسِ.

فِي حَدِيثِ الصَّحَابِيِّ الْجَلِيلِ ابْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لِأَصْحَابِهِ وَكَانُوا فِي سَفَرٍ قَادِمِينَ عَلَى إِخْوَانِهِمْ: ((إِنَّكُمْ قَادِمُونَ عَلَى إِخْوَانِكُمْ؛ فَأَصْلِحُوا رِحَالَكُمْ، وَأَحْسِنُوا لِبَاسَكُمْ، حَتَّى تَكُونُوا كَأَنَّكُمْ شَامَةٌ فِي النَّاسِ؛ فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَلَا التَّفَحُّشَ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ الْأَلْبَانِيُّ، وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِلتَّحْسِينِ بِشَوَاهِدِهِ؛ بَلْ قَدْ حُسِّنَ.

وَ((الرِّحَالُ)): مَا يُوضَعُ عَلَى ظَهْرِ الْبَعِيرِ عِنْدَ رُكُوبِهِ، وَ((الْفُحْشُ وَالتَّفَحُّشُ)): كُلُّ مَا يَشْتَدُّ قُبْحُهُ.

فَقَدْ عَدَّ الرَّسُولُ ﷺ الْهَيْئَةَ الرَّدِيئَةَ، وَإِهْمَالَ الْعِنَايَةِ بِالْمَظْهَرِ، وَالتَّبَذُّلَ فِي اللِّبَاسِ أَوِ الْمَرَافِقِ الْمَفْرُوشَةِ فُحْشًا وَتَفَحُّشًا، وَهُوَ مَمَّا يَكْرَهُهُ الْإِسْلَامُ الْحَنِيفُ وَيَنْهَى عَنْهُ.

إِنَّ الْمُسْلِمَ الْحَقَّ لَا يُهْمِلُ نَفْسَهُ، وَلَا يَنْسَى ذَاتَهُ مَعَ التَّكَالِيفِ الْعُلْيَا الَّتِي يَحْمِلُهَا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ؛ إِذْ لَا يَنْفَصِلُ فِي نَفْسِهِ مَظْهَرُ الْإِنْسَانِ عَنْ مَخْبَرِهِ؛ فَإِنَّ الشَّكْلَ الْمُرَتَّبَ الْحَسَنَ أَلْيَقُ بِالْمُحْتَوَى الْجَلِيلِ وَالْجَوْهَرِ النَّبِيلِ.

فَالْمُسْلِمُ الْحَقُّ الْوَاعِي الْحَصِيفُ هُوَ الَّذِي يُوَازِنُ بَيْنَ جِسْمِهِ وَعَقْلِهِ وَرُوحِهِ، فَيُعْطِي لِكُلٍّ حَقَّهُ، وَلَا يُغَالِي فِي جَانِبٍ مِنْ هَذِهِ الْجَوَانِبِ عَلَى حِسَابِ جَانِبٍ، مُسْتَهْدِيًا بِهَدْيِ رَسُولِ اللهِ ﷺ الْمُتَوَازِنِ الْحَكِيمِ.

وَذَلِكَ فِيمَا يَرْوِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ عَلِمَ بِشَأْنِهِ -أَيْ بِشَأْنِ عَبْدِ اللهِ- فِي الْعِبَادَةِ، فَقَالَ لَهُ: ((أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ، وَتَقُومُ اللَّيْلَ؟!)).

قَالَ: ((بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ)).

قَالَ: ((فَلَا تَفْعَلْ، صُمْ وَأَفْطِرْ، وَنَمْ وَقُمْ؛ فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنَيْكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا))؛ أَيْ: لِضِيفَانِكَ عَلَيْكَ حَقًّا. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ».

نُرِيدُ اسْتِعَادَةَ التَّوَازُنِ، نُرِيدُ أَنْ نَعُودَ إِلَى السَّوَاءِ النَّفْسِيِّ؛ فَإِنَّ مَا أَصَابَنَا مِنَ الْخَلَلِ أَصَابَنَا فِي الصَّمِيمِ، وَإِذَا لَمْ نَتَدَارَكْ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَأْتِيَ مِنَّا خَيْرٌ، لَا لِأَنْفُسِنَا وَلَا لِغَيْرِنَا.

فَعَلَيْنَا أَنْ نَتَدَارَكَ، وَعَلَيْنَا أَنْ نُحَاوِلَ اسْتِعَادَةَ الْهُدُوءِ النَّفْسِيِّ، وَالسَّلَامِ الْعَقْلِيِّ، وَاسْتِقْرَارِ الرُّوحِ، وَاطْمِئْنَانِ الضَّمِيرِ، وَسَلَامَةِ التَّصَوُّرِ، وَنَظَافَةِ الشُّعُورِ؛ لِأَنَّنَا بِدُونِ هَذِهِ الْأُمُورِ لَا يُمْكِنُ أَنْ نُفْلِحَ فِي شَيْءٍ.

((فَالْمُسْلِمُ يُحَقِّقُ هَذَا التَّوَازُنَ بَيْنَ جِسْمِهِ وَعَقْلِهِ وَرُوحِهِ هَكَذَا، الْمُسْلِمُ مُعْتَدِلٌ فِي طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ، فَيَحْرِصُ الْمُسْلِمُ كُلَّ الْحِرْصِ عَلَى أَنْ يَكُونَ صَحِيحَ الْجِسْمِ قَوِيَّ الْبِنْيَةِ؛ وَلِهَذَا فَهُوَ يَعْتَدِلُ فِي طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ، لَا يُقْبِلُ عَلَى الطَّعَامِ إِقْبَالَ الشَّرِهِ النَّهِمِ، وَإِنَّمَا يُصِيبُ مِنْهُ مَا يُقِيمُ بِهِ صُلْبَهُ، وَيَحْفَظُ عَلَيْهِ صِحَّتَهُ وَقُوَّتَهُ وَنَشَاطَهُ.

وَقَدْ قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31].

* وَمِنْ مَظَاهِرِ حِرْصِ الْإِسْلَامِ عَلَى جَمَالِ الْمَظْهَرِ: حَثُّ النَّبِيِّ عَلَى نَظَافَةِ الْجِسْمِ وَالثِّيَابِ؛ فالنَّبِيُّ ﷺ دَلَّنَا عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ نَظِيفَ الْجِسْمِ وَالثِّيَابِ، يَغْتَسِلُ الْمُسْلِمُ الَّذِي يُرِيدُ الْإِسْلَامَ شَامَةً بَيْنَ النَّاسِ؛ لِكَيْ يَكُونَ نَظِيفَ الْجَسَدِ نَظِيفَ الثَّوْبِ، كَمَا أَنَّهُ نَظِيفُ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ وَالضَّمِيرِ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ أَمَرَنَا بِهَذَا الْأَمْرِ: ((اغْتَسِلُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَاغْسِلُوا رُؤُوسَكُمْ وَإِنْ لَمْ تَكُونُوا جُنُبًا، وَأَصِيبُوا مِنَ الطِّيبِ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ)).

وَبَلَغَ مِنْ شِدَّةِ حَضِّهِ عَلَى النَّظَافَةِ بِالِاسْتِحْمَامِ وَالِاغْتِسَالِ أَنَّ بَعْضَ الْأَئِمَّةِ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الِاغْتِسَالَ وَاجِبٌ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَهُوَ الْحَقُّ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا؛ يَغْسِلُ فِيهِ رَأْسَهُ وَجَسَدَهُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ».

أَيُّ دِينٍ هَذَا لَوْ كَانَ لَهُ رِجَالٌ!!

وَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا)).

وَلَيْسَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَغْتَسِلُ إِلَّا كُلَّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ، لَا؛ هَذَا أَقْصَى الْمُدَّةِ، كَمَا وَقَّتَ فِي أَخْذِ الظُّفُرِ، وَكَذَلِكَ فِي أَخْذِ الشَّعْرِ مِنَ الْعَانَةِ وَالْإِبِطِ؛ كَمَا وَقَّتَ فِي ذَلِكَ أَرْبَعِينَ عَلَى أَنَّهُ أَقْصَى الْمُدَّةِ، كَمَا أَخْبَرَ أَنَسٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْهُ ﷺ، فَذَلِكَ أَقْصَى الْمُدَّةِ، لَا أَنَّكَ تَتْرُكُ إِلَى الْأَرْبَعِينَ، بَلِ السُّنَّةُ أَنْ تَفْعَلَ ذَلِك فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ مَرَّةً، قَالَ: ((يَغْسِلُ فِيهِ -أَيْ: فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ- رَأْسَهُ وَجَسَدَهُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

((الْمُسْلِمُ الْحَقُّ نَظِيفٌ فِي ثَوْبِهِ وَجَوْرَبِهِ، يَتَفَقَّدُ ثِيَابَهُ وَجَوْرَبَهُ بَيْنَ الْحِينِ وَالْحِينِ؛ لَا يَرْضَى أَنْ تَفُوحَ مِنْ أَرْدَانِهِ أَوْ قَدَمَيْهِ رَائِحَةٌ مُنَفِّرَةٌ، وَيَسْتَعِينُ عَلَى ذَلِكَ بِالطِّيبِ أَيْضًا.

وَيَتَعَهَّدُ الْمُسْلِمُ الْوَاعِي فَمَهُ، فَلَا يَشُمُّ أَحَدٌ مِنْهُ رَائِحَةً مُؤْذِيَةً كَرِيهَةً، وَذَلِكَ بِتَنْظِيفِ أَسْنَانِهِ كُلَّ يَوْمٍ بِالسِّوَاكِ مَرَّاتٍ، وَبِغَيْرِهِ مِنَ الْمُطَهِّرَاتِ وَالْمُنَظِّفَاتِ.

يَتَفَقَّدُ فَمَهُ، وَيَعْرِضُهُ عَلَى الْمُخْتَصِّ بِعِلَاجِهِ إِنِ احْتَاجَ إِلَى ذَلِكَ، وَإِلَى مَنْ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِأَسْنَانِهِ مِمَّنْ لَهُ اخْتِصَاصٌ بِالْفَمِ وَالْحَنْجَرَةِ، وَالْأَمْرَاضِ الْبَطْنِيَّةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ تَغَيُّرَ رَائِحَةِ الْفَمِ قَدْ تَكُونُ نَاشِئَةً مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ أَوْ مِنْ بَعْضِهَا؛ فَإِنِ احْتَاجَ الْأَمْرُ إِلَى ذَلِكَ عَرَضَ نَفْسَهُ عَلَى مَنْ يَخْتَصُّ بِذَلِكَ؛ حَتَّى يَبْقَى فَمُهُ نَقِيًّا مُعَطَّرَ الْأَنْفَاسِ.

تَرْوِي عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كَانَ لَا يَرْقُدُ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا فَيَسْتَيْقِظُ إِلَّا تَسَوَّكَ قَبْلَ أَنْ يَتَوَضَّأَ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ.

وَتَبْلُغُ عِنَايَةُ الرَّسُولِ الْكَرِيمِ بِنَظَافَةِ الْفَمِ حَدًّا يَجْعَلُهُ يَقُولُ: ((لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَسُئِلَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- عَنْ أَيِّ شَيْءٍ يَبْدَأُ بِهِ الرَّسُولُ الْكَرِيمُ ﷺ إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ؟ فَقَالَتْ: ((السِّوَاكُ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

وَمِمَّا يُؤْسَفُ لَهُ أَنْ تَرَى بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ يُهْمِلُونَ هَذِهِ الْجَوَانِبَ، وَإِنَّهَا مِنَ الدِّينِ لَفِي الصَّمِيمِ!!

لَا يَعْتَنُونَ بِنَظَافَةِ أَفْوَاهِهِمْ، وَأَبْدَانِهِمْ، وَمَلَابِسِهِمْ، وَجَوَارِبِهِمْ، وَتَرَاهُمْ يَغْشَوْنَ الْمَسَاجِدَ وَغَيْرَهَا مِنْ مَجَالِسِ الذِّكْرِ وَحَلْقَاتِ الدَّرْسِ وَالْمُذَاكَرَةِ وَرَوَائِحُهُمُ الْبَشِعَةُ تُؤْذِي إِخْوَانَهُمُ الْحَاضِرِينَ، وَتُنَفِّرُ الْمَلَائِكَةَ الَّتِي تَحُفُّ هَذِهِ الْأَمَاكِنَ الْجَلِيلَةَ الْمُبَارَكَةَ.

وَمِنْ عَجَبٍ أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ وَيُرَدِّدُونَ قَوْلَ النَّبِيِّ الْمَأْمُونِ ﷺ فِيمَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا أَوْ كُرَّاثًا أَلَّا يَقْرَبَ الْمَسَاجِدَ؛ لِكَيْ لَا يُؤْذِيَ بِرَائِحَةِ فَمِهِ الْمَلَائِكَةَ وَالنَّاسَ؛ فَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي ((الصَّحِيحِ)) عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَنْ أَكَلَ الْبَصَلَ وَالثُّومَ وَالْكُرَّاثَ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا؛ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ)).

حَظَرَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى الَّذِينَ أَكَلُوا بَعْضَ الْبُقُولِ ذَاتِ الرَّائِحَةِ الْخَبِيثَةِ الِاقْتِرَابَ مِنَ الْمَسْجِدِ؛ لِئَلَّا تَتَأَذَّى الْمَلَائِكَةُ وَالنَّاسُ مِنْ أَنْفَاسِهِمُ الْمُشْبَعَةِ بِتِلْكَ الرَّوَائِحِ، وَإِنَّهَا لَأَهْوَنُ شَأْنًا وَأَخَفُّ وَقْعًا مِنْ كَثِيرٍ مِنْ رَوَائِحِ الْمَلَابِسِ وَالْجَوَارِبِ الْمُتَّسِخَةِ، وَالْأَبْدَانِ الْمُنْتِنَةِ، وَالْأَفْوَاهِ الْبُخْرِ الَّتِي تَفُوحُ مِنْ بَعْضِ الْمُتَسَاهِلِينَ أَوِ الْغَافِلِينَ عَنِ النَّظَافَةِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، وَيَتَأَذَّى النَّاسُ مِنْهَا فِي مَجَامِعِهِمْ.

وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: أَتَانَا رَسُولُ اللهِ ﷺ زَائِرًا، فَرَأَى رَجُلًا عَلَيْهِ ثِيَابٌ وَسِخَةٌ، فَقَالَ: ((مَا كَانَ يَجِدُ هَذَا مَا يَغْسِلُ بِهِ ثَوْبَهُ؟!)).

فَأَنْكَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يَظْهَرَ الْإِنْسَانُ عَلَى الْمَلَأِ بِثِيَابٍ وَسِخَةٍ مَا دَامَ قَادِرًا عَلَى غَسْلِهَا وَتَنْظِيفِهَا؛ إِشْعَارًا مِنْهُ -صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ- لِلْمُسْلِمِ بِأَنْ يَكُونَ دَوْمًا نَظِيفَ الثِّيَابِ، حَسَنَ الْمَظْهَرِ مُحَبَّبَهُ.

كَانَ يَقُولُ ﷺ -كَمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ-: ((مَا عَلَى أَحَدِكُمْ إِنْ وَجَدَ أَنْ يَتَّخِذَ ثَوْبَيْنِ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ سِوَى ثَوْبَيْ مِهْنَتِهِ)).

فَيَتَجَمَّلُ لِغِشْيَانِ الْمَجَامِعِ الْعَظِيمَةِ يَغْشَاهَا الْمُسْلِمُونَ.

* النَّبِيُّ ﷺ الْأُسْوَةُ الْحَسَنَةُ فِي جَمَالِ الْمَظْهَرِ:

إِنَّ الْإِسْلَامَ يَحُضُّ أَبْنَاءَهُ جَمِيعًا فِي كَثِيرٍ مِنَ النُّصُوصِ عَلَى النَّظَافَةِ؛ يُرِيدُ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونُوا نَظِيفِينَ دَوْمًا، تَضُوعُ مِنْهُمْ رَائِحَةُ الطِّيبِ، وَتَفُوحُ مِنْ أَجْسَامِهِمُ الرَّوَائِحُ الْعَطِرَةُ، وَهَذَا مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ.

أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فيِ ((صَحِيحَيْهِمَا)) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((مَا شَمَمْتُ عَنْبَرًا قَطُّ وَلَا مِسْكًا وَلَا شَيْئًا أَطْيَبَ مِنْ رِيحِ رَسُولِ اللهِ ﷺ)).

وَالْأَحَادِيثُ وَالْأَخْبَارُ فِي نَظَافَةِ جِسْمِهِ ﷺ وَمَلَابِسِهِ وَطِيبِ رِيحِهِ وَعَرَقِهِ ﷺ كَثِيرَةٌ مُسْتَفِيضَةٌ؛ مِنْهَا:

أَنَّهُ كَانَ إِذَا صَافَحَ الْمُصَافِحَ ظَلَّ يَوْمَهُ يَجِدُ رِيحَ الطِّيبِ فِي يَدِهِ، فَمَنْ وَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِ الرَّسُولِ ﷺ ظَلَّ يَوْمَهُ يَجِدُ رَائِحَةَ الطِّيبِ فِي يَدِهِ.

وَإِذَا وَضَعَ النَّبِيُّ ﷺ يَدَهُ عَلَى رَأْسِ الصَّبِيِّ عُرِفَ مِنْ بَيْنِ الصِّبْيَانِ بِالرَّائِحَةِ الزَّكِيَّةِ.

وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي ((تَارِيخِهِ الْكَبِيرِ)) عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يَكُنْ يَمُرُّ فِي طَرِيقٍ فَيَتْبَعُهُ أَحَدٌ إِلَّا عَرَفَ أَنَّهُ سَلَكَهُ أَيْ: سَلَكَ ذَلِكَ الطَّرِيقَ- مِنْ طِيبِهِ ﷺ )).

وَنَامَ ﷺ مَرَّةً فِي دَارِ أَنَسٍ فَعَرِقَ، فَجَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ -وَهِيَ أُمُّ أَنَسٍ- بِقَارُورَةٍ وَعُودٍ، تَسْلُتُ الْعَرَقَ عَنْ جَبِينِ النَّبِيِّ ﷺ بِالْعُودِ فِي قَارُورَتِهَا، فَانْتَبَهَ النَّبِيُّ فَزِعًا، فَقَالَ: ((مَا هَذَا يَا أُمَّ سُلَيْمٍ؟!)).

قَالَتْ: هَذَا عَرَقُكَ يَا رَسُولَ اللهِ، نَجْعَلُهُ فِي طِيبِنَا، وَهُوَ مِنْ أَطْيَبِ الطِّيبِ.

هَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

مَا أَحْوَجَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى قَبَسَاتٍ مِنْ هَدْيِ الرَّسُولِ الْعَظِيمِ.

* وَمِنْ مَظَاهِرِ حِرْصِ الْإِسْلَامِ عَلَى جَمَالِ الْمَظْهَرِ: أَمْرُهُ بِرِعَايَةِ الشَّعْرِ وَإِصْلَاحِهِ، وَتَجْمِيلِهِ التَّجْمِيلَ الْمَشْرُوعَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ غَيْرِ مَا تَأَنُّقٍ وَلَا إِسْرَافٍ، كَمَا أَخْرَجَ ذَلِكَ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ كَانَ لَهُ شَعْرٌ فَلْيُكْرِمْهُ)).

وَإِكْرَامُ الشَّعْرِ فِي الْإِسْلَامِ يَكُونُ بِتَنْظِيفِهِ، بِتَمْشِيطِهِ.، بِتَطْيِيبِهِ، بِتَحْسِينِ شَكْلِهِ وَهَيْئَتِهِ بِغَيْرِ إِغْرَاقٍ؛ فَإِنَّ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ تَتَرَجَّلَ غِبًّا؛ أَيْ: يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِالتَّرَجُّلِ غِبًّا؛ أَيْ: يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، وَالنَّبِيُّ ﷺ جَاءَ بِالْوَسَطِ الْخِيَارِ ﷺ.

كَرِهَ النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يَدَعَ الْإِنْسَانُ شَعْرَهُ مُرْسَلًا مُهْمَلًا شَعِثًا مَنْفُوشًا؛ بِحَيْثُ يَبْدُو لِلْأَعْيُنِ كَأَنَّهُ الْغُولُ الْهَائِجُ، وَشَبَّهَهُ الرَّسُولُ ﷺ لِقُبْحِ مَنْظَرِهِ بِالشَّيْطَانِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مَالِكٌ فِي ((الْمُوَطَّأِ)) مُرْسَلًا عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي الْمَسْجِدِ، فَدَخَلَ رَجُلٌ ثَائِرُ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ الرَّسُولُ ﷺ بِيَدِهِ، كَأَنَّهُ يَأْمُرُهُ بِإِصْلَاحِ شَعْرِهِ وَلِحْيَتِهِ، فَفَعَلَ ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَلَيْسَ هَذَا خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ ثَائِرُ الرَّأْسِ كَأَنَّهُ شَيْطَانٌ؟!)).

وَوَاضِحٌ أَنَّ فِي تَشْبِيهِ النَّبِيِّ ﷺ الْمُنْتَفِشَ الشَّعْرِ بِالشَّيْطَانِ.. أَنَّ فِي ذَلِكَ تَعْبِيرًا عَنْ شِدَّةِ عِنَايَةِ الْإِسْلَامِ بِحُسْنِ الْمَنْظَرِ وَجَمَالِ الْهَيْئَةِ، وَفِيهِ إِنْكَارُهُ التَّبَذُّلَ وَقُبْحَ الْمَنْظَرِ.

وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ دَائِمَ التَّنْبِيهِ إِلَى هَذِهِ الْمَلَاحِظِ الْجَمَالِيَّةِ فِي هَيْئَةِ الْإِنْسَانِ؛ مَا رَأَى رَجُلًا رَدِيءَ الْهَيْئَةِ مُهْمِلًا شَعْرَهُ إِلَّا أَنْكَرَ عَلَيْهِ إِهْمَالَهُ وَتَقْصِيرَهُ، وَزِرَايَتَهُ بِنَفْسِهِ.

رَوَى الْإِمَامُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: أَتَانَا رَسُولُ اللهِ ﷺ زَائِرًا، فَرَأَى رَجُلًا شَعِثًا قَدْ تَفَرَّقَ شَعْرُهُ، فَقَالَ: ((مَا كَانَ يَجِدُ هَذَا مَا يُسَكِّنُ بِهِ رَأْسَهُ؟!)) ﷺ.

حُسْنُ الْهَيْئَةِ مِمَّا يُعْنَى بِهِ دِينُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.

الْمُسْلِمُ الْحَقُّ يُعْنَى بِلِبَاسِهِ وَهِنْدَامِهِ فِي غَيْرِ مَا غُلُوٍّ وَلَا إِسْرَافٍ، فَتَرَاهُ حَسَنَ الْهَيْئَةِ نَظِيفًا فِي قَصْدٍ، مِنْ غَيْرِ مَا مُغَالَاةٍ وَلَا إِسْرَافٍ.

لَا يَغْدُو عَلَى النَّاسِ فِي هَيْئَةٍ رَدِيَّةٍ قَمِيئَةٍ قَبِيحَةٍ، بَلْ يَتَفَقَّدُ نَفْسَهُ دَوْمًا قَبْلَ خُرُوجِهِ عَلَى النَّاسِ، يَتَجَمَّلُ بِاعْتِدَالٍ.

كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَتَجَمَّلُ لِأَصْحَابِهِ؛ فَضْلًا عَنْ تَجَمُّلِهِ لِأَهْلِهِ.

الْمُسْلِمُ يَفْعَلُ هَذَا كُلَّهُ وَفْقَ تَعَالِيمِ الْإِسْلَامِ الْوَسَطِ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا، وَهِيَ طَرِيقَةُ الِاعْتِدَالِ الَّتِي لَا إِفْرَاطَ فِيهَا وَلَا تَفْرِيطَ؛ {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67].

أَرَادَ الْإِسْلَامُ لِأَبْنَائِهِ وَدُعَاتِهِ عَلَى وَجْهِ الْخُصُوصِ أَنْ يَغْشَوُا الْمُجْتَمَعَاتِ وَهُمْ شَامَاتٌ مُشْتَهَاةٌ، لَا مَنَاظِرُ مُؤْذِيَةٌ تَقْتَحِمُهَا الْأَعْيُنُ، وَتَصُدُّ عَنْهَا النُّفُوسُ.

فَلَيْسَ مِنَ الْإِسْلَامِ فِي شَيْءٍ أَنْ يُسِفَّ الْإِنْسَانُ فِي مَظْهَرِهِ إِلَى دَرَجَةِ الْإِهْمَالِ الْمُزْرِي بِصَاحِبِهِ؛ بِدَعْوَى أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الزُّهْدِ وَالتَّوَاضُعِ؛ فَرَسُولُ اللهِ ﷺ -وَهُوَ سَيِّدُ الزُّهَّادِ وَالْمُتَوَاضِعِينَ- كَانَ يَلْبَسُ اللِّبَاسَ الْحَسَنَ، وَيَتَجَمَّلُ لِأَهْلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَيَرَى هَذَا التَّجَمُّلَ وَحُسْنَ الْهِنْدَامِ إِظْهَارًا لِنِعْمَةِ اللهِ عَلَيْهِ؛ فَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((إِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ)).

مَا دَامَ التَّجَمُّلُ لَا يَبْلُغُ حَدَّ التَّأَنُّقِ الْمُفْرِطِ فَهُوَ مِنَ الزِّينَةِ الطَّيِّبَةِ الَّتِي أَبَاحَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِعِبَادِهِ، وَحَضَّ عَلَيْهَا: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 31-32].

فِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ)).

فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا، وَنَعْلُهُ حَسَنًا.

كَأَنَّهُ يُرِيدُ: أَيُعَدُّ هَذَا مِنَ الْكِبْرِ؟

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ)) » .

فَعَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَكُونُوا شَامَاتٍ بَيْنَ النَّاسِ بِقَصْدٍ لَا إِفْرَاطَ فِيهِ وَلَا تَفْرِيطَ، وَأَنْ يُقْبِلُوا عَلَى اللهِ؛ لِأَنَّ جَمَالَ الْأَنْفُسِ وَاسْتِقَامَةَ الْفِطْرَةِ تَنْضَحُ عَلَى الْوُجُوهِ.

وَقَدْ كَانَ عَطَاءٌ -رَحِمَهُ اللهُ- أَسْوَدَ كَاللَّيْلِ الْبَهِيمِ، وَكَانَ أَعْوَرَ، أَشَلَّ، أَعْرَجَ، مُفَلْفَلَ شَعْرِ الرَّأْسِ، وَمَعَ ذَلِكَ يَقُولُ وَاصِفُوهُ: ((كُنْتَ إِذَا نَظَرْتَ فِي وَجْهِهِ رَأَيْتَ كَأَنَّ الشَّمْسَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ -رَحِمَهُ اللهُ-)).

((النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)): ((خَمْسٌ مِنَ الْفِطْرَةِ: الْخِتَانُ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَنَتْفُ الْإِبِطِ، وَتَقْلِيمُ الْأَظَافِرِ، وَقَصُّ الشَّارِبِ)).

رِعَايَةُ جَمَالِ الْفِطْرَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ مِمَّا حُبِّبَ فِي هَذَا الدِّينِ، وَرَغَّبَ فِيهِ كُلُّ ذِي طَبْعٍ رَاقٍ وَذَوْقٍ سَلِيمٍ.

عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْعِنَايَةَ بِالْمَظْهَرِ لَا تَنْزَلِقُ بِالْمُسْلِمِ الْحَقِّ الصَّادِقِ إِلَى الْمُغَالَاةِ فِي التَّزَيُّنِ، وَالْإِفْرَاطِ فِي التَّأَنُّقِ إِلَى حَدٍّ يَخْتَلُّ فِيهِ التَّوَازُنُ الَّذِي أَقَامَ الْإِسْلَامُ عَلَيْهِ تَشْرِيعَاتِهِ جَمِيعًا)).

إِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ لَمْ يَقْصُرْ الِاهْتِمَامَ عَلَى جَمَالِ الْمَظْهَرِ بِالنِّسْبَةِ لِجَسَدِ الْمُسْلِمِ فَحَسْبُ، بَلْ تَعَدَّى ذَلِكَ إِلَى الِاهْتِمَامِ الشَّدِيدِ وَالرِّعَايَةِ الْكَبِيرَةِ لِلْبِيئَةِ الَّتِي يَحْيَا فِيهَا الْإِنْسَانُ، فَأَوْلَى نَظَافَتَهَا وَالْحِفَاظَ عَلَيْهَا اهْتِمَامًا عَظِيمًا؛ فَحَرَّمَتِ الشَّرِيعَةُ الْبَوْلَ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ؛ لِحَدِيثِ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ».

وَ((الرَّاكِدُ)): السَّاكِنُ الَّذِي لَا يَجْرِي.

هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ كَسَائِرِ مَسَائِلِ هَذَا الدِّينِ الْعَظِيمِ مِنْ مَحَاسِنِهِ؛ فَالنَّبِيُّ ﷺ نَهَى عَنِ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ، وَكَذَلِكَ يَكُونُ الشَّأْنُ مَعَ الْمَاءِ الْجَارِي، الْإِنْسَانُ لَا يُلَوِّثُ الْمَوَارِدَ، وَكَمَا سَيَأْتِي فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَلَاعِنِ الَّتِي يَتَّقِيهَا الْإِنْسَانُ مِنْ ظِلِّ النَّاسِ وَطَرِيقِهِمْ، وَمَوَارِدِهِمْ -مَوَاضِعِ شُرْبِهِمْ-.

هَذَا شَيْءٌ مُهِمٌّ؛ بَلْ هُوَ مُتَعَلِّقٌ -أَيْضًا- بِالنَّظَافَةِ الْعَامَّةِ.

يَحْرُمُ عَلَى مَنْ أَرَادَ قَضَاءَ الْحَاجَةِ الْبَوْلُ أَوِ الْغَائِطُ فِي الطَّرِيقِ، أَوْ فِي الظِّلِّ، أَوْ فِي الْحَدَائِقِ الْعَامَّةِ، أَوْ تَحْتَ شَجَرَةٍ مُثْمِرَةٍ، أَوْ فِي مَوَارِدِ الْمِيَاهِ؛ لِمَا رَوَى مُعَاذٌ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ الثَّلَاثَةَ؛ الْبَرَازَ فِي الْمَوَارِدِ، وَقَارِعَةَ الطَّرِيقِ، وَالظِّلَّ)).

نَحْنُ الَّذِينَ عَلَّمْنَا الدُّنْيَا النَّظَافَةَ.

وَنَحْنُ الَّذِينَ عَلَّمْنَا الدُّنْيَا النِّظَامَ.

وَمَا عِنْدَ الْآخَرِينَ مِنْ شَيْءٍ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ آثَارِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ مِمَّا أَخَذُوهُ مِنَّا.

نَحْنُ عَلَّمْنَا الدُّنْيَا كُلَّهَا النَّظَافَةَ وَالنِّظَامَ.

وَعَلَّمْنَا الدُّنْيَا كُلَّهَا هَذِهِ الْأُصُولَ الْعَامَّةَ الَّتِي يَسْلَمُ الْإِنْسَانُ بِهَا فِي الْحَيَاةِ.

((اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ الثَّلَاثَةَ؛ الْبَرَازَ فِي الْمَوَارِدِ -وَهِيَ طُرُقُ الْمَاءِ-، وَقَارِعَةَ الطَّرِيقِ -قَارِعَةُ الطَّرِيقِ: وَسَطُهَا-، وَالظِّلَّ)).

وَلِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((اتَّقُوا اللَّاعِنَيْنِ)).

قَالُوا: ((وَمَا اللَّاعِنَانِ يَا رَسُولَ اللهِ؟)).

اللَّاعِنَانِ: الْأَمْرَانِ الْمُوجِبَانِ لِلَّعْنِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ فَعَلَهُمَا لُعِنَ وَشُتِمَ، فَصَارَ هَذَا سَبَبًا، ثُمَّ أُضِيفَ إِلَيْهِمَا الْفِعْلُ، فَكَانَا كَأَنَّهُمَا اللَّاعِنَانِ، وَإِنَّمَا هُمَا مُسْتَجْلِبَانِ لِلَّعْنِ؛ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لُعِنَ وَشُتِمَ.

((قَالُوا: وَمَا اللَّاعِنَانِ يَا رَسُولَ اللهِ؟))؛ وَمَا الْأَمْرَانِ الْمُسْتَجْلِبَانِ لِلَعْنِ مَنْ فَعَلَهُمَا يَا رَسُولَ اللهِ؟

قَالَ ﷺ: ((الَّذِي يَتَخَلَّى أَيْ: يَقْضِي حَاجَتَهُ- فِي طَرِيقِ النَّاسِ، أَوْ فِي ظِلِّهِمْ)) ؛ فَإِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا ذَلِكَ لَعَنُوا فَاعِلَهُ، وَشَتَمُوهُ وَسَبُّوهُ.

الرَّسُولُ ﷺ يَأْتِي بِالْفِطْرَةِ دِينًا، يَأْتِي بِدِينِ الْفِطْرَةِ، بِالْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ؛ فَيَنْهَى أَنْ يُتَبَوَّلَ أَوْ يُتَغَوَّطَ فِي هَذِهِ الْمَوَارِدِ، وَفِي الطُّرُقَاتِ، وَتَحْتَ الظِّلَالِ، فِي مَقِيلِ النَّاسِ يَفْزَعُونَ إِلَى الظِّلِّ عِنْدَ الْحَرِّ، عِنْدَ السَّفَرِ، عِنْدَمَا يُرِيدُونَ أَنْ يُرِيحُوا الْأَجْسَادَ الْمَكْدُودَةَ وَالْأَبْدَانَ الْمُتْعَبَةَ، وَالْأَرْوَاحَ الْمُنْهَكَةَ، وَيَتَمَتَّعُونَ بِالظِّلِّ الظَّلِيلِ وَالْمَاءِ الْعَذْبِ النَّمِيرِ فِي وَهَجِ الشَّمْسِ وَفِي شِدَّةِ حَرِّهَا؛ فَمَاذَا يَجِدُونَ؟!!

دِينُ مَشَاعِرَ، دِينُ ذَوْقٍ، دِينُ أَحَاسِيسَ، وَمَهْمَا رَأَيْتَ مِنْ حِسٍّ حَسَنٍ، وَمَهْمَا رَأَيْتَ مِنْ ذَوْقٍ عَالٍ فَسَتَجِدُ أَصْلَهُ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ آيَةً تُتْلَى، وَسُنَّةً تُرْوَى وَتُحْكَى، وَأَنَا لَكَ بِذَلِكَ زَعِيمٌ إِنْ شَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.

وَأَمَّا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَتَقَلَّبُ فِي الْجَنَّةِ فِي شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِنْ ظَهْرِ الطَّرِيقِ كَانَتْ تُؤْذِي النَّاسَ)). مُتَّفَقٌّ عَلَيْهِ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ قَيَّدَ بِقَوْلِهِ: ((كَانَتْ تُؤْذِي النَّاسَ))، فَلَا يَذْهَبَنَّ أَحَدٌ إِلَى شَجَرَةٍ لَهَا ظِلٌّ يَفِيءُ إِلَيْهِ النَّاسُ، ثُمَّ يَقُولُ: لَئِنْ قَطَعْتُ هَذِهِ فَلَأَتَحَصَّلَنَّ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الرَّسُولُ! بَلْ إِنَّهُ يَكُونُ آثِمًا!

فَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ، وَحَضَّ عَلَيْهِ، وَحَثَّ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهِ وَالْتِزَامِهِ، وَكُلُّهُ مِنْ مَحَاسِنِ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ؛ فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا، وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللهُ.

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِلْإِسْلَامِ، وَأَعَزَّنَا بِهِ، وَهُوَ -سُبْحَانَهُ- الْمَسْؤُولُ أَنْ يُمَسِّكَنَا كِتَابَهُ وَحَبْلَهُ حَتَّى يَقْبِضَنَا عَلَى ذَلِكَ.

((مَعْنَى جَمَالِ الْجَوْهَرِ وَسُبُلُهُ))

لَا شَكَّ أَنَّ الْمُسْلِمَ الْحَقَّ يَحْرِصُ عَلَى نَظَافَةِ الْبَاطِنِ كَمَا يَحْرِصُ عَلَى طَهَارَةِ الظَّاهِرِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِطَهَارَةِ الْقُلُوبِ مِنَ الْغِلِّ وَالْحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَالْكَرَاهِيَةِ.

إِنَّ جَمَالَ الْجَوْهَرِ يَكُونُ بِـ((إِخْلَاصِ الْقَلْبِ بِالتَّوْحِيدِ الْخَالِصِ للهِ، وَتَصْفِيَةِ الْقَلْبِ مِنْ شَوَائِبِهِ، مِنْ قُذُورَاتِهِ، مِنْ شَوْبِهِ؛ مِنْ شَوْبِ شِرْكِهِ، وَشَوْبِ رِيَائِهِ، وَشَوْبِ نِفَاقِهِ، بِتَهْذِيبِ الْقَلْبِ، وَتَصْفِيَةِ الرُّوحِ، وَتَهْذِيبِ الضَّمِيرِ.

وَجَمَالُ الْجَوْهَرِ وَطَهَارَةُ الْقَلْبِ سَبِيلُ الْخَلَاصِ، وَالْخَلَاصُ فِي الْإِخْلَاصِ، وَلَا صَلَاحَ لِلْبَدَنِ إِلَّا بِصَلَاحِ الْقَلْبِ -كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّـهِ ﷺ-، لَا صَلَاحَ لِلْبَدَنِ إِلَّا بِصَلَاحِ الْقَلْبِ.

قَالَ رَسُولُ اللَّـهِ ﷺ: «إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ؛ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ».

كَيْفَ يَصْلُحُ الْقَلْبُ؟

يَصْلُحُ الْقَلْبُ بِالْخُلُوصِ مِنَ الشِّرْكِ، وَالْبِدْعَةِ، وَالْحِقْدِ، وَمَذْمُومِ الْخِصَالِ، هَذَا صَلَاحُ الْقَلْبِ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ رَتَّبَ الْجَزَاءَ عَلَى الشَّرْطِ: «إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ»، «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً»: قِطْعَةٌ مِنَ اللَّحْمِ بِمِقْدَارِ مَا يُمْضَغُ -صَغِيرَةٌ هِيَ-، «إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ؛ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ».

هُنَا جَزَاءٌ قَدْ رُتِّبَ عَلَى شَرْطِهِ؛ فَلَا صَلَاحَ إِلَّا بِصَلَاحٍ، لَا صَلَاحَ لِلْجَسَدِ.. لَا صَلَاحَ لِلْحَيَاةِ إِلَّا بِصَلَاحِ الْقَلْبِ -كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّـهِ-، وَإِذَا فَسَدَ الْقَلْبُ فَسَدَ الْجَسَدُ وَفَسَدَتِ الْحَيَاةُ.

كَيْفَ صَلَاحُ الْقَلْبِ -إِذَنْ-؟

بِخُلُوصِهِ مِنَ الشِّرْكِ، وَخُلُوصِهِ مِنَ الْبِدْعَةِ، وَخُلُوصِهِ مِنَ الْحِقْدِ وَمَذْمُومِ الْخِصَالِ.

إِنَّ أَعْظَمَ سَبِيلٍ وَأَجَلَّهُ لِلْوُصُولِ إِلَى جَمَالِ الْجَوْهَرِ: تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ، وَإِنَّ تَوْحِيدَ الْمَخْلُوقِ لِرَبِّهِ الْمَعْبُودِ يَشْمَلُ أَمْرَيْنِ عَظِيمَيْنِ هُمَا جِمَاعُ دِينِهِ وَإِيمَانِهِ وَاعْتِقَادِهِ، تُجْمِلُهُمَا الْآيَةُ الْعَظِيمَةُ الْجَامِعَةُ مِنْ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] أَيْ: لَا نَعْبُدُ إِلَّا أَنْتَ، وَلَا نَسْتَعِينُ إِلَّا بِكَ.

الْعِبَادَةُ مِنَ الْمَخْلُوقِ لِخَالِقِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَالْإِعَانَةُ وَنَحْوُهَا مِنَ الْخَالِقِ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ.

فَهَاهُنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْعَظِيمَةِ أَمْرَانِ:

الْأَمْرُ الْأَوَّلُ: إِقْرَارُ الْعَبْدِ اعْتِقَادًا وَقَوْلًا وَعَمَلًا أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- وَاحِدٌ فِي أَسْمَائِهِ، وَأَخَصُّهَا: اللهُ وَالرَّحْمَنُ، وَصِفَاتِهِ، وَأَخَصُّهَا: الْإِحْيَاءُ وَالْإِمَاتَةُ، وَأَفْعَالِهِ، وَأَخَصُّهَا: الْخَلْقُ وَالْبَعْثُ وَالْجَزَاءُ الْأُخْرَوِيُّ، وَمِنْهَا: الْحُكْمُ؛ فَهُوَ الْخَالِقُ وَالْحَكَمُ، وَإِلَيْهِ النُّشُورُ، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180].

وَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].

أَثْبَتَ لِنَفْسِهِ صِفَتَيِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ، وَنَفَى مُمَاثَلَةَ مَخْلُوقَاتِهِ لَهُ -سُبْحَانَهُ وَبِحَمْدِهِ-.

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف: 40].

وَهَذَا الْأَمْرُ مِنْ أُمُورِ الْإِيمَانِ وَالِاعْتِقَادِ وَالتَّوْحِيدِ -عَلَى عِظَمِهِ- لَا يَكْفِي الْعَبْدَ لِلدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَا الثَّبَاتِ عَلَيْهِ؛ فَقَدْ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عَنِ الْمُشْرِكِينَ: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} [يونس: 31].

 أَقَرُّوا اعْتِقَادًا وَقَوْلًا، وَلَمْ يُقِرُّوا عَمَلًا؛ بَلْ أَقَرَّ بِهِ إِبْلِيسُ اعْتِقَادًا وَقَوْلًا، فَلَمْ يُقَرِّبْهُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [ص: 79].

وَقَالَ: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص: 76].

وَقَالَ: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 82-83].

فَأَقَرَّ هَاهُنَا بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَأَقَرَّ بِالْخَلْقِ، وَأَقَرَّ بِالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}، وَلَمْ يَنْفَعْهُ هَذَا الْإِقْرَارُ فِي شَيْءٍ، فَهَذَا هُوَ الْأَمْرُ الْأَوَّلُ.

وَأَمَّا الْأَمْرُ الثَّانِي: فَهُوَ إِقْرَارُ الْعَبْدِ اعْتِقَادًا وَقَوْلًا وَعَمَلًا أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- وَحْدَهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ؛ فَلَا يَرْكَعُ، وَلَا يَسْجُدُ، وَلَا يَنْذِرُ، وَلَا يَذْبَحُ إِلَّا لَهُ، وَلَا يَدْعُو إِلَّا إِيَّاهُ، وَلَا يَسْتَعِينُ، وَلَا يَسْتَغِيثُ، وَلَا يَحْلِفُ إِلَّا بِهِ، وَلَا يَطْلُبُ الْمَدَدَ إِلَّا مِنْهُ، وَلَا يَطُوفُ إِلَّا بِبَيْتِهِ، وَلَا يَلْجَأُ إِلَّا إِلَيْهِ، هُوَ الْغَنِيُّ -سُبْحَانَهُ-، وَغَيْرُهُ مُفْتَقِرٌ إِلَيْهِ وَلَوْ كَانَ مَلَكًا مُقَرَّبًا، أَوْ نَبِيًّا مُرْسَلًا، أَوْ وَلِيًّا مِمَّنْ شَهِدَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِالْجَنَّةِ؛ فَلَيْسَ لَهُمْ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، بَلِ الْأَمْرُ كُلُّهُ للهِ وَحْدَهُ.

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام: 162-163].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس: 106] -أَيِ: الْمُشْرِكِينَ-.

كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].

وَهَذَا الْأَمْرُ هُوَ الْحَدُّ الْفَاصِلُ بَيْنَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَبَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ، وَبَيْنَ عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ وَدُعَاءِ الْأَوْلِيَاءِ مَعَهُ، وَهَذَا الْأَمْرُ هُوَ سَبَبُ خَلْقِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَسَبَبُ إِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ.

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].

وَهَذَا الْأَمْرُ هُوَ مَعْنَى «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ» أَيْ: لَا مَعْبُودَ بِحَقٍّ إِلَّا اللهُ، كَمَا قَالَ نُوحٌ وَمَنْ بَعْدَهُ مِنَ الرُّسُلِ -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ- لِأَقْوَامِهِمْ: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [هود: 84].

وَلَا يَدْخُلُ الْمَرْءُ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يَبْقَى مُسْلِمًا بَعْدَ دُخُولِهِ إِلَّا إِذَا أَفْرَدَ اللهَ -تَعَالَى- بِالْعِبَادَةِ، فَلَا يَصْرِفُ شَيْئًا مِنَ الطَّاعَاتِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بِهَا أَمْرَ إِيجَابٍ أَوْ أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ إِلَّا للهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَا ظَهِيرَ وَلَا مُعِينَ وَلَا وَاسِطَةَ، وَلَا شَفَاعَةَ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ لِلشَّافِعِ، وَرِضَاهُ بِهَا لِلْمَشْفُوعِ لَهُ.

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 22-23].

وَقَالَ تَعَالَى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80].

وَهَذَا هُوَ التَّوْحِيدُ الَّذِي أَرْسَلَ اللهُ بِهِ جَمِيعَ رُسُلِهِ -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ-.

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- :{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].

هَذَا هُوَ التَّوْحِيدُ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ الْخُصُومَةُ بَيْنَ الرُّسُلِ وَأُمَمِهِمْ؛ إِذْ قَالُوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص: 5].

وَهَذَا التَّوْحِيدُ هُوَ أَوَّلُ الْوَاجِبَاتِ، وَأَهَمُّ الْمُهِمَّاتِ فِي دِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَهُوَ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ عَمَلًا صَالِحًا إِلَّا بَعْدَ تَحَقُّقِهِ.

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- لِنَبِيِّهِ ﷺ قُدْوَةً لِأُمَّتِهِ: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر: 65-66].

اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- وَحْدَهُ هُوَ الْمُتَفَرِّدُ بِالْخَلْقِ، وَالرِّزْقِ، وَالتَّدْبِيرِ، وَالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ، وَالْمُلْكِ:

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54].

وَقَالَ تَعَالَى: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ} [الحديد: 2].

وَهَذَا التَّوْحِيدُ هُوَ الْمُسَمَّى بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَهُوَ مُسْتَقِرٌّ فِي نُفُوسِ الْخَلْقِ، لَا يَكَادُ يُنَازِعُ الْخَالِقَ فِيهِ أَحَدٌ مِمَّنْ خَلَقَ؛ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا؛ كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عَنِ الْمُشْرِكِينَ الْكَافِرِينَ: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} [يونس: 31].

فَلَمْ يَكُنِ الْمُشْرِكُونَ الْكَافِرُونَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ آلِهَتَهُمْ تُشَارِكُ اللهَ فِي الْخَلْقِ، أَوِ الرِّزْقِ، أَوِ الْإِحْيَاءِ، أَوِ الْإِمَاتَةِ، أَوِ الْمُلْكِ، أَوِ التَّدْبِيرِ، بَلْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ ذَلِكَ للهِ وَحْدَهُ، كَمَا وَرَدَ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مُفَصَّلًا، وَإِنَّمَا اتَّخَذُوا آلِهَتَهُمْ قُرْبَةً وَوَسِيلَةً لَهُمْ إِلَى اللهِ -تَعَالَى-، وَشُفَعَاءَ لَهُمْ عِنْدَهُ، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3].

وَهَذَا مَا يَفْعَلُهُ الْيَوْمَ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ؛ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمْ؛ يَدْعُونَ أَوْلِيَاءَهُمْ، وَيَسْتَغِيثُونَ بِهِمْ؛ بَلْ يَذْبَحُونَ وَيَنْذِرُونَ لَهُمْ، وَيَطُوفُونَ بِأَضْرِحَتِهِمْ؛ بَلْ يَطْلُبُونَ مِنْهُمُ الْمَدَدَ بِحُجَّةِ التَّقَرُّبِ وَالِاسْتِشْفَاعِ بِهِمْ إِلَى اللهِ.

وَبَيَّنَ اللهُ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَفِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ أَنَّ إِقْرَارَهُمْ بِأَنَّ اللهَ وَحْدَهُ خَالِقُهُمْ وَرَازِقُهُمْ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ فِي وُجُوبِ إِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ وَالدُّعَاءِ للهِ وَحْدَهُ، وَأَنَّ مُجَرَّدَ الْإِقْرَارِ بِرُبُوبِيَّةِ اللهِ لَهُمْ لَمْ يَنْفَعْهُمْ؛ إِذْ لَمْ يُفْرِدُوهُ -تَعَالَى- بِالْعُبُودِيَّةِ، وَلَمْ يُخْلِصُوا الْعِبَادَةَ لَهُ وَحْدَهُ.

وَمِنْ حَقِّ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ: أَنْ يُثْبِتُوا لَهُ -تَعَالَى- مَا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ، وَمَا أَثْبَتَهُ لَهُ رَسُولُهُ ﷺ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلَى، لَا يَتَجَاوَزُونَ الْآيَةَ الْمُحْكَمَةَ وَالْحَدِيثَ الصَّحِيحَ.

يُثْبِتُونَ اللَّفْظَ، وَيَعْلَمُونَ الْمَعْنَى فِي لِسَانِ الْعَرَبِ الَّذِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ بِلِسَانِهِمْ، وَيَنْفُونَ التَّكْيِيفَ، وَالتَّشْبِيهَ، وَالتَّعْطِيلَ، وَتَأْوِيلَ اللَّفْظِ بِغَيْرِ مَعْنَاهُ الْمَعْلُومِ عِنْدَ الْعَرَبِ.

فَهِيَ ثَلَاثَةُ أُسُسٍ شَرْعِيَّةٍ ثَابِتَةٍ فِي هَذَا الْبَابِ، مَنْ لَزِمَهَا سَلِمَ مِنَ الِانْحِرَافِ:

*إِثْبَاتُ مَا أَثْبَتَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، قَالَ اللهُ -تَعَالَى- عَنْ نَفْسِهِ: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة: 140].

وَقَالَ عَنْ رَسُولهِ: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3-4].

*وَأَمَّا الْأَسَاسُ الثَّانِي؛ فَتَنْزِيهُ اللهِ عَنْ مُشَابَهَةِ الْمَخْلُوقَاتِ بَعْدَ إِثْبَاتِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].

*وَأَمَّا الثَّالِثُ؛ فَنَفْيُ قُدْرَةِ الْخَلْقِ عَلَى إِدْرَاكِ كَيْفِيَّةِ صِفَاتِ اللهِ، أَوْ مُشَارَكَتِهِ فِي أَسْمَائِهِ، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65].

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110].

فَمِنْ صِفَاتِ اللهِ -تَعَالَى-: الِاسْتِوَاءُ عَلَى الْعَرْشِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5].

نَعْرِفُ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ الْفُصْحَى أَنَّ الِاسْتِوَاءَ هَاهُنَا: الْعُلُوُّ وَالِارْتِفَاعُ.

أَمَّا كَيْفِيَّةُ الِاسْتِوَاءِ فَيَعْلَمُهَا اللهُ وَحْدَهُ، وَلَمْ يَنْفَعِ الْكَافِرِينَ اعْتِرَافُهُمْ بِصِفَاتِ اللهِ فِي قَوْلِهِمْ: {خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: 9]، فَقَدْ أَقَرَّ الْمُشْرِكُونَ بِالْعِزَّةِ وَالْعِلْمِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، كَمَا أَقَرُّوا بِالْخَلْقِ، وَبِالْمُلْكِ، وَبِالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَمْ يَنْفَعْهُمْ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ.

قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي قَوْلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب: 4]: «قَبُولُ الْمَحَلِّ لِمَا يُوضَعُ فِيهِ مَشْرُوطٌ بِتَفْرِيغِهِ مِنْ ضِدِّهِ، وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ فِي الذَّوَاتِ وَالْأَعْيَانِ فَكَذَلِكَ هُوَ فِي الِاعْتِقَادَاتِ وَالْإِرَادَاتِ.

فَإِذَا كَانَ الْقَلْبُ مُمْتَلِئًا بِالْبَاطِلِ اعْتِقَادًا وَمَحَبَّةً؛ لَمْ يَبْقَ فِيهِ لِاعْتِقَادِ الْحَقِّ وَمَحَبَّتِهِ مَوْضِعٌ، كَمَا أَنَّ اللِّسَانَ إِذَا اشْتَغَلَ بِالتَّكَلُّمِ بِمَا لَا يَنْفَعُ لَمْ يَتَمَكَّنْ صَاحِبُهُ مِنَ النُّطْقِ بِمَا يَنْفَعُهُ إِلَّا إِذَا فَرَّغَ لِسَانَهُ مِنَ النُّطْقِ بِالْبَاطِلِ، وَكَذَلِكَ الْجَوَارِحُ إِذَا اشْتَغَلَتْ بِغَيْرِ الطَّاعَةِ لَمْ يُمْكِنْ شَغْلُهَا بِالطَّاعَةِ إِلَّا إِذَا فَرَّغَهَا مِنْ ضِدِّهَا؛ فَكَذَلِكَ الْقَلْبُ الْمَشْغُولُ بِمَحَبَّةِ غَيْرِ اللهِ، وَإِرَادَتِهِ، وَالشَّوْقِ إِلَيْهِ، وَالْأُنسِ بِهِ، لَا يُمْكِنُ شَغْلُهُ بِمَحَبَّةِ اللهِ وَإِرَادَتِهِ وَحُبِّهِ وَالشَّوْقِ إِلَى لِقَائِهِ إِلَّا بِتَفْرِيغِهِ مِنْ تَعَلُّقِهِ بِغَيْرِهِ، وَلَا حَرَكَةِ اللِّسَانِ بِذِكْرِهِ وَالْجَوَارِحِ بِعِبَادَتِهِ إِلَّا إِذَا فَرَّغَهَا مِنْ ذِكْرِ غَيْرِهِ وَخِدْمَتِهِ.

فَإِذَا امْتَلَأَ الْقَلْبُ بِالشُّغُلِ بِالْمَخْلُوقِ، وَالْعُلُومِ الَّتِي لَا تَنْفَعُ؛ لَمْ يَبْقَ فِيهَا مَوْضِعٌ لِلشُّغُلِ بِاللهِ، وَمَعْرِفَةِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَحْكَامِهِ.

وَسِرُّ ذَلِكَ: أَنَّ إِصْغَاءَ الْقَلْبِ كَإِصْغَاءِ الْأُذُنِ، فَإِذَا أَصْغَى إِلَى غَيْرِ حَدِيثِ اللهِ لَمْ يَبْقَ فِيهِ إِصْغَاءٌ وَلَا فَهْمٌ لِحَدِيثِهِ، كَمَا إِذَا مَالَ إِلَى غَيْرِ مَحَبَّةِ اللهِ لَمْ يَبْقَ فِيهِ مَيْلٌ إِلَى مَحَبَّتِهِ، فَإِذَا نَطَقَ الْقَلْبُ بِغَيْرِ ذِكْرِهِ لَمْ يَبْقَ فِيهِ مَحَلٌّ لِلنُّطْقِ بِذِكْرِهِ كَاللِّسَانِ.

وَلِهَذَا فِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا حَتَّى يَرِيَهُ -أَيْ: حَتَّى يَأْكُلَ جَوْفَهُ وَيُفْسِدَهُ- خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا».

فَبَيَّنَ أَنَّ الْجَوْفَ يَمْتَلِئُ بِالشِّعْرِ، فَكَذَلِكَ يَمْتَلِئُ بِالشُّبَهِ وَالشُّكُوكِ، وَالْخَيَالَاتِ وَالتَّقْدِيرَاتِ الَّتِي لَا وُجُودَ لَهَا، وَالْعُلُومِ الَّتِي لَا تَنْفَعُ، وَالْمُفَاكَهَاتِ وَالْمُضَاحَكَاتِ وَالْحِكَايَاتِ وَنَحْوِهَا.

 وَإِذَا امْتَلَأَ الْقَلْبُ بِذَلِكَ جَاءَتْهُ حَقَائِقُ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ الَّذِي بِهِ كَمَالُهُ وَسَعَادَتُهُ، فَلَمْ تَجِدْ فِيهِ فَرَاغًا لَهَا وَلَا قَبُولًا، فَتَعَدَّتْهُ وَجَاوَزَتْهُ إِلَى مَحَلٍّ سِوَاهُ، كَمَا إِذَا بَذَلْتَ النَّصِيحَةَ لِقَلْبٍ مَلْآنَ مِنْ ضِدِّهَا لَا مَنْفَذَ لَهَا فِيهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُهَا، وَلَا تَلِجُ فِيهِ، لَكِنْ تَمُرُّ مُجْتَازَةً لَا مُسْتَوْطِنَةً؛ وَلِذَلِكَ قِيلَ:

نَزِّهْ فُؤَادَكَ مِنْ سِوَانَا تَلْقَنَا     =      فَجَنَابُنَا حِلٌّ لِكُلِّ مُنَزِّهِ

وَالصَّبْرُ طِلَّسْمٌ لِكَنْزِ وِصَالِنَا       =     مَنْ حَلَّ ذَا الطِّلَّسْمَ فَازَ بِكَنْزِهِ)).

((وَطَالِبُ اللهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ لَا يَسْتَقِيمُ لَهُ سَيْرُهُ وَطَلَبُهُ إِلَّا بِحَبْسَيْنِ:

حَبْسِ قَلْبِهِ فِي طَلَبِهِ وَمَطْلُوبِهِ، وَحَبْسِهِ عَنْ الِالْتِفَاتِ إِلَى غَيْرِهِ، وَحَبْسِ لِسَانِهِ عَمَّا لَا يُفِيدُ، وَحَبْسِهِ عَلَى ذِكْرِ اللهِ وَمَا يَزِيدُ فِي إِيمَانِهِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَحَبْسِ جَوَارِحِهِ عَنِ الْمَعَاصِي وَالشَّهَوَاتِ، وَحَبْسِهَا عَلَى الْوَاجِبَاتِ وَالْمَنْدُوبَاتِ، فَلَا يُفَارِقُ الْحَبْسَ حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ، فَيُخَلِّصُهُ مِنَ السِّجْنِ إِلَى أَوْسَعِ فَضَاءٍ وَأَطْيَبِهِ.

وَمَتَى لَمْ يَصْبِرْ عَلَى هَذَيْنِ الْحَبْسَيْنِ، وَفَرَّ مِنْهُمَا إِلَى فَضَاءِ الشَّهَوَاتِ؛ أَعْقَبَهُ ذَلِكَ الْحَبْسَ الْفَظِيعَ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الدُّنْيَا، فَكُلُّ خَارِجٍ مِنَ الدُّنْيَا إِمَّا مُتَخَلِّصٌ مِنَ الْحَبْسِ، وَإِمَّا ذَاهِبٌ إِلَى الْحَبْسِ)).

إِنَّ الْعِزَّةَ الْحَقِيقِيَّةَ هِيَ الَّتِي تُسْتَمَدُّ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَتَوْحِيدِهِ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8].

فَالْمُؤْمِنُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ تِلْكَ الْكَلِمَةِ الَّتِي يُرَدِّدُهَا فِي كُلِّ صَلَاةٍ: ((اللهُ أَكْبَرُ)).

((اللهُ أَكْبَرُ)) فِي قَلْبِهِ وَضَمِيرِهِ، وَفِي إِيمَانِهِ وَيَقِينِهِ، مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَمِنْ كُلِّ أَحَدٍ.

وَالْمُشْرِكُ لَا يَعْرِفُ هَذِهِ الْعِزَّةَ وَلَا يَتَذَوَّقُهَا؛ لِأَنَّهُ بِإِشْرَاكِهِ بِرَبِّهِ تَعَالَى يُعَبِّدُ نَفْسَهُ لِغَيْرِ رَبِّهِ، وَهِيَ عُبُودِيَّةٌ ذَلِيلَةٌ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ للهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

وَالشِّرْكُ بِاللهِ تَعَالَى مَهَانَةٌ لِكَرَامَةِ الْإِنْسَانِ، وَحَطٌّ لِقَدْرِهِ وَمَنْزِلَتِهِ، وَاللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فَطَرَ النَّفْسَ الْإِنْسَانِيَّةَ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ بِالتَّوْحِيدِ.

وَأَخْبَرَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَنَّ الْإِنْسَانَ حِينَ يَعْمَلُ بِمُقْتَضَى عِلْمِهِ بِالتَّوْحِيدِ فَإِنَّ نَفْسَهُ تَكُونُ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ؛ لِأَنَّهَا تَتَّجِهُ كُلُّهَا وِجْهَةً وَاحِدَةً فِي جَمِيعِ تَصَرُّفَاتِهَا: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [المنافقون:8].

فَتِلْكَ حَصِيلَةُ التَّوْحِيدِ، تَجْمَعُ النَّفْسَ الْبَشَرِيَّةَ فِي وِحْدَةٍ وَاحِدَةٍ وَاتِّجَاهٍ وَاحِدٍ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، قَالَ تَعَالَى: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31].

شَبَّهَ الْإِيمَانَ وَالتَّوْحِيدَ فِي عُلُوِّهِ وَسَعَتِهِ وَشَرَفِهِ بِالسَّمَاءِ الَّتِي هِيَ مَصْعَدُهُ وَمَهْبَطُهُ، فَمِنْهَا هَبَطَ إِلَى الْأَرْضِ، وَإِلَيْهَا يَصْعَدُ مِنْهَا، وشَبَّهَ تَارِكَ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ بِالسَّاقِطِ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى أَسْفَلَ سَافِلِينَ؛ مِنْ حَيْثُ التَّضْيِيقُ الشَّدِيدُ، وَالْآلَامُ الْمُتَرَاكِمَةُ، وَالطَّيْرُ الَّتِي تَخْطِفُ أَعْضَاءَهُ، وَتُمَزِّقُهُ كُلَّ مُمَزَّقٍ.

شَبَّهَ ذَلِكَ بِالشَّيَاطِينِ  الَّتِي يُرْسِلُهَا اللهُ تَعَالَى  تَؤُزُّهُ، وَتُزْعِجُهُ وَتُقْلِقُهُ إِلَى مَظَانِّ هَلَاكِهِ، وَالرِّيحِ الَّتِي تَهْوِي بِهِ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ، وَهَوَاهُ الَّذِي يَحْمِلُهُ عَلَى إِلْقَاءِ نَفْسِهِ فِي أَسْفَلِ مَكَانٍ وَأَبْعَدِهِ عَنِ السَّمَاءِ؛ فَهَذَا مَثَلُ الْمُشْرِكِ الَّذِي أَشْرَكَ بِرَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَجَانَبَ التَّوْحِيدَ.

إِنَّ جَمَالَ الْجَوْهَرِ وَنَقَاءَ الْبَاطِنِ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ فَفِي «صَحِيحِ سُنَنِ ابْنِ مَاجَه» عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: قِيلَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: ((مَنْ أَفْضَلُ النَّاسِ؟)).

فَقَالَ ﷺ: ((كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ، صَدُوقِ اللِّسَانِ)).

كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ، صَدُوقِ اللِّسَانِ؛ هَذَا أَفْضَلُ النَّاسِ.

فَقَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! صَدُوقُ اللِّسَانِ عَرَفْنَاهُ؛ فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟)).

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ الَّذِي لَا إِثْمَ فِيهِ وَلَا بَغْيَ، وَلَا غِلَّ فِيهِ وَلَا حَسَدَ».

فَأَفْضَلُ الْأَعْمَالِ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ سَلَامَةُ الصَّدْرِ، وَأَفْضَلُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- مَنْ كَانَ عَنِ الْغِلِّ وَالْحَسَدِ مُنَزَّهًا، وَمِنْ ذَلِكَ مُبَرَّأً.

وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ عَمَّا يُحِبُّهُ اللهُ مِنْ خِصَالِ بَنِي آدَمَ؛ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ اللَّهَ -جَلَّ وَعَلَا- يُحِبُّ مَعَالِيَ الْخِصَالِ -يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأَخْلَاقِ-، وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا)).

إِنَّ الصَّفْحَ، وَالتَّسَامُحَ، وَالصَّبْرَ، وَالْوَفَاءَ، وَالْبَذْلَ؛ كُلُّ أُولَئِكَ خِصَالٌ مَحْمُودَةٌ وَشِيَاةٌ مَرْمُوقَةٌ، كُلُّ أُولَئِكَ غَايَاتٌ تَتَقَطَّعُ دُونَ بُلُوغِهَا الْأَعْنَاقُ.

قَدْ يَعْلَمُ الْمَرْءُ فِي نَفْسِهِ خَلَلًا بِاخْتِلَالِ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْخَيْرِ فِيهِ، نَعَمْ! بِاخْتِلَالِ صِفَةٍ يَضَعُ الْيَدَ عَلَيْهَا عِنْدَ تَفْتِيشِهِ فِي أَطْوَاءِ قَلْبِهِ وَمَطَاوِيهِ، فيَضَعُ الْيَدَ عَلَيْهَا هُنَا، هُنَا خَلَلٌ يَحْتَاجُ إِصْلَاحًا، وَلَا يُصْلِحُ الْقُلُوبَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَهَا، هُنَا هَذَا الْخَلَلُ قَدْ يَلْتَهِمُ الْحَيَاةَ وَلَا يُصْلَحُ، قَدْ يُمْضِي الْمَرْءُ عُمْرَهُ فِي إِصْلَاحِ خَلَلٍ وَاحِدٍ فِي مَنْظُومَةِ الْأَخْلَاقِ.

وَهِيَ مَنْظُومَةٌ مُتَكَامِلَةٌ؛ فَإِنَّ الْقِيَمَ لَا تَتَبَعَّضُ، وَالْأَخْلَاقَ لَا تَتَجَزَّأُ، لَا عَلَى اعْتِبَارِ الْمَجْمُوعِ، وَلَا عَلَى اعْتِبَارِ الْأَزْمَانِ وَالْحَالَاتِ.

الْقِيَمُ لَا تَتَبَعَّضُ، وَالْأَخْلَاقُ لَا تَتَجَزَّأُ، لَا عَلَى اعْتِبَارِ الْمَجْمُوعِ؛ بِمَعْنَى: أَنَّ الْعَبْدَ يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ وَفِيًّا وَهُوَ خَائِنٌ، يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ مُخْلِصًا وَهُوَ غَدَّارٌ، يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ بَذُولًا وَهُوَ شَحِيحٌ بَخِيلٌ، يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ مُحَصِّلًا لِخُلُقٍ، فَاقِدًا لِبَقِيَّةِ الْأَخْلَاقِ، لَا تَتَجَزَّأُ الْقِيَمُ، كُلٌّ فَاعِلٌ بِحَيَاةٍ، فَإِذَا مَا تَجَزَّأَ صَارَ كَائِنًا مُشَوَّهًا لَا يَمُتُّ بِصِلَةٍ إِلَى الْأَخْلَاقِ.

الْقِيَمُ لَا تَتَجَزَّأُ، وَالْأَخْلَاقُ لَا تَتَبَعَّضُ، لَا بِاعْتِبَارِ الْمَجْمُوعِ، وَلَا بِاعْتِبَارِ الْحَالَاتِ، يَعْنِي: تَأْتِي الْفُرْصَةُ السَّانِحَةُ لِلْخِيَانَةِ وَالْمَرْءُ عَلَى خُلُقِ الْوَفَاءِ، فَيُنَحِّيهِ جَانِبًا وَيُوَاقِعُ الْخِيَانَةَ، ثُمَّ يَرْتَدِي لَبُوسَ الْوَفَاءِ!

لَا؛ لَا بِاعْتِبَارِ الْحَالَاتِ، وَلَا بِاعْتِبَارِ الْأَزْمَانِ؛ أَنْ يَكُونَ أُسْبُوعًا وَفِيًّا، وَأُسْبُوعًا عَلَى الْغَدْرِ مُقِيمًا، أَنْ يَكُونَ أُسْبُوعًا مُخْلِصًا، وَأُسْبُوعًا عَلَى الشِّرْكِ وَالْكُفْرَانِ قَائِمًا وَدَائِمًا وَمُقِيمًا!

لَا تَتَبَعَّضُ؛ لَا عَلَى اعْتِبَارِ الْمَجْمُوعِ، وَلَا عَلَى اعْتِبَارِ الْأَزْمَانِ، وَالْحَالَاتِ.

فَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى سَيِّدِ الْكَائِنَاتِ وَجَدْتَ الْأَخْلَاقَ كُلَّهَا مَجْمُوعَةً بِجَمْعِهَا مِنْ جَمِيعِ أَقْطَارِهَا فِي مُحَمَّدٍ ﷺ.

وَمَجَالُ الْعَظَمَةِ فِيهِ جَعَلَتْ أَقْطَابَ الْقَائِمِينَ عَلَى عَظَمَتِهِ بِمُفْرَدِهَا مُنْحَازَةً إِلَيْهِ، دَائِرَةً فِي فَلَكِهِ وَحَوْلَهُ ﷺ؛ فَتَجِدُ عُمَرَ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ، مَعَ عُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَطَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، تَجِدُ الصَّحَابَةَ مِمَّنْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ، وَمِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا، وَمِمَّنْ شَهِدَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ، تَجِدُ الصَّحَابَةَ مِمَّن كَانَ سَابِقًا إِلَى دِينِ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِيهِ أَوَّلًا، تَجِدُ الصَّحَابَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-؛ تَجِدُ كُلًّا فِيهِ مِنْ مَجَالِ الْعَظَمَةِ مَا قَدْ تَفَرَّدَ بِهِ؛ فَهَذَا أَبُو بَكْرٍ نَمُوذَجٌ قَائِمٌ بِذَاتِهِ، وَهَذَا عُمَرُ نَمُوذَجٌ قَائِمٌ بِذَاتِهِ، وَهَذَا عُثْمَانُ نَمُوذَجٌ قَائِمٌ بِذَاتِهِ، وَهَذَا عَلِيٌّ.. وَهَكَذَا، فِي كُلٍّ مِنْ هَؤُلَاءِ عَظَمَةٌ مُتَفَرِّدَةٌ وَقَعَتْ عَلَى مَا يُوَازِيهَا، لَا مَا يُسَاوِيهَا، وَلَا مَا يُمَاثِلُهَا، وَلَا مَا يُنَاظِرُهَا فِي رَسُولِ اللَّهِ، فَاجْتَمَعَ هَذَا كُلُّهُ فِيهِ؛ فَأَيُّ كَمَالٍ؟!

وَالْمَرْءُ يُحَاوِلُ إِذَا وَضَعَ يَدَهُ عَلَى مَوْطِنِ الْخَلَلِ فِيهِ -فِي قَلْبِهِ-، فِي قَلْبِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا قَالَ: «إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ»؛ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُهْتَمَّ بِالْقَلْبِ فَوْقَ الِاهْتِمَامِ بِالْجَسَدِ؛ أَنْ يُفَتَّشَ فِيهِ، وَأَنْ يُبْحَثَ فِي أَحْوَالِهِ وَتَقَلُّبَاتِهِ؛ حَتَّى يَسْتَطِيعَ الْإِنْسَانُ أَنْ يَعْلَمَ أَيْنَ الْخَلَلُ، وَحَتَّى يَدْرِيَ مِنْ أَيْنَ يَبْدَأُ الْإِصْلَاحَ فِي الْقَلْبِ الَّذِي تَدَاعَى -أَوْ أَوْشَكَ عَلَى التَّدَاعِي-، فِي الْقَلْبِ الَّذِي تَصَدَّعَ فَشَارَفَ التَّهَالُكَ مُتَهَدِّمًا؛ حَتَّى يَسْتَطِيعَ الْإِنْسَانُ أَنْ يَعْلَمَ أَيْنَ هُوَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ.

النَّبِيُّ ﷺ كُلُّ ذَلِكَ مَجْمُوعٌ فِيهِ ﷺ؛ فَأَيُّ عَظَمَةٍ؟!

لَا يُمْكِنُ أَنْ تَتَصَوَّرَهُ، إِنْ شِئْتَ الْكَمَالَ فِي كُلِّ خَصْلَةٍ مَحْمُودَةٍ عَلَى أَتَمِّ مَا تَكُونُ فِي بَشَرٍ فَهِيَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ قَائِمَةٌ مَاثِلَةٌ، بَائِنَةٌ ظَاهِرَةٌ بَائِنَةٌ: مِنَ الظُّهُورِ، لَا مِنَ الْبَيْنِ وَالْبُعْدِ، وَإِنَّمَا مِنَ الظُّهُورِ؛ فَقَدْ بَانَتْ فِيهِ، لَا مِنْهُ وَلَا عَنْهُ ﷺ.

((ضَرُورَةُ الِاشْتِغَالِ بِتَطْهِيرِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ))

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! مَا أَجْمَلَ أَنْ يَرَى الْعَالَمُ كُلُّهُ جَمَالَ دِينِنَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فِي جَمِيعِ أَحْوَالِنَا، فَيَتَبَدَّى الْجَمَالُ الظَّاهِرُ فِي مَسَاجِدِنَا، وَطُرُقِنَا، وَبُيُوتِنَا، وَهَيْئَاتِنَا، وَيَتَأَلَّقُ الْجَمَالُ الْمَعْنَوِيُّ فِي نَظَافَةِ قُلُوبِنَا، وَحُسْنِ أَخْلَاقِنَا؛ حَيْثُ يَقُولُ نَبِيُّنَا ﷺ: ((إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ)).

عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُطَهِّرَ ظَاهِرَهُ بِمُجَانَبَةِ الْبِدَعِ، وَبِالتَّحَلِّي بِسُنَنِ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي أَحْوَالِهِ كُلِّهَا، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى الْوُضُوءِ، وَنَظَافَةِ الْجِسْمِ وَالْمَظْهَرِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ، وَعَلَى قَدْرِ الْمُسْتَطَاعِ.

وَطَهَارَةُ الظَّاهِرِ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ، وَحُسْنِ السَّمْتِ، وَنَظَافَةِ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ.

وَهَذِهِ الطَّهَارَةُ لِلظَّاهِرِ مَطْلُوبَةٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ.

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ)).

قَالَ رَجُلٌ: ((إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا،  وَنَعْلُهُ حَسَنَةً)).

قَالَ: ((إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: (( ((بَطَرُ الْحَقِّ)): دَفْعُهُ وَإِنْكَارُهُ تَرَفُّعًا وَتَكَبُّرًا، وَ((غَمْطُ النَّاسِ)) مَعْنَاهُ: احْتِقَارُهُمْ)).

وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُحِبُّ الطِّيبَ، وَيَحْرِصُ عَلَيْهِ؛ فَعَنْ مُوسَى بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: ((كَانَ لِرَسُولِ ﷺ سُكَّةٌ يَتَطَيَّبُ مِنْهَا)). قَالَ الْأَلْبَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ)).

وَالسُّكَّةُ: طِيبٌ أَسْوَدُ يُخْلَطُ وَيُتْرَكُ، وَتَظْهَرُ رَائِحَتُهُ كُلَّمَا مَضَى عَلَيْهِ الزَّمَنُ.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ وِعَاءً يُوضَعُ فِيهِ الطِّيبُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ.

وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَكْرَهُ الرِّيحَ الْخَبِيثَةَ، وَيُنَفِّرُ مِنْهَا؛ فَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الْبَقْلَةِ الثُّومِ -وَقَالَ مَرَّةً: مَنْ أَكَلَ الْبَصَلَ وَالثُّومَ وَالْكُرَّاثَ- فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا؛ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يَتْرُكَ الْمُسْلِمُ قَصَّ شَارِبِهِ، أَوْ تَقْلِيمَ أَظَافِرِهِ، أَوْ حَلْقَ عَانَتِهِ، أَوْ نَتْفَ إِبِطِهِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً؛ فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((وُقِّتَ لَنَا فِي قَصِّ الشَّارِبِ، وَتَقْلِيمِ الْأَظَافِرِ، وَنَتْفِ الْإِبِطِ، وَحَلْقِ الْعَانَةِ أَلَّا نَتْرُكَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((مَعْنَاهُ: لَا يُتْرَكُ تَرْكًا يَتَجَاوَزُ أَرْبَعِينَ)).

وَحَضَّ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى اسْتِعْمَالِ السِّوَاكِ، وَرَغَّبَ فِيهِ الْأُمَّةَ فَقَالَ: ((لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَعَهَّدَ طَهَارَةَ ظَاهِرِهِ، وَطَهَارَتُهُ بِاتِّبَاعِ سُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ، وَالتَّمَسُّكِ بِهَا، وَالْعَضِّ عَلَيْهَا.

وَذَلِكَ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ؛ لِأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَتَكَلَّفُ فِي تَجْمِيلِ ظَاهِرِهِ؛ حَتَّى رُبَّمَا صَرَفَهُ ذَلِكَ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْخَيْرِ، وَقَدْ وَقَعَ هَذَا قَدِيمًا؛ كَانَ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ -رَحِمَهُ اللهُ- جُمَّةٌ، فَتَأَخَّرَ يَوْمًا عَنْ مُعَلِّمِهِ -رَحِمَهُ اللهُ-، فَقَالَ: مَا أَخَّرَكَ؟

قَالَ: كَانَتْ جَارِيَتِي تُرَجِّلُ لِي شَعْرِي -وَرُبَّمَا كَانَتْ تَدْهُنُهُ-.

فَكَتَبَ إِلَى أَبِيهِ، فَأَمَرَهُ بِأَنْ يَحْلِقَهُ لَهُ!

فَيَأْتِي الْمَرْءُ مِنْ هَذَا عَلَى السُّنَّةِ، السُّنَّةُ لَا تَكَلُّفَ فِيهَا؛ لِأَنَّ أَقْوَامًا يُعْجِبُهُمْ جِدًّا أَنْ يَكُونُوا مُتَأَنِّقِينَ، إِذَا كَانَ عَلَى السُّنَّةِ فَعَلَى الْعَيْنِ وَالرَّأْسِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ عَلَى حَسَبِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ بُيُوتُ الْأَزْيَاءِ وَمَا أَشْبَهَ فَهَذَا هُوَ الْمَمْقُوتُ الْمَتْرُوكُ الْمَكْرُوهُ.

فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَعَهَّدَ طَهَارَةَ ظَاهِرِهِ، وَطَهَارَتُهُ بِاتِّبَاعِ سُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ، وَالتَّمَسُّكِ بِهَا، وَالْعَضِّ عَلَيْهَا.

وَأَمَّا طَهَارَةُ الْبَاطِنِ؛ فَعَلَى الْمُسْلِمِ تَقْدِيمُ طَهَارَةِ النَّفْسِ عَنْ رَذَائِلِ الْأَخْلَاقِ وَمَذْمُومِ الصِّفَاتِ.

قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]؛ تَنْبِيهًا لِلْعُقُولِ عَلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ وَالنَّجَاسَةَ غَيْرُ مَقْصُورَةٍ عَلَى الظَّوَاهِرِ الْمُدْرَكَةِ بِالْحِسِّ؛ فَالْمُشْرِكُ قَدْ يَكُونُ نَظِيفَ الثَّوْبِ، مَغْسُولَ الْبَدَنِ؛ وَلَكِنَّهُ نَجِسُ الْجَوْهَرِ؛ أَيْ: بَاطِنُهُ مُلَطَّخٌ بِالْخَبَائِثِ.

وَالنَّجَاسَةُ عِبَارَةٌ عَمَّا يُجْتَنَبُ، وَيُطْلَبُ الْبُعْدُ مِنْهُ، وَخَبَائِثُ صِفَاتِ الْبَاطِنِ أَهَمُّ بِالِاجْتِنَابِ؛ فَإِنَّهَا مَعَ خُبْثِهَا وَخَبَثِهَا حَالًا مُهْلِكَاتٌ فِي الْمَآلِ.

عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُطَهِّرَ قَلْبَهُ مِنْ كُلِّ غِشٍّ وَدَنَسٍ، وَغِلٍّ وَحَسَدٍ، وَسُوءِ عَقِيدَةٍ وَخُلُقٍ.

نَسْأَلُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يُزَيِّنَنَا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ، وَأَنْ يَجْعَلَنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

المصدر:خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ.. جَمَالُ الْمَظْهَرِ وَالْجَوْهَرِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  اسْمُ اللهِ الْوَلِيُّ
  حَقُّ الْوَطَنِ وَالْمُشَارَكَةُ فِي بِنَائِهِ
  جماعات التكفير والحكم بغير ما أنزل الله
  الْمَالُ الْحَرَامُ، وَأَثَرُهُ الْمُدَمِّرُ عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ
  الْأَمَل
  تَكْرِيمُ المَرْأَةِ فِي الإِسْلَامِ وَدَوْرُهَا فِي بِنَاءِ المُجْتَمَعِ
  الْأَمَلُ حَيَاةٌ
  الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ
  ((دُرُوسٌ وَعِظَاتٌ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ)) ((الدَّرْسُ الْخَامِسُ: أَذْكَارٌ وَأَدْعِيَةٌ عَظِيمَةٌ وَقْتَ الْمِحَنِ))
  الأسماء والصفات أصل العلم
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان