أَهَمِّيَّةُ الْعَمَلِ وَالتَّخْطِيطِ فِي الْإِسْلَامِ وَسُبُلُ التَّغْيِيرِ

أَهَمِّيَّةُ الْعَمَلِ وَالتَّخْطِيطِ فِي الْإِسْلَامِ وَسُبُلُ التَّغْيِيرِ

((أَهَمِّيَّةُ الْعَمَلِ وَالتَّخْطِيطِ فِي الْإِسْلَامِ وَسُبُلُ التَّغْيِيرِ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].

أَمَّا بَعْدُ:

((الْأَمَانَةُ فِي الْعَمَلِ))

إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَدْ أَمَرَ بِأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ إِلَى أَرْبَابِهَا وَأَصْحَابِهَا، وَبَيَّنَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّهُ عَرَضَ الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ، فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا، وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا، وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ.

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ)) .

وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ -كَمَا فِي حَدِيثِ الْخَرَائِطِيِّ فِي ((مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ)) بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، كَمَا فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ))-، قَالَ: ((أَوَّلُ مَا يُرْفَعُ مِنْ دِينِكُمُ الْأَمَانَةُ، وَآخِرُهُ الصَّلَاةُ)) .

فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ -كَمَا بَيَّنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ- عِظَمَ شَأْنِ الْأَمَانَةِ، وَجَعَلَ الْخِيَانَةَ مِنْ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي صِفَاتِ الْمُنَافِقِ: ((وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ)) .

فَالْخِيَانَةُ لَيْسَتْ مِنْ صِفَاتِ الْمُخْلِصِ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ صِفَاتِ الْمُنَافِقِ ((وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ))، وَهِيَ مِنْ أَخَسِّ وَأَحْقَرِ الصِّفَاتِ؛ خَاصَّةً إِذَا كَانَتْ فِي مَقَامِ الِائْتِمَانِ.

فَإِذَا ائْتَمَنَكَ إِنْسَانٌ فَكُنْتَ لَدَيْهِ أَمِينًا، فَائْتَمَنَكَ عَلَى أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ مِنْ عَمَلٍ أَوْ قَوْلٍ؛ ثُمَّ خُنْتَهُ -أَيْ: خَانَهُ الْأَبْعَدُ-؛ فَالْخِيَانَةُ فِي مَقَامِ الِائْتِمَانِ مِنْ أَخَسِّ وَأَحْقَرِ مَا يَكُونُ؛ لِذَلِكَ هِيَ مِنْ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ.

فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَمَرَ بِأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ، وَأَدَاءُ الْأَمَانَاتِ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ شَيْءٍ فِي الْحَيَاةِ، فَالْعِبَادَاتُ أَمَانَةٌ، وَالْخِيَانَةُ فِيهَا أَنْ تُنْتَقَصَ، فَإِذَا انْتَقَصَ الْإِنْسَانُ مِنَ الْعِبَادَةِ فَهُوَ خَائِنٌ.

وَالْمُعَامَلَاتُ أَمَانَةٌ، وَمَا يُسْتَأْمَنُ عَلَيْهِ الْمَرْءُ أَمَانَةٌ، وَالسِّرُّ أَمَانَةٌ، وَكُلُّ أَمْرٍ تَعَلَّقَ بِهِ أَمْرٌ وَنَهْيٌ فِي دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَهُوَ أَمَانَةٌ، وَالْخِيَانَةُ فِيهِ أَلَّا يُؤْتَى بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ الْمَطْلُوبِ.

فَإِذَا كَانَ إِنْسَانٌ فِي عَمَلٍ، فَالْعَمَلُ الَّذِي اسْتُؤْمِنَ عَلَيْهِ أَمَانَةٌ، فَإِذَا خَانَ فِيهِ فَهُوَ خَائِنٌ، وَجَزَاءُ الْخَائِنِ مَعْلُومٌ.

«حَثُّ اللهِ عَلَى العَمَلِ وَتَعْمِيرِ الْأَرْضِ فِي الْقُرْآنِ»

*حَثَّ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ فِي كِتَابِهِ عَلَى العَمَلِ وَطَلَبِ الرِّزْقِ بِأَنَاةٍ وَرِفْقٍ، مَعَ صَبْرٍ وَكَدْحٍ:

قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ} [الجمعة: ١٠]. يَعْنِي: فَإِذَا فُرِغَ مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، فَتَفَرَّقُوا فِي الْأَرْضِ لِلتِّجَارَةِ وَالتَّصَرُّفِ فِي حَوَائِجِكُمْ وَمَطَالِبِ حَيَاتِكُمْ، وَمَصَالِحِ دُنْيَاكُم، وَاطْلُبُوا رِزْقَ اللهِ بِأَنَاةٍ وَرِفْقٍ، مَعَ صَبْرٍ وَكَدْحٍ، وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا فِي جَمِيعِ أَحْوَالِكُمْ رَغْبَةً فِي الْفَوْزِ بِخَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

*وَجَعَلَ اللهُ الْأَرْضَ مُنْقَادَةً لِلْبَشَرِ، وَسَخَّرَ لَهُمُ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُخْتَلِفَةَ؛ مِنْ أَجْلِ حِرَاثَةِ الْأَرْضِ وَزِرَاعَتِهَا وَتَعْمِيرِهَا، وَمِنْ أَجْلِ تَرْقِيَةِ الْحَيَاةِ: قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15].

اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مُنْقَادَةً سَهْلَةً مُطَوَّعَةً، تَحْرُثُونَهَا وَتَزْرَعُونَهَا، وَتَسْتَخْرِجُونَ كُنُوزَهَا، وَتَنْتَفِعُونَ مِنْ طَاقَاتِهَا وَخَصَائِصِ عَنَاصِرِهَا، فَامْشُوا فِي جَوَانِبِهَا وَأَطْرَافِهَا وَنَوَاحِيهَا مَشْيًا رَفِيقًا لِتَحْصِيلِ مَطَالِبِ الْحَيَاةِ، وَكُلُوا مِمَّا خَلَقَهُ اللهُ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ، وَاكْتَسِبُوا الرِّزْقَ مِمَّا أَحَلَّ اللهُ تَعَالَى لَكُمْ، وَتَذَكَّرُوا يَوْمَ الْحِسَابِ، وَإِلَيْهِ وَحْدَهُ تُبْعَثُونَ مِنْ قُبُورِكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْحِسَابِ وَفَصْلِ الْقَضَاءِ وَتَنْفِيذِ الْجَزَاءِ.

وَقَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33)} [إبراهيم: 32-33].

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّحَابِ مَاءً، فَأَخْرَجَ بِذَلِكَ الْمَاءِ الْمُخْتَلِطِ بِتُرَابِ الْأَرْضِ، أَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ، وَذَلَّلَ لَكُمُ السُّفُنَ الْجَارِيَةَ عَلَى الْمَاءِ وَفْقِ نِظَامِ الْطَفْوِ الَّذِي قَدَّرَهُ اللهُ فِي كَوْنِهِ؛ لِأَجْلِ الِانْتِفَاعِ بِهَا فِي جَلْبِ الرِّزْقِ مِنْ بَلَدٍ لِآخَرَ، وَذَلَّلَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ تَشْرَبُونَ مِنْهَا وَتَسْقُونَ زَرْعَكُمْ، وَأَشْجَارَكُمْ، وَأَنْعَامَكُمْ، وَدَوَابَّكُمْ، وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ أُخْرَى.

وَذَلَّلَ اللهُ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ تَجْرِيَانِ دَائِمًا فِيمَا يَعُودُ إِلَى مَصَالِحِ الْعِبَادِ، لَا يَفْتُرَانِ عَنْ حَرَكَتِهِمَا مِنَ انْقِضَاءِ عُمُرِ الدُّنْيَا وَذَهَابِهَا، وَذَلَّلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ يَتَعَاقَبَانِ فِي الظُّلْمَةِ وَالضِّيَاءِ، وَالنُّقْصَانِ وَالزِّيَادَةِ، تَسْكُنُوا فِي اللَّيْلِ وَتَسْتَرِيحُوا، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ فِي النَّهَارِ وَتُدَبِّرُوا مَعَايَشَكُمْ.

*وَأَمَرَ اللهُ الْإِنْسَانَ بِأَنْ يَشْغَلَ نَفْسَهُ بِمَطَالِبِ دُنْيَاهُ بِالْعَمَلِ وَالْجِدِّ، أَوْ مَطَالِبِ آخِرَتِهِ بِالتَّقْوَى وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ: قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: ٧-٨].

فَإِذَا فَرَغْتَ مِنْ عَمَلٍ نَافِعٍ مُفِيدٍ يُقَرِّبُكَ إِلَى اللهِ؛ فَاجْتَهِدْ فِي عَمَلٍ نَافِعٍ جَدِيدٍ، وَأَتْعِب نَفْسَكَ فِيهِ، وَلَا تُخْلِ وَقْتًا مِنْ أَوْقَاتِكَ فَارِغًا، وَلَا تَرْكَنْ إِلَى الرَّاحَةِ وَالدَّعَةِ، وَإِلَى رَبِّكَ وَحْدَهُ فَتَضَرَّعْ، وَاجْعَلْ رَغْبَتَكَ إِلَى اللهِ تَعَالَى فِي جَمِيعِ مَطَالِبِ دُنْيَاكَ وَآخِرَتِكَ، وَتَرَفَّع عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ، فَهُوَ وَحْدَهُ الْقَادِرُ عَلَى إِجَابَتِكَ وَإِسْعَافِكَ.

*وَمَنْ تَأَمَّلَ فِي خَلْقِ اللهِ لِمَخْلُوقَاتِهِ فِي أَرْضِهِ، وَتَسْخِيرِهَا لِلْإِنْسَانِ، يَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الصِّنَاعَاتِ الْحَدِيثَةِ قَامَتْ بِسَبَبِ هَذَا التَّسْخِيرِ وَالتَّذْلِيلِ: قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)} [النحل: 80-81].

اللهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الَّتِي هِيَ مِنَ الْحَجَرِ رَاحَةً وَاسْتِقْرَارًا وَمَسْكَنًا تَسْكُنُونَهُ وَأَنْتُمْ مُقِيمُونَ فِي الْحَضَرِ، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ -وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ- خِيَامًا يَخِفُّ عَلَيْكُمْ حَمْلُهَا فِي يَوْمِ سَيْرِكُمْ وَرَحِيلِكُمْ فِي أَسْفَارِكُمْ، وَتَخِفُّ عَلَيْكُمْ -أَيْضًا- فِي إِقَامَتِكُمْ وَحَضَرِكُمْ، وَلَا تَثْقُلُ عَلَيْكُمْ فِي الْحَالَيْنِ.

وَتَتَّخِذُونَ مِنْ أَصْوَافِ الضَّأْنِ وَأَوْبَارِ الْإِبِلِ وَأَشْعَارِ الْمَعْزِ أَثَاثًا لِبُيُوتِكُمْ مِنَ الْفُرُشِ وَالْأَكْسِيَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَبَلَاغًا تَتَمَتَّعُونَ بِهِ إِلَى حِينِ الْمَوْتِ.

اسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى طَهَارَةِ جُلُودِ الْأَنْعَامِ الَّتِي حَلَّ أَكْلُهَا، وَطَهَارَةِ أَصْوَافِهَا وَأَوَبْارِهَا وَأَشْعَارِهَا إِذَا جُزَّ فِي الْحَيَاةِ، وَكَذَلِكَ جِلْدُ الْمَيْتَةِ مِنَ الْأَنْعَامِ إِذَا دُبِغَ.

وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ ظِلَالِ الْأَبْنِيَةِ وَالْجُدْرَانِ وَالْأَشْجَارِ مَا تَسْتَظِلُّونَ بِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِدَارِ مَا تَسْتَكِنُّونَ فِيهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، كَالْأَسْرَابِ وَالْمَغَارَاتِ وَالْكُهُوفِ وَنَحْوِهَا، وَجَعَلَ لَكُمْ قُمُصًا وَثِيَابًا مِنَ الْقُطْنِ وَالصُّوفِ وَالْكَتَّانِ وَنَحْوِ ذَلِكِ، تَمْنَعُكُمْ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَدُرُوعًا تَقِيكُمْ فِي الْحَرْبِ بَأْسَ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ، وَلَا تَصِلُ السُّيُوفُ وَالرِّمَاحُ إِلَى جَسَدِ مِنْ يُضْرَبُ بِشَيْءٍ مِنْهَا.

كَذَلِكَ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ لَكُمْ فِيمَا مَضَى، سَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ؛  فَيُمَكِّنُكُمْ مِنْ صُنْعِ أَشْيَاءَ لَا حَصَرَ لَهَا فِي الْعُصُورِ الْقَادِمَةِ بَعْدَ عَصْرِ التَّنْزِيلِ، مِمَّا تَوَصَّلَ إِلَيْهِ النَّاسُ مِنْ صِنَاعَاتٍ مُذْهِلَةٍ بِإِلْهَامِ اللهِ لَهُمْ؛ رَغْبَةً فِي أَنْ تُؤْمِنُوا بِالْحَقِّ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللهُ لَكُمْ فِي كِتَابِهِ، وَفِي أَنْ تُسْلِمُوا مُنْقَادِينَ لَهُ فِي شَرَائِعِهِ وَأَحْكَامِهِ.

إِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ يَأْمُرُنَا بِأَنْ نَعْبُدَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَأَنْ نَجْتَهِدَ فِي النَّظَرِ فِي الْآفَاقِ وَفِي الْأَنْفُسِ وَفِيمَا بَثَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي تَضَاعِيفِ هَذَا الْكَوْنِ مِنَ الْآيَاتِ؛ لِكَيْ نَضَعَ أَيْدِيَنَا عَلَى الْأَسْرَارِ الَّتِي تَرْتَقِي بِهَا الْحَيَاةُ.

فَجَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كُلَّ مَا يُؤَدِّي إِلَى تَرْقِيَةِ الْإِنْسَانِ فِيمَا هُوَ مَخْلُوقٌ لَهُ، جَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ عِبَادَةً للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

فَهَذَا الدِّينُ الْعَظِيمُ هُوَ دِينُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الَّذِي أَكْمَلَهُ وَرَضِيَهُ لِخَلْقِهِ فِي أَرْضِهِ، وَهُوَ يَحْمِلُ فِي آيَاتِهِ وَتَضَاعِيفِهِ الْبَرَاهِينَ الدَّالَّةَ عَلَى صِدْقِ مِنْ أَتَى بِهِ مِنْ لَدُنْ رَبِّهِ.

قَالَ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25].

أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أَرْسَلَ الرُّسُلَ لِهِدَايَةِ الْخَلْقِ، وَأَيَّدَهُمْ بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ الْمُبَيِّنَةِ لِلْحَقَائِقِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِمْ وَحَقِيقَةِ مَا جَاؤُوا بِهِ، وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ الَّذِي فِيهِ الْهُدَى وَالرَّحْمَةُ، وَأَنْزَلَ مَعَهُمْ أَيْضًا الْمِيزَانَ الَّذِي هُوَ الْعَدْلُ وَمَا يُعْرَفُ بِهِ الْعَدْلُ مِنْ أُصُولِ الْعَدْلِ وَفُرُوعِهِ، وَذَلِكَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ إِذَا عَمِلُوا بِهَا فِي عَقَائِدِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَسُلُوكِهِمْ وَجَمِيعِ أُمُورِهِمْ.

فَمَتَى عَمِلُوا بِمَا أَنْزَلَهُ اللهُ مِنَ الْكِتَابِ وَالْمِيزَانِ صَلَحَتْ مِنْهُمْ هَذِهِ الْأُمُورِ وَاسْتَقَامَتْ أَحْوَالُهُمْ.

وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أَنْزَلَ الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ، فَخَصَّ مَنَافِعَهُ فِي أُمُورِ الْحَرْبِ، ثُمَّ عَمَّمَهَا فِي سَائِرِ الْأُمُورِ، فَالْحَدِيدُ أَنْزَلَهُ اللهُ لِهَذِهِ الْمَنَافِعِ الضَّرُورِيَّةِ وَالْكَمَالِيَّةِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ.

فَجَمِيعُ الْأَشْيَاءِ إِلَّا النَّادِرَ مِنْهَا تَحْتَاجُ إِلَى الْحَدِيدِ، وَقَدْ سَاقَهَا اللهُ فِي سِيَاقِ الِامْتِنَانِ عَلَى الْعِبَادِ بِهَا، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ؛ الْأَمْرُ بِاسْتِخْرَاجِ هَذِهِ الْمَنَافِعِ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي تَعَلُّمَ الْفُنُونِ الْعَسْكَرِيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ وَصِنَاعَةِ الْأَسْلِحَةِ وَتَوَابِعِهَا، وَالْمَرَاكِبِ الْبَحْرِيَّةِ وَالْبَرِيَّةِ وَالْهَوَائِيَّةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَنْتَفِعُ بِهِ الْعِبَادُ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60].

«حَثُّ النَّبِيِّ عَلَى العَمَلِ وَتَعْمِيرِ الْأَرْضِ فِي سُنَّتِهِ»

عِبَادَ اللهِ! النَّبِيُّ ﷺ حَثَّ عَلَى الْعَمَلِ، وَإِعْمَارِ الْأَرْضِ إِلَى آخِرِ لَحْظَةٍ فِي الْحَيَاةِ: فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا»(). وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ.

وَ«فَسِيلَةٌ»: هِيَ النَّخْلَةُ الصَّغِيرَةُ.

هَذَا فِيهِ مُبَالَغَةٌ فِي الْحَثِّ عَلَى غَرْسِ الْأَشْجَارِ وَحَفْرِ الْأَنْهَارِ؛ لِتَبْقَى هَذِهِ الدَّارُ عَامِرَةً إِلَى آخِرِ أَمَدِهَا الْمَحْدُودِ الْمَعْلُومِ عِنْدَ خَالِقِهَا، فَكَمَا غَرَسَ لَكَ غَيْرُكَ؛ فَانْتَفَعْتَ بِهِ، فَاغْرِسْ أَنْتَ لِمَنْ يَجِيءُ بَعْدَكَ؛ لِيَنْتَفِعَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا صُبَابَةٌ، وَذَلِكَ بِهَذَا الْقَصْدِ لَا يُنَافِي الزُّهْدَ وَالتَّقَلُّلَ مِنَ الدُّنْيَا.

وَالنَّبِيُّ ﷺ ذَكَرَ أَحَادِيثَ فِي اسْتِثْمَارِ الْأَرْضِ وَزَرْعِهَا، وَالْحَثِّ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا أَدَلَّ عَلَى الْحَضِّ عَلَى الِاسْتِثْمَارِ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْكَرِيمَةِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي مَعَنَا؛ فَإِنَّ فِيهِ تَرْغِيبًا عَظِيمًا عَلَى اغْتِنَامِ آخِرِ فُرْصَةٍ مِنَ الْحَيَاةِ فِي سَبِيلِ زَرْعِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَيُجْرَى لَهُ أَجْرُهُ، وَتُكْتَبُ لَهُ صَدَقَتُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

قَوْلُهُ: «فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا»: وَهَذَا -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ- يَتَطَلَّبُ زَمَانًا مَمْدُودًا؛ لِكَيْ يَتَحَصَّلَ الْمَرْءُ عَلَى نَتِيجَتِهِ وعَائِدِهِ؛ لِأَنَّ النَّخْلَةَ يَسْتَمِرُّ نُمُوُّهَا حَتَّى إِثْمَارِهَا سَنَواتٍ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا».

مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا يَقِينًا حِينَئِذٍ، وَلَكِنَّهُ ﷺ يَحُثُّ عَلَى غَرْسِ الْأَشْجَارِ وَحَفْرِ الْأَنْهَارِ، وَعَلى الْعَمَلِ الصَّالِحِ النَّافِعِ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ، وَإِنْ ظَهَرَتْ نَتَائِجُهُ وَعَوَاقِبُهُ عَلَى الْمَدَى الْبَعِيدِ، وَكَانَتْ نَتَائِجُهُ وَثِمَارُهُ بَطِيئَةً جِدًّا.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ: التَّرْغِيبُ الْعَظِيمُ عَلَى اغْتِنَامِ آخِرِ فُرْصَةٍ مِنَ الْحَيَاةِ فِي سَبِيلِ زَرْعِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَيُجْرَى لَهُ أَجْرُهُ وَتُكْتَبُ لَهُ صَدَقَتُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالْحَثُّ عَلَى الطَّاعَةِ إِلَى آخِرِ لَحْظَةٍ مِنَ الْحَيَاةِ.

*وَحَثَّ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى العَمَلِ، وَبَيَّنَ ﷺ الْأَجْرَ الْعَظِيمَ عَلَى نَفَقَةِ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِهِ: فَعَنِ الْمِقْدَامِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ((مَا أَطْعَمْتَ نَفْسَكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ، وَمَا أَطْعَمْتَ وَلَدَكَ وَزَوْجَتَكَ وَخَادِمَكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَأَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ فِي ((الْكُبْرَى))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)).

هَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى بَيَانِ شَيْءٍ مِنْ فَضَائِلِ الْإِسْلَامِ وَمَحَاسِنِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَا أَنْفَقْتَهُ عَلَى نَفْسِكَ مِنَ الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا تَنْتَفِعُ بِهِ؛ يَكُونُ لَكَ فِيهِ صَدَقَةٌ، وَهَكَذَا مَا أَنْفَقْتَهُ عَلَى مَنْ تَحْتَ يَدِكَ مِنْ زَوْجَةٍ، وَابْنٍ، وَخَادِمٍ وَمَمْلُوكٍ لَكَ فِيهِ صَدَقَاتٌ، وَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَى النِّيَّة.

إِنَّ مَا أَنْفَقْتَهُ عَلَى نَفْسِكَ -أَيُّهَا الْمُسْلِمُ-، وَعَلَى أَهْلِكَ وَعَلَى مَمْلُوكِكَ، وَعَلَى الْأَجِيرِ الْخَادِمِ، وَالْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ صَدَقَةٌ، كلُّ مَا أَنْفَقْتَهُ فَلَكَ فِيهِ صَدَقَاتٌ.

وَهَذَا مِنْ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ وَفَضَائِلِهِ، وَمِنْ رَحْمَةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالْمُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ، وَيَحْتَاجُ هَذَا إِلَى النِّيَّةِ، أَيْ: أَنْ تَنْوِيَهُ نِيَّةً عَامَّةً فِي كُلِّ مَا أَنْفَقْتَ مِنْ مَالِكَ فِي وُجُوهِ الْحَلَالِ؛ وَمِنْ ذَلِكَ: الْمَطْعَمُ وَالْمَشْرَبُ، وَالْمَسْكَنُ وَالْمَرْكَبُ تَحْتَسِبُهُ فَلَكَ فِيهِ صَدَقَاتٌ جَارِيَةٌ.

وَهَكَذَا إِذَا قَدَّمْتَ إِحْسَانًا تَحْتَسِبُ فِيهِ الْأَجْرَ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَفِي الْحَدِيثِ: ((لَا أَجْرَ إِلَّا عَن حِسْبَةٍ)) -صَحَّحَهُ لِغَيْرِهِ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((الصَّحِيحَةِ))-؛ أَيْ: لِمَنْ يَحْتَسِبُ، وَهُوَ بِمَعْنَى حَدِيثِ: ((إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ))؛ أَيْ: تَنْوِي إِذَا قُدِّمَ لَكَ الطَّعَامُ مِنْ حَلَالٍ أَنْ تَنْوِيَ فِي هَذَا الطَّعَامِ أَنَّكَ تُحْسِنُ بِهِ إِلَى نَفْسِكَ، وَتَتَقَوَّى بِهِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ وَقَضَاءِ حَاجَاتِكَ الْمُبَاحَةِ وَالشَّرْعِيَّةِ؛ فَيَكُونُ لَكَ فِي هَذَا الطَّعَامِ أَجْرٌ.

 وَهَذَا تَكَرُّمٌ مِنَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَإِحْسَانٌ وَإِفْضَالٌ، وَهَكَذَا كُلُّ مَنْ أَكَلَ مِنْ مَائِدَتِكَ، وَكُلُّ مَنْ شَرِبَ مِمَّا كَسَبَتْ يَدُكَ لَكَ فِيهِ أَجْرٌ.

وَهَذَا جَاءَ مُوَضَّحًا فِي الْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، وَهُوَ رَحْمَةٌ مِنَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهَذَا الْمُسْلِمِ الضَّعِيفِ، وَأَنَّ هَذَا الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى لَا يَضِيعُ مِنْ عَمَلِهِ شَيْءٌ أَبَدًا، حَتَّى هَذَا الشَّيْءُ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ وَيَحْفَظُ صِحَّتَهُ وَبِنْيَتَهُ، وَيَحْفَظُ وَلَدَهُ لَهُ فِيهِ الْأُجُورُ الْمُضَاعَفَةُ؛ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِئَةِ ضِعْفٍ.

((التَّوَكُّلُ وَالْأَخْذُ بِالْأَسْبَابِ فِي الْعَمَلِ))

*النَّبِيُّ ﷺ بَيَّنَ لِلْأُمَّةِ ضَرُورَةَ الْعَمَلِ، عَامِلِينَ بِقَاعِدَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ؛ هُمَا: التَّوَكُّلُ عَلَى اللهِ وَالْأَخْذُ بِالْأَسْبَابِ: فَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِيمَا أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: «أَمَا إِنَّكُمْ لَوْ تَوَكَّلْتُم عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرَزَقَكُمُ اللَّهُ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا، وَتَعُودُ بِطَانًا».

فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَاعِدَتَيْنِ كَبِيرَتَيْنِ فِي أَصْلِ هَذَا الدِّينِ:

*الْأُولَى: هِيَ قَاعِدَةُ التَّوَكُّلِ.

*وَالثَّانِيَةُ: قَاعِدَةُ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ.

وَالْحَدِيثُ يُفْهَمُ فَهْمًا مَضْبُوطًا، وَلَا عُذْرَ لِأَحَدٍ فِي فَهْمِهِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ الْمَغْلُوطِ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ بِنَفْسِهِ فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ، فَإِنَّ الطَّيْرَ فِي الْوُكُنَاتِ وَفِي الْأَعْشَاشِ لَا تَبْقَى فِي أَعْشَاشِهَا، وَإِنَّمَا تُبَكِّرُ فِي الذَّهَابِ لِالْتِقَاطِ رِزْقِهَا.

يَقُولُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَوْ تَوَكَّلْتُم عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرَزَقَكُمُ اللَّهُ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو...»: وَالْغُدُوُّ: هُوَ الْخُرُوجُ فِي بُكْرَةِ النَّهَارِ، فَتَغْدُو هَذِهِ الطُّيُورُ مِنْ أَعْشَاشِهَا وَوُكُنَاتِهَا مِنْ أَجْلِ الْتِقَاطِ رِزقِهَا، مُبَكِّرَةً مَعَ خُيُوطِ الْفَجْرِ الْأَوَّلِ، سَاعِيَةً فِي أَرْضِ اللهِ، لَكِنَّهَا لَا تَحْمَلُ لِرِزْقِهَا هَمًّا، وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَرْزُقُهَا كَمَا رَزَقَهَا الْحَيَاةَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْيَا أَحَدٌ مِنْ غَيْرِ رِزْقٍ.

وَالْحَيَاةُ وَالْأَجَلُ يَرْتَبِطَانِ بِالرِّزْقِ ارْتِبَاطًا مُبَاشَرًا، بِحَيْثُ إِنَّهُ لَا يَحْيَا كَائِنٌ حَيٌّ بِغَيْرِ رِزْقٍ، يَقُولُ النَّاسُ: «فُلَانٌ حَيٌّ يُرْزَقُ»، وَلَنْ تَجِدَ أَبَدًا أَنَّ فُلَانًا حَيٌّ لَا يُرْزَقُ، فَارْتِبَاطُ الْأَجَلِ بِالرِّزْقِ أَمْرٌ حَتْمِيٌّ بِصَيْرُورَةٍ تَمْضِي إِلَى الْمَوْتِ، وَحِينَئِذٍ لَا أَجَلَ وَلَا رِزْق.

فَالنَّبِيُّ ﷺ يُبَيِّنُ لَنَا أَنَّ الطُّيُورَ تَغْدُو مُبَكِّرَةً مِنْ أَعْشَاشِهَا، تَطْلُبُ رِزْقَهَا، تَلْتَقِطُهُ فِي جَنَبَاتِ الْأَرْضِ، لَا تَحْمِلُ لَهُ هَمَّا، «خِمَاصًا»: جَمْعُ أَخْمَصٍ، وَهَذَهِ الْحَوَاصِلُ الْخُمْصُ قَدْ الْتَزَقَتْ لُحُومُهَا بِبَعْضِهَا، بِحَيْثُ إِنَّهَا لَا تَحْوِي شَيْئًا، «تَغْدُو خِمَاصًا، وَتَعُودُ بِطَانًا»: وَقَدْ امْتَلَأَتْ بُطُونُهَا وَحَوَاصِلُهَا، مِنْ أَيْنَ؟!!

مِنْ رِزْقِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

هَلْ قَدَّرَتْ لِذَلِكَ تَقْدِيرًا؟!!

هَلْ وَضَعَتْ لَهُ خُطَّةً لِلْعَمَلِ مِنْ أَجْلِ اكْتِسَابِهِ؟!!

إِنَّمَا أَخَذَتْ بِالْأَسْبَابِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ مَعَ التَّوَكُّلِ عَلَى رَبِّ الْأَسْبَابِ، بِحَيْثُ إِنَّ الْإِنْسَانَ يَخْرُجُ مِنْ قَيْدِ الرُّبُوبِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِيهِ مَدْخَلٌ، وَيَدْخُلُ فِي أَسْرِ الْعُبُودِيَّةِ، فَهَذَا هُوَ التَّوَكُّلُ، أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ الرُّبُوبِيَّةِ، لَا يَدَّعِي رِزْقًا، وَلَا يَدَّعِي حَوْلًا وَلَا حِيلَةً؛ لِأَنَّ اللهَ هُوَ خَالِقُهُ وَهُوَ رَازِقُهُ، وَهُوَ مَالِكُ أَمْرِهِ، وَنَاصِيتُهُ بِيَدِهِ.

وَهُوَ يَفْعَلُ بِهِ مَا يَشَاءُ عَلَى مُقْتَضَى حِكْمَتِهِ، وَلَا رَادَّ لِقَضَائِهِ فِيهِ، وَلَا رَادَّ لِحُكْمِهِ فِيهِ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ بِمَا يُرِيدُ، وَأَمَّا الْأَخْذُ بِالْأَسْبَابِ فَهَذَا مَوْكُولٌ إِلَى الْعَبْدِ، وَلَا يُعَوِّلُ الْمَرْءُ عَلَى السَّبَبِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَأْخُذُونَ كَثِيرًا بِالْأَسْبَابِ وَلَا يُحَصِّلُونَ شَيْئًا مِنَ النَّتَائِجِ.

وَلِنَعْلَمْ جَمِيعًا أَنَّ هَذَا الْكَوْنَ عَامِرٌ بِالْكَائِنَاتِ الَّتِي لَا يُحْصِيهَا إِلَّا اللهُ، وَكُلُّهَا مَرْزُوقٌ مِنْ رِزْقِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَهُوَ أَمْرٌ عِنْدَمَا يَتَأَمَّلُ الْمَرْءُ فِيهِ يَكَادُ عَقْلُهُ يَذْهَبُ مِنْهُ، فَعَلَيْكَ أَنْ تَتَصَوَّرَ -مَثَلًا- وَأَنْ تَعْلَمَ أَنَّ الْكَائِنَاتِ الْبَحْرِيَّةَ الَّتِي تَحْيَا فِي الْبِحَارِ وَالْمُحِيطَاتِ هِيَ أَكْثَرُ عَدَدًا مِنَ الْكَائِنَاتِ الْبَرِّيَّةِ بِمَا لَا يُقَاسُ، وَكُلُّهَا مَرْزُوقَةٌ، وَلِكُلٍّ مِنْهَا دَوْرَةُ حَيَاةٍ، تُولَدُ بِالْمِيلَادِ الَّذِي قَدَّرَهُ اللهُ، ثُمَّ تَمْضِي فِي حَيَاتِهَا بِرِزْقٍ مِنْ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ أَوْ تَغْذِيَةٍ أَوْ نَفَسٍ أَوْ إِخْرَاجٍ، تَتَكَاثَرُ أَوْ لَا تَتَكَاثَرُ، ثُمَّ يَنْتَهِي أَجَلُهَا عِنْدَ حَدٍّ حَدَّدَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَمَسَارِبُهَا فِي الْحَيَاةِ مَحْسُوبَةٌ.

*وَتَأَمَّلْ فِي رِزْقِ النَّمْلِ، وَهُوَ مِثَالٌ عَجِيبٌ!!

هَذَا النَّمْلُ الَّذِي تَرَاهُ مِنْ كَبِيرٍ وَصَغِيرٍ كُلُّهُ مَخْلُوقٌ بِخَلْقِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- وَبِقُدْرَتِهِ، بَدَأَ بِبِدَايَةٍ مُعَيَّنَةٍ -بِدَايَةِ الْخَلْقِ لَهُ- بِكُلِّ نَمْلَةٍ نَمْلَةٍ، مِمَّا لَا يُحْصِيهِ إِلَّا اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-، ثُمَّ تَمْضِي فِي حَيَاتِهَا مَرْزُوقَةً بِرِزْقِهَا، فَتَنْمُو شَيْئًا فَشَيْئًا، تَتَكَاثَرُ أَوْ لَا تَتَكَاثَرُ، ثُمَّ إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا انْتَهَى عُمُرُهَا.

«احْذَرْ مِنَ الْبَطَالَةِ وَمِنَ الْفَارِغِينَ!!»

عِبَادَ اللهِ! إنَّ الْجُنْدِيَّ الَّذِي يُعَانِي مِنَ الْبَطَالَةِ يُجِيدُ الْمُشَاغَبَاتِ!!

وَالنَّبِيُّ ﷺ كَانَ يَجْعَلُ أَصْحَابَهُ عَلَى المَحَكِّ الْعَمَلِيِّ قَائِمِينَ.

وَكَانَ مِنْ سَلَفِنَا الصَّالِحِينَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الرَّاسِخِينَ مَنْ إِذَا اشْتَغَلَ بِبَرْيِ قَلَمٍ؛ تَمْتَمَتْ شَفَتَاهُ بِذِكْرِ اللهِ، فَلَا يُضَيِّعُ الْوَقْتَ بَيْنَ انْقِطَاعِهِ عَنِ الْكِتَابَةِ وَالتَّحْرِيرِ وَبَرْيِ قَلَمِهِ اسْتِعْدَادًا لِكِتَابَةٍ جَدِيدَةٍ.

كَانُوا كَذَلِكَ يَصْنَعُونَ، بَلْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يُعِدُّ لِلْبَطَّالِينَ -الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَزُورُونَ إِخْوَانَهُمْ فِي اللهِ مَحَبَّةً فِيهِ، وَهُمْ إِنَّمَا يَقْطَعُونَ أَوْقَاتَ الْفَرَاغِ عَنْ حَقِيقَةِ مَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ فِيهِ.

هُمْ مِنَ الْبَطَّالِينَ الْفَارِغِينَ، يَزُورُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ أَخَاهُ لِيُضَيِّعَ عَلَيْهِ رَأْسَ الْمَالِ فِي الْحَيَاةِ مِنْ غَيْرِ مَا فَائِدَةٍ وَلَا عَائِدَةٍ، بَلْ يُوَرِّطُهُ فِي كَذِبٍ وَغِيبَةٍ وَتَقْطِيعٍ لِأَرْحَامٍ وَمَا أَشْبَهَ.

وَكُنْ مِنَ النَّاسِ عَلَى حَذَرٍ، وَكُنْ مِنْ أَهْلِ زَمَانِكَ خَاصَّةً عَلَى حَذَرٍ، احْذَرْهُمْ وَلَا تُخَوِّنْهُمْ، وَلَكِنْ كُنْ مِنْهُمْ عَلَى حَذَرٍ، فَقَلَّ مَنْ يُرِيدُ لَكَ الْخَيْرَ، وَيَحْرِصُ عَلَيْكَ، وَيَرْجُو لَكَ النَّفْعَ وَيُقَدِّمُهُ لَكَ.

اتَّقِهِمْ مَا شِئْتَ وَمَا اسْتَطَعْتَ، وَلَا تُضَيِّعْ حُقُوقَهُمْ عَلَيْكَ، عَلِّمْهُمْ إِنْ كُنْتَ عَالِمًا، وَادْعُهُمْ إِنْ كُنْتَ دَاعِيًا، وَأَعْطِهِمْ إِنْ كُنْتَ وَاجِدًا، وَانْصَحْهَمْ إِنْ كُنْتَ بِالْمَعْرُوفِ آمِرًا، وَازْجُرْهُمْ عَنِ الْبَاطِلِ إِنْ كُنْتَ عَنِ الْمُنْكَرِ نَاهِيًا، وَقَدِّمْ لَهُمُ الْخَيْرَ مَا اسْتَطَعْتَ، وَكُنْ مِنْهُمُ عَلَى حَذَرٍ-.
كَانَ بَعْضُ سَلَفِنَا مِنْ عُلَمَائِنَا -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ- يُعِدُّ لِلْبَطَّالِينَ الْفَارِغِينَ -الْمُبَدِّدِينَ لِلْأَوْقَاتِ إِذَا مَا زَارَهُ الْوَرَقَ- لِيُقَطِّعَهُ بِسِكِّينِ الْوَرَقِ وَالْأَقْلَامَ لِيَبْرِيَهَا لَهُ وَالْمِدَادَ لِيُعِدَّهُ لَهُ؛ فَيُشَغِّلُهُ فِي آلَةِ الْعِلْمِ، وَهِيَ تَسْتَغْرِقُ مِنْ زَمَانِهِ زَمَانًا؛ فَيَكُونُ قَدْ رَبِحَ زَمَانَهُ وَزَمَانَ زَائِرِهِ، حَتَّى لَاَ يَتَبَدَّدَ فِي غَيْرِ طَائِلٍ، وَحَتَّى لَا يَعُودَ عَلَيْهِ بِالْخُسْرَانِ -خُسْرَانِ الْمَآلِ وَالْحَالِ-.

 ((حَضُّ الْإِسْلَامِ عَلَى التَّرَقِّي فِي الْعُلُومِ وَالصِّنَاعَاتِ))

عِبَادَ اللهِ! دِينُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ يَحُضُّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى التَّرَقِّي فِي الْعُلُومِ، وَفِي النَّظَرِ فِي آفَاقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَعَلَى النَّظَرِ فِي الْأَنْفُسِ، بَلْ وَعَلَى النَّظَرِ فِيمَا تَحْتَ الثَّرَى، وَهُوَ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ مَنْ وَصَلَ مِمَّنْ نَظَرُوا فِي أَمْثَالِ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي حَدَّدَهُ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، وَهُوَ مَا تَحْتَ الثَّرَى، فَاسْتَخْرَجُوا الْمَعَادِنَ، وَاسْتَخْرَجُوا تِلْكَ الْمَادَّةَ الَّتِي صَارَتْ طَاقَةً لَا يَسْتَغْنِي عَنْهَا الْعَالَمُ الْيَوْمَ.

وَكُلُّ ذَلِكَ أَشَارَ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ إِشَارَةً مُجْمَلَةً {وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} [طه: 6].

فَالْمُسْلِمُونَ لَمَّا أَخَذُوا بِتَعَالِيمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَقَدَّمُوا حَتَّى مَلَكُوا الْعَالَمَ الْقَدِيمَ كُلَّهُ.

قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فَهَذَا الدِّينُ الْإِسْلَامِيُّ يَحُثُّ عَلَى الرُّقِّيِّ الصَّحِيحِ وَالْقُوَّةِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، عَكْسَ مَا افْتَرَاهُ أَعْدَاؤُهُ أَنَّهُ -أَيْ: الْإِسْلَامُ- مُخَدِّرٌ مُفَتِّرٌ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ كَذِبَهُمْ وَافْتَرَاءَهُمْ عَنْهُ، وَلَكِنَّ الْمُبَاهَتَاتِ وَالْمُكَابَرَاتِ سَهَّلَتْ عَلَيْهِمْ، وَظَنُّوا مِنْ جَهْلِهِمْ أَنَّهَا تَرُوجُ عَلَى الْعُقَلَاءِ.

وَكُلُّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ كَذِبَهُمْ وَافْتَرَاءَهُمْ، وَإِنَّمَا يَغْتَرُّ بِهِمُ الْجَاهِلُونَ الضَّالُّونَ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ عَنِ الْإِسْلَامِ لَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا، بَلْ يُصَوِّرُ لَهُمْ هَؤَلَاءِ الْأَعْدَاءُ الْإِسْلَامَ بِصُوَرٍ شَنِيعَةٍ لِيُرَوِّجُوا مَا يَقُولُونَهُ مِنَ الْبَاطِلِ، وَإِلَّا فَمْنْ عَرَفَ الْإِسْلَامَ مَعْرِفَةً صَحِيحَةً عَرَفَ أَنَّهُ لَا تَسْتَقِيمُ أُمُورُ الْبَشَرِ دِينِهَا وَدُنْيَوِيِّهَا إِلَّا بِهِ، وَأَنَّ تَعَالِيمَهُ الْحَكِيمَةَ أَكْبَرُ بُرْهَانٍ عَلَى أَنَّهُ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ، عَالِمٍ بِالْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، رَحِيمٍ بِعِبَادِهِ، حَيْثُ شَرَعَ لَهُمْ هَذَا الدِّينَ)).

عِبَادَ اللهِ! فَلْيَجْتَهِدِ الرَّجُلُ مِنْكُمْ فِي أَدَاءِ عَمَلِهِ عَلَى النَّحْوِ الْمَرْضِيِّ، فَإِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ قَدْ جَعَلَ لِلنَّاسِ مَعَ النَّاسِ الْمَنَافِعَ الَّتِي لَا تُحْصَى وَلَا تُعَدُّ.

فَاللهَ اللهَ فِي أَنْفُسِكِمْ عِبَادَ اللهِ، أَدُّوا أَعْمَالَكُمْ عَلَى الْوَجْهِ الْمَرْضِيِّ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَّقُوا اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي دِينِهِمْ، وَفِي إِخْوَانِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي بَلَدِهِمْ، وَفِي مُسْتَقْبَلِ أَبْنَائِهِمْ وَحَفَدَتِهِمْ، عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَّقُوا اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ, صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَومِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((أَهَمِّيَّةُ التَّخْطِيطِ وَدَلَائِلُهُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ))

*فَالتَّخْطِيطُ الْمُسْتَقْبَلِيُّ لِلْأُمَّةِ يَكُونُ اقْتِصَادِيًّا مَالِيًّا، وَزِرَاعِيًّا، وَتَمْوِينِيًّا، وَعَسْكَرِيًّا حَرْبِيًّا.

وَمِنْ دَلَائِلِ التَّخْطِيطِ الِاقْتِصَادِيِّ، وَالزِّرَاعِيِّ، وَالتَّمْوِينِيِّ فِي كِتَابِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: قَوْلُ اللهِ تَعَالَى حِكَايَةً لِمَا حَدَثَ لِيُوسُفَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَعَ مَلِكِ مِصْرَ: {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)} [يوسف: 43-49].

وَقَالَ مَلِكُ مِصْرَ إِنِّي رَأَيْتُ فِي مَنَامِي سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ وَسَبْعَ بَقَرَاتٍ فِي غَايَةِ الْهُزَالِ، فَابْتَلَعَتِ الْعِجَافُ السِّمَانَ، وَدَخَلْنَ فِي بُطُونِهِنَّ، وَلَمْ يُرَ مِنْهُنَّ شَيْءٌ، وَلَمْ يَتَبَيِّنْ عَلَى الْهَزِيلَاتِ مِنْهَا شَيْءٌ، وَرَأَيْتُ سَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ قَدْ انْعَقَدَ حَبُّهَا، وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ أُخَرَ يَابِسَاتٍ قَدْ اسْتُحْصِدَتْ، فَالْتَوَتِ الْيَابِسَاتُ عَلَى الْخُضْرِ حَتَّى عَلَوْنَ عَلَيْهَا، وَلَمْ يَبْقَ مِنْ قُدْرَتِهَا شَيْءٌ.

يَا أَيُّهَا السَّادَةُ وَالْكُبَرَاءُ! يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ! أَخْبِرُونِي بِتَأْوِيلِ رُؤْيَايَ الْخَطِيرَةِ وَعَبِّرُوهَا لِي، وَاذْكُرُوا بُعْدَهَا الْوَاقِعِيَّ فِي هَذَا الْكَوْنِ، إِنْ كُنْتُمْ تُحْسِنُونَ عِلْمَ الْعِبَارَةِ وَتَفْسِيرِ رُمُوزِ الْأَحْلَامِ.

قَالَ الْمَلَأُ مِنَ السَّحَرَةِ وَالْكَهَنَةِ وَالْمُعَبِّرِينَ مُجِيبِينَ الْمَلِكَ: رُؤْيَاكَ هَذِهِ أَخْلَاطٌ مُشْتَبِهَةٌ، وَمَنَامَاتٌ مُتَدَاخِلَةٌ بَاطِلَةٌ، وَمَا نَحْنُ بِتَفْسِيرِ الْمَنَامَاتِ بِعَالِمِينَ.

وَقَالَ السَّاقِي الَّذِي نَجَا مِنَ الْقَتْلِ بَعْدَ هَلَاكِ صَاحِبِهِ الْخَبَّازِ، وَتَذَكَّرَ قَوْلَ يُوسُفَ بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ مِنَ الزَّمَنِ ((اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ))، قَالَ: أَنَا أُخْبِرُكُمْ بِتَأْوِيلِ هَذِهِ الرُّؤْيَا، إِذْ أَسْتَفْتِي فِيهَا السَّجِينَ الْعَبْرَانِيَّ الَّذِي كُنْتُ مُصَاحِبًا لَهُ فِي سِجْنِ رَئِيسِ الشُّرْطَةِ، فَأَرْسِلْنِي أَيُّهَا الْمَلِكُ إِلَى السِّجْنِ، فَفِيهِ رَجُلٌ عَالِمٌ يُعَبِّرُ الرُّؤْيَا، فَأَرْسَلَهُ، فَأَتَى السِّجْنَ.

فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ، قَالَ لَهُ: يَا يُوسُفَ، أَيُّهَا الْعَظِيمُ الصِّدْقِ فِي كَلَامِكَ وَتَأْوِيلِكَ وَسُلُوكِكَ وَتَصَرُّفَاتِكَ وَصُحْبَتِكَ، فَسِّرْ لَنَا رُؤْيَا مَا رَأَى، سَبْعُ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعُ بَقَرَاتٍ هَزِيلَاتٍ، وَرَأَى سَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ، فَإِنَّ الْمَلِكَ رَأَى هَذِهِ الرُّؤْيَا، لَعَلِّي أَرْجِعُ بِتَأْوِيلِ هَذِهِ الرُّؤْيَا إِلَى الْمَلِكِ وَجَمَاعَتِهِ، لِيَعْلَمُوا تَأْوِيلَ مَا سَأَلْتُكَ عَنْهُ، وَلْيَعْلَمُوا مَكَانَتَكَ وَفَضْلَكَ.

لَمْ يَشْتَرِطْ شَيْئًا، وَإِنَّمَا مَضَى فِي تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا، كَانَ مِنَ الْمُمْكِنِ لَوْ كَانَ سِوَاهُ لَقَالَ: لَا أُعَبِّرُ لَكُمُ الرُّؤْيَا حَتَّى أَخْرُجَ مِنْ هَذَا الْحَبْسِ، أَوْ حَتَّى يُرَدَّ إِلَيَّ حَقِّي، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَفَادَهُمْ وَأَرَادَ نَفْعَهُمْ.

قَالَ يُوسُفُ مُعَبِّرًا لِتِلْكَ الرُّؤْيَا الَّتِي تُشِيرُ إِلَى الْوَضْعِ الزِّرَاعِيِّ وَالِاقْتِصَادِيِّ وَالْمَالِيِّ خِلَالَ الْخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً الْقَادِمَةِ، بِمَا فِيهَا مِنْ رَخَاءٍ، ثُمَّ قَحْطٍ، ثُمَّ غَوْثٍ، ازْرَعُوا سَبْعَ سِنِينَ بِجِدٍّ وَاجْتِهَادٍ مِنْ غَيْرِ فُتُورٍ عَلَى عَادَتِكُمُ الْمُسْتَمِرَّةِ فِي الزِّرَاعَةِ، فَمَا حَصَدْتُمْ مِنَ الْحِنْطَةِ فَاتْرُكُوهُ فِي سُنْبُلِهِ؛ لِئَلَّا يَفْسُدَ وَيَقَعَ فِيهِ السُّوسُ، وَاحْفَظُوا أَكْثَرَهُ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ، إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَهُ مِنَ الْحُبُوبِ.

ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ الدَّأَبِ فِي الزِّرَاعَةِ -زِرَاعَةِ الْأَقْوَاتِ وَادِّخَارِهَا- طَوَالَ السِّنِينَ السَّبْعِ الْمُخْصِبَةِ، يَأْتِي سَبْعُ سِنِينَ مُجْدِبَةٍ، تَكُونُ مُمْحِلَةً شَدِيدَةً عَلَى النَّاسِ، يَأْكُلُ النَّاسُ وَتَأْكُلُ مَوَاشِيهُمْ فِيهَا مَا زَرَعْتُمْ وَادَّخَرْتُمْ لَهُنَّ مِنَ الطَّعَامِ فِي سَنَوَاتِ الْخِصْبِ، إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَحْفَظُونَهُ وَتَدَّخِرُونَهُ؛ احْتِيَاطًا لِلطَّوَارِئِ الْمُلْجِئَةِ الَّتِي قَدْ يُسْمَحُ فِيهَا بِالْأَخْذِ مِنْ الِاحْتِيَاطِيِّ بِمَقَادِيرِ الضَّرُورَةِ.

{ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ}: لَيْسَ فِي الرُّؤْيَا الَّتِي رَآهَا الْمَلِكُ أَدْنَى إِشَارَةٍ إِلَى عَامِ الْغَوْثِ هَذَا، فَهَذَا التَّأْوِيلُ عَلَّمَهُ اللهُ إِيَّاهُ، فِيهَا سَبْعٌ مِنَ السَّنَوَاتِ -كَمَا أَوَّلَ- يَكُونُ فِيهَا الْخِصْبُ، ثُمَّ سَبْعٌ مِنَ السَّنَوَاتِ يَكُونُ فِيهَا الْجَدْبُ، وَلَيْسَ فِي الرُّؤْيَا أَدْنَى إِشَارَةٍ إِلَى عَامِ الْغَوْثِ هَذَا.

ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ هَذِهِ السِّنِينَ الْمُجْدِبَةِ عَامٌ تَرْجِعُ فِيهِ تَصَارِيفُ الْكَوْنِ إِلَى مِثْلِ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَفِيهِ تَنْزِلُ الْأَمْطَارُ النَّافِعَةُ الَّتِي يُنْبِتُ اللهُ بِهَا الزُّرُوعَ، وَفِيهَا يَعْصِرُونَ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُعْصَرَ مِنْ نَحْوِ الْعِنَبِ وَالزَّيْتُونِ وَالْقَصَبِ، وَتَكْثُرُ النِّعَمُ عَلَى النَّاسِ.

لَمْ يَكْتَفِ يُوسُفُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِتَعْبِيرِ الرُّؤْيَا، بَلْ بَادَرَ فَوَضَعَ لَهُمْ خُطَّةَ عَمَلٍ لِمُوَاجَهَةِ سَنَوَاتِ الْقَحْطِ وَالْجَفَافِ، وَهِيَ خُطَّةٌ اقْتِصَادِيَّةٌ تَتَنَاوَلُ الْحَيَاةَ الزِّرَاعِيَّةَ وَالتَّمْوِينِيَّةَ لِلْأُمَّةِ خِلَالَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً تَأْتِي عَلَى اسْتِقْلَالٍ.

*وَأَمَّا التَّخْطِيطُ وَالْإِعْدَادُ الْعَسْكَرِيَّيْنِ؛ لِحِمَايَةِ الْأُمَّةِ وَمُقَدَّسَاتِهَا وَثَرْوَاتِهَا: فَقَدْ قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60].

وَأَعِدُّوا يَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ لِقِتَالِ الْكَافِرِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْأَسْلِحَةِ وَالْآلَاتِ الَّتِي تَكُونُ لَكُمْ قُوَّةً فِي الْحَرْبِ عَلَى قِتَالِ عَدُوِّكُمْ.

وَأَعِدُّوا مَا تَسْتَطِيعُونَ مِنَ الْخَيْلِ الْمَرْبُوطَةِ الْمُجَهَزَّةِ لِلْهُجُومِ وَالِانْقِضَاضِ عَلَى الْعَدُوِّ بَعْدَ إِثْخَانِهِ وَتَدْمِيرِهِ بِقُوَّةِ الرَّمْيِ، تُخَوِّفُونَ بِتِلْكَ الْقُوَّةِ الْمُرْهِبَةِ، وَذَلِكَ الرِّبَاطِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدَوَّكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَتُرْهِبُونَ آخَرِينَ مِنْ غَيْرِ الْأَعْدَاءِ الظَّاهِرِينَ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ، لَا تَظْهَرُ لَكُمْ عَدَاوَتُهُمُ الْآنَ، لَكِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُمْ.

وَإِعْدَادُ الْقُوَّةِ الْعَسْكَرِيَّةِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْإِنْفَاقِ الْمَالِيِّ، فَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ أَجْرُهُ فِي الْآخِرَةِ، وَيُعَجَّلُ لَكُمْ عِوَضُهُ فِي الدُّنْيَا؛ بَرَكَةً فِي رِزْقِكُمْ وَنَمَاءً فِي أَمْوَالِكُمْ، وَأَنْتُمْ لَا تُنْقِصُونَ مِنْ ثَوَابِ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 102]، هَذَا يَتَنَاوَلُ الْأَمْرَ بِإِعْدَادِ الْمُسْتَطَاعِ مِنَ الْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَالْمَادِيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ، وَيَقْتَضِي أَخْذَ الْحَذَرِ مِنَ الْأَعْدَاءِ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ وَبِكُلِّ طَرِيقٍ، فَجَمِيعُ الصِّنَاعَاتِ الدَّقِيقَةِ وَالْجَلِيلَةِ وَالْمُخْتَرَعَاتِ وَالْأَسْلِحَةِ وَالتَّحَصُّنَاتِ دَاخِلَةٌ فِي هَذَا الْعُمُومِ)).

*بَعْضُ دَلَائِلِ التَّخْطِيطِ وَالْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ مِنَ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ:

عِبَادَ اللهِ! لَمَّا أَذِنَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِلنَّبِيِّ بِالْهِجْرَةِ، وَكَانَتْ جَوْدَةُ الْإِعْدَادِ وَدِقَّةُ الِاسْتِعْدَادِ ظَاهِرَةً جَلِيَّةً، وَلَا نَقُولُ إِنَّ الرَّسُولَ ﷺ كَانَ يَسْتَعِدُّ لِهَذَا الْحَدَثِ الْعَظِيمِ اسْتِعْدَادَ بَشَرٍ، وَلَكِنَّمَا هُوَ اسْتِعْدَادُ بَشَرٍ يُوحَى إِلَيْهِ، فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ مُؤَيَّدًا بِالْوَحْيِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَبِخَاصَّةٍ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَوَاقِفِ الْعَظِيمَةِ الْفَارِقَةِ.

فِي الْهِجْرَةِ يَأْخُذُ النَّبِيُّ بِالْأَسْبَابِ جَمِيعًا مَعَ أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ سَيَعْصِمُهُ، وَأَنَّ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَمْ يَكُنْ لِيُسْلِمَهُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ لَمَّا أَرَادَ الْهِجْرَةَ خَرَجَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فِي وَقْتِ الْقَيْلُولَةِ، وَمَا كَانَ يَذْهَبُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فِي مِثْلِ هَذَا الْوَقْتِ قَطُّ.

فَدَخَلَ بَيْتَ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ خَوْخَةٍ هُنَاكَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ، فَلَوْ كَانَ هُنَاكَ رَقْبٌ وَلَوْ كَانَ هُنَاكَ اسْتِخْبَارَاتٌ مِنْ قُرَيْشٍ تَرْقُبُ مُحَمَّدًا وَصَاحِبَهُ -، وَ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ--؛ فَمَا كَانَتْ لِتَعْلَمَ أَنَّ النَّبِيَّ سَيَدْخُلُ مِنْ بَابِ أَبِي بَكْرٍ وَيَخْرُجُ مِنْ ظَهْرِ بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ -مِنْ بَابٍ هُنَاكَ فِي ظَهْرِ الْبَيْتِ مِنْ خَوْخَةٍ هُنَاكَ-، فَخَرَجَ مِنْهَا النَّبِيُّ ، إِلَى أَيْنَ؟

الْقَوْمُ يَتَوَقَّعُونَ أَنَّ النَّبِيَّ سَيَذْهَبُ إِلَى الشَّمَالِ -يَعْنِي إِلَى يَثْرِبَ وَكَانَتْ تُسَمَّى كَذَلِكَ- إِلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَلَكِنَّ النَّبِيَّ خَالَفَ تَوَقُّعَاتِ الْقَوْمِ وَأَصْعَدَ بِهِمْ إِلَى الْجَنُوبِ خَمْسَةَ أَمْيَالٍ هُنَاكَ فِي غَارِ ثَوْرٍ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ.

وَنَزَلَ النَّبِيُّ بَعْدَمَا كَانَتْ أَوَامِرُهُ وَأَوَامِرُ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لِأَسْمَاءَ بِأَنْ تَأْتِيَ بِالزَّادِ؛ لِأَنَّ عَيْنَ الْقَوْمِ رُبَّمَا لَمْ تَلْحَظْهَا، وَلِأَنَّ عَيْنَ الْقَوْمِ رُبَّمَا لَمْ تَذْهَبْ إِلَى أَنَّهَا فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ يُمْكِنُ أَنْ تَخْرُجَ بِزَادٍ وَمَاءٍ -وَهِيَ الْحَامِلُ فِي شُهُورِهَا الْأَخِيرَةِ- إِلَى مُحَمَّدٍ .

وَجَعَلَ النَّبِيُّ عَيْنًا عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، فَهُوَ أَقْدَرُ عَلَى هَذِهِ الْمُهِمَّةِ، فَيَأْتِي بِالْأَخْبَارِ ثُمَّ يَذْهَبُ بِلَيْلٍ إِلَى النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ هُنَاكَ فِي الْغَارِ، فَيُخْبِرُ النَّبِيَّ بِنَبَأِ الْقَوْمِ.

وَأَمَّا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ فَيَأْتِي بِأَغْنَامٍ لَهُ، فَإِذَا مَا ذَهَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَذَهَبَتْ أَسْمَاءُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- جَاءَ بِالْأَغْنَامِ وَرَاءَ آثَارِ الْأَقْدَامِ حَتَّى تُعَفِّيَ عَلَى آثَارِ الْأَقْدَامِ، فَكَذَلِكَ يَكُونُ الْعَمَلُ.

ثُمَّ ظَلَّ النَّبِيُّ فِي الْغَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، لَمْ يَتَعَجَّلْ بِالْخُرُوجِ حَتَّى يَخِفَّ الطَّلَبُ، وَلَمْ يَخْرُجِ النَّبِيُّ بَعْدَ الثَّلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَلَمْ يُطِلْ فِي الْغَارِ الْمُكْثَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ لَوْ ظَلَّ لَكَانَ ذَلِكَ أَدْعَى إِلَى مَعْرِفَةِ مَا تَفْعَلُ أَسْمَاءُ وَمَا يَفْعَلُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-.

ثُمَّ انْظُرْ إِلَى التَّأْيِيدِ وَمَا كَانَ مِنْ نُصْرَةِ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التَّوْبَة: 40].

 ((الْعَمَلُ وَالتَّخْطِيطُ لِلْمُسْتَقْبَلِ الدِّينِيِّ وَالْأُخْرَوِيِّ))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ يُخْبِرُنَا أَنَّهُ يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَلَّا نَظْلِمَ أَنْفُسَنَا فِي حَالِ صِحَّتِنَا وَلَا فِي حَالِ فَرَاغِنَا وَعَدَمِ شُغُلِنَا، بَلْ عَلَيْنَا أَنْ نَأْخُذَ مِنَ الصِّحَّةِ لِلْمَرَضِ، وَأَنْ نَأْخُذَ مِنَ الْفَرَاغِ لِلشُّغُلِ.

فَاحْرِصْ عَلَى أَوْقَاتِكَ وَسَاعَاتِكَ؛ حَتَّى لَا تَضِيعَ سُدَى، وَاجْعَلْ لَكَ نَصِيبًا مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ ﷺ: «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ:  حَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وشَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ». أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَاحْرِصْ أَنْ تَكُونَ مِنْ خِيَارِ النَّاسِ كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللهِ ﷺ؛ فَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟

قَالَ ﷺ: «مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ».

قَالَ: فَأَيُّ النَّاسِ شَرٌّ؟

قَالَ ﷺ: «مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ». أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

* أَيُّهَا الْمُسْلِمُ! احْذَرْ أَنْ يَضِيعَ عُمُرُكَ فِي الْمَعَاصِي الْمُهْلِكَاتِ:

قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: «وَبِالْجُمْلَةِ؛ فَإنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَعْرَضَ عَنِ اللَّهِ وَاشْتَغَلَ بِالْمَعَاصِي؛ ضَاعَتْ عَلَيْهِ أَيَّامُ حَيَاتِهِ الْحَقِيقِيَّةُ، الَّتِي يَجِدُ غِبَّ إِضَاعَتِهَا يَوْمَ يَقُولُ: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [سُورَةُ الْفَجْرِ: 24]».

فَاحْذَرْ مَجَالِسَ الْفَارِغِينَ، وَاحْفَظْ لِسَانَكَ مِنَ الْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَفَاحِشِ الْقَوْلِ، وَاحْبِسْ لِسَانَكَ عَنْ كُلِّ مَا يُغْضِبُ اللهَ، وَأَلْزِمْ نَفْسَكَ الْكَلَامَ الطَّيِّبَ الْجَمِيلَ، وَلْيَكُنْ لِسَانُكَ رَطْبًا بِذِكْرِ اللهِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ يَوْمٍ يَعِيشُهُ الْمُؤْمِنُ فَهُوَ غَنِيمَةٌ.

 ((سُبُلُ التَّغْيِيرِ لِصَلَاحِ الْوَطَنِ الْإِسْلَامِيِّ وَالْأُمَّةِ))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ مَعْصِيَةَ اللهِ تَعَالَى تُزِيلُ النِّعَمَ، وَتُحِلُّ النِّقَمَ، وَمَا زَالَتْ عَنِ الْعَبْدِ نِعْمَةٌ إِلَّا بِذَنْبٍ، وَلَا حَلَّتْ بِهِ نِقْمَةٌ إِلَّا بِذَنْبٍ، كَمَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «مَا نَزَلَ بَلَاءٌ إِلَّا بِذَنْبٍ، وَلَا رُفِعَ إِلَّا بِتَوْبَةٍ».

وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي ((سُنَنِهِ)) مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ البَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الجِهَادَ، سَلَّطَ اللهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ». وَالْحَدِيثُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ))، وَفِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ))، وَفِي غَيْرِهِمَا.

((إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالعِينَةِ)): وَهِيَ السِّلْعَةُ تَدْخُلُ بَيْنَ أَخْذٍ وَعَطَاءٍ، ثُمَّ تَخْرُجُ مَعَ زِيَادَةٍ فِي نَظِيرِ الْأَجَلِ بِلَا مُقَابِلٍ، وَهِيَ حِيلَةٌ مِنَ الْحِيَلِ يَأْخُذُ بِهَا مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، يَشْتَرِي سِلْعَةً بِأَلْفٍ إِلَى أَجَلٍ، ثُمَّ يَشْتَرِيهَا مِمَّنْ بَاعَهَا لَهُ بِثَمَانِمِئَةٍ -مَثَلًا- نَقْدًا فِي الْحَالِ، فَيَأْخُذُ ثَمَانِمِئَةٍ وَيَبْقَى فِي ذِمَّتِهِ أَلْفٌ، فَدَخَلَتِ السِّلْعَةُ وَخَرَجَتْ -حِيلَةً- مِنْ أَجْلِ تَحْلِيلِ الرِّبَا، وَهَيْهَاتَ!!

إِذَا فَسَدَتْ حَيَاتَكُمْ الِاقْتِصَادِيَّةُ، ((إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالعِينَةِ)).

((وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ البَقَرِ)): فَصِرْتُمْ تَابِعِينَ حَتَّى لِلْبَقَرِ، وَانْحَطَّتْ هِمَمُكُمْ، ((وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الجِهَادَ، سَلَّطَ اللهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ)).

فَجَعَلَ رَفْعَ الذُّلِّ مَرْهُونًا بِالرُّجُوعِ إِلَى الدِّينِ، فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الدِّينِ الْمَرْجُوعِ إِلَيْهِ، وَمَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ الرُّجُوعِ إِلَيْهِ.

قَدْ يَعْرِفُ الْإِنْسَانُ الدِّينَ الْمَرْجُوعَ إِلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَسْلُكُ إِلَى هَذَا الدِّينِ السَّبِيلَ الَّتِي تُوصِلُ إِلَيْهِ، فَلَا يَكُونُ مُحْسِنًا وَلَا يُرْفَعُ الذُّلُّ عَنْهُ، وَإِنَّمَا لَا بُدَّ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، فَلَا بُدَّ مْنْ مَعْرِفَةِ الدِّينِ الْمَرْجُوعِ إِلَيْهِ وَمَعْرِفَةِ السَّبِيلِ الْمُوصِلَةِ إِلَيْهِ.

فَإِذَا تَحَصَّلَ الْمُجْتَمَعُ عَلَى هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، فَرَجَعَ إِلَى دِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ رَفَعَ اللهُ مَا سَلَّطَ عَلَيْهِ مِنَ الذُّلِّ حَتَّى يَعُودَ إِلَى عِزِّهِ وَعِزَّتِهِ، وَرِفْعَتِهِ وَسُؤْدُدِهِ وَمَجْدِهِ.

قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 53].

فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُغَيِّرُ نِعَمَهُ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَى أَحَدٍ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يُغَيِّرُ مَا بِنَفْسِهِ، فَيُغَيِّرُ طَاعَةَ اللهِ بِمَعْصِيَتِهِ، وَشُكْرَ اللهِ بِكُفْرِهِ، وَأَسْبَابَ رِضَاهُ تَعَالَى بِأَسْبَابِ سَخَطِهِ، فَإِذَا غَيَّرَ غُيِّرَ عَلَيْهِ جَزَاءً وِفَاقًا -وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ-.

فَمَنْ صَفَّى صُفِّيَ لَهُ، وَمَنْ كَدَّرَ كُدِّرَ عَلَيْهِ، وَمَنْ شَابَ شِيبَ لَهُ، فَمَنْ أَحْسَنَ أُحْسِنَ إِلَيْهِ، وَعَلَى مَنْ أَسَاءَ السُّوأَىٰ -وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ-.

أَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي ((الْحِلْيَةِ))، وَالْحَاكِمُ فِي ((الْمُسْتَدْرَكِ)) بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ جَعَلَ الْهُمُومَ هَمًّا وَاحِدًا -يَعْنِي: هَمَّ الْمَعَادِ- كَفَاهُ اللهُ سَائِرَ هُمُومِهِ، وَمَنْ تَشَعَبَّتْ بِهِ الْهُمُومُ مِنْ أَحْوَالِ الدُّنْيَا لَمْ يُبَالِ اللهُ فِي أَيِّ أَوْدِيَتِهَا هَلَكَ».

مَنْ وَحَّدَ؛ وَحَّدَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ سَبِيلَهُ، وَأَقَامَ لَهُ حُجَّتَهُ، وَأَنَارَ لَهُ صِرَاطَهُ، وَهَدَى قَلْبَهُ، وَسَدَّدَ لِسَانَهُ، وَدَفَعَ عَنْهُ أَعْدَاءَهُ؛ لِأَنَّهُ مَنْ كَانَ اللهُ لَهُ فَمَنْ يَكُونُ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَخَلَّ اللهُ عَنْهُ فَمَنْ ذَا يَدْفَعُ عَنْهُ؟!!

وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ، وَغَيْرُهُ مِنْ رِوَايَةِ زَيْدٍ بْنِ ثَابِتٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ كَانَتْ هَمَّهُ الْآخِرَةُ جَمَعَ اللهُ لَهْ شَمْلَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا رَاغِمَةً، وَمَنْ كَانَتْ هَمَّهُ الدُّنْيَا فَرَّقَ اللهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَهُ».

الْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ.

((مَنْ كَانَتْ هَمَّهُ الْآخِرَةُ))، فَجَمَعَ عَلَيْهَا قُوَاهُ، وَاسْتَعَدَّ لَهَا بِكُلِيَّتِهِ، وَصَارَ عَلَيْهَا مُقْبِلًا، وَعَنْ سِوَاهَا مُدْبِرًا؛ ((جَمَعَ اللهُ لَهُ شَمْلَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ))، ((وَالْغِنَى غِنَى النَّفْسِ)) -كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ-، كَمَا أَنَّ الْفَقْرَ فَقْرُ الْقَلْبِ وَالنَّفْسِ.

((وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا رَاغِمَةً))، فَيَجْعَلُهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي يَدِهِ، وَلَا يَجْعَلُهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي قَلْبِهِ، وَكَذَا شَأْنُ الصَّالِحِينَ.

وَأَمَّا الطَّالِحُونَ فَإِنَّ الدُّنْيَا تَكُونُ فِي قُلُوبِهِمْ، وَمَهْمَا امْتَلَأَتْ بِهَا أَيْدِيهُمْ لَا تَشْبَعُ مِنْهَا نُفُوسُهُمْ، كَالَّذِي يَشْرَبُ مِنْ مَاءِ الْبَحْرْ شُرْبَ الْهِيمِ حَتَّى تَنْقَدَّ مَعِدَتُهُ وَلَا يُرْوَى بِحَالٍ أَبَدًا.

قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41].

الْفَسَادُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ الْمُرَادُ بِهِ الذُّنُوبُ وَمُوجِبَاتُهَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُه تَعَالَى: {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا}؛ فَهَذَا حَالُنَا!!

{لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا}، وَإِنَّمَا أَذَاقَنَا الشَّيْءَ الْيَسِيرَ مِنْ أَعْمَالِنَا، وَلَوْ أَذَاقَنَا كُلَّ أَعْمَالِنَا لَمَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ.

وَكُلَّمَا أَحْدَثَ الْعِبَادُ ذَنْبًا، أَحْدَثَ اللهُ لَهُمْ عُقُوبَةً؛ فَالْمَعَاصِي تُحْدِثْ فِي الْأَرْضِ أَنْوَاعًا مِنَ الْفَسَادِ؛ فِي الْمِيَاهِ، وَفِي الْهَوَاءِ، وَفِي الزَّرْعِ وَالثِّمَارِ، وَالْمَسَاكِنِ وَالنُّفُوسِ، وَالتَّصَوُّرَاتِ وَحَرَكَةِ الْحَيَاةِ.

{ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}.

{وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}.

إِنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا، وَجَعَلَ الْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ سَبَبًا لِنِقْمَتِهِ وَعَذَابِهِ وَحُلُولِ عِقَابِهِ عَلَى الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16].

أَيْ أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا أَمْرًا قَدَرِيًّا، فَإِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ، وَقِيلَ: سَخَرَّهُمْ إِلَى فِعْلِ الْفَوَاحِشِ، فَاسْتَحَقُّوا الْعَذَابَ، وَقِيلَ: أَمَرْنَاهُمْ بِالطَّاعَاتِ فَفَعَلُوا الْفَوَاحِشَ، فَاسْتَحَقُّوا الْعِقَابَ {فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}.

إِنَّ النَّاسَ إِذَا خَالَفُوا أَمْرَ اللهِ؛ هَانُوا عَلَيْهِ، فَلَمَّا هَانُوا عَلَيْهِ تَرَكَهُمْ، وَمَنْ تَرَكَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَهُوَ أَعْظَمُ عُقُوبَةٍ وَأَكْبَرِهَا، إِذْ إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِذَا أَحَاطَ الْعَبْدَ بِكَلَاءَتِهِ وَحِفْظِهِ وَرِعَايَتِهِ؛ فَقَدْ شَمَلَهُ بِرَحْمَتِهِ.

وَإِذَا تَخَلَّى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَنِ الْعَبْدِ صَارَ فِي الضَّلَالِ فِي كُلِّ وَادٍ، ثُمَّ إِنَّ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ التَّنْغِيصِ فِي الْمَعِيشَةِ الضَّنْكِ مَا وَصَفَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ، وَهَذِهِ حَيَاةُ النَّكَدِ الصِّرْفِ، وَلَا يَصِحُّ لِلْقَلْبِ حَيَاةٌ حَتَّى يَعْرِفَ الْقَلْبُ رَبَّهُ، وَحَتَّى يُحِبَّهُ، وَحَتَّى يَتِمَّ الْحُبُّ عَلَى تَمَامِهِ مَعَ كَمَالِ الذُّلِّ وَالْخُضُوعِ للهِ، فَيَصِيرُ الْعَبْدُ عَبْدًا للهِ كَمَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ.

قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11].

إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ أُخْرَى مُنَاقِضَةٍ لِلْأُولَى حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ، فَإِنْ غَيَّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ سَيِّئٍ إِلَى حَسَنٍ؛ غَيَّرَ اللهُ أَحْوَالَهُمْ مِنْ سَيِّئٍ إِلَى حَسَنٍ، وَإِنْ غَيَّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ حَسَنٍ إِلَى قَبِيحٍ؛ غَيَّرَ اللهُ أَحْوَالَهُمْ، وَأَحَلَّ بِهِمْ نِقْمَتَهُ.

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ يُرِيدُ مِنَّا أَنْ نَتَغَيَّرَ، أَنْ نَتَحَرَّرَ مِنْ أَسْرِ الْعَادَاتِ وَمِنْ قَيْدِ التَّقَالِيدِ الَّتِي قَدْ أَوْثَقَتْ أَرْجُلَنَا فِي الْأَرْضِ بِسَلَاسِلَ تَمِيدُ الْأَرْضَ وَلَا تَمِيدُ، يُرِيدُ مِنَّا رَبُّنَا أَنْ نَتَغَيَّرَ، وَأَنْ نَتَحَرَّرَ مِنْ أَسْرِ الْهَوَى، وَأَنْ نَخْرُجَ مِنْ قَبْضَةِ الْعَادَاتِ إِلَى مَرْضَاةِ رَبِّ الْأَرْضِ السَّمَوَاتِ عَلَى مُقْتَضَى سُنَّةِ سَيِّدِ الْخَلْقِ ﷺ.

وَلَنْ تُفْلِحَ الْأُمَّةُ وَلَنْ تَصِلَ إِلَى غَرَضِهَا، وَلَنْ تُحَصِّلَ مَقْصُودَهَا إِلَّا بِالْعَوْدَةِ إِلَى كِتَابِ رَبِّهَا وَسُنَّةِ نَبِيِّهَا ﷺ بِفَهْمِ سَلَفِهَا الصَّالِحِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ -رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى أَجْمَعِينَ-.

فَهَذِهِ سَبِيلُ النَّجَاةِ، لَا سَبِيلَ لِلنَّجَاةِ سِوَاهَا، وَأَمَّا التَّخَبُّطُ، وَأَمَّا هَذَا الْهَرَجُ الَّذِي تُعَانِي مِنْهُ الْأُمَّةُ؛ فَهَذَا هُوَ الْمَضِيقُ الَّذِي لَا مَخْرَجَ لَهُ، وَالْمَأْزِقُ الَّذِي لَا نَجَاةَ مِنْهُ إِلَّا بِأَنْ تَكُونَ الْأُمَّةُ عَلَى قَلْبٍ رَجُلٍ وَاحِدٍ بِلَا تَخَالُفٍ وَلَا تَدَابُرٍ، وَلَا شَحْنَاءَ وَلَا بَغْضَاءَ.

«رِسَالَةٌ أَخِيرَةٌ مُهِمَّةٌ وَجَامِعَةٌ إِلَى الأُمَّةِ المِصْرِيَّةِ خَاصَّةً»

أَيُّهَا الْمِصْرِيونَ! اعْمَلُوا، وَاجْتَهِدُوا فِي الْعَمَلِ، فَإِنَّهُ لَا خُرُوجَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ مِنْ أَزْمَةٍ إِلَّا بِكَلِمَتَيْنِ أَنْ يَعْمَلَ كُلُّ مِنَّا عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِ، لَا عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ حَتَّى هَذِهِ لَا يَعْمَلُونَهَا، يَعْنِي هُمْ لَا يَعْمَلُونَ أَصْلًا، لَا عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ وَلَا عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ، هُمْ تَعَوَّدُوا عَلَى الْأَخْذِ مِنْ غَيْرِ عَطَاءٍ -إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ-، وَهَذَا لَا يَرْضَاهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَلَا يَرْضَاهُ هَذَا الدِّينُ الْحَنِيفُ.

عِزُّكُمْ وَشَرَفُكُمْ، دِينُكُمْ، حَيَاتُكُمْ وَمَمَاتُكُمْ، دُنْيَاكُمْ وَأُخْرَاكُمْ هُوَ هَذَا الدِّينُ الْحَنِيفُ.

أَيُّهَا المِصْرِيونَ! إِنَّهُ يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَتَكَاتَفَ، وَأَنْ نَتَسَاعَدَ، وَأَنْ نَتَعَاوَنَ؛ مِنْ أَجْلِ الْخُرُوجِ مِنَ النَّفَقِ الْمُظْلِمِ، وَمِنْ أَجْلِ الْخَلَاصِ مِنْ هَذَا اللَّيْلِ الْبَهِيمِ، وَمِنْ أَجْلِ أَنْ تَقُومَ الْأُمَّةُ مُرْتَكِزَةً عَلَى مِحْوَرٍ قَائِمٍ وَأَصِيلٍ، وَهُوَ هَذَا الشَّعْبُ الْمِصْرِيُّ الْأَصِيلُ، هُوَ الصَّخْرَةُ الْبَاقِيَةُ يَنْحَطُّ عَنْهَا السَّيْلُ، هُوَ الصَّخْرَةُ الْقَائِمَةُ الَّتِي تَحْتَ أَقْدَامِهَا تَنْحَسِرُ الْأَمْوَاجُ -أَمْوَاجُ الْمُؤَامَرَاتِ-، وَلَيْسَ هَذَا بِحَادِثٍ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ قَدِيمٍ، شَرِيطَةَ أَنْ يَرْجِعَ الْمِصْرِيُّونَ إِلَى رَبِّهِمْ -جَلَّ وَعَلَا-.

وَلَوْ رَجَعْتُمْ إِلَى مَا فَعَلَ الْمِصْرِيُّونَ مِنْ فَجْرِ التَّارِيخِ، مِنْ أَيَّامِ الْهُكْسُوسِ، مَا قَبْلَ ذَلِكَ وَمَا بَعْدَهُ، وَكَذَلِكَ فِي التَّارِيخِ الْإِسْلَامِيِّ، لَوْ رَجَعْتُمْ لَعَلِمْتُمْ أَنَّ انْحِسَارَ أَمْوَاجِ الصَّلِيبِيِّينَ وَالتَّتَارِ وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ مِنَ الْغُزَاةِ إِنَّمَا كَانَ عِنْدَمَا تَوَحَّدَتِ الْأُمَّةُ عَلَى دِينِ رَبِّهَا، عَلَى مُجْمَلِ الْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ، مُتَآزِرَةً، مُتَعَاوِنَةً، مُتَكَاتِفَةً، مُتَرَابِطَةً، لَهَا هَدَفٌ، هَدَفٌ سَامٍ وَنَبِيلٌ، تُبْذَلُ الْمُهَجُ لَهُ رَخِيصَةً، وَتُبْذَلُ الْأَمْوَالُ لَهُ بِلَا حِسَابٍ؛ مِنْ أَجْلِ الْوُصُولِ إِلَيْهِ وَتَحْصِيلِهِ؛ لِتَبْقَى مِصْرُ رَافِعَةً رَايَةَ الْإِسْلَامِ عَالِيَةً خَفَّاقَةً فِي الْأَجْوَاءِ.

اتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ، اتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا الْمِصْرِيُّونَ، لَا تَكُونُوا عَوْنًا لِأَعْدَائِكُمْ عَلَيْكُمْ وَعَلَى أَبْنَائِكُمْ وَحَفَدَتِكُمْ، عَلَى أَعْرَاضِكُمْ، عَلَى أَمْوَالِكُمْ، عَلَى أَرْضِكُمْ وَدِيَارِكُمْ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.

 

المصدر: أهمية العمل والتخطيط في الإسلام، وسبل التغيير

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  حُقُوقُ الطِّفْلِ قَبْلَ وِلَادَتِهِ
  رِقَابَةُ السِّرِّ وَرِعَايَةُ الضَّمِيرِ
  الْإِيمَانُ وَالْعِلْمُ
  الإِسْلَامُ دِينُ العَمَلِ وَقَضِيَّةُ الرِّزْقِ
  السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ وَمَكَانَتُهَا فِي التَّشْرِيعِ وَرَدُّ شُبُهَاتِ الطَّاعِنِينَ فِيهَا
  الرد على الملحدين: من الأدلة العقلية على وجود الخالق
  مواعظ رمضانية - الجزء الثالث
  من أحداث الهجرة
  فروضُ الكِفَايَات ودَوْرُهَا في تحقيقِ التَّوَازُنِ المُجْتَمَعِيِّ
  الصِّدْقُ وَأَثَرُهُ فِي صَلَاحِ الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان