تفريغ خطبة التَّسَامُحُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ

التَّسَامُحُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ

((التَّسَامُحُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ))

الْجُمُعَةُ 11 مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ 1438هـ / 10-3-2017م

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((شُكْرُ نِعَمِ اللهِ وَالتَّمَسُّكُ بِدِينِهِ))

فَقَدْ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 102-105].

قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((هَذِهِ الْآيَاتُ فِيهَا حَثُّ اللَّهِ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُومُوا بِشُكْرِ نِعَمِهِ الْعَظِيمَةِ؛ بِأَنْ يَتَّقُوهُ حَقَّ تَقْوَاهُ، وَأَنْ يَقُومُوا بِطَاعَتِهِ وَتَرْكِ مَعْصِيَتِهِ مُخْلِصِينَ لَهُ بِذَلِكَ، وَأَنْ يُقِيمُوا دِينَهُمْ، وَيَسْتَمْسِكُوا بِحَبْلِهِ الَّذِي أَوْصَلَهُ إِلَيْهِمْ، وَجَعَلَهُ السَّبَبَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ وَهُوَ دِينُهُ وَكِتَابُهُ، وَالِاجْتِمَاعُ عَلَى ذَلِكَ وَعَدَمُ التَّفَرُّقِ، وَأَنْ يَسْتَدِيمُوا ذَلِكَ إِلَى الْمَمَاتِ.

وَذَكَّرَهُمْ مَا هُمْ عَلَيْهِ قَبْلَ هَذِهِ النِّعْمَةِ، وَهُوَ: أَنَّهُمْ كَانُوا أَعْدَاءً مُتَفَرِّقِينَ، فَجَمَعَهُمْ بِهَذَا الدِّينِ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَجَعَلَهُمْ إِخْوَانًا مُتَحَابِّينَ، وَكَانُوا عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَهُمْ مِنَ الشَّقَاءِ، وَنَهَجَ بِهِمْ طَرِيقَ السَّعَادَةِ، لِذَلِكَ بَيَّنَ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ إِلَى شُكْرِ اللَّهِ وَالتَّمَسُّكِ بِحَبْلِهِ، وَأَمَرَهُمْ بِتَتْمِيمِ هَذِهِ الْحَالِ، وَالسَّبَبِ الْأَقْوَى الَّذِي يَتَمَكَّنُونَ بِهِ مِنْ إِقَامَةِ دِينِهِمْ، بِأَنْ يَتَصَدَّى مِنْهُمْ طَائِفَةٌ يَحْصُلُ فِيهَا الْكِفَايَةُ، يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَهُوَ الدِّينُ، أُصُولُهُ وَفُرُوعُهُ وَشَرَائِعُهُ، {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ}: وَهُوَ مَا عُرِفَ حُسْنُهُ شَرْعًا وَعَقْلًا، {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}: وَهُوَ مَا عُرِفَ قُبْحُهُ شَرْعًا وَعَقْلًا، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}: الْمُدْرِكُونَ لِكُلِّ مَطْلُوبٍ، النَّاجُونَ مِنْ كُلِّ مَرْهُوبٍ.

 

وَيَدْخُلُ فِي هَذِهِ الطَّائِفَةِ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالتَّعْلِيمِ، وَالْمُتَصَدُّونَ لِلْخَطَابَةِ وَوَعْظِ النَّاسِ عُمُومًا وَخُصُوصًا، فَكُلُّ مَنْ دَعَا النَّاسَ إِلَى خَيْرٍ عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ أَوْ عَلَى وَجْهِ الْخُصُوصِ، أَوْ قَامَ بِنَصِيحَةٍ عَامَّةٍ أَوْ خَاصَّةٍ؛ فَإِنَّهُ دَاخِلٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ.

ثُمَّ نَهَاهُمْ عَنْ سُلُوكِ مَسْلَكِ الْمُتَفَرِّقِينَ، الَّذِينَ جَاءَهُمُ الدِّينُ وَالْبَيِّنَاتُ الْمُوجِبُ لِقِيَامِهِمْ بِهِ وَاجْتِمَاعِهِمْ عَلَيْهِ، فَتَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا وَصَارُوا شِيَعًا، وَلَمْ يَصْدُرْ ذَلِكَ عَنْ جَهْلٍ وَضَلَالٍ، وَإِنَّمَا صَدَرَ عَنْ عِلْمٍ وَقَصْدٍ سَيِّءٍ وَبَغْيٍ مِنْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.

ثُمَّ بَيَّنَ مَتَى يَكُونُ هَذَا الْعَذَابُ الْعَظِيمُ، وَيَمَسُّهُمْ هَذَا الْعَذَابُ الْأَلِيمُ، فَقَالَ: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: 106-107].

يُخْبِرُ -تَعَالَى- بِتَفَاوُتِ الْخَلْقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، وَأَنَّهُ تَبْيَضُّ وُجُوهُ أَهْلِ السَّعَادَةِ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا رُسُلَهُ، وَامْتَثَلُوا أَمْرَهُ، وَاجْتَنَبُوا نَهْيَهُ، وَأَنَّ اللَّهَ يُدْخِلُهُمُ الْجَنَّاتِ، وَيُفِيضُ عَلَيْهِمْ أَنْوَاعَ الْكَرَامَاتِ، وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ الَّذِينَ كَذَّبُوا رُسُلَهُ، وَعَصَوْا أَمْرَهُ، وَفَرَّقُوا دِينَهُمْ شِيَعًا، وَأَنَّهُمْ يُوَبَّخُونَ فَيُقَالُ لَهُمْ: {أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}: فَكَيْفَ اخْتَرْتُمُ الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ؟! {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ})).

((التَّسَامُحُ وَالْعَفْوُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ))

قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133-134].

((أَمَرَهُمُ اللهُ -تَعَالَى- بِالْمُسَارَعَةِ إِلَى مَغْفِرَتِهِ وَإِدْرَاكِ جَنَّتِهِ الَّتِي عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، فَكَيْفَ بِطُولِهَا، الَّتِي أَعَدَّهَا اللَّهُ -تَعَالَى- لِلْمُتَّقِينَ، فَهُمْ أَهْلُهَا، وَأَعْمَالُ التَّقْوَى هِيَ الْمُوَصِّلَةُ إِلَيْهَا.

ثُمَّ وَصَفَ الْمُتَّقِينَ وَأَعْمَالَهُمْ فَقَالَ: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} أَيْ: فِي حَالِ عُسْرِهِمْ وَيُسْرِهِمْ، إِنْ أَيْسَرُوا أَكْثَرُوا مِنَ النَّفَقَةِ، وَإِنْ أَعْسَرُوا لَمْ يَحْتَقِرُوا مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ قَلَّ.

{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} أَيْ: إِذَا حَصَلَ لَهُمْ مِنْ غَيْرِهِمْ أَذِيَّةٌ تُوجِبُ غَيْظَهُمْ -وَهُوَ امْتِلَاءُ قُلُوبِهِمْ مِنَ الْحَنَقِ الْمُوجِبِ لِلِانْتِقَامِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ- هَؤُلَاءِ لَا يَعْمَلُونَ بِمُقْتَضَى الطِّبَاعِ الْبَشَرِيَّةِ، بَلْ يَكْظِمُونَ مَا فِي الْقُلُوبِ مِنَ الْغَيْظِ، وَيَصْبِرُونَ عَنْ مُقَابَلَةِ الْمُسِيءِ إِلَيْهِمْ.

{وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}: يَدْخُلُ فِي الْعَفْوِ عَنِ النَّاسِ الْعَفْوُ عَنْ كُلِّ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَالْعَفْوُ أَبْلَغُ مِنَ الْكَظْمِ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ تَرْكُ الْمُؤَاخَذَةِ مَعَ السَّمَاحَةِ عَنِ الْمُسِيءِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ مِمَّنْ تَحَلَّى بِالْأَخْلَاقِ الْجَمِيلَةِ، وَتَخَلَّى مِنَ الْأَخْلَاقِ الرَّذِيلَةِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ مِمَّنْ تَاجَرَ مَعَ اللَّهِ، وَعَفَا عَنْ عِبَادِ اللَّهِ؛ رَحْمَةً بِهِمْ، وَإِحْسَانًا إِلَيْهِمْ، وَكَرَاهَةً لِحُصُولِ الشَّرِّ عَلَيْهِمْ، وَلِيَعْفُوَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلِيَكُونَ أَجْرُهُ عَلَى رَبِّهِ الْكَرِيمِ، لَا عَلَى الْعَبْدِ الْفَقِيرِ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}.

ثُمَّ ذَكَرَ حَالَةً أَعَمَّ مِنْ غَيْرِهَا، وَأَحْسَنَ وَأَعْلَى وَأَجَلَّ، وَهِيَ الْإِحْسَانُ، فَقَالَ -تَعَالَى-: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}: وَالْإِحْسَانُ نَوْعَانِ: الْإِحْسَانُ فِي عِبَادَةِ الْخَالِقِ، وَالْإِحْسَانُ إِلَى الْمَخْلُوقِ.

فَالْإِحْسَانُ فِي عِبَادَةِ الْخَالِقِ فَسَّرَهَا النَّبِيُّ ﷺ كَمَا فِي ((الصَّحِيحِ)) فَقَالَ: ((أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ)).

وَأَمَّا الْإِحْسَانُ إِلَى الْمَخْلُوقِ، فَهُوَ إِيصَالُ النَّفْعِ الدِّينِيِّ وَالدُّنْيَوِيِّ إِلَيْهِمْ، وَدَفْعُ الشَّرِّ الدِّينِيِّ وَالدُّنْيَوِيِّ عَنْهُمْ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ: أَمْرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْيُهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتَعْلِيمُ جَاهِلِهِمْ، وَوَعْظُ غَافِلِهِمْ، وَالنَّصِيحَةُ لِعَامَّتِهِمْ وَخَاصَّتِهِمْ، وَالسَّعْيُ فِي جَمْعِ كَلِمَتِهِمْ، وَإِيصَالُ الصَّدَقَاتِ وَالنَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةِ وَالْمُسْتَحَبَّةِ إِلَيْهِمْ عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ وَتَبَايُنِ أَوْصَافِهِمْ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ بَذْلُ النَّدَى، وَكَفُّ الْأَذَى، وَاحْتِمَالُ الْأَذَى، كَمَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ الْمُتَّقِينَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، فَمَنْ قَامَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ فَقَدْ قَامَ بِحَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ عِبَادِهِ)).

وَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].

((أَيْ: بِرَحْمَةِ اللَّهِ لَكَ وَلِأَصْحَابِكَ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ أَنْ أَلَنْتَ لَهُمْ جَانِبَكَ، وَخَفَضْتَ لَهُمْ جَنَاحَكَ، وَتَرَقَّقْتَ عَلَيْهِمْ، وَحَسَّنْتَ لَهُمْ خُلُقَكَ، فَاجْتَمَعُوا عَلَيْكَ، وَأَحَبُّوكَ، وَامْتَثَلُوا أَمْرَكَ.

{وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا} أَيْ: سَيِّئَ الْخُلُقِ {غَلِيظَ الْقَلْبِ} أَيْ: قَاسِيَهُ، {لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}؛ لِأَنَّ هَذَا يُنَفِّرُهُمْ وَيُبَغِّضُهُمْ لِمَنْ قَامَ بِهِ هَذَا الْخُلُقُ السَّيِّئُ، فَالْأَخْلَاقُ الْحَسَنَةُ مِنَ الْمُقَدَّمِ فِي الدِّينِ تَجْذِبُ النَّاسَ إِلَى دِينِ اللَّهِ، وَتُرَغِّبُهُمْ فِيهِ، مَعَ مَا لِصَاحِبِهِ مِنَ الْمَدْحِ وَالثَّوَابِ الْخَاصِّ، وَالْأَخْلَاقُ السَّيِّئَةُ مِنَ الْمُقَدَّمِ فِي الدِّينِ تُنَفِّرُ النَّاسَ عَنِ الدِّينِ، وَتُبَغِّضُهُمْ إِلَيْهِ، مَعَ مَا لِصَاحِبِهَا مِنَ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ الْخَاصِّ، فَهَذَا الرَّسُولُ الْمَعْصُومُ يَقُولُ اللَّهُ لَهُ مَا يَقُولُ، فَكَيْفَ بِغَيْرِهِ؟!

أَلَيْسَ مِنْ أَوْجَبِ الْوَاجِبَاتِ وَأَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ الِاقْتِدَاءُ بِأَخْلَاقِهِ الْكَرِيمَةِ، وَمُعَامَلَةُ النَّاسِ بِمَا يُعَامِلُهُمْ بِهِ ﷺ مِنَ اللِّينِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ وَالتَّأْلِيفِ؛ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ، وَجَذْبًا لِعِبَادِ اللَّهِ لِدِينِ اللَّهِ.

ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ -تَعَالَى- بِأَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ مَا صَدَرَ مِنْهُمْ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي حَقِّهِ ﷺ، وَيَسْتَغْفِرَ لَهُمْ فِي التَّقْصِيرِ فِي حَقِّ اللَّهِ، فَيَجْمَعُ بَيْنَ الْعَفْوِ وَالْإِحْسَانِ.

{وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} أَيِ: الْأُمُورِ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى اسْتِشَارَةٍ وَنَظَرٍ وَفِكْرٍ؛ فَإِنَّ فِي الِاسْتِشَارَةِ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ مَا لَا يُمْكِنُ حَصْرُهُ)).

وَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ ۖ قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ۖ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1].

((وَهَذِهِ الْآيَاتُ -يَعْنِي: هَذِهِ الْآيَةُ وَمَا تَلَاهَا فِي صَدْرِ السُّورَةِ- إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ (بَدْرٍ) فِي أَوَّلِ غَنِيمَةٍ كَبِيرَةٍ غَنِمَهَا الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَحَصَلَ بَيْنَ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا نِزَاعٌ، فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ -تَعَالَى- قَوْلَهُ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} كَيْفَ تُقَسَّمُ وَعَلَى مَنْ تُقَسَّمُ؟

قُلْ لَهُمُ: الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ يَضَعَانِهَا حَيْثُ شَاءَا، فَلَا اعْتِرَاضَ لَكُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، بَلْ عَلَيْكُمْ إِذَا حَكَمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَنْ تَرْضَوْا بِحُكْمِهِمَا، وَتُسَلِّمُوا الْأَمْرَ لَهُمَا، وَذَلِكَ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ}: بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ، {وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ}: أَصْلِحُوا مَا بَيْنَكُمْ مِنَ التَّشَاحُنِ وَالتَّقَاطُعِ وَالتَّدَابُرِ بِالتَّوَادُدِ وَالتَّحَابِّ وَالتَّوَاصُلِ، فَبِذَلِكَ تَجْتَمِعُ كَلِمَتُكُمْ، وَيَزُولُ مَا يَحْصُلُ -بِسَبَبِ التَّقَاطُعِ- مِنَ التَّخَاصُمِ، وَالتَّشَاجُرِ وَالتَّنَازُعِ.

وَيَدْخُلُ فِي إِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ تَحْسِينُ الْخُلُقِ لَهُمْ، وَالْعَفْوُ عَنِ الْمُسِيئِينَ مِنْهُمْ؛ فَإِنَّهُ بِذَلِكَ يَزُولُ كَثِيرٌ مِمَّا يَكُونُ فِي الْقُلُوبِ مِنَ الْبَغْضَاءِ وَالتَّدَابُرِ.

وَالْأَمْرُ الْجَامِعُ لِذَلِكَ كُلِّهِ قَوْلُهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}: فَإِنَّ الْإِيمَانَ يَدْعُو إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، كَمَا أَنَّ مَنْ لَمْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ، وَمَنْ نَقَصَتْ طَاعَتُهُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَذَلِكَ لِنَقْصٍ فِي إِيمَانِهِ)).

وَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ۗ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ ۖ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [الحجر: 85-86].

((أَيْ: مَا خَلَقْنَاهُمَا عَبَثًا بَاطِلًا كَمَا يَظُنُّ ذَلِكَ أَعْدَاءُ اللَّهِ، بَلْ مَا خَلَقْنَاهُمَا {إِلا بِالْحَقِّ}: الَّذِي مِنْهُ أَنْ يَكُونَا بِمَا فِيهِمَا دَالَّتَيْنِ عَلَى كَمَالِ خَالِقِهِمَا وَاقْتِدَارِهِ وَسَعَةِ رَحْمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ الْمُحِيطِ، وَأَنَّهُ الَّذِي لَا تَنْبَغِي الْعِبَادَةُ إِلَّا لَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، {وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ} لَا رَيْبَ فِيهَا.

لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}: وَهُوَ الصَّفْحُ الَّذِي لَا أَذِيَّةَ فِيهِ، بَلْ يُقَابِلُ إِسَاءَةَ الْمُسِيءِ بِالْإِحْسَانِ، وَذَنْبَهُ بِالْغُفْرَانِ؛ لِتَنَالَ مِنْ رَبِّكَ جَزِيلَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ، فَإِنَّ كُلَّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ.

وَالْمَأْمُورُ بِهِ هُوَ الصَّفْحُ الْجَمِيلُ أَيِ: الْحَسَنُ الَّذِي قَدْ سَلِمَ مِنَ الْحِقْدِ وَالْأَذِيَّةِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ، دُونَ الصَّفْحِ الَّذِي لَيْسَ بِجَمِيلٍ، وَهُوَ الصَّفْحُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، فَلَا يُصْفَحُ حَيْثُ اقْتَضَى الْمَقَامُ الْعُقُوبَةَ، كَعُقُوبَةِ الْمُعْتَدِينَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ لَا يَنْفَعُ فِيهِمْ إِلَّا الْعُقُوبَةُ)).

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا} [الإسراء: 53].

((وَهَذَا مِنْ لُطْفِهِ -تَعَالَى- بِعِبَادِهِ؛ حَيْثُ أَمَرَهُمْ بِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ الْمُوجِبَةِ لِلسَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَقَالَ -جَلَّ مِنْ قَائِلٍ-: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}: وَهَذَا أَمْرٌ بِكُلِّ كَلَامٍ يُقَرِّبُ إِلَى اللَّهِ؛ مِنْ قِرَاءَةٍ وَذِكْرٍ، وَعِلْمٍ، وَأَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ، وَكَلَامٍ حَسَنٍ لَطِيفٍ مَعَ الْخَلْقِ عَلَى اخْتِلَافِ مَرَاتِبِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ، وَأَنَّهُ إِذَا دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ حَسَنَيْنِ فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِإِيثَارِ أَحْسَنِهِمَا إِنْ لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا.

وَالْقَوْلُ الْحَسَنُ دَاعٍ لِكُلِّ خُلُقٍ جَمِيلٍ وَعَمَلٍ صَالِحٍ؛ فَإِنَّ مَنْ مَلَكَ لِسَانَهُ مَلَكَ جَمِيعَ أَمْرِهِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} أَيْ: يَسْعَى بَيْنَ الْعِبَادِ بِمَا يُفْسِدُ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَدُنْيَاهُمْ؛ فَدَوَاءُ هَذَا أَلَّا يُطِيعُوهُ فِي الْأَقْوَالِ غَيْرِ الْحَسَنَةِ الَّتِي يَدْعُوهُمْ إِلَيْهَا، وَأَنْ يَلِينُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ؛ لِيَنْقَمِعَ الشَّيْطَانُ الَّذِي يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ؛ فَإِنَّهُ عَدُوُّهُمُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُحَارِبُوهُ؛ فَإِنَّهُ يَدْعُوهُمْ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ.

وَأَمَّا إِخْوَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَسَعَى فِي الْعَدَاوَةِ؛ فَإِنَّ الْحَزْمَ كُلَّ الْحَزْمِ السَّعْيُ فِي صَدِّ عَدُوِّهِمْ، وَأَنْ يَقْمَعُوا أَنْفُسَهُمُ الْأَمَّارَةَ بِالسُّوءِ الَّتِي يَدْخُلُ الشَّيْطَانُ مِنْ قِبَلِهَا، فَبِذَلِكَ يُطِيعُونَ رَبَّهُمْ، وَيَسْتَقِيمُ أَمْرُهُمْ، وَيُهْدَوْنَ لِرُشْدِهِمْ)).

وَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- عَنْ قَوْلِ يَعْقُوبَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ ۖ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَٰذَا أَخِي ۖ قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا ۖ إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ۖ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ۖ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 87-92].

((أَيْ: قَالَ يَعْقُوبُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِبَنِيهِ: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ} أَيِ: احْرِصُوا وَاجْتَهِدُوا عَلَى التَّفْتِيشِ عَنْهُمَا، {وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ}: فَإِنَّ الرَّجَاءَ يُوجِبُ لِلْعَبْدِ السَّعْيَ وَالِاجْتِهَادَ فِيمَا رَجَاهُ، وَأَمَّا الْإِيَاسُ فَيُوجِبُ لَهُ التَّثَاقُلَ وَالتَّبَاطُؤَ، وَأَوْلَى مَا رَجَا الْعِبَادُ فَضْلُ اللَّهِ وَإِحْسَانُهُ وَرَحْمَتُهُ وَرَوْحُهُ، {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}: فَإِنَّهُمْ لِكُفْرِهِمْ يَسْتَبْعِدُونَ رَحْمَتَهُ، وَرَحْمَتُهُ بَعِيدَةٌ مِنْهُمْ؛ فَلَا تَتَشَبَّهُوا بِالْكَافِرِينَ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ بِحَسْبِ إِيمَانِ الْعَبْدِ يَكُونُ رَجَاؤُهُ لِرَحْمَةِ اللَّهِ وَرَوْحِهِ.

فَذَهَبُوا فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ قَالُوا مُتَضَرِّعِينَ إِلَيْهِ: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} أَيْ: قَدِ اضْطُرِرْنَا نَحْنُ وَأَهْلُنَا وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مَدْفُوعَةٍ مَرْغُوبٍ عَنْهَا لِقِلَّتِهَا وَعَدَمِ وُقُوعِهَا الْمَوْقِعَ، {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ}: مَعَ عَدَمِ وَفَاءِ الْعِوَضِ، {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا}: بِالزِّيَادَةِ عَنِ الْوَاجِبِ، {إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ}: بِثَوَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

فَلَمَّا انْتَهَى الْأَمْرُ، وَبَلَغَ أَشُدَّهُ؛ رَقَّ لَهُمْ يُوسُفُ رِقَّةً شَدِيدَةً، وَعَرَّفَهُمْ بِنَفْسِهِ، وَعَاتَبَهُمْ، فَقَالَ: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ}: أَمَّا يُوسُفُ فَظَاهِرٌ فِعْلُهُمْ فِيهِ، وَأَمَّا أَخُوهُ فَلَعَلَّهُ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ- قَوْلُهُمْ: {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ}، أَوْ أَنَّ السَّبَبَ الَّذِي فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِيهِ هُمُ السَّبَبُ فِيهِ، وَهُمُ الْأَصْلُ الْمُوجِبُ لَهُ؛ {إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ}: وَهَذَا نَوْعُ اعْتِذَارٍ لَهُمْ بِجَهْلِهِمْ أَوْ تَوْبِيخٌ لَهُمْ؛ إِذْ فَعَلُوا فِعْلَ الْجَاهِلِينَ مَعَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي وَلَا يَلِيقُ مِنْهُمْ.

فَعَرَفُوا أَنَّ الَّذِي خَاطَبَهُمْ هُوَ يُوسُفُ، فَقَالُوا: {أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ ۖ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَٰذَا أَخِي ۖ قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا}: بِالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى وَالتَّمْكِينِ فِي الدُّنْيَا؛ وَذَلِكَ بِسَبَبِ الصَّبْرِ وَالتَّقْوَى، فَـ {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} أَيْ: يَتَّقِ فِعْلَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَيَصْبِرْ عَلَى الْآلَامِ وَالْمَصَائِبِ، وَعَلَى الْأَوَامِرِ بِامْتِثَالِهَا؛ {فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}: فَإِنَّ هَذَا مِنَ الْإِحْسَانِ، وَاللَّهُ لَا يُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا.

{قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} أَيْ: فَضَّلَكَ عَلَيْنَا بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنِ الشِّيَمِ، وَأَسَأْنَا إِلَيْكَ غَايَةَ الْإِسَاءَةِ، وَحَرَصْنَا عَلَى إِيصَالِ الْأَذَى إِلَيْكَ، وَالتَّبْعِيدِ لَكَ عَنْ أَبِيكَ، فَآثَرَكَ اللَّهُ -تَعَالَى- وَمَكَّنَكَ مِمَّا تُرِيدُ، {وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ}: وَهَذَا غَايَةُ الِاعْتِرَافِ مِنْهُمْ بِالْجُرْمِ الْحَاصِلِ مِنْهُمْ عَلَى يُوسُفَ.

فَقَالَ لَهُمْ يُوسُفُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَرَمًا وَجُودًا: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} أَيْ: لَا أُثَرِّبُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَلُومُكُمْ {يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَفَسَمَحَ لَهُمْ سَمَاحًا تَامًّا مِنْ غَيْرِ تَعْيِيرٍ لَهُمْ عَلَى ذِكْرِ الذَّنْبِ السَّابِقِ، وَدَعَا لَهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَهَذَا نِهَايَةُ الْإِحْسَانِ الَّذِي لَا يَتَأَتَّى إِلَّا مِنْ خَوَاصِّ الْخَلْقِ وَخِيَارِ الْمُصْطَفَيْنَ)).

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ ۚ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 96].

((هَذَا مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِهَا فَقَالَ: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} أَيْ: إِذَا أَسَاءَ إِلَيْكَ أَعْدَاؤُكَ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ فَلَا تُقَابِلْهُمْ بِالْإِسَاءَةِ، مَعَ أَنَّهُ يَجُوزُ مُعَاقَبَةُ الْمُسِيءِ بِمِثْلِ إِسَاءَتِهِ، وَلَكِنِ ادْفَعْ إِسَاءَتَهُمْ إِلَيْكَ بِالْإِحْسَانِ مِنْكَ إِلَيْهِمْ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ فَضْلٌ مِنْكَ عَلَى الْمُسِيءِ، وَمِنْ مَصَالِحِ ذَلِكَ أَنَّهُ تَخِفُّ الْإِسَاءَةُ عَنْكَ فِي الْحَالِ وَفِي الِاسْتِقْبَالِ، وَأَنَّهُ أَدْعَى لِجَلْبِ الْمُسِيءِ إِلَى الْحَقِّ، وَأَقْرَبُ إِلَى نَدَمِهِ وَأَسَفِهِ وَرُجُوعِهِ بِالتَّوْبَةِ عَمَّا فَعَلَ.

وَيَتَّصِفُ الْعَافِي بِصِفَةِ الْإِحْسَانِ، وَيَقْهَرُ بِذَلِكَ عَدُّوَّهُ الشَّيْطَانَ، وَيَسْتَوْجِبُ الثَّوَابَ مِنَ الرَّبِّ، قَالَ تَعَالَى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا} أَيْ: مَا يُوَفَّقُ لِهَذَا الْخُلُقِ الْجَمِيلِ {إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} أَيْ: بِمَا يَقُولُونَ مِنَ الْأَقْوَالِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ بِالْحَقِّ، قَدْ أَحَاطَ عِلْمُنَا بِذَلِكَ، وَقَدْ حَلِمْنَا عَنْهُمْ وَأَمْهَلْنَاهُمْ وَصَبَرْنَا عَلَيْهِمْ، وَالْحَقُّ لَنَا، وَتَكْذِيبُهُمْ لَنَا.

فَأَنْتَ -يَا مُحَمَّدُ- يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَصْبِرَ عَلَى مَا يَقُولُونَ، وَتُقَابِلَهُمْ بِالْإِحْسَانِ، هَذِهِ وَظِيفَةُ الْعَبْدِ فِي مُقَابَلَةِ الْمُسِيءِ مِنَ الْبَشَرِ)).

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 34-35].

«قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ} أَيْ: لَا يَسْتَوِي فِعْلُ الْحَسَنَاتِ وَالطَّاعَاتِ لِأَجْلِ رِضَا رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، وَلَا فِعْلُ السَّيِّئَاتِ وَالْمَعَاصِي الَّتِي تُسْخِطُهُ وَلَا تُرْضِيهِ.

وَلَا يَسْتَوِي الْإِحْسَانُ إِلَى الْخَلْقِ، وَلَا الْإِسَاءَةُ إِلَيْهِمْ؛ لَا فِي ذَاتِهَا، وَلَا فِي وَصْفِهَا، وَلَا فِي جَزَائِهَا: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}.

ثُمَّ أَمَرَ بِإِحْسَانٍ خَاصٍّ لَهُ مَوْقِعٌ كَبِيرٌ، وَهُوَ الْإِحْسَانُ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ؛ فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أَيْ: فَإِذَا أَسَاءَ إِلَيْكَ مُسِيءٌ مِنَ الْخَلْقِ -خُصُوصًا مَنْ لَهُ حَقٌّ كَبِيرٌ عَلَيْكَ؛ كَالْأَقَارِبِ، وَالْأَصْحَابِ، وَنَحْوِهِمْ- إِسَاءَةً بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْفِعْلِ، فَقَابِلْهُ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ؛ فَإِنْ قَطَعَكَ فَصِلْهُ، وَإِنْ ظَلَمَكَ فَاعْفُ عَنْهُ، وَإِنْ تَكَلَّمَ فِيكَ غَائِبًا أَوْ حَاضِرًا فَلَا تُقَابِلْهُ، بَلِ اعْفُ عَنْهُ، وَعَامِلْهُ بِالْقَوْلِ اللَّيِّنِ، وَإِنْ هَجَرَكَ وَتَرَكَ خِطَابَكَ فَطَيِّبْ لَهُ كَلَامَكَ، وَابْذُلْ لَهُ سَلَامَكَ.

فَإِذَا قَابَلْتَ الْإِسَاءَةَ بِالْإِحْسَانِ حَصلَ فَائِدَةٌ عَظِيمَةٌ: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} أَيْ: كَأَنَّهُ قَرِيبٌ شَفِيقٌ.

{وَمَا يُلَقَّاهَا}: وَمَا يُوَفَّقُ لِهَذِهِ الْخَصْلَةِ الْحَمِيدَةِ {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} نُفُوسَهُمْ عَلَى مَا تَكْرَهُ، وَأَجْبَرُوهَا عَلَى مَا يُحِبُّهُ اللهُ، فَإِنَّ النُّفُوسَ مَجْبُولَةٌ عَلَى مُقَابَلَةِ الْمُسِيءِ بِإِسَاءَتِهِ، وَعَدَمِ الْعَفْوِ عَنْهُ، فَكَيْفَ بِالْإِحْسَانِ؟!!

فَإِذَا صَبَّرَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ، وَامْتَثَلَ أَمْرَ رَبِّهِ، وَعَرَفَ جَزِيلَ الثَّوَابِ، وَعَلِمَ أَنَّ مُقَابَلَتَهُ لِلْمُسِيءِ بِجِنْسِ عَمَلِهِ لَا يُفِيدُهُ شَيْئًا، وَلَا يَزِيدُ الْعَدَاوَةَ إِلَّا شِدَّةً، وَأَنَّ إِحْسَانَهُ إِلَيْهِ لَيْسَ بِوَاضِعٍ قَدْرَهُ، بَلْ مَنْ تَوَاضَعَ لِلهِ رَفَعَهُ؛ هَانَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ، وَفَعَلَ ذَلِكَ مُتَلَذِّذًا مُسْتَحْلِيًا لَهُ.

{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}: لِكَوْنِهَا مِنْ خِصَالِ خَوَاصِّ الْخَلْقِ الَّتِي يَنَالُ بِهَا الْعَبْدُ الرِّفْعَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، الَّتِي هِيَ مِنْ أَكْبَرِ خِصَالِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ».

((الْفَرْقُ بَيْنَ الْعَفْوِ وَالذُّلِّ))

((الْفَرْقُ بَيْنَ الْعَفْوِ وَالذُّلِّ: أَنَّ الْعَفْوَ إِسْقَاطُ حَقِّكَ جُودًا وَكَرَمًا وَإِحْسَانًا، مَعَ قُدْرَتِكَ عَلَى الِانْتِقَامِ، فَتُؤْثِرُ التَّرْكَ رَغْبَةً فِي الْإِحْسَانِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ.

بِخِلَافِ الذُّلِّ؛ فَإِنَّ صَاحِبَهُ يَتْرُكُ الِانْتِقَامَ عَجْزًا وَخَوْفًا وَمَهَانَةَ نَفْسٍ، فَهَذَا مَذْمُومٌ غَيْرُ مَحْمُودٍ، وَلَعَلَّ الْمُنْتَقِمَ بِالْحَقِّ أَحْسَنُ حَالًا مِنْهُ، قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى: ٣٩]، فَمَدَحَهُمْ بِقُوَّتِهِمْ عَلَى الِانْتِصَارِ لِنُفُوسِهِمْ، وَتَقَاضِيهِمْ مِنْهَا ذَلِكَ، حَتَّى إِذَا قَدَرُوا عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيْهِمْ، وَتَمَكَّنُوا مِنَ اسْتِيفَاءِ مَا لَهُمْ عَلَيْهِ؛ نَدَبَهُمْ إِلَى الْخُلُقِ الشَّرِيفِ مِنَ الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ، فَقَالَ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: ٤٠].

فَذَكَرَ الْمَقَامَاتِ الثَّلَاثَةَ: الْعَدْلَ وَأَبَاحَهُ، وَالْفَضْلَ وَنَدَبَ إِلَيْهِ، وَالظُّلْمَ وَحَرَّمَهُ.

فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ مَدَحَهُمْ عَلَى الِانْتِصَارِ وَالْعَفْوِ وَهُمَا مُتَنَافِيَانِ؟

قِيلَ: لَمْ يَمْدَحْهُمْ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ وَالِانْتِقَامِ، وَإِنَّمَا مَدَحَهُمْ عَلَى الِانْتِصَارِ، وَهُوَ الْقُدْرَةُ وَالْقُوَّةُ عَلَى اسْتِيفَاءِ حَقِّهِمْ، فَلَمَّا قَدَرُوا نَدَبَهُمْ إِلَى الْعَفْوِ.

قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يُسْتَذَلُّوا، فَإِذَا قَدَرُوا عَفَوْا، فَمَدَحَهُمْ عَلَى عَفْوٍ بَعْدَ قُدْرَةٍ، لَا عَلَى عَفْوِ ذِلَّةٍ وَعَجْزٍ وَمَهَانَةٍ، وَهَذَا هُوَ الْكَمَالُ الَّذِي مَدَحَ -سُبْحَانَهُ- بِهِ نَفْسَهُ فِي قَوْلِهِ: {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} [النساء: ١٤٩]، وقوله: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة: ٧].

وَفِي أَثَرٍ مَعْرُوفٍ: «حَمَلَةُ الْعَرْشِ يَقُولُ اثْنَانِ: سُبْحَانَكَ اللهم رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، لَكَ الْحَمْدُ عَلَى حِلْمِكَ بَعْدَ عِلْمِكَ، وَاثْنَانِ يَقُولَانِ: سُبْحَانَكَ اللهم رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، لَكَ الْحَمْدُ عَلَى عَفْوِكَ بَعْدَ قُدْرَتِكَ».

وَلِهَذَا قَالَ الْمَسِيحُ -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ-: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: ١١٨] أَيْ: إِنْ غَفَرْتَ لَهُمْ غَفَرْتَ عَنْ عِزَّةٍ وَهِيَ كَمَالُ الْقُدْرَةِ، وَعَنْ حِكْمَةٍ وَهِيَ كَمَالُ الْعِلْمِ، فَغَفَرْتَ بَعْدَ أَنْ عَلِمْتَ مَا عَمِلُوا وَأَحَاطَتْ بِهِمْ قُدْرَتُكَ؛ إِذِ الْمَخْلُوقُ قَدْ يَغْفِرُ لِعَجْزِهِ عَنْ الِانْتِقَامِ، وَجَهْلِهِ بِحَقِيقَةِ مَا صَدَرَ مِنَ الْمُسِيءِ.

وَالْعَفْوُ مِنَ الْمَخْلُوقِ ظَاهِرُهُ ضَيْمٌ وَذُلٌّ، وَبَاطِنُهُ عِزٌّ وَمَهَابَةٌ.

وَالِانْتِقَامُ ظَاهِرُهُ عِزٌّ، وَبَاطِنُهُ ذُلٌّ، فَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَلَا انْتَقَمَ أَحَدٌ لِنَفْسِهِ إِلَّا ذَلَّ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا بِفَوَاتِ عِزِّ الْعَفْوِ، وَلِهَذَا مَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِنَفْسِهِ قَطُّ.

وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ -سُبْحَانَهُ-: {هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى: ٣٩] كَيْفَ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ فِيهِمْ مِنَ الْقُوَّةِ مَا يَكُونُونَ هُمْ بِهَا الْمُنْتَصِرِينَ لِأَنْفُسِهِمْ، لَا أَنَّ غَيْرَهُمْ هُوَ الَّذِي يَنْصُرُهُمْ؟

وَلَمَّا كَانَ الِانْتِصَارُ لَا تَقِفُ النُّفُوسُ فِيهِ عَلَى حَدِّ الْعَدْلِ غَالِبًا بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الْمُجَاوَزَةِ؛ شَرَعَ اللهُ -سُبْحَانَهُ- فِيهِ الْمُمَاثَلَةَ وَالْمُسَاوَاةَ، وَحَرَّمَ الزِّيَادَةَ، وَنَدَبَ -تَعَالَى- إِلَى الْعَفْوِ)).

((مَشَاهِدُ الْعَبْدِ فِيمَا يُصِيبُهُ مِنْ أَذَى الْخَلْقِ))

لَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((الْمَدَارِجِ)): ((لِلْعَبْدِ أَحَدَ عَشَرَ مَشْهَدًا فِيمَا يُصِيبُهُ مِنْ أَذَى الْخَلْقِ وَجِنَايَتِهِمْ عَلَيْهِ.

* أَحَدُهَا: مَشْهَدُ الْقَدَرِ وَأَنَّ مَا جَرَى عَلَيْهِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، فَيَرَاهُ كَالتَّأَذِّي بِالْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَالْمَرَضِ وَالْأَلَمِ، وَهُبُوبِ الرِّيَاحِ، وَانْقِطَاعِ الْأَمْطَارِ؛ فَإِنَّ الْكُلَّ أَوْجَبَتْهُ مَشِيئَةُ اللَّهِ، فَمَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ، وَوَجَبَ وُجُودُهُ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَامْتَنَعَ وُجُودُهُ.

فَإِذَا شَهِدَ الْعَبْدُ هَذَا: اسْتَرَاحَ، وَعَلِمَ أَنَّهُ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، فَمَا لِلْجَزَعِ مِنْهُ وَجْهٌ، وَهُوَ كَالْجَزَعِ مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالْمَرَضِ وَالْمَوْتِ.

* الْمَشْهَدُ الثَّانِي: مَشْهَدُ الصَّبْرِ، فَيَشْهَدُهُ وَيَشْهَدُ وُجُوبَهُ، وَحُسْنَ عَاقِبَتِهِ، وَجَزَاءَ أَهْلِهِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْغِبْطَةِ وَالسُّرُورِ، وَيُخَلِّصُهُ مِنْ نَدَامَةِ الْمُقَابَلَةِ وَالِانْتِقَامِ، فَمَا انْتَقَمَ أَحَدٌ لِنَفْسِهِ قَطُّ إِلَّا أَعْقَبَهُ ذَلِكَ نَدَامَةً، وَعَلِمَ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَصْبِرِ اخْتِيَارًا عَلَى هَذَا -وَهُوَ مَحْمُودٌ- صَبَرَ اضْطِرَارًا عَلَى أَكْبَرَ مِنْهُ وَهُوَ مَذْمُومٌ.

* الْمَشْهَدُ الثَّالِثُ: مَشْهَدُ الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ وَالْحِلْمِ، فَإِنَّهُ مَتَى شَهِدَ ذَلِكَ وَفَضْلَهُ وَحَلَاوَتَهُ وَعِزَّتَهُ؛ لَمْ يَعْدِلْ عَنْهُ إِلَّا لِعَشًى فِي بَصِيرَتِهِ؛ فَإِنَّهُ ((مَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا)) كَمَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، وَعُلِمَ بِالتَّجْرِبَةِ وَالْوُجُودِ، وَمَا انْتَقَمَ أَحَدٌ لِنَفْسِهِ إِلَّا ذَلَّ.

هَذَا؛ وَفِي الصَّفْحِ وَالْعَفْوِ وَالْحِلْمِ: مِنَ الْحَلَاوَةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ وَالسَّكِينَةِ، وَشَرَفِ النَّفْسِ وَعِزِّهَا، وَرِفْعَتِهَا عَنْ تَشَفِّيهَا بِالِانْتِقَامِ: مَا لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُ فِي الْمُقَابَلَةِ وَالِانْتِقَامِ.

* الْمَشْهَدُ الرَّابِعُ: مَشْهَدُ الرِّضَا، وَهُوَ فَوْقَ مَشْهَدِ الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا لِلنُّفُوسِ الْمُطْمَئِنَّةِ، سِيَّمَا إِنْ كَانَ مَا أُصِيبَتْ بِهِ سَبَبُهُ الْقِيَامَ لِلَّهِ، فَإِذَا كَانَ مَا أُصِيبَ بِهِ فِي اللَّهِ وَفِي مَرْضَاتِهِ وَمَحَبَّتِهِ؛ رَضِيَتْ بِمَا نَالَهَا فِي اللَّهِ.

وَهَذَا شَأْنُ كُلِّ مُحِبٍّ صَادِقٍ يَرْضَى بِمَا يَنَالُهُ فِي رِضَا مَحْبُوبِهِ مِنَ الْمَكَارِهِ، وَمَتَى تَسَخَّطَ بِهِ وَتَشَكَّى مِنْهُ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى كَذِبِهِ فِي مَحَبَّتِهِ، وَالْوَاقِعُ شَاهِدٌ بِذَلِكَ، وَالْمُحِبُّ الصَّادِقُ كَمَا قِيلَ:

مِنْ أَجْلِكَ جَعَلْتُ خَدِّيَ أَرْضًا=لِلشَّامِتِ وَالْحَسُودِ حَتَّى تَرْضَى

وَمَنْ لَمْ يَرْضَ بِمَا يُصِيبُهُ فِي سَبِيلِ مَحْبُوبِهِ فَلْيَنْزِلْ عَنْ دَرَجَةِ الْمَحَبَّةِ، وَلْيَتَأَخَّرْ فَلَيْسَ مِنْ ذَا الشَّانِ.

* الْمَشْهَدُ الْخَامِسُ: مَشْهَدُ الْإِحْسَانِ، وَهُوَ أَرْفَعُ مِمَّا قَبْلَهُ، وَهُوَ أَنْ يُقَابِلَ إِسَاءَةَ الْمُسِيءِ إِلَيْهِ بِالْإِحْسَانِ، فَيُحْسِنُ إِلَيْهِ كُلَّمَا أَسَاءَ هُوَ إِلَيْهِ، وَيُهَوِّنُ هَذَا عَلَيْهِ عِلْمُهُ بِأَنَّهُ قَدْ رَبِحَ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ قَدْ أَهْدَى إِلَيْهِ حَسَنَاتِهِ، وَمَحَاهَا مِنْ صَحِيفَتِهِ، وَأَثْبَتَهَا فِي صَحِيفَةِ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهِ، فَيَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَشْكُرَهُ، وَتُحْسِنَ إِلَيْهِ بِمَا لَا نِسْبَةَ لَهُ إِلَى مَا أَحْسَنَ بِهِ إِلَيْكَ.

وَهَاهُنَا يَنْفَعُ اسْتِحْضَارُ مَسْأَلَةِ اقْتِضَاءِ الْهِبَةِ الثَّوَابَ، وَهَذَا الْمِسْكِينُ قَدْ وَهَبَكَ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ كُنْتَ مِنْ أَهْلِ الْكَرَمِ فَأَثِبْهُ عَلَيْهَا؛ لِتَثْبُتَ الْهِبَةُ، وَتَأْمَنَ رُجُوعَ الْوَاهِبِ فِيهَا، وَفِي هَذَا حِكَايَاتٌ مَعْرُوفَةٌ عَنْ أَرْبَابِ الْمَكَارِمِ وَأَهْلِ الْعَزَائِمِ.

وَيُهَوِّنُهُ عَلَيْكَ -أَيْضًا-: عِلْمُكَ بِأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا عَمَلَكَ فِي إِسَاءَةِ الْمَخْلُوقِ إِلَيْكَ عَفَوْتَ عَنْهُ، وَأَحْسَنْتَ إِلَيْهِ، مَعَ حَاجَتِكَ وَضَعْفِكَ وَفَقْرِكَ وَذُلِّكَ، فَهَكَذَا يَفْعَلُ الْمُحْسِنُ الْقَادِرُ الْعَزِيزُ الْغَنِيُّ بِكَ فِي إِسَاءَتِكَ، يُقَابِلُهَا بِمَا قَابَلْتَ بِهِ إِسَاءَةَ عَبْدِهِ إِلَيْكَ، فَهَذَا لَا بُدَّ‍ مِنْهُ، وَشَاهِدُهُ فِي السُّنَّةِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ لِمَنْ تَأَمَّلَهَا.

* الْمَشْهَدُ السَّادِسُ: مَشْهَدُ السَّلَامَةِ وَبَرْدِ الْقَلْبِ، وَهَذَا مَشْهَدٌ شَرِيفٌ جِدًّا لِمَنْ عَرَفَهُ وَذَاقَ حَلَاوَتَهُ، وَهُوَ أَلَّا يَشْتَغِلَ قَلْبُهُ وَسِرُّهُ بِمَا نَالَهُ مِنَ الْأَذَى، وَطَلَبِ الْوُصُولِ إِلَى دَرْكِ ثَأْرِهِ، وَشِفَاءِ نَفْسِهِ، بَلْ يُفَرِّغُ قَلْبَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَيَرَى أَنَّ سَلَامَتَهُ وَبَرْدَهُ وَخُلُوَّهُ مِنْهُ أَنْفَعُ لَهُ، وَأَلَذُّ وَأَطْيَبُ، وَأَعْوَنُ عَلَى مَصَالِحِهِ؛ فَإِنَّ الْقَلْبَ إِذَا اشْتَغَلَ بِشَيْءٍ فَاتَهُ مَا هُوَ أَهَمُّ عِنْدَهُ وَخَيْرٌ لَهُ مِنْهُ، فَيَكُونُ بِذَلِكَ مَغْبُونًا، وَالرَّشِيدُ لَا يَرْضَى بِذَلِكَ، وَيَرَى أَنَّهُ مِنْ تَصَرُّفَاتِ السَّفِيهِ، فَأَيْنَ سَلَامَةُ الْقَلْبِ مِنِ امْتِلَائِهِ بِالْغِلِّ وَالْوَسَاوِسِ، وَإِعْمَالِ الْفِكْرِ فِي إِدْرَاكِ الِانْتِقَامِ؟!

* الْمَشْهَدُ السَّابِعُ: مَشْهَدُ الْأَمْنِ، فَإِنَّهُ إِذَا تَرَكَ الْمُقَابَلَةَ وَالِانْتِقَامَ؛ أَمِنَ مَا هُوَ شَرٌّ مِنْ ذَلِكَ إِذَا مَا انْتَقَمَ، فَإِنَّهُ إِذَا انْتَقَمَ وَاقَعَهُ الْخَوْفُ وَلَا بُدَّ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَزْرَعُ الْعَدَاوَةَ، وَالْعَاقِلُ لَا يَأْمَنُ عَدُوَّهُ وَلَوْ كَانَ حَقِيرًا، فَكَمْ مِنْ حَقِيرٍ أَرْدَى عَدُوَّهُ الْكَبِيرَ!

فَإِذَا غَفَرَ وَلَمْ يَنْتَقِمْ، وَلَمْ يُقَابِلْ؛ أَمِنَ مِنْ تَوَلُّدِ الْعَدَاوَةِ أَوْ زِيَادَتِهَا، وَلَا بُدَّ أَنَّ عَفْوَهُ وَحِلْمَهُ وَصَفْحَهُ يَكْسِرُ عَنْهُ شَوْكَةَ عَدُوِّهِ، وَيَكُفُّ مِنْ جَزَعِهِ، بِعَكْسِ الِانْتِقَامِ، وَالْوَاقِعُ شَاهِدٌ بِذَلِكَ -أَيْضًا-.

الْمَشْهَدُ الثَّامِنُ: مَشْهَدُ الْجِهَادِ، وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ تَوَلُّدَ أَذَى النَّاسِ لَهُ مِنْ جِهَادِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَمْرِهِمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْيِهِمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَإِقَامَةِ دِينِ اللَّهِ، وَإِعْلَاءِ كَلِمَاتِهِ.

وَصَاحِبُ هَذَا الْمَقَامِ: قَدِ اشْتَرَى اللَّهُ مِنْهُ نَفْسَهُ وَمَالَهُ وَعِرْضَهُ بِأَعْظَمِ الثَّمَنِ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُسَلِّمَ إِلَيْهِ الثَّمَنَ فَلْيُسَلِّمْ هُوَ السِّلْعَةَ؛ لِيَسْتَحِقَّ ثَمَنَهَا، فَلَا حَقَّ لَهُ عَلَى مَنْ آذَاهُ، وَلَا شَيْءَ لَهُ قِبَلَهُ إِنْ كَانَ قَدْ رَضِيَ بِعَقْدِ هَذَا التَّبَايُعِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ وَجَبَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ.

وَهَذَا ثَابِتٌ بِالنَّصِّ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، لِهَذَا مَنَعَ رَسُولُ اللهِ ﷺ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ سُكْنَى مَكَّةَ -أَعَزَّهَا اللَّهُ- وَلَمْ يَرُدَّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ دَارَهُ وَلَا مَالَهُ الَّذِي أَخَذَهُ الْكُفَّارُ، وَلَمْ يُضَمِّنِ الْكُفَّارَ دِيَةَ مَنْ قَتَلُوهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.

وَلَمَّا عَزَمَ الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَلَى تَضْمِينِ أَهْلِ الرِّدَّةِ مَا أَتْلَفُوهُ مِنْ نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ، قَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -بِمَشْهَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ--: ((تِلْكَ دِمَاءٌ وَأَمْوَالٌ ذَهَبَتْ فِي اللَّهِ، وَأُجُورُهَا عَلَى اللَّهِ، وَلَا دِيَةَ لِشَهِيدٍ))، فَأَصْفَقَ الصَّحَابَةُ عَلَى قَوْلِ عُمَرَ، وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ الصِّدِّيقُ.

فَمَنْ قَامَ لِلَّهِ حَتَّى أُوذِيَ فِي اللَّهِ؛ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الِانْتِقَامَ، كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}.

الْمَشْهَدُ التَّاسِعُ: مَشْهَدُ النِّعْمَةِ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: أَنْ يَشْهَدَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي أَنْ جَعَلَهُ مَظْلُومًا يَتَرَقَّبُ النَّصْرَ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ ظَالِمًا يَتَرَقَّبُ الْمَقْتَ وَالْأَخْذَ، فَلَوْ خُيِّرَ الْعَاقِلُ بَيْنَ الْحَالَيْنِ -وَلَا بُدَّ مِنْ إِحْدَاهُمَا- لَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ مَظْلُومًا.

فَالْإِنْسَانُ إِذَا مَا كَانَ مَظْلُومًا فَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ وَنُصْرَتِهِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ ظَالِمًا فَإِنَّهُ قَرِيبٌ مِنْ نِقْمَةِ اللهِ وَمَقْتِهِ.

الْمَشْهَدُ الْعَاشِرُ: مَشْهَدُ الْأُسْوَةِ، وَهُوَ مَشْهَدٌ شَرِيفٌ لَطِيفٌ، فَإِنَّ الْعَاقِلَ اللَّبِيبَ يَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَهُ أُسْوَةٌ بِرُسُلِ اللَّهِ، وَأَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ، وَخَاصَّتِهِ مِنْ خَلْقِهِ؛ فَإِنَّهُمْ أَشَدُّ الْخَلْقِ امْتِحَانًا بِالنَّاسِ، وَأَذَى النَّاسِ إِلَيْهِمْ أَسْرَعُ مِنَ السَّيْلِ فِي الْحُدُورِ، وَيَكْفِي أَنْ تَتَدَبَّرَ قَصَصَ الْأَنْبِيَاءِ مَعَ أُمَمِهِمْ، وَتَأَمَّلْ فِي شَأْنِ نَبِيِّكَ ﷺ وَفِي أَذَى أَعْدَائِهِ لَهُ بِمَا لَمْ يُؤْذَهُ مَنْ قَبْلَهُ، وَقَدْ قَالَ لَهُ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ: لَتُكَذَّبَنَّ وَلَتُخْرَجَنَّ وَلَتُؤْذَيَنَّ، قَالَ لَهُ: ((مَا جَاءَ أَحَدٌ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ))، وَهَذَا مُسْتَمِرٌّ فِي وَرَثَتِهِ كَمَا كَانَ فِي مُوَرِّثِهِمْ ﷺ.

أَفَلَا يَرْضَى الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ لَهُ أُسْوَةٌ بِخِيَارِ خَلْقِ اللَّهِ وَخَوَاصِّ عِبَادِهِ الْأَمْثَلِ فَالْأَمْثَلِ؟!

الْمَشْهَدُ الْحَادِيَ عَشَرَ: مَشْهَدُ التَّوْحِيدِ، وَهُوَ أَجَلُّ الْمَشَاهِدِ وَأَرْفَعُهَا، فَإِذَا امْتَلَأَ قَلْبُهُ بِمَحَبَّةِ اللَّهِ، وَالْإِخْلَاصِ لَهُ وَمُعَامَلَتِهِ، وَإِيثَارِ مَرْضَاتِهِ، وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ، وَقُرَّةِ الْعَيْنِ بِهِ، وَالْأُنْسِ بِهِ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ، وَسَكَنَ إِلَيْهِ، وَاشْتَاقَ إِلَى لِقَائِهِ، وَاتَّخَذَهُ وَلِيًّا دُونَ مَنْ سِوَاهُ، بِحَيْثُ فَوَّضَ إِلَيْهِ أُمُورَهُ كُلَّهَا، وَرَضِيَ بِهِ وَبِأَقْضِيَتِهِ، وَانْشَغَلَ بِحُبِّهِ وَخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ وَذِكْرِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى فِي قَلْبِهِ مُتَّسَعٌ لِشُهُودِ أَذَى النَّاسِ لَهُ أَلْبَتَّةَ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَشْتَغِلَ قَلْبُهُ وَفِكْرُهُ وَسِرُّهُ بِتَطَلُّبِ الِانْتِقَامِ وَالْمُقَابَلَةِ؛ فَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ قَلْبٍ لَيْسَ فِيهِ مَا يُغْنِيهِ عَنْ ذَلِكَ الْمَذْكُورِ وَيُعَوِّضُهُ مِنْهُ، فَهُوَ قَلْبٌ جَائِعٌ غَيْرُ شَبْعَانَ، فَإِذَا رَأَى أَيَّ طَعَامٍ رَآهُ هَفَتْ إِلَيْهِ نَوَازِعُهُ، وَانْبَعَثَتْ إِلَيْهِ دَوَاعِيهِ، وَأَمَّا مَنِ امْتَلَأَ قَلْبُهُ بِأَعْلَى الْأَغْذِيَةِ وَأَشْرَفِهَا؛ فَإِنَّهُ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى مَا دُونَهَا، وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)).

((مَوْقِفَا الشَّوْقِ وَالْيَأْسِ))

أَمَّا مَوْقِفُ الشَّوْقِ فَهُوَ:

وَإِنِّي لَأَرْضَى مِنْ حَبِيبِي بِالَّذِي=لَوَ ابْصَرَهُ الْوَاشِي لَقَرَّتْ بَلَابِلُهُ

بِلَا وَبِأَلَّا أَسْتَطِيعَ وَبِالْمُنَى=وَبِالْأَمَلِ الْمَرْجُوِّ قَدْ خَابَ آمِلُهُ

وَبِالنَّظْرَةِ الْعَجْلَى وَبِالْحَوْلِ تَنْقَضِي=أَوَاخِرُهُ لَا نَلْتَقِي وَأَوَائِلُهُ

وَأَمَّا مَوْقِفُ الْيَأْسِ فَهُوَ:

أَفِقْ قَدْ أَفَاقَ الْعَاشِقُونَ وَفَارَقُوا الْهَوَى=وَاسْتَمَرَّتْ بِالرِّجَالِ الْمَرَائِرُ

وَهَبْهَا كَشَيْءٍ لَمْ يَكُنْ أَوْ كَنَازِحٍ=بِهِ الدَّارُ أَوْ مَنْ غَيَّبَتْهُ الْمَقَابِرُ

هَذَا يَقُولُهُ اللِّسَانُ يَأْسًا، وَأَمَّا الْقَلْبُ فَيَهْتِفُ: بَلْ فِدَاهُ الرُّوحُ وَالْقَلْبُ وَالْجَسَدُ

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((التَّسَامُحُ وَالْعَفْوُ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ))

فَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قِبَلَ نَجْدٍ، فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَفَلَ مَعَهُ -أَيْ: رَجَعَ مَعَهُ-، فَأَدْرَكَتْهُمُ الْقَائِلَةُ فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ -وَالْعِضَاهُ: نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الشَّجَرِ- فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الْعِضَاهِ، يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ تَحْتَ سَمُرَةٍ فَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ.

قَالَ جَابِرٌ: ((فَنِمْنَا نَوْمَةً، ثُمَّ إِذَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَدْعُونَا، فَجِئْنَاهُ، فَإِذَا عِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ جَالِسٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ سَيْفِي وَأَنَا نَائِمٌ، فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ فِي يَدِهِ صَلْتًا، فَقَالَ لِي: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قُلْتُ: اللَّهُ))، فَهَا هُوَ جَالِسٌ، ثُمَّ لَمْ يُعَاقِبْهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ )). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً، نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عُنُقِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَقَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ.

ثُمَ قَالَ: ((يَا مُحَمَّدُ! مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ!))، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ، وَلَا امْرَأَةً وَلَا خَادِمًا، إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شِيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ، إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللهِ فَيَنْتَقِمَ لِلهِ -عَزَّ وَجَلَّ- )). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسولُ اللهِ ﷺ: ((مَا رُزِقَ عَبْدٌ خَيْرًا لَهُ وَلَا أَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ)). أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ مَكْتُوبٌ فِي الْإِنْجِيلِ: لَا فَظٌّ، وَلَا غَلِيظٌ، وَلَا صَخَّابٌ بِالْأَسْوَاقِ، وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ مِثْلَهَا، بَلْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ)). أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)).

وَعَن عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَأنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ، وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْهُ ﷺ: ((أَنَّهُ ظَلَّ يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: اللهم اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)).

وَهَذَا الدُّعَاءُ بِالْمَغْفِرَةِ كَانَ قَبْلَ أَنْ يُنْهَى عَنْهُ ﷺ.

وَعَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -أَيْ: عَنْ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-- قَالَ: ((لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ آثَرَ النَّبِيُّ ﷺ أُنَاسًا فِي الْقِسْمَةِ، فَأَعْطَى الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَأَعْطَى أُنَاسًا مِنْ أَشْرَافِ الْعَرَبِ فَآثَرَهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْقِسْمَةِ، قَالَ رَجُلٌ: ((وَاللَّهِ! إِنَّ هَذِهِ قِسْمَةٌ مَا عُدِلَ فِيهَا، وَمَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ!)).

فَقُلتُ: ((وَاللَّهِ! لَأُخْبِرَنَّ النَّبِيَّ ﷺ، فَأَتَيْتُهُ، فَأَخْبَرْتُهُ)).

فَقَالَ: ((فَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ يَعْدِلِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ رَكِبَ حِمَارًا عَلَيْهِ إِكَافٌ تَحْتَهُ قَطِيفَةٌ فَدَكِيَّةٌ، وَأَرْدَفَ وَرَاءَهُ أُسَامَةَ وَهُوَ يَعُودُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ فِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَذَاكَ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، حَتَّى مَرَّ بِمَجْلِسٍ فِيهِ أَخْلَاطٌ؛ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، وَالْيَهُودِ، فِيهِمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ، وَفِي الْمَجْلِسِ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَلَمَّا غَشِيَتِ الْمَجْلِسَ عَجَاجَةُ الدَّابَّةِ، خَمَّرَ عبدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ أَنْفَهُ بِرِدَائِهِ، ثُمَّ قَالَ: لَا تُغَبِّرُوا عَلَيْنَا، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ ﷺ، ثُمَّ وَقَفَ، فَنَزَلَ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللهِ، وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ: ((أَيُّهَا الْمَرْءُ! لَا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا إِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا، فَلَا تُؤْذِنَا فِي مَجَالِسِنَا، وَارْجِعْ إِلَى رَحْلِكَ، فَمَنْ جَاءَكَ مِنَّا فَاقْصُصْ عَلَيْهِ)).

فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ: ((اغْشَنَا فِي مَجَالِسِنَا فَإِنَّا نُحِبُّ ذَلِكَ)).

قَالَ: فَاسْتَبَّ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَتَوَاثَبُوا، فَلَمْ يَزَلِ النَّبِيُّ ﷺ يُخَفِّضُهُمْ، ثُمَّ رَكِبَ دَابَّتَهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَقَالَ: ((أَيْ سَعْدُ! أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى مَا قَالَ أَبُو حُبَابٍ -يُرِيدُ عَبْدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ-، قَالَ: كَذَا وَكَذَا)).

قَالَ: ((اعْفُ عَنْهُ يَا رَسُولَ اللهِ، وَاصْفَحْ، فَوَاللَّهِ! لَقَدْ أَعْطَاكَ اللَّهُ الَّذِي أَعْطَاكَ، وَلَقَدِ اصْطَلَحَ أَهْلُ هَذِهِ الْبُحَيْرَةِ أَنْ يُتَوِّجُوهُ فَيُعَصِّبُوهُ بِالْعِصَابَةِ، فَلَمَّا رَدَّ اللَّهُ ذَلِكَ بِالْحَقِّ الَّذِي أَعْطَاكَهُ؛ شَرِقَ بِذَلِكَ، فَذَلِكَ فَعَلَ بِهِ مَا رَأَيْتَ))، فَعَفَا عَنْهُ النَّبِيُّ ﷺ )). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -وَكَانَ أَحَدَ الثَّلَاثَةِ الَّذِين تِيبَ عَلَيْهِمْ- قَالَ: ((كَانَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ يَهْجُو النَّبِيَّ ﷺ، وَيُحَرِّضُ عَلَيْهِ كُفَّارَ قُرَيْشٍ، وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَأَهْلُهَا أَخْلَاطٌ؛ مِنْهُمُ الْمُسْلِمُونَ، وَالْمُشْرِكُونَ يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ، وَالْيَهُودُ، وَكَانُوا يُؤْذُونَ النَّبِيَّ ﷺ وَأَصْحَابَهُ، فَأَمَرَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- نَبِيَّهُ بِالصَّبْرِ وَالْعَفْوِ، فَفِيهِمْ أَنْزَلَ اللهُ: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا ۚ وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186])). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

النَّبِيُّ ﷺ أَمَرَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ، وَلِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ الْأُسْوَةُ الْحَسَنَةُ.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: ((بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ ﷺ جَالِسٌ وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ وَقَعَ رَجُلٌ بِأَبِي بَكْرٍ فَآذَاهُ، فَصَمَتَ عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ آذَاهُ الثَّانِيَةَ، فَصَمَتَ عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ آذَاهُ الثَّالِثَةَ، فَانْتَصَرَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ ﷺ حِينَ انْتَصَرَ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: ((أَوَجَدْتَ عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللهِ؟)).

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((نَزَلَ مَلَكٌ مِنَ السَّمَاءِ يُكَذِّبُهُ بِمَا قَالَ لَكَ، فَلَمَّا انْتَصَرْتَ وَقَعَ الشَّيْطَانُ فَلَمْ أَكُنْ لِأَجْلِسَ إِذْ وَقَعَ الشَّيْطَانُ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْبَغَوِيُّ فِي ((شَرْحِ السُّنَّةِ))، وَحَسَّنَهُ فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)) الْأَلْبَانِيُّ، وَفِيهَا: ((إِذَا ظَنَنْتُمْ فَلَا تَحَقَّقُوا، وَإِذَا حَسَدْتُمْ فَلَا تَبْغُوا، وَإِذَا تَطَيَّرْتُمْ فَامْضُوا، وَعَلَى اللهِ تَوَكَّلُوا، وَإِذَا وَزَنْتُمْ فَأَرْجِحُوا)).

وَعَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ خِيَارَ عِبَادِ اللهِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّذِينَ إِذَا رُؤُوا ذُكِرَ اللهُ -تَعَالَى-، وَإِنَّ شِرَارَ عِبَادِ اللهِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمَشَّاؤُونَ بِالنَّمِيمَةِ، الْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ، الْبَاغُونَ لِلْبُرَآءِ الْعَنَتَ)). أَخْرَجَهُ الْخَرَائِطِيُّ فِي ((مَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ))، وَأَدْرَجَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)).

وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قُلْتُ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ: ((أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟)).

قَالَ: فَقَالَ: ((الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالدَّارِمِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَه، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَجَوَّدَ إِسْنَادَهُ فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)).

وَالنَّبِيُّ ﷺ سَحَرَهُ الْيَهُودِيُّ، وَرَوَتْ ذَلِكَ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ))، وَفِي غَيْرِهِمَا عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي ((الْكَبِيرِ))، وَالْحَاكِمِ فِي ((الْمُسْتَدْرَكِ))، وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ يَدْخُلُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، وَكَانَ يَأْمَنُهُ -يَأْمَنُهُ النَّبِيُّ-، فَعَقَدَ لَهُ عُقَدًا -أَيْ: صَنَعَ لَهُ سِحْرًا-، فَوَضَعَهُ فِي بِئْرِ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَاشْتَكَى النَّبِيُّ لِذَلِكَ أَيَّامًا -فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: سِتَّةَ أَشْهُرٍ-، فَأَتَاهُ مَلَكَانِ يَعُودَانِهِ، فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِهِ وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيْهِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَتَدْرِي مَا وَجَعُهُ؟

قَالَ: فُلَانٌ الَّذِي كَانَ يَدْخُلُ عَلَيْهِ عَقَدَ لَهُ عُقَدًا، فَأَلْقَاهُ فِي بِئْرِ فُلَانٍ الْأَنْصَارِيِّ، فَلَوْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ رَجُلًا، وَأَخَذَ مِنْهُ الْعُقَدَ لَوَجَدَ الْمَاءَ قَدِ اصْفَرَّ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ، فَنَزَلَ عَلَيْهِ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ، وَقَالَ: إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ سَحَرَكَ، وَالسِّحْرُ فِي بِئْرِ فُلَانٍ)).

قَالَ: فَبَعَثَ رَجُلًا -وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: فَبَعَثَ عَلِيًّا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ--، فَوَجَدَ الْمَاءَ قَدِ اصْفَرَّ، فَأَخَذَ الْعُقَدَ، فَجَاءَ بِهَا، فَأَمَرَهُ أَنْ يَحُلَّ الْعُقَدَ، وَيَقْرَأَ آيَةً، فَحَلَّهَا، فَجَعَلَ يَقْرَأُ وَيَحُلُّ، فَجَعَلَ كُلَّمَا حَلَّ عُقْدَةً وَجَدَ لِذَلِكَ خِفَّةً، فَبَرَأَ -وَفِي الطَّرِيقِ الْأُخْرَى: فَقَامَ رَسُولُ اللهِ ﷺ كَأَنَّمَا نَشِطَ مِنْ عِقَالٍ-، وَكَانَ الرَّجُلُ بَعْدَ ذَلِكَ -الَّذِي سَحَرَهُ- يَدْخُلُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ شَيْئًا مِنْهُ، وَلَمْ يُعَاتِبْهُ قَطُّ حَتَّى مَاتَ)) -صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ-.

فَهَذَا نَبِيُّكُمْ -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ-!

هَذَا رَسُولُ اللهِ ﷺ!

((الرُّوحُ أَصْلُ جَمِيعِ الْعَلَاقَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ))

إِنَّ مَرْجِعَ الْمَسْأَلَةِ إِلَى الرُّوحِ، وَالرُّوحُ إِمَّا طَيِّبَةٌ وَإِمَّا خَبِيثَةٌ، وَقَدْ قَرَّرَتِ السُّنَّةُ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَفِيهِ قَوْلُ الْمَلَائِكَةِ عِنْدَ صُعُودِ الرُّوحِ بَعْدَ قَبْضِهَا: ((أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ))، وَلِلْأُخْرَى: ((أَيَّتُهَا الرُّوحُ الْخَبِيثَةُ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الْخَبِيثِ)).

فَالرُّوحُ إِمَّا طَيِّبَةٌ وَإِمَّا خَبِيثَةٌ، وَالرُّوحُ الْخَبِيثَةُ يَمْضِي مِنْهَا مَا يَمْضِي مِنَ الشُّرُورِ وَالْحَسَدِ، وَيَدْفَعُ ذَلِكَ إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الْآثَامِ وَالذُّنُوبِ، وَمِنَ الِاعْتِدَاءِ عَلَى خَلْقِ اللهِ بِلَا مُوجِبٍ.

((وَهَذَا هُوَ الْمَثَلُ مَنْ تَأَمَّلَ فِيهِ وَجَدَهُ كَالْخَشَبِ الْمُلْقَى: هَلْ الِانْفِعَالُ وَالتَّأَثُّرُ وَحُدُوثُ مَا يَحْدُثُ عَنْ هَذِهِ الرُّوحِ مِنَ الْأَفْعَالِ الْعَجِيبَةِ وَالْآثَارِ الْغَرِيبَةِ إِلَّا مِنْهَا، الْأَجْسَامُ آلَتُهَا، بِمَنْزِلَةِ الصَّانِعِ، فَالصَّنْعَةُ فِي الْحَقِيقَةِ لَهُ، وَالْآلَاتُ وَسَائِطُ فِي وُصُولِ أَثَرِهِ إِلَى الصُّنْعِ.

مَنْ لَهُ أَدْنَى فِطْنَةٍ وَتَأَمُّلٍ لِأَحْوَالِ الْعَالَمِ وَقَدْ لَطُفَ رُوحُهُ، وَشَاهَدَتْ أَحْوَالَ الْأَرْوَاحِ وَتَأْثِيرَاتِهَا، وَتَحْرِيكَهَا الْأَجْسَامَ وَانْفِعَالَهَا عَنْهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ بِتَقْدِيرِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، خَالِقِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ.. مَنْ لَهُ فِطْنَةٌ وَتَأَمُّلٌ رَأَى عَجَائِبَ فِي الْكَوْنِ، وَآيَاتٍ دَالَّةً عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللهِ، وَعَظَمَةِ رُبُوبِيَّتِهِ، وَأَنَّ ثَمَّ عَالَمًا آخَرَ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامٌ أُخَرُ تُشْهَدُ آثَارُهَا، وَأَسْبَابُهَا غَيْبٌ عَنِ الْأَبْصَارِ، فَتَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَأَحْسَنُ الْخَالِقِينَ الَّذِي أَتْقَنَ مَا صَنَعَ، وَأَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ.

وَلَا نِسْبَةَ لِعَالَمِ الْأَجْسَامِ إِلَى عَالَمِ الْأَرْوَاحِ، بَلْ هُوَ أَعْظَمُ وَأَوْسَعُ، وَعَجَائِبُهُ أَبْهَرُ وَآيَاتُهُ أَعْجَبُ.

وَتَأَمَّلْ هَذَا الْهَيْكَلَ الْإِنْسَانِيَّ إِذَا فَارَقَتْهُ الرُّوحُ، كَيْفَ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْخَشَبَةِ أَوِ الْقِطْعَةِ مِنَ اللَّحْمِ؟! فَأَيْنَ ذَهَبَتْ تِلْكَ الْعُلُومُ وَالْمَعَارِفُ وَالْعَقْلُ، وَتِلْكَ الصَّنَائِعُ الْغَرِيبَةُ، وَتِلْكَ الْأَفْعَالُ الْعَجِيبَةُ، وَتِلْكَ الْأَفْكَارُ وَالتَّدْبِيرَاتُ، كَيْفَ ذَهَبَتْ كُلُّهَا مَعَ الرُّوحِ، وَبَقِيَ الْهَيْكَلُ سَوَاءً هُوَ وَالتُّرَابُ؟! وَهَلْ يُخَاطِبُكَ مِنَ الْإِنْسَانِ أَوْ يَرَاكَ أَوْ يُحِبُّكَ أَوْ يُوَالِيكَ، أَوْ يُعَادِيكَ، وَيَخِفُّ عَلَيْكَ أَوْ يَثْقُلُ، وَيُؤْنِسُكَ أَوْ يُوحِشُكَ إِلَّا ذَلِكَ الْأَمْرُ الَّذِي هُوَ وَرَاءَ الْهَيْكَلِ الْمُشَاهَدِ بِالْبَصَرِ؟!

فَرُبَّ رَجُلٍ عَظِيمِ الْهَيُولَى كَبِيرِ الْجُثَّةِ، خَفِيفٌ عَلَى قَلْبِكَ، حُلْوٌ عِنْدَكَ، وَآخَرُ لَطِيفُ الْخِلْقَةِ، صَغِيرُ الْجُثَّةِ، وَهُوَ أَثْقَلُ عَلَى قَلْبِكَ مِنْ جَبَلٍ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِلَطَافَةِ رُوحِ ذَاكَ وَخِفَّتِهَا وَحَلَاوَتِهَا، وَكَثَافَةِ هَذَا وَغِلَظِ رُوحِهِ وَمَرَارَتِهَا.

وَبِالْجُمْلَةِ؛ فَالْعُلَقُ وَالْوُصَلُ الَّتِي بَيْنَ الْأَشْخَاصِ وَالْمُنَافَرَاتُ وَالْبُعْدُ إِنَّمَا هِيَ لِلْأَرْوَاحِ أَصْلًا وَلِلْأَشْبَاحِ تَبَعًا)).

فَحَرْفُ الْمَسْأَلَةِ يَدُورُ عَلَى الرُّوحِ؛ إِمَّا طَيِّبَةً، وَإِمَّا خَبِيثَةً؛ فَلْنَتَّقِ اللهَ أَنْ تَكُونَ أَرْوَاحُنَا خَبِيثَةً، وَلْنَسْأَلِ اللهَ أَنْ تَكُونَ أَرْوَاحُنَا طَيِّبَةً.

((يَا مَنْ عَلَى الْبُعْدِ يَنْسَانَا وَنَذْكُرُهُ!))

يَا مَنْ عَلَى الْبُعْدِ يَنْسَانَا وَنَذْكُرُهُ   =   لَسَوْفَ تَذْكُرُنَا يَوْمًا وَنَنْسَاكَا

إِنَّ الظَّلَامَ الَّذِي يَجْلُوكَ يَا قَمَرُ    =    لَهُ صَبَاحٌ مَتَى تُدْرِكُهُ أَخْفَاكَا

وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ، وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

المصدر: التَّسَامُحُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  النَّبِيُّ الْقُدْوَةُ مُعَلِّمًا وَمُرَبِّيًا
  عيد الفطر لعام 1437هـ .. اتقوا الظلم
  تفجيرات بروكسل بين الغدر والخيانة
  مَخَاطِرُ الْإِدْمَانِ وَالْمُخَدِّرَاتِ
  عيد الفطر لعام 1436هـ .. خوارج العصر
  مُحَمَّدٌ ﷺ نَبِيُّ الرَّحْمَةِ، فَلْنَحْمَلْ رَحْمَتَهُ لِلْعَالَمِينَ
  حسْنُ الْعِشْرَةِ وَحِفْظُهَا
  حَالُ النَّبِيِّ ﷺ مَعَ أَهْلِهِ
  مُتَطَلَّبَاتُ الْوَلَاءِ وَالِانْتِمَاءِ لِلْوَطَنِ
  جَوْهَرُ الْإِسْلَامِ وَرِسَالَتُهُ السَّمْحَةُ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان