الشَّهَامَةُ وَالْمُرُوءَةُ وَالتَّضْحِيَةُ فِي الْإِسْلَامِ

الشَّهَامَةُ وَالْمُرُوءَةُ وَالتَّضْحِيَةُ فِي الْإِسْلَامِ

((الشَّهَامَةُ وَالْمُرُوءَةُ وَالتَّضْحِيَةُ فِي الْإِسْلَامِ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

«الْحَثُّ عَلَى خُلُقِ الشَّهَامَةِ وَتَفْرِيجِ كُرُبَاتِ الْمُسْلِمِينَ»

فَالرَّسُولُ ﷺ يُرَغِّبُ فِي قَضَاءِ حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي إِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَيْهِمْ، وَيُبيِّنُ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَحْسَنَ إِلَى أَخِيهِ؛ أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْهِ، وَإِذَا مَا سَعَى فِي حَاجَةِ أَخِيهِ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَقْضِي حَوَائِجَهُ، وَإِذَا مَا شَفَعَ لِأَخٍ مِنْ إِخْوَانِهِ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يَتَحَصَّلُ مِنْ وَرَائِهَا عَلَى نَفْعٍ، أَوْ يَسْتَدْفِعُ بِهَا ضُرًّا؛ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَحَصَّلَ مِنْ أَخِيهِ عَلَى نَفْعٍ وَلَوْ بِهَدِيَّةٍ يُهْدِيهَا إِلَيْهِ، فَإِذَا شَفَعَ لِأَخِيهِ، فَأَهْدَى أَخُوهُ إِلَيْهِ بَعْدَ الشَّفَاعَةِ الْمَقْبُولَةِ؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ قَدْ وَلَجَ فِي بَابٍ مِنْ أَوْسَعِ أَبْوَابِ الرِّبَا.

عَنْ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يُسْلِمُهُ، مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً؛ فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ».

وَشَتَّان مَا بَيْنَ كُرْبَةِ الدُّنْيَا وَكُرْبَةِ الْآخِرَةِ، فَهَذَا عَطَاءٌ مِنْ صَاحِبِ الْعَطَاءِ وَالْفَضْلِ: «فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». هَذَا حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ .

«فَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ فَضَحَ مُسْلِمًا أَوْ سَعَى فِي فُضُوحِهِ؛ فَضَحَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي الدُّنْيَا وَعَلى رُؤُوسِ الْأَشْهَادِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».

«يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ، لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَبَّعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ؛ فَضَحَهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ بَيْتِهِ» .

وَيُبَيِّنُ لَنَا النَّبِيُّ ﷺ فِي حَدِيثٍ حَسَنٍ، فَيَقُولُ: «وَمَنْ مَشَى مَعَ مَظْلُومٍ حَتَّى يُثبِتَ لَهُ حَقَّهُ؛ ثَبَّتَ اللهُ قَدَمَيْهِ عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ تَزُولُ الْأَقْدَامُ» .

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَمَا فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ»  وَغَيْرِهِ: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا؛ نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ فِي الدُّنْيَا؛ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ فِي الدُّنْيَا؛ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ».

*الشَّهَامَةُ وَقَضَاءُ حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ سَبَبٌ فِي تَقْيِيدِ النِّعَمِ عِنْدَ الْعَبْدِ:

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ للهِ عِنْدَ أَقْوَامٍ نِعَمًا أَقَرَّهَا عِنْدَهُم -يَعْنِي: جَعَلَهَا ثَابِتَةً عِنْدَهُمْ-؛ مَا كَانُوا فِي حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ مَا لَمْ يَمَلُّوهُمْ، فَإِذَا مَلُّوهُمْ نَقَلَهَا اللهُ إِلَى غَيْرِهِمْ» .

وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي «الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ».

وَهُوَ حَدِيثٌ مُهِمٌّ جِدًّا: «إِنَّ للهِ عِنْدَ أَقْوَامٍ نِعَمًا أَقَرَّهَا عِنْدَهُمْ؛ مَا كَانُوا فِي حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ مَا لَمْ يَمَلُّوهُمْ».

فَهَذِهِ النِّعَمُ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عِنْدَ أَقْوَامٍ إِنَّمَا جعلَهَا مِنْ أَجْلِ أَنْ يَقْضُوا بِهَا حَوَائِجَ الْمُسْلِمِينَ، بِشَرْطِ: أَلَّا يَمَلُّوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَمِنْ طَلَبِهِمْ، وَألَّا يُصِيبَهُمُ الْمَلَلُ فِي قَضَاءِ حَوَائِجِ إِخْوَانِهِمْ بِنِعَمِ اللهِ الَّتِي عِنْدَهُمْ؛ لِأَنَّ اللهَ إِنَّمَا جَعَلَ تِلْكَ النِّعَمَ عِنْدَ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَقْضُوا بِهَا حَوَائِجَ الْمُسْلِمِينَ «مَا لَمْ يَمَلُّوهُمْ، فَإِذَا مَلُّوهُمْ نَقَلَهَا اللهُ إِلَى غَيْرِهِمْ».

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ للهِ أَقْوَامًا اخْتَصَّهُمْ بِالنِّعَمِ لِمَنَافِعِ الْعِبَادِ، يُقِرُّهُمْ فِيهَا مَا بَذَلُوهَا، فَإِذَا مَنَعُوهَا نَزَعَهَا مِنْهُمْ فَحَوَّلَهَا إِلَى غَيْرِهِمْ» . وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ يُبيِّنُ لَنَا نَبِيُّنَا ﷺ أَنَّ أَقْوَامًا اخْتَصَّهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالنِّعَمِ لِيَكُونُوا سَاعِينَ فِي مَنَافِعِ عِبَادِهِ فِي أَرْضِهِ، وَيُقِرُّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ فِي تِلْكَ النِّعَمِ مَا بَذَلُوهَا لِعِبَادِهِ فِي أَرْضِهِ، فَإِذَا مَنَعُوا النِّعَمَ أَنْ تُبْذَلَ لِأَصْحَابِ الْحَاجَاتِ وَفِي قَضَاءِ حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ؛ نَزَعَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- النِّعَمَ عَنْ أُولَئِكَ الْقَوْمِ الَّذِينَ اخْتَصَّهُم بِالنِّعَمِ لِمَنَافِعِ الْعِبَادِ فَحَوَّلَهَا إِلَى غَيْرِهِمْ.

وَهَذَا أَمْرٌ يَتَعَلَّقُ بِقُدْرَةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَمَشِيئَتِهِ؛ لِأَنَّ الَّذِي يُعْطَى الْيَوْمَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُعْطِيًا غَدًا، وَالَّذِي يَأْخُذُ الْيَوْمَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُعْطِيًا فِي غَدٍ، وَالَّذِي يَكُونُ لَهُ الْيَدُ الْعُلْيَا فِي يَوْمٍ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ يَدُهُ السُّفْلَى فِي يَوْمٍ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَرْفَعُ وَيَخْفِضُ، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يُعِزُّ وَيُذِلُّ.

وَلَيْسَ أَحَدٌ بِمُسْتَحِقٍّ لِنِعْمَةٍ يُوَصِّلُهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَحْضُ جُودٍ لَا بَذْلُ مَجْهُودٍ، وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هُوَ الَّذِي يُعْطِي، وَهُوَ الَّذِي يُؤْتِي الْبِرَّ مَنْ يَشَاءُ بِرَحْمَتِهِ، فَيَجْعَلُ ذَلِكَ الْخَيْرَ عِنْدَ أَقْوَامٍ، فَإِنْ شَكَرُوا نِعْمَةَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِمْ؛ زَادَهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِنْعَامًا، وَثَبَّتَ النِّعَمَ لَدَيْهِمْ.

وَإِذَا مَا جَحَدُوهَا فَلَمْ يَبْذُلُوهَا فِي حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يُرَاعُوا أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَمْ يَخْتَصَّهُمْ بِتِلْكَ النِّعَمِ لِأُمُورٍ جَعَلَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مُتَعَلِّقَةً بَالْمُسْتَضْعَفِينَ فِي أَرْضِهِ، إِذَا لَمْ يُرَاعُوا ذَلِكَ وَظَنُّوا أَنَّهَا إِنَّمَا كَانَتْ بِاسْتِحْقَاقٍ عِنْدَهُمْ؛ فَشَأْنُهُمْ كَشَأْنِ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي ظَنَّ أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِنَّمَا آتَاهُ وَأَعْطَاهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدَهُ، وَأَنَّهُ بِقُدُرَاتِهِ قَدْ تَحَصَّلَ عَلَى مَا تَحَصَّلَ عَلَيْهِ، فَنَزَعَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْهُ النِّعْمَةَ، وَخَسَفَ بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

وَيُحَذِّرُ النَّبِيُّ ﷺ وَيُنذِرُ، وَيُبَيِّنُ لَنَا ﷺ هَذَا الْأَمْرَ الْكَبِيرَ، فَيَقُولُ ﷺ: «مَا مِنْ عَبْدٍ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ نِعْمَةً فَأَسْبَغَهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ حَوَائِجِ النَّاسِ إِلَيْهِ فَتَبَرَّمَ؛ فَقَدْ عَرَّضَ تِلْكَ النِّعْمَةَ لِلزَّوَالِ»  

يَتَبَرَّمُ مِنَ النَّاسِ وَيَرُدُّهُمْ، وَلَا يُحْسِنُ اسْتِقَبَالَهُمْ، وَإِنَّمَا يُصِيبُهُ الْمَلَلُ، فَيُعْرِضُ عَنْهُمْ، وَيُغلِظُ فِي الْكَلَامِ الْوَاصِلِ إِلَيْهِمْ، وَيَخْشُنُ فِي مُعَامَلَتِهِ مَعَ الْخَلْقِ فِي أَرْضِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ فَقَدْ عَرَّضَ تِلْكَ النِّعْمَةَ لِلزَّوَالِ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِنَّمَا جَعَلَهُ مُوَصِّلًا لِلنِّعْمَةِ إِلَى الْخَلْقِ فِي الْأَرْضِ.

وَلَمْ يَجْعَلِ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- ذَلِكَ عَلَى عِلْمٍ عِنْدَ ذَلِكَ الْعَبْدِ، وَإِنَّمَا جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ذَلِكَ الْأَمْرَ مَحْضَ بَذْلٍ لِلجُّودِ مِنْ لَدُنْهُ -جَلَّ وَعَلَا- وَهُوَ صَاحِبُ الْبِرِّ، فَإِذَا تَبَرَّمَ مِنْ حَوَائِجِ النَّاسِ، وَإِذَا مَا تَمَلْمَلَ مِنْ قَضَاءِ حَوَائِجِ الْخَلْقِ؛ فَقَدْ عَرَّضَ تِلْكَ النِّعْمَةَ لِلزَّوَالِ.

وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: «لَا يَزَالُ اللهُ فِي حَاجَةِ الْعَبْدِ مَا دَامَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ»  

*الْحَثُّ عَلَى الشَّهَامَةِ مَعَ ذِي الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفِ:

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا مَا أَمْسَكَ عَنِ الشَّرِّ؛ فَقَدْ أَتَى بِالصَّدَقَةِ، إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْ يَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُعِينَ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفِ، وَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَعْتَمِلَ بِيَدِهِ فَيَنْفَعُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهِ ذَاتَهُ، وَيَتَصَدَّقُ عَلَى خَلْقِ اللهِ؛ فَعَلَيْهِ أَنْ يُمْسِكَ عَنِ الشَّرِّ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ، فَمَنْ أَمْسَكَ عَنِ الشَّرِّ فَقَدْ تَصَدَّقَ كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ .

 

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: «عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ».

قِيلَ: أَرَأيْتَ إِنْ لَمْ يَجِدْ؟

قَالَ: «يَعْتَمِلُ بِيَدَهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ».

قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؟

قَالَ: «يُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ».

قَالَ: قِيلَ لَهُ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؟

قَالَ: «يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ أَوْ الخَيْرِ».

قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ؟

قَالَ: «يُمْسِكُ عَنِ الشَّرِّ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ».

«أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ إِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى الْمُؤْمِنِ»

عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ: إِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى الْمُؤْمِنِ، كَسَوْتَ عَوْرَتَهُ، أَوْ أَشْبَعْتَ جَوْعَتَهُ، أَوْ قَضَيْتَ لَهُ حَاجَةً» .

النَّبِيُّ ﷺ يَجْعَلُ فِي قِمَّةِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَفِي قِمَّةِ الْأَعْمَالِ الْمَقْبُولَةِ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: إِدْخَالَ السُّرُورِ عَلَى الْمُؤْمِنِ: «كَسَوْتَ عَوْرَتَهُ، أَوْ أَشْبَعْتَ جَوْعَتَهُ، أَوْ قَضَيْتَ لَهُ حَاجَةً».

وَذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ الْحَاجَةَ مُنَكَّرَةً لِيَدُلَّ عَلَى أَيِّ حَاجَةٍ قُضَيْتَ، قَضَيْتَ لَهُ حَاجَةً بِمُطْلَقِ الْحَاجَةِ.

فَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: «أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جَزَعًا، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا» .

وَذَكَرَ الرَّسُولُ ﷺ أَمْرًا عَظِيمًا جِدًّا، لَوْ تَأَمَّلَ الْإِنْسَانُ فِيهِ تَأمُّلًا صَحِيحًا؛ لَعَلِمَ أَنَّ الْأَعْمَالَ تَتَفَاوَتُ مَرَاتِبُهَا عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَأَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- لَمْ يَجْعَلِ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ مَقْصُورَةً عَلَى أُمُورٍ بِعَيْنِهَا، وَإِنَّمَا جَعَلَ الْخَيْرَ شَائِعًا فِي أَعْمَالِ الْبِرِّ وَالصَّلَاحِ.

جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ، وَأَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟

فَقَالَ ﷺ: «أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا» .

*قَضَاءُ حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضِ نَوَافِلِ الْعِبَادَاتِ:

يَقُولُ الرَّسُولُ ﷺ: «وَلَأَنْ أَمْشِي مَعَ أَخٍ فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ -يَعْنِي: مَسْجِدَ النَّبِيِّ ﷺ- شَهْرًا» .

لَأَنْ يَمْشِيَ النَّبِيُّ ﷺ مَعَ أَخٍ فِي حَاجَةٍ -أَيِّ حَاجَةٍ- مَا دَامَتْ مِمَّا يَرْضَى عَنْهُ الشَّرْعُ؛ فَذَلِكَ أَحَبُّ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ مِنْ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدِهِ شَهْرًا، زَمَنٌ طَوِيلٌ فِي اعْتِكَافٍ مَقْبُولٍ مِنَ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ فِي بُقْعَةٍ طَاهِرَةٍ مُبَارَكَةٍ -هِيَ مَسْجِدُ النَّبِيِّ ﷺ-، وَمَعَ ذَلِكَ فَمَشْيُهُ فِي قَضَاءِ حَاجَةٍ لِأَخٍ مِنْ إِخْوَانِهِ هِيَ أَفْضَلُ فَضْلًا، وَأَعْظَمُ قَدْرًا، وَأَحَبُّ إِلَى الرَّسُولِ ﷺ مِنْ أَجْرِ ذَلِكَ الِاعْتِكَافِ الَّذِي طَالَتْ مُدَّتُهُ، وَعَظُمَتْ قِيمَتُهُ مِنَ الْكَرِيمِ مُحَمَّدٍ ﷺ فِي مَسْجِدِهِ الْمُكَرَّمِ.

وَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: «وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ؛ مَلَأَ اللهُ قَلْبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رِضًا، وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ حَتَّى يَقْضِيَهَا لَهُ؛ ثَبَّتَ اللهُ قَدَمَيْهِ يَوْمَ تَزُولُ الْأَقْدَامُ» .

فَهَذَا أَمْرٌ -كَمَا تَرَى- جَعَلَهُ النَّبِيُّ ﷺ عَظِيمَ الْقَدْرِ جِدًّا؛ أَنْ تَمْشِيَ مَعَ أَخٍ لَكَ فِي حَاجَةٍ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَقْضِيَهَا لَهُ، بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ فِي إِطَارِ الشَّرْعِ، وَغَيْرَ خَارِجَةٍ عَنْ حُدُودِ الدِّينِ، وَذَلِكَ خَيْرٌ كَمَا بَيَّنَ الرَّسُولُ ﷺ مِنَ اعْتِكَافِ النَّبِيِّ ﷺ؛ إِذْ يَقْضِي حَاجَةً لِأَخٍ مِنْ إِخْوَانِهِ؛ خَيْرٌ لَهُ وَأَحَبُّ مِنَ اعْتِكَافِهِ فِي مَسْجِدِهِ شَهْرًا.

وَجَعَلَ الرَّسُولُ ﷺ الْقَاعِدَةَ الَّتِي يَقُولُهَا النَّاسُ، وَالَّتِي هِيَ مِنْ شَرْعِ اللهِ مِنْ أَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، جَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ الْأَمْرَ فِي هَذِهِ الُجْزْئِيَّةِ وَاضِحًا: «مَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ» فَامْتَلَأَ قَلَبُهُ غَيْظًا كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُنْفِذَهُ، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ ثَوَرَانِهِ فِي فُؤَادِهِ، وَأَنْ يُمْضِيَهُ لِمَنْ قَدْ غَاظَهُ، وَمَنْ كَادَهُ، وَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْهِ؛ «مَلَأَ اللهُ قَلْبَهُ -فِي الْمُقَابِلِ- يَوْمَ الْقِيَامَةِ رِضًا، وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ حَتَّى يَقْضِيَهَا لَهُ؛ ثَبَّتَ اللهُ قَدَمَيْهِ يَوْمَ تَزُولُ الْأَقْدَامُ».

((الْحَثُّ عَلَى الْمُرُوءَةِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ))

فَالْمُرُوءَةُ: هِيَ الْإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ، وَالتَّفَضُّلُ للهِ تَعَالَى، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90].

فَقَدْ قَرَنَ اللهُ تَعَالَى الْعَدْلَ فِيهَا بِالْإِحْسَانِ؛ لِأَنَّ الْعَدْلَ وَحْدَهُ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى الْجَوْرِ, فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ كَامِلًا قَدْ يَقَعُ فِيمَا لَا يَحِلُّ كُلُّهُ, لَكِنَّهُ إِذَا أَخَذَ الْعَدْلَ وَمَعَهُ الْإِحْسَانَ تَرَكَ بَعْضَ مَا يَسْتَحِقُّهُ؛ رَغْبَةً فِيمَا حَثَّهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنَ الْإِحْسَانِ، قَالَ تَعَالَى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195].

وَالْإِحْسَانُ إِلَى الْخَلْقِ هُوَ إِيصَالُ النَّفْعِ الدِّينِيِّ وَالدُّنْيَوِيِّ إِلَيْهِمْ، وَدَفْعُ الشَّرِّ الدِّينِيِّ وَالدُّنْيَوِيِّ عَنْهُمْ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَمْرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْيُهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتَعْلِيمُ جَاهِلِهِمْ، وَوَعْظُ غَافِلِهِمْ، وَالنَّصِيحَةُ لِعَامَّتِهِمْ وَخَاصَّتِهِمْ، وَالسَّعْيُ فِي جَمْعِ كَلِمَتِهِمْ، وَإِيصَالُ الصَّدَقَاتِ وَالنَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةِ وَالْمُسْتَحَبَّةِ إِلَيْهِمْ، عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ وَتَبَايُنِ أَوْصَافِهِمْ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ بَذْلُ النَّدَى، وَكَفُّ الْأَذَى، وَاحْتِمَالُ الْأَذَى، كَمَا وَصَفَ اللهُ بِهِ الْمُتَّقِينَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، فَمَنْ قَامَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ، فَقَدْ قَامَ بِحَقِّ اللهِ وَحَقِّ عِبَادِهِ.

*وَمِنَ الْمُرُوءَةِ الْعَفْوُ وَالْحِلْمُ، فَقَدْ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].

أَيْ: بِرَحْمَةِ اللهِ لَكَ وَلِأَصْحَابِكَ، مَنَّ اللهُ عَلَيْكَ أَنْ ألَنْتَ لَهُمْ جَانِبَكَ، وَخَفَضْتَ لَهُمْ جَنَاحَكَ، وَتَرَقَّقْتَ عَلَيْهِمْ، وَحَسَّنْتَ لَهُمْ خُلُقَكَ، فَاجْتَمَعُوا عَلَيْكَ وَأَحَبُّوكَ، وَامْتَثَلُوا أَمْرَكَ.

{وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا} أَيْ: سَيِّئَ الْخُلُقِ {غَلِيظَ الْقَلْبِ} أَيْ: قَاسِيَهُ، {لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}؛ لِأَنَّ هَذَا يُنَفِّرُهُمْ وَيُبَغِّضُهُمْ لِمَنْ قَامَ بِهِ هَذَا الْخُلُقُ السَّيِّئُ.

فَالْأَخْلَاقُ الْحَسَنَةُ مِنَ الْمُقَدَّمِ فِي الدِّينِ، تَجْذِبُ النَّاسَ إِلَى دِينِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَتُرَغِّبُهُمْ فِيهِ، مَعَ مَا لِصَاحِبِهِ مِنَ الْمَدْحِ وَالثَّوَابِ الْخَاصِّ، وَالْأَخْلَاقُ السَّيِّئَةُ مِنَ الْمُقَدَّمِ فِي الدِّينِ تُنَفِّرُ النَّاسَ عَنِ الدِّينِ، وَتُبَغِّضُهُمْ إِلَيْهِ، مَعَ مَا لِصَاحِبِهَا مِنَ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ الْخَاصِّ، فَهَذَا الرَّسُولُ الْمَعْصُومُ يَقُولُ اللهُُ لَهُ مَا يَقُولُ، فَكَيْفَ بِغَيْرِهِ؟!!

أليس مِن أَوْجَبِ الوَاجِبَاتِ، وأَهَمِّ المُهِمَّاتِ، الاقتداءُ بأخلاقِهِ الكريمةِ، ومعاملةُ النَّاسِ بِمَا يُعَامِلُهُم به ﷺ، مِن اللينِ وحُسْنِ الخُلُقِ والتَّأليفِ، امْتِثَالًا لأمرِ اللهِ، وَجَذْبًا لِعِبَادِ اللهِ لدينِ اللهِ.

ثُمَّ أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى بِأَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ مَا صَدَرَ مِنْهُمْ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي حَقِّهِ ﷺ، وَيَسْتَغْفِرَ لَهُمْ فِي التَّقْصِيرِ فِي حَقِّ اللهِ، فَيَجْمَعُ بَيْنَ الْعَفْوِ وَالْإِحْسَانِ.

{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} أَيْ: الْأُمُورُ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى اسْتِشَارَةٍ وَنَظَرٍ وَفِكْرٍ، فَإِنَّ فِي الِاسْتِشَارَةِ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ مَا لَا يُمْكِنُ حَصْرُهُ.

وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ، وَلَا امْرَأَةً وَلَا خَادِمًا، إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شِيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللهِ فَيَنْتَقِمَ للهِ -عَزَّ وَجَلَّ- )). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسولُ اللهِ ﷺ: ((مَا رُزِقَ عَبْدٌ خَيْرًا لَه وَلَا أَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ)). أَخْرَجَهُ الحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ.

وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ مَكْتُوبٌ فِي الإِنْجِيلِ: لَا فَظٌّ، وَلَا غَلِيظٌ، وَلَا صَخَّابٌ بِالْأَسْوَاقِ، وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ مِثْلَهَا، بَلْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ)). أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَابْنُ عَسَاكِرِ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)).

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا».

فِي الصَّفْحِ وَالْعَفُوِ وَالْحِلْمِ مِنَ الْحَلَاوَةِ وَالطُّمْأَنِينَةِ وَالسَّكِينَةِ، وَشَرَفِ النَّفْسِ، وَعِزِّهَا وَرِفْعَتِهَا عَنْ تَشَفِّيهَا بِالِانْتِقَامِ مَا لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُ فِي الْمُقَابَلَةِ وَالِانْتِقَامِ.

*وَالْمُرُوءَةُ فِي قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199].

فَإِحْسَانُ التَّعَامُلِ مَعَ الْخَلْقِ هُوَ امْتِثَالٌ لِأَمْرِ الرَّبِّ وَامْتِثَالٌ لِأَمْرِ النَّبِيِّ الْأَكْرَمِ ﷺ: «وَخَالِق النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ».

((خَالِقْ النَّاسَ)): مِنَ الْمُفَاعَلَةِ بَيْنَكَ وَبَيْنَ النَّاسِ، يَعْنِي: فَلْتَكُنْ أَخْلَاقُكَ الْمَبْذُولَةُ إِلَيْهُمْ حَسَنَةً.

((خَالِقْ النَّاسَ)): فَهُوَ فِعْلُ أَمْرٍ، «وخالِق الناسَ بخُلقٍ حَسَنٍ».

فَهُوَ امْتِثَالٌ لِأَمْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَامْتِثَالٌ لِأَمْرِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ ﷺ.

وَيَجْعَلُهُ النَّبِيُّ ﷺ مُؤَدِّيًا إِلَى مَبْلَغٍ لَا يُرْتَقَى مُرْتَقَاهُ إِلَّا بِشِقِّ النَّفْسِ وَبَذْلِ الْمَجْهُودِ «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَبْلُغُ بِحُسْنِ الْخُلُقِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ».

*وَالصِّدْقُ جَوْهَرُ الْمُرُوءَةِ:

إنَّ الصِّدْقَ عَزِيزٌ، وَعَوِّد نَفْسَكَ الصِّدْقَ، فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى تَعْوِيدٍ وَمَشَقَّةٍ، وَأَمْسِكْ لِسَانَكَ عَنِ اللَّغْوِ، حَتَّى لَا يَجُرَّكَ اللَّغْوُ إِلَى هَذَا الْكَذِبِ الْمُسْتَقْبَحِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَذِبَ لَا يَلِيقُ بِالرَّجُلِ ذِي الْمُرُوءَةِ، وَأَنَّهُ لَوْ نَادَى مُنَادٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَنَّ الْكَذِبَ حَلَالٌ مَا فَعَلْتُهُ؛ لِتَمَامِ مُرُوءَتِهِ وَكَمَالِ رُجُولَتِهِ؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ يُزْرِي بِهِ، وَيَحُطُّ مِنْ قَدْرِهِ، وَيُحَقِّرُ مِنْ شَأْنِهِ.

*وَبِالْجُمْلَةِ؛ فَالرَّجُلُ الْكَامِلُ التَّامُّ الْمُرُوءَةِ: هُوَ مَنْ بَرَّ وَالِدَيْهِ، وَوَصَلَ رَحِمَهُ، وَأَكْرَمَ إِخْوَانَهُ، وَحَسَّنَ خُلُقَهُ، وَأَحْرَزَ دِينَهُ، وَأَصْلَحَ مَالَهُ، وَأَنْفَقَ مِنْ فَضْلِهِ، وَحَسَّنَ لِسَانَهُ، وَلَزِمَ بَيْتَهُ.

*الرَّجُلُ التَّامُّ الْمُرُوءَةِ: مَنْ بَرَّ وَالِدَيْهِ، وَوَصَلَ رَحِمَهُ: فَحَقُّ الْأَبَوَيْنِ يَلِي حَقَّ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَحَقَّ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي الْفَرْضِيَّةِ وَالْوُجُوبِ، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75].

وذَوُوا الْأَرْحَامِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَهُمُ الْأَوْلَوِيَّةُ فِي الْمُوَالَاةِ بِحَقِّ الْإِسْلَامِ وَحَقِّ الرَّحِمِ.

 (وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا عَرَضَ لِلنَّبِيِّ ﷺ فِي مَسِيرِهِ، فَقَالَ: أَخْبِرْنِي مَا يُقَرِّبُنِي مِنَ الْجَنَّةِ، وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ؟

قَالَ: «تَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ». وَالْحَدِيثُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ».

«تَصِلُ الرَّحِمَ»؛ أَيْ: تُحْسِنُ إِلَى أَقَارِبِكَ، وَتُوَاسِي ذَوِي الْقَرَابَةِ فِي الْخَيْرَاتِ.

*الرَّجُلُ التَّامُّ الْمُرُوءَةِ: مَنْ أَكْرَمَ إِخْوَانَهُ: فَالنَّبِيُّ ﷺ أَمَرَنَا بِالتَّوَادِّ؛ قَالَ ﷺ: ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)).

وَثَبَتَ فِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ))، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ)): أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ: إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ)).

وَحُقُوقُ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ كَثِيرَةٌ، وَلَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الْجَامِعُ لِهَذِهِ الْحُقُوقِ كُلِّهَا قَوْلُ الرَّسُولِ ﷺ: ((الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ)) ، فَإِنَّهُ مَتَى قَامَ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الْأُخُوَّةِ اجْتَهَدَ أَنْ يَتَحَرَّى لَهُ الْخَيْرَ كُلَّهُ، وَأَنْ يَجْتَنِبَ كُلَّ مَا يَضُرُّهُ.

وَمِنْ تَمَامِ الْمُرُوءَةِ: حُسْنُ الْخُلُقِ: فَقَدْ حَصَرَ النَّبِيُّ ﷺ الْغَايَةَ مِنَ الْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ فِي تَمَامِ صَالِحِ الْأَخْلَاقِ، فَقَالَ ﷺ: ((إِنَّمَا بُعِثْتُ؛ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ)) . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ))، وَالْحَاكِمُ، وَأَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ أَحْمَد شَاكِر وَالشَّيْخُ الْأَلْبَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا.

وَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ، وَأَقرَبِكُم مِنِّي مَجلِسًا يَوْمَ الْقِيامَةِ: أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا)) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: ((حَدِيثٌ حَسَنٌ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ)).

*الرَّجُلُ التَّامُّ الْمُرُوءَةِ: مَنْ أَحْرَزَ دِينَهُ: حَافَظَ عَلَى دِينِهِ بِتَحْقِيقِ التَّقْوَى، وَالتَّقْوَى كَمَا بَيَّنَ أُبَيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لِلْفَارُوقِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- إِذْ يَسْألُهُ فَيَقُولُ: يَا أُبَيُّ؛ مَا التَّقْوَى؟

فَيَقُولُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؛ أَمَا سِرْتَ فِي طَرِيقٍ ذِي شَوْكٍ؟

قَالَ: بَلَى.

قَالَ: مَا صَنَعْتَ؟

قَالَ: شَمَّرْتُ وَاجْتَهَدْتُ.

قَالَ: فَتِلْكَ التَّقْوَى.

وَالتَّامُّ الْمُرُوءَةِ: مَنْ أَصْلَحَ مَالَهُ، وَأَنْفَقَ مِنْ فَضْلِهِ: فَإِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- سَوَّى بَيْنَ الْمُرْسَلِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي وُجُوبِ الْأَكْلِ مِنَ الْحَلَالِ وَاجْتِنَابِ الْحَرَامِ؛ فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المُؤْمِنُون: 51].

وَعَلَى الْمُسْلِمِ إِنْفَاقُ الْمَالِ فِي الْحَلَالِ: كإِطْعَامِ الزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ وَالْخَادِمِ، فَعَنِ الْمِقْدَامِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ((مَا أَطْعَمْتَ نَفْسَكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ، وَمَا أَطْعَمْتَ وَلَدَكَ وَزَوْجَتَكَ وَخَادِمَكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَأَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ فِي ((الْكُبْرَى))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)).

هَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى بَيَانِ شَيْءٍ مِنْ فَضَائِلِ الْإِسْلَامِ وَمَحَاسِنِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَا أَنْفَقْتَهُ عَلَى نَفْسِكَ مِنَ الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا تَنْتَفِعُ بِهِ؛ يَكُونُ لَكَ فِيهِ صَدَقَةٌ، وَهَكَذَا مَا أَنْفَقْتَهُ عَلَى مَنْ تَحْتَ يَدِكَ مِنْ زَوْجَةٍ، وَابْنٍ، وَخَادِمٍ وَمَمْلُوكٍ لَكَ فِيهِ صَدَقَاتٌ، وَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَى النِّيَّةِ.

*وَالرَّجُلُ كَامِلُ الْمُرُوءَةِ -أَيْضًا-: مَنْ حَسَّنَ لِسَانَهُ، وَلَزِمَ بَيْتَهُ:

عِبَادَ اللهِ! خُذُوا بَنَصِيحَةِ رَسُولِ اللهِ لِعَبدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((الْزَمْ بَيْتَكَ, وَامْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ, وَخُذْ مَا تَعْرِفُ, وَدَعْ مَا تُنْكِرُ, وَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ, وَدَعْ عَنْكَ أَمْرَ عَامَّتِهِمْ)).

كَانَ الْوَاحِدُ مِنْ سَلِفِكُمْ إِذَا أَحْرَمَ كَأَنَّهُ حَيَّةٌ صَمَّاءٌ, لَا يَتَكَلَّمُ بِكَلِمَةٍ سِوَى ذِكْرِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- حَتَّى يُحِلَّ.

لَا تُضَيِّعُوا أَعْمَارَكُمْ..

لَا تُضَيِّعُوا رَأْسَ مَالِكُمْ, فَإنَّ كُلَّ ثَانِيَةٍ تَمُرُّ لَا عِوَضَ لَهَا وَلَا بَدَلَ, وَسَتَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقَدْ مَرَّ مَا مَرَّ فِي اللَّغْوِ الَّذِي لَا لَكَ وَلَا عَلَيْكَ, كَمَثَلِ الَّذِي يَمُرُّ فِي الطَّرِيقِ فَيَرَى دُرَّةً وَبَعْرَةً, فَيَنْحَنِي لِيَلْتَقِطَ الْبَعْرَةَ تَارِكًا الدُّرَّةَ، لَا لَكَ وَلَا عَلَيْكَ!!

لَيْسَ هَذَا مِن شَأْنِ الْمُسْلِمِ الْحَقِّ, وَلَا الْمُؤْمِنِ الصَّادِقِ, وَإِنَّمَا هُوَ حَرِيصٌ عَلَى ثَوَانِيهِ لَا عَلَى دَقَائِقِهِ، لَا عَلَى أَيَّامِهِ وَلَيَالِيهِ.

عَاهِدُوا رَبَّكُمْ أَنْ تُقْلِعُوا عَنْ ذُنُوبِكُمْ وَمَعَاصِيكُمْ, كُونُوا كَمَا أَرَادَكُمُ اللهُ, لَا تَكُونُوا مُزيَّفِينَ عَلَى الْإِنْسَانِ, فَإِنَّ الْإِنْسَانَ الْحَقَّ خُلِقَ لِيَكُونَ عَابِدًا لِرَبِّهِ.

فَمَهْمَا خَرَجَ عَنْ هَذَا الْخَطِّ فَهُوَ مُزَيَّفٌ عَنِ الْإِنْسَانِ الْحَقِّ.

لَا تَكُونُوا مُزَيَّفِينَ -عِبَادَ اللهِ-, وَكُونُوا مُسْلِمِينَ حَقًّا, مُؤْمِنِينَ صِدْقًا, وَأَقبِلُوا حَرِيصِينَ عَلَى مَا يَنْفَعُكُمْ.

*كُنْ رَجُلًا مُسْلِمًا ذَا مُرُوءَةٍ:

أَيْنَ أَنْتَ مِنْ أَخْلَاقِ رَسُولِ اللهِ ﷺ؟!!

أَيْنَ أَنْتَ مِنَ الْخُضُوعِ لِدِينِ رَبِّكَ؛ بِأَحْكَامِهِ وَشَرِيعَتِهِ؟!!

وَأَيْنَ أَنْتَ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ الَّتِي تَوَاضَعَتْ عَلَيْهَا الْأُمَمُ؛ حَتَّى وَلَوْ مِنْ غَيْرِ إِرْشَادٍ بِدِينٍ؟!!

إِنَّ النَّاسَ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ- يَسْتَقْبِحُونَ أُمُورًا تُخِلُّ بِالْمُرُوءَةِ، وَتَضَعُ مِنَ الْقَدْرِ، وَأَصْحَابُ الْمُرُوءَةِ مِنْهُمْ يَقُولُ قَائِلُهُمْ وَالْإِمَامُ فِيهِمْ -الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ--: ((لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ شُرْبَ الْمَاءِ الْبَارِدِ يَثْلُمُ مُرُوءَتِي مَا شَرِبْتُهُ!!))

لَا يَضَعُ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ فِي مَوَاضِعِ الذِّلَّةِ وَالْهَوَانِ، وَإِيَّاكَ وَمَا يُعْتَذَرُ مِنْهُ، كُنْ رَجُلًا مُسْلِمًا، رَجُلًا -تِلْكَ صِفَاتُ الرُّجُولَةِ- مُسْلِمًا سُبِغَتْ رُجُولَتُكَ بِإِسْلَامِكَ، فَازْدَادَتْ كَمَالًا إِلَى كَمَالِهَا، وَحُسْنًا إِلَى حُسْنِهَا.

لَا تُعْلَمُ أَخْلَاقُ الرِّجَالِ إِلَّا مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.

دَعْكَ مِنَ السَّفَاسِفِ، وَارْتَفِعْ فَوْقَهَا، وَتَأَمَّلْ فِي الْمَعَالِي -مَعَالِي الْأُمُورِ-، وَإِيَّاكَ وَالدُّونَ، وَلَا تَكُنْ آخِذًا بِمَا يَثْلُمُ مُرُوءَتَكَ، وَإِيَّاكَ وَمَوَاطِنَ الْهَوَانِ وَمَوَاضِعَ الذِّلَّةِ.

كُنْ رَجُلًا مُسْلِمًا؛ فَإِنَّ الْأُمَّةَ فِي حَاجَةٍ إِلَيْكَ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ وَحْدَهُ: أَنْ تَكُونَ مُسْلِمًا حُقِّقَتْ فِيكَ رُجُولَةُ الْمُسْلِمِ الْحَقِّ، الْأُمَّةُ تَحْتَاجُ هَؤُلَاءِ.

((نَمَاذِجُ فِي الشَّهَامَةِ وَالْمُرُوءَةِ))

لَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ وَهُوَ أَشْرَفُ الْخَلْقِ, وَأَحَبُّهُمْ إِلَى اللهِ, وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى اللهِ, وَأَعْلَاهُمْ مَقَامًا عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

كَانَ ﷺ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ, يَكُونُ فِي الْبَيْتِ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ, يَرْقَعُ ثَوْبَهُ, وَيَخْصِفُ نَعْلَهُ, وَيَحْلِبُ الشَّاةَ, وَيَكُونُ في مِهْنَةِ أَهْلِهِ ﷺ.

لَا يَسْتَكْبِرُ عَلَى أَمْرٍ لَا يُنْقِصُ الْمُرُوءَةَ, وَلَا يَسْتَعَلِي عَلَى أَمْرٍ لَا يُغْضِبُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ, بَلْ يَكُونُ أَسْرَعَ النَّاسِ إِلَيْهِ, وَكَانَ أَعْظَمَ النَّاسِ حِلْمًا ﷺ، وَهُوَ يُرَاعِي نَفْسِيَّةَ مَنْ أَمَامَهِ.

*وَنَبِيُّ اللهِ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أُسْوَةٌ فِي الشَّهَامَةِ وَالْمُرُوءَةِ وَالْبَذْلِ، فقد قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)} [القصص: 22-24].

{وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ} أَيْ: قَصَدَ نَحْوَهَا مَاضِيًا إِلَيْهَا، وَكَانَ مُوسَى قَدْ خَرَجَ خَائِفًا بِلَا ظَهْرٍ وَلَا حِذَاءٍ وَلَا زَادٍ، وَكَانَتْ مَدْيَنُ عَلَى مَسِيرَةِ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ مِنْ مِصْرَ، {قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} أَيْ: قَصْدَ الطَّرِيقِ إِلَى مَدْيَنَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهُوَ أَوَّلُ ابْتِلَاءٍ مِنَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- لِمُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-.

{وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ}: وَهُوَ بِئْرٌ كَانُوا يَسْقُونَ مِنْهَا مَوَاشِيَهُمْ، {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً}: أَيْ: جَمَاعَةً {مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ}: مَوَاشِيَهُمْ، {وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ} يَعْنِي: سِوَى الْجَمَاعَةِ {امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ} يَعْنِي: تَحْبِسَانِ وَتَمْنَعَانِ أَغْنَامَهُمَا عَنِ الْمَاءِ حَتَّى يَفْرُغَ النَّاسُ وَتَخْلُو لَهُمُ الْبِئْرُ.

{قَالَ} يَعْنِي: مُوسَى لِلْمَرْأَتَيْنِ {مَا خَطْبُكُمَا}: مَا شَأْنُكُمَا؛ لَا تَسْقِيَانِ مَوَاشِيكُمَا مَعَ النَّاسِ؟

{قَالَتَا لا نَسْقِي} أَغْنَامَنَا {حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} أَيْ: حَتَّى يَصْرِفُوا هُمْ مَوَاشِيهِمْ عَنِ الْمَاءِ.

وَمَعْنَى الْآيَةِ: لَا نَسْقِي مَوَاشِينَا حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ، لِأَنَّا امْرَأَتَانِ لَا نُطِيقُ أَنْ نَسْقِيَ، وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نُزَاحِمَ الرِّجَالَ، فَإِذَا صَدَرُوا سَقَيْنَا مَوَاشِينَا مَا أَفْضَلَتْ مَوَاشِيهُمْ فِي الْحَوْضِ {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} لَا يَقْدِرُ أَنْ يَسْقِيَ مَوَاشِيَهُ، فَلِذَلِكَ احْتَجْنَا نَحْنُ إِلَى سَقْيِ الْغَنَمِ.

فَلَمَّا سَمِعَ مُوسَى قَوْلَهُمَا رَحِمَهُمَا، فَاقْتَلَعَ صَخْرَةً مِنْ رَأْسِ بِئْرٍ أُخْرَى كَانَتْ بِقِرَبِهِمَا لَا يُطِيقُ رَفْعَهَا إِلَّا جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ، {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ} ظِلِّ شَجَرَةٍ، فَجَلَسَ فِي ظِلِّهَا مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ وَهُوَ جَائِعٌ، {فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنـزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ} طَعَامٍ، {فَقِير} يَقُولُ: {إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ} أَيْ: طَعَامٍ، فَقِيرٌ مٌحْتَاجٌ، كَانَ يَطْلُبُ الطَّعَامَ لِجُوعِهِ.

إِنَّ أُمَّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- لَمَّا خَرَجَتْ عَلَى بَعِيرٍ وَمَعَهَا وَلَدُهَا فِي حِجْرِهَا وَلَيْسَ لَهَا مِنْ حِمَايَةٍ إِلَّا حِمَايَةُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ، وَلَقِيَهَا عِنْدَ (التَّنْعِيمِ) -وَهُوَ مَوْضِعٌ مَعْرُوفٌ الْآنَ لِكُلِّ مَنْ حَجَّ أَوِ اعْتَمَرَ عَلَى بُعْدِ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ مِنْ بَلَدِ اللهِ الْحَرَامِ، لَقِيَهَا عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَكَانَ مُشْرِكًا لَمْ يُسْلِمْ بَعْدُ، لَقِيَهَا؛ فَقَالَ: إِلَى أَيْنَ يَا بِنْتَ زَادِ الرَّاكِبِ؟

فَقَالَتْ: خَرَجْتُ مُهَاجِرَةً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ﷺ.

فَقَالَ: وَمِثْلُكِ تَخْرُجُ وَحْدَهَا.

فَصَحِبَهَا عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، حَتَّى إِذَا مَا كَانَتْ هُنَاكَ عِنْدَ قُبَاءٍ بِقَرْيَتِهَا؛ قَالَ: إِنَّ زَوْجَكِ بِهَذِهِ الْقَرْيَةِ، فَدُونَكِ، ثُمَّ عَادَ رَاجِعًا إِلَى مَكَّةَ الْمُكَرَّمَة -زَادَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ كَرَمًا وَتَشْرِيفًا- .

وَانْظُرْ إِلَى مَوْقِفٍ آخَرَ؛ مَوْقِفُ امْرَأَةٍ لَا مَوْقِفُ رَجُلٍ، وَلَكِنَّهَا بِمِلْءِ الْأَرْضِ رِجَالٌ مِنْ أَشْبَاهِ الرِّجَالِ وَلَا رِجَالٌ!! اُنْظُرْ إِلَى أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-؛ لَمَّا أَنْ جَاءَ إِلَيْهَا أَبُو جَهْلٍ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا بَعْدَ الْهِجْرَةِ وَبَعْدَ أَنْ مَرَّ النَّبِيُّ بِسَلَامٍ، لَمَّا خَرَجَ فَأَخَذَ التُّرَابَ، وَقَدْ أَلْقَى اللهُ عَلَى الْقَوْمِ النَّوْمَ، فَوَضَعَ التُّرَابَ عَلَى الرُّؤُوسِ، يَقُولُ: «شَاهَتِ الْوُجُوهُ! شَاهَتِ الْوُجُوهُ!»، وَمَرَّ سَالِمًا غَانِمًا ﷺ .

فَلَمَّا عَلِمُوا بِصُبْحٍ، وَكَانَ النَّبِيُّ قَدْ مَرَّ إِلَى غَارِ ثَوْرٍ ﷺ وَآوَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِلَى كَنَفٍ مَكِينٍ، وَظِلٍّ ظَلِيلٍ، وَوَاحةٍ آمِنَةٍ مُطْمَئِنَّةٍ وَإِنْ كَانَتْ فِي جَبَلٍ جَهْمٍ ذِي حِجَارَةٍ وَأَحْجَارٍ بَادِيَةِ الْأَسْنَانِ كَأَنْيَابِ الْغُولِ، وَالنَّبِيُّ ﷺ فِي أَعْلَى الْقِمَّةِ -كَمَا هُوَ دَائِمًا وَكَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ-.

وَنَزَلَ النَّبِيُّ الْغَارَ وَمَعَهُ صَاحِبُهُ، وَنَجَا النَّبِيُّ ﷺ وَمَعَهُ صَاحِبُهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَجَاءَ أَبُو جَهْلٍ وَكَانَ خَبِيثًا فَاحِشًا كَمَا تَقُولُ أَسْمَاءُ؛ فَقَالَ: يَا ابْنَةَ أَبِي بَكْرٍ أَيْنَ ذَهَبَ أَبُوكِ؟

قَالَتْ: لَا أَدْرِي أَيْنَ هُوَ -وَكَانَتْ مُحِقَّةً صَادِقَةً -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-.

فَلَطَمَهَا لَطْمَةً أَطَاحَ مِنْهَا -أَيْ مِنَ اللَّطْمَةِ- بِقُرْطِهَا -أَلَا شُلِّتْ يَمِينُهُ، وَقَدْ شُلِّتْ، وَأَلَا شَاهَ وَجْهُهُ، وَقَدْ شَاهَ-، أَلَا لَعَنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ جَمِيعَ مَا فِيهِ وَلَا رَحِمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهِ مَغْرِزَ إِبْرَةٍ، وَقَدْ فَعَلَ رَبُّكَ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ- .

.

فَلَمَّا جَاءَ أَبُو قُحَافَةَ -جَدُّهَا لِأَبِيهَا-؛ فَقَالَ: عَلِمْتُ أَنَّ أَبَاكِ قَدْ ذَهَبَ مَعَ مُحَمَّدٍ وَمَا أُرَاهُ إِلَّا قَدْ فَزعَكُمْ بِمَالِهِ كَمَا قَدْ فَزَعَكُمْ بِنَفْسِهِ -يَعْنِي أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَدْ أَخَذَ الْمَالَ جَمِيعًا وَذَهَبَ مُهَاجِرًا مَعَ مُحَمَّدٍ ﷺ.

فَعَمَدَتْ -وَكَانَ قَدْ كُفَّ بَصَرُهُ- إِلَى كُوَّةٍ هُنَاكَ كَانَ أَبُو بَكْرٍ يَضَعُ فِيهِ مَالَهُ، فَوَضَعَتْ فِيهَا حِجَارَةً لَطِيفَةً، وَأَتَتْ بِكِسَاءٍ فَوَضَعَتْهُ فَوْقَ الْحِجَارَةِ، وَأَخَذَتْ بِيَدِ جَدِّهَا تَمُرُّ بِهَا عَلَى الْحِجَارَةِ مِنْ تَحْتَ الْكِسَاءِ، وَتَقُولُ: يَا أَبَتِ اُنْظُرْ إِلَى الْمَالِ الَّذِي خَلَّفَ لَنَا أَبُونَا.

فَيَقُولُ: إِنَّهُ إِذَنْ لَمُصِيبٌ مُحْسِنٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ- .

وَانْظُرْ إِلَيْهَا إِذْ تَذْهَبُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ وَإِلَى أَبِيِهَا حَامِلَةً عَتَادًا وَزَادًا -مَاءً وَزَادًا- تَحْمِلُهُ، فَلَمَّا أَنْ مَرَّتْ غَيْرَ بَعِيدٍ بِلَيْلٍ وَهِيَ حَامِلٌ فِي شُهُورِهَا الْأَخِيرَةِ عَلَى مَبْعَدَةِ خَمْسَةِ أَمْيَالٍ مِنْ مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ فِي جَبَلٍ وَعْرٍ فِي لَيْلٍ بَهِيمٍ، تَحْمِلُ الزَّادَ وَالْمَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ وَإِلَى أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ-.

فَلَمَّا مَرَّتْ غَيْرَ بَعِيدٍ؛ وَجَدَتْ أَنَّهُ لِا عِصَامَ لِقِرْبَتِهَا، لَا عِصَامَ لِزَادِهَا، لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَحْمِلَهُ مِنْ غَيْرِ عِصَامٍ تَجْعَلُهُ فِيهِ، فَمَا كَانَ إِلَّا أَنْ عَمَدَتْ إِلَى نِطَاقِهَا فَقَسَمَتْهُ قِسْمَيْنِ، فَجَعَلَتْ عَلَى وَسَطِهَا نِطَاقًا نِصْفًا وَجَعَلَتِ النِّصْفَ الْآخَرَ عِصَامًا لِقِرْبَتِهَا وَزَادِهَا، فَسُمِّيَتْ بِـ«ذَاتِ النِّطَاقَيْنِ» -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا- .

 ((اللهُ لَا يُخْزِي الشَّهْمَ ذَا الْمُرُوءَةِ))

إِنَّ النَّبيُّ ﷺ عِنْدَمَا رَجَعَ وَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَرَجَعَ يَقُولُ:  «زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي»، قَالَ: «إِنِّي أَخْشَى أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصَابَنِي شَيْءٌ».

قَالَتْ خَدِيجَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: «لَا وَاللهِ، لَا يُصِيبُكَ شَرٌّ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَاللهِ لَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا» .

عِنْدَنَا دَلَالَتَانِ:

*الدَّلَالَةُ الْأُولَى: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَتْ أَخْلَاقُهُ لَا تَصَنُّعَ فِيهَا، لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَمَا أَخْبَرَ عَنْ أَخْلَاقِهِ، جَعَلَهَا فِي الذِّرْوَةِ الْعُلْيَا مِنْ سُمُوِّ الْأَخْلَاقِ وَجَلَالِهَا وَكَمَالِهَا وَبَهَائِهَا: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].

وَالتَّعْبِيرُ بِـ «عَلَى» وَهِيَ الِاسْتِعْلَاءُ، فَهُوَ عَلَى الْخُلُقِ الْعَظِيمِ ﷺ، كَأَنَّهُ يَعْلُوهُ وَيَفُوقُهُ، {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} ﷺ، فَكَانَ هَذَا مِمَّا طَبَعَ اللهُ عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ، وَكَمَّلَهُ بِهِ، فَكَانَ فِي بَيْتِهِ -وَفِي الْبَيْتِ تَبْدُو أَخْلَاقُ الرَّجُلِ- كَانَ عَلَى أَحْسَنِ مَا يَكُونُ مِنَ الْخُلُقِ، فَهَذِهِ دَلَالَةٌ.

*وَالدَّلَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ صَنَائِعَ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ مُحْسِنًا قَوْلًا وَفِعْلًا وَاعْتِقَادًا؛ حَفِظَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عِنْدَ نُزُولِ الْمُلِمَّاتِ،  فَصَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ.

قَالَتْ: «لَا وَاللهِ، لَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا»، ثُمَّ ذَكَرَتِ الْعِلَّةَ: «إِنَّكَ لَتَحْمَلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الدَّهْرِ»، إِذَنْ؛ مَا دُمْتَ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ بِحَالٍ أَبَدًا أَنْ يُصِيبَكَ شَيْءٌ، أَوْ أَنْ يُخْزِيكَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، أَوْ أَنْ يَتَخَلَّى عَنْكَ، ﷺ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-, صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَومِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

 ((مَعَانِي التَّضْحِيَةُ فِي دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-))

*مِنْ أَجَلِّ وَأَعْظَمِ مَعَانِي التَّضْحِيَةِ فِي دِينِ اللهِ: التَّضْحِيَةُ بِالنَّفْسِ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ، وَالدِّفَاعِ عَنِ الْوَطَنِ الْإِسْلَامِيِّ:

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111].

إِنَّ اللهَ اشْتَرَى شِرَاءً جَازِمًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمُ الَّتِي خَلَقَهَا وَأَمْوَالَهُمُ الَّذِي رَزَقَهُمْ إِيَّاهَا، بِأَنْ يَبْذُلُوا طَائِعِينَ مُخْتَارِينَ الْمَالَ؛ لِإِعْدَادِ وَسَائِلِ الْجِهَادِ، وَنَشْرِ الْإِسْلَامِ فِي الْأَرْضِ، وَيَبْذُلُوا النُّفُوسَ لِلْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَقَمْعِ الْكَفَرَةِ الْمُحَارِبِينَ لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، مُقَابِلَ ثَمَنٍ يَدْفَعُهُ لَهُمْ جَزْمًا، هُوَ الْجَنَّةُ.

يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ؛ لِإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ، وَإِظْهَارِ دِينِهِ، فَيَقْتُلُونَ أَعْدَاءَ اللهِ، وَيُسْتَشْهَدُونَ فِي سَبِيلِهِ، ذَلِكَ الْوَعْدُ الَّذِي وَعَدَهُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ قَدْ أَثْبَتَهُ اللهُ فِي التَّوْرَاةِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَفِي الْإِنْجِيلِ الْمُنَزَّلِ عَلَى عِيسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، كَمَا أَثْبَتَهُ فِي الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ.

وَلَا أَحَدَ أَوْفَى بِالْعَهْدِ مِنَ اللهِ لِمَنْ وَفَّى بِمَا عَاهَدَ اللهَ عَلَيْهِ، فَافْرَحُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ الْمُبَايِعُونَ، وَاسْتَمْتِعُوا بِالسُّرُورِ الَّذِي يَنْزِلُ بِكُمْ؛ بِسَبَبِ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ فِي الْجَنَّةِ الَّذِي تَنَالُونَهُ عِوَضًا عَمَّا تَبْذُلُونَهُ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ رَبَّكُمْ، وَذَلِكَ الْعِوَضُ الرَّفِيعُ الْمَنْزِلَةِ هُوَ وَحْدَهُ الرِّبْحُ الْكَبِيرُ وَالظَّفَرُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا يُسَاوِيهِ وَلَا يَفُوقُهُ فَوْزٌ آخَرَ.

اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- امْتَحَنَ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّلَاةِ وَالسُّجُودِ وَالرُّكُوعِ فَاسْتَجَابُوا طَائِعِينَ, وَامْتَحَنَهُمْ بِالزَّكَاةِ وَدَفْعِ الْمَالِ فَاسْتَجَابُوا طَائِعِينَ, وَامْتَحَنَهُمْ بِالْحَجِّ وَالصَّوْمِ وَتَرْكِ الشَّهَوَاتِ فَلَبَّوْا كَذَلِكَ طَائِعِينَ.

ثُمَّ جَاءَ الِامْتِحَانُ الْأَكْبَرُ وَالِاخْتِبَارُ الْأَعْظَمُ، فَكَانَ أَنْ طَلَبَ مِنْهُمْ أَرْوَاحَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ يَبْذُلُونَهَا فِي سَاحَاتِ الْجِهَادِ فَتَقَدَّمَ أَقْوَامٌ وَتَأخَّرَ آخَرُونَ.

تَأَخَّرَ الْمُنَافِقُونَ: {وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 86].

وَتَقَدَّمَ الصَّادِقُونَ, قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {لَٰكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التوبة: 88].

فَفَرَّقَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِالْجِهَادِ بَيْنَ الصَّادِقِينَ وَالْكَاذِبِينَ, بَيْنَ الْمُحِبِّينَ للهِ وَرَسولِهِ ﷺ وَالْمُدَّعِينَ.

إِنَّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ هُوَ أَعْظَمُ الْأَعْمَالِ وَأَزْكَاهَا, وَهُوَ أَيْسَرُ الطُّرُقِ إِلَى رِضْوَانِ اللهِ تَعَالَى وَالْجَنَّةِ, وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَوْلا أَنْ يَشُقَّ عَلَى المُسلِمِينَ مَا قَعَدْتُ خِلافَ سَرِيَّةٍ, وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوَدَدْتُ أَنِّي أَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلَ، ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلَ، ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلَ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

وَلَمَّا كَانَ الْجِهَادُ بَذْلَ أَعْظَمِ وَأَنْفَسِ مَا عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ وَهِيَ أَنْفُسُهُمْ يَبْذُلُونهَا دُونَ خَوْفٍ وَلَا تَرَدُّدٍ, وَلَمَّا كَانَ فِيهِ بَذْلُ الْأَمْوَالِ، وَتَرْكُ الزَّوْجَاتِ وَالذُّرِّيَّاتِ، وَهَجْرُ الْمَسَاكِنِ وَالْأَوْطَانِ وَالْمَلَذَّاتِ.

وَلَمَّا كَانَ فِيهِ قَتْلُ الْأَنْفُسِ وَإِرَاقَةُ الدِّمَاءِ؛ كَانَ حَرِيًّا بِالشَّرْعِ أَنْ يَضَعَ لَهُ أَعْظَمَ الضَّوَابِطِ وَأَقْوَى الْأَحْكَامِ؛ حَتَّى لَا تُرَاقَ الدِّمَاءُ فِي كُلِّ وَادٍ وَبِكُلِّ سَبِيلٍ, وَحَتَّى لَا يَخْتَلِطَ الْحَابِلُ بِالنَّابِلِ, وَلَا يَدْرِي الْقَاتِلُ فِيمَ قَتَلَ! وَلَا الْمَقْتُولُ فِيمَ قُتِلَ!

إِنَّ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَرْوَاحَهُمْ هِيَ أَعْظَمُ شَيْءٍ عِنْدَ اللهِ؛ لِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَزَوَالُ الدُّنيَا أَهوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ))(). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَقَالَ ﷺ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ: ((مَا أَطْيَبَكِ! وَأَطْيَبَ رِيحَكِ! مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكَِ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ, لَحُرْمَةُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ حُرْمَةً مِنْكِ مَالِهِ وَدَمِهِ)).

وَقَدْ بَيَّنَ الدِّينُ الْعَظِيمُ -كِتَابًا وَسُنَّةً- أَنَّ الْجِهَادَ لَيْسَ غَايَةً فِي حَدِّ ذَاتِهِ وَإِنَّمَا هُوَ وَسِيلَةٌ.

فَالْجِهَادُ لَيْسَ هَدَفًا فِي ذَاتِهِ وَلَا غَايَةً، إِنَّمَا هُوَ وَسِيلَةٌ لِرَفْعِ رَايَةِ الدِّينِ, وَهُوَ وَسِيلَةٌ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

* مَنْزِلَةُ الشَّهَادَةِ بِالتَّضْحِيَةِ بِالنَّفْسِ وَالرُّوحِ فِي سَبِيلِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-:

قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169].

وَلَا تَظُنَّنَّ يَا رَسُولَ اللهِ، وَيَا كُلَّ مُؤْمِنٍ مِنْ أُمَّتِهِ، أَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا كَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يُقْتَلْ فِي سَبِيلِ اللهِ، بَلْ هُمْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ فِي مَحَلِّ كَرَامَتِهِ وَفَضْلِهِ، يُرْزَقُونَ، وَيَأْكُلُونَ، وَيَتَنَعَّمُونَ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ وَتُحَفِهَا.

إِنَّهُمْ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَانُوا رِجَالًا صَابِرِينَ، إِنَّهُمْ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الَّتِي يَحْيَوْنَهَا يَشْعُرُونَ بِسَعَادَةٍ عَظِيمَةٍ بِمَا أَعْطَاهُمُ اللهُ مِنَ الثَّوَابِ وَالْكَرَامَةِ فِي دَارِ النَّعِيمِ.

{فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)} [آل عمران: 170].

وَهُمْ يَفْرَحُونَ بِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ تَرَكُوهُمْ أَحْيَاءً فِي الدُّنْيَا عَلَى مَنْهَجِ الْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ؛ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ إِذَا اسْتُشْهِدُوا فِي سَبِيلِ الله مُخْلِصِينَ لَهُ لَحِقُوا بِهِمْ، وَنَالُوا مِنَ الْكَرَامَةِ مِثْلَ الَّذِينَ نَالُوهُ، وَأَنَّهُمْ لَا خَوْفَ مُسَلَّطٌ عَلَيْهِمْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ، وَلَا يَحْزَنُونَ عَلَى مَا فَاتَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا.

فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُحِبَّ بَلَدَهُ الْإِسْلَامِيَّ، وَأَنْ يُدَافِعَ عَنْهُ، وَأَنْ يَمُوتَ دُونَهُ؛ فَإِنَّ مَنْ مَاتَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَالْأَرْضُ مَالٌ، فَمَنْ مَاتَ دُونَ مَالِهِ فَهُو شَهِيدٌ.

*نَمَاذِجُ مُجَسَّدَةٌ فِي التَّضْحِيَةِ بِالنَّفْسِ وَالرُّوحِ عَبْرَ تَارِيخِ الْإِسْلَامِ:

عَنْ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-, فِيمَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ, وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ, وَالْحَاكِمُ, وَالْبَيْهَقِيُّ, وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ الْجَامِعِ)), وَغَيْرِهِ: أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَعْرَابِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَآمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ, ثُمَّ قَالَ: أُهَاجِرُ مَعَكَ.

فَأَوْصَى بِهِ النَّبِيُّ ﷺ بَعْضَ أَصْحَابِهِ, فَلَمَّا كَانَتْ غَزْوَةٌ، غَنِمَ النَّبِيُّ ﷺ سَبْيًا، فَقَسَمَهُ وَقَسَمَ لَهُ، فَأَعْطَى أَصْحَابَهُ مَا قَسَمَ لَهُ, وَكَانَ يَرْعَى ظَهْرَهُمْ -كَانَ فِي إِبِلِهِمْ يَرْعَاهَا, فَلَمْ يَكُنْ حَاضِرًا-، فَأَعْطَى أَصْحَابَهُ مَا قَسَمَ لَهُ، فَلَمَّا جَاءَ دَفَعُوهُ إِلَيْهِ, فَقَالَ: مَا هَذَا؟!!

قَالُوا: قَسْمٌ قَسَمَهُ لَكَ النَّبِيُّ ﷺ؛ فَأَخَذَهُ فَجَاءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟

قَالَ: ((قَسَمْتُهُ لَكَ)).

قَالَ: مَا عَلَى هَذَا اتَّبَعْتُكَ، وَلَكِنِّي اتَّبَعْتُكَ عَلَى أَنْ أُرْمَى إِلَى هَاهُنَا -وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ- بِسَهْمٍ؛ فَأَمُوتَ فَأَدْخُلَ الجَنَّةَ.

فَقَالَ: ((إِنْ تَصْدُقِ اللَّهَ يَصْدُقْكَ)).

فَلَبِثُوا قَلِيلًا، ثُمَّ نَهَضُوا فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ، فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ يُحْمَلُ, قَدْ أَصَابَهُ سَهْمٌ حَيْثُ أَشَارَ, فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَهُوَ هُوَ؟!!)).

قَالُوا: نَعَمْ.

قَالَ: ((صَدَقَ اللَّهَ فَصَدَقَهُ اللَّهُ)).

ثُمَّ كَفَّنَهُ النَّبِيُّ ﷺ فِي جُبَّتِهِ، ثُمَّ قَدَّمَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ, فَكَانَ فِيمَا ظَهَرَ مِنْ صَلَاتِهِ -أَيْ مِنْ دُعَائِهِ-: ((اللَّهُمَّ إِنَّ هَذَا عَبْدُكَ خَرَجَ مُهَاجِرًا فِي سَبِيلِكَ، فَقُتِلَ شَهِيدًا, أَنَا شَهِيدٌ عَلَى ذَلِكَ)).

خُذْ هَذَا السَّبْي, فَقَالَ: مَا عَلَى هَذَا اتَّبَعْتُكَ، لَمْ أَتَّبِعْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى أَنْ أُحَصِّلَ فِي الدُّنْيَا مَغْنَمًا, وَلَا أَنْ أُفِيدَ فِيهَا فَائِدَةً، وَإِنَّمَا اتَّبَعْتُكَ عَلَى أَنْ أُرْمَى بِسَهْمٍ هَاهُنَا, يَخْتَارُ مِيتَةً يُؤتِيهِ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِيَّاهَا كَمَا اخْتَارَهَا، وَيُشِيرُ بِأُصْبُعِهِ إِلَى حَلْقِهِ، أَنْ أُرْمَى بِسَهْمٍ هَاهُنَا -وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ-؛ فَأَمُوتَ فَأَدْخُلَ الجَنَّة، فَوَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى صِدْقِهِ مَعَ رَبِّهِ, قَالَ: ((إِنْ تَصْدُقِ اللَّهَ يَصْدُقكَ)).

فَجِيءَ بِهِ مَحْمُولًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَتَأَكَّدَ مِنْهُ: ((أَهُوَ هُوَ؟!!))

قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ.

السَّهْمُ فِي حَلْقِهِ، فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ بِأُصْبَعِهِ، فَقَالَ: ((صَدَقَ اللَّهَ فَصَدَقَهُ اللَّهُ))، ثُمَّ شَهِدَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ بَمَا كَانَ مِنْهُ.

هَذِهِ حَقِيقَةُ الدِّينِ, حَقِيقَةُ الْإِخْلَاصِ, حَقِيقَةُ الْعَمَلِ لِخِدْمَةِ دِينِ رَبِّ الْعَالمِينَ, لَيْسَ هَاهُنَا شَيْءٌ، الْفَائِدَةُ هُنَاكَ، الْأَجْرُ هُنَاكَ، الْمَثُوبَةُ هُنَاكَ، وَأَمَّا هَاهُنَا فِي الدُّنْيَا؛ فَتَعَبٌ وَنَصَبٌ، وَعَنَاءٌ وَبَلَاءٌ، وَأَلَمٌ وَمَشَقَّةٌ, وَاللَّهُ يَشْرَحُ الصَّدْرَ، وَيُصْلِحُ الْبَالَ، وَيُطَمْئِنُ الْقَلْبَ.

وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.

 ((مِنْ مَعَانِي التَّضْحِيَةِ:

التَّضْحِيَةُ بِالْمَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- ))

*لَقَدْ حَثَّ اللهُ عَلَى النَّفَقَةِ وَالتَّضْحِيَةِ بِالْمَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-:

قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39].

قُلْ يَا رَسُولَ اللهِ، وَيَا كُلَّ دَاعٍ إِلَى اللهِ مِنْ أُمَّتِهِ لِهَؤُلَاءِ الْمُغْتَرِّينَ بِالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ: إِنَّ رَبِّي يُوَسِّعُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَيُضَيِّقُ عَلَيْهِمْ لِحِكْمَةٍ يَعْلَمُهَا.

وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمِنْ أَجْلِ ابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ -جَلَّ وَعَلَا- -مَهْمَا قَلَّ ذَلِكَ الشَّيْءُ أَوْ كَثُرَ- فَاللهُ يُعَوِّضُهُ لَكُمْ فِي الدُّنْيَا، لَا مُعَوِّضَ سِوَاهُ؛ بِالْمَالِ أَوِ الْقَنَاعَةِ الَّتِي هِيَ كَنْزٌ لَا يَنْفَذُ، إِضَافَةً إِلَى الْأَجْرِ الْعَظِيمِ الَّذِي ادَّخَرَهُ لَكُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ خَيْرُ مَنْ يُعْطِي وَيَرْزُقُ؛ لِأَنَّ كُلَّ رِزْقٍ مِنْ سِوَاهُ فَهُوَ مِنْ رِزْقِ اللهِ، أَجْرَاهُ اللهُ عَلَى أَيْدِي هَؤُلَاءِ.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].

الْأَنْصَارُ الَّذِينَ تَوَطَّنُوا الْمَدِينَةَ وَاتَّخَذُوهَا سَكَنًا، وَأَسْلَمُوا فِي دِيَارِهِمْ، وَأَخْلَصُوا فِي الْإِيمَانِ، وَتَمَكَّنُوا فِيهِ مِنْ قَبْلِ هِجْرَةِ الْمُهَاجِرِينَ إِلَيْهِمْ؛ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَيُنْزِلُونَهُمْ فِي مَنَازِلِهِمْ، وَيُشَارِكُونَهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَزَازَةً وَغَيْظًا وَحَسَدًا مِمَّا أُعْطِيَ الْمُهَاجِرُونَ مِنَ الْفَيْءِ دُونَهُمْ؛ عِفَّةً مِنْهُم، وَشُعُورًا بِحَقِّ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أَصَابَهُمُ الْفَقْرُ بِسَبَبِ الْهِجْرَةِ.

ويُؤثِرُ الْأَنْصَارُ الْمُهَاجِرِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ؛ وَلَو كَانُوا بِهِم فَاقَةٌ وَحَاجَةٌ إِلَى مَا يُؤثِرُونَ بِهِ، وَمَن يَكْفِهِ اللهُ الْحَالَةَ النَّفْسَانِيَّةَ الَّتِي تَقْتَضِي مَنْعَ الْمَالِ حَتَّى يُخَالِفَهَا فِيمَا يَغْلِبُ عَلَيْهَا مِنَ الْبُخْلِ وَالْحِرْصِ الشَّدِيدِ الَّذِي يَدْفَعُ إِلَى ارْتِكَابِ كَبَائِرِ الْإِثْمِ، فَيُنْفِقُ مَالَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى فِي الْمَصَارِفِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بِالْإِنْفَاقِ فِيهَا طَيِّبَ النَّفْسِ بِذَلِكَ؛ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ بِهَذَا المَعْنَى؛ فَأُولَئِكَ الْفُضَلَاءُ رَفِيعُو الدَّرَجَةِ هُمْ وَحْدَهُمُ الظَّافِرُونَ بِكُلِّ خَيْرٍ، الْفَائِزُونَ بِكُلِّ مَطْلَبٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَفِي الْآيَةِ: مَدْحُ الْإِيثَارِ فِي حُظُوظِ النَّفْسِ وَالدُّنْيَا.

يُصْرَفُ جُزْءٌ مِنْ هَذَا الْمَالِ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ، الَّذِينَ أُجْبِرُوا عَلَى تَرْكِ أَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ، يَرْجُونَ أَنْ يَتَفَضَّلَ اللهُ عَلَيْهِمْ بِالرِّزْقِ فِي الدُّنْيَا وَبِالرِّضْوَانِ فِي الْآخِرَةِ، وَيَنْصُرُونَ اللهَ، وَيَنْصُرُونَ رَسُولَهُ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ.

أولَئِكَ الْمُتَّصِفُونَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ هُمُ الرَّاسِخُونَ فِي الْإِيمَانِ حَقًّا، وَالْأَنْصَارُ الَّذِينَ نَزَلُوا المَدِينَةَ مِن قَبْلِ الْمُهَاجِرِينَ، وَاخْتَارُوا الْإِيمَانَ بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ، يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ مِنْ مَكَّةَ، وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ غَيْظًا وَلَا حَسَدًا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ في سَبِيلِ اللهِ إِذَا مَا أُعْطُوا شَيْئًا مِنَ الْفَيْءِ وَلَمْ يُعْطَوْا هُمْ، وَيُقَدِّمُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمُ الْمُهَاجِرِينَ فِي الْحُظُوظِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَلَوْ كَانُوا مُتَّصِفِينَ بِالْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ، وَمَنْ يَقِهِ اللهُ حِرْصَ نَفْسِهِ عَلَى الْمَالِ، فَيَبْذُلُهُ فِي سَبِيلِهِ، فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ بِنَيْلِ مَا يَرْتَجُونَهُ وَالنَّجَاةِ مِمَّا يَرْهَبُونَهُ.

*وحَثَّ رَسُولُ اللهِ عَلَى النَّفَقَةِ وَالتَّضْحِيَةِ بِالْمَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ:

لَقَدْ كَانَ الرَّسُولُ ﷺ يُخْبِرُ النَّاسَ مِنْ أَصْحَابٍ وَمَنْ يَلِي، يُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ مَا مِنْ يَوْمٍ جَدِيدٍ إِلَّا وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَجْعَلُ مَلَكَيْنِ هُنَالِكَ قَائِمِينَ، يَقُولُ أَحَدُهُمَا: ((اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا)).

 وَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: إِنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- قَدْ وَعَدَ وَعْدًا لَا يَتَخَلَّفُ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَا يَضْطَرُّهُ شَيْءٌ إِلَى شَيْءٍ، وَإِنَّمَا إِرَادَتُهُ نَافِذَةٌ، وَعَطَاؤُهُ كَلَامٌ، وَبَرَكَتُهُ كَلَامٌ، وعَذَابُهُ كَلَامٌ، يَعْنِي: يَقُولُ لِلشَّيْءِ: كُنْ فَيَكُونُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

فَأَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَخْبَرَ أَنْ أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ، ((يَا ابْنَ آدَمَ؛ أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ))، فَهَذَا شَرْطٌ مُعَلَّقٌ عَلَى ذَلِكَ الشَّرطِ الْمَشْرُوطِ، فَمَتَى مَا تَحَقَّقَ؛ جَاءَ الْجَزَاءُ بِفَضْلِ الْمَلِيكِ الْمَعْبُودِ.

يَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: (( يَا ابْنَ آدَمَ؛ أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ)).

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((يَمِينُهُ مَلْأى، سَحَّاءَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ))، هَكَذَا عَلَى النَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ  ((سَحَّاءَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، لَا تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ)).

نَعَمْ! لَو أَنَّكَ نَظَرْتَ مَا أَنْفَقَ، وَكَمْ أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ الْخَلْقَ؛ لَعَلِمْتَ أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَعْظَمٌ عِنْدَ الْخَلْقِ، وَأَمَّا عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ فَشَيْءٌ هَيَّنٌ يَسِيرٌ.

((لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ وَاحِدٍ مَسْأَلَتَهُ)).

وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِنَفْسِيَّةِ الْخَلْقِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْقِفِ عَلَى التَّمَامِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا قَامَ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَقَدْ تَحَقَّقَ بِوَعْدٍ مِنَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِإِنْفَاذِ مَا يَطْلُبُهُ، وِبِتَحْصِيلِ مَا يَتَطَلَّبُهُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَدَّخِرُ وُسْعًا فِي تَعْظِيمِ الْمَسْأَلَةِ، فَكَمْ مِنْ طَالِبٍ يُرِيدُ مِثْلَ الدُّنْيَا خَمْسِينَ مَرَّةً إِلَى أَضْعَافٍ مُضَاعَفَةٍ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللهُ؟!! 

لَوْ قَامُوا إِنْسًا وَجِنًّا، لَوْ قَامُوا فِي صعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ وَاحِدٍ مَسْأَلَتَهُ؛ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ))، وَهُوَ ثَقِيلٌ لَا يَحْمِلُ شَيْئًا، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ ثَقِيلٍ؛ فَمَا يَحْمِلُ؟! لَا يَحْمِلُ شَيْئًا، وَإِنَّمَا هُوَ مَثَلٌ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيبِ، وَلَوْ كَانَتْ ذَرَّةً أَوْ أَقَلَّ مِنْهَا؛ لَمَا نَقَصَتْ مِنْ مُلْكِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، هُوَ ذُو الْعَطَاءِ وَذُو الْمِنَّةِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.

وَالرَّسُولُ ﷺ أَخْبَرَ أَنَّ أَدْوَى الدَّاءِ، وَأَنَّ أَعْظَمَ الْأَمْرَاضِ: هُوَ الْبُخْلُ.

فَقَالَ ﷺ عِنْدَمَا سَأَلَ الْقَوْمَ عَنْ سَيِّدِهِمْ.

قَالُوا: فُلَانٌ عَلَى أَنَّا نُبَخِّلُهُ، يَعْنِي نَرْمِيهِ بِصِفَةِ الْبُخْلِ.

فَقَالَ الرَّسُولُ ﷺ: ((وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَى مِنَ الْبُخْلِ؟!!))

 يَعْنِي: مِثْلُ هَذَا الْبَخِيلِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ سَيِّدًا فِي قَوْمِهِ.

*نَمَاذِجُ مُجَسَّدَةٌ فِي التَّضْحِيَةِ بِالْمَالِ عَبْرَ تَارِيخِ الْإِسْلَامِ:

إِنَّ الرَّسُولَ ﷺ لَمَّا كَانَ قَافِلًا عَائِدًا مِنْ حُنَيْنٍ، بَعْدَ أَنْ نَفَّلَهُ اللهُ الْغَنَائِمَ الْكَثِيرَة، وَسَاقَ إِلَيْهِ النِّعَمَ الْوَفِيرَةَ، وَآتَاهُ اللهُ أَمْوَالَ الْقَوْمِ وَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا، لَمَّا أَنْ عَادَ؛ أَقْبَلَتْ عَلَيْهِ الْأَعْرَابُ مِنْ كُلِّ صوْبٍ يَسْأَلُونَهُ، وَهُوَ يَعُودُ الْقَهْقَرِى، حَتَّى خَطِفَتْ سَمُرَةٌ هُنَالِكَ رِدَاءَ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

 وَالسَّمُرَةُ: شَجَرَةٌ ذَاتُ شَوْكٍ.

 أَخَذ النَّبِيُّ ﷺ وَهُمْ يَزْحَفُونَ عَلَيْهِ يَتَقَهْقَرُ، حَتَّى كَانَ عِنْدَ تِلْكَ الشَّجَرَةِ بِشَوْكِهَا، فَخَطِفَ فَرْعٌ مِنْ فُرُوعِ تِلْكَ الشَّجَرَةِ رِدَاءَ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

 فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((وَاللهِ، لَوْكَانَ لِي عَدَدُ هَذِهِ الْعِضَاةِ -وَهُو شَجَرٌ ذُو شَوْكٍ يَكُونُ فِي الْبَوَادِي، لَوْ كَانَ لِي عَدَدُ هَذَا الشَّجَرِ- أَنْعَامًا وَنَعَمًا لَفَرَّقْتُهَا فِيكُمْ، وَلَمْ أُبْقِ شَيْئًا، وَمَا وَجَدْتُمُونِي جَبَانًا، وَلَا كَذَّابًا، وَلَا بَخِيلًا)) ﷺ.

*الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- خَيْرُ مِثَالٍ فِي التَّضْحِيَةِ بِالْمَالِ:

النَّبِيُّ ﷺ كَانَ يُرَبِّي أَصْحَابَهُ عَلَى الْبَذْلِ وَالْجُودِ وَالْكَرَمِ، وَيَحُضُّهُمْ عَلَى الصَّدَقَةِ، كَمَا فِي ((الصَّحِيحِ)) عَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: رَغَّبَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الصَّدَقَةِ يَوْمًا، وَقَدْ وَافَقَ ذَلِكَ مَالًا عِنْدِي، فَقُلْتُ: الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا.

قَالَ: فَانْقَلَبْتُ إِلَى أَهْلِي فَأَتَيْتُ بِشَطْرِ مَالِي -يَعْنِي بِنِصْفِهِ- حَتَّى وَضَعَتْهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

 فَقَالَ: ((مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟))

 قُلْتُ: مِثْلَهُ.

 قَال: ثُمَّ جَاءَ أَبُو بَكْرٍ، فَوَضَعَ مَا أَتَى بِهِ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ ﷺ.

فَقَالَ: ((مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟))

 قَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللهَ وَرَسُولَهُ .

فَقَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: لَا جَرَمَ، لَا أُسَابِقُكَ إِلَى شَيْءٍ بَعْدَهَا أَبَدًا .

 فَأَذْعَنَ لَهُ بِالسَّبْقِ، وَصَدَّقَ فِعْلُ أَبِي بَكْرٍ مَا كَانَ فِي نَفْسِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: الْيَوْمَ أَسْبِقُهُ إِنْ كُنْتُ سَابِقَهُ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَسْبِقْهُ.

 وَهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَكْنِزُونَ شَيْئًا مِنَ الْمَالِ، وَلَا يَحْرِصُونَ عَلَيْهِ؛ بَلْ كَانُوا أَجْوَدَ الْخَلْقِ بَعْدَ النَّبِيِّ ﷺ بِعَطِيَّةٍ وَهِبَةٍ، وَصِلَةٍ وَبِرٍّ.

 وَالرَّسُولُ ﷺ يُعَلِّمُهُمْ، وَيَدْعُوهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَيُرَبِّيهِمْ عَلَيْهِ، حَتَّى إِنَّهُ ﷺ كَانَ جُودُهُ لَا يُبْقِي لَدَيْهِ شَيْئًا مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يُقِيتَ ذَا كَبِدٍ رَطْبَةٍ، حَتَّى إِنَّ رَجُلًا- كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ))- جَاءَ النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ: إِنِّي مَجْهُودٌ -يَعْنِي بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ مَبْلَغَهُ، بِفَقْرٍ وَعَوَزٍ وَجُوعٍ.

 فَأَرْسَلَ الرَّسُولُ ﷺ إِلَى بَعْضِ أَبْيَاتِ أَزْوَاجِهِ: ((هَلْ عِنْدَكِ مِنْ شَيْءٍ؟))

 فَقَالَت -وَقَدْ رَدَّتْ مَنْ أَرْسَلَهُ إِلَيْهَا رَسولُنَا ﷺ بِهَذِهِ الرِّسَالَةِ-: لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، مَا عِنْدِي إِلَّا الْمَاءُ.

فَأَرْسَلَ إِلَى أُخْرَى، حَتَّى ذَهَبَ رَسُولُ رَسُولِ اللهِ إِلَى أَبْيَاتِ أَزْوَاجِهِ جُمَعَ، وَكُلُّهُنَّ يَقُلْنَ: وَالَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ مَا عِنْدَنَا إِلَّا الْمَاءُ.

 فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَنْ يُضَيِّفُ ضَيْفَ رَسُولِ اللهِ ﷺ؟))

 فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ.

 فَأَخَذَ بِيَدِهِ، فَانْقَلَبَ بِهِ إِلَى رَحْلِهِ، ثُمَّ أَتَى أَهْلَهُ، فَقَالَ: هَلْ عِنْدَكِ مِنْ شَيْءٍ؟

 قَالَتْ: مَا عِنْدِي إِلَّا قُوتُ صبْيَانِي، مَا عِنْدِي إِلَّا عَشَاءُ صبْيَانِي.

 قَالَ: فَنَوِّمِيهِمْ، فَعَلِّلِيهِمْ؛ حَتَّى إِذَا نَامُوا قَدِّمِي طَعَامَ الصِّبْيَانِ بَيْنَ يَدَيْ ضَيْفِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، ثُمَّ قُومِي إِلَى الْمِصْبَاحِ فَأَطْفِئِيهِ.

يَعْنِي: قُومِي إِلَى السِّرَاجِ وَلَا تُطْفِئِيهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إطْفَاءً كَامِلًا، وَإِنَّمَا تَقُومُ إِلَيْهِ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَخْفِضَ مِنْ ضَوْئِهِ شَيْئًا.

حَتَّى إِذَا جَلَسْنَا؛ نُرِي الضَّيْفَ أَنَّا نَأْكُلُ؛ قُومِي إِلَى السِّرَاجِ فَأَطْفِئِيهِ.

 فَقَرَّبَتِ الطَّعَامَ، وَقَامَتْ إِلَى الْمِصْبَاحِ، ثُمَّ جَاءَتْ إِلَى الطَّعَامِ، حَتَّى إِذَا ظَنَّ الرَّجُلُ أَنَّهُمَا يَأْكُلَانِ قَامَتْ إِلَى الْمِصْبَاحِ فَأَطْفَأَتْهُ.

 وَأَكَلَ ضَيْفُ رَسُولِ اللهِ ﷺ طَعَامَ صِبْيَانِ الْأَنْصَارِيِّ بِمَحْضَرٍ مِنْ أُمِّهِمْ، لَا تَجِدُ مَسًّا لِلْحُزْنِ فِي قَلْبِهَا، وَلَا ثَارَةً لِلْوَجْدِ فِي نَفْسِهَا، وَإِنَّمَا تَرَى الْبَذْلَ وَالْجُودَ أَحَبَّ إِلَيْهَا مِنْ إِطْعَامِ صِبْيَانِهَا.

كَذَلِكَ كَانُوا.

الْأَنْصَارِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَمَّا أَطْعَمَ ضَيْفَ رَسُولِ اللهِ ﷺ عَلَى ذَلِكَ النَّحْوِ الْمَوْصُوفِ، وَمَضَى اللَّيْلُ يَطْوِي سَاعَاتِهِ طَيًّا، حَتَّى إِذَا انْبَلَجَ الصُّبْحُ، وَإِذَا مَا جَاءَ بِفَلَقٍ نِيِّرٍ مُبِينٍ؛ ذَهَبَ إِلَى النَّبِيِّ الْأَمِينِ ﷺ، فَبَشَّرَهُ، فَقَالَ: ((عَجِبَ اللهُ مِنْ صنِيعِكُمَا اللَّيْلَةَ))، عَجِبَ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- مِنْ صنِيعِكَ وَفُلَانَةَ اللَّيْلَةَ مَعَ ضَيْفِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي هُو حَسَنٌ بِشَوَاهِدِهِ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي ((سُنَنِهِ))، عَن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((هَلْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟))

 فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ؛ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَرَأَيْتُ مِسْكِينًا، وَكِسْرَةٌ مِنْ خُبْزٍ فِي يَدِ وَلَدِي عَبْدِالرَّحْمَنِ، فَأَخَذْتُهَا مِنْهُ، وَأَعْطَيْتُهَا الْمِسْكِينَ.

فَيَجِدُ وَقْعَهَا بِحَلَاوَتِهَا بِذَوْقِهِا فِي فَمِهِ، وَعَلَى مَعِدَتِه أَحَبَّ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا تَبْقَى بَقَاءً سَرْمَدِيًّا بِثَوَابِهَا، وَأَثَرِهَا، وَعَطَائِهَا مِنْ عِنْدِ رَبِّهَا بِعَطَاءٍ لَا يَنْفَدُ، فَيَجِدُ ذَلِكَ أَحْلَى وَأَرْسَخَ فِي ذَوْقِ هَذَا الْفَقِيرِ الَّذِي تَعَرَّضَ وَلَمْ يَسْأَلْ، ثُمَّ يَجِدُ ذَلِكَ أَرْسَخَ ثَبَاتًا فِي نَفْسِهِ وَفِي مَعِدَتِهِ مِمَّا لَوْ كَانَتْ فِي نَفْسِ عَبْدِالرَّحْمَنِ، فِي مَعِدَتِهِ، وَهُوَ فِلْذَةُ كَبِدِهِ.

لَا تَبْغِ عَلَى الْإِطْعَامِ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا، وَإِنَّمَا تَقَعُ صدَقَتُكَ فِي يَدِ اللهِ، فَيُرَبِّيهَا لَكَ، كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ -يَعْنِي مُهْرَهُ-، فَمَا يَزَالُ يَرْبُو وَيَرْبُو حَتَّى تَكُونَ التَّمْرَةُ جَبَلًا مِنْ تَمْرٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَنَّى هَذَا، وَمَا امْتَلَكْتُ عُشْرَ مِعْشَارِهِ فِي الدُّنْيَا أَبَدًا؟!!

يَقُولُ: ((صَدَقَتُكَ فِي يَوْمِ كَذَا، مَا زِلْتُ أُرَبِّيهَا لَكَ))؛ يَعْنِي: أَزِيدُهَا لَكَ بَرَكَةً، وَعَطَاءً، وَبِرًّا، حَتَّى صارَتْ إِلَى مَا تَرَى.

إِنَّ الرَّسُولَ ﷺ كَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَالنَّبِيُّ ﷺ يُمَارِسُ ذَلِك فِي وَاقِعِ الْحَيَاةِ، وَفِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ؛ لِيَقْتَدِيَ بِهِ مَنْ هُنَالِكَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَمَنْ يَأْتِي بَعْدُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى يَرِثَ اللهُ الْأَرْضَ وَمَن عَلَيْهَا.

وَقَدْ كَانَ الصَّالِحُونَ عَلَى هَذَا؛ فَهَذَا الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، كَانَ صائِمًا، وَكَانَ غُلَامُهُ صائِمًا، كَانَ لَدَيْهِ غُلَامٌ مِنَ الْأَعْبُدِ يَخْدُمُهُ، وَكَانَ صائِمًا كَحَالِهِ، فَلَمَّا أَنِ اقْتَرَبَ الْمَغْرِبُ، وَآذَنَ بِالدُّنُوِّ؛ طَرَقَ طَارِقٌ الْبَابَ، فَدَخَلَ الْغُلامُ وَخَرَجَ، ثُمَّ أَتَى إِلَى سَيِّدِهِ، فَلَمْ يَتَكَلَّمْ، فَقَالَ: مَا الشَّأْنُ؟.

 قَالَ: إِنَّ سَائِلًا جَاءَ يَسْأَلُ، فَأَعْطَيْتُهُ.

 قَالَ: وَمَا أَبْقَيْتَ؟

قَالَ: أَعْطَيْتُهُ مَا عِنْدَنَا كُلَّهُ .

 قَالَ: أَلَمْ تُبْقِ لإِفْطَارِنَا شَيْئًا؟

 قَالَ: لَا.

 قَالَ: إِذَنْ هَذَا الَّذِي تَصْنَعُهُ يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ: وَهُوَ أَنَّكَ كَبِيرُ كَثِيْرُ عَظِيمُ التَّوَكُّلِ، قَلِيلُ ضَعِيفُ الْعِلْمِ.

 أَنْتَ كَثِيرُ التَّوَكُّلِ، قَلِيلُ الْعِلْمِ.

 فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا، فَلَمَّا أَنْ آذَنَ الْـمَغْرِبُ بِالدُّنُوِّ، وَآنَ أَوَانُ إِفْطَارِ الصَّائِمِينَ؛ طَرَقَ الْبَابَ طَارِقٌ، فَدَخَلَ بِصَحْفَةٍ عَظِيمَةٍ عَلَيْهَا مِنْ أَطَايِبِ الطَّعَامِ.

 فَقَال ذَلِكَ الدَّاخِلُ -وَكَانَ عَبْدًا- لِلْحَسَنِ: أَنَا باللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، ثُمَّ بِكَ.

قَالَ: وَمَا ذَلِكَ؟

قَالَ: إِنَّ سَيِّدِي قَدْ قَالَ: إِنْ قَبِلَ مِنْكَ هَذَا الطَّعَامَ؛ فَأَنْتَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللهِ، فَاقْبَلْهُ حَتَّى تَعْتِقَ رَقَبَتِي، وَتَنَالَ الثَّوَابَ الْجَزِيلَ عِنْدَ اللهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ.

فَقَالَ: قَدْ قَبِلْنَاهُ .

وَلَمَّا انْصَرَفَ الرَّجَلُ -وَقَدْ صارَ حُرًّا-؛ أَقْبَلَ غُلَامُ الْحَسَنِ عَلَيْهِ، أَقْبَلَ الْعَبْدُ الَّذِي لِلْحَسَنِ عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا سَيِّدِي، إِنَّكَ لَكَثِيرُ الْعِلْمِ، ضَعِيفُ الْيَقِينِ.

 يَقُولُ لَهُ رَدًّا عَلَى مَقَالَتِهِ السَّابِقَةِ، عِنْدَمَا قَالَ لَهُ لِعَظِيمِ تَوَكُّلِهِ: أَنْتَ كَثِيرُ الْيَقِينِ، قَلِيلُ الْعِلْمِ.

 وَالْآنَ خُذْهَا مِمَّنْ يُحْسِنُ أَنْ يُسَدِّدَ فِي مَقْتَلٍ، وَيَضْرِبَ فِي مَفْصَلٍ، خُذْهَا إِلَيْكَ:  ((وَأَمَّا أَنْتَ؛ فَكَثِيرُ الْعِلْمِ، قَلِيلُ الْيَقِينِ)).

أَنَا قَلِيلُ الْيَقِينِ، أَمْ كَثِيرُ الْيَقِينِ؟!!

كَثِيرُ الْيَقِينِ، قَلِيلُ الْعِلْمِ، وَأَمَّا أَنْتَ فَقَلِيلُ الْيَقِينِ، كَثِيرُ الْعِلْمِ، فَلَمْ يُغْنِ عَنْكَ شَيْئًا.

وَمَا الْعِلْمُ فِي الْمُنْتَهَى إِلَّا مِنْ أَجْلِ تَحْصِيلِ الْيَقِينِ؟!!

وَمَا الْعِلْمُ بِشَيْءٍ إِنْ لَمْ يُورِثِ الْخَشْيَةَ، وَإِنَّمَا الْعِلْمُ الْخَشْيَةُ.

 ((مِنْ أَسْمَى الْخِصَالِ الشَّهَامَةُ وَالْمُرُوءَةُ وَالتَّضْحِيَةِ))

إِنَّ الْبُطُولَةَ لَا تَتَوَقَّفُ عِنْدَ مَيَادِينِ الصِّرَاعِ وَمَلَاحِمِ النِّزَالِ، وَإِنَّمَا الْبُطُولَةُ فِي كُلِّ مَوْطِنٍ مِنْ مَوَاطِنِ الْقِيَمِ النَّبِيلَةِ، وَفِي كُلِّ مَوْطِنٍ وَمَجَالٍ مِنْ مَجَالَاتِ الْعَمَلِ الشَّرِيفِ مِنْ أَجْلِ تَعْلِيَةِ الْحَيَاةِ بِقِيَمِ هَذَا الدِّينِ الْمَتِينِ.

أَلَا إِنَّ الرَّجُلَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بَطَلًا حَقِيقِيًّا فِي قِيمَةٍ يَسِيرَةٍ مَنْسِيَّةٍ ضَائِعَةٍ بَيْنَ أَهْرَاءِ حَيَاةٍ مُتَهَرِّئَةٍ!!

نَعَمْ؛ أَلَا إِنَّ الْإِنْسَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بَطَلًا فِي كُلِّ مَيْدَانٍ يُؤَدِّيهِ عَلَى النَّحْوِ، عَلَى الْوَجْهِ، قَائِمًا بِالْعَمَلِ عَلَى أَسَاسٍ صُلْبٍ رَاسِخٍ مِنْ نِيَّةٍ صَادِقَةٍ مُسْتَقِيمَةٍ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ سَلَامَةُ الصُّدُورِ، وَسَخَاوَةُ النَّفْسِ، وَالنَّصِيحَةُ لِلْأُمَّةِ، وَبِهَذِهِ الْخِصَالِ بَلَغَ الذُّرَى مَنْ بَلَغَ.

سَلَامَةُ الصَّدْرِ، سَخَاوَةُ النَّفْسِ، النَّصِيحَةُ لِلْأُمَّةِ، وَبَذْلُ النَّفْسِ لِلْمُسْلِمِينَ كَمَا كَانَ نَبِيُّنَا الْأَمِينُ ﷺ فِي حَاجَةِ الْمَرْأَةِ الْمِسْكِينَةِ وَالضَّعِيفِ، كَانَ فِي حَاجَةِ الْكَسِيرِ، كَانَ فِي حَاجَةِ الْحَسِيرِ، كَانَ فِي حَاجَةِ الْفُقَرَاءِ وَالْمُعْوزِينَ، كَانَ فِي حَاجَةِ الثَّكَالَى وَالْأَرَامَلِ وَالْمَسَاكِينِ، يَبْذُلُ نَفْسَهُ، وَتَأْخُذُ الْجَارِيَةُ بِكُمِّهِ بِيَدِهِ، تَسِيرُ مَعَهُ فِي أَيِّ طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْمَدِينَةِ شَاءَتْ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهَا ﷺ.

وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ كَمَا حَكَتْ عَائِشَةُ، وَلَمْ تَبْلُغْ بِهِ السُّنُونُ مَبَالِغَهَا، فَإِنَّهُ ﷺ قَبَضَهُ رَبُّهُ إِلَيْهِ وَشَيْبُهُ مَعْدُودٌ، شَيَّبَتْهُ هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا؛ خَوْفًا مِنَ اللهِ وَقِيَامًا بِأَمْرِ اللهِ، وَصِفَتْهُ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- مَعَ ذَلِكَ وَمَا عَلَتْ بِهِ السُّنُونُ، قَالَتْ لَمَّا كَانَ قَدْ أَصَابَهُ وَذَلِكَ حِينَ حَطَمَهُ النَّاسُ، حَطَمَهُ النَّاسُ فِي بِدَايَةِ الْأَمْرِ بِكُفْرِهِمْ وَشِرْكِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، وَطُغْيَانِهِمْ وَجَبَرُوتِهِمْ، وَصِرَاعِهِمْ مَعَ الْحَقِّ، وَمُحَاوَلَاتِهِمْْ لِطَمْسِ نُورِهِ، وَتَحَمَّلَ مَا تَحَمَّلَ رَاضِيًا فِي ذَاتِ اللهِ ﷺ، حَتَّى أُخْرِجَ مِنْ بَلَدِهِ وَمِنْ دَارِهِ، مِنْ بَلَدِ آبَائِهِ وَأَجْدَادِهِ، وَهُوَ أَوْلَى الْخَلْقِ بِهِ.

وَحُرِمَ مِنْ جِوَارِ بَيْتِ اللهِ الْحَرَامِ، وَمِنَ السُّجُودِ عِنْدَهُ تَبَتُّلًا للهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَصُدَّ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَهُوَ أَوْلَى الْخَلْقِ بِهِ، وَكَانَ قَدْ جَاءَهُ فِي نُسُكِ مُحْرِمًا مُعْتَمِرًا، قَدْ سَاقَ الْهَدْيَ، فَحُبِسَ الْهَدْيُ فِي مَحِلِّهِ حَتَّى أَكَلَ وَبَرَهُ؟

فَصُدَّ وَمَنْ مَعَهُ عَنِ البَيْتِ الْحَرَامِ، وَقَدْ بَنَاهُ أَبُوهُ وَجَدُّهُ، بَنَاهُ إِسْمَاعِيلُ مَعَ إِبْرَاهِيمَ، يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ، حِينَ حَطَمَهُ النَّاسُ بِكَيْدِهِمُ الرَّخِيصِ، بِتَصَوُّرَاتِهِمُ الْهَزِيلَةِ، بِنَزَوَاتِهِمُ الْوَضِيعَةِ، وَعَدَمِ فَهْمِهِمْ، وَسُوءِ قَصْدِهِمْ، وَعَدَمِ إِلْمَامِهِمْ بِجَنَبَاتِ نُفُوسِهِمْ فِي اتِّسَاعِ أُفُقِهَا الْوَضِيءِ، بِوُقُوفِهِمْ عِنْدَ حُدُودِ رَغَبَاتِهِمْ وَكَيْدِهِمْ وَمَكْرِهِمْ، مَعَ اتِّبَاعِهِمْ لِشَيَاطِينِهِمْ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَالنَّبِيُّ يُصَارِعُ ذَلِكَ كُلَّهُ، يَتَحَمَّلُ الْأَذَى فِيهِ وَالْمَكْرُوهَ، رَاضِيًا عَنْ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-، يَتَحَمَّلُ ذَلِكَ فِي ذَاتِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

ثُمَّ كَانَ مَا كَانَ، وَأَعَزَّ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ جُنْدَهُ وَنَصَرَهُمْ، وَأَعْلَى شَأْنَهُمْ، وَفَتَحَ لَهُمْ الْبِلَادَ وَقُلُوبَ الْعِبَادِ، وَمَكَّنَ نَبِيَّهُ ﷺ وَالْمُؤْمِنُونَ مَعَهُ مِنَ الْأَرْضِ وَمِنْ رِقَابِ الْخَلْقِ، فَسَارُوا فِي ذَلِكَ سِيرَةَ الْحَقِّ، وَلَمْ يَظْلِمُوا وَلَمْ يَحِيفُوا، وَكَانَ مَا كَانَ، وَوَقَعَتْ أُمُورٌ، وَكَانَ فِي حَاجَةِ إِخْوَانِهِ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَكَانَ دَاعِيًا إِلَى رَبِّهِ فِي كُلِّ حَالٍ، فِي حَرْبِهِ وَسِلْمِهِ، فِي قِيَامِهِ وَقُعُودِهِ وَعلَى جَنْبٍ ﷺ؛ لِأَنَّهُ بُعِثَ مُعَلِّمًا ﷺ.

كَانَ ﷺ دَاعِيًا إِلَى رَبِّهِ فِي حَلِّهِ وَتَرْحَالِهِ، فِي قِيَامِهِ وَفِي ظَعْنِهِ، كَانَ ﷺ دَاعِيًا إِلَى رَبِّهِ فِي بَيْعِهِ وَشِرَائِهِ، فِي ضَحِكِهِ وَبُكَائِهِ، فِي مُعَامَلَةِ الْعَدُوِّ وَالصَّدِيقِ، وَفِي مُعَامَلَةِ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، وَفِي مُعَامَلَةِ الْكُفَّارِ الْأَصْلِيِّينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ.

كَانَ يَقْضِي حَاجَاتِ الْخَلْقِ، وَذَلِكَ حِينَ حَطَمَهُ النَّاسُ، تَقُولُ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((بَذَلَ نَفْسَهُ، وَلَمْ يَبْخَلْ بِشَيْءٍ -حَاشَاهُ- ﷺ )).

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.

 

المصدر: الشَّهَامَةُ وَالْمُرُوءَةُ وَالتَّضْحِيَةُ فِي الْإِسْلَامِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان