((تَعْزِيزُ الْهُوِيَّةِ وَدَوْرُهَا فِي صِنَاعَةِ الْحَضَارَةِ))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((هُوِيَّتُنَا الْإِسْلَامُ عَقِيدَةً وَتَارِيخًا وَلُغَةً))
فَالْهُوِيَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ هِيَ كُلُّ مَا يُمَيِّزُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الْأُخْرَى، وَقِوَامُ هُوِيَّتِهِمْ هُوَ الْإِسْلَامُ بِعَقِيدَتِهِ وَشَرِيعَتِهِ وَآدَابِهِ وَلُغَتِهِ وَتَارِيخِهِ وَحَضَارَتِهِ.
إِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ -لِأَنَّهُ مِنْ عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ- دِينٌ كَامِلٌ، لَيْسَ فِيهِ نَقْصٌ بِحَالٍ أَبَدًا، أَكْمَلَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَأَتَمَّهُ، وَأَتَمَّ بِهِ النِّعْمَةَ عَلَى عِبَادِهِ، وَجَعَلَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- صَالِحًا مُنَاسِبًا لِكُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ.
وَضَبَطَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهِ نِسَبَ الْأَشْيَاءِ، فَلَا تَجِدُ فِيهِ خَلَلًا أَبَدًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ عِنْدَ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ.
((دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ أَكْمَلُ الْأَدْيَانِ، وَأَفْضَلُهَا، وَأَعْلَاهَا، وَأَجَلُّهَا.
وَقَدْ حَوَى مِنَ الْمَحَاسِنِ، وَالْكَمَالِ، وَالصَّلَاحِ، وَالرَّحْمَةِ، وَالْعَدْلِ، وَالْحِكْمَةِ مَا يَشْهَدُ للهِ تَعَالَى بِالْكَمَالِ الْمُطْلَقِ، وَسَعَةِ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، وَيَشْهَدُ لِنَبِيِّهِ ﷺ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ حَقًّا، وَأَنَّهُ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ، الَّذِي لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4].
فَهَذَا الدِّينُ الْإِسْلَامِيُّ أَعْظَمُ بُرْهَانٍ، وَأَجَلُّ شَاهِدٍ للهِ تَعَالَى بِالتَّفَرُّدِ بِالْكَمَالِ الْمُطْلَقِ كُلِّهِ، وَلِنَبِيِّهِ ﷺ بِالرِّسَالَةِ وَالصِّدْقِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَحَاسِنَ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ عَامَّةً فِي جَمِيعِ مَسَائِلِهِ وَدَلَائِلِهِ، وَفِي أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ، وَفِيمَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ عُلُومِ الشَّرْعِ وَالْأَحْكَامِ، وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ عُلُومِ الْكَوْنِ وَالِاجْتِمَاعِ.
دِينُ الْإِسْلَامِ مَبْنِيٌّ عَلَى أُصُولِ الْإِيمَانِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136].
فَهَذِهِ الْأُصُولُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي أَمَرَ اللهُ عِبَادَهُ بِهَا هِيَ الْأُصُولُ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ، وَهِيَ مُحْتَوِيَةٌ عَلَى أَجَلِّ الْمَعَارِفِ وَالِاعْتِقَادَاتِ؛ مِنَ الْإِيمَانِ بِكُلِّ مَا وَصَفَ اللهُ بِهِ نَفْسَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، وَعَلَى بَذْلِ الْجُهْدِ فِي سُلُوكِ مَرْضَاتِهِ.
فَدِينٌ أَصْلُهُ الْإِيمَانُ بِاللهِ، وَثَمَرَتُهُ السَّعْيُ فِي كُلِّ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَإِخْلَاصُ ذَلِكَ للهِ، هَلْ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ دِينٌ أَحْسَنَ مِنْهُ، وَأَجَلَّ، وَأَفْضَلَ؟!!
وَدِينٌ أَمَرَ بِالْإِيمَانِ بِكُلِّ مَا أُوتِيهِ الْأَنْبِيَاءُ، وَالتَّصْدِيقِ بِرِسَالَاتِهِمْ، وَالِاعْتِرَافِ بِالْحَقِّ الَّذِي جَاءُوا بِهِ مِنْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَعَدَمِ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمْ، وَأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ رُسُلُ اللهِ الصَّادِقُونَ، وَأُمَنَاؤُهُ الْمُخْلِصُونَ، يَسْتَحِيلُ أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ -أَيْ إِلَى هَذَا الدِّينِ الَّذِي أَمَرَ بِهَذَا كُلِّهِ- أَيُّ اعْتِرَاضٍ وَقَدْحٍ.
فَهُوَ يَأْمُرُ بِكُلِّ حَقٍّ، وَيَعْتَرِفُ بِكُلِّ صِدْقٍ، وَيُقَرِّرُ الْحَقَائِقَ الدِّينِيَّةَ الْمُسْتَنِدَةَ إِلَى وَحْيِ اللهِ لِرُسُلِهِ، وَيَجْرِي مَعَ الْحَقَائِقِ الْعَقْلِيَّةِ الْفِطْرِيَّةِ النَّافِعَةِ.
وَلَا يَرُدُّ حَقًّا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَلَا يُصَدِّقُ بِكَذِبٍ، وَلَا يَرُوجُ عَلَيْهِ الْبَاطِلُ، فَهُوَ مُهَيْمِنٌ عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ، يَأْمُرُ بِمَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ، وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَمَصَالِحِ الْعِبَادِ; وَيَحُثُّ عَلَى الْعَدْلِ، وَالْفَضْلِ، وَالرَّحْمَةِ، وَالْخَيْرِ، وَيَزْجُرُ عَنِ الظُّلْمِ، وَالْبَغْيِ، وَمَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ.
مَا مِنْ خَصْلَةِ كَمَالٍ قَرَّرَهَا الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ إِلَّا وَقَرَّرَهَا وَأَثْبَتَهَا، وَمَا مِنْ مَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ وَدُنْيَوِيَّةٍ دَعَتْ إِلَيْهَا الشَّرَائِعُ إِلَّا حَثَّ عَلَيْهَا، وَلَا مَفْسَدَةٍ إِلَّا نَهَى عَنْهَا، وَأَمَرَ بِمُجَانَبَتِهَا.
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ عَقَائِدَ هَذَا الدِّينِ هِيَ الَّتِي تَزْكُو بِهَا الْقُلُوبُ، وَتَصْلُحُ الْأَرْوَاحُ، وَتَتَأَصَّلُ بِهَا مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ، وَمَحَاسِنُ الْأَعْمَالِ)).
لَقَدْ حَبَا اللهُ الْأُمَّةَ الْعَرَبِيَّةَ وَالْإِسْلَامِيَّةَ بِهُوِيَّتِهَا الرَّبَّانِيَّةِ؛ فَالْهُوِيَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ فِي الْإِيمَانِ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَبِدِينِ الْإِسْلَامِ وَعَقِيدَةِ التَّوْحِيدِ، الَّتِي أَكْمَلَ اللهُ لَنَا بِهَا الدِّينَ، وَالِانْتِمَاءِ إِلَى هَذَا الدِّينِ الْعَظِيمِ بِعَقِيدَتِهِ وَشَرِيعَتِهِ وَلُغَتِهِ وَإِلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ بِتَارِيخِهَا وَثَقَافَتِهَا وَآدَابِهَا.
((إِنَّ إِرْثَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِرْثٌ عَظِيمٌ ضَخْمٌ مُتَنَوِّعٌ؛ مِنْ تَفْسِيرٍ، وَحَدِيثٍ، وَفِقْهٍ، وَأُصُولِ فِقْهٍ، وَأُصُولِ دِينٍ، وَمِلَلٍ وَنِحَلٍ، وَبَحْرٍ زَاخِرٍ مِنَ الْأَدَبِ وَالنَّقْدِ وَالْبَلَاغَةِ، وَالنَّحْوِ وَاللُّغَةِ، حَتَّى تُرَاثِ الْفَلْسَفَةِ الْقَدِيمَةِ، وَالْحِسَابِ الْقَدِيمِ، وَالْجُغْرَافْيَةِ الْقَدِيمَةِ، وَكُتُبِ النُّجُومِ وَصُوَرِ الْكَوَاكِبِ، وَالطِّبِّ الْقَدِيمِ، وَمُفْرَدَاتِ الْأَدْوِيَةِ.
هَذِهِ الْأُمَّةُ الْعَرَبِيَّةُ الْمُسْلِمَةُ صَاحِبَةُ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، عَلَى مَرِّ السِّنِينَ وَتَعَاقُبِ الْعُلَمَاءِ وَالْكُتَّابِ فِي كُلِّ عِلْمٍ وَفَنٍّ، أَقُولُ غَيْرَ مُتَرَدِّدٍ أَنَّ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُمْ لَمْ يَكُنْ قَطُّ عِنْدَ أُمَّةٍ سَابِقَةٍ مِنَ الْأُمَمِ، حَتَّى الْيُونَانِ، لَقَدْ بَلَغُوا مَبْلَغًا لَمْ تُدْرِكْ ذِرْوَتَهُ الثَّقَافَةُ الْأُورُبِّيَّةُ الْحَاضِرَةُ الْيَوْمَ، وَهِيَ فِي قِمَّةِ مَجْدِهَا وَازْدِهَارِهَا وَسَطْوَتِهَا عَلَى الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ.
ثَقَافَةٌ مُتَكَامِلَةٌ مُتَمَاسِكَةٌ رَاسِخَةُ الْجُذُورِ، ظَلَّتْ تَنْمُو وَتَتَّسِعُ وَتَسْتَوْلِي عَلَى كُلِّ مَعْرِفَةٍ مُتَاحَةٍ أَوْ مُسْتَخْرَجَةٍ بِسُلْطَانِ لِسَانِهَا الْعَرَبِيِّ، لَمْ تَفْقِدْ قَطُّ سَيْطَرَتَهَا عَلَى النَّهْجِ الْمُسْتَبِينِ، مَعَ اخْتِلَافِ الْعُقُولِ وَالْأَفْكَارِ وَالْمَنَاهِجِ وَالْمَذَاهِبِ، حَتَّى اكْتَمَلَتِ اكْتِمَالًا مُذْهِلًا فِي كُلِّ عِلْمٍ وَفَنٍّ، وَكَانَ الْمَرْجُوُّ وَالْمَعْقُولُ أَنْ يَسْتَمِرَّ نُمُوُّهَا وَاكْتِمَالُهَا وَازْدِهَارُهَا فِي حَيَاتِنَا الْأَدَبِيَّةِ الْعَرَبِيَّةِ الْحَدِيثَةِ رَاهِنًا ثَابِتًا إِلَى هَذَا الْيَوْمِ، لَوْلَا.. وَلَكِنْ صِرْنَا وَاحَسْرَتَاهُ! إِلَى أَنْ نَقُولَ مَعَ الْعَرْجِيِّ الشَّاعِرِ:
كَانَ شَيْئًا كَانَ ثُمَّ انْقَضَى!)).
((خَطَرُ الْغَزْوِ الْفِكْرِيِّ عَلَى هُوِيَّةِ الْأُمَّةِ))
إِنَّ اللهَ -تَعَالَى- بِحِكْمَتِهِ جَعَلَ لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ يُضَادُّونَ دِينَهُ، وَيُعَارِضُونَ دَعْوَتَهُ، وَيَكِيدُونَ لِلْقَضَاءِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ بِمَا يَسْتَطِيعُونَ مِنْ قُوَّةٍ قَوْلِيَّةٍ وَفِعْلِيَّةٍ، وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا فَعَلُوهُ، وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ، وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ.
إِنَّ أَعْدَاءَ الْإِسْلَامِ يُهَاجِمُونَ الْإِسْلَامَ كُلَّمَا وَجَدُوا فُتُورًا مِنْ جُنْدِهِ أَوْ غَفْلَةً مِنْ أَهْلِهِ، ثُمَّ يُهَادِنُونَهُ حِينَمَا يَجِدُونَ مِنْ جُنْدِهِ قُوَّةً وَمِنْ أَهْلِهِ يَقَظَةً، هَكَذَا يَكِرُّونَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَيَفِرُّونَ، وَيَتَرَبَّصُونَ بِهِ الدَّوَائِرَ لَعَلَّهُمْ يَجِدُونَ مَنْفَذًا يَقْضُونَ مِنْهُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، فَمُنْذُ بَعَثَ اللهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا وَأَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ يُعْمِلُونَ أَفْكَارَهُمْ، وَيُجْهِدُونَ أَبْدَانَهُمْ، وَيُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ، لِيَقْضُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ، لِيَمْحُوا عَقِيدَةَ الْحَقِّ، وَشَرِيعَةَ الْعَدْلِ، وَيُحِلُّوا عَقِيدَةَ الْبَاطِلِ وَقَانُونَ الظُّلْمِ وَالْجَوْرِ.
يُهَاجِمُونَ الْإِسْلَامَ تَارَةً بِالْمَبَادِئِ الْمُنْحَرِفَةِ، وَتَارَةً بِالْأَخْلَاقِ السَّافِلَةِ الَّتِي تَمْسَخُ الْمُرُوءَةَ وَالشَّرَفَ، وَتَجْعَلُ الْأُمَّةَ بَهَائِمَ سَائِمَةً لَيْسَ لَهَا هَمٌّ سِوَى مَلْءِ بُطُونِهِمْ وَنَيْلِ شَهَوَاتِهِمْ، وَتَارَةً يُهَاجِمُونَ الْمُسْلِمِينَ بِالتَّفْرِيقِ وَإِلْقَاءِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَهُمْ، وَتَارَةً بِالسِّلَاحِ مَتَى سَنَحَتْ بِهِ الْفُرْصَةُ، وَرَأَوْهُ مُنَاسِبًا أَوْ ضَرُورِيًّا لِتَنْفِيذِ مَآرِبِهِمْ.
وَفِي هَذَا الْعَصْرِ الَّذِي يُسَمُّونَهُ عَصْرَ الْمَدَنِيَّةِ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ عَصْرُ السَّيْطَرَةِ؛ حَيْثُ كَانَتِ الدُّوَلُ الْكُبْرَى تُسَيْطِرُ عَلَى الْعَالَمِ، وَتَتَحَكَّمُ فِي مَصِيرِهِ كَمَا تُرِيدُ بِمَا يُنَاسِبُ مَصَالِحَهَا الِاسْتِعْمَارِيَّةَ وَمُخَطَّطَاتِهَا التَّسَلُّطِيَّةَ.. فِي هَذَا الْعَصْرِ يُغْزَى الْإِسْلَامُ مِنْ عِدَّةِ جِهَاتٍ:
يُغْزَى مِنْ نَاحِيَةِ الْعَقِيدَةِ، فَانْتَشَرَ الْإِلْحَادُ، وَكَثُرَتِ الْبِدَعُ، وَوَصَلَ الْأَمْرُ بِبَعْضِ النَّاسِ إِلَى إِنْكَارِ خَالِقِهِمْ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَإِنْكَارِ وَحْدَانِيَّتِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ وَشَرَائِعِهِ.
وَيُغْزَى مِنْ نَاحِيَةِ الْأَخْلَاقِ، فَتَحَلَّلَتِ الْأَخْلَاقُ، وَكَثُرَ الْفَسَادُ، وَانْحَطَّتْ بَعْضُ الشُّعُوبِ الْإِسْلَامِيَّةِ إِلَى أَسْفَلَ، فَظَهَرَتِ النِّسَاءُ كَاسِيَاتٍ عَارِيَاتٍ فِي مَسَارِحِ اللَّهْوِ وَمَرَاقِصِ الْغِنَاءِ.
وَيُغْزَى الْإِسْلَامُ مِنَ النَّاحِيَةِ الْفِكْرِيَّةِ، حَتَّى حُرِّفَتْ أَفْكَارُ كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَانْحَدَرَتْ مِنَ الْقِمَّةِ إِلَى الْقِمَامَةِ، فَبَدَلًا مِنْ أَنْ يَكُونَ تَفْكِيرُهُمْ فِيمَا يُقَوِّي إِيمَانَهُمْ، وَيُنَمِّي أَخْلَاقَهُمْ، وَيُعِزُّ دِينَهُمْ صَارَ تَفْكِيرُهُمْ مُنْصَبًّا إِلَى الرَّفَاهِيَةِ الْجِسْمِيَّةِ، وَعِمَارَةِ الدُّنْيَا وَتَطْوِيرِهَا، وَالْحُصُولِ عَلَيْهَا وَلَوْ عَلَى حِسَابِ الدِّينِ وَالْآخِرَةِ، حَتَّى سَيْطَرَتْ هَذِهِ الْفِكْرَةُ عَلَى بَعْضِ الْمُثَقَّفِينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ، تَجِدُ ذَلِكَ ظَاهِرًا فِي بُحُوثِهِمْ وَكِتَابَاتِهِمْ، حَتَّى كَانَ بَعْضُهُمْ يُحَاوِلُ أَنْ يَجْعَلَ مِنَ الْعِبَادَاتِ مَا هُوَ رَمْزٌ لِإِصْلَاحِ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، وَلَيْسَ لِلتَّقَرُّبِ إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، كَأَنَّمَا الْإِسْلَامُ جَاءَ لِعِمَارَةِ الدُّنْيَا فَقَطْ!!
وَمِنْ هَذِهِ الْجَبْهَةِ -جَبْهَةِ الْغَزْوِ الْفِكْرِيِّ- تَهَاوَنَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِالْبِدَعِ وَالْمُخَالَفَاتِ، فَظَنُّوا أَنَّ الدِّينَ الْعَقِيدَةُ فَقَطْ وَمَا عَدَاهَا فَهُوَ خَاضِعٌ لِلْفِكْرِ الْجَدِيدِ وَالْعَصْرِ الْمُتَقَلِّبِ، وَهَذَا ضَلَالٌ كَبِيرٌ وَخَطَأٌ فَادِحٌ، فَالدِّينُ عَقِيدَةٌ وَعَمَلٌ، وَمَنْ قَصَرَ الدِّينَ عَلَى مُجَرَّدِ الْعَقِيدَةِ فَهُوَ خَارِجٌ عَنِ الدِّينِ.
وَمِنْ هَذِهِ الْجَبْهَةِ -جَبْهَةِ الْغَزْوِ الْفِكْرِيِّ- تَحَوَّلَتْ أَفْكَارُ كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى الِالْتِفَافِ تَحْتَ رَايَةِ الْإِسْلَامِ، فَدَعَوْا إِلَى الِالْتِفَافِ تَحْتَ رَايَةِ الْقَوْمِيَّةِ، فَتَفَرَّقَتِ الْأُمَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ، وَخَرَجَ بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ أَكْثَرُ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَهَذِهِ الْجَبَهَاتُ الثَّلَاثُ؛ جَبْهَةُ الْعَقِيدَةِ، وَجَبْهَةُ الْأَخْلَاقِ، وَجَبْهَةُ الْفِكْرِ الَّتِي يُغْزَى مِنْهَا الْإِسْلَامُ جَبَهَاتٌ مُدَمِّرَةٌ، لَكِنْ لَا يَشْعُرُ بِهَا إِلَّا مَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ؛ وَلِهَذَا سَرَتْ فِي الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ سَرَيَانَ السُّمِّ فِي الْعُرُوقِ، وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَشْعُرُونَ.
وَلَقَدْ غُزِيَ الْإِسْلَامُ مِنَ الْجَبْهَةِ الْعَسْكَرِيَّةِ بِالْقِتَالِ مُنْذُ عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ إِلَى عَهْدِنَا الْحَاضِرِ، وَلَكِنَّ أَخْطَرَ الْجَبَهَاتِ الَّتِي يُخْشَى مِنْهَا هِيَ هَذِهِ الْجَبَهَاتُ؛ جَبْهَةُ الْعَقِيدَةِ، وَجَبْهَةُ الْأَخْلَاقِ، وَجَبْهَةُ الْفِكْرِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الْمُسْلِمِينَ فِي غَفْلَةٍ لَا يَعْلَمُونَ، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ ۗ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ۚ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ ۚ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ ۖ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} [الروم: 1-6].
فَتَيَقَّنُوا ذَلِكَ، وَاجْزِمُوا بِهِ، وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ مَا وَعَدَ اللهُ بِهِ حَقٌّ، فَلِذَلِكَ يُوجَدُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يُكَذِّبُونَ بِوَعْدِهِ، وَيُكَذِّبُونَ بِآيَاتِهِ.
وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ؛ أَيْ لَا يَعْلَمُونَ بَوَاطِنَ الْأَشْيَاءِ وَعَوَاقِبَهَا إِنَّمَا يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَيَنْظُرُونَ إِلَى الْأَسْبَابِ، وَيَجْزِمُونَ بِوُقُوعِ الْأَمْرِ الَّذِي فِي رَأْيِهِمُ انْعَقَدَتْ أَسْبَابُ وُجُودِهِ، وَيَتَيَقَّنُونَ عَدَمَ الْأَمْرِ الَّذِي لَمْ يُشَاهِدُوا لَهُ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُقْتَضِيَةِ لِوُجُودِهِ شَيْئًا، فَهُمْ وَاقِفُونَ مَعَ الْأَسْبَابِ، غَيْرَ نَاظِرِينَ إِلَى مُسَبِّبِهَا الْمُتَصَرِّفِ فِيهَا، وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ، قَدْ تَوَجَّهَتْ قُلُوبُهُمْ وَأَهْوَاؤُهُمْ وَإِرَادَاتُهُمْ إِلَى الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا وَحُطَامِهَا، فَعَمِلَتْ لَهَا، وَسَعَتْ وَأَقْبَلَتْ بِهَا وَأَدْبَرَتْ، وَغَفَلَتْ عَنِ الْآخِرَةِ، فَلَا الْجَنَّةَ تَشْتَاقُ إِلَيْهَا، وَلَا النَّارَ تَخَافُهَا وَتَخْشَاهَا، وَلَا الْمَقَامُ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَلِقَاؤُهُ يَرُوعُهَا وَيُزْعِجُهَا، وَهَذَا عَلَامَةُ الشَّقَاءِ، وَعُنْوَانُهُ الْغَفْلَةُ عَنِ الْآخِرَةِ.
وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ مِنَ النَّاسِ قَدْ بَلَغَتْ بِكَثِيرٍ مِنْهُمُ الْفِطْنَةُ وَالذَّكَاءُ فِي ظَاهِرِ الدُّنْيَا إِلَى أَمْرٍ يُحَيِّرُ الْعُقُولَ، وَيُدْهِشُ الْأَلْبَابَ، وَأَظْهَرُ مِنَ الْعَجَائِبِ الذَّرِّيَّةِ وَالْكَهْرُبَائِيَّةِ وَالْمَرَاكِبِ الْبَرِّيَّةِ وَالْبَحْرِيَّةِ وَالْهَوَائِيَّةِ مَا فَاقُوا بِهِ وَبَرَّزُوهُ وَأُعْجِبُوا بِعُقُولِهِمْ، وَرَأَوْا غَيْرَهُمْ عَاجِزًا عَمَّا أَقْدَرَهُمُ اللهُ عَلَيْهِ، فَنَظَرُوا إِلَيْهِمْ بِعَيْنِ الِاحْتِقَارِ وَالِازْدِرَاءِ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ أَبْلَدُ النَّاسِ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ، وَأَشَدُّهُمْ غَفْلَةً عَنْ آخِرَتِهِمْ، وَأَقَلُّهُمْ مَعْرِفَةً بِالْعَوَاقِبِ.
قَدْ رَآهُمْ أَهْلُ الْبَصَائِرِ النَّافِذَةِ فِي جَهْلِهِمْ يَتَخَبَّطُونَ، وَفِي ضَلَالِهِمْ يَعْمَهُونَ، وَفِي بَاطِلِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ، نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ.
ثُمَّ نَظَرُوا إِلَى مَا أَعْطَاهُمُ اللهُ وَأَقْدَرَهُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْأَفْكَارِ الدَّقِيقَةِ فِي الدُّنْيَا وَظَاهِرِهَا، وَحُرِمُوا مِنَ الْعَقْلِ الْعَالِي، فَعَرَفُوا أَنَّ الْأَمْرَ للهِ، وَالْحُكْمَ لَهُ فِي عِبَادِهِ، إِنْ هُوَ إِلَّا تَوْفِيقُهُ أَوْ خِذْلَانُهُ، فَخَافُوا رَبَّهُمْ، وَسَأَلُوهُ أَنْ يُتِمَّ لَهُمْ مَا وَهَبَهُمْ مِنْ نُورِ الْعُقُولِ وَالْإِيمَانِ حَتَّى يَصِلُوا إِلَيْهِ، وَيَحِلُّوا بِسَاحَتِهِ.
وَهَذِهِ الْأُمُورُ لَوْ قَارَنَهَا الْإِيمَانُ وَبُنِيَتْ عَلَيْهِ لَأَثْمَرَتِ الرُّقِيَّ الْعَالِي وَالْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ، وَلَكِنَّهَا لَمَّا بُنِيَ كَثِيرٌ مِنْهَا عَلَى الْإِلْحَادِ لَمْ تُثْمِرْ إِلَّا هُبُوطَ الْأَخْلَاقِ، وَأَسْبَابَ الْفَنَاءِ وَالتَّدْمِيرِ.
قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ۗ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ ۖ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنبياء: 1-4].
هَذَا تَعَجُّبٌ مِنْ حَالَةِ النَّاسِ، وَأَنَّهُمْ لَا يَنْجَعُ فِيهِمْ تَذْكِيرٌ، وَلَا يَرْعَوُونَ إِلَى نَذِيرٍ، وَأَنَّهُمْ قَدْ قَرُبَ حِسَابُهُمْ وَمُجَازَاتُهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ وَالطَّالِحَةِ، وَالْحَالُ أَنَّهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ؛ أَيْ: فِي غَفْلَةٍ عَمَّا خُلِقُوا لَهُ، وَإِعْرَاضٍ عَمَّا زُجِرُوا بِهِ، كَأَنَّهُمْ لِلدُّنْيَا خُلِقُوا، وَلِلتَّمَتُّعِ بِهَا وُلِدُوا، وَأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- لَا يَزَالُ يُجَدِّدُ لَهُمُ التَّذْكِيرَ وَالْوَعْظَ، وَلَا يَزَالُونَ فِي غَفْلَتِهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ.
وَلِهَذَا قَالَ: {مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ} يُذَكِّرُهُمْ مَا يَنْفَعُهُمْ، وَيَحُثُّهُمْ عَلَيْهِ، وَمَا يَضُرُّهُمْ وَيُرَهِّبُهُمْ مِنْهُ {إِلَّا اسْتَمَعُوهُ} سَمَاعًا تَقُومُ عَلَيْهِمْ بِهِ الْحُجَّةُ {وَهُمْ يَلْعَبُونَ} {لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ}؛ أَيْ: قُلُوبُهُمْ غَافِلَةٌ مُعْرِضَةٌ لَاهِيَةٌ بِمَطَالِبِهَا الدُّنْيَوِيَّةِ، وَأَبْدَانُهُمْ لَاعِبَةٌ، قَدِ اشْتَغَلُوا بِتَنَاوُلِ الشَّهَوَاتِ، وَالْعَمَلِ الْبَاطِلِ وَالْأَقْوَالِ الرَّدِيَّةِ، مَعَ أَنَّ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَكُونُوا بِغَيْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ، تُقْبِلُ قُلُوبُهُمْ عَلَى أَمْرِ اللهِ وَنَهْيِهِ، وَتَسْتَمِعُهُ اسْتِمَاعًا تَفْقَهُ الْمُرَادَ مِنْهُ، وَتَسْعَى جَوَارِحُهُمْ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِمُ الَّتِي خُلِقُوا لِأَجْلِهَا، وَيَجْعَلُونَ الْقِيَامَةَ وَالْحِسَابَ وَالْجَزَاءَ مِنْهُمْ عَلَى بَالٍ، فَبِذَلِكَ يَتِمُّ لَهُمْ أَمْرُهُمْ، وَتَسْتَقِيمُ أَحْوَالُهُمْ، وَتَزْكُو أَعْمَالُهُمْ.
وَفِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} قَوْلَانِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ هِيَ آخِرُ الْأُمَمِ، وَرَسُولَهَا آخِرُ الرُّسُلِ، وَعَلَى أُمَّتِهِ تَقُومُ السَّاعَةُ، فَقَدْ قَرُبَ الْحِسَابُ مِنْهَا بِالنِّسْبَةِ لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الْأُمَمِ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ)) وَقَرَنَ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالَّتِي تَلِيهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِقُرْبِ الْحِسَابِ الْمَوْتُ، وَأَنَّ مَنْ مَاتَ قَامَتْ قِيَامَتُهُ، وَدَخَلَ فِي دَارِ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَأَنَّ هَذَا تَعَجُّبٌ مِنْ كُلِّ غَافِلٍ مُعْرِضٍ لَا يَدْرِي مَتَى يَفْجَأُهُ الْمَوْتُ صَبَاحًا أَوْ مَسَاءً، فَهَذِهِ حَالَةُ النَّاسِ كُلِّهِمْ، إِلَّا مَنْ أَدْرَكَتْهُ الْعِنَايَةُ الرَّبَّانِيَّةُ فَاسْتَعَدَّ لِلْمَوْتِ وَمَا بَعْدَهُ.
ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَتَنَاجَى بِهِ الْكَافِرُونَ الظَّالِمُونَ عَلَى وَجْهِ الْعِنَادِ، وَمُقَابَلَةِ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ، وَأَنَّهُمْ تَنَاجَوْا وَتَوَاطَئُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا فِي الرَّسُولِ ﷺ إِنَّهُ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، فَمَا الَّذِي فَضَّلَهُ عَلَيْكُمْ وَخَصَّهُ مِنْ بَيْنِكُمْ؟
فَلَوِ ادَّعَى أَحَدٌ مِنْكُمْ مِثْلَ دَعْوَاهُ لَكَانَ قَوْلُهُ مِنْ جِنْسِ قَوْلِهِ، وَلَكِنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَيَرْأَسَ فِيكُمْ، فَلَا تُطِيعُوهُ وَلَا تُصَدِّقُوهُ، وَإِنَّهُ سَاحِرٌ، وَمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْقُرْآنِ سِحْرٌ، فَانْفِرُوا عَنْهُ، وَنَفِّرُوا النَّاسَ، وَقُولُوا أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ؟
وَهَذَا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ حَقًّا بِمَا يُشَاهِدُونَ مِنَ الْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ مَا لَمْ يُشَاهِدْ غَيْرُهُمْ، وَلَكِنْ حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الشَّقَاءُ وَالظُّلْمُ وَالْعِنَادُ، وَاللهُ -تَعَالَى- قَدْ أَحَاطَ عِلْمًا بِمَا تَنَاجَوْا بِهِ، وَسَيُجَازِيهِمْ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ: {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ} الْخَفِيَّ وَالْجَلِيِّ {فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}؛ أَيْ: فِي جَمِيعِ مَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ أَقْطَارُهُمَا {وَهُوَ السَّمِيعُ} لِسَائِرِ الْأَصْوَاتِ بِاخْتِلَافِ اللُّغَاتِ عَلَى تَفَنُّنِ الْحَاجَاتِ {الْعَلِيمُ} بِمَا فِي الضَّمَائِرِ وَأَكَنَّتْهُ السَّرَائِرُ.
قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ۚ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64].
يُخْبِرُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عَنْ حَالَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَفِي ضِمْنِ ذَلِكَ التَّزْهِيدُ فِي الدُّنْيَا وَالتَّشْوِيقُ لِلْأُخْرَى، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} فِي الْحَقِيقَةِ {إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ} تَلْهُو بِهِ الْقُلُوبُ، وَتَلْعَبُ بِهِ الْأَبْدَانُ بِسَبَبِ مَا جَعَلَ اللهُ فِيهَا مِنَ الزِّينَةِ وَاللَّذَّاتِ وَالشَّهَوَاتِ الْخَالِبَةِ لِلْقُلُوبِ الَّتِي أَعْرَضَتْ، الْبَاهِجَةِ لِلْعُيُونِ الَّتِي غَفَلَتْ، الْمُفْرِحَةِ لِلنُّفُوسِ الْمُبْطِلَةِ الْبَاطِلَةِ، ثُمَّ تَزُولُ سَرِيعًا، وَتَنْقَضِي جَمِيعًا، وَلَمْ يَحْصُلْ مِنْهَا شَيْءٌ لِمُحِبِّهَا سِوَى النَّدَمِ وَالْحَسْرَةِ وَالْخُسْرَان.
وَأَمَّا الدَّارُ الْآخِرَةُ فَإِنَّهَا دَارُ الْحَيَوَان؛ أَيِ: الْحَيَاةُ الْكَامِلَةُ الَّتِي مِنْ لَوَازِمِهَا أَنْ تَكُونَ أَبْدَانُ أَهْلِهَا فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ، وَقُوَاهُمْ فِي غَايَةِ الشِّدَّةِ؛ لِأَنَّهَا أَبْدَانٌ وَقُوًى خُلِقَتْ لِلْحَيَاةِ، وَأَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا فِيهَا كُلُّ مَا تَكْمُلُ بِهِ الْحَيَاةُ، وَتَتِمُّ بِهِ اللَّذَّةُ مِنْ مُفْرِحَاتِ الْقُلُوبِ، وَشَهَوَاتِ الْأَبْدَانِ مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَنَاكِحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}، لَمَّا آثَرُوا الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَلَوْ كَانُوا يَعْقِلُونَ مَا رَغِبُوا عَنْ دَارِ الْحَيَوَانِ، وَرَغِبُوا فِي دَارِ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَالْبُطْلَانِ، فَدَلَّ ذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ لَا بُدَّ أَنْ يُؤْثِرُوا الْآخِرَةَ عَلَى الدُّنْيَا؛ لِمَا يَعْلَمُونَهُ مِنْ حَالَةِ الدَّارَيْنِ.
((تَارِيخُ الْحَرْبِ عَلَى الْهُوِيَّةِ فِي مِصْرَ وَالْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ))
إِنَّ الْأَجْيَالَ الْمُسْلِمَةَ قَدْ تَتَابَعُ عَلَيْهَا تَفْرِيغٌ ثَقَافِيٌّ، فُرِّغَتْ أَجْيَالُنَا مِنْ ثَقَافَتِهَا؛ مِنْ دِينِهَا، مِنْ لُغَتِهَا، وَلَمْ تُتْرَكْ مُفَرَّغَةً، وَإِنَّمَا حُشِيَتْ جَهْلًا، وَمُلِئَتْ مَكْرًا، وَأُحِيطَ بِهَا كَيْدًا وَسُخْرًا -فَإِلَى اللهِ الْمُشْتَكَى وَهُوَ الْمُسْتَعَانُ-.
بَدْءُ غَفْلَةِ دَارِ الْإِسْلَامِ وَيَقَظَةِ النَّصْرَانِيَّةِ الشَّمَالِيَّةِ:
لَمَّا مَضَى مِائَتَا عَامٍ عَلَى فَتْحِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ -حِصْنِ النَّصْرَانِيَّةِ الشَّمَالِيَّةِ الشَّامِخِ- فِي يَوْمِ (الثُّلَاثَاءِ 20 جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ 857 هـ/ 29 مَايُو سَنَةَ 1453 م)؛ غَرِقَتْ دَارُ الْإِسْلَامِ فِي غَفْلَةٍ هَائِلَةٍ شَامِلَةٍ أَحْدَثَهَا الْغُرُورُ بِالنَّصْرِ الْقَدِيمِ عَلَى النَّصْرَانِيَّةِ الشَّمَالِيَّةِ، وَبِالنَّصْرِ الْحَدِيثِ وَفَتْحِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، وَبِتَدَفُّقِ جُيُوشِ دَارِ الْإِسْلَامِ فِي قَلْبِ أُورُبَّةَ، وَعَمِيَتْ دَارُ الْإِسْلَامِ -يَوْمَئِذٍ- عَنِ الْيَقَظَةِ الْهَائِلَةِ الشَّامِلَةِ الَّتِي أَحْدَثَتْهَا الْهَزَائِمُ الْقَدِيمَةُ وَالْحَدِيثَةُ فِي دِيَارِ النَّصْرَانِيَّةِ، وَالَّتِي قَامَتْ عَلَى الْإِصْرَارِ وَالْمُجَاهَدَةِ وَالْمُثَابَرَةِ، وَإِصْلَاحِ خَلَلِ الْحَيَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ الشَّمَالِيَّةِ، حَتَّى انْفَكَّتْ عَنْهَا أَغْلَالُ الْقُرُونِ الْوُسْطَى بَغْتَةً، وَانْبَعَثَتْ نَهْضَةُ الْعُصُورِ الْحَدِيثَةِ، فَارْتَفَعَتْ كِفَّةُ النَّصْرَانِيَّةِ الشَّمَالِيَّةِ، وَانْخَفَضَتْ كِفَّةُ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَبَدَأَتْ مَرْحَلَةٌ جَدِيدَةٌ لِلصِّرَاعِ بَيْنَ النَّصْرَانِيَّةِ الشَّمَالِيَّةِ وَدَارِ الْإِسْلَامِ.
وَيَوْمَئِذٍ تَحَدَّدَتْ أَهْدَافُ النَّصْرَانِيَّةِ الشَّمَالِيَّةِ، وَتَحَدَّدَتْ وَسَائِلُهَا، وَلَمْ يَغِبْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ قَطُّ أَنَّهُمْ فِي سَبِيلِ إِعْدَادِ أَنْفُسِهِمْ لِحَرْبٍ صَلِيبِيَّةٍ جَدِيدَةٍ، لَا بِقَعْقَةِ السِّلَاحِ، وَمَا هُوَ إِلَّا سِلَاحُ الْعَمَلِ وَالْعِلْمِ وَالتَّفَوُّقِ وَالْيَقَظَةِ وَالْفَهْمِ وَالتَّدْبِيرِ، ثُمَّ الصَّبْرُ وَالْمَكْرُ وَالدَّهَاءُ وَاللِّينُ وَالْمُدَاهَنَةُ وَتَرْكُ الِاسْتِثَارَةِ؛ اسْتِثَارَةِ عَالَمٍ ضَخْمٍ مَجْهُولٍ مَا فِي جَوْفِهِ، وَلَا قِبَلَ لَهُمْ بِتَدَفُّقِ أَمْوَاجِهِ الزَّاخِرَةِ، وَالَّتِي كَانَ التُّرْكُ الظَّافِرُونَ طَلَائِعَهَا الظَّاهِرَةَ لَهُمْ عِيَانًا فِي قَلْبِ أُورُبَّةَ.
وَبَدَأَ الزَّحْفُ الْبَطِيءُ الْمُتَتَابِعُ الْخَفِيُّ الْوَطْءَ يَخْتَرِقُ دَارَ الْإِسْلَامِ فِي تُرْكِيَّةَ وَالشَّامِ وَمِصْرَ وَالْجَزَائِرِ لَابِسًا كُلِّ زِيٍّ -زِيِّ التَّاجِرِ، وَزِيِّ السَّائِحِ، وَزِيِّ الْعَالِمِ الْبَاحِثِ، وَزِيِّ الْمُسْلِمِ طَالِبِ الْعِلْمِ-، وَعَلَى الْوُجُوهِ الْبِشْرُ وَالطَّلَاقَةُ وَالْبَرَاءَةُ، وَفِي الْأَلْسِنَةِ الْحَلَاوَةُ وَالْخِلَابَةُ وَالْمُمَاذَقَةُ!
وَعَلَى مَرِّ الْأَيَّامِ وَالشُّهُورِ وَالسَّنَوَاتِ تَوَغَّلُوا زُرَافَاتٍ وَوِحْدَانًا فِي قَلْبِ دَارِ الْإِسْلَامِ، يَأْخُذُونَ أَهْلَهَا مِنْ وَرَاءِ الْغَفْلَةِ، وَيَسْتَخْرِجُونَ كُلَّ مَخْبُوءٍ كَانَ عَنْهُمْ مِنْ أَحْوَالِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ، وَالْعُلَمَاءِ وَالْجُهَلَاءِ، وَالْحُلَمَاءِ وَالسُّفَهَاءِ، وَالْمُلُوكِ وَالسُّوقَةِ، وَالْجُيُوشِ وَالرَّعِيَّةِ، وَيَرُوزُونَ -أَيْ: يَخْتَبِرُونَ- الْقُوَّةَ وَالضَّعْفَ، وَالذَّكَاءَ وَالْغَفْلَةَ، وَتَدَسَّسُوا حَتَّى إِلَى أَخْبَارِ النِّسَاءِ فِي خُدُورِهِنَّ، وَلَمْ يَتْرُكُوا شَيْئًا إِلَّا خَبَرُوهُ وَعَجَمُوهُ، وَفَتَّشُوهُ وَسَبَرُوهُ، وَذَاقُوهُ وَاسْتَشَفُّوهُ، مُتَعَاوِنِينَ مُتَآزِرِينَ تَحْتَ رِعَايَةِ الْمُسْتَشْرِقِينَ حَمَلَةِ هُمُومِ النَّصْرَانِيَّةِ الشَّمَالِيَّةِ، وَتَحْتَ إِرْشَادِهِمْ وَتَوْجِيهِهِمْ.
مَضَتِ السُّنُونُ وَالِاسْتِشْرَاقُ فِي عَمَلٍ دَائِبٍ وَتَدْبِيرٍ مُتَمَادٍ وَسِيَاحَةٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يَكُفُّونَ عَنْ إِمْدَادِ مُلُوكِ النَّصْرَانِيَّةِ الشَّمَالِيَّةِ بِكُلِّ مَا عَلِمُوا مِنْ أَحْوَالِ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَمَا رَأَوْهُ عِيَانًا فِيهَا، وَمَا خَبَرُوهُ عَنِ الْغَفْلَةِ الْمُطْبِقَةِ عَلَى دَارِ الْإِسْلَامِ.
فَنَشَأَتْ بِفَضْلِهِمْ طَبَقَةُ السَّاسَةِ الَّذِينَ صَارُوا يُعِدُّونَ مَا اسْتَطَاعُوا مِنْ عُدَّةٍ لِرَدِّ غَائِلَةِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ قَهْرِهِ فِي عُقْرِ دَارِهِ، وَتَحْقِيقِ الْأَحْلَامِ وَالْأَشْوَاقِ الَّتِي كَانَتْ تُخَامِرُ قَلْبَ كُلِّ أُورُبِّيٍّ؛ أَنْ يَظْفَرَ بِكُنُوزِ الدُّنْيَا الْمَدْفُونَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَمَا وَرَاءَ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَهَذِهِ الطَّبَقَةُ مِنَ السَّاسَةِ هُمُ الَّذِينَ عُرِفُوا فِيمَا بَعْدُ بِاسْمِ (رِجَالِ الِاسْتِعْمَارِ).
* بَدْءُ تَحْرِيضِ فَرَنْسَا عَلَى اخْتِرَاقِ دَارِ الْإِسْلَامِ فِي مِصْرَ:
فَلَمَّا كَادَ الْقَرْنُ السَّابِعَ عَشَرَ الْمِيلَادِيُّ يَنْصَرِمُ؛ كَانَتْ تُرْكِيَةُ لَمْ تَفْقِدْ بَعْدُ هَيْبَتَهَا فِي قُلُوبِ سَاسَةِ النَّصْرَانِيَّةِ الشَّمَالِيَّةِ، وَلَمْ تَنْسَ سَاسَةُ فَرَنْسَا خَاصَّةً الْحَرْبَ الصَّلِيبِيَّةَ السَّابِعَةَ، الْمَعْرُوفَةَ بِاسْمِ (وَاقِعَةِ الْمَنْصُورَةِ)، وَالَّتِي انْتَهَتْ بِهَزِيمَةِ الْفَرَنْسِيِّينَ، وَالَّتِي هَلَكَ فِيهَا ثَلَاثُونَ أَلْفًا مِنْهُمْ، وَأُسِرَ فِيهَا (لُوِيسُ التَّاسِعُ) مَلِكُ فَرَنْسَا، وَطَائِفَةٌ مِنْ ضُبَّاطِهِ، وَجُعِلُوا فِي دَارِ ابْنِ لُقْمَانَ، وَذَلِكَ كَانَ فِي سَنَةِ (648 هـ/ 1250 م).
وَفِي أَوَاخِرِ الْقَرْنِ السَّابِعَ عَشَرَ الْمِيلَادِيِّ -أَيْ: بَعْدَ أَرْبَعَةِ قُرُونٍ- كَانَ أَوَّلَ مَنْ حَرَّضَ فَرَنْسَا عَلَى اخْتِرَاقِ دَارِ الْإِسْلَامِ فِي مِصْرَ هُوَ الْفَيْلَسُوفُ الرِّيَاضِيُّ الْأَلْمَانِيُّ (لِيبِنْتِز جُوتْفِرِيت فِلْهِلْم)، وَكَانَ قَدِ الْتَحَقَ بِالسِّلْكِ الدِّبْلُومَاسِيِّ، وَقَضَى أَرْبَعَةَ أَعْوَامٍ فِي بَارِيسَ مِنْ سَنَةِ (1672 إِلَى 1676م) فِي بَلَاطِ لُوِيسِ الرَّابِعَ عَشَرَ.
فَقَدَّمَ إِلَيْهِ فِي سَنَةِ (1672 م) تَقْرِيرًا يُحَرِّضُهُ فِيهِ عَلَى اخْتِرَاقِ دَارِ الْإِسْلَامِ فِي مِصْرَ، وَيَقُولُ لَهُ فِيهِ: ((إِنَّكُمْ تَضْمَنُونَ بِذَلِكَ بَسْطَ سُلْطَانِ فَرَنْسَا وَسِيَادَتَهَا فِي بِلَادِ الْمَشْرِقِ -أَيْ: فِي دَارِ الْإِسْلَامِ- إِلَى مَا شَاءَ اللهُ، وَتَكْسِبُونَ عَطْفَ الْمَسِيحِيَّةِ، وَتَسْتَحِقُّونَ ثَنَاءَهَا، وَهُنَالِكَ لَا تَخْسَرُونَ عَطْفَ أُورُبَّةَ، بَلْ تَجِدُونَهَا مُجْمِعَةً عَلَى الْإِعْجَابِ بِكُمْ)).
فَاعْجَبْ لِفَيْلَسُوفٍ رِيَاضِيٍّ أَلْمَانِيٍّ لَمْ تَشْغَلْهُ رِيَاضَتُهُ وَلَا فَلْسَفَتُهُ عَنْ تَحْرِيضِ فَرَنْسَا عَلَى غَزْوِ مِصْرَ؛ لِتَكْسِبَ عَطْفَ النَّصْرَانِيَّةِ الشَّمَالِيَّةِ، وَتَسْتَحِقَّ ثَنَاءَهَا، وَتَضْمَنَ بَسْطَ سُلْطَانِهَا عَلَى دَارِ الْإِسْلَامِ إِلَى مَا شَاءَ اللهُ، وَذَلِكَ قَبْلَ حَمْلَةِ نَابُلْيُون بِأَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ سَنَةٍ.
كَانَ تَقْرِيرُ (لِيبِنْتِز) الْفَيْلَسُوفِ الرِّيَاضِيِّ مَنْبَهَةً لِسَاسَةِ فَرَنْسَا عَلَى غَزْوِ دَارِ الْإِسْلَامِ فِي مِصْرَ، وَذَلِكَ بَعْدَ مُنْتَصَفِ الْقَرْنِ السَّابِعَ عَشَرَ الْمِيلَادِيِّ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ (لِيبِنْتِز) عَفْوَ الْخَاطِرِ، بَلْ كَانَ عَنْ مُتَابَعَةٍ وَاعِيَةٍ لِمُلَاحَظَاتِ الْمُسْتَشْرِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَجُوبُونَ دَارَ الْإِسْلَامِ، وَيُمِدُّونَ مُثَقَّفِي النَّصْرَانِيَّةِ الشَّمَالِيَّةِ بِمَا خَبَرُوهُ وَسَبَرُوهُ مِنْ دَخَائِلِ دَارِ الْإِسْلَامِ فِي مِصْرَ وَغَيْرِ مِصْرَ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَشْرِقِينَ كَانُوا هُمْ حَمَلَةَ هُمُومِ النَّصْرَانِيَّةِ الشَّمَالِيَّةِ وَالْمُجَاهِدِينَ الْمُتَبَتِّلِينَ فِي سَبِيلِهَا.
وَظَلَّ هَذَا التَّحْرِيضُ كَامِنًا فِي قَلْبِ سَاسَةِ فَرَنْسَا مُنْذُ مُنْتَصَفِ الْقَرْنِ السَّابِعَ عَشَرَ وَهُوَ يَنْمُو عَلَى الْأَيَّامِ، وَيَنْمُو مَعَهُ الْإِعْدَادُ لِغَزْوِ دَارِ الْإِسْلَامِ فِي مِصْرَ.
* يَقَظَةُ دَارِ الْإِسْلَامِ وَسَعْيُ الْغَرْبِ لِوَأْدِهَا:
عَصْرُ يَقَظَةِ دَارِ الْإِسْلَامِ وَنَهْضَتِهَا الصَّحِيحَةِ، الَّتِي تَوَلَّى أَمْرَهَا الْخَمْسَةُ الْكِبَارُ مِنْ رِجَالِنَا؛ وَهُمُ الْبَغْدَادِيُّ فِي مِصْرَ، ثُمَّ الْجَبْرَتِيُّ الْكَبِيرُ فِي مِصْرَ، وَابْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَالْمُرْتَضَى الزَّبِيدِيُّ فِي مِصْرَ، وَالشَّوْكَانِيُّ فِي الْيَمَنِ.
هَذِهِ النَّهْضَةُ وَهَذِهِ الْيَقَظَةُ لَا يَعْرِفُهَا عَلَى حَقِيقَتِهَا، وَلَا يَعْرِفُ مَغَبَّتَهَا غَيْرُ الِاسْتِشْرَاقِ، فَيَوْمَئِذٍ هَبَّ الْمُسْتَشْرِقُونَ حَمَلَةُ هُمُومِ النَّصْرَانِيَّةِ الشَّمَالِيَّةِ.. هَبُّوا هَبَّةَ الْفَزَعِ، وَتَسَارَعُوا يَنْقُلُونَ كُلَّ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ، وَوَضَعُوهُ بَيِّنًا جَلِيًّا تَحْتَ أَبْصَارِ مُلُوكِ النَّصْرَانِيَّةِ الشَّمَالِيَّةِ وَأُمَرَائِهَا وَرُؤَسَائِهَا وَقَادَتِهَا وَسَاسَتِهَا وَعُلَمَائِهَا وَرُهْبَانِهَا، وَبَصَّرُوهُمْ بِالْعَوَاقِبِ الْوَخِيمَةِ الْمَخُوفَةِ مِنْ هَذِهِ الْيَقَظَةِ الْوَلِيدَةِ، وَبَيَّنُوا لَهُمُ الْخَطَرَ الدَّاهِمَ الَّذِي جَاءَ يَتَهَدَّدُهُمْ إِذَا مَا تَمَّ تَمَامُ هَذِهِ الْيَقَظَةِ وَاشْتَدَّ عُودُهَا، وَاسْتَقَامَتْ خُطَوَاتُهَا عَلَى الطَّرِيقَ اللَّاحِبِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلنَّصْرَانِيَّةِ الشَّمَالِيَّةِ خِيَارٌ سِوَى الْعَمَلِ السَّرِيعِ الْمُحْكَمِ، وَاهْتِبَالِ الْغَفْلَةِ الْمُحِيطَةِ بِهَذِهِ الْيَقَظَةِ الْوَلِيدَةِ، وَمُعَاجَلَتِهَا فِي مَهْدِهَا قَبْلَ أَنْ يَتِمَّ تَمَامُهَا وَيَسْتَفْحِلَ أَمْرُهَا، وَتُصْبِحَ قُوَّةً قَادِرَةً عَلَى الصِّرَاعِ وَالْحَرَكَةِ وَالِانْتِشَارِ، فَإِنَّهُ إِنْ تَمَّ ذَلِكَ فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ تَعُودَ الْحَرْبُ بَيْنَ الشَّمَالِ وَالْجَنُوبِ جَذَعَةً.
وَعِنْدَئِذٍ لَا يَضْمَنُ أَحَدٌ مَغَبَّةَ الصِّرَاعِ الْمُشْتَعِلِ بَيْنَ سِلَاحَيْنِ مُتَكَافِئَيْنِ وَثَقَافَتَيْنِ مُتَكَامِلَتَيْنِ.. لَا يَضْمَنُ أَحَدٌ لِأَيِّ الْفِئَتَيْنِ تَكُونُ الدُّولَةُ وَالْغَلَبَةُ وَالسِّيَادَةُ، فَزِعَ الِاسْتِشْرَاقُ لِعِلْمِهِ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ كَانَ يَوْمَئِذٍ خُطْوَةً وَاحِدَةً، تُسْتَدْرَكُ بِالْيَقَظَةِ وَبِالْهِمَّةِ وَالصَّبْرِ وَالدَّأَبِ لَا أَكْثَرَ.
وَكَمَا تَرَى عِيَانًا فَإِنَّ الِاسْتِشْرَاقَ هُوَ عَيْنُ الِاسْتِعْمَارِ الَّتِي بِهَا يُبْصِرُ وَيُحَدِّقُ، وَيَدُهُ الَّتِي بِهَا يُحِسُّ وَيَبْطِشُ، وَرِجْلُهُ الَّتِي بِهَا يَمْشِي وَيَتَوَغَّلُ، وَعَقْلُهُ الَّذِي بِهِ يُفَكِّرُ وَيَسْتَبِينُ، وَلَوْلَاهُ لَظَلَّ فِي عَمْيَائِهِ يَتَخَبَّطُ.
إِنَّ نَذِيرَ الِاسْتِشْرَاقِ لِلنَّصْرَانِيَّةِ الشَّمَالِيَّةِ بِالْخَطَرِ الْمُدْلَهِمِّ الَّذِي تَهَدَّدُهُمْ بِهِ يَقَظَةُ دَارِ الْإِسْلَامِ كَانَ نَذِيرًا مُرَوِّعًا حَاسِمًا، أَمَّا انْجِلْتِرَا فَأَسْرَعَ مُسْتَشْرِقُوهَا إِسْرَاعًا حَثِيثًا إِلَى سَوَاحِلِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ الشَّرْقِيَّةِ حَيْثُ قَامَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، وَبِالدَّهَاءِ وَالْمَكْرِ وَالدَّسَائِسِ جَاءَتْ فِي زِيِّ النَّاصِرِ وَالْمُعِينِ لِتَتَدَسَّسَ إِلَى يَقَظَةِ ابْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ لِتَتَّخِذَ عِنْدَهَا يَدًا، وَبِهَا تُسَيْطِرُ عَلَيْهَا وَتَحْتَوِيهَا، وَمِنْ وَرَاءِ سِتَارٍ كَانَتْ تُؤَلِّبُ تُرْكِيَةَ وَتُؤَلِّبُ جَارَاتِهَا وَتُخَوِّفُهُمْ؛ لِتُطَوِّقَ الْيَقَظَةَ تَطْوِيقًا يَحُولُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الِانْتِشَارِ.
أَمَّا فَرَنْسَا الَّتِي طَرَدَتْهَا انْجِلْتِرَا مِنَ الْهِنْدَ كُلِّهَا ((سنة 1761م/ 1175هـ))؛ فَآبَتْ إِلَى دِيَارِهَا تَلْعَقُ جِرَاحَهَا، وَجَعَلَتْ تُعِدُّ الْعُدَّةَ وَتُفَكِّرُ فِي اخْتِرَاقِ دَارِ الْإِسْلَامِ فِي مِصْرَ؛ لِوَأْدِ الْيَقَظَةِ الْمَخُوفَةِ الْعَوَاقِبِ الَّتِي بَعَثَهَا الْبَغْدَادِيُّ وَالزَّبِيدِيُّ وَالْجَبَرْتِيُّ الْكَبِيرُ فِي مِصْرَ؛ فَهِيَ يَقَظَةٌ يُخْشَى أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى يَقَظَةِ دَارِ الْإِسْلَامِ كُلِّهَا، بِمَا فِيهَا الْيَقَظَةُ الْمُتَفَجِّرَةُ الْمُتَحَرِّكَةُ الْجَدِيدَةُ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، فَإِذَا تَمَّ انْدِمَاجُ الْيَقَظَتَيْنِ فَلَا يَعْلَمُ إِلَّا اللهُ كَيْفَ يَكُونُ الْمَصِيرُ.
الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ جُذُورَ قَضِيَّتِنَا كَامِنَةٌ فِي نَذِيرِ الِاسْتِشْرَاقِ لِلنَّصْرَانِيَّةِ الشَّمَالِيَّةِ، وَالَّذِي أَدَّى إِلَى انْقِضَاضِ الْفَتَى الصَّلِيبِيِّ الْمُحْتَرِقِ الْمُبِيرِ (نَابُلْيُون) بَغْتَةً عَلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فِي مِصْرَ؛ لِوَأْدِ الْيَقَظَةِ وَالنَّهْضَةِ، وَمُعَاجَلَتِهَا فِي مَهْدِهَا قَبْلَ أَنْ يَشْتَدَّ عُودُهَا وَتَسْتَفْحِلَ، فَيَسْفَحُ الدِّمَاءَ سَفْحًا لَمْ يَفْعَلْ مِثْلَهُ (جَنْكِيز خَان)، فَيُضَحِّي عِنْدَ مَشْرِقِ كُلِّ شَمْسٍ بِخَمْسَةٍ أَوْ سِتَّةٍ وَيُطَافُ بِرُؤُوسِهِمْ فِي شَوَارِعِ الْقَاهِرَةِ، وَيَأْمُرُ قُوَّادَهُ أَنْ يَتَشَبَّهُوا بِهِ.
وَيَهْدِيهِ الِاسْتِشْرَاقُ أَنْ يَخْتَارَهُمْ مِنَ الطَّلَبَةِ النَّابِهِينَ مِنْ وَرَثَةِ الزَّبِيدِيِّ وَالْجَبَرْتِيِّ الْكَبِيرِ؛ لِيَسْتَأْصِلَ بِذَلِكَ الْيَقَظَةَ مِنْ جُذُورِهَا، وَيُشَتِّتَ بِالْإِرْهَابِ مِنْ أَفْلَتَ مِنْ بَرَاثِنِهِ الْمُلَوَّثَةِ الدَّامِيَةِ.
وَلِكَيْ يَضْمَنَ هَذَا الْجَزَّارُ بَعْدَ ذَلِكَ أَلَّا يَشِبَّ الصِّرَاعُ الْمُشْتَعِلُ بَيْنَ سِلَاحَيْنِ مُتَكَافِئَيْنِ وَثَقَافَتَيْنِ مُكْتَمِلَتَيْن وَضَعَ هَذَا الْفَتَى الْأَهْوَجُ الْمُحْتَرِقُ مَشْرُوعَهُ الَّذِي بَيَّنَهُ لِخَلِيفَتِهِ (كْليبَر)؛ أَنْ يَجْمَعَ 500 أَوْ 600 مِنَ الْمَمَالِيكِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ عَدَدًا كَافِيًا مِنَ الْمَمَالِيكِ فَلْيَسْتَعِضْ عَنْهُمْ بِرَهَائِنَ مِنَ الْعَرَبِ وَمَشَايِخِ الْبُلْدَانِ وَيُسَفِّرُهُمْ إِلَى فَرَنْسَا، فَيُحْجَزُوا فِيهَا مُدَّةَ سَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ؛ لِيُشَاهِدُوا فِي أَثْنَائِهَا عَظَمَةَ الْأُمَّةِ الْفَرَنْسِيَّةِ، وَيَعْتَادُوا عَلَى لُغَتِنَا وَتَقَالِيدِنَا، فَإِذَا عَادُوا إِلَى مِصْرَ كَانَ لَنَا مِنْهُمْ حِزْبٌ يُضَمُّ إِلَيْهِ غَيْرَهُمْ، وَوَعَدَهُ (كليبَر) أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِ جُوقَةً تَمْثِيلِيَّةً؛ لِأَنَّهَا ضَرُورِيَّةٌ لِلْبَدْءِ فِي تَغْيِيرِ تَقَالِيدِ الْبِلَادِ.
وَأَرَادَ بِذَلِكَ أَنْ يَضْمَنَ تَمْزِيقَ الثَّقَافَةِ الْمُتَكَامِلَةِ الَّتِي هِيَ ثَقَافَتُنَا، وَأَنْ يَقْتَلِعَهَا مِنْ جُذُورِهَا، وَيَحْفِرُ لَهَا قَبْرًا تَتَأَلَّقُ أَنْوَارُهُ الْفَرَنْسِيَّةُ السَّاطِعَةُ، وَيَدْفِنُ فِيهِ الْيَقَظَةَ وَالنَّهْضَةَ إِلَى غَيْرِ رَجْعَةٍ!
هَذِهِ هِيَ جُذُورُ الْقَضِيَّةِ الَّتِي غَفَلَ عَنْهَا النَّاسُ يَوْمَئِذٍ!
* تَوَلِّي رَجُلٍ ظَالِمٍ جَاهِلٍ حُكْمَ مِصْرَ بَعْدَ الثَّوْرَةِ الْفَرَنْسِيَّةِ:
مَضَتْ أَرْبَعُ سَنَوَاتٍ بَعْدَ رَحِيلِ الْفَرْنِسيس وَاضْطَرَّبَتْ أُمُورُ إِدَارَةِ الْبِلَادِ، اسْتَقَرَّ رَأْيُ الْمَشَايِخِ وَالْقَادَةِ عَلَى إِسْنَادِ الْأَمْرِ إِلَى رَجُلٍ كَانَتْ تُرْكِيَةُ بَعَثَتْهُ مَعَ ثَلَاثِ مِائَةٍ مِنَ الْجُنْدِ فِي أَوَاخِرِ أَيَّامِ الْحَمْلَةِ الْفَرَنْسِيَّةِ وَكَانَ اسْمُهُ (مُحَمَّد عَلِي).
مِنْ هَاهُنَا إِلَى مَا يَأْتِي بَعْدُ صَفْحَةٌ حَزِينَةٌ فِي تَارِيخِ مِصْرَ وَفِي تَارِيخِ الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ كُلِّهِ، هَذَا مَا يُقَالُ لَهُ (بِدَايَةُ الدَّوْلَةِ الْحَدِيثَةِ فِي مِصْرَ)، هَذَا بِدَايَةُ الْفَسَادِ الَّذِي وَقَعَ فِي مِصْرَ، وَانْتَقَلَ مِنْ مِصْرَ إِلَى جَمِيعِ الدُّوَلِ الْإِسْلَامِيَّةِ.
كَانَ (مُحَمَّد عَلِي) هَذَا الَّذِي أُسْنِدَ إِلَيْهِ أَمْرُ وِلَايَةِ مِصْرَ فِي سَنَةِ (1805م/ 1220هـ) فِي الْخَامِسَةِ وَالثَّلَاثِينَ مِنْ عُمُرِهِ، وَكَانَ جَاهِلًا لَمْ يَتَعَلَّمْ قَطُّ شَيْئًا مِنَ الْعُلُومِ، وَكَانَ لَا يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ، وَقَضَى أَكْثَرَ عُمُرِهِ تَاجِرًا يُتَاجِرُ فِي الدُّخَانِ، ثُمَّ انْضَمَّ إِلَى الْجُنْدِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ ذَكِيًّا دَاهِيَةً عَرِيقَ الْمَكْرِ، يَلْبَسُ لِكُلِّ حَالَةٍ لَبُوسَهَا، وَكَانَ مُغَامِرًا لَا يَتَوَرَّعُ عَنْ كَذِبٍ وَلَا نِفَاقٍ وَلَا غَدْرٍ.
* دَوْرُ الِاسْتِشْرَاقِ فِي الْقَضَاءِ عَلَى يَقَظَتَيْ مِصْرَ وَجَزِيرَةِ الْعَرَبِ:
لَمْ يَكُنِ الِاسْتِشْرَاقُ وَخَاصَّةً الِاسْتِشْرَاقُ الْفَرَنْسِيُّ غَافِلًا عَنْ هَذَا الْمُغَامِرِ الْجَدِيدِ وَعَنْ خَلَائِقِهِ، بَلْ كَانَ مُرَاقِبًا لَهُ كُلَّ الْمُرَاقَبَةِ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ جَاءَ فِيهِ إِلَى الْقَاهِرَةِ، وَمُرَاقِبًا -أَيْضًا- لِكُلِّ مَا كَانَ يَجْرِي فِي مِصْرَ مُنْذُ رَحِيلِ الْحَمْلَةِ الْفَرَنْسِيَّةِ، فَلَمَّا تَمَّتْ وِلَايَةُ (مُحَمَّد عَلِي) عَلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ؛ أَحَاطَتْ بِهِ قَنَاصِلُ النَّصْرَانِيَّةِ الشَّمَالِيَّةِ إِحَاطَةً كَامِلَةً.
وَكَانَتِ انْجِلْتِرَا وَمُسْتَشْرِقُوهَا مَا فَتِئَتْ تُخَوِّفُ الدَّوْلَةَ التُّرْكِيَّةَ وَتُؤَلِّبُهَا عَلَى مَهْدِ الْيَقَظَةِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَالَّتِي قَامَ بِهَا وَأَسَّسَهَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ -رَحِمَهُ اللهُ-، وَاسْتَجَابَتْ دَارُ الْخِلَافَةِ بِغَفْلَتِهَا إِلَى هَذَا التَّأْلِيبِ، حَتَّى جَرَّدَتْ حَمْلَاتٍ مُتَتَابِعَةً لِقَمْعِ الْيَقَظَةِ الْوَهَّابِيَّةِ، وَآبَتْ فِي جَمِيعِهَا بِالْإِخْفَاقِ، ثُمَّ مُنْذُ وُلِّيَ (مُحَمَّدُ عَلِي) جَعَلَتْ تُرْكِيَةُ تَدْعُوهُ إِلَى تَجْرِيدِ جُيُوشِهِ لِقِتَالِ الْوَهَّابِيِّينَ، وَتَتَابَعَ هَذَا الطَّلَبُ مِنْ (سَنَةِ 1807م إِلَى سَنَةِ 1810م/ 1222 - 1225هـ)؛ فَلَمْ يَسْتَجِبْ مُحَمَّدُ عَلِي لِنِدَاءِ تُرْكِيَةَ، وَلَكِنَّ الِاسْتِشْرَاقَ بِقَنَاصِلِهِ زَيَّنَ أَخِيرًا لِـ(مُحَمَّد عَلِي) أَنْ يَسْتَجِيبَ لِيُحَقِّقَ مَآرِبَهُ فِي وَأْدِ الْيَقَظَةِ الَّتِي كَادَتْ تَعُمُّ جَزِيرَةَ الْعَرَبِ، وَأَمَدُّوهُ بِالسِّلَاحِ الَّذِي يُعِينُهُ عَلَى خَوْضِ الْحَرْبِ، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ (1226هـ /1811م) -أَيْ: بَعْدَ وِلَايَتِهِ مِصْرَ بِسِتِّ سَنَوَاتٍ-، وَسَارَتِ الْجُيُوشُ قَاصِدَةً جَزِيرَةَ الْعَرَبِ.
وَدَارَتِ الْحَرْبُ الَّتِي لَمْ تَنْتَهِ إِلَّا بَعْدَ ثَمَانِ سَنَوَاتٍ فِي سَنَةِ (1235هـ /1819م)، وَفَقَدَتِ الْجُيُوشُ الْمِصْرِيَّةُ آلَافًا مِنْ أَبْنَائِهَا، وَلَقِيَتْ هَزَائِمَ كَادَتْ تُودِي بِهَا، وَأَخِيرًا تَمَّ النَّصْرُ لِـ(مُحَمَّد عَلِي) بَعْدَ أَنِ ارْتَكَبَ مِنَ الْفَظَائِعِ مَا لَا يَسْتَحِلُّهُ مُسْلِمٌ، وَاسْتَبَاحَ الدِّيَارَ وَالْأَمْوَالَ وَالنِّسَاءَ، وَهَدَمَ الْمُدُنَ، فَكَانَ هُوَ وَابْنُهُ إِبْرَاهِيمُ وَسَائِرُ أَوْلَادِهِ طُغَاةً مِنْ شَرِّ الطُّغَاةِ.
وَكَانَتْ حَرْبًا طَاحِنَةً لَا مَعْنَى لَهَا، وَلَا يَنْتَفِعُ بِهَا إِلَّا مُؤَرِّثُوهَا مِنْ دُهَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ الشَّمَالِيَّةِ!
وَكَذَلِكَ أَدْرَكَ الِاسْتِشْرَاقُ وَأَدْرَكَتِ النَّصْرَانِيَّةُ الشَّمَالِيَّةُ مَأْرِبًا مِنْ أَكْبَرِ مَآرِبِهَا فِي وَأْدِ الْيَقَظَةِ الَّتِي كَانَتْ تُهَدِّدُهُمْ بِهَا دَارُ الْإِسْلَامِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَالَّتِي كَانَتْ تَخْشَى النَّصْرَانِيَّةُ الشَّمَالِيَّةُ أَنْ تَنْضَمَّ هَذِهِ الْيَقَظَةُ إِلَى الْيَقَظَةِ الْكَائِنَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فِي مِصْرَ، فَيَوْمَئِذٍ لَا يَعْلَمُ غَيْرُ اللهِ مَا تَكُونُ الْعَوَاقِبُ.
وَتَمُّ كُلُّ ذَلِكَ عَلَى يَدِ مُسْلِمِينَ جَهَلَةٍ يُوَجِّهُهُمُ الِاسْتِشْرَاقُ وَالنَّصْرَانِيَّةُ الشَّمَالِيَّةُ مِنْ حَيْثُ لَا يُبْصِرُونَ وَلَا يَعْلَمُونَ مَاذَا يُرَادُ بِهِمْ وَلَا إِلَى أَيِّ هُوَّةٍ مِنَ الْهَلَكَةِ يُسَاقُونَ -وَالْأَمْرُ للهِ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ-.
* انْطِلَاقُ الْبَعَثَاتِ إِلَى أُورُبَّةَ لِطَمْسِ الْهُوِيَّةِ الْعَرَبِيَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ:
نَشَأَتْ فِكْرَةُ الْبَعَثَاتِ إِلَى الدِّيَارِ الْأُورُبِّيَّةِ، وَالْحَقِيقَةُ أَنَّ فِكْرَةَ الْبَعَثَاتِ الْعِلْمِيَّةِ لَمْ تَكُنْ نَابِعَةً مِنْ عَقْلِ هَذَا الْجُنْدِيِّ الْجَاهِلِ (مُحَمَّد عَلِي)، بَلْ كَانَتْ نَابِعَةً مِنْ عُقُولٍ تُخَطِّطُ وَتُدَبِّرُ لِأَهْدَافٍ بَعِيدَةِ الْمَدَى، اسْتَغَلَّتْ مَا فِي نَفْسِهِ مِنَ الْمَطَامِعِ وَمِنْ حُبِّهِ لِلسَّيْطَرَةِ، فَأَحَاطَتْ بِهِ الْقَنَاصِلُ وَهِيَ تُرَاقِبُ أَهْوَاءَهُ وَمَطَامِعَهُ، فَجَعَلَتْ تُغَذِّيهَا وَتَزِيدُهَا تَوَهُّجًا؛ لِتَجْعَلَهُ قُوَّةً فِي قَلْبِ دَارِ الْإِسْلَامِ تُنَازِعُ دَارَ الْخِلَافَةِ فِي تُرْكِيَةَ سُلْطَانَهَا، وَتَنْشَقُّ عَنْهَا انْشِقَاقًا يَزِيدُ فِي تَفَكُّكِ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَيُسْرِعُ فِي انْهِيَارِ دَارِ الْخِلَافَةِ وَفِي تَمْزِيقِهَا وَضَعْفِهَا وَارْتِخَاءِ قَبْضَتِهَا عَلَى أَطْرَافِ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَيُمَهِّدُ لِلْمَسِيحِيَّةِ الشَّمَالِيَّةِ السَّبِيلَ إِلَى تَخَطُّفِ أَقَالِيمِ دَارِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ أَنْ تَصِيرَ أَشْلَاءً مُمَزَقَّةً عَاجِزَةً عَنِ الدِّفَاعِ عَنْ نَفْسِهَا، عَلَى أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْقُوَّةُ الْجَدِيدَةُ -قُوَّةُ مُحَمَّد عَلِي- فِي قَبْضَةِ الْمَسِيحِيَّةِ الشَّمَالِيَّةِ، تُصَرِّفُهَا كَيْفَ تَشَاءُ، وَتَقْضِي عَلَيْهَا قَضَاءً مُدَمِّرًا يَوْمَ تَحْتَاجُ إِلَى هَذَا التَّدْمِيرِ.
وَلَمَّا فَرَغَ (مُحَمَّد عَلِي) مِنْ تَحْطِيمِ الْيَقَظَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ سَنَةَ (1819م)، وَعَلَا بِذَلِكَ شَأْنُهُ، وَأَرْسَى قَوَاعِدَ مُلْكِهِ فِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ؛ كَانَ فِي فَرَنْسَا رَجُلٌ كَبِيرٌ مِمَّنْ شَارَكُوا فِي الْحَمْلَةِ الْفَرَنْسِيَّةِ، وَكَانَ مُهَنْدِسًا بَارِعًا، وَكَانَتْ لَهُ مَنْزِلَةً كَبِيرَةً عِنْدَ (نَابُلْيُون) وَالْمُسْتَشْرِقِ (فَانْتُور) خَلِيلِ نَابُلْيُون وَنَجِيِّهِ، وَانْتُخِبَ بَعْدَ عَوْدَتِهِ إِلَى فَرَنْسَا عُضْوًا بِالْمَجْمَعِ الْعِلْمِيِّ الْفَرَنْسِيِّ، وَكَانَ شَدِيدَ الِاهْتِمَامِ بِكُلِّ مَا يَخُصُّ مِصْرَ، هُوَ الْمِسْيُو (جُومَار)، فَلَمَّا رَأَى نَجَاحَ الْقَنَاصِلِ فِي إِغْرَاءِ (مُحَمَّد عَلِي) بِإِرْسَالِ الْبَعَثَاتِ إِلَى أُورُبَّةَ مَا بَيْنَ (سَنَةِ 1811 إِلَى سَنَةِ 1819م)؛ أَسْرَعَ (جُومَار) يَحُثُّ الِاسْتِشْرَاقَ الْفَرَنْسِيَّ وَقَنَاصِلَهُ فِي مِصْرَ عَلَى إِغْرَاءِ (مُحَمَّد عَلِي) بِإِرْسَالِ بَعَثَاتٍ كَبِيرَةٍ إِلَى فَرَنْسَا؛ لِيَجْعَلَهَا تَحْتَ إِشْرَافِهِ.
لَقَدْ سَنَحَتْ لِـ(جُومَار) أَعْظَمُ فُرْصَةٍ بِاسْتِجَابَةِ (مُحَمَّد عَلِي) لِإِرْسَالِ بَعَثَاتٍ إِلَى أُورُبَّةَ، فَبَنَى مَشْرُوعَهُ لَا عَلَى كِبَارِ السِّنِّ مِنَ الْمَمَالِيكِ وَمَشَايِخِ الْبُلْدَانِ، بَلْ عَلَى شَبَابٍ غَضٍّ يَبْقُونَ فِي فَرَنْسَا سَنَوَاتٍ تَطُولُ أَوْ تَقْصُرُ، يَكُونُونَ أَشَدَّ اسْتِجَابَةً عَلَى اعْتِيَادِ لُغَةِ فَرَنْسَا وَتَقَالِيدِهَا، فَإِذَا عَادُوا إِلَى مِصْرَ كَانُوا حِزْبًا لِفَرَنْسَا، وَعَلَى مَرِّ الْأَيَّامِ يَكْبُرُونَ وَيَتَوَلُّونَ الْمَنَاصِبَ صَغِيرَهَا وَكَبِيرَهَا، وَيَكُونُ أَثَرُهُمْ أَشَدَّ تَأْثِيرًا فِي بِنَاءِ جَمَاهِيرَ كَثِيرَةٍ تَبُثُّ الْأَفْكَارَ الَّتِي يَتَلَقَّوْنَهَا فِي صَمِيمِ شَعْبِ دَارِ الْإِسْلَامِ فِي مِصْرَ.
نَجَحَ (جُومَار) وَنَجَحَ الِاسْتِشْرَاقُ وَقَنَاصِلُهُ فِي إِغْرَاءِ (مُحَمَّد عَلِي) بِإِرْسَالِ بَعْثَةٍ كَبِيرَةٍ مِنْ شَبَابِ مِصْرَ إِلَى فَرَنْسَا فِي يُوْلِية سَنَةَ (1826م/ 1242هـ )، وَتَتَابَعَتْ هَذِهِ الْبَعَثَاتُ إِلَى سَنَةِ (1847م/ سنة 1264هـ ).
هَذِهِ بِدَايَةُ الْفَسَادِ حَقًّا!
وَكَانَتْ كُلُّهَا تَحْتَ إِشْرَافِ (جُومَار) يَصْنَعُهَا عَلَى عَيْنِهِ، كَانُوا شُبَّانًا صِغَارًا لَيْسَ فِي عُقُولِهِمْ وَلَا قُلُوبِهِمْ إِلَّا الْقَلِيلُ الَّذِي لَا يُغْنِي مِنَ الثَّقَافَةِ الْمُتَكَامِلَةِ الَّتِي عَاشَتْ فِيهَا أُمَّتُهُمْ قُرُونًا مُتَطَاوِلَةً.
وَوَضَعَهُمْ (جُومَار) تَحْتَ أَيْدِي الْمُسْتَشْرِقِينَ يُوَجِّهُونَهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي يُرِيدُونَهَا، وَيُعْطُونَهُمُ الْقَدْرَ الْيَسِيرَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ بَيْنَهُمْ مِنَ الْعُلُومِ الَّتِي يَدْرُسُونَهَا، ثُمَّ يَرُدُّونَهُمْ بَعْدَ سَنَوَاتٍ قَلَائِلَ إِلَى مِصْرَ وَإِلَى دَوْلَةِ (مُحَمَّد عَلِي) الَّتِي أَسَّسَهَا، وَهُوَ وَدَوْلَتُهُ فِي قَبْضَةِ الْقَنَاصِلِ وَالِاسْتِشْرَاقِ وَمَشُورَتِهِمْ لَا يَسْتَطِيعُ فَكَاكًا مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ كَانَ جَاهِلًا.
كَانَتْ أَوَّلُ بَعْثَةٍ فِي سَنَةِ (1826م/ 1241هـ ) فِيهَا (44) تِلْمِيذًا أَدْخَلَهُمْ (مِسْيُو جُومَار) الْمَدَارِسَ الْفَرَنْسِيَّةَ؛ لِيَتَلَقَّوُا اللُّغَةَ وَالْعُلُومَ وَالْفُنُونَ، ثُمَّ أُعِيدُوا بَعْدَ سَنَوَاتٍ قَلَائِلَ إِلَى بِلَادِهِمْ يَتَوَلَّوْنَ الْمَنَاصِبَ وَالْأَعْمَالَ، وَهَذَا شَيْءٌ غَرِيبٌ جِدًّا أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ الشُّبَّانُ قَدْ حَازُوا فِي سَنَوَاتٍ قَلَائِلَ مِنَ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ الَّتِي شَابَتْ نَوَاصِي الْعُلَمَاءِ فِي سَبِيلِهَا مَا يُؤَهِّلُهُمْ لِلتَّدْرِيسِ وَالصِّنَاعَاتِ وَالْأَعْمَالِ وَجَلَائِلِ الْأُمُورِ، شَيْءٌ غَرِيبٌ جِدًّا، وَهُمْ قَبْلَ سَفَرِهِمْ لَمْ يُحَصِّلُوا مِنْ هَذِهِ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ الْجَدِيدَةِ شَيْئًا يُذْكَرُ، أَلَيْسَ هَذِهِ الدَّعْوَى غَرِيبَةً كُلَّ الْغَرَابَةِ!
وَكَانَ فِي هَذِهِ الْبِعْثَةِ الْأُولَى رَجُلٌ قَدْ خَرَجَ مَعَ الْبِعْثَةِ إِمَامًا لَهَا لِيُرَاقِبَ أَفْرَادَ الْبِعْثَةِ وَيُصَلِّي بِهِمُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ هُوَ (رِفَاعَةُ رَافِع الطَّهْطَاوِيُّ) وُلِدَ بِمَدِينَةِ طَهْطَا بِمُدِيرِيَّةِ جِرْجًا سَنَةَ (1216هـ /1801م) فِي أُسْرَةٍ رَقِيقَةِ الْحَالِ، فَأَتَمَّ حِفْظَ الْقُرْآنَ، وَقَرَأَ شَيْئًا مِنْ مُتُونِ الْعِلْمِ الْمُتَدَاوَلَةِ عَلَى بَعْضِ الْعُلَمَاءِ فِي بَلَدِِه، ثُمَّ تُوفِّيَ وَالِدُهُ -رَحِمَهُ اللهُ-، فَرَحَلَ إِلَى الْقَاهِرَةِ وَهُوَ فِي السَّادِسَةَ عَشْرَةَ مِنْ عُمُرِهِ، وَانْتَظَمَ فِي سِلْكِ طَلَبَةِ الْأَزْهَرِ يَتَلَقَّى الْعِلْمَ عَنْ شُيُوخِهِ ثَمَانِي سَنَوَاتٍ.
وَفِي سَنَةِ (1240هـ/ 1824م) عُيِّنَ رِفَاعَةُ وَاعِظًا وَإِمَامًا فِي أَحَدِ آلِيَّاتِ جَيْشِ مُحَمَّد عَلِي، فَهَذَا إِذَنْ شَابٌّ فِي الثَّالِثَةِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ عُمُرِهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَدْ بَلَغَ مَبْلَغًا لَهُ شَأْنٌ يُذْكَرُ فِي الثَّقَافَةِ الْمُتَكَامِلَةِ الَّتِي عَاشَتْ فِيهَا أُمَّتُهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَرْنًا فِي حَضَارَةٍ مُتَكَامِلَةٍ مُتَرَاحِبَةٍ مُتَرَامِيَةِ الْأَطْرَافِ، مُتَبَايِنَةِ الدَّرَجَاتِ، مُتَنَوِّعَةِ الْعُلُومِ، قَدْ بَلَغَتْ فِي الْعَظَمَةِ وَالْجَلَالَةِ مَبْلَغًا لَمْ تُدْرِكْهُ قَبْلَهَا أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ.
ثُمَّ يُخْتَارُ هَذَا الشَّابُّ فِي سَنَةِ (1241هـ/ 1826م) لِيَصْحَبَ بَعْثَةً إِلَى فَرَنْسَا يَكُونُ إِمَامًا لِأَعْضَائِهَا!
كَانَ ذَكِيًّا نَعَمْ، كَانَ مُحِبًّا لِلْعِلْمِ وَالْأَدَبِ -أَدَبِ عَصْرِهِ وَشِعْرِ عَصْرِهِ- نَعَمْ، كَانَ قَوِيَّ الْعَزِيمَةِ نَعَمْ، كَانَ نَابِهًا بَيْنَ أَقْرَانِهِ نَعَمْ، وَلَكِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ فِي الْخَامِسَةَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ عُمُرِهِ غَرِيرٌ بَيِّنُ الْغَرَارَةِ طَرِيُّ الْعُودِ، قَدْ جَاءَ مِنْ أَقْصَى الصَّعِيدِ، وَمِنْ ظُلُمَاتِهِ وَبُؤْسِهِ وَفَقْرِهِ وَخَصَاصَتِهِ وَهُوَ فِي السَّادِسَةَ عَشْرَةَ مِنْ عُمُرِهِ، ثُمَّ أَقَامَ تِسْعَ سَنَوَاتٍ فِي الْقَاهِرَةِ فِي حَوَارِي الْأَزْهَرِ الْمُهَدَّمَةِ الْمُخَرَّبَةِ بُيُوتُهَا بِفِعْلِ الْفَرَنْسِيسِ الضَّيِّقَةِ طُرُقَاتُهَا، الْمُظْلِمَةِ أَزِقَّتُهَا، ثُمَّ يَرْكَبُ سَفِينَةً فَرَنْسِيَّةً تَتَلَأْلَأُ أَنْوَارُهَا، تَرْمِي بِهِ إِلَى قَلْبِ بَارِيس فِي الْقَرْنِ التَّاسِعَ عَشَرَ بِحَدَائِقِهَا وَمَيَادِينِهَا وَأَنْوَارِهَا وَمَبَاهِجِهَا وَمَا لَا رَأَتْهُ مِنْ قَبْلُ عَيْنٌ كَعَيْنِهِ، وَمَا لَا خَطَرَ عَلَى قَلْبٍ كَقَلْبِهِ، أَيُّ فِتْنَةٍ تَذْهَبُ بِعَقْلِ هَذَا الْفَتَى وَتَرُجُّهُ رَجًّا لَا قِبَلَ لِمِثْلِهِ بِاحْتِمَالِهِ!!
وَكَذَلِكَ كَانَ.
أَيُّ صَيْدٍ سَمِينٍ تَلَقَّفَهُ (الْمِسْيُو جُومَار) بِخْبَرَتِهِ وَحِنْكَتِهِ وَتَجْرِبَتِهِ وَبَصَرِهِ النَّافِذِ فَتًى نَاشِئٌ فِي قَلْبِ الْأَزْهَرِ، ذَكِيّ مُحِبٌّ لِلْعِلْمِ وَالتَّحْصِيلِ، قَوِيُّ الْعَزِيمَةِ، رَآهُ مَفْتُونًا بِالْأَرْضِ الَّتِي وَطَئَتْهَا قَدَمُهُ، لَمْ يَرَ مِثْلَهَا مِنْ قَبْلُ، وَرَآهُ مُقْبِلًا بِأَقْصَى عَزِيمَتِهِ عَلَى تَعَلُّمِ لُغَتِهِ الْفَرَنْسِيَّة، مُعْجَبًا بِهَا وَبِأَهْلِهَا كُلَّ الْإِعْجَابِ، فَأَخَذَهُ (جُومَار) مِنْ قَرِيبٍ، فَكَانَ لَهُ صَيْدًا أَيَّ صَيْدٍ.
أَخَذَ (الْمِسْيُو جُومَار) بِنَاصِيَتِهِ، وَأَسْلَمَهُ لِطَائِفَةٍ مِنَ الْمُسْتَشْرِقِينَ يُصَاحِبُونَهُ وَيُوَجِّهُونَهُ.
قَضَى رِفَاعَةُ -رَحِمَهُ اللهُ- سِتَّ سَنَوَاتٍ فِي بَارِيس، قَضَى ثَلَاثَ سَنَوَاتٍ مِنْهَا فِي تَعَلُّمِ اللُّغَةِ الْفَرَنْسِيَّةِ -كَمَا قَالَ هُوَ بِلِسَانِهِ-، وَفِي الثَّلَاثِ الْأُخَرِ دَرَسَ التَّارِيخَ وَالْجُغْرَافْيَا وَالْفَلْسَفَةَ وَالْآدَابَ الْفَرَنْسِيَّةَ، وَقَرَأَ مُؤَلَّفَاتِ (فُولْتِير) وَ (جَان جَاك رُوسُّو) وَ (مُونْتِسْكِيُو).
فَحَدِّثْنِي بِرَبِّكَ! كَيْفَ تَكُونُ دِرَاسَةُ هَذِهِ الْمُتَنَوِّعَاتِ فِي ثَلَاثِ سَنَوَاتٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كُلُّهُ خَطْفًا كَحَسْوِ الطَّائِرِ، وَأَنْ يَكُونَ مَا أَلَّفَهُ رِفَاعَةُ وَكَتَبَهُ سَطْوًا مُجَرَّدًا عَلَى كُتُبٍ كُتِبَتْ فِي هَذِهِ الْعُلُومِ الْمُخْتَلِفَةِ الْمُتَبَايِنَةِ، وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا فِيهَا مِنَ الزَّلَلِ وَالْخَطَأِ وَسُوءِ الْفَهْمِ، وَلَكِنَّ رِفَاعَةَ الطَّهْطَاوِيَّ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ إِمَامٌ جَاءَ يُخْرِجُ مِصْرَ وَأَهْلَهَا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، يَا لَلْعَجَبِ!!
وَلَكِنَّ هَذَا الرَّجُلَ الطَّيِّبَ يُحَمَّلُ مِنَ الْعَبْقَرِيَّةِ فِي إِنْشَاءِ مَدْرَسَةِ الْأَلْسُنِ مَا حُمِّلَ (مُحَمَّدُ عَلِي) الْجَاهِلُ الَّذِي لَمْ يَتَعَلَّمْ قَطُّ مِنَ الْعَبْقَرِيَّةِ فِي الِاهْتِدَاءِ إِلَى إِرْسَالِ الْبَعَثَاتِ الْعِلْمِيَّةِ إِلَى أُورُبَّةَ وَفَرَنْسَا خَاصَّةً.
وَقِصَّةُ إِنْشَاءِ مَدَرَسَةِ الْأَلْسُنِ فِي سَنَةِ (1836م) -أَيْ: بَعْدَ عَوْدَتِهِ بِخَمْسِ سَنَوَاتٍ- لَيْسَتْ مِنْ فِكْرِ (رِفَاعَةَ الطَّهْطَاوِيِّ) وَلَا مِنْ بَنَاتِ عَبْقَرِيَّتِهِ، وَلَكِنَّهَا ثَمَرَةٌ مِنْ ثِمَارِ الِاسْتِشْرَاقِ وَدُهَاتِهِ الَّذِي احْتَضَنُوهُ وَرَبَّوْهُ وَغَذَّوْهُ وَنَشَّئُوهُ مُدَّةَ إِقَامَتِهِ فِي (بَارِيز).
وَكَمَا يَقُولُ الرَّافِعِيُّ كَانَتْ مَدْرَسَةُ الْأَلْسُنِ عِبَارَةً عَنْ كُلِّيَّةٍ تُدَرَّسُ فِيهَا آدَابُ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَاللُّغَاتُ الْأَجْنَبِيَّةُ.
وَبِأَقَلِّ التَّأَمُّلِ فِي مَنَاهِجِ مَدْرَسَةِ الْأَلْسُنِ تَعْلَمُ يَقِينًا لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ (رِفَاعَةَ الطَّهْطَاوِيَّ) نَفْسَهُ لَمْ يَكُنْ مُؤَهَّلًا لِتَدْرِيسِ أَكْثَرِ هَذِهِ الْعُلُومِ، وَلَا كَانَ فِي مِصْرَ يَوْمَئِذٍ مِنَ الْمِصْرِيِّينَ مَنْ هُوَ مُؤَهَّلٌ لِتَدْرِيسِهَا، فَلَا مَنَاصَ إِذَنْ مِنَ اسْتِقْدَامِ مَنْ يُظَنُّ فِيهِ أَنَّهُ مُؤَهَّلٌ لِتَدْرِيسِهَا مِنَ الْأَجَانِبِ وَمِنَ الْمُسْتَشْرِقِينَ خَاصَّةً، وَكَذَلِكَ كَانَ؛ فَكَانَ هَؤُلَاءِ الدُّهَاةُ مِنْ صَنَائِعِ الِاسْتِشْرَاقِ هُمُ الَّذِينَ تَوَلَّوْا تَثْقِيفَ (150) تِلْمِيذًا؛ كَانَ (رِفَاعَةُ الطَّهْطَاوِيُّ) يَخْتَارُهُمْ صِغَارًا مِنْ مَدَارِسِ الْأَرْيَافِ وَالْأَقَالِيمِ وَمِنْ طَلَبَةِ الْأَزْهَرِ.
وَبِذَلِكَ وَضَعَ (رِفَاعَةُ الطَّهْطَاوِيُّ) أَسَاسًا لِمَدْرَسَةٍ مُلَفَقَّةٍ لَا كُلِّيَّةٍ -كَمَا يَقُولُ الرَّافِعِيُّ- مَبْتُورَةَ الصِّلَةِ كُلَّ الْبَتْرِ مِنْ مَرْكَزِ الثَّقَافَةِ الْمُتَكَامِلَةِ، الَّتِي كَانَ الْأَزْهَرُ مَهْدَهَا عَلَى قُرُونٍ مُتَطَاوِلَةٍ، وَكَانَ هُوَ وَحْدَهُ عَلَى طُولِ هَذِهِ الْقُرُونِ مَرْكَزَ ثَقَافَةِ دَارِ الْإِسْلَامِ فِي مِصْرَ.
وَكَذِلَك أَحْدَثَ (رِفَاعَةُ الطَّهْطَاوِيُّ) صَدْعًا مُبِينًا فِي ثَقَافَةِ الْأُمَّةِ، وَقَسَمَهَا إِلَى شَطْرَيْنِ مُتَبَايَنَيْنِ؛ الْأَزْهَرِ فِي نَاحِيَةٍ، وَمَدْرَسَةِ الْأَلْسُنِ مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى.
وَكَذَلِكَ حَقَّقَ (رِفَاعَةُ) لِدُهَاةِ الِاسْتِشْرَاقِ أَهَمَّ مَا يَتُوقُونَ إِلَيْهِ مِنْ وَأْدِ الْيَقَظَةِ الْوَاحِدَةِ الْمُتَمَاسِكَةِ، الَّتِي كَانَ الْأَزْهَرُ مَرْكَزَهَا مُنْذُ عَهْدِ الْبَغْدَادِيِّ وَالزَّبِيدِيِّ وَالْجَبْرَتِيِّ الْكَبِيرِ، وَفِي وَقْتٍ كَانَ فِيهِ (مُحَمَّد عَلِي) الْجَاهِلُ يُحَطِّمُ أَجْنِحَةَ الْأَزْهَرِ وَيَضَعُهُ فِي قَفَصٍ لَا يَسْتَطِيعُ الْإِفْلَاتَ مِنْهُ، وَيُدَبِّرُ كُلَّ مَكِيدَةٍ لِإِسْقَاطِ هَيْبَتِهِ وَهَيْبَةِ مَشَايِخِهِ، وَيَعْزِلُهُمْ عَنْ جُمْهُورِ الْأُمَّةِ عَزْلًا بَيْنَ قُضْبَانٍ مِنَ الْحَدِيدِ وَجُدْرَانٍ مِنَ الصُّخُورِ.
وَمَرَّتِ الْأَيَّامُ وَالسُّنُونُ وَهَذَا الصَّدْعُ يَتَفَاقَمُ حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى مَا نَحْنُ عَلَيْهِ الْيَوْمَ مِنَ الِانْقِسَامِ وَالتَّفْرِيقِ، وَذَهَبَتِ الثَّقَافَةُ الْمُتَكَامِلَةُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فِي مِصْرَ أَدْرَاجَ الرِّيَاحِ.
صَفْحَةٌ دَامِيَةٌ حَزِينَةٌ، كَانَتْ سَبَبًا مُبَاشِرًا فِي إِفْسَادِ عَقَائِدِ الْمُسْلِمِينَ وَتَحَلُّلِهِمْ مِنْ تُرَاثِهِمْ وَمِنْ تَارِيخِهِمْ وَمِنْ مَوْرُوثِهِمْ، كَانَتْ سَبَبًا مُبَاشِرًا فِي تَغْرِيبِ دِيَارِ الْإِسْلَامِ، وَإِعْلَاءِ شَأْنِ الثَّقَافَةِ الْأُورُبِّيَّةِ النَّصْرَانِيَّةِ عَلَى مَا كَانَ الثَّقَافَة الْمُسْلِمَة الْعَرَبِيَّةِ.
انْقَلَبَتِ الْمَوَازِينُ، وَمُزِّقَتِ الثَّقَافَةُ الْمُتَكَامِلَةُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَانْفَرَدَتِ الثَّقَافَةُ الْمُتَكَامِلَةُ فِي دِيَارِ النَّصْرَانِيَّةِ الشَّمَالِيَّةِ بِلَا قِرْنٍ يُكَافِئُهَا وَيُنَازِلُهَا، وَإِنَّمَا هُوَ الْخُضُوعُ وَالِاسْتِكَانَةُ لَا غَيْرَ، وَقُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ.
وَذَهَبَ (مُحَمَّدُ عَلِي) وَذَهَبَ مُلْكُهُ وَهَلَكَ، وَجَاءَ مِنْ بَعْدِهِ أَوْلَادُهُ وَهُمْ فِي قَبْضَةِ الْقَنَاصِلِ وَالِاسْتِشْرَاقِ، وَالتَّصَدُّعُ فِي ثَقَافَةِ دَارِ الْإِسْلَامِ يَتَفَاقَمُ، وَالْبَعَثَاتُ الْخَاضِعَةُ الْمُسْتَكِينَةُ تَتَوَالَى وَيَقَعُ أَعْضَاؤُهَا فِي قَبْضَةِ الِاسْتِشْرَاقِ، يُصْنَعُ أَعْضَاؤُهَا عَلَى عَيْنِهِ، وَصَارَ الْأَزْهَرُ الَّذِي كَانَ فِي يَدَيْهِ تَعْلِيمُ الْأُمَّةِ أَسِيرًا يَرْسُفُ فِي أَصْفَادِهِ وَأَغْلَالِهِ، مُنْتَبَذًا نَاحِيَةً، وَلَا يَدْخُلُهُ إِلَّا أَبْنَاءُ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَنَازَعَتْهُ تَعْلِيمَ الْأُمَّةِ الْمَدَارِسُ الْجَدِيدَةُ الَّتِي وَضَعَ أَسَاسَهَا (رِفَاعَةُ الطَّهْطَاوِيُّ) فِي مَدْرَسَةِ الْأَلُسْنِ.
وَانْشَطَرَ تَعْلِيمُ الْأُمَّةِ شَطْرَيْنِ، وَنَمَتْ هَذِهِ الْمَدَارِسُ وَتَكَاثَرَتْ، يَدْخُلُهَا أَبْنَاءُ الْمُوسِرِينَ وَالْمَسْتُورِينَ، وَجَعَلَتِ الْهُوَّةُ بَيْنَ الْأَزْهَرِ وَالْمَدَارِسِ تَتَّسِعُ، وَأَصْبَحَتِ الْمَنَاهِجُ تَتَبَايَنُ تَبَايُنًا شَدِيدًا، أَمَّا مَنَاهِجُ الْأَزْهَرِ فِي عُزْلَتِهِ فَجَعَلَتْ تَضْعُفُ وَتَذْوِي، وَهِيَ عَلَى بِنَائِهَا الْقَدِيمِ، وَأَمَّا مَنَاهِجُ الْمَدَارِسِ فَجَعَلَتْ تَنْمُو، وَلَكِنَّ نُمُوَّهَا قَائِمٌ عَلَى الْقُشُورِ الَّتِي تغر وَلَا تُغْنِي فَتِيلًا عَلَى نَفْسِ الْأَسَاسِ الَّذِي وَضَعَهُ (رِفَاعَةُ الطَّهْطَاوِيُّ)، وَجَعَلَتْ تَزْدَادُ تَبَاعُدًا مَقْطُوعَ الْأَوَاصِرِ مِنَ الثَّقَافَةِ الْمُتَكَامِلَةِ الَّتِي عَاشَتْ بِهَا الْأُمَّةُ قُرُونًا مُتَطَاوِلَةً.
لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْمَدَارِسُ نَابِعَةً مِنَ الثَّقَافَةِ الْمُتَكَامِلَةِ الَّتِي تُجَدِّدُ نَفْسَهَا تَجْدِيدًا يَزِيدُهَا قُوَّةً وَوُضُوحًا، بَلْ كَانَتْ غِرَاسًا غَرِيبًا يَزِيدُهَا بُعْدًا وَانْقِطَاعًا عَنْ أُصُولِ الثَّقَافَةِ الْمُتَكَامِلَةِ لِدَارِ الْإِسْلَامِ فِي مِصْرَ، وَلَا تَكْسِبُهَا قُوَّةً وَوُضُوحًا، بَلْ تَكْسِبُ أَبْنَاءَهَا تَنَكُّرًا وَإِعْرَاضًا وَاحْتِقَارًا -أَيْضًا- لِتِلْكَ الثَّقَافَةِ الْمُتَكَامِلَةِ الَّتِي عَاشَتْ بِهَا أُمَّتُهُمْ.
وَكَذَلِكَ صَارَ أَبْنَاؤُهَا حِزْبًا جَدِيدًا مَيْلُهُ وَحُبُّهُ وَإِكْبَارُهُ لِلْمَصْدَرِ الَّذِي صَدَرَ عَنْهُ مَا تَعَلَّمُوهُ وَلَمْ يَتَعَلَّمُوا غَيْرَهُ، كَمَا أَرَادَ (نَابُلْيُون) بِمَشْرُوعِهِ الَّذِي عَهِدَ بِهِ إِلَى خَلِيفَتِهِ (كليبَر)، وَطَوَّرَهُ تَطْوِيرًا كَبِيرًا (الْمِسْيُو جُومَار)، وَتَمَّ بِذَلِكَ الْبَلَاءُ الْمَاحِقُ -وَالْأَمْرُ للهِ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ-.
* خُطَّةُ الْقِسِّيس (دَنْلُوب) لِتَفْرِيغِ طُلَّابِ الْمَدَارِسِ مِنْ ثَقَافِتِهِمْ:
مَضَتِ الْأَيَّامُ وَالسُّنُونُ حَتَّى جَاءَ الِاحْتِلَالُ الْإِنْجِلِيزِيُّ فِي ثَانِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ (1299هـ /15 سِبْتَمْبِر 1882م)، وَيَظَلُّ يُرَسِّخُ قَدَمَيْهِ فِي الْبِلَادِ، وَبَعْدَ قَلِيلٍ رَأَى الْحِزْبَ الَّذِي أَنْشَأَهُ الِاسْتِشْرَاقُ الْفَرَنْسِيُّ غَالِبًا عَلَى جُمْهُورِ طَلَبَةِ الْمَدَارِسِ، فَبَدَأَ الِاسْتِشْرَاقُ الْإِنْجِلِيزِيُّ يُدَمِّرُ كُلَّ مَا أَنْشَأَهُ الْفَرَنْسِيسُ مِنْ مَدَارِسَ وَيُشَتِّتُهَا.
فَلَمَّا اسْتَقَرَّتْ أَقْدَامُ الِاحْتِلَالِ الْإِنْجِلِيزِيِّ فِي مِصْرَ رَأَى الِاسْتِشْرَاقُ الْإِنْجِلِيزِيُّ أَنْ يَبْدَأَ فِي تَكْوِينِ حِزْبٍ قَوِيٍّ يُنَاصِرُهُ عَنْ طَرِيقِ التَّحَكُّمِ فِي التَّعْلِيمِ، فَأَسْنَدَ أَمْرَ التَّعْلِيمِ إِلَى قِسِّيسٍ مُبَشِّرٍ عَاتٍ خَبِيثٍ هُوَ (دَنْلُوب)!
قُضِيَ الْأَمْرُ وَصَدَرَ الْأَمْرُ الْعَالِي بِتَعْيِينِ الْمِسْتَر (دَنْلُوب) سِكرْتِيرًا عَامًّا لِنِظَارَةِ الْمَعَارِفِ، وَقَدْ شَرَعَ الْمِسْتَر (دَنْلُوب) بَعْدَ الِاتِّفَاقِ مَعَ اللُّورْد (كرُومَر) فِي هَدْمِ الدِّرَاسَةِ الثَّانُوِيَّةِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ أَرْكَانِ الْمَعَارِفِ!
قُضِيَ الْأَمْرُ وَجَاءَ الِاسْتِشْرَاقُ الْإِنْجِلِيزِيُّ لِيُحْدِثَ فِي ثَقَافَةِ الْأُمَّةِ الْمِصْرِيَّةِ صَدْعًا مُتَفَاقِمًا أَخْبَثَ وَأَعْتَى مِنَ الصَّدْعِ الَّذِي أَحْدَثَهُ الِاسْتِشْرَاقُ الْفَرَنْسِيُّ.
وَوَضَعَ (دَنْلُوب) أُسُسَ التَّفْرِيغِ الْكَامِلِ لِطَلَبَةِ الْمَدَارِسِ الْمِصْرِيَّةِ -أَيْ: تَفْرِيغِ الطَّلَبَةِ مِنْ مَاضِيهَا الْمُتُدَفِّقِ فِي دِمَائِهَا مُرْتَبِطًا بِالْعَرَبِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ-، وَمَهَّدَ إِلَى مَلْئِهِ بِمَاضٍ آخَرَ بَائِدٍ فِي الْقِدَمِ وَالْغُمُوضِ لَمْ يَبْقَ مِنْ ثَقَافَتِهِ شَيْءٌ الْبَتَّةَ؛ لِيُزَاحِمَ هَذَا الْمَاضِي الْفَارِغُ بَقَايَا الْمَاضِي الْمُتَدَفِّقِ الْحَيِّ الَّذِي يُوشِكُ أَنْ يَتَمَزَّقَ وَيَخْتَنِقَ بِالتَّفْرِيغِ الْمُتَوَاصِلِ، وَيَجْعَلَ أَجْيَالَ طَلَبَةِ الْمَدَارِسِ فِي حَيْرَةٍ مُدَمِّرَةٍ بَيْنَ انْتِمَاءَيْنِ؛ بَيْنَ الِانْتِمَاءِ إِلَى الثَّقَافَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْوَاضِحَةِ فِي كُتُبِ أَسْلَافِهِمْ، وَبَيْنَ الِانْتِمَاءِ إِلَى الْفِرْعَوْنِيَّةِ الَّتِي بَادَتْ وَبَادَتْ ثَقَافَتُهَا، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا أَطْلَالٌ مِنَ الْحِجَارَةِ مَهْمَا بَلَغَتْ فِي الْعَظَمَةِ وَالْجَلَالِ فَهِيَ فَارِغَةٌ مِنْ ثَقَافَةٍ حَيَّةٍ تَتَدَفَّقُ فِي الْقُلُوبِ وَالْعُقُولِ وَالْأَلْسِنَةِ، إِنَّمَا هِيَ آثَارٌ لَا تُغْنِي شَيْئًا وَلَا تُؤْتِي ثَمَرَةً.
وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا التَّفْرِيغَ سَوْفَ يُنْشِئُ أَجْيَالًا مِنْ تَلَامِيذِ الْمَدَارِسِ تَتَهَتَّكُ عَلَاقَاتُهَا الَّتِي تَرْبِطُهَا بِثَقَافَتِهَا الْعَرَبِيَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ اجْتِمَاعِيًّا وَثَقَافِيًّا وَلُغَوِيًّا حَتَّى يَتِمَّ تَفْرِيغُهَا تَفْرِيغًا كَامِلًا مِنْ مَاضِيهِمْ كُلِّهِ، ثُمَّ يُمْلَأُ هَذَا الْفَرَاغُ عُلُومٌ وَآدَابٌ وَفُنُونٌ لَا عَلَاقَةَ لَهَا بِمَاضِيهِمْ، وَإِنَّمَا هِيَ عُلُومُ الْغُزَاةِ، وَفُنُونُ الْغُزَاةِ، وَآدَابُ الْغُزَاةِ، وَتَارِيخُ الْغُزَاةِ، وَلُغَاتُ الْغُزَاةِ، وَمَعَ كُلِّ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنَ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ وَالْآدَابِ إِنَّمَا هِيَ قُشُورٌ وَمُقْتَطَفَاتٌ تُوهِمُ النُّفُوسَ الظَّامِئَةَ الْمُفَرَّغَةَ بِأَنَّهَا نَالَتْ شَيْئًا يُذْكَرُ، وَالْحَقِيقَةُ أَنَّهَا نَالَتْ غِذَاءً تَعِيشُ بِهِ مَوْتَى فِي صُورَةِ أَحْيَاءٍ لَا غَيْرَ!
((الْعَوْلَمَةُ وَالْحَرْبُ عَلَى الْهُوِيَّةِ))
إِنَّ الْكَوْكَبَةَ.. إِنَّ الْعَوْلَمَةَ الَّتِي طُبِّقَتْ عَلَيْكُمْ مِنْ حَيْثُ تَعْلَمُونَ وَمِنْ حَيْثُ لَا تَعْلَمُونَ فَاسْتَلَبَتْ كَثِيرًا مِنْ مَعَالِمِ الْهُوِيَّةِ مِنَ النَّفْسِ الْمُسْلِمَةِ الْعَرَبِيَّةِ، فَطَمَسَتْ فِيهَا بَعْضَ مَعَالِمِهَا، وَتَبَدَّلَتْ فِيهَا بَعْضُ قَنَاعَاتِهَا، وَتَحَرَّكَتْ فِيهَا بَعْضُ ثَوَابِتِهَا.. إِنَّ الْعَوْلَمَةَ الَّتِي أَصَابَكُمْ رَشَاشُهَا، وَأُصِبْتُمْ بِبَعْضِ رَذَاذِهَا مِنْ حَيْثُ تَعْلَمُونَ وَمِنْ حَيْثُ لَا تَعْلَمُونَ، إِنَّمَا يُرَادُ بِهَا تَفْرِيغُكُمْ مِنْ دِينِكُمْ، وَاسْتِلَابُ هُوِيَّتِكُمْ؛ لِكَيْ تَكُونُوا شُخُوصًا مَاثِلَةً مِنْ غَيْرِ حَقَائِقَ قَائِمَةٍ، لِكَيْ تُوَجَّهُوا حَيْثُ أَرَادَ أَعْدَاؤُكُمْ.
وَكُلُّ ذَلِكَ فِي مُنْتَهَاهُ مِنْ أَجْلِ إِقَامَةِ الْهَيْكَلِ الثَّالِثِ؛ لِتُذْبَحَ قَرَابِينُ كَفَّارِيَّةٌ عَلَى دَرَجِ هَيْكَلٍ ثَالِثٍ بِمَعْبَدِهِ لِلرَّبِّ الْإِلَهِ -إِلَهِ إِسْرَائِيلَ-، يَفْعَلُ ذَلِكَ الصَّلِيبِيُّونَ الصُّهْيُونِيُّونَ وَالْيَهُودُ الصُّهْيُونِيُّونَ؛ لِأَنَّهُمْ يَنْتَظِرُونَ مَعًا مَسِيحًا وَاحِدًا مُخَلِّصًا، يَتَّفِقُونَ عَلَى انْتِظَارِهِ فَقَطْ، وَأَمَّا حَقِيقَتُهُ فَهُوَ عِنْدَ الْيَهُودِ مُخَلِّصُهُمْ، وَأَمَّا مَسِيحُ الْآخَرِينَ عِنْدَ الْيَهُودِ فَهُوَ الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ، وَعِنْدَنَا نَحْنُ الْمُسْلِمِينَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ إِنَّمَا يَنْتَظِرُونَ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ.
عَنَاصِرُ الْعَوْلَمَةِ الرَّئِيسَةُ هِيَ:
* تَعْمِيمُ الرَّأْسِمَالِيَّةِ؛ فَإِنَّهُ عِنْدَمَا تَغَلَّبَتِ الرَّأْسُمَالِيَّةُ عَلَى الشُّيُوعِيَّةِ جَعَلَتْ تُعَمِّمُ مَبَادِئَهَا عَلَى كُلِّ الْمُجْتَمَعَاتِ الْأُخْرَى، فَأَصْبَحَتْ قِيَمُ السُّوقِ وَالتِّجَارَةُ الْحُرَّةُ، وَكَذَا الِانْفِتَاحُ الِاقْتِصَادِيُّ، وَالتَّبَادُلُ التِّجَارِيُّ، وَانْتِقَالُ السِّلَعِ وَرُؤُوسِ الْأَمْوَالِ، وَتِقْنِيَاتُ الْإِنْتَاجِ وَالْأَشْخَاصُ وَالْمَعْلُومَاتُ هِيَ الْقِيَمَ الرَّائِجَةَ تُفْرَضُ عَنْ طَرِيقِ الْمُؤَسَّسَاتِ الْعَالَمِيَّةِ التَّابِعَةِ لِلْأُمَمِ الْمُتَّحِدَةِ، خَاصَّةً (مُؤَسَّسَةُ الْبَنْكِ الدَّوْلِيِّ) وَ (مُؤَسَّسَةُ النَّقْدِ الدَّوْلِيِّ)، وَعَنْ طَرِيقِ الِاتِّفَاقِيَّاتِ الْعَالَمِيَّةِ الَّتِي تُقِرُّهَا تِلْكَ الْمُؤَسَّسَاتُ؛ كَـ(اتِّفَاقِيَّةِ الْجَات)، وَ (الْمُنَظَّمَةِ الْعَالَمِيَّةِ لِلتِّجَارَةِ) وَغَيْرِهَا.
سَاقُوا الشُّعُوبَ سَوْقَ الْأَغْنَامِ حَتَّى لَوْ سُلِكَتْ فِي تِلْكَ الْمَنْظُومَةِ الْمَلْعُونَةِ، وَالنَّاسُ يَتَهَافَتُونَ عَلَى الِالْتِحَاقِ بِهَذَا الرَّكْبِ الْمَلْعُونِ.
* وَمِنْ عَنَاصِرِهَا: الْقُطْبُ الْوَاحِدُ: انْفَرَدَتْ أَمِرِيكَا بِقِيَادَةِ الْعَالَمِ بَعْدَ سُقُوطِ الِاتِّحَادِ السُّوفْيِتِيِّ، وَتَفْتِيتِ مَنْظُومَتِهَا الدَّوْلِيَّةِ الْمُسَمَّاةِ بِـ(حِلْفِ وَارْسُو)، لَمْ تَبْلُغْ دَوْلَةٌ عُظْمَى فِي التَّارِيخِ قُوَّةَ أَمِرِيكَا الْعَسْكَرِيَّةَ وَالِاقْتِصَادِيَّةَ.
وَهَذَا يَجْعَلُ هَذَا التَّفَرُّدَ خَطِيرًا عَلَى الْآخَرِينَ فِي كُلِّ الْمَجَالَاتِ؛ الِاقْتِصَادِيَّةِ، وَالسِّيَاسِيَّةِ، وَالثَّقَافِيَّةِ، وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ يَحْلُمُونَ بِالْإِمْبِرَاطُورِيَّةِ الْأَمِرِيكِيَّةِ الَّتِي تَضُمُّ الْعَالَمَ كُلَّهُ، وَتَصْهَرُ الْعَالَمَ كُلَّهُ فِي أَيْدِيُولُوجِيَّتِهَا.. فِي عَقِيدَتِهَا.. فِي تَوَجُّهِهَا.. حَتَّى فِي عَادَاتِهَا وَتَقَالِيدِهَا، حَتَّى إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمَحْسُوبِينَ عَلَى التَّيَّارِ الْإِسْلَامِيِّ تَجِدُ مَا يَلْبَسُونَهُ رَاجِعًا إِلَيْهِمْ، وَمَا يَأْكُلُونَهُ رَاجِعًا إِلَيْهِمْ، وَمَا يَسْتَعْمِلُونَهُ رَاجِعًا إِلَيْهِمْ، وَطَرِيقَةُ تَفْكِيرِهِمْ تَجِدُهَا رَاجِعَةً إِلَيْهِمْ.
كَانُوا يَأْمُلُونَ أَنْ يَكُونَ الْقَرْنُ الْعِشْرُونَ قَرْنًا أَمِرِيكِيًّا، وَأَنْ يَأْتِيَ الْمَسِيحُ عَلَى رَأْسِ الْأَلْفِيَّةِ، فَخَيَّبَ ظَنَّهُمْ وَلَمْ يَأْتِ، فَنَقَلُوا الْقَرْنَ إِلَى الْقَرْنِ بَعْدَهُ.
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ قَرْنٌ أَمِرِيكِيٌّ أَوْ قَرْنُ خَرُوفٍ قَرِيبٌ مِنْ قَرِيبٍ!
* مِنْ عَنَاصِرِ الْعَوْلَمَةِ: ثَوْرَةُ التِّقْنِيَاتِ وَالْمَعْلُومَاتِ، وَقَدْ مَرَّتِ الْبَشَرِيَّةُ بِعِدَّةِ ثَوْرَاتِ عِلْمِيَّةٍ، مِنْهَا ثَوْرَةُ الْبُخَارِ، وَثَوْرَةُ الْكَهْرُبَاءِ، وَثَوْرَةُ الذَّرَّةِ، وَآخِرُ الثَّوْرَاتِ الْبَشَرِيَّةِ الثَّوْرَةُ الْعِلْمِيَّةُ التُّكْنُولُوجِيَّةُ، خَاصَّةً فِي مَجَالِ التَّطَوُّرَاتِ السَّرِيعَةِ وَالْمُدْهِشَةِ فِي عَالَمِ الْحَاسُوبِ، تَوَصَّلَ الْحَاسُوبُ الْآلِيُّ إِلَى إِجْرَاءِ أَكْثَرَ مِنْ مِلْيَارَيْ عَمَلِيَّةٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي الثَّانِيَةِ الْوَاحِدَةِ، وَهُوَ الْأَمْرُ الَّذِي كَانَ يَسْتَغْرِقُ أَلْفَ عَامٍ لِإِجْرَائِهِ فِي السَّابِقِ.
أَمَّا الْمَجَالُ الْآخَرُ مِنْ هَذِهِ الثَّوْرَةِ فَهُوَ التَّطَوُّرَاتُ الْمُثِيرَةُ فِي تِقْنِيَاتِ الْمَعْلُومَاتِ وَالِاتِّصَالَاتِ الَّتِي تُتِيحُ لِلْأَفْرَادِ وَالدُّوَلِ وَالْمُجْتَمَعَاتِ الِارْتِبَاطَ بِعَدَدٍ لَا يُحْصَى مِنَ الْوَسَائِلِ الَّتِي تَتَرَاوَحُ بَيْنَ الْكَابْلَاتِ الضَّوْئِيَّةِ وَالْفَاكْسَاتِ وَمَحَطَّاتِ الْإِذَاعَةِ، وَالْقَنَوَاتِ التِّلِيفِزْيُونِيَّةِ الْأَرْضِيَّةِ وَالْفَضَائِيَّةِ الَّتِي تَبُثُّ بَرَامِجَهَا الْمُخْتَلِفَةَ عَبْرَ حَوَالَيْ أَلْفَيْ مَرْكَبَةٍ فَضَائِيَّةٍ، بِالْإِضَافَةِ إِلَى أَجْهِزَةِ الْحَاسُوبِ، وَالْبَرِيدِ الْإِلِكْتُرُونِيِّ، وَشَبَكَةِ الْمَعْلُومَاتِ الدَّوْلِيَّةِ الَّتِي تَرْبُطُ الْعَالَمَ بِأَقَلِّ التَّكَالِيفِ.
وَبِوُضُوحٍ أَكْثَرَ عَلَى مَدَارِ السَّاعَةِ لَقَدْ تَحَوَّلَتْ تِقْنِيَةُ الْمَعْلُومَاتِ إِلَى أَهَمِّ مَصْدَرٍ مِنْ مَصَادِرِ الدَّوْلَةِ، أَوْ إِلَى أَهَمِّ قُوَّةٍ مِنَ الْقُوَى الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَالثَّقَافِيَّةِ فِي عَالَمِ الْيَوْمِ.
وَلَيْسَ مَا سُمِّيَ بِالثَّوْرَاتِ الْحَدِيثَةِ -فِيمَا عُرِفَ بِالرَّبِيعِ الْعَرَبِيِّ- لَيْسَ ذَلِكَ عَنْكُمْ بِبَعِيدٍ؛ إِذْ كَانَتْ تِلْكَ الْوَسَائِلُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ لِلِاتِّصَالِ بَيْنَ الْمُجْتَمَعَاتِ الَّتِي وَحَّدَتْهُمْ عَلَى غَايَةٍ، وَجَمَّعَتْهُمْ عَلَى هَدَفٍ.. كَانَتْ أَهَمَّ رَكِيزَةٍ فِي أَنْ نَفَّذُوا مَا نَفَّذُوا بَعْدَ أَنْ خَطَّطُوا مَا خَطَّطُوا، وَكُلُّ ذَلِكَ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ- خَيْطُهُ الرَّئِيسُ فِي أَيْدِي الشَّيَاطِينِ -وَلَكِنَّ قَوْمِي لَا يَعْلَمُونَ-.
مَا هِيَ الْأَهْدَافُ وَالْآثَارُ الَّتِي تَلْحَقُ السِّيَاسَةَ مِنْ جَرَّاءِ الْعَوْلَمَةِ الَّتِي أَصَابَتِ الْأُمَمَ الْمُسْلِمَةَ؟
لِأَنَّهُ -وَالْحَقُّ يُقَالُ- إِنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَكُونُوا دَاعِينَ إِلَى الْعَوْلَمَةِ الْحَقَّةِ، إِلَى هِدَايَةِ الْبَشَرِ إِلَى دِينِ رَبِّ الْبَشَرِ، إِلَى اتِّبَاعِ النَّبِيِّ ﷺ، إِلَى تَحْرِيرِ الْإِنْسَانِ مِنْ عِبَادَةِ الشَّيْطَانِ، وَمِنْ عِبَادَةِ الْهَوَى، وَمِنْ عِبَادَةِ الطَّوَاغِيتِ، وَمِنْ عِبَادَةِ الْمَالِ، وَمِنْ عِبَادَةِ الْجِنْسِ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ، إِلَى تَخْلِيصِ الْإِنْسَانِ مِنْ تَصَوُّرَاتِهِ الْخَائِبَةِ، وَنَزَوَاتِهِ الطَّائِشَةِ، وَرَغَبَاتِهِ الْمَاجِنَةِ، وَشَهَوَاتِهِ الْفَاجِرَةِ، إِلَى اتِّبَاعِ خَيْرِ الْخَلْقِ وَأَطْهَرِهِمْ وَأَعَفِّهِمْ وَأَشْرَفِهِمْ مَنْ جَاءَ بِدِينِ الْعَفَافِ وَالطُّهْرِ وَالشَّرَفِ وَالْعِفَّةِ وَالْكَمَالِ وَالنَّزَاهَةِ ﷺ.
وَلَكِنْ فَرَّطَ قَوْمِي، تَرَكُوا الْحَقَّ جَانِبًا، لَمْ يَلْتَزِمُوا بِهِ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَتَمَكَّنَ مِنْهُمْ أَعْدَاؤُهُمْ، وَأَنْتَ إِذَا لَمْ تَكُنْ دَاعِيَةً كُنْتَ مَدْعُوًّا؛ فَإِنَّ النَّفْسَ الْإِنْسَانِيَّةَ لَا تَخْلُو مِنَ الْحَالَيْنِ؛ إِمَّا أَنْ تَكُونَ دَاعِيًا، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مَدْعُوًّا، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ دَاعِيًا إِلَى الْحَقِّ، إِلَى الْهُدَى، إِلَى الرَّشَادِ؛ كُنْتَ مَدْعُوًّا إِلَى ضِدِّ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ.
وَمَا هِيَ الْآثَارُ الَّتِي لَحِقَتْ بِبَنِي جِنْسِي، بِأَبْنَاءِ عَقِيدَتِي، بِأَهْلِ وَطَنِي، بِأُمَّتِي، مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالسِّيَاسَةِ خَاصَّةً؟
* الْأَثَرُ الْأَوَّلُ: فَرْضُ السِّيَاسَةِ الْغَرْبِيَّةِ عَلَى الْأَنْظِمَةِ الْحَاكِمَةِ وَالشُّعُوبِ التَّابِعَةِ لَهَا.
التَّحَكُّمُ فِي مَرْكَزِ الْقَرَارِ السِّيَاسِيِّ، مَعَ صَنْعَتِهِ فِي دُوَلِ الْعَالَمِ جَمِيعًا، مُحَرَّكٌ مِنَ الْمَرْكَزِ الرَّئِيسِ لِخِدْمَةِ مَصَالِحِ الْقُطْبِ الْوَاحِدِ، وَالْقُوَّةُ الصُّهْيُونِيَّةُ الْمُتَحَكِّمَةُ فِي السِّيَاسَةِ الْعَالَمِيَّةِ سِيَاسَةُ قُطْبِ الْعَالَمِ الْأَوْحَدِ نَفْسِهَا عَلَى حِسَابِ مَصَالِحِ الشُّعُوبِ، وَثَرْوَاتِهَا الْوَطَنِيَّةِ، وَثَقَافَتِهَا، وَمُعْتَقَدَاتِهَا الدِّينِيَّةِ.
يَقُولُ (صَامْوِيل هُنْتِنْجِتُون) فِي دِرَاسَتِهِ الْمُسَمَّاةِ بِـ((الْمَصَالِحِ الْأَمِرِيكِيَّةِ وَمُتَغَيَّرَاتِ الْأَمْنِ)) الَّتِي نَشَرَتْهَا مَجَلَّةُ ((الشُّؤُونِ الْخَارِجِيَّةِ)) فِي حُزَيْرَان سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَتِسْعِ مِائَةٍ وَأَلْفٍ (1993م): ((إِنَّ الْغَرْبَ بَعْدَ سُقُوطِ الِاتِّحَادِ السُّوفْيِتِيِّ فِي حَاجَةٍ مَاسَّةٍ إِلَى عَدُوٍّ جَدِيدٍ يُوَحِّدُ دُوَلَ الْغَرْبِ وَشُعُوبَهُ، وَإِنَّ الْحَرْبَ لَنْ تَتَوَقَّفَ حَتَّى لَوْ سَكَتَ السِّلَاحُ وَأُبْرِمَتِ الْمُعَاهَدَاتُ.
يَقُولُ: ذَلِكَ أَنَّ حَرْبًا حَضَارِيَّةً قَادِمَةً سَتَسْتَمِرُّ بَيْنَ الْمُعَسْكَرِ الْغَرْبِيِّ الَّذِي تَتَزَعَّمُهُ أَمِرِيكَا وَطَرَفٍ آخَرَ قَدْ يَكُونُ الْعَالَمَ الْإِسْلَامِيَّ أَوِ الصِّينَ.
وَالْوَاقِعُ شَاهِدٌ أَنَّهُمُ اسْتَقَرُّوا عَلَى الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ.
الْأَثَرُ الثَّانِي: إِضْعَافُ فَاعِلِيَّةِ الْمُنَظَّمَاتِ وَالتَّجَمُّعَاتِ السِّيَاسِيَّةِ الْإِقْلِيمِيَّةِ وَالدَّوْلِيَّةِ، مَعَ الْعَمَلِ عَلَى تَغْيِيرِهَا الْكَامِلِ كَقُوَّةٍ مُؤَثِّرَةٍ فِي السَّاحَةِ الْعَالَمِيَّةِ وَالْإِقْلِيمِيَّةِ.
وَهَذَا مَا وَقَعَ لِـ(الْجَامِعَةِ الْعَرَبِيَّةِ)، وَلِـ(مُنَظَّمَةِ الْوَحْدَةِ الْإِفْرِيقِيَّةِ)، وَلِـ(مُنَظَّمَةِ الْمُؤْتَمَرِ الْإِسْلَامِيِّ)، هُمِّشَتْ تِلْكَ الْمُؤَسَّسَاتُ وَالْمُنَظَّمَاتُ، وَصَارَتْ هَيَاكِلَ كَرْتُونِيَّةً لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَفْعَلَ شَيْئًا، وَلَا أَنْ تَتَّخِذَ قَرَارًا تِجَاهَ الْقَضَايَا السِّيَاسِيَّةِ الْمُعَاصِرَةِ، تِجَاهَ الْأَحْدَاثِ الْجَارِيَةِ، كَفِلَسْطِينَ، وَالْبُوسْنَةِ، وَكَشْمِير، وَالشِّيشَان، وَالْعِرَاقِ، وَلِيبْيَا، وَسُورِيَّا، وَالْيَمَنِ، وَبُورْمَا، وَمِصْرَ، وَالسُّودَانِ وَمَا أَشْبَهَ.
الْأَثَرُ الثَّالِثُ: إِبْقَاءُ الدُّوَلِ الْإِسْلَامِيَّةِ خَاصَّةً مَنْقُوصَةَ السِّيَادَةِ؛ حَتَّى تَبْقَى هَذِهِ الدُّوَلُ ضَعِيفَةً وَتَابِعَةً لِلْهَيْمَنَةِ السِّيَاسِيَّةِ الْغَرْبِيَّةِ.
الْأَثَرُ الرَّابِعُ: إِضْعَافُ سُلْطَةِ الدَّوْلَةِ الْوَطَنِيَّةِ، وَإِلْغَاءُ دَوْرِهَا، وَتَقْلِيلُ فَاعِلِيَّتِهَا، وَقَتْلُ رُوحِ الِانْتِمَاءِ فِي نُفُوسِ أَبْنَائِهَا.
يَبِيعُونَ الْأَرْضَ، وَيُفَرِّطُونَ فِيهَا كَمَا يَبِيعُونَ الْعِرْضَ وَيُفَرِّطُونَ فِيهِ!
جِيلٌ لَا انْتِمَاءَ لَهُ كَالنَّبَاتِ الطَّافِي تَعْلُو بِهِ مَوْجَةٌ وَتَسْفُلُ بِهِ أُخْرَى، قَبْلَ أَنْ يَسْتَقِرَّ عَلَى قَرَارٍ.
الْعَوْلَمَةُ نِظَامٌ يَقْفِزُ عَلَى الدَّوْلَةِ، عَلَى الْوَطَنِ، عَلَى الْأُمَّةِ ، عَلَى الْعَقِيدَةِ، وَيَسْتَبْدِلُ ذَلِكَ كُلَّهُ بِإِحْلَالِ الْإِنْسَانِيَّةِ مَحَلَّهُ.
إِنَّهَا نِظَامٌ يَفْتَحُ الْحُدُودَ أَمَامَ الشَّبَكَاتِ الْإِعْلَامِيَّةِ وَالشَّرِكَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ الْجِنْسِيَّاتِ، وَيُزِيلُ الْحَوَاجِزَ الَّتِي تَقِفُ حَائِلًا دُونَ الثَّقَافَةِ الرَّأْسِمَالِيَّةِ الْمَادِّيَّةِ.
وَالْغَزْوُ الْفِكْرِيُّ الَّذِي يَسْتَهْدِفُ تَفْتِيتَ وَحْدَةِ الْأُمَّةِ بِإِثَارَةِ النَّعْرَاتِ الطَّائِفِيَّةِ، وَإثَارَةِ الْحُرُوبِ وَالْفِتَنِ الدَّاخِلِيَّةِ تَدُورُ رَحَاهَا فِي الدَّوْلَةِ الْوَاحِدَةِ، كَمَا وَقَعَ فِي السُّودَانِ، وَكَمَا يُخَطَّطُ لَهُ فِي لِيبْيَا لِتَقْسِيمِهَا، وَكَذَا فِي سُورِيَّةَ، وَكَمَا وَقَعَ فِي الْعِرَاقِ، وَوَقَعَ فِي لُبْنَانَ، وَوَقَعَ فِي الْجَزَائِرِ، وَوَقَعَ فِي الْمَغْرِبِ، وَيُخَطَّطُ لِوُقُوعِهِ فِي مِصْرَ بِإِصْرَارٍ لَا يَعْرِفُ الْوَهَنَ، وَإِلْحَاحٍ لَا يَعْرِفُ الْكَلَلَ وَلَا الْمَلَلَ، وَكَمَا يَجْرِي فِي الْبَحْرَيْنِ، وَكَمَا يُنَفَّذُ بِكَيْدٍ فِي لَيْلٍ فِي الْمَنْطِقَةِ الشَّمَالِيَّةِ وَالشَّرْقِيَّةِ لِلْمَمْلَكَةِ الْعَرَبِيَّةِ السُّعُودِيَّةِ؛ لِفَصْلِهَا عَلَى أَسَاسٍ طَائِفِيٍّ عَنِ الدَّوْلَةِ السُّنِّيَّةِ الْمُوَحَّدَةِ، ثُمَّ لِيُعْتَدَى بَعْدُ عَلَى الْكَعْبَةِ؛ لِتُنْقَلَ إِلَى (قُمٍّ) أَوِ (النَّجَفِ)، وَلِيُعْتَدَى عَلَى قَبْرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ لِإِخْرَاجِ جَسَدِهِ الشَّرِيفِ، يَحْمِلُهُ حَفَدَةُ الْمَجُوسِ مِنَ الرَّوَافِضِ، مُسْتَخْرِجِينَ جَسَدَيْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَحَرْقِهِمَا فِي مَشْهَدٍ كَوْنِيٍّ عَالَمِيٍّ.
أَلَا إِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ تُصِيبُهُمُ الْغَفْلَةُ، وَتَذْهَبُ أَهْوَاؤُهُمْ بِثَارَاتِهِمْ، يَتَكَلَّمُونَ عَنْ أُمُورٍ حَقِيرَةٍ مَدْفُوعِينَ بِنَوَازِعَ وَضِيعَةٍ، فَلَا يَفِيئُونَ إِلَى ظِلِّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِفَهْمِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ.
الْعَوْلَمَةُ لَا تَكْتَفِي بِوَاقِعِ التَّجْزِئَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْإِسْلَامِيَّةِ، بَلْ تُحَاوِلُ إِحْدَاثَ تَجْزِئَةٍ دَاخِلِيَّةٍ فِي كُلِّ بَلَدٍ عَرَبِيٍّ أَوْ إِسْلَامِيٍّ؛ حَتَّى يَنْشَغِلَ أَهْلُهُ بِأَنْفُسِهِمْ، وَيَنْسَوْا تَمَامًا أَنَّهُمْ أُمَّةٌ عَرَبِيَّة وَاحِدَةٌ، يَنْتَمُونَ إِلَى جَمَاعَةٍ إِسْلَامِيَّةٍ وَاحِدَةٍ تَهْتِفُ صَبَاحَ مَسَاءَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ.
* إِنَّ مِنْ أَهْدَافِ الْعَوْلَمَةِ وَآثَارِهَا الثَّقَافِيَّةِ: أَنْ تَقُومَ عَلَى انْتِشَارِ الْمَعْلُومَاتِ، وَسُهُولَةِ حَرَكَتِهَا، وَزِيَادَةِ مُعَدَّلَاتِ التَّشَابُهِ بَيْنَ الْمُجْتَمَعَاتِ وَالْجَامِعَاتِ، فِي جُمْلَةٍ مُفِيدَةٍ: يُرِيدُونَ إِيجَادَ ثَقَافَةٍ عَالَمِيَّةٍ، يُرِيدُونَ عَوْلَمَةَ الِاتِّصَالَاتِ عَنْ طَرِيقِ الْبَثِّ التِّلِيفِزْيُونِيِّ عَبْرَ الْأَقْمَارِ الصِّنَاعِيَّةِ، وَبِصُورَةٍ أَعْمَقَ خِلَالَ شَبَكَةِ الْمَعْلُومَاتِ الَّتِي تَرْبِطُ الْبَشَرَ فِي كُلِّ أَنْحَاءِ الْمَعْمُورَةِ.
يَهْدِفُونَ إِلَى تَسَيُّدِ الثَّقَافَةِ الرَّأْسِمَالِيَّةِ لِتُصْبِحَ الثَّقَافَةَ الْعُلْيَا.
يُرِيدُونَ تَجَاوُزَ الْحُدُودِ الَّتِي أَقَامَتْهَا الشُّعُوبُ؛ لِتَحْمِيَ كِيَانَ وُجُودِهَا وَمَا لَهُ مِنْ خَصَائِصَ تَارِيخِيَّةٍ وَسِيَاسِيَّةٍ وَدِينِيَّةٍ وَجُغْرَافِيَّةٍ.
وَتَذْكُرُونَ أَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ الْغَزْوُ الْكَافِرُ عَلَى الْعِرَاقِ وَقَعَ الِاعْتِدَاءُ عَلَى دُورِ كُتُبِهَا الْعَامَّةِ فِي الْجَامِعَاِتِ وَغَيْرِهَا؛ لِإِتْلَافِ الْمَخْطُوطَاتِ، وَتَدْمِيرِ الْكُنُوزِ وَالنَّفَائِسِ فِيهَا؛ لِمَحْوِ هُوِيَّةِ الْأُمَّةِ، لِتَعُودَ أُمَّةً هَمَجِيَّةً، كَأَنَّهَا مَا زَالَتْ تَحْيَا فِي الْعَصْرِ الْحَجَرِيِّ؛ لِكَيْ يَأْتِيَ السَّيِّدُ الْأَبْيَضُ لِيَمُدَّ يَدَهُ كَالْمُنْقِذِ الْمُخَلِّصِ، لِيَأْخُذَ بِأَيْدِي هَؤُلَاءِ التُّعَسَاءِ الْمُتَخَلِّفِينَ لِيُقِيمَهُمْ عَلَى جَادَّةِ الْمَدَنِيَّةِ الْحَدِيثَةِ.
وَيَذْكُرُ قَوْمِي أَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ مَا وَقَعَ مِنَ الِاضْطِرَابِ فِي مِصْرَ خَرَجَتْ خَفَافِيشُ الظَّلَامِ بِحِقْدِهَا تُدَمِّرُ كُلَّ تَلِيدٍ، وَلَوْ أَنَّ الْأَمْرَ اسْتَمَرَّ شَيْئًا مَا لَاعْتُدِيَ عَلَى (دَارِ الْكُتُبِ الْمِصْرِيَّةِ) وَغَيْرِهَا مِمَّا يَحْفَظُ تُرَاثَ الْأُمَّةِ، وَيُحَدِّدُ مَعَالِمَ هُوِيَّتِهَا، ثُمَّ يُنْسَبُ ذَلِكَ بَعْدُ إِلَى اللُّصُوصِ وَالْبَلْطَجِيَّةِ، وَإِنَّمَا هُمُ الْبَلْطَجِيَّةُ الْعَالَمِيُّونَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ وَأْدَ النَّهْضَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ كُلَّمَا اشْرَأَبَّتْ بِعُنُقِهَا فِي دِيَارِ الْإِسْلَامِ بَيْنَ أَهْلِهِ، كُلَّمَا نَبَتَ نَبْتُهَا صَوَّحَتْ بِهِ رِيَاحُ الْفُسُوقِ، تُحِيطُ بِهِ أَعَاصِيرُ الْإِلْحَادِ وَالْكُفْرِ عَلَى أَشْكَالِ مُتَنَوِّعَةٍ وَمِنْهَا الْعَوْلَمَةُ يَا قَوْم، فَتَعَلَّمُوا، وَتَأَمَّلُوا، وَتَفَهَّمُوا، وَإِلَّا فَهُوَ الذَّبْحُ يَا قَوْم!
يَضْمَنُونَ لِأَنْفُسِهِمُ الْبَقَاءَ بِاسْتِمْرَارٍ، وَالْقُدْرَةَ عَلَى التَّنْمِيَةِ بِمَحْوِ الْهُوِيَّةِ، بِإِزَالَةِ مَعَالِمِ الْحُدُودِ الثَّقَافِيَّةِ وَالْعَقَدِيَّةِ وَالْوَطَنِيَّةِ وَالْقَوْمِيَّةِ -لَوْ جَازَ-، يُرَوِّجُونَ لِفَلْسَفَةِ النِّظَامِ الْغَرْبِيِّ الرَّأْسِمَالِيِّ النَّفْعِيِّ الْبِرَاجْمَاتِيِّ.
يَفْرِضُونَ الثَّقَافَةَ الْغَرْبِيَّةَ الْوَافِدَةَ، وَيَجْعَلُونَهَا فِي مَحَلِّ الصَّدَارَةِ وَالْهَيْمَنَةِ.
يَقْهَرُونَ الْهُوِيَّةَ الْإِسْلَامِيَّةَ لِلْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ الْأُخْرَى.
الْمُسْتَهْدَفُ بِالْغَزْوِ الثَّقَافِيِّ فِي الْعَوْلَمَةِ هُمُ الْمُسْلِمُونَ، بِمَا تَمْلِكُهُ بِلَادُهُمْ مِنْ مَوَارِدَ هَائِلَةٍ، وَمَا لَهُمْ مِنْ أُصُولِ دِينِهِمُ الَّذِي يَمْنَعَهُمْ مِنَ الذَّوَبَانِ -إِنْ تَمَسَّكُوا بِهِ- فِي غَيْرِهِمْ؛ لِهُوِيَّتِهِمُ الْإِسْلَامِيَّةِ الْإِيمَانِيَّةِ الَّتِي تَتْبَعُ كِتَابَ اللهِ وَسُنَّةَ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
هَلْ تَخَلَّى الْإِنْجِلِيزُ عَنْ شِكِسْبِير؟!
هَلْ تَخَلَّى الْإِنِجْلِيزُ عَنْ شُوسَار وَمَنْ بَعْدَهُ مِنْ شُعَرَائِهِمْ وَأُدَبَائِهِمْ؟!
هَلْ تَخَلَّى الْفَرَنْسِيُّونَ عَنْ لَا مَارْتِين؟!
هَلْ تَخَلَّى الْإِيطَالِيُّونَ عَنْ فَنِّهِمُ الْقَدِيمِ؟!
هَلْ تَخَلَّتْ هَذِهِ الشُّعُوبُ عَنْ رُمُوزِهَا الْأَدَبِيَّةِ وَالثَّقَافِيَّةِ؟!
هَلْ فَرَّطَتْ فِي لُغَاتِهَا؟!
إِنَّ الْجَامِعَاتِ الْأَمِرِيكِيَّةَ لَا تَكَادُ تَخْلُو مِنْهَا بَلَدٌ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَالْبِلَادِ الْعَرَبِيَّةِ، لِمَاذَا؟!
لِيَنْشُرُوا ثَقَافَتَهُمْ!
إِذَا كَانُوا يَنْشُرُونَ ثِيَابَهُمْ وَأَطْعِمَتَهُمْ، وَيَفْرِضُونَهَا عَلَى الشُّعُوبِ فَرْضًا، فَكَيْفَ بِلُغَتِهِمْ؟!
وَكَذَلِكَ فِي الْجَامِعَاتِ الْفَرَانْكُفُونِيَّةِ الَّتِي تَسْعَى فَرَنْسَا إِلَى إِدْخَالِهَا فِي كُلِّ بَلَدٍ؛ حِفَاظًا عَلَى لُغَتِهِمْ.
لَكِنَّ الْعَرَبَ خَاصَّةً.. وَلَكِنَّ الْمُسْلِمِينَ عَامَّةً يُفَرِّطُونَ فِي لُغَةِ الْقُرْآنِ، فِي لُغَةِ مُحَمَّدٍ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَأَزْكَى السَّلَامِ-، بَلْ إِنَّهُمْ يَحْتَقِرُونَهَا، بَلْ إِنَّهُمْ يَحْتَقِرُونَ مَنْ يَنْتَسِبُ إِلَيْهَا، وَيَجْعَلُونَهَا مُشِيرَةً إِلَى الْبَدَاوَةِ وَإِلَى التَّخَلُّفِ وَالرَّجْعِيَّةِ، وَهِيَ لُغَةُ كِتَابِ اللهِ، وَهِيَ اللُّغَةُ الَّتِي يَنْبَغِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَعْلَمَهَا عِلْمًا صَحِيحًا؛ لِأَنَّهُ لَنْ يَفْهَمَ مُسْلِمٌ مِنْ عَرَبِيٍّ أَوْ أَعْجَمِيٍّ دِينَهُ وَلَنْ يَعْرِفَ مَعَانِيَ كِتَابِ رَبِّهِ وَلَا مَعَانِيَ سُنَّةِ نَبِيِّهِ ﷺ إِلَّا بِمُشَارَكَةٍ جَادَّةٍ فِي مَعْرِفَةِ لُغَةِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَلَكِنَّهَا مُحْتَقَرَةٌ مِنْ أَهْلِهَا ابْتِدَاءً، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَهُونُ عَلَى مَنْ دُونَ أَبْنَائِهَا مِنْ بَابِ أَوْلَى!
هَذَا كُلُّهُ وَصَلَ إِلَيْهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَصَرُّوا وَأَلَحُّوا عَلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ، وَكُنْتُمْ مِنْ أَدَوَاتِهِ الْفَاعِلَةِ؛ لِأَنَّكُمْ لَمْ تَحْرِصُوا عَلَى هُوِيَّتِكُمُ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَتَقَالِيدِكُمُ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي أَقَرَّهَا دِينُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، وَلَكِنْ تَخَلَّيْتُمْ عَنْهَا وَاحْتَقَرْتُمُوهَا، وَاحْتَقَرْتُمْ مَنْ يَتَمَسَّكُ بِهَا، وَمَنْ يَأْخُذُ بِالْهَدْيِ الظَّاهِرِ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنَ الْخَطَايَا الْكُبْرَى الَّتِي يَتَوَرَّطُ فِيهَا الْمُسْلِمُ شَاءَ أَمْ أَبَى.
((التَّفْرِيغُ الثَّقَافِيُّ وَطَمْسُ الْهُوِيَّةِ الْعَرَبِيَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ))
عِبَادَ اللهِ! كُلُّ مَنْ آتَاهُ اللهُ فِطْرَةً سَلِيمَةً، وَحَفِظَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِ فِطْرَتَهُ مِنَ التَّشَوُّهِ وَالْفَسَادِ يَجِدُ هَذَا الْإِحْسَاسَ؛ يُحِسُّ التَّمَزُّقَ بَيْنَ مَاضِيهِ وَمَوْرُوثِهِ، وَعَقِيدَتِهِ وَدِينِهِ، وَإِيمَانِهِ وَيَقِينِهِ، وَمَا يُرَادُ أَنْ يَصِيرَ إِلَيْهِ وَأَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ، كَمَا تَرَى فِي تِلْكَ الْمُسُوخِ الْمُشَوَّهَةِ الَّتِي مَلَأَتِ الْأَصْقَاعَ، وَالَّتِي مَاجَتْ بِهَا الدُّنْيَا، وَفَاضَتْ بِهَا الْحَيَاةُ، وَهِيَ لَا تُغْنِي عَنْ أُمَّتِهَا شَيْئًا، وَهِيَ لَا تَعِي مِنْ مَوْرُوثِهَا وَلَا مِنْ حَضَارَتِهَا شَيْئًا؛ بَلْ إِنَّهَا لَا تَحْمِلُ لِمَوْرُوثِهَا وَلِقَدِيمِهَا وَلِدِينِهَا وَعَقِيدَتِهَا سِوَى الْحِقْدِ، وَسِوَى الِاحْتِقَارِ، وَسِوَى الِازْدِرَاءِ، وَحَدِّثْ عَنْ هَذَا كُلِّهِ وَلَا حَرَجَ!
قِصَّةٌ دَامِيَةٌ..
قِصَّةٌ حَزِينَةٌ..
قِصَّةٌ مُفْجِعَةٌ..
وَلَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يُطْوَى الْقَلْبُ عَلَى أَحْزَانِهِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَسْتَقِرَّ فِي الْكَبِدِ النَّصْلُ الْمَسْمُومُ مَغْرُوزًا فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَحَرُّكٍ؛ حَتَّى يَرَى الْمَرْءُ طَرِيقَهُ، وَحَتَّى تَسْتَقِيمَ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ قَدَمَاهُ؛ وَإِلَّا فَهُوَ وَاقِعٌ فِي حَيْرَةٍ مُطْبِقَةٍ، وَفِي ظُلْمَةٍ عَاتِيَةٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ فِيهَا لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا، ثُمَّ هُوَ مُسْتَلَبٌ مُغَيَّبٌ، ثُمَّ هُوَ مُفَرَّغٌ مَمْلُوءٌ فِي آنٍ!
مُفَرَّغٌ مِنْ مَاضِيهِ!
مِنْ تُرَاثِهِ!
مِنَ انْتِمَائِهِ!
مِنْ حَضَارَتِهِ!
مِنْ قَدِيمِهِ!
مِنْ تُرَاثِ أَجْدَادِهِ وَآبَائِهِ!
وَمَمْلُوءٌ بِتِلْكَ النِّفَايَاتِ الَّتِي وَقَعَتْ فِي قَلْبِهِ، وَاسْتَقَرَّتْ فِي ضَمِيرِهِ وَنَفْسِهِ؛ مِنْ تِلْكَ الْمَدَنِيَّةِ الْفَاجِرَةِ الْعَاهِرَةِ الَّتِي مَاجَتْ بِهَا دِيَارُ الْغَرْبِ، وَالَّتِي لَمْ تَسْمُ بِقِيمَةٍ وَلَمْ تَرْتَفِعْ بِمِثَالٍ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا مُشَارَكَةٌ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالرُّوحِ وَالْقَلْبِ وَالضَّمِيرِ، وَإِنَّمَا هِيَ مَادِّيَّةٌ مُتَبَرِّجَةٌ، وَإِنَّمَا هِيَ عَاهِرَةٌ سَافِرَةٌ، تَتَكَالَبُ عَلَى الْمَلَذَّاتِ، مُرِيقَةٌ لِلدِّمَاءِ، لَيْسَ لَهَا مُشَارَكَةٌ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالسَّمَاءِ، مِنَ الِاتِّصَالِ الَّتِي تَسْعَى إِلَيْهِ الرُّوحُ، وَالَّذِي يَهْفُو إِلَيْهِ الضَّمِيرُ، وَالَّذِي لَا يَعِيشُ الْإِنْسَانُ إِنْسَانًا حَقِيقِيًّا إِلَّا بِهِ؛ بِجُوعٍ بَاطِنٍ إِلَى اتِّصَالِهِ بِرَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَتَلَقِّي وَحْيِهِ الَّذِي يُصَافِحُ فِطْرَتَهُ بِفِطْرَتِهِ؛ إِذْ هُوَ الْفِطْرَةُ مُصَفَّاةٌ مِنْ كُلِّ شَوْبٍ، مُبَرَّأَةٌ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ.
قِصَّةُ الْمُعَانَاةِ..
قِصَّةُ الْآلَامِ..
رِحْلَةُ الْأَحْزَانِ عَانَاهَا عَلَى نَحْوٍ مِنَ الْأَنْحَاءِ -يُعَبِّرُ عَنْهَا أَوْ لَا يَمْلِكُ عَنْهَا تَعْبِيرًا- كُلُّ عَرَبِيٍّ صَمِيمٍ، وَكُلُّ مُسْلِمٍ أَصِيلٍ، وَكُلُّ مُنْتَمٍ إِلَى ثَقَافَتِهِ، وَتُرَاثِهِ، وَمَوْرُوثِهِ، وَآبَائِهِ، وَدِينِهِ، وَإِيمَانِهِ، وَيَقِينِهِ.
وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتُلِبُوا وَفُرِّغُوا وَمُلِئُوا؛ فَهَؤُلَاءِ يَمْلَئُونَ الشَّوَارِعَ وَالْأَصْقَاعَ، وَتَمُوجُ بِهِمُ النَّوَاحِي وَالْأَقْطَارُ، وَهُمُ الْغُثَاءُ الَّذِي ذَكَرَهُ الرَّسُولُ ﷺ فِي حَدِيثِهِ: ((فِي قُلُوبِهِمُ الْوَهْنُ))، وَبَادِيَةٌ عَلَى أَسَارِيرِ وُجُوهِهِمْ مَذَلَّةٌ حَاضِرَةٌ وَاسْتِخْذَاءٌ ذَمِيمٌ، وَهُمْ تَبَعٌ لِكُلِّ نَاعِقٍ فِي كُلِّ سَبِيلٍ.
لَمْ يَحْدُثْ فِي أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ مَا حَدَثَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ!!
الْأُمَمُ كُلُّهَا إِذَا أَرَادَتْ أَنْ تَرْتَقِيَ بَنَتْ عَلَى قَدِيمِهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا قَدِيمٌ بَحَثَتْ عَنْ قَدِيمٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الثَّقَافَةَ الْأُورُبِّيَّةَ إِنَّمَا تَنْتَمِي فِي النِّهَايَةِ إِلَى الْحَضَارَةِ الْيُونَانِيَّةِ الْإِغْرِيقِيَّةِ أَوِ الرُّومَانِيَّةِ.
هُمْ يَعُودُونَ إِلَى ذَلِكَ، وَيَتَمَسَّكُونَ بِهِ تَمَسُّكَهُمْ بِالْحَيَاةِ!
لَمْ يَحْدُثْ فِي أُمَّةٍ قَطُّ أَنْ تَخَلَّتْ عَنْ تُرَاثِهَا جُمْلَةً، وَأَنْ تَنَكَرَّتْ لِمَوْرُوثِهَا وَقَدِيمِهَا عَامَّةً كَمَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ؛ لِذَلِكَ تَرَى تِلْكَ الْمُسُوخَ الْمُشَوَّهَةَ أَسَاتِذَةً فِي أَقْسَامِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ بِكُلِّيَّاتِ الْآدَابِ، فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ فِي دَارِ الْعُلُومِ وَغَيْرِهَا؛ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ أُسْتَاذٌ فِي الْأَدَبِ الْعَرَبِيِّ وَهُوَ لَا يُحْسِنُ أَنْ يَقْرَأَ أَبْيَاتًا مِنَ الشِّعْرِ الْقَدِيمِ وَلَا مِنَ الشِّعْرِ الْوَسِيطِ، وَرُبَّمَا وَلَا مِنَ الشِّعْرِ الْحَدِيثِ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْشِئَ رِسَالَةً فِيهَا ذَرْوٌ مِنْ بَلَاغَةٍ، وَلَا أَنْ يَتَكَلَّمَ جُمْلَةً تَسْتَقِيمُ عَلَى الْمَنْهَجِ الصَّحِيحِ بِقَانُونِ الْعَرَبِيَّةِ!!
فَمَا تَقُولُ فِي أُولَئِكَ الطُّلَّابِ وَأَسَاتِذَتِهِمْ؛ مُفَرَّغُونَ تَمَامًا مِنْ ثَقَافَتِنَا، وَمِنْ تَارِيخِنَا، وَمِنْ أَدَبِنَا، وَمِنْ مَوْرُوثِنَا؟!!
((تَعْزِيزُ الْهُوِيَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ سَبِيلُ صِنَاعَةِ الْحَضَارَةِ))
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! لَا مَجَالَ لِلْمُقَارَنَةِ بَيْنَ الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ وَالْعَالَمِ الْغَرْبِيِّ؛ فَإِنَّ أُورُبَّا عِنْدَمَا حَكَمَتْ بِالدِّينِ كَانَ التَّخَلُّفُ وَالْجُمُودُ وَكَانَتِ الرَّجْعِيَّةُ، وَلَيْسَ هُنَاكَ مَا يُقَالُ لَهُ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ حَضَارَةٌ مَسِيحِيَّةٌ؛ لِأَنَّ النَّصْرَانِيَّةَ عِنْدَمَا حَكَمَتِ الْغَرْبَ كَانَ التَّخَلُّفُ، وَكَانَ التَّرَاجُعُ، فَلَمَّا صَارَتْ عَلْمَانِيَّةً لَا دِينِيَّةً جَاءَتِ الْمَدَنِيَّةُ وَجَاءَ التَّقَدُّمُ.
أَمَّا نَحْنُ الْمُسْلِمِينَ فَعِنْدَمَا حَكَمْنَا بِالْإِسْلَامِ وَحَكَّمْنَاهُ، وَسَاسَتْنَا الشَّرِيعَةُ؛ كُنَّا سَادَةَ الْعَالَمِ، وَأَئِمَّةَ الْعَالَمِينَ، وَقَادَةَ الدُّنْيَا، وَلَمْ نَتَخَلَّفْ وَلَمْ نَتَرَاجَعْ، وَإِنَّمَا تَخَلَّفْنَا وَتَرَاجَعْنَا بَعْدَ أَنْ تَرَاجَعَتِ الشَّرِيعَةُ عَنِ الْحُكْمِ.
فَلَا مَجَالَ لِلْمُقَارَنَةِ بَيْنَ الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ وَالْعَالَمِ الْغَرْبِيِّ.
إِنَّ اللهَ -رَحِمَهُ اللهُ- قَدْ أَعَزَّنَا بِهَذَا الدِّينِ، فَمَهْمَا طَلَبْنَا الْعِزَّ فِي غَيْرِهِ أَذَلَّنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
((أَدَاءُ أَمَانَةِ الْعِلْمِ وَالْقَلَمِ))
عِبَادَ اللهِ! إِنِّي أَرْجُو أَنْ أَكُونَ قَدْ أَدَّيْتُ بَعْضَ أَمَانَةِ الْقَلَمِ، وَبَعْضَ أَمَانَةِ الْعِلْمِ، وَعَسَى أَنْ أَكُونَ قَدْ بَلَغْتُ مَبْلَغًا يُرْضِي اللهَ وَرَسُولَهُ فِي اتِّبَاعِ أَمْرِهِ؛ إِذْ قَالَ ﷺ: ((أَلَا لَا يَمْنَعَنَّ رَجُلًا هَيْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إِذَا عَلِمَهُ)).
أَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَرْحَمَ الْمُسْلِمِينَ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، وَأَنْ يُهَيِّئَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ أَمْرَ رُشْدٍ، وَأَنْ يَجْمَعَ أَبْنَاءَهَا عَلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ عَلَى كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ ﷺ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ؛ إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
المصدر: تَعْزِيزُ الْهُوِيَّةِ وَدَوْرُهَا فِي صِنَاعَةِ الْحَضَارَةِ