((الْحَالُ أَبْلَغُ مِنَ الْمَقَالِ))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((التَّوَازُنُ بَيْنَ الْقُوَّتَيْنِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ))
فَإِنَّ ثَمَرَةَ الْعِلْمِ الْعَمَلُ، وَكُلُّ عِلْمٍ لَا يُثْمِرُ عَمَلًا -فِي الْقَلْبِ أَوِ الْجَوَارِحِ- فَهُوَ عِلْمٌ يُلْزِمُ صَاحِبَهُ الْحُجَّةَ أَمَامَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.
قَالَ الذَّهَبِيُّ فِي ((تَارِيخِ الْإِسْلَامِ)): ((قَالَ أَبُو قِلَابَةَ لِأَيُّوبَ: يَا أَيُّوبُ! إِذَا أَحْدَثَ اللهُ لَكَ عِلْمًا فَأَحْدِثْ لَهُ عِبَادَةً، وَلَا يَكُنْ هَمُّكَ أَنْ تُحَدِّثَ بِهِ النَّاسَ)).
وَإِنَّمَا الْعَالِمُ مَنْ فَارَقَ الْجُهَّالَ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ جَمِيعًا، فَإِنْ فَارَقَهُمْ فِي الْعِلْمِ وَشَارَكَهُمْ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْعَمَلِ؛ فَقَدْ شَارَكَهُمْ لَوْنَ مُشَارَكَةٍ ظَاهِرَةٍ، وَفَارَقَهُمْ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ وَجَوْهَرِ الْمَوْضُوعِ.
وَمَا مَدَحَ الشَّارِعُ الْعِلْمَ بِمَا مَدَحَهُ بِهِ إِلَّا لِكَوْنِهِ طَرِيقًا مُسْتَقِيمًا يُفْضِي إِلَى أَوْدِيَةٍ مِنَ الْعَمَلِ الدَّائِبِ وَالْجِدِّ الْحَرِيصِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ مَطِيَّةُ السَّيْرِ إِلَى اللهِ -تَعَالَى-، وَالسَّائِرُ إِلَى اللهِ -تَعَالَى- لَا يَكْفِيهِ أَنْ يَحُوزَ الْقُوَّةَ الْعِلْمِيَّةَ جَمْعًا وَتَحْصِيلًا كَيْ يَفُوزَ بِالنَّجَاةِ وَيَسْعَدَ بِالْفَوْزِ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ تَتَآزَرَ لَدَيْهِ الْقُوَّةُ الْعِلْمِيَّةُ وَالْقُوَّةُ الْعَمَلِيَّةُ حَتَّى يَكُونَ سَيْرُهُ إِلَى اللهِ -تَعَالَى- مُثْمِرًا، بَلْ حَتَّى يَكُونَ إِلَى اللهِ -تَعَالَى- سَائِرًا.
وَعَنْ حَاجَةِ السَّائِرِ إِلَى اللهِ -تَعَالَى- إِلَى الْقُوَّةِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ جَمِيعًا يَقُولُ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّم -رَحِمَهُ اللهُ-: ((السَّائِرُ إِلَى اللهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ، بَلْ كُلُّ سَائِرٍ إِلَى مَقْصِدٍ لَا يَتِمُّ سَيْرُهُ وَلَا يَصِلُ إِلَى مَقْصُودِهِ إِلَّا بِقُوَّتَيْنِ: قُوَّةٍ عِلْمِيَّةٍ، وَقُوَّةٍ عَمَلِيَّةٍ.
فَبِالْقُوَّةِ الْعِلْمِيَّةِ يُبْصِرُ مَنَازِلَ الطَّرِيقِ وَمَوَاضِعَ السُّلُوكِ؛ فَيَقْصِدُهَا سَائِرًا فِيهَا، وَيَجْتَنِبُ أَسْبَابَ الْهَلَاكِ وَمَوَاضِعَ الْعَطَبِ وَطُرُقَ الْمَهَالِكِ الْمُنْحَرِفَةِ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُوَصِّلِ؛ فَقُوَّتُهُ الْعِلْمِيَّةُ كَنُورٍ عَظِيمٍ بِيَدِهِ، يَمْشِي بِهِ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ شَدِيدَةِ الظُّلْمَةِ، فَهُوَ يُبْصِرُ بِذَلِكَ النُّورِ مَا يَقَعُ الْمَاشِي فِي الظُّلْمَةِ فِي مِثْلِهِ مِنَ الْوِهَادِ وَالْمَتَالِفِ، وَيَعْثُرُ بِهِ مِنَ الْأَحْجَارِ وَالشَّوْكِ وَغَيْرِهِ، وَيُبْصِرُ بِذَلِكَ النُّورِ أَيْضًا أَعْلَامَ الطَّرِيقِ وَأَدِلَّتَهَا الْمَنْصُوبَةَ عَلَيْهَا فَلَا يَضِلُّ عَنْهَا، فَيَكْشِفُ لَهُ النُّورُ عَنِ الْأَمْرَيْنِ: أَعْلَامِ الطَّرِيقِ، وَمَعَاطِبِهَا.
وَبِالْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ يَسِيرُ حَقِيقَةً، بَلِ السَّيْرُ هُوَ حَقِيقَةُ الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ، فَإِنَّ السَّيْرَ هُوَ عَمَلُ الْمُسَافِرِ.
وَكَذَلِكَ السَّائِرُ إِلَى رَبِّهِ إِذَا أَبْصَرَ الطَّرِيقَ وَأَعْلَامَهَا وَأَبْصَرَ الْمَعَاثِرَ وَالْوِهَادَ وَالطُّرُقَ النَّاكِبَةَ عَنْهَا، فَقَدْ حَصَلَ لَهُ شَطْرُ السَّعَادَةِ وَالْفَلَاحِ، وَبَقِيَ عَلَيْهِ الشَّطْرُ الْآخَرُ، وَهُوَ: أَنْ يَضَعَ عَصَاهُ عَلَى عَاتِقِهِ وَيُشَمِّرَ مُسَافِرًا فِي الطَّرِيقِ قَاطِعًا مَنَازِلَهَا مَنْزِلَةً بَعْدَ مَنْزِلَةٍ.
فَكُلَّمَا قَطَعَ مَرْحَلَةً اسْتَعَدَّ لِقَطْعِ الْأُخْرَى، وَاسْتَشْعَرَ الْقُرْبَ مِنَ الْمَنْزِلِ فَهَانَتْ عَلَيْهِ مَشَقَّةُ السَّفَرِ.
وَكُلَّمَا سَكَنَتْ نَفْسُهُ مِنْ كَلَالِ السَّيْرِ وَمُوَاصَلَةِ الشَّدِّ وَالرَّحِيلِ وَعَدَهَا قُرْبَ التَّلَاقِي، وَبَرْدَ الْعَيْشِ عِنْدَ الْوُصُولِ، فَيُحْدِثُ لَهَا ذَلِكَ نَشَاطًا وَفَرَحًا وَهِمَّةً، فَهُوَ يَقُولُ: يَا نَفْسُ! أَبْشِرِي فَقَدْ قَرُبَ الْمَنْزِلُ، وَدَنَا التَّلَاقِي، فَلَا تَنْقَطِعِي فِي الطَّرِيقِ دُونَ الْوُصُولِ فَيُحَالَ بَيْنَكِ وَبَيْنَ مَنَازِلِ الْأَحِبَّةِ، فَإِنْ صَبَرْتِ وَوَاصَلْتِ الْمَسْرَى وَصَلْتِ حَمِيدَةً مَسْرُورَةً جَذْلَةً، وَتَلَقَّتْكَ الْأَحِبَّةُ بِأَنْوَاعِ التُّحَفِ وَالْكَرَامَاتِ، وَلَيْسَ بَيْنَكِ وَبَيْنَ ذَلِكَ إِلَّا صَبْرُ سَاعَةٍ، فَإِنَّ الدُّنْيَا كُلَّهَا كَسَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ الْآخِرَةِ، وَعُمْرُكِ دَرَجَةٌ مِنْ دَرَجِ تِلْكَ السَّاعَةِ؛ فَاللهَ اللهَ لَا تَنْقَطِعِي فِي الْمَفَازَةِ، فَهُوَ وَاللهِ الْهَلَاكُ وَالْعَطَبُ لَوْ كُنْتِ تَعْلَمِينَ.
فَإِنِ اسْتَصْعَبَتْ عَلَيْهِ فَلْيُذَكِّرْهَا مَا أَمَامَهَا مِنْ أَحِبَّائِهَا، وَمَا لَدَيْهِمْ مِنَ الْإِكْرَامِ وَالْإِنْعَامِ، وَمَا خَلْفَهَا مِنْ أَعْدَائِهَا وَمَا لَدَيْهِمْ مِنَ الْإِهَانَةِ وَالْعَذَابِ وَأَنْوَاعِ الْبَلَاءِ، فَإِنْ رَجَعَتْ فَإِلَى أَعْدَائِهَا رُجُوعُهَا، وَإِنْ تَقَدَّمَتْ فَإِلَى أَحِبَّائِهَا مَصِيرُهَا، وَإِنْ وَقَفَتْ فِي طَرِيقِهَا أَدْرَكَهَا أَعْدَاؤُهَا، فَإِنَّهُمْ وَرَاءَهَا فِي الطَّلَبِ.
وَلَابُدَّ لَهَا مِنْ قِسْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ فَلْتَخْتَرْ أَيَّهَا شَاءَتْ، وَلْيَجْعَلْ حَدِيثَ الْأَحِبَّةِ حَادِيَهَا وَسَائِقَهَا، وَنُورَ مَعْرِفَتِهِمْ وَإِرْشَادِهِمْ هَادِيَها وَدَلِيلَهَا، وَصِدْقَ وِدَادِهِمْ وَحُبِّهِمْ غِذَاءَهَا وَشَرَابَهَا وَدَوَاءَهَا.
وَلَا يُوحِشُهُ انْفِرَادُهُ فِي طَرِيقِ سَفَرِهِ، وَلَا يَغْتَرُّ بِكَثْرَةِ الْمُنْقَطِعِينَ، فَأَلَمُ انْقِطَاعِهِ وَبُعَادِهِ وَاصِلٌ إِلَيْهِ دُونَهُمْ، وَحَظُّهُ مِنَ الْقُرْبِ وَالْكَرَامَةِ مُخْتَصٌّ بِهِ دُونَهُمْ، فَمَا مَعْنَى الِاشْتِغَالِ بِهِمْ وَالِانْقِطَاعِ مَعَهُمْ؟
وَلْيَعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوَحْشَةَ لَا تَدُومُ، بَلْ هِيَ مِنْ عَوَارِضِ الطَّرِيقِ، فَسَوْفَ تَبْدُو لَهُ الْخِيَامُ، وَسَوْفَ يَخْرُجُ إِلَيْهِ الْمُتَلَقُّونَ يُهَنِّئُونَهُ بِالسَّلَامَةِ وَالْوُصُولِ إِلَيْهِمْ، فَيَا قُرَّةَ عَيْنِهِ إِذْ ذَاكَ، وَيَا فَرْحَتَهُ إِذْ يَقُولُ: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:26-27].
وَلَا يَسْتَوْحِشُ مِمَّا يَجِدُهُ مِنْ كَثَافَةِ الطَّبْعِ وَذَوْبِ النَّفْسِ وَبُطْءِ سَيْرِهَا، فَكُلَّمَا أَدْمَنَ عَلَى السَّيْرِ وَوَاظَبَ عَلَيْهِ غُدُوًّا وَرَوَاحًا وَسَحَرًا قَرُبَ مِنَ الدَّارِ، وَتَلَطَّفَتْ تِلْكَ الْكَثَافَةُ وَذَابَتْ تِلْكَ الْخَبَائِثُ وَالْأَدْرَانُ، فَظَهَرَتْ عَلَيْهِ هِمَّةُ الْمُسَافِرِينَ وَسِيمَاهُمْ فَتَبَدَّلَتْ وَحْشَتُهُ أُنْسًا، وَكَثَافَتُهُ لَطَافَةً، وَدَرَنُهُ طَهَارَةً)).
فَاسْتِكْمَالُ الْعَبْدِ لِقُوَّتَيْهِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ هُمَا جَنَاحَا سَيْرِهِ إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ مَهْمَا تَخَلَّفَ مِنْهُمَا وَاحِدٌ فَقَدْ تَخَلَّفَ سَيْرُهُ إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ بِحَسَبِهِ، وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَهُ اللهُ، وَمَا كُلُّ النَّاسِ بِمُسْتَكْمِلٍ مَا أَحَبَّ أَنْ يَسْتَكْمِلَ، لِذَلِكَ انْقَسَمَ النَّاسُ إِلَى سَابِقٍ مُقَرَّبٍ، وَمُقْتَصِدٍ فِي الْخَيْرَاتِ، وَظَالِمٍ لِنَفْسِهِ.
كُلَّمَا كَانَتِ الرُّتْبَةُ فِي الْعِلْمِ عَالِيَةً، كَانَتِ الْمُؤَاخَذَةُ عَلَى فُقْدَانِ الْعَمَلِ شَدِيدَةً وَصَارِمَةً.
وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْعَظِيمَةِ فِي الدِّينِ، وَهِيَ تُلْزِمُ كُلَّ مَنْ عَلِمَ أَنْ يَعْمَلَ وَلَا يَتَوَانَى فِي الْعَمَلِ، وَتَقْضِي بِأَنَّ الَّذِينَ يَفْصِلُونَ الْعِلْمَ عَنِ الْعَمَلِ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ، وَإِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ، هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ، وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ.
((الْحَالُ أَبْلَغُ مِنَ الْمَقَالِ))
إِنَّ الدَّلِيلَ بِالْفِعْلِ أَرْشَدُ مِنَ الدَّلِيلِ بِالْقَوْلِ؛ فَمَا أَرْسَلَ اللهُ -تَعَالَى- رَسُولًا وَلَا بَعَثَ نَبِيًّا إِلَّا وَهُوَ قُدْوَةٌ سُلُوكِيَّةٌ يُجَسِّدُ لِلْمَدْعُوِّينَ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَحَمِيدِ الْخِصَالِ وَكَرِيمِ الْخِلَالِ، وَحَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ.
وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَعْظَمَ الْخَلْقِ اتِّبَاعًا لِأَمْرِ رَبِّهِ، وَاجْتِنَابًا لِنَهْيِهِ، وَقَدْ كَانَ ﷺ يُجَسِّدُ الدِّينَ تَجْسِيدًا، فَمَا أَمَرَ بِشَيْءٍ إِلَّا وَكَانَ أَوَّلَ النَّاسِ إِتْيَانًا لَهُ، وَلَا نَهَى عَنْ شَيْءٍ إِلَّا كَانَ أَوَّلَ النَّاسِ انْتِهَاءً عَنْهُ، وَأَبْعَدَ النَّاس عَنْهُ -فَصَلَّى اللهُ -تَعَالَى- وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ-.
وَالنَّاسُ إِلَى الِاقْتِدَاءِ بِالْعَمَلِ أَحْوَجُ مِنْهُمْ إِلَى اسْتِمَاعِ الْقَوْلِ، وَقَدِيمًا قِيلَ: ((فِعْلُ رَجُلٍ أَنْفَعُ لِأَلْفِ رَجُلٍ مِنْ كَلَامِ أَلْفِ رَجُلٍ لِرَجُلٍ)).
فَالدَّلِيلُ بِالْفِعْلِ أَرْشَدُ مِنَ الدَّلِيلِ بِالْقَوْلِ، وَهُوَ دَرْسٌ تَعَلَّمَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَهُوَ بَعْدُ حَدَثٌ صَغِيرٌ، فَكَانَ أَفْعَلَ فِي نَفْسِهِ مِنَ السِّحْرِ، وَأَجْدَى عَلَيْهِ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْقَوْلِ، ثُمَّ هَا هُوَ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَيُرْشِدُ إِلَيْهِ فَيَقُولُ: ((لَقِيتُ مَشَايِخَ أَحْوَالُهُمْ مُخْتَلِفَةٌ، يَتَفَاوَتُونَ فِي مَقَادِيرِهِمْ فِي الْعِلْمِ، وَكَانَ أَنْفَعَهُمْ لِي فِي صُحْبَتِهِ الْعَامِلُ مِنْهُمْ بِعِلْمِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَعْلَمَ مِنْهُ.
وَلَقِيتُ جَمَاعَةً مِنْ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ يَحْفَظُونَ وَيَعْرِفُونَ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يَتَسَامَحُونَ بِغِيبَةٍ يُخْرِجُونَهَا مَخْرَجَ جَرْحٍ وَتَعْدِيلٍ، وَيَأْخُذُونَ عَلَى قِرَاءَةِ الْحَدِيثِ أُجْرَةً، وَيُسْرِعُونَ بِالْجَوَابِ لِئَلَّا يَنْكَسِرَ الْجَاهُ، وَإِنْ وَقَعَ الْخَطَأُ.
وَلَقِيتُ عَبْدَ الْوَهَّابِ الْأَنْمَاطِيَّ، فَكَانَ عَلَى قَانُونِ السَّلَفِ لَمْ يُسْمَعْ فِي مَجْلِسِهِ غِيبَةٌ وَلَا كَانَ يَطْلُبُ أَجْرًا عَلَى سَمَاعِ الْحَدِيثِ، وَكُنْتُ إِذَا قَرَأْتُ عَلَيْهِ أَحَادِيثَ الرَّقَائِقِ بَكَى، وَاتَّصَلَ بُكَاؤُهُ.
فَكَانَ -وَأَنَا صَغِيرُ السِّنِّ حِينَئِذٍ- يَعْمَلُ بُكَاؤُهُ فِي قَلْبِي، وَيَبْنِي قَوَاعِدَ، وَكَانَ عَلَى سَمْتِ الْمَشَايِخِ الَّذِينَ سَمِعْنَا أَوْصَافَهُمْ فِي النَّقْلِ.
وَلَقِيتُ الشَّيْخَ أَبَا مَنْصُورٍ الْجَوَالِيقِيَّ، فَكَانَ كَثِيرَ الصَّمْتِ، شَدِيدَ التَّحَرِّي فِيمَا يَقُولُ، مُتْقِنًا مُحَقِّقًا، وَرُبَّمَا سُئِلَ الْمَسْأَلَةَ الظَّاهِرَةَ الَّتِي يُبَادِرُ بِجَوَابِهَا بَعْضُ غِلْمَانِهِ، فَيَتَوَقَّفُ فِيهَا حَتَّى يَتَيَقَّنَ.
وَكَانَ كَثِيرَ الصَّوْمِ وَالصَّمْتِ، فَانْتَفَعْتُ بِرُؤْيَةِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ أَكْثَرَ مِنَ انْتِفَاعِي بِغَيْرِهِمَا.
فَفَهِمْتُ مِنْ هَذِهِ الْحَالَةِ أَنَّ الدَّلِيلَ بِالْفِعْلِ أَرْشَدُ مِنَ الدَّلِيلِ بِالْقَوْلِ.
وَرَأَيْتُ مَشَايِخَ كَانَتْ لَهُمْ خَلَوَاتٌ فِي انْبِسَاطٍ وَمُزَاحٍ، فَرَاحُوا عَنِ الْقُلُوبِ، وَبَدَّدَ تَفْرِيطُهُمْ مَا جَمَعُوا مِنَ الْعِلْمِ، فَقَلَّ الِانْتِفَاعُ بِهِمْ فِي حَيَاتِهِمْ، وَنُسُوا بَعْدَ مَمَاتِهِمْ، فَلَا يَكَادُ أَحَدٌ أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَى مُصَنَّفَاتِهِمْ، فَاللَّـهَ اللَّـهَ فِي الْعَمَلِ بِالْعِلْمِ، فَإِنَّهُ الْأَصْلُ الْأَكْبَرُ.
وَالْمِسْكِينُ كُلُّ الْمِسْكِينِ مَنْ ضَاعَ عُمُرُهُ فِي عِلْمٍ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ، فَفَاتَتْهُ لَذَّاتُ الدُّنْيَا وَخَيْرَاتُ الْآخِرَةِ، فَقَدِمَ مُفْلِسًا مَعَ قُوَّةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ)).
((الْعَمَلُ ثَمَرَةُ الْعِلْمِ))
الْعَمَلُ مِنْ مَرَاتِبِ الْعِلْمِ، وَهُوَ ثَمَرَتُهُ:
جَعَلَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- الْعَمَلَ مَرْتَبَةً مِنْ مَرَاتِبِ الْعِلْمِ، وَجَعَلَ عَدَمَ الْعَمَلِ بِالْعِلْمِ مُوجِبًا لِلْحِرْمَانِ مِنْهُ، فَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ- عِنْدَ قَوْلِهِ -تَعَالَى-: {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37]:
((لِلْعِلْمِ سِتُّ مَرَاتِبَ:
أَوَّلُهَا: حُسْنُ السُّؤَالِ.
الثَّانِيَةُ: حُسْنُ الْإِنْصَاتِ وَالِاسْتِمَاعِ.
الثَّالِثَةُ: حُسْنُ الْفَهْمِ.
الرَّابِعَةُ: الْحِفْظُ.
الْخَامِسَةُ: التَّعْلِيمُ.
السَّادِسَةُ: وَهِيَ ثَمَرَتُهُ، وَهِيَ الْعَمَلُ بِهِ، وَمُرَاعَاةُ حُدُودِهِ.
فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُحْرَمُهُ لِعَدَمِ حُسْنِ سُؤَالِهِ؛ إِمَّا أَنَّهُ لَا يَسْأَلُ بِحَالٍ، أَوْ يَسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ وَغَيْرُهُ أَهَمُّ مِنْهُ؛ كَمَنْ يَسْأَلُ عَنْ فُضُولِهِ الَّتِي لَا يَضُرُّ جَهْلُهُ بِهَا، وَيَدَعُ مَا لَا غِنَى لَهُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ، وَهَذِهِ حَالُ كَثِيرٍ مِنَ الْجُهَّالِ الْمُتَعَلِّمِينَ.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُحْرَمُهُ لِسُوءِ إِنْصَاتِهِ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ وَالْمُمَارَاةُ آثَرَ عِنْدَهُ وَأَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الْإِنْصَاتِ؛ وَهَذِهِ آفَةٌ كَامِنَةٌ فِي أَكْثَرِ النُّفُوسِ الطَّالِبَةِ لِلْعِلْمِ، وَهِيَ تَمْنَعُهُمْ عِلْمًا كَثِيرًا، وَلَوْ كَانَ حَسَنَ الْفَهْمِ..
وَالْمَقْصُودُ: بَيَانُ حِرْمَانِ الْعِلْمِ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ السِّتَّةِ:
أَحَدُهَا: تَرْكُ السُّؤَالِ.
الثَّانِي: سُوءُ الْإِنْصَاتِ وَعَدَمُ إِلْقَاءِ السَّمْعِ.
الثَّالِثُ: سُوءُ الْفَهْمِ.
الرَّابِعُ: عَدَمُ الْحِفْظِ.
الْخَامِسُ: عَدَمُ نَشْرِهِ وَتَعْلِيمِهِ؛ فَإِنَّ مَنْ خَزَنَ عِلْمَهُ وَلَمْ يَنْشُرْهُ وَلَمْ يُعَلِّمْهُ ابْتَلَاهُ اللهُ بِنِسْيَانِهِ وَذَهَابِهِ مِنْهُ، جَزَاءً مِنْ جِنْسِ عَمَلِهِ، وَهَذَا أَمْرٌ يَشْهَدُ بِهِ الْحِسُّ وَالْوُجُودُ.
السَّادِسُ: عَدَمُ الْعَمَلِ بِهِ؛ فَإِنَّ الْعَمَلَ بِهِ يُوجِبُ تَذكُّرَهُ وَتَدَبُّرهُ وَمُرَاعَاتَهُ وَالنَّظَرَ فِيهِ، فَإِذَا أَهْمَلَ الْعَمَلَ بِهِ نَسِيَهُ.
قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: كُنَّا نَسْتَعِينُ عَلَى حِفْظِ الْعِلْمِ بِالْعَمَلِ بِهِ.
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ -أَيْضًا-: الْعِلْمُ يَهْتِفُ بِالْعَمَلِ، فَإِنْ أَجَابَهُ حَلَّ وَإِلَّا ارْتَحَل.
فَالْعَمَلُ بِهِ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ حِفْظِهِ وَثَبَاتِهِ، وَتَرْكُ الْعَمَلِ بِهِ إِضَاعَةٌ لَهُ.
فَمَا اسْتُدِرَّ الْعِلْمُ وَلَا اسْتُجْلِبَ بِمِثْلِ الْعَمَلِ؛ قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الحديد: 28].
أَلَا إِنَّ ثَمَرَةَ الْعَمَلِ بِالْعِلْمِ لَعَظِيمَةُ الْقَدْرِ، جَلِيلَةُ الْمِقْدَارِ.
وَلَقَدْ عَدَّ عُلَمَاؤُنَا الْعِلْمَ الْمَمْدُوحَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْمُعْتَبَرَ شَرْعًا هُوَ مَا أَثْمَرَ عَمَلًا، وَأَمَّا مَا لَمْ يُثْمِرْ عَمَلًا فَلَيْسَ بِعِلْمٍ عِنْدَهُمْ.
قَالَ الشَّاطِبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الْعِلْمُ الَّذِي هُوَ الْعِلْمُ الْمعْتَبَرُ شَرْعًا -أَعْنِي: الَّذِي مَدَحَ اللهُ وَرَسُولُهُ ﷺ أَهْلَهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ- هُوَ الْعِلْمُ الْبَاعِثُ عَلَى الْعَمَلِ، الَّذِي لَا يُخَلِّي صَاحِبَهُ جَارِيًا مَعَ هَوَاهُ كَيْفَمَا كَانَ، بَلْ هُوَ الْمُقَيِّدُ لِصَاحِبِهِ بِمُقْتَضَاهُ، الْحَامِلُ لَهُ عَلَى قَوَانِينِهِ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا.
وَمَعْنَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ فِي طَلَبِهِ وَتَحْصِيلِهِ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ:
* الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: الطَّالِبُونَ لَهُ وَلَمَّا يَحْصُلُوا عَلَى كَمَالِهِ بَعْدُ، وَإِنَّمَا هُمْ فِي طَلَبِهِ فِي رُتْبَةِ التَّقْلِيدِ، فَهَؤُلَاءِ إِذَا دَخَلُوا فِي الْعَمَلِ بِهِ؛ فَبِمُقْتَضَى الْحَمْلِ التَّكْلِيفِيِّ، وَالْحَثِّ التَّرْغِيبِيِّ وَالتَّرْهِيبِيِّ، وَعَلَى مِقْدَارِ شِدَّةِ التَّصْدِيقِ يَخِفُّ ثِقَلُ التَّكْلِيفِ، فَلَا يَكْتَفِي الْعِلْمُ هَاهُنَا بِالْحَمْلِ دُونَ أَمْرٍ آخَرَ خَارِجَ مَقُولِهِ، مِنْ زَجْرٍ أَوْ قِصَاصٍ، أَوْ حَدٍّ، أَوْ تَعْزِيرٍ، أَوْ مَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى، وَلَا احْتِيَاجَ هَاهُنَا إِلَى إِقَامَةِ بُرْهَانٍ عَلَى ذَلِكَ؛ إِذِ التَّجْرِبَةُ الْجَارِيَةُ فِي الْخَلْقِ قَدْ أَعْطَتْ فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ بُرْهَانًا لَا يَحْتَمِلُ مُتَعَلَّقُهُ النَّقِيضَ بِوَجْهٍ.
* وَالْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: الْوَاقِفُونَ مِنْهُ عَلَى بَرَاهِينِهِ، ارْتِفَاعًا عَنْ حَضِيضِ التَّقْلِيدِ الْمُجَرَّدِ، وَاسْتِبْصَارًا فِيهِ، حَسْبَمَا أَعْطَاهُ شَاهِدُ النَّقْلِ الَّذِي يُصَدِّقُهُ الْعَقْلُ تَصْدِيقًا يَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ، وَيَعْتَمِدُ عَلَيْهِ، إِلَّا أَنَّهُ بَعْدُ مَنْسُوبٌ إِلَى الْعَقْلِ لَا إِلَى النَّفْسِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَصِرْ كَالْوَصْفِ الثَّابِتِ لِلْإِنْسَانِ، وَإِنَّمَا هُوَ كَالْأَشْيَاءِ الْمُكْتَسَبَةِ، وَالْعُلُومِ الْمَحْفُوظَةِ، الَّتِي يَتَحَكَّمُ عَلَيْهَا الْعَقْلُ، وَعَلَيْهِ يَعْتَمِدُ فِي اسْتِجْلَابِهَا، حَتَّى تَصِيرَ مِنْ جُمْلَةِ مُودَعَاتِهِ.
فَهَؤُلَاءِ إِذَا دَخَلُوا فِي الْعَمَلِ، خَفَّ عَلَيْهِمْ خِفَّةً أُخْرَى زَائِدَةً عَلَى مُجَرَّدِ التَّصْدِيقِ فِي الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى، بَلْ لَا نِسْبَةَ بَيْنَهُمَا، إِذْ هَؤُلَاءِ يَأْبَى لَهُمُ الْبُرْهَانُ الْمُصَدَّقُ أَنْ يُكَذِّبُوا، وَمِنْ جُمْلَةِ التَّكْذِيبِ الْخَفِيِّ: الْعَمَلُ عَلَى مُخَالَفَةِ الْعِلْمِ الْحَاصِلِ لَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ حِينَ لَمْ يَصِرْ لَهُمْ كَالْوَصْفِ، رُبَّمَا كَانَتْ أَوْصَافُهُمُ الثَّابِتَةُ مِنَ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ الْبَاعِثَةِ الْغَالِبَةِ أَقْوَى الْبَاعِثِينِ، فَلَابُدَّ مِنَ الِافْتِقَارِ إِلَى أَمْرٍ زَائِدٍ مِنْ خَارِجٍ، غَيْرَ أَنَّهُ يَتَّسِعُ فِي حَقِّهِمْ، فَلَا يُقْتَصَرُ فِيهِ عَلَى مُجَرَّدِ الْحُدُودِ وَالتَّعْزِيرَاتِ، بَلْ ثَمَّ أُمُورٌ أُخَرُ كَمَحَاسِنِ الْعَادَاتِ، وَمُطَالَبَةِ الْمَرَاتِبِ الَّتِي بَلَغُوهَا بِمَا يَلِيقُ بِهَا، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ.
وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ -أَيْضًا- يَقُومُ الْبُرْهَانُ عَلَيْهَا مِنَ التَّجْرِبَةِ، إِلَّا أَنَّهَا أَخْفَى مِمَّا قَبْلَهَا، فَيُحْتَاجُ إِلَى فَضْلِ نَظَرٍ مَوْكُولٍ إِلَى ذَوِي النَّبَاهَةِ فِي الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالْأَخْذِ فِي الِاتِّصَافَاتِ السُّلُوكِيَّةِ.
* وَالْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: الَّذِينَ صَارَ لَهُمُ الْعِلْمُ وَصْفًا مِنَ الْأَوْصَافِ الثَّابِتَةِ، بِمَثَابَةِ الْأُمُورِ الْبَدِيهِيَّةِ فِي الْمَعْقُولَاتِ الْأُوَلِ، أَوْ تُقَارُبِهَا، وَلَا يُنْظَرُ إِلَى طَرِيقِ حُصُولِهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ، فَهَؤُلَاءِ لَا يُخَلِّيهِمُ الْعِلْمُ وَأَهْوَاءَهُمْ إِذَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ، بَلْ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ رُجُوعَهُمْ إِلَى دَوَاعِيهِمُ الْبَشَرِيَّةِ، وَأَوْصَافِهِمُ الْخَلْقِيَّةِ، وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ هِيَ الْمُتَرْجَمُ لَهَا.
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهَا مِنَ الشَّرِيعَةِ كَثِيرٌ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9]، ثُمَّ قَالَ: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]، فَنَسَبَ هَذِهِ الْمَحَاسِنَ إِلَى أُولِي الْعِلْمِ مِنْ أَجْلِ الْعِلْمِ، لَا مِنْ أَجْلِ غَيْرِهِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الزمر: 23]، وَالَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ هُمُ الْعُلَمَاءُ؛ لِقَوْلِهِ: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة:83].
وَلَمَّا كَانَ السَّحَرَةُ قَدْ بَلَغُوا فِي عِلْمِ السِّحْرِ مَبْلَغَ الرُّسُوخِ فِيهِ، وَهُوَ مَعْنَى هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ، بَادَرُوا إِلَى الِانْقِيَادِ وَالْإِيمَانِ حِينَ عَرَفُوا مِنْ عِلْمِهِمْ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- حَقٌّ، لَيْسَ بِالسِّحْرِ وَلَا الشَّعْوَذَةِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنْ ذَلِكَ التَّخْوِيفُ وَلَا التَّعْذِيبُ الَّذِي يَتَوَعَّدُهُمْ بِهِ فِرْعَوْنُ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ۖ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}
[العنكبوت: 43].
فَحَصَرَ تَعَقُّلَهَا فِي الْعَالِمِينَ، وَهُوَ قَصْدُ الشَّارِعِ مِنْ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ} [الرعد: 19].
ثُمَّ وَصَفَ أَهْلَ الْعِلْمِ بِقَوْلِهِ: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} [الرعد: 20].
إِلَى آخِرِ الْأَوْصَافِ وَحَاصِلُهَا يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ الْعُلَمَاءَ هُمُ الْعَامِلُونَ.
وَالْأَدِلَّةُ أَكْثَرُ مِنْ إِحْصَائِهَا هُنَا، وَجَمِيعُهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْمُلْجِئُ إِلَى الْعَمَلِ بِهِ)).
((الْإِخْلَاصُ فِي الْعَمَلِ))
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْخَـلَاصَ فِي الْإِخْـلَاصِ، وَإِنَّـمَا يَـتَـعَـثـَّرُ مَنْ لَمْ يُخْلِصْ!
كَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ -تَحْصِيلًا وَجَمْعًا- لِلَّهِ خَالِصًا، كَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ -أَدَاءً وَفِعْلًا- لِلَّهِ خَالِصًا؛ لِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ طَيِّبًا وَأُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ.
((يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ كُلُّهُ لِلَّهِ، وَمَعَهُ، وَلِأَجْلِهِ.
وَقَدْ كَفَاكَ كُلَّ مَخْلُوقٍ وَجَلَبَ لَكَ كُلَّ خَيْرٍ.
وَإِيَّاكَ أَنْ تَمِيلَ عَنْهُ بِمُوَافَقَةِ هَوًى وَإِرْضَاءِ مَخْلُوقٍ، فَإِنَّهُ يَعْكِسُ عَلَيْكَ الْحَالَ، وَيَفُوتُكَ الْمَقْصُودُ.
وَفِي الْحَدِيثِ: ((مَنْ أَرْضَى النَّاسَ بِسَخَطِ اللهِ وَكَلَهُ اللهُ إِلَى النَّاسِ، وَمَنْ أَسْخَطَ النَّاسَ بِرضَا اللهِ كَفَاهُ اللهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ)).
وَأَطْيَبُ الْعَيْشِ عَيْشُ مَنْ يَعِيشُ مَعَ الْخَالِقِ -سُبْحَانَهُ-.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَعِيشُ مَعَهُ؟
قُلْتُ: بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ، وَمُرَاعَاةِ حُدُودِهِ، وَالرِّضَا بِقَضَائِهِ، وَحُسْنِ الْأَدَبِ فِي الْخَلْوَةِ، وَكَثْرَةِ ذِكْرِهِ، وَسَلَامَةِ الْقَلْبِ مِنَ الِاعْتِرَاضِ فِي أَقْدَارِهِ.
فَإِنِ احْتَجْتَ سَأَلْتَهُ، فَإِنْ أَعْطَى وَإِلَّا رَضِيتَ بِالْمَنْعِ، وَعَلِمْتَ أَنَّهُ لَمْ يَمْنَعْ بُخْلًا وَإِنَّمَا نَظَرًا لَكَ.
وَلَا تَنْقَطِعْ عَنِ السُّؤَالِ؛ لِأَنَّكَ تَتَعَبَّدُ بِهِ، وَمَتَى دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ رَزَقَكَ مَحَبَّتَهُ وَصِدْقَ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، فَصَارَتِ الْمَحَبَّةُ تَدُلُّكَ عَلَى الْمَقْصُودِ، وَأَثْمَرَتْ لَكَ مَحَبَّتَهُ إِيَّاكَ، فَحِينَئِذٍ تَعِيشُ عَيْشَ الصِّدِّيقِينَ.
وَلَا خَيْرَ فِي عَيْشٍ إِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَا، فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ مُخَبِّطٌ فِي عَيْشِهِ، يُدَارِي الْأَسْبَابَ، وَيَمِيلُ إِلَيْهَا بِقَلْبِهِ، وَيَتْعَبُ فِي تَحْصِيلِ الرِّزْقِ بِحِرْصٍ زَائِدٍ عَلَى الْحَدِّ، وَبِرَغْبَةٍ إِلَى الْخَلْقِ، وَيَعْتَرِضُ عِنْدَ انْكِسَارِ الْأَغْرَاضِ.
وَالْقَدَرُ يَجْرِي وَلَا يُبَالِي بِسَخَطٍ، وَلَا يَحْصُلُ لَهُ إِلَّا مَا قُدِّرَ.
وَقَدْ فَاتَهُ الْقُرْبُ مِنَ الْحَقِّ، وَالْمَحَبَّةُ لَهُ، وَالتَّأَدُّبُ مَعَهُ، فَذَلِكَ الْعَيْشُ عَيْشُ الْبَهَائِمِ)).
قَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّ الْعَالِمَ إِذَا لَمْ يَعْمَلْ بِعِلْمِهِ زَلَّتْ مَوْعِظَتُهُ عَنِ الْقُلُوبِ كَمَا يَزِلُّ الْقَطْرُ عَنِ الصَّفَا)).
وَكَانَ سَوَّارٌ يَقُولُ: ((كَلَامُ الْقَلْبِ يَقْرَعُ الْقَلْبَ، وَكَلَامُ اللِّسَانِ يَمُرُّ عَلَى الْقَلْبِ صَفْحًا)).
وَقَالَ زِيَادٌ: ((إِذَا خَرَجَ الْكَلَامُ مِنَ الْقَلْبِ وَقَعَ فِي الْقَلْبِ، وَإِذَا خَرَجَ مِنَ اللِّسَانِ لَمْ يُجَاوِزِ الْآذَانَ)).
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: ((إِذَا كَانَتْ حَيَاتِي حَيَاةَ السَّفِيهِ، وَمَوْتِي مَوْتَ الْجَاهِلِ، فَمَا يُغْنِي عَنِّي مَا جَمَعْتُ مِنْ غَرَائِبِ الْحِكْمَةِ)).
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ آدَمَ: ((مَا يُغْنِي عَنْكَ مَا جَمَعْتَ مِنْ حِكْمَةِ الْحُكَمَاءِ وَأَنْتَ تَجْرِي فِي الْعَمَلِ مَجْرَى السُّفَهَاءِ)).
وَقَالَ الْحَسَنُ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الَّذِي يَفُوقُ النَّاسَ فِي الْعِلْمِ جَدِيرٌ أَنْ يَفُوقَهُمْ فِي الْعَمَلِ)).
وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((قَالَ لِي ابْنُ الْمُبَارَكِ: أَكْثَرُكُمْ عِلْمًا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَكُمْ خَوْفًا)).
وَعَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ} [الأنعام:91]، قَالَ: ((عُلِّمْتُمْ وَلَمْ تَعْمَلُوا، فَوَاللهِ مَا ذَلِكُمْ بِعِلْمٍ)).
وَقَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ: ((قَالَ لِي أَبُو قِلَابَةَ: يَا أَيُّوبُ إِذَا أَحْدَثَ اللهُ لَكَ عِلْمًا فَأَحْدِثْ لَهُ عِبَادَةً، وَلَا يَكُنْ هَمَّكَ أَنْ تُحَدِّثَ بِهِ)).
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ: ((كَانَ نَقْشُ خَاتَمِ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ: عَلِمْتَ فَاعْمَلْ)).
وَعَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ فِي قَوْلِهِ -تَعَالَى-: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} [آل عمران: 187] قَالَ: ((تَرَكُوا الْعَمَلَ بِهِ)).
وَقَالَ الْحَسَنُ: ((إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ حَسْرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلَانِ: رَجُلٌ نَظَرَ إِلَى مَالِهِ فِي مِيزَانِ غَيْرِهِ سَعِدَ بِهِ وَشَقِيَ هُوَ بِهِ، وَرَجُلٌ نَظَرَ إِلَى عِلْمِهِ فِي مِيزَانِ غَيْرِهِ سَعِدَ بِهِ وَشَقِيَ هُوَ بِهِ)).
((جَهْلُ الْعَمَلِ))
جَهْلُ الْعَمَلِ: هُوَ عَدَمُ الْعَمَلِ عَلَى مُقْتَضَى الْحَقِّ النَّافِعِ وَالْعِلْمِ الرَّشِيدِ.
وَهَذَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- يَعِظُ خَلَّادَ بْنَ يَزِيدَ الْأَرْقَطَ، وَكَانَ أَبُو زَيْدٍ عُمَرُ ابْنُ شَبَّةَ إِذَا ذَكَرَ خَلَّادًا قَالَ: كَانَ مِنَ الْجِبَالِ الرَّوَاسِي نُبْلًا؛ يَصِفُ جَلَالَتَهُ وَنُبْلَهُ.
قَالَ خَلَّادٌ -رَحِمَهُ اللهُ- أَتَيْتُ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ فَقَالَ: ((إِنَّمَا يَأْتِي بِكَ الْجَهْلُ لَا ابْتِغَاءُ الْعِلْمِ، لَوِ اقْتَصَرَ جِيرَانُكَ عَلَى عِلْمِكَ كَفَاهُمْ، ثُمَّ كَوَّمَ كَوْمَةً مِنْ بَطْحَاءَ ثُمَّ شَقَّهَا بِأُصْبُعِهِ ثُمَّ قَالَ: هَذَا الْعِلْمُ أَخَذْتَ نِصْفَهُ، ثُمَّ جِئْتَ تَبْتَغِي النِّصْفَ الْبَاقِي، فَلَوْ قِيلَ: أَرَأَيْتَ مَا أَخَذْتَ هَلِ اسْتَعْمَلْتَهُ؟ فَإِذَا صَدَقْتَ قُلْتَ: لَا، فَيُقَالَ لَكَ: مَا حَاجَتُكَ إِلَى مَا تَزِيدُ بِهِ نَفْسَكَ وِقْرًا عَلَى وِقْرٍ؟ اسْتَعْمِلْ مَا أَخَذْتَ أَوَّلًا)).
فَالسَّلَفُ -رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى- يَذُمُّونَ جَهْلَ الْعَمَلِ ذَمًّا شَدِيدًا، وَيُحَذِّرُونَ مِنْ عُلَمَاءِ السُّوءِ الَّذِينَ لَهُمْ ظَاهِرٌ يَغُرُّ وَبَاطِنٌ يَضُرُّ، وَيُفِيضُونَ فِي رَمْيِهِمْ بِكُلِّ نَقِيصَةٍ وَتُهْمَةٍ، وَيَضْرِبُونَ لَهُمُ الْأَمْثَالَ.
وَهَذَا وُهَيْبُ بْنُ الْوَرْدِ يَضْرِبُ الْمَثَلَ فَيَقُولُ: ((مَثَلُ عَالِمِ السُّوءِ كَمَثَلِ حَجَرٍ دُفِعَ فِي سَاقِيَةٍ فَلَا هُوَ يَشْرَبُ مِنَ الْمَاءِ، وَلَا هُوَ يُخْلِي عَنِ الْمَاءِ فَيَحْيَا بِهِ الشَّجَرُ، وَلَوْ أَنَّ عُلَمَاءَ السُّوءِ نَصَحُوا لِلَّهِ فِي عِبَادِهِ فَقَالُوا: يَا عِبَادَ اللهِ، اسْمَعُوا مَا نُخْبِرُكُمْ بِهِ عَنْ نَبِيِّكُمْ، وَصَالِحِ سَلَفِكُمْ، فَاعْمَلُوا بِهِ، وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى أَعْمَالِنَا؛ فَإِنَّا مَفْتُونُونَ، كَانُوا قَدْ نَصَحُوا لِلَّهِ فِي عِبَادِهِ، وَلَكِنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَدَعُوا عِبَادَ اللهِ إِلَى أَعْمَالِهِمُ الْقَبِيحَةِ فَيَدْخُلُوا مَعَهُمْ فِيهَا)).
هَذَا هُوَ شَأْنُ الْعِلْمِ، إِنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ مِنْهُ النَّفْعُ، اسْتُجْلِبَ بِهِ الضُّرُّ، كَمَا قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: ((الْعِلْمُ إِنْ لَمْ يَنْفَعْكَ ضَرَّكَ)).
يَقُولُ الْخَطِيبُ -رَحِمَهُ اللهُ- شَارِحًا وَمُفَسِّرًا: ((يَعْنِي إِنْ لَمْ يَنْفَعْهُ بِأَنْ يَعْمَلَ بِهِ، ضَرَّهُ بِكَوْنِهِ حُجَّةً عَلَيْهِ)).
وَتُوَضِّحُ حِكْمَةُ ((مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ)) الْأَمْرَ، إِذْ يَقُولُ: ((إِنِّي وَجَدْتُ فِي بَعْضِ الحِكْمَةِ: ((لَا خَيْرَ لَكَ أَنْ تَعْلَمَ مَا لَمْ تَعْلَمْ وَلَمْ تَعْمَلْ بِمَا قَدْ عَلِمْتَ؛ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ مَثَلُ رَجُلٍ احْتَطَبَ حَطَبًا، فَحَزَمَ حُزْمَةً ذَهَبَ يَحْمِلُهَا فَعَجَزَ عَنْهَا، فَضَمَّ إِلَيْهَا أُخْرَى)).
وَأَحْرَى بِمَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِ بِالِانْتِسَابِ إِلَى العِلْمِ أَنْ يَكُونَ مُخْبِتًا لِلَّهِ قَانِتًا، وَأَنْ يَكُونَ بِعِلْمِهِ عَامِلًا، وَأَنْ يَدَعَ الغَفْلَةَ جَانِبًا، وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي أَنْ يَنْسَلِخَ مِنْ جَهْلِهِ بِعَدَمِ مُوَاقَعَةِ السَّيِّئَاتِ؛ إِذِ السَّيِّئَاتُ أَصْلُهَا الجَهْلُ، وَهُوَ إِلَى العِلْمِ مُنْتَسِبٌ.
((عَوَاقِبُ عَدَمِ الْعَمَلِ بِالْعِلْمِ))
إِنَّ عَدَمَ الْعَمَلِ بِالْعِلْمِ لَهُ عَوَاقِبُ وَخِيمَةٌ، رَوَى أُسَامَةُ بنُ زَيدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((يُجَاءُ بالرَّجُلِ يَومَ القيَامَةِ، فَيُلْقَى فِي النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ، فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ، فَتَجْتَمِعُ أَهلُ النَّارِ عَلَيْهِ، فَيَقُولُونَ: يَا فُلانُ: مَا شَأْنُكَ؟ أَلَسْتَ كُنْتَ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ؟ فَيَقُولُ: كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ الشَّرِّ وَآتِيهِ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ عَنْ أُسَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: ((يُجَاءُ بِرَجُلٍ فَيُطْرَحُ فِي النَّارِ؛ فَيَطْحَنُ فِيهَا كَمَا يَطْحَنُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ، فَيُطِيفُ بِهِ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ: أَيْ فُلَانُ، أَلَسْتَ كُنْتَ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ؟ فَيَقُولُ: إِنِّي كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا أَفْعَلُهُ، وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَأَفْعَلُهُ)).
الْأَقْتَابُ: جَمْعُ قَتْبٍ وَهِيَ الْأَمْعَاءُ، وَانْدِلَاقُهَا: خُرُوجُهَا بِسُرْعَةٍ.
قَوْلُهُ: ((فَيُطِيفُ بِهِ أَهْلُ النَّارِ)) أَيْ: يَجْتَمِعُونَ حَوْلَهُ.
قَالَ الْأَلْبَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: (( ((يُجَاءُ بِالرَّجُلِ)) أَيْ: الَّذِي يُخَالِفُ عِلْمَهُ عَمَلُهُ، الِانْدِلَاقُ: خُرُوجُ الشَّيْءِ مِنْ مَكَانِهِ بِسُرْعَةٍ، وَالْأَقْتَابُ: الْأَمْعَاءُ، ((كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ)) أَيْ: الطَّاحُونُ.
فَانْظُرْ يَا أَخِي! إِلَى حَالِ مَنْ قَالَ وَلَمْ يَفْعَلْ؛ كَيْفَ تَنْصَبُّ مَصَارِينُهُ مِنْ جَوْفِهِ، وَتَخْرُجُ مِنْ دُبُرِهِ، وَيَدُورُ بِهَا دَوَرَانَ الْحِمَارِ بِالطَّاحُونِ، وَالنَّاسُ تَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَتَتَعَجَّبُ مِنْ هَيْئَتِهِ، نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ)).
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كَانَ يَقُولُ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ؛ فِيمَ أَفْنَاهُ؟ وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ عَمِلَ فِيهِ؟ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ؟ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ؟ وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ؟)). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
((لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ)) أَيْ: مِنْ مَوْقِفِهِ لِلْحِسَابِ إِلَى الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ.
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((لَا تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّه حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ؟ وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ؟ وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ؟ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ؟ وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ)). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَعَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْأَزْدِيِّ صَاحِبِ النَّبِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: ((مَثَلُ الَّذي يُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ وَيَنْسَى نَفْسَهُ كَمَثَلِ السِّرَاجِ، يُضِيءُ لِلنَّاسِ وَيَحْرِقُ نَفْسَهُ)). رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْكَبِيرِ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَعَنْ أَبِي بَرْزَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَثَلُ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ وَيَنْسَى نَفْسَهُ، مَثَلُ الْفَتِيلَةِ، تُضِيءُ عَلَى النَّاسِ، وَتَحْرِقُ نَفْسَهَا)). رَوَاهُ الْبَزَّارُ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
الْفَتِيلَةُ: الذُّبَالَةُ الَّتِي تُغْمَسُ فِي الزَّيْتِ لِتُضِيءَ.
وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي بِأَقْوَامٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ، قُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: خُطَبَاءُ أُمَّتِكَ الَّذِينَ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ)). أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي ((صَحِيحِهِ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَفِي حَدِيثِ الْمَنَامِ الطَّوِيلِ الَّذِي رَوَاهُ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مِمَّا يُكثِرُ أَنْ يَقُولَ لِأَصْحَابِهِ: ((هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رُؤْيَا؟)).
قَالَ: فَيَقُصُّ عَلَيْهِ مَنْ شَاءَ اللهُ أَنْ يَقُصَّ، وَإِنَّهُ قَالَ ذَاتَ غَدَاةٍ: ((إِنَّهُ أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتِيَانِ، وَإِنَّهُمَا ابْتَعَثَانِي، وَإِنَّهُمَا قَالَا لِي: انْطَلِقْ، وَإِنِّي انْطَلَقْتُ مَعَهُمَا، وَإِنَّا أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ، وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِصَخْرَةٍ، وَإِذَا هُوَ يَهْوِي بِالصَّخْرَةِ لِرَأْسِهِ فَيَثْلَغُ رَأْسَهُ، فَيَتَدَهْدَهُ الْحَجَرُ هَاهُنَا، فَيَتْبَعُ الْحَجَرَ فَيَأْخُذُهُ، فَلَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ حَتَّى يَصِحَّ رَأْسُهُ كَمَا كَانَ، ثُمَّ يَعُودُ عَلَيهِ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَمَا فَعَلَ بِهِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، قَالَ: قُلْتُ لَهُمَا: سُبْحَانَ اللهِ! مَا هَذَانِ؟ قَالَا لِي: انْطَلِقْ، انْطَلِقْ..
قَالَ: قَالَا لِي: أَمَا إِنَّا سَنُخْبِرُكَ؛ أمَّا الرَّجُلُ الأوَّلُ الَّذِي أَتَيتَ عَلَيهِ يُثلَغُ رَأسُهُ بالْحَجَرِ، فَإنَّهُ الرَّجُلُ يَأْخُذُ الْقُرْآنَ فَيَرْفُضُهُ، وَيَنَامُ عَنِ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ...)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
((يَثْلَغُ رَأْسَهُ)): يَشْدُخُهُ، وَالشَّدْخُ: كَسْرُ الشَّيْءِ الْأَجْوَفِ.
((فَيَتَدَهْدَهُ)): يَتَدَحْرَجُ.
قَوْلُهُ: ((فَيَرْفُضُهُ)): يَتْرُكُهُ.
وَعَنْ لُقْمَانَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: كَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَقُولُ: ((إِنَّمَا أَخْشَى مِنْ رَبِّي يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يَدْعُوَنِي عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ، فَيَقُولَ لِي: يَا عُوَيْمِرُ، فَأَقُولُ: لَبَّيْكَ رَبِّ، فَيَقُولُ: مَا عَمِلْتَ فِيمَا عَلِمْتَ؟)). رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
الْعَمَلُ بِالْعِلْمِ أَمْرٌ لَازِمٌ لِكُلِّ مَنْ عَلِمَ، حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ دَائِرَةِ الْوَعِيدِ لِمَنْ عَلِمَ وَلَمْ يَعْمَلْ.
((ضَرُورَةُ رَبْطِ الْعِلْمِ بِالْعَمَلِ))
إِنَّ رَبْطَ الْعِلْمِ بِالْعَمَلِ أَمْرٌ حَتْمٌ لَا مَحِيصَ عَنْهُ، وَلَا مَفَرَّ مِنْهُ، بَلْ إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ الْعِلْمِ إِنَّمَا يَأْتِي مِنْ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ ظَاهِرًا أَبْعَدُ مَا يَكُونُونَ عَنِ الْعَمَلِ، فَيُحْدِثُ هَذَا مِنَ التَّلْبِيسِ مَا تَقْبُحُ نَتِيجَتُهُ وَيَسُوءُ أَثَرُهُ.
وَلَوْ أَنَّ الْعِلْمَ ارْتَبَطَ بِالْعَمَلِ لَأَقْبَلَ النَّاسُ عَلَى سَبِيلِهِ زَرَافَاتٍ وَوُحْدَانًا.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
((التَّسَامُحُ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَكَظْمُ الْغَيْظِ))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((التَّسَامُحُ فِي الْمُعَامَلَاتِ))
فَقَدْ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].
عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ مَكْتُوبٌ فِي الْإِنْجِيلِ: لَا فَظٌّ، وَلَا غَلِيظٌ، وَلَا صَخَّابٌ بِالْأَسْوَاقِ، وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ مِثْلَهَا، بَلْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ)). أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)).
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا».
فِي الصَّفْحِ وَالْعَفُوِ وَالْحِلْمِ مِنَ الْحَلَاوَةِ وَالطُّمْأَنِينَةِ وَالسَّكِينَةِ، وَشَرَفِ النَّفْسِ، وَعِزِّهَا وَرِفْعَتِهَا عَنْ تَشَفِّيهَا بِالِانْتِقَامِ، مَا لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُ فِي الْمُقَابَلَةِ وَالِانْتِقَامِ.
وَقَالَ اللهُ -تَعَالَى-: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199].
فَإِحْسَانُ التَّعَامُلِ مَعَ الْخَلْقِ هُوَ امْتِثَالٌ لِأَمْرِ الرَّبِّ، وَامْتِثَالٌ لِأَمْرِ النَّبِيِّ الْأَكْرَمِ ﷺ: «وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ».
((خَالِقِ النَّاسَ)): مِنَ الْمُفَاعَلَةِ بَيْنَكَ وَبَيْنَ النَّاسِ؛ يَعْنِي: فَلْتَكُنْ أَخْلَاقُكَ الْمَبْذُولَةُ إِلَيْهِمْ حَسَنَةً.
((خَالِقِ النَّاسَ)): فَهُوَ فِعْلُ أَمْرٍ، «وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ».
فَهُوَ امْتِثَالٌ لِأَمْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَامْتِثَالٌ لِأَمْرِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ ﷺ.
وَيَجْعَلُهُ النَّبِيُّ ﷺ مُؤَدِّيًا إِلَى مَبْلَغٍ لَا يُرْتَقَى مُرْتَقَاهُ إِلَّا بِشِقِّ النَّفْسِ وَبَذْلِ الْمَجْهُودِ؛ «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَبْلُغُ بِحُسْنِ الْخُلُقِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ».
لَقَدْ حَثَّتِ الشَّرِيعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ عَلَى السَّمَاحَةِ وَالتَّيْسِيرِ وَرَفْعِ الْمَشَقَّةِ وَالْحَرَجِ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالِاقْتِضَاءِ، فَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} [النساء: 29].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280].
وَالنَّبِيُّ ﷺ رَغَّبَ فِي السَّمَاحَةِ فِي البَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَحُسْنِ التَّقَاضِي وَالقَضَاءِ؛ فَعَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «رَحِمَ اللهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ، سَمْحًا إِذَا اشْتَرَى، سَمْحًا إِذَا اقْتَضَى». رَوَاهُ البُخَارِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ وَاللَّفْظُ لَهُ.
قَالَ الْحَافِظُ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي شَرْحِهِ: ((فِيهِ الْحَضُّ عَلَى السَّمَاحَةِ فِي الْمُعَامَلَةِ، وَاسْتِعْمَالُ مَعَالِي الْأَخْلَاقِ، وَتَرْكُ الْمُشَاحَّةِ، وَفِيهِ الْحَضُّ عَلَى تَرْكِ التَّضْيِيقِ عَلَى النَّاسِ فِي الْمُطَالَبَةِ، وَفِيهِ الْحَضُّ عَلَى أَخْذِ الْعَفْوِ مِنْهُمْ)).
وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ السَّمَاحَةَ فِي الْمُعَامَلَاتِ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ النَّجَاةِ فِي الْآخِرَةِ؛ فَعَنْ حُذَيْفَةَ -كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ))- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((تَلَقَّتِ الْمَلَائِكَةُ رُوحَ رَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَقَالُوا: أَعَمِلْتَ مِنَ الْخَيْرِ شَيْئًا؟
قَالَ: كُنْتُ آمُرُ فِتْيَانِي أَنْ يُنْظِرُوا وَيَتَجَاوَزُوا عَنِ الْمُوسِرِ)).
وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لَهُمْ: ((أَنْظِرُوا الْمُوسِرَ، وَتَجَاوَزُوا عَنِ الْمُعْسِرِ)).
وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ -هُوَ-: ((كُنْتُ أُنْظِرُ الْمُوسِرَ، وَأَتَجَاوَزُ عَنِ الْمُعْسِرِ)).
قَالَ: ((فَتَجَاوَزَ اللهُ عَنْهُ)).
لَقَدْ كَانَ إِمَامُ الْأَنْبِيَاءِ ﷺ فِي ((حُسْنِ الْخُلُقِ)) عَلَى الْقِمَّةِ الشَّامِخَةِ، وَفَوْقَ الْغَايَةِ وَالْمُنْتَهَى، فَكَانَ كَمَا قَالَ عَنْهُ رَبُّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قِبَلَ نَجْدٍ، فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَفَلَ مَعَهُ -أَيْ: رَجَعَ مَعَهُ-، فَأَدْرَكَتْهُمُ الْقَائِلَةُ فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ -وَالْعِضَاهُ: نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الشَّجَرِ- فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الْعِضَاهِ، يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ، وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ تَحْتَ سَمُرَةٍ فَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ.
قَالَ جَابِرٌ: فَنِمْنَا نَوْمَةً، ثُمَّ إِذَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَدْعُونَا، فَجِئْنَاهُ، فَإِذَا عِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ جَالِسٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ سَيْفِي وَأَنَا نَائِمٌ، فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ فِي يَدِهِ صَلْتًا، فَقَالَ لِي: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قُلْتُ: اللَّهُ)).
فَهَا هُوَ جَالِسٌ، ثُمَّ لَمْ يُعَاقِبْهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: ((كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةٍ، نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عُنُقِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَقَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ.
ثُمَ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ! مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ! فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
جَبَذَهُ: جَذَبَهُ.
وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ، وَلَا امْرَأَةً وَلَا خَادِمًا، إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شِيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ، إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللهِ فَيَنْتَقِمَ لِلهِ -عَزَّ وَجَلَّ-)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسولُ اللهِ ﷺ: ((مَا رُزِقَ عَبْدٌ خَيْرًا لَهُ وَلَا أَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ)). أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَعَن عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَأنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ، وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
((لَا تَغْضَبْ!))
مِنْ صِفَاتِ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ بِهَا دُخُولَ الْجَنَّةِ الْإِنْفَاقُ فِي كُلِّ حَالٍ، وَكَظْمُ الْغَيْظِ، وَالْعَفْوُ عَنِ النَّاسِ، وَالْإِحْسَانُ إِلَى الْخَلْقِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: ٣٤].
ادْفَعْ مَنْ يُرِيدُ مُقَاوَمَةَ دَعْوَتِكَ بِمَا يَضُرُّكَ أَوْ يُؤْذِيكُ وَيُقْبِلُ عَلَيْكَ بِشَرٍّ.. ادْفَعْهُ بِالْخَصْلَةِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ مِنْ خُلُقٍ أَوْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ صَدِيقٌ قَرِيبٌ مُصَافٍ لَكَ، لَا يَحْمِلُ عَدَاوَةً لَكَ وَلَا كَرَاهِيَةً، بَلْ يَحْمِلُ وُدًّا وَوَلَاءً.
{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: ٣٥].
وَمَا يُمْنَحُ تَلَقِّيًا هَذِهِ الْخَصْلَةَ الْحَمِيدَةَ، وَلَا يَسْتَطِيعُ ضَبْطَ نَفْسِهِ فَيَدْفَعُ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِسَاءَاتِ مَنْ يُسِيءُ إِلَيْهِ.. لَا يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا عَلَى تَحَمُّلِ الْمَكَارِهِ، وَتَجَرُّعِ الشَّدَائِدِ، وَكَظْمِ الْغَيْظِ، وَتَرْكِ الِانْتِقَامِ، وَمَا يُعْطَاهَا عَطَاءً رَبَّانِيًّا مِنَ اللهِ إِلَّا ذُو نَصِيبٍ عَظِيمٍ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعَقْلِ وَسَعَةِ الصَّدْرِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ، وَذُو نَصِيبٍ عَظِيمٍ عِنْدَ اللهِ مِنَ الْأَجْرِ وَرَفِيعِ الْمَنْزِلَةِ فِي دَارِ النَّعِيمِ.
((كَظْمُ الْغَضَبِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ))
قَالَ تَعَالَى: {وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133-134].
((أَمَرَ اللهُ -تَعَالَى- الْمُؤْمِنِينَ بِالْمُسَارَعَةِ إِلَى مَغْفِرَتِهِ، وَإِدْرَاكِ جَنَّتِهِ الَّتِي عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ؛ فَكَيْفَ بِطُولِهَا؟! الَّتِي أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُتَّقِينَ، فَهُمْ أَهْلُهَا، وَأَعْمَالُ التَّقْوَى هِيَ الْمُوَصِّلَةُ إِلَيْهَا.
ثُمَّ وَصَفَ الْمُتَّقِينَ وَأَعْمَالَهُمْ فَقَالَ: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} أَيْ: فِي حَالِ عُسْرِهِمْ وَيُسْرِهِمْ، إِنْ أَيْسَرُوا أَكْثَرُوا مِنَ النَّفَقَةِ، وَإِنْ أَعْسَرُوا لَمْ يَحْتَقِرُوا مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ قَلَّ.
{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} أَيْ: إِذَا حَصَلَ لَهُمْ مِنْ غَيْرِهِمْ أَذِيَّةٌ تُوجِبُ غَيْظَهُمْ -وَهُوَ امْتِلَاءُ قُلُوبِهِمْ مِنَ الْحَنَقِ الْمُوجِبِ لِلِانْتِقَامِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ-؛ هَؤُلَاءِ لَا يَعْمَلُونَ بِمُقْتَضَى الطِّبَاعِ الْبَشَرِيَّةِ، بَلْ يَكْظِمُونَ مَا فِي الْقُلُوبِ مِنَ الْغَيْظِ، وَيَصْبِرُونَ عَنْ مُقَابَلَةِ الْمُسِيءِ إِلَيْهِمْ.
{وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}: يَدْخُلُ فِي الْعَفْوِ عَنِ النَّاسِ الْعَفْوُ عَنْ كُلِّ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَالْعَفْوُ أَبْلَغُ مِنَ الْكَظْمِ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ تَرْكُ الْمُؤَاخَذَةِ مَعَ السَّمَاحَةِ عَنِ الْمُسِيءِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ مِمَّنْ تَحَلَّى بِالْأَخْلَاقِ الْجَمِيلَةِ، وَتَخَلَّى عَنِ الْأَخْلَاقِ الرَّذِيلَةِ، وَمِمَّنْ تَاجَرَ مَعَ اللَّهِ، وَعَفَا عَنْ عِبَادِ اللَّهِ؛ رَحْمَةً بِهِمْ، وَإِحْسَانًا إِلَيْهِمْ، وَكَرَاهَةً لِحُصُولِ الشَّرِّ عَلَيْهِمْ، وَلِيَعْفُوَ اللَّهُ عَنْهُ، وَيَكُونَ أَجْرُهُ عَلَى رَبِّهِ الْكَرِيمِ، لَا عَلَى الْعَبْدِ الْفَقِيرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}.
ثُمَّ ذَكَرَ حَالَةً أَعَمَّ مِنْ غَيْرِهَا، وَأَحْسَنَ وَأَعْلَى وَأَجَلَّ، وَهِيَ الْإِحْسَانُ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}: وَالْإِحْسَانُ نَوْعَانِ: الْإِحْسَانُ فِي عِبَادَةِ الْخَالِقِ، وَالْإِحْسَانُ إِلَى الْمَخْلُوقِ.
فَالْإِحْسَانُ فِي عِبَادَةِ الْخَالِقِ فَسَّرَهَا النَّبِيُّ ﷺ بِقَوْلِهِ: ((أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ)).
وَأَمَّا الْإِحْسَانُ إِلَى الْمَخْلُوقِ فَهُوَ إِيصَالُ النَّفْعِ الدِّينِيِّ وَالدُّنْيَوِيِّ إِلَيْهِمْ، وَدَفْعُ الشَّرِّ الدِّينِيِّ وَالدُّنْيَوِيِّ عَنْهُمْ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَمْرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْيُهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتَعْلِيمُ جَاهِلِهِمْ، وَوَعْظُ غَافِلِهِمْ، وَالنَّصِيحَةُ لِعَامَّتِهِمْ وَخَاصَّتِهِمْ، وَالسَّعْيُ فِي جَمْعِ كَلِمَتِهِمْ، وَإِيصَالُ الصَّدَقَاتِ وَالنَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةِ وَالْمُسْتَحَبَّةِ إِلَيْهِمْ عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ وَتَبَايُنِ أَوْصَافِهِمْ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ بَذْلُ النَّدَى، وَكَفُّ الْأَذَى، وَاحْتِمَالُ الْأَذَى، كَمَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ الْمُتَّقِينَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، فَمَنْ قَامَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ فَقَدْ قَامَ بِحَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ عَبِيدِهِ)).
وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ ۖ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ} [النحل: 126].
((يَقُولُ تَعَالَى -مُبِيحًا لِلْعَدْلِ، وَنَادِبًا لِلْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ-: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ}: مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكُمْ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ {فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ}: مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ مِنْكُمْ عَلَى مَا أَجْرَاهُ مَعَكُمْ.
{وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ}: عَنِ الْمُعَاقَبَةِ، وَعَفَوْتُمْ عَنْ جُرْمِهِمْ {لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ}: مِنَ الِاسْتِيفَاءِ، وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَحْسَنُ عَاقِبَةً، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ})).
وَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ۗ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ ۖ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [الحجر: 85-86].
((أَيْ: مَا خَلَقْنَاهُمَا عَبَثًا بَاطِلًا كَمَا يَظُنُّ ذَلِكَ أَعْدَاءُ اللَّهِ، بَلْ مَا خَلَقْنَاهُمَا {إِلا بِالْحَقِّ}: الَّذِي مِنْهُ أَنْ يَكُونَا بِمَا فِيهِمَا دَالَّتَيْنِ عَلَى كَمَالِ خَالِقِهِمَا وَاقْتِدَارِهِ وَسَعَةِ رَحْمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ الْمُحِيطِ، وَأَنَّهُ الَّذِي لَا تَنْبَغِي الْعِبَادَةُ إِلَّا لَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، {وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ} لَا رَيْبَ فِيهَا.
لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}: وَهُوَ الصَّفْحُ الَّذِي لَا أَذِيَّةَ فِيهِ، بَلْ يُقَابِلُ إِسَاءَةَ الْمُسِيءِ بِالْإِحْسَانِ، وَذَنْبَهُ بِالْغُفْرَانِ؛ لِتَنَالَ مِنْ رَبِّكَ جَزِيلَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ، فَإِنَّ كُلَّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ.
وَالْمَأْمُورُ بِهِ هُوَ الصَّفْحُ الْجَمِيلُ أَيِ: الْحَسَنُ الَّذِي قَدْ سَلِمَ مِنَ الْحِقْدِ وَالْأَذِيَّةِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ، دُونَ الصَّفْحِ الَّذِي لَيْسَ بِجَمِيلٍ، وَهُوَ الصَّفْحُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، فَلَا يُصْفَحُ حَيْثُ اقْتَضَى الْمَقَامُ الْعُقُوبَةَ، كَعُقُوبَةِ الْمُعْتَدِينَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ لَا يَنْفَعُ فِيهِمْ إِلَّا الْعُقُوبَةُ)).
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا} [الإسراء: 53].
((وَهَذَا مِنْ لُطْفِهِ -تَعَالَى- بِعِبَادِهِ؛ حَيْثُ أَمَرَهُمْ بِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ الْمُوجِبَةِ لِلسَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَقَالَ -جَلَّ مِنْ قَائِلٍ-: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}: وَهَذَا أَمْرٌ بِكُلِّ كَلَامٍ يُقَرِّبُ إِلَى اللَّهِ؛ مِنْ قِرَاءَةٍ وَذِكْرٍ، وَعِلْمٍ، وَأَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ، وَكَلَامٍ حَسَنٍ لَطِيفٍ مَعَ الْخَلْقِ عَلَى اخْتِلَافِ مَرَاتِبِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ، وَأَنَّهُ إِذَا دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ حَسَنَيْنِ فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِإِيثَارِ أَحْسَنِهِمَا إِنْ لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا.
وَالْقَوْلُ الْحَسَنُ دَاعٍ لِكُلِّ خُلُقٍ جَمِيلٍ وَعَمَلٍ صَالِحٍ؛ فَإِنَّ مَنْ مَلَكَ لِسَانَهُ مَلَكَ جَمِيعَ أَمْرِهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} أَيْ: يَسْعَى بَيْنَ الْعِبَادِ بِمَا يُفْسِدُ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَدُنْيَاهُمْ؛ فَدَوَاءُ هَذَا أَلَّا يُطِيعُوهُ فِي الْأَقْوَالِ غَيْرِ الْحَسَنَةِ الَّتِي يَدْعُوهُمْ إِلَيْهَا، وَأَنْ يَلِينُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ؛ لِيَنْقَمِعَ الشَّيْطَانُ الَّذِي يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ؛ فَإِنَّهُ عَدُوُّهُمُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُحَارِبُوهُ؛ فَإِنَّهُ يَدْعُوهُمْ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ.
وَأَمَّا إِخْوَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَسَعَى فِي الْعَدَاوَةِ؛ فَإِنَّ الْحَزْمَ كُلَّ الْحَزْمِ السَّعْيُ فِي صَدِّ عَدُوِّهِمْ، وَأَنْ يَقْمَعُوا أَنْفُسَهُمُ الْأَمَّارَةَ بِالسُّوءِ الَّتِي يَدْخُلُ الشَّيْطَانُ مِنْ قِبَلِهَا، فَبِذَلِكَ يُطِيعُونَ رَبَّهُمْ، وَيَسْتَقِيمُ أَمْرُهُمْ، وَيُهْدَوْنَ لِرُشْدِهِمْ)).
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ ۚ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 96].
((هَذَا مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِهَا فَقَالَ: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} أَيْ: إِذَا أَسَاءَ إِلَيْكَ أَعْدَاؤُكَ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ فَلَا تُقَابِلْهُمْ بِالْإِسَاءَةِ، مَعَ أَنَّهُ يَجُوزُ مُعَاقَبَةُ الْمُسِيءِ بِمِثْلِ إِسَاءَتِهِ، وَلَكِنِ ادْفَعْ إِسَاءَتَهُمْ إِلَيْكَ بِالْإِحْسَانِ مِنْكَ إِلَيْهِمْ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ فَضْلٌ مِنْكَ عَلَى الْمُسِيءِ، وَمِنْ مَصَالِحِ ذَلِكَ أَنَّهُ تَخِفُّ الْإِسَاءَةُ عَنْكَ فِي الْحَالِ وَفِي الِاسْتِقْبَالِ، وَأَنَّهُ أَدْعَى لِجَلْبِ الْمُسِيءِ إِلَى الْحَقِّ، وَأَقْرَبُ إِلَى نَدَمِهِ وَأَسَفِهِ وَرُجُوعِهِ بِالتَّوْبَةِ عَمَّا فَعَلَ.
وَيَتَّصِفُ الْعَافِي بِصِفَةِ الْإِحْسَانِ، وَيَقْهَرُ بِذَلِكَ عَدُّوَّهُ الشَّيْطَانَ، وَيَسْتَوْجِبُ الثَّوَابَ مِنَ الرَّبِّ، قَالَ تَعَالَى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا} أَيْ: مَا يُوَفَّقُ لِهَذَا الْخُلُقِ الْجَمِيلِ {إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} أَيْ: بِمَا يَقُولُونَ مِنَ الْأَقْوَالِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ بِالْحَقِّ، قَدْ أَحَاطَ عِلْمُنَا بِذَلِكَ، وَقَدْ حَلِمْنَا عَنْهُمْ وَأَمْهَلْنَاهُمْ وَصَبَرْنَا عَلَيْهِمْ، وَالْحَقُّ لَنَا، وَتَكْذِيبُهُمْ لَنَا.
فَأَنْتَ -يَا مُحَمَّدُ- يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَصْبِرَ عَلَى مَا يَقُولُونَ، وَتُقَابِلَهُمْ بِالْإِحْسَانِ، هَذِهِ وَظِيفَةُ الْعَبْدِ فِي مُقَابَلَةِ الْمُسِيءِ مِنَ الْبَشَرِ)).
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 34-35].
«قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ} أَيْ: لَا يَسْتَوِي فِعْلُ الْحَسَنَاتِ وَالطَّاعَاتِ لِأَجْلِ رِضَا رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، وَلَا فِعْلُ السَّيِّئَاتِ وَالْمَعَاصِي الَّتِي تُسْخِطُهُ وَلَا تُرْضِيهِ.
وَلَا يَسْتَوِي الْإِحْسَانُ إِلَى الْخَلْقِ، وَلَا الْإِسَاءَةُ إِلَيْهِمْ؛ لَا فِي ذَاتِهَا، وَلَا فِي وَصْفِهَا، وَلَا فِي جَزَائِهَا: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}.
ثُمَّ أَمَرَ بِإِحْسَانٍ خَاصٍّ لَهُ مَوْقِعٌ كَبِيرٌ، وَهُوَ الْإِحْسَانُ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ؛ فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أَيْ: فَإِذَا أَسَاءَ إِلَيْكَ مُسِيءٌ مِنَ الْخَلْقِ -خُصُوصًا مَنْ لَهُ حَقٌّ كَبِيرٌ عَلَيْكَ؛ كَالْأَقَارِبِ، وَالْأَصْحَابِ، وَنَحْوِهِمْ- إِسَاءَةً بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْفِعْلِ، فَقَابِلْهُ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ؛ فَإِنْ قَطَعَكَ فَصِلْهُ، وَإِنْ ظَلَمَكَ فَاعْفُ عَنْهُ، وَإِنْ تَكَلَّمَ فِيكَ غَائِبًا أَوْ حَاضِرًا فَلَا تُقَابِلْهُ، بَلِ اعْفُ عَنْهُ، وَعَامِلْهُ بِالْقَوْلِ اللَّيِّنِ، وَإِنْ هَجَرَكَ وَتَرَكَ خِطَابَكَ فَطَيِّبْ لَهُ كَلَامَكَ، وَابْذُلْ لَهُ سَلَامَكَ.
فَإِذَا قَابَلْتَ الْإِسَاءَةَ بِالْإِحْسَانِ حَصلَ فَائِدَةٌ عَظِيمَةٌ: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} أَيْ: كَأَنَّهُ قَرِيبٌ شَفِيقٌ.
{وَمَا يُلَقَّاهَا}: وَمَا يُوَفَّقُ لِهَذِهِ الْخَصْلَةِ الْحَمِيدَةِ {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} نُفُوسَهُمْ عَلَى مَا تَكْرَهُ، وَأَجْبَرُوهَا عَلَى مَا يُحِبُّهُ اللهُ، فَإِنَّ النُّفُوسَ مَجْبُولَةٌ عَلَى مُقَابَلَةِ الْمُسِيءِ بِإِسَاءَتِهِ، وَعَدَمِ الْعَفْوِ عَنْهُ، فَكَيْفَ بِالْإِحْسَانِ؟!!
فَإِذَا صَبَّرَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ، وَامْتَثَلَ أَمْرَ رَبِّهِ، وَعَرَفَ جَزِيلَ الثَّوَابِ، وَعَلِمَ أَنَّ مُقَابَلَتَهُ لِلْمُسِيءِ بِجِنْسِ عَمَلِهِ لَا يُفِيدُهُ شَيْئًا، وَلَا يَزِيدُ الْعَدَاوَةَ إِلَّا شِدَّةً، وَأَنَّ إِحْسَانَهُ إِلَيْهِ لَيْسَ بِوَاضِعٍ قَدْرَهُ، بَلْ مَنْ تَوَاضَعَ لِلهِ رَفَعَهُ؛ هَانَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ، وَفَعَلَ ذَلِكَ مُتَلَذِّذًا مُسْتَحْلِيًا لَهُ.
{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}: لِكَوْنِهَا مِنْ خِصَالِ خَوَاصِّ الْخَلْقِ الَّتِي يَنَالُ بِهَا الْعَبْدُ الرِّفْعَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، الَّتِي هِيَ مِنْ أَكْبَرِ خِصَالِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ».
وَكَذَلِكَ مَدَحَ الرَّسُولَ ﷺ مَنْ مَلَكَ نَفْسَهُ وَكَظَمَ غَيْظَهُ؛ فَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ مَرَّ بِقَوْمٍ يَصْطَرِعُونَ، فَقَالَ: ((مَا هَذَا؟)).
قَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! هَذَا فُلَانٌ الصِّرِّيعُ مَا يُصَارِعُ أَحَدًا إِلَّا صَرَعَهُ)).
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَلَّا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ -أَيْ: مِنْ فُلَانٍ الصِّرِّيعِ-؟ رَجُلٌ ظَلَمَهُ رَجُلٌ فَكَظَمَ غَيْظَهُ، فَغَلَبَهُ، وَغَلَبَ شَيْطَانَهُ، وَغَلَبَ شَيْطَانَ صَاحِبِهِ)). أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ، وَحَسَّنَهُ الْحَافِظُ فِي ((الْفَتْحِ)).
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَا تَعُدُّونَ الصُّرَعَةَ فِيكُمْ؟)).
قُلْنَا: ((الَّذِي لَا يَصْرَعُهُ الرِّجَالُ)).
قَالَ: ((لَيْسَ ذَاكَ، وَلَكِنِ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ وَالسِّيَاقُ لَهُ.
وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ دَعَاهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَى رُؤُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ اللهُ مِنَ الْحُورِ مَا شَاءَ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَه، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَا مِنْ جَرْعَةٍ أَعْظَمُ أَجْرًا عِنْدَ اللهِ مِنْ جَرْعَةِ غَيْظٍ كَظَمَهَا عَبْدٌ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ)). أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَكَانَ مِنْ دُعَاءِ النَّبِيِّ ﷺ: ((أَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ)). كَمَا فِي حَدِيثِ النَّسَائِيِّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
وَهَذَا عَزِيزٌ جِدًّا؛ لِأَنَّ الْغَضَبَ يَحْمِلُ صَاحِبَهُ عَلَى أَنْ يَقُولَ غَيْرَ الْحَقِّ وَيَفْعَلَ غَيْرَ الْعَدْلِ، فَمَنْ كَانَ لَا يَقُولُ إِلَّا الْحَقَّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا فَهَذِهِ دَلَالَةٌ عَلَى شِدَّةِ إِيمَانِهِ وَأَنَّهُ يَمْلِكُ نَفْسَهُ.
وَكَانَ الشَّعْبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- يُنْشِدُ:
لَيْسَتِ الْأَحْلَامُ فِي حَالِ الرِّضَا = إِنَّمَا الْأَحْلَامُ فِي حَالِ الْغَضَبِ
لَيْسَتِ الْأَحْلَامُ وَالْعُقُولُ وَالْحِلْمُ فِي حَالِ الرِّضَا..
((مِنْ سُبُلِ كَظْمِ الْغَيْظِ))
كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَأْمُرُ مَنْ غَضِبَ بِتَعَاطِي أَسْبَابٍ تَدْفَعُ عَنْهُ الْغَضَبَ وَتُسَكِّنُهُ، وَيَمْدَحُ مَنْ مَلَكَ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ.
* مِنْ ذَلِكَ: الِاسْتِعَاذَةُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ؛ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كُنْتُ جَالِسًا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ وَرَجُلَانِ يَسْتَبَّانِ، فَأَحَدُهُمَا احْمَرَّ وَجْهُهُ، وَانْتَفَخَتْ أَوْدَاجُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، لَوْ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ؛ ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ)). كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِذَا غَضِبَ الرَّجُلُ فَقَالَ: أَعُوذُ بِاللهِ؛ سَكَنَ غَضَبُهُ)). أَخْرَجَهُ السَّهْمِيُّ فِي ((تَارِيخِ جُرْجَان))، وَابْنُ عَدِيٍّ فِي ((الْكَامِلِ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)).
فَإِذَا تَعَوَّذَ الْغَضْبَانُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، وَصَحَّ قَصْدُهُ لِذَلِكَ؛ فَقَدِ الْتَجَأَ إِلَى اللهِ -تَعَالَى-، وَقَصَدَهُ وَاسْتَجَارَ بِهِ، وَاللهُ -تَعَالَى- أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يَخْذُلَ مَنِ اسْتَجَارَ بِهِ أَوْ أَنْ يَرُدَّهُ.
* أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ مَنْ غَضِبَ إِذَا كَانَ قَائِمًا بِأَنْ يَجْلِسَ، وَإِلَّا فَلْيَضْطَجِعْ؛ فَعَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ، فَإِذَا ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ وَإِلَّا فَلْيَضْطَجِعْ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
قِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى فِي هَذَا أَنَّ الْقَائِمَ مُتَهَيِّئٌ لِلِانْتِقَامِ وَالْعُدْوَانِ، وَأَنَّ الْجَالِسَ دُونَهُ فِي ذَلِكَ، وَالْمُضْطَجِعُ أَبْعَدُ عَنْهُ، فَأَمَرَهُ بِالتَّبَاعُدِ عَنْ حَالَةِ الِانْتِقَامِ وَالْعُدْوَانِ.
* كَذَلِكَ أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ الْعَبْدَ إِذَا غَضِبَ بِالسُّكُوتِ؛ فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((وَإِذَا غَضِبْتَ فَاسْكُتْ)). قَالَهَا ثَلَاثًا)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
أَمَرَ ﷺ بِالسُّكُوتِ عِنْدَ الْغَضَبِ، وَكَرَّرَ ذَلِكَ ثَلَاثًا لِلتَّأْكِيدِ، وَهَذَا دَوَاءٌ عَظِيمٌ لِلْغَضَبِ؛ لِأَنَّ الْغَضْبَانَ يَصْدُرُ مِنْهُ فِي حَالِ غَضَبِهِ مِنَ الْقَوْلِ مَا يَنْدَمُ عَلَيْهِ فِي حَالِ زَوَالِ غَضَبِهِ.
كَثِيرٌ مِنَ السِّبَابِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يَعْظُمُ ضَرَرُهُ إِذَا سَكَتَ زَالَ هَذَا الشَّرُّ كُلُّهُ عَنْهُ.
وَقَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: ((إِذَا غَضِبْتَ فَاسْكُتْ)) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْغَضْبَانَ مُكَلَّفٌ فِي حَالِ غَضَبِهِ بِالسُّكُوتِ، فَيَكُونُ -حِينَئِذٍ- مُؤَاخَذًا بِالْكَلَامِ.
((ثَمَرَاتُ كَظْمِ الْغَيْظِ))
مِنْ مُوجِبَاتِ دُخُولِ الْجَنَّةِ: كَظْمُ الْغَيْظِ؛ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ: ((دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ)).
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَا تَغْضَبْ وَلَكَ الْجَنَّةُ)). رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَالْمَعْنَى: لَا تَكُنْ سَرِيعَ الْغَضَبِ، يَسْتَثِيرُكَ وَيَسْتَفِزُّكَ كُلُّ شَيْءٍ، بَلْ كُنْ رَزِينًا مُطْمَئِنًّا مُتَأَنِيًّا؛ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ إِنَّمَا يَظْفَرُ بِالْإِنْسَانِ غَالِبًا عِنْدَ الْغَضَبِ، فَهُنَاكَ يَصْطَادُهُ الشَّيْطَانُ؛ فَإِنَّهُ يَقُولُ مَا لَا يُرْضِي الرَّبَّ، وَيَفْعَلُ مَا لَا يُرْضِيهِ، وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ وَرَدَّ غَضَبَهُ أَخْزَى شَيْطَانَهُ، وَسَلِمَتْ مُرُوءَتُهُ وَدِينُهُ.
((مَفَاسِدُ الْغَضَبِ وَعَوَاقِبُهُ))
الْغَضَبُ يَنْتُجُ عَنْهُ مَفَاسِدُ عَظِيمَةٌ، رُبَّمَا سَبَّ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ، أَوْ سَبَّ دِينَهُ، أَوْ سَبَّ رَبَّهُ، أَوْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ، أَوْ كَسَرَ إِنَاءَهُ، أَوْ أَحْرَقَ ثِيَابَهُ، وَكَثِيرٌ مِنَ الْوَقَائِعِ تَصْدُرُ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ إِذَا غَضِبُوا كَأَنَّمَا صَدَرَتْ مِنَ الْمَجْنُونِ.
وَكَمْ مِنْ فِتْنَةٍ فِي الْعَالَمِ تَعَاظَمَتْ وَتَفَاحَشَتْ فِيهَا الشُّرُورُ، وَهُتِكَتْ فِيهَا الْأَعْرَاضُ، وَسُفِكَتْ فِيهَا الدِّمَاءُ، وَقُطِعَتْ فِيهَا الْأَرْحَامُ، وَأَوْجَبَتْ غَضَبَ الرَّبِّ الْعَظِيمِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَأَوْجَبَتْ عَذَابَهُ الشَّدِيدَ بِسَبَبِ الْغَضَبِ؛ بَلِ الْغَضَبُ سَبَبُ مُعْظَمِ الْفِتَنِ فِي الْعَالَمِ -نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى الْعَافِيَةَ-.
مَعَ مَا فِي الْغَضَبِ مِنَ الْعَاجِلِ مِنْ أَلَمِ الْقَلْبِ وَتَنْغِيصِ الْعَيْشِ، وَمِنْ ثَمَّ حُرِّمَ الْقَضَاءُ بِالْحَقِّ عَلَى الْقَاضِي الْعَادِلِ عِنْدَ الْغَضَبِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ ﷺ: ((لَا يَقْضِي الْقَاضِي بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانٌ)). كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).
وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّهُ يَمْلِكُهُ الْغَضَبُ، وَلَا يَمْلِكُ هُوَ الْغَضَبَ -فَنَعُوذُ بِاللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْهُ-.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((كَانَ رَجُلَانِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مُتَوَاخِيَيْنِ، فَكَانَ أَحَدُهُمَا يُذْنِبُ، وَالْآخَرُ مُجْتَهِدٌ فِي الْعِبَادَةِ، فَكَانَ لَا يَزَالُ الْمُجْتَهِدُ يَرَى الْآخَرَ عَلَى الذَّنْبِ فَيَقُولُ: أَقْصِرْ، فَوَجَدَهُ يَوْمًا عَلَى ذَنْبٍ فَقَالَ لَهُ: أَقْصِرْ، فَقَالَ: خَلِّنِي وَرَبِّي، أَبُعِثْتَ عَلَيَّ رَقِيبًا؟!
فَقَالَ: وَاللهِ! لَا يَغْفِرُ اللهُ لَكَ -أَوْ: لَا يُدْخِلُكَ اللهُ الْجَنَّةَ-، فَقَبَضَ أَرْوَاحَهُمَا، فَاجْتَمَعَا عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَقَالَ لِهَذَا الْمُجْتَهِدِ -أَيْ: فِي الْعِبَادَةِ-: أَكُنْتَ بِي عَالِمًا، أَوْ كُنْتَ عَلَى مَا فِي يَدِي قَادِرًا؟! وَقَالَ لِلْمُذْنِبِ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، وَقَالَ لِلْآخَرِ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى النَّارِ)).
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْبَقَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.
أَدْخَلَ نَفْسَهُ فِيمَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُدْخِلَهَا فِيهِ!
لَا تَدْخُلْ بَيْنَ الْعِبَادِ وَرَبِّهِمْ؛ فَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يُعَامِلُ بِالْفَضْلِ وَيُعَامِلُ بِالْعَدْلِ، فَلَا تَدْخُلْ أَنْتَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ!
فَأَمَّا هَذَا الْمُجْتَهِدُ فِي الْعِبَادَةِ فَإِنَّهُ لَمَّا اسْتَفَزَّهُ سُلُوكُ أَخِيهِ الَّذِي كَانَ مُوَاخِيهِ.. لَمَّا اسْتَفَزَّهُ سُلُوكُهُ فِي الْإِسْرَافِ فِي الْمَعَاصِي وَالْبُعْدِ عَنِ الطَّاعَاتِ غَضِبَ فَقَالَ: ((وَاللهِ! لَا يَغْفِرُ اللهُ لَكَ أَوْ: لَا يُدْخِلُكَ الْجَنَّةَ)).
فَيَقُولُ لَهُ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: ((أَكُنْتَ بِي عَالِمًا؟ أَوْ كُنْتَ عَلَى مَا فِي يَدِي قَادِرًا))، وَيَأْمُرُ بِأَنْ يُذْهَبَ بِهِ إِلَى النَّارِ، وَهُوَ الْمُجْتَهِدُ فِي الْعِبَادَةِ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَإِنَّ اللهَ -تَعَالَى- يَقُولُ: ((اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي)).
لَا تَدْخُلْ أَنْتَ بَيْنَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَعِبَادِهِ!
مَا لَكَ أَنْتَ؟!
أَقْبِلْ عَلَى شَأْنِكَ!
فَهَذَا غَضِبَ للهِ، ثُمَّ تَكَلَّمَ فِي حَالِ غَضَبِهِ للهِ بِمَا لَا يَجُوزُ، وَحَكَمَ عَلَى اللهِ بِمَا لَا يَعْلَمُ، فَأَحْبَطَ اللهُ عَمَلَهُ؛ فَكَيْفَ بِمَنْ تَكَلَّمَ فِي غَضَبِهِ لِنَفْسِهِ، وَمُتَابَعَةِ هَوَاهُ بِمَا لَا يَجُوزُ؟!
فَهَذَا إِنَّمَا غَضِبَ للهِ، وَقَالَ فِي حَالِ غَضَبِهِ: ((وَاللهِ! لَا يَغْفِرُ اللهُ لَكَ، أَوْ لَا يُدْخِلُكَ اللهُ الْجَنَّةَ)).
هُوَ يَتَكَلَّمُ للهِ، وَيَغْضَبُ للهِ، فَكَيْفَ بِمَنْ يَغْضَبُ لِنَفْسِهِ، وَيُتَابِعُ هَوَاهُ بِمَا لَا يَجُوزُ؟!!
فَمَنْ غَضِبَ فِي غَيْرِ حَقٍّ وَلَا مَوْعِظَةِ صِدْقٍ فَلْيَعْلَمْ أَنَّ الشَّيْطَانَ هُوَ الَّذِي يَتَلَاعَبُ بِهِ، وَأَنَّهُ مَسَّهُ طَائِفٌ مِنْهُ، وَفِي هَذَا مَا يَزْجُرُ عَنِ الْغَضَبِ لِكُلِّ مَنْ يَوَدُّ أَلَّا يَكُونَ فِي يَدِ الشَّيْطَانِ يُصَرِّفُهُ كَيْفَ يَشَاءُ.
((اكْظِمْ غَيْظَكَ وَاجْعَلْ غَضَبَكَ للهِ!))
احْرِصْ عَلَى أَنْ يَكُونَ غَضَبُكَ للهِ، وَتَذَكَّرْ هَذَا الْحَدِيثَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّ رَجُلًا شَتَمَ أَبَا بَكْرٍ، وَالنَّبِيُّ ﷺ جَالِسٌ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ يَعْجَبُ وَيَبْتَسِمُ، فَلَمَّا أَكْثَرَ رَدَّ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بَعْضَ قَوْلِهِ -أَيْ: بَعْضَ قَوْلِ هَذَا الشَّاتِمِ-، هُوَ يَشْتِمُ أَبَا بَكْرٍ فِي مَجْلِسِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَهُوَ جَالِسٌ يَسْمَعُ، فَيَعْجَبُ وَيَتَبَسَّمُ، وَلَكِنَّ أَبَا بَكْرٍ صَامِتٌ سَاكِتٌ لَا يَتَكَلَّمُ، فَلَمَّا أَكْثَرَ الرَّجُلُ فِي الشَّتْمِ رَدَّ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ بَعْضَ قَوْلِهِ.
فَغَضِبَ النَّبِيُّ ﷺ وَقَامَ، فَلَحِقَهُ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! كَانَ يَشْتِمُنِي وَأَنْتَ جَالِسٌ، فَلَمَّا رَدَدْتُ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ غَضِبْتَ وَقُمْتَ)).
قَالَ ﷺ: ((إِنَّهُ كَانَ مَعَكَ مَلَكٌ يَرُدُّ عَنْكَ، فَلَمَّا رَدَدْتَ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ وَقَعَ الشَّيْطَانُ، فَلَمْ أَكُنْ لِأَقْعُدَ مَعَ الشَّيْطَانِ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَجَوَّدَ إِسْنَادَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
تَأَمَّلْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَاعْجَبْ مِنْ حِلْمِ الرَّسُولِ ﷺ وَدَعْوَتِنَا إِلَى مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ بِكُلِّ سَبِيلٍ مَهْمَا كَانَتِ الْأَحْوَالُ وَالظُّرُوفُ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
المصدر: الْحَالُ أَبْلَغُ مِنَ الْمَقَالِ