((رِعَايَةُ الْمُسِنِّينَ وَحِمَايَةُ حُقُوقِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((حُسْنُ الخُلُقِ مِنْ كُبْرَى غَايَاتِ دِينِنَا))
فقَدْ حَصَرَ النَّبِيُّ ﷺ الْغَايَةَ مِنَ الْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ فِي تَمَامِ صَالِحِ الْأَخْلَاقِ، فَقَالَ ﷺ: ((إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ)).
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ))، وَالْحَاكِمُ، وَأَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ أَحْمَد شَاكِر وَالشَّيْخُ الْأَلْبَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا.
فَلَا عَجَبَ إِذَنْ أَنْ يَكُونَ حُسْنُ الْخُلُقِ غَايَةَ الْغَايَاتِ فِي سَعْيِ الْعَبْدِ لِاسْتِكْمَالِ الصِّفَاتِ عَلَى أَسَاسٍ مِنَ التَّوْحِيدِ الْمَكِينِ، وَثَابِتِ الْإِخْلَاصِ وَالْيَقِينِ.
وَقَدْ كَانَ إِمَامُ الْأَنْبِيَاءِ ﷺ فِي ((حُسْنِ الْخُلُقِ)) عَلَى الْقِمَّةِ الشَّامِخَةِ، وَفَوْقَ الْغَايَةِ وَالْمُنْتَهَى، فَكَانَ كَمَا قَالَ عَنْهُ رَبُّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
وَهُوَ ﷺ مَعَ ذَلِكَ لَا يَنْفَكُّ يَدْعُو رَبَّهُ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ بِقَوْلِهِ: ((اللهم اهْدِنِي لأَحْسَنِ الأَخْلاقِ، فَإِنَّهُ لا يَهْدِي لأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئِهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إلَّا أَنْتَ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
يَطْلُبُ مِنْ رَبِّهِ أَنْ يُرْشِدَهُ لِصَوَابِ الْأَخْلَاقِ، وَيُوَفِّقَهُ لِلتَّخَلُّقِ بِهِ، وَأَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ قَبِيحَ الْأَخْلَاقِ وَمَذْمُومَ الصِّفَاتِ، وَيُبْعِدَ ذَلِكَ عَنْهُ، مَعَ أَنَّهُ ﷺ عَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ، وَمَعَ أَنَّ خُلَقَهُ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ.
*مِنْ مُقْتَضَى حُسْنِ الْخُلُقِ وَالرَّحْمَةِ تَوْقِيرُ الصَّغِيرِ لِلْكَبِيرِ:
وَمِنْ مُقْتَضَى حُسْنِ الْخُلُقِ وَالرَّحْمَةِ أَنْ يُوَقِّرَ الصَّغِيرُ الْكَبِيرَ، لِوُجُودِ حُسْنِ الْخُلُقِ لَدَيْهِ، وَأَنْ يَرْحَمَ الْكَبِيرُ الصَّغِيرَ؛ لِأَنَّ الْكَبِيرَ قَدْ عَقَلَ مَا لَا يَعْقِلُ الصَّغِيرُ، وَعَلِمَ مَا لَا يَعْلَمُ الصَّغِيرُ، فَتَرَاهُ يَرْحَمُ الصَّغِير وَيُحْسِنُ إِلَيْهِ، سَوَاءٌ بِالتَّعْلِيمِ، أَوْ بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِفَكِّ كُرْبَتِهِ، وَعَدَمِ مُؤَاخَذَتِهِ إِنْ زَلَّ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
((ذِكْرُ كِبَرِ السِّنِّ وَالشَّيْخُوخَةِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ))
*مَرْحَلَةُ كِبَرِ السِّنِّ وَالشَّيْخُوخَةِ تَكُونُ بِقَدَرِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-:
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم: 54].
اللهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي بَدَأَ خَلْقَكُمْ مِنْ نُطْفَةٍ، وَأَنْشَأَكُمْ عَلَى ضَعْفِ حَالِ الطُّفُولَةِ، ثُمَّ جَعَلَ اللهُ فِيكُمْ مِنْ بَعْدِ ضَعْفِ الطُّفُولَةِ شَيْئًا مِنَ الْقُوَّةِ النِّسْبِيَّةِ الَّتِي تَتَدَرَّجُ مُتَصَاعِدَةً حَتَّى تَبْلُغُوا كَمَالَ قُوَّتِكُمْ، وَهِيَ قُوَّةُ الشَّبَابِ، ثُمَّ جَعَلَ اللهُ بَعْدَ هَذِهِ الْقُوَّةِ ضَعْفَ الْكِبَرِ وَالْهَرَمِ وَضَعْفَ الشَّيْخُوخَةِ وَالشَّيْبَ، فَتَتَنَاقَصُ لَدَيْكُمْ هَذِهِ الْقُوَّةُ تَدْرِيجِيًّا حَتَّى تَصِلَ إِلَى تَمَامِ الضَّعْفِ وَنِهَايَةِ الْكِبَرِ إِذَا كُنْتُمْ مِنَ الْمُعَمَّرِينَ، أَوْ تُوَافِيكُمْ مَنَايَاكُمْ قَبْلَ ذَلِكَ.
يَخْلُقُ اللهُ مَا يَشَاءُ خَلْقَهُ؛ مِنَ الضَّعْفِ وَالْقُوَّةِ، وَالشَّبَابِ وَالشَّيْبَةِ، وَهُوَ الْعَلِيمُ بِتَدْبِيرِ خَلْقِهِ، الْقَدِيرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ يَشَاؤُهُ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} [الحج: 5].
وَمِنْكُمْ مَنْ يَتَوَفَّى قَبْلَ بُلُوغِ وَقْتِ الشَّبَابِ وَالْقُوَّةِ وَاكْتِمَالِ الْعَقْلِ، وَبَعْضُكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى الْهَرَمِ وَالْخَرَفِ وَضَعْفِ الْعَقْلِ، فَيَبْلُغُ السِّنَّ الَّذِي يَتَغَيِّرُ بِهِ عَقْلُهُ، فَلَا يَعْقِلُ هَذَا الْمُعَمَّرُ شَيْئًا مِمَّا كَانَ يَعْلَمُهُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَيَصِيرُ كَمَا كَانَ فِي أَوَّلِ طُفُولَتِهِ؛ ضَعِيفَ الْبِنْيَةِ، قَلِيلَ الْإِدْرَاكِ.
*وَذَكَرَ اللهُ بُلُوغَ الْبَعْضِ الْكِبَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ:
وَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء: 23].
وَأَنْهَى رَبُّكَ إِرَادَتَهُ التَّكْلِيفِيَّةَ بِقَضَاءٍ مُبْرَمٍ فِي وَصَايَا مُوَجَهَّةٍ لِلرَّسُولِ ﷺ وَلِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أُمَّتِهِ:
الْوَصِيَّةُ الْأَولَى: تَفْسِيرُهَا أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ، فَاجْعَلُوا كُلَّ عِبَادَاتِكُمْ مَحْصُورَةً بِهِ، وَمَقْصُورَةً عَلَيْهِ.
الْوَصِيَّةُ الثَّانِيَةُ: وَأَمَرَ بِالْوَالِدَيْنِ بِرًّا بِهِمَا، وَعَطْفًا عَلَيْهِمَا، وَإِحْسَانًا إِلَيْهِمَا.
إِمَّا يَبْلُغَانِ إِلَى حَالَةِ الضَّعْفِ وَالْعَجْزِ، فَيَصِيرَانِ عِنْدَكَ فِي آخِرِ الْعُمُرِ كَمَا كُنْتَ عِنْدَهُمَا فِي أَوَّلِ الْعُمُرِ، فَلَا تَقُلْ لَهُمَا كَلِمَةَ تَضْجُّرٍ وَكَرَاهِيَّةٍ مِثْلَ كَلِمَةِ أُفٍّ، فَضْلًا عَمَّا هُوَ أَشَدُّ مِنْهَا، وَلَا تَزْجُرْهُمَا عَمَّا يَتَعَاطَيَانِهِ مِمَّا لَا يُعْجِبُكَ، وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا حَسَنًا جَمِيلًا لَيِّنًا فِيهِ تَكْرِيمٌ لَهُمَا وَتَعْظِيمٌ لِفَضْلِهِمَا.
وَالرَّسُولُ ﷺ أَعْلَمَنَا بِأَعْمَارِ أُمَّتِهِ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ، وَأَقَلُّهُم مَنْ يَجُوزُ ذَلِكَ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَه، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ يُبَيِّنُ لَنَا النَّبِيُّ ﷺ عَنْ أَعْمَارِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَأَنَّ الْغَالِبَ الْأَغْلَبَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهَا مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ، وَأَنَّ الْقَلِيلَ مَنْ يُجَاوِزُ هَذَا الْقَدْرَ الَّذِي ذَكَرَهُ الرَّسُولُ ﷺ، وَأَقَلُّهُم مَنْ يَجُوزُ ذَلِكَ -يَعْنِي: مَنْ يَتَخَطَّى السَّبْعِينَ-.
وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْغَالِبِ بِدَلِيلِ شَهَادَةِ الْحَالِ، فَإِنَّ مِنَ الْأُمَّةِ مَنْ لَمْ يَبْلُغُوا السِّتِّينَ، مِنْهُمْ مَنْ يُتَوَفَّى دُونَ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجُوزُ السَّبْعِينَ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَتَخَطَّى ذَلِكَ، فَأَخْرَجَ النَّبِيُّ ﷺ ذَلِكَ مَخْرَجَ الْأَغْلَبِ.
((كِبَارُ السِّنِّ -الْمُسِنُّونَ- الصَّالِحُونُ خَيْرُ النَّاسِ))
لَقَدْ دَلَّنَا النَّبِيُّ ﷺ عَلَى فَضْلِ طُولِ الْعُمُرِ مَعَ حُسْنِ الْعَمَلِ، فَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟
قَالَ: ((مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ)).
قَالَ: فَأَيُّ النَّاسِ شَرٌّ؟
قَالَ: ((مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ)). أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
خَيْرُكُم مَنْ طَالَ عُمُرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ.
وَهَذَا وَرَدَ -أَيْضًا- فِي حَدِيثِ أَحْمَدَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-، وَفِي حَدِيثِ غَيْرِهِ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((خِيَارُكُمْ أَطْوَلُكُمْ أَعْمَارًا وَأَحْسَنُكُمْ أَخْلَاقًا)).
فَخَيْرُ النَّاسِ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ))، فَإِنَّهُ لَا يَزْدَادُ إِلَّا فَضْلًا، وَلَا يَزْدَادُ بِطُولِ الْعُمُرِ إِلَّا خَيْرًا، وَلَا يَزْدَادُ بِعَمَلِ الْخَيْرِ مِنَ اللهِ إِلَّا قُرْبًا.
وَأَمَّا شَرُّ النَّاسِ فَمَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ، فَإِنَّهُ لَا يَزْدَادُ بِطُولِ الْعُمُرِ إِلَّا شَرًّا، وَلَا يَزْدَادُ عَنِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِطُولِ عُمُرِهِ إِلَّا بُعْدًا.
خَيْرُكُمْ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ.
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ طُولَ الْعُمُرِ وَالْبَقَاءَ عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ فُرْصَةٌ لِلتَّزَوُّدِ مِنَ الطَّاعَاتِ، وَالتَّقَرُّبِ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ.
فَرَأْسُ مَالِ الْمُسْلِمِ عُمُرُهُ.
لِذَا احْرِصْ عَلَى أَوْقَاتِكَ وَسَاعَاتِكَ؛ حَتَّى لَا تَضِيعَ سُدَى.
((فَضْلُ كِبَارِ السِّنِّ -الْمُسْنِّينَ- الصَّالِحِينَ))
لَقَدْ أَعْطَى الْإِسْلَامُ الْكَبِيرَ حَقَّهُ مِنَ الشَّرَفِ وَالتَّقْدِيرِ وَالتَّوْقِيرِ؛ لِمَا خُصَّ بِهِ مِنَ السَّبْقِ فِي الْوُجُودِ وَتَجْرِبَةِ الْأُمُورِ.
وَإِجْلَالُ الْكَبِيرِ هُوَ حَقُّ سِنِّهِ؛ لِكَوْنِهِ تَقَلَّبَ فِي الْعُبُودِيَّةِ للهِ فِي أَمَدٍ طَوِيلٍ، وَرَحْمَةُ الصَّغِيرِ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى رفَعَ عَنْهُ التَّكْلِيفَ.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيَعْرِفْ حَقَّ كَبِيرِنَا، فَلَيْسَ مِنَّا». وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَالْحَاكِمُ فِي «الْمُسْتَدْرَكِ»، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
قَوْلُهُ ﷺ: «فَلَيْسَ مِنَّا»: أَيْ: لَيْسَ عَلَى سُنَّتِنَا، أَوْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْكَمَالِ مِنَّا.
فِي الْحَدِيثِ: دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ حُسْنِ الْأَخْلَاقِ وَوُجُوبِ الرَّحْمَةِ، مِنْ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ لِبَعْضٍ، وَمِنْ مُقْتَضَى حُسْنِ الْخُلُقِ وَالرَّحْمَةِ أَنْ يُوَقِّرَ الصَّغِيرُ الْكَبِيرَ، لِوُجُودِ حُسْنِ الْخُلُقِ لَدَيْهِ، وَأَنْ يَرْحَمَ الْكَبِيرُ الصَّغِيرَ؛ لِأَنَّ الْكَبِيرَ قَدْ عَقَلَ مَا لَا يَعْقِلُ الصَّغِيرُ، وَعَلِمَ مَا لَا يَعْلَمُ الصَّغِيرُ.
((رِعَايَةُ الْمُسِنِّينَ مِنْ هَدْيِ الْمُرْسَلِينَ -عَلَيْهُمُ السَّلَامُ- ))
*نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ ﷺ هُوَ الْقُدْوَةُ فِي رِعَايَةِ الْمُسِنِّينَ وَالْمَسَاكِينِ وَالضُّعَفَاءِ وَالْأَرَامَلِ:
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ سَلَامَةُ الصُّدُورِ، وَسَخَاوَةُ النَّفْسِ، وَالنَّصِيحَةُ لِلْأُمَّةِ، وَبِهَذِهِ الْخِصَالِ بَلَغَ الذُّرَى مَنْ بَلَغَ.
سَلَامَةُ الصَّدْرِ، سَخَاوَةُ النَّفْسِ، النَّصِيحَةُ لِلْأُمَّةِ، وَبَذْلُ النَّفْسِ لِلْمُسْلِمِينَ كَمَا كَانَ نَبِيُّنَا الْأَمِينُ ﷺ فِي حَاجَةِ الْمَرْأَةِ الْمِسْكِينَةِ وَالضَّعِيفِ، كَانَ فِي حَاجَةِ الْكَسِيرِ، كَانَ فِي حَاجَةِ الْحَسِيرِ، كَانَ فِي حَاجَةِ الْفُقَرَاءِ وَالْمُعْوزِينَ، كَانَ فِي حَاجَةِ الثَّكَالَى وَالْأَرَامَلِ وَالْمَسَاكِينَ، يَبْذُلُ نَفْسَهُ، وَتَأْخُذُ الْجَارِيَةُ بِكُمِّهِ بِيَدِهِ، تَسِيرُ مَعَهُ فِي أَيِّ طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْمَدِينَةِ شَاءَتْ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهَا ﷺ.
وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ كَمَا حَكَتْ عَائِشَةُ، وَلَمْ تَبْلُغْ بِهِ السُّنُونُ مَبَالِغَهَا، فَإِنَّهُ ﷺ قَبَضَهُ رَبُّهُ إِلَيْهِ وَشَيْبُهُ مَعْدُودٌ، شَيَّبَتْهُ هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا؛ خَوْفًا مِنَ اللهِ وَقِيَامًا بِأَمْرِ اللهِ، وَصِفَتُهُ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- مَعَ ذَلِكَ وَمَا عَلَتْ بِهِ السُّنُونُ، قَالَتْ لَمَّا كَانَ قَدْ أَصَابَهُ وَذَلِكَ حِينَ حَطَمَهُ النَّاسُ، حَطَمَهُ النَّاسُ فِي بِدَايَةِ الْأَمْرِ بِكُفْرِهِمْ وَشِرْكِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، وَطُغْيَانِهِمْ وَجَبَرُوتِهِمْ، وَصِرَاعِهِمْ مَعَ الْحَقِّ، وَمُحَاوَلَاتِهِمْْ لِطَمْسِ نُورِهِ، وَتَحَمَّلَ مَا تَحَمَّلَ رَاضِيًا فِي ذَاتِ اللهِ ﷺ، حَتَّى أُخْرِجَ مِنْ بَلَدِهِ وَمِنْ دَارِهِ، مِنْ بَلَدِ آبَائِهِ وَأَجْدَادِهِ، وَهُوَ أَوْلَى الْخَلْقِ بِهِ.
وَحُرِمَ مِنْ جِوَارِ بَيْتِ اللهِ الْحَرَامِ، وَمِنَ السُّجُودِ عِنْدَهُ تَبَتُّلًا للهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَصُدَّ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَهُوَ أَوْلَى الْخَلْقِ بِهِ، وَكَانَ قَدْ جَاءَهُ فِي نُسُكِ مُحْرِمًا مُعْتَمِرًا، قَدْ سَاقَ الْهَدْيَ، فَحُبِسَ الْهَدْيُ فِي مَحِلِّهِ حَتَّى أَكَلَ وَبَرَهُ؟
فَصُدَّ وَمَنْ مَعَهُ عَنِ البَيْتِ الْحَرَامِ، وَقَدْ بَنَاهُ أَبُوهُ وَجَدُّهُ، بَنَاهُ إِسْمَاعِيلُ مَعَ إِبْرَاهِيمَ، يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلَ، حِينَ حَطَمَهُ النَّاسُ بِكَيْدِهِمُ الرَّخِيصِ، بِتَصَوُّرَاتِهِمُ الْهَزِيلَةِ، بِنَزَوَاتِهِمُ الْوَضِيعَةِ، وَعَدَمِ فَهْمِهِمْ، وَسُوءِ قَصْدِهِمْ، وَعَدَمِ إِلْمَامِهِمْ بِجَنَبَاتِ نُفُوسِهِمْ فِي اتِّسَاعِ أُفُقِهَا الْوَضِيءِ، بِوُقُوفِهِمْ عِنْدَ حُدُودِ رَغَبَاتِهِمْ وَكَيْدِهِمْ وَمَكْرِهِمْ، مَعَ اتِّبَاعِهِمْ لِشَيَاطِينِهِمْ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَالنَّبِيُّ يُصَارِعُ ذَلِكَ كُلَّهُ، يَتَحَمَّلُ الْأَذَى فِيهِ وَالْمَكْرُوهَ، رَاضِيًا عَنْ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-، يَتَحَمَّلُ ذَلِكَ فِي ذَاتِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
ثُمَّ كَانَ مَا كَانَ، وَأَعَزَّ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ جُنْدَهُ وَنَصَرَهُمْ، وَأَعْلَى شَأْنَهُمْ، وَفَتَحَ لَهُمْ الْبِلَادَ وَقُلُوبَ الْعِبَادِ، وَمَكَّنَ نَبِيَّهُ ﷺ وَالْمُؤْمِنُونَ مَعَهُ مِنَ الْأَرْضِ وَمِنْ رِقَابِ الْخَلْقِ، فَسَارُوا فِي ذَلِكَ سِيرَةَ الْحَقِّ، وَلَمْ يَظْلِمُوا وَلَمْ يَحِيفُوا، وَكَانَ مَا كَانَ، وَوَقَعَتْ أُمُورٌ، وَكَانَ فِي حَاجَةِ إِخْوَانِهِ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَكَانَ دَاعِيًا إِلَى رَبِّهِ فِي كُلِّ حَالٍ، فِي حَرْبِهِ وَسِلْمِهِ، فِي قِيَامِهِ وَقُعُودِهِ وَعلَى جَنْبٍ ﷺ؛ لِأَنَّهُ بُعِثَ مُعَلِّمًا.
كَانَ ﷺ دَاعِيًا إِلَى رَبِّهِ فِي حَلِّهِ وَتَرْحَالِهِ، فِي قِيَامِهِ وَفِي ظَعْنِهِ، كَانَ ﷺ دَاعِيًا إِلَى رَبِّهِ فِي بَيْعِهِ وَشِرَائِهِ، فِي ضَحِكِهِ وَبُكَائِهِ، فِي مُعَامَلَةِ الْعَدُوِّ وَالصَّدِيقِ، وَفِي مُعَامَلَةِ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، وَفِي مُعَامَلَةِ الْكُفَّارِ الْأَصْلِيِّينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ.
كَانَ يَقْضِي حَاجَاتِ الْخَلْقِ، وَذَلِكَ حِينَ حَطَمَهُ النَّاسُ، تَقُولُ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((بَذَلَ نَفْسَهُ، وَلَمْ يَبْخَلْ بِشَيْءٍ -حَاشَاهُ- ﷺ )).
نَبِيُّكُمْ ﷺ عِنْدَمَا رَجَعَ وَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَرَجَعَ يَقُولُ: «زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي»، قَالَ: «إِنِّي أَخْشَى أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصَابَنِي شَيْءٌ».
قَالَتْ خَدِيجَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: «لَا وَاللهِ، لَا يُصِيبُكَ شَرٌّ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَاللهِ لَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا».
عِنْدَنَا دَلَالَتَانِ:
*الدَّلَالَةُ الْأُولَى: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَتْ أَخْلَاقُهُ لَا تَصَنُّعَ فِيهَا، لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَمَا أَخْبَرَ عَنْ أَخْلَاقِهِ، جَعَلَهَا فِي الذِّرْوَةِ الْعُلْيَا مِنْ سُمُوِّ الْأَخْلَاقِ وَجَلَالِهَا وَكَمَالِهَا وَبَهَائِهَا: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
وَالتَّعْبِيرُ بِـ «عَلَى» وَهِيَ الِاسْتِعْلَاءُ، فَهُوَ عَلَى الْخُلُقِ الْعَظِيمِ ﷺ، كَأَنَّهُ يَعْلُوهُ وَيَفُوقُهُ، {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} ﷺ، فَكَانَ هَذَا مِمَّا طَبَعَ اللهُ عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ، وَكَمَّلَهُ بِهِ، فَكَانَ فِي بَيْتِهِ -وَفِي الْبَيْتِ تَبْدُو أَخْلَاقُ الرَّجُلِ- كَانَ عَلَى أَحْسَنِ مَا يَكُونُ مِنَ الْخُلُقِ، فَهَذِهِ دَلَالَةٌ.
*وَالدَّلَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ صَنَائِعَ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ مُحْسِنًا قَوْلًا وَفِعْلًا وَاعْتِقَادًا؛ حَفِظَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عِنْدَ نُزُولِ الْمُلِمَّاتِ، فَصَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ.
قَالَتْ: «لَا وَاللهِ، لَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا»، ثُمَّ ذَكَرَتِ الْعِلَّةَ: «إِنَّكَ لَتَحْمَلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الدَّهْرِ»، إِذَنْ؛ مَا دُمْتَ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ بِحَالٍ أَبَدًا أَنْ يُصِيبَكَ شَيْءٌ، أَوْ أَنْ يُخْزِيكَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، أَوْ أَنْ يَتَخَلَّى عَنْكَ، ﷺ.
*مُسَاعَدَةُ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِابْنَتَيِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ؛ لِكِبَرِ سِنَّهِ:
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص: 23].
{وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ}: وَهُوَ بِئْرٌ كَانُوا يَسْقُونَ مِنْهُ مَوَاشِيَهُمْ، {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ}: أَيْ جَمَاعَةً مِنَ النَّاسِ {يَسْقُونَ}: يَسْقُونَ مَوَاشِيَهُمْ {وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ}: يَعْنِي سِوَى الْجَمَاعَةِ، مُنْتَحِيًا عَنْهُمْ {امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ}: تَحْبِسَانِ وَتَمْنَعَانِ أَغْنَامَهُمَا عَنِ الْمَاءِ حَتَّى يَفْرُغَ النَّاسُ وَتَخْلُوَ لَهُمَا الْبِئْرُ.
قَالَ الْحَسَنُ: تَكُفَّانِ الْغَنَمَ عَنْ أَنْ تَخْتَلِطَ بِأَغْنَامِ النَّاسِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: تَكُفَّانِ النَّاسَ عَنْ أَغْنَامِهِمَا، وَقِيلَ: تَمْنَعَانِ أَغْنَامَهُمَا عَنْ أَنْ تَشِذَّ وَتَذْهَبَ.
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصْوَبُ الْأَقْوَالِ لِمَا بَعْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ}، فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصْوَبُ: تَحْبِسَانِ وَتَمْنَعَانِ أَغْنَامَهُمَا عَنِ الْمَاءِ حَتَّى يَفْرُغَ النَّاسُ وَتَخْلُوَ لَهُمَا الْبِئْرُ.
لَا تُزَاحِمَانِ، وَهَذَا مِنَ الشُّرُوطِ، وَيَأْتِي شَرْطٌ آخَرُ فِي خُرُوجِ الْمَرْأَةِ لِلْعَمَلِ؛ أَنْ تَكُونَ مُحْتَاجَةً إِلَى ذَلِكَ حَاجَةً ضَرِورِيَّةً {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ}: وَلَيْسَ هُنَالِكَ مَنْ يَسْقِي لَهُمَا، ثُمَّ إِذَا مَا خَرَجَتَا انْتَحَيَتَا جَانِبًا.
((رَحْمَةُ الْإِسْلَامِ بِالْمُسِنِّينَ))
إِنَّ مَدَارَ الشَّرِيعَةِ عَلَى نَفْيِ الْحَرَجِ وَإِثْبَاتِ التَّيْسِيرِ {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر} [البقرة: 185].
فَمَدَارُ شَرِيعَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- عَلَى نَفْيِ الْحَرَجِ وَرَفْعِهِ؛ لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ فِي مُنْتَهَاهَا إِنَّمَا هِيَ جَلْبُ مَنْفَعَةٍ وَدَرْءُ مَفْسَدَةٍ.
وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَا كَلَّفَ الْإِنْسَانَ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا وَجَعَلَ لَهُ فِيهِ تَيْسِيرًا وَرَفَعَ عَنْهُ فِيهِ الْحَرَجَ.
فَتُشْتَرَطُ -مَثَلًا- الْقُدْرَةُ لِلصِّيَامِ: وَعَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى الصِّيامِ كَالْعَجْزُ الدَّائِمُ كَحَالِ كَبِيرِ السِّنِّ, أَوْ الْمَرِيضِ الَّذِي لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ -أَيْ: شِفَاؤُهُ مِنْ مَرَضِهِ-.
وَالَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الصَّوْمَ لِكِبَرِهِ؛ أَطْعَمَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا.
*رَحْمَةُ الْإِسْلَامِ حَتَّى بِكِبَارِ السِّنِّ مِنَ الْكَافِرِينَ فِي الْحَرْبِ:
قَالَ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190].
عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: ((الْمُرَادُ بِذَلِكَ: النَّهْيُ عَنْ ارْتِكَابِ الْمَنَاهِي مِنَ الْمُثْلَةِ، وَالْغُلُولِ، وَقَتْلِ النِّسَاءِ وَالشُّيُوخِ الَّذِينَ لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى الْقِتَالِ، وَكَذَلِكَ النَّهْيُ عَنْ قَتْلِ الرُّهْبَانِ، وَتَحْرِيقِ الْأَشْجَارِ، وَقَتْلِ الْحَيَوَانِ مِنْ غَيْرِ مَصْلَحَةٍ)).
قَالَ القُرْطُبِيُّ: «وَلِي عَلَيهِ مِنَ النَّظَرِ: أَنَّ قَاتَلَ (فَاعَلَ) لَا يَكُونُ فِي الغَالِبِ إِلَّا مِنَ اثْنَيْنِ كَالمُقَاتَلَةِ وَالمُشَاتَمَةِ وَالمُخَاصَمَةِ، وَالقِتَالُ لَا يَكُونُ فِي النِّسَاءِ وَلَا فِي الصِّبْيَانِ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ؛ كَالرُّهْبَانِ وَالزَّمْنَى وَالشُّيُوخِ، فَلَا يُقَاتَلُونَ».
وَفي الآيَةِ نَهْيٌ مُطْلَقٌ يُفِيدُ التَّحْرِيمَ عَنْ قِتَالِ مَنْ لَمْ يُقاتِلْ؛ مِنَ النِّسَاءِ، وَالأَوْلَادِ، وَالُّشيُوخِ، وّالرُّهْبَانِ، وَكَذَلِكَ أَفَادَتِ الآيَةُ بِمَفْهُومِ المُخَالَفَةِ -وَهُوَ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ عِنْدَ غَيْرِ الأَحْنَافِ- عَدَمَ قَتْلِ مَنْ لَمْ يَقَاتِلْنَا كَالمَرْضَى وَالصِّغَارِ والنِّسَاءِ.
قَالَ النَّوَوَيُّ: «أجْمَعَ العُلَمَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ إِذَا لَمْ يُقَاتِلُوا».
عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ: «نَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ».
وَأَخْرَجَ مِالِكٌ وَأَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ ابْنًا لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الأَنْصَارِيِّ أَخْبَرَهُ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللهِ ﷺ النَّفَرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَبَا الحُقَيْقِ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالوِلْدَانِ».
كَتَبُوا أَيْضًا: «لَا يَقْتُلُ الْأَعْمَى وَالزَّمْنَى، وَلَا الرَّاهِبَ، وَلَا العَبْدَ، وَلَا يَقْتُلُ -المُجَاهِدُ- الفَلَّاحِينَ، وَلَا الصُّنَّاعَ».
فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190]، وَلَا تَعْتَدُواْ، يَقُولُ: «لَا تَقْتُلُوا النِّسَاءَ، وَالصِّبْيَانَ، وَالشَّيْخَ الكَبِيرَ, وَلَا يُقْتَلُ الزَّمْنَى، وَلَا الْأَعْمَى، وَلَا الرَّاهِبُ، وَلَا يُقْتَلُ العَبْدُ».
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: «أَدْرِكُوا خَالِدًا فَمُرُوهُ أَلَّا يَقْتُلَ ذُرِّيَّةً وَلَا عَسِيفاً»؛ وَهُمُ العَبِيدُ.
قَالَ مَالِكٌ: «لَا يُقْتَلُ النِّسَاءُ، وَالصِّبْيَانُ، وَالشَّيْخُ الكَبِيرُ, وَالرُّهْبَانُ المَحْبُوسُونَ فِي الصَّوَامِعِ وَالدَّيَّارَاتِ».
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ -رَحِمَهُ اللهُ-: «إِذَا ظَفَرَ بِالكُفَّارِ؛ لَمْ يَجُزْ قَتْلُ صَبِيٍّ لَمْ يَبْلُغْ بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَلَا تُقْتَلُ امْرَأَةٌ، وَلَا هَرِمٌ وَلَا شَيْخٌ فَانٍ، وَبِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ».
فدِينُ مُحَمَّدٍ ﷺ رَحْمَةٌ فِي السِّلْمِ، وَرَحْمَةٌ فِي الحَرْبِ.
((حُقُوقُ الْمُسِنِّينَ فِي دِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- ))
1*مِنْ حُقُوقِ كِبَارِ السِّنِّ -الْمُسِنِّينَ- فِي دِينِ الْإِسْلَامِ: الْإِجْلَالُ وَالِاحْتِرَامُ وَالتَّقْدِيرُ:
الْإِسْلَامُ يُعْطِي الْكَبِيرَ حَقَّهُ مِنَ الشَّرَفِ وَالتَّقْدِيرِ وَالتَّوْقِيرِ، وَإِجْلَالُهُ هُوَ حَقُّ سِنِّهِ؛ لِكَوْنِهِ تَقَلَّبَ فِي الْعُبُودِيَّةِ للهِ فِي أَمَدٍ طَوِيلٍ.
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيُجِلَّ كَبِيرَنَا، فَلَيْسَ مِنَّا». وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
«يُجِلُّ»: يُعَظِّمُ قَدْرَهُ.
قَوْلُهُ ﷺ: «فَلَيْسَ مِنَّا»: وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ ابْتَدَأَتْ بِلَفْظِ «لَيْسَ مِنَّا»، وتَعَدَّدَتْ أَقْوَالُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ:
فَمَرَّةً قَالُوا: لَيْسَ مِثْلَنَا.
وَمَرَّةً قَالُوا: لَيْسَ مِنَ الْعَامِلِينَ بِسُنَّتِنَا الْجَارِينَ عَلَى طَرِيقَتِنَا.
وَمَرَّةً قَالُوا: لَيْسَ مِنْ أَهْلِ سُنَّتِنَا.
وَمَرَّةً قَالُوا: لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْكَمَالِ مِنَّا.
«لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الْخُدُودَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ».
فَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ إِخْرَاجَهُ مِنَ الدِّينِ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ الْمُبَالَغَةُ فِي الرَّدْعِ عَنِ الْوُقُوعِ فِي مِثْلِ هَذَا الْعَمَلِ، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِوَلَدِهِ عِنْدَ مُعَاتَبَتِهِ: لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي؛ أَيْ: مَا أَنْتَ عَلَى طَرِيقَتِي.
وَقِيلَ الْمَعْنَى: لَيْسَ عَلى دِينِنَا الْكَامِلِ؛ أَيْ: أَنَّهُ خَرَجَ عَنْ فَرْعٍ مِنْ فُرُوعِ الدِّينِ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَصْلُ الدِّينِ.
فِي الْحَدِيثِ: وُجُوبُ التَّوْقِيرِ مِنَ الصَّغِيرِ لِلْكَبِيرِ؛ احْتِسَابًا وَطَلَبًا لِلْأَجْرِ كَذَلِكَ، وَرَحْمَةِ الْكَبِيرِ لِلصَّغِيرِ احْتِسَابًا وَطَلَبًا لِلْأَجْرِ، وَاتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ، وَحِرْصًا عَلَى التَّحَلِّي بِالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا رَحْمَةُ الْكَبِيرِ لِلصَّغِيرِ، وَتَوْقِيرُ الصَّغِيرِ لِلْكَبِيرِ.
*وَمِنْ مَظَاهِرِ احْتِرَامِ الْكَبِيرِ: التَّوْسِعَةُ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ:
مِنْ إِجْلَالِ الْكَبِيرِ: التَّوْسِعَةُ لِلْقَادِمِ عَلَى أَهْلِ الْمَجْلِسِ إِذَا أَمْكَنَ التَّوْسِيعُ لَهُ، سِيَّمَا إِذَا كَانَ مِمَّنْ أُمِرَ بِإِكْرَامِهِ مِنَ الشُّيُوخِ سَوَاءٌ كَانَ ذَا شَيْبَةٍ، أَوْ ذَا عِلْمٍ، أَوْ لِكَوْنِهِ كَبِيرَ قَوْمٍ، كَمَا فِي حَدِيثِ جَرِيرٍ -وَالْحَدِيثُ حَسَنٌ بِمَجْمُوعِ طُرُقِهِ كَمَا فِي «السِّلْسلَةِ الصَّحِيحَةِ»-: «إِذَا أَتَاكُمْ كَرِيمٌ فَأَكْرِمُوهُ».
2*مِنْ حُقُوقِ كِبَارِ السِّنِّ -الْمُسِنِّينَ- فِي دِينِ الْإِسْلَامِ: إِكْرَامُهُمْ، وَالشَّفَقَةُ عَلَيْهِمْ، وَالرِّفْقُ بِهِمْ:
عَنِ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: إِنَّ مِنَ إِجْلَالِ اللهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ، غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ، وَلَا الْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ. وَالْحَدِيثُ حَدِيثُ حَسَنٌ، أَخْرَجَهُ -أَيْضًا- أَبُو دَاوُدَ مَرْفُوعًا.
وَ«الْأَشْعَرِيِّ»: هُوَ أَبُو مُوسَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
«إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللهِ»؛ أَيْ: مِنْ تَبْجِيلِهِ وَتَعْظِيمِهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
«إِكْرَامَ ذَيِ الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ»: تَعْظِيمَ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ فِي الْإِسْلَامِ بِتَوْقِيرِهِ فِي الْمَجَالِسِ، وَالرِّفْقِ بِهِ وَالشَّفَقَةِ عَلَيْهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ كَمَالِ تَعْظِيمِ اللهِ تَعَالَى؛ لِحُرْمَةِ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ عِنْدَ اللهِ.
فَالَّذِي يَتَدَبَّرُ مُتَأَمِّلًا يَرَى أَهْمِيَّةَ هَذِهِ الْمَعْطُوفَاتِ فِي الْأَحَادِيثِ، وَيَعْلَمُ سُمُوَّ مَنْزِلَتِهَا؛ فَإِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللهِ تَعَالَى ومِنْ تَعْظِيمِهِ أَنْ يَعْرِفَ الْمَرْءُ حَقَّ هَؤُلَاءِ عَلَيْهِ.
فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ: تَأْكِيدُّ نَبَوِيٌّ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى تَوْقِيرِ الْكِبَارِ، وَإِجْلَالِهِمْ، وَالِاعْتِرَافِ بِحُقُوقِهِمْ، وَالْمُعَامَلَةِ مَعَهُمْ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ.
وَفِيهَا: بَيَانُ فَضِيلَةِ وَأَسَاسِ الْمُجْتَمَعِ الْإِسْلَامِيِّ، مَعَ بَيَانِ الْخَيْرِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَيْهِ هَذَا الْمُجْتَمَعُ الْفَاضِلُ؛ لِأَنَّ خَلَلًا عَظِيمًا جِدًّا يَحْدُثُ فِي مُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَمَا لَا يُعْرَفُ لِلْكَبِيرِ حَقُّهُ، وَالنَّبِيُّ ص شَدَّدَ فِي ذَلِكَ كَمَا فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ.
3*مِنْ حُقُوقِ كِبَارِ السِّنِّ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ: أَنْ نُقَدِّمَهُمْ عِنْدَ الْكَلَامِ:
فَعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ: أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ رِجَالٍ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةَ خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ مِنْ جُهْدٍ أَصَابَهُمْ، فَأَتَى مُحَيِّصَةُ فَأَخْبَرَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ قَدْ قُتِلَ وَطُرِحَ فِي عَيْنٍ أَوْ فَقِيرٍ، فَأَتَى يَهُودَ، فَقَالَ: أَنْتُمْ وَاللَّهِ قَتَلْتُمُوهُ.
قَالُوا: وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ. ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ فَذَكَرَ لَهُمْ ذَلِكَ، ثُمَّ أَقْبَلَ هُوَ وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ -وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ- وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ، فَذَهَبَ مُحَيِّصَةُ لِيَتَكَلَّمَ، وَهُوَ الَّذِى كَانَ بِخَيْبَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِمُحَيِّصَةَ: «كَبِّرْ كَبِّرْ». يُرِيدُ السِّنَّ؛ فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ مُحَيِّصَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ وَإِمَّا أَنْ يُؤْذَنُوا بِحَرْبٍ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
فِي الْحَدِيثِ: الْبَدْءُ بِالْكَلَامِ لِلْأَكْبَرِ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْإِكْرَامِ إِلَّا إِذَا كَانَ الصَّغِيرُ أَعْلَمَ وَأَقْدَرَ مِنَ الْكَبِيرِ عَلَى الْبَيَانِ وَالتِّبْيِينِ.
«لَمَّا جَاءَ وَفْدٌ إِلَى عُمْرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَشَرَعَ أَصْغَرُ الْقَوْمِ يَتَكَلَّمُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ: عَلَى رِسْلِكَ فَلْيَتَكَلَّمْ أَكْبَرُكُمْ.
فَقَالَ لَهُ الْغُلَامُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ بِالسِّنِّ لَكَانَ مِنْ رَعِيَّتِكَ مَنْ هُوَ أَوْلَى بِمَجْلِسِكَ مِنْكَ.
قَالَ: فَتَكَلَّمْ بَارَكَ اللهُ فِيكَ.
تَعَلَّمْ فَلَيْسَ الْمَرْءُ يُولَدُ عَالِمًا
|
|
|
وَلَيْسَ جَهُولُ الْقَوْمِ كَمَن هُوَ عَالِمٌ
|
فَإِنَّ كَبِيرَ الْقَوْمِ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ
|
|
|
صَغِيرٌ إِذَا الْتَفَّتْ عَلَيْهِ الْمَحَافِلُ».
|
|
|
|
4*مِنْ حُقُوقِ كِبَارِ السِّنِّ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ: الْحَيَاءُ وَالتَّأَدُّبُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ:
عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: قَالَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: ((أَخْبِرُونِي بِشَجَرَةٍ مَثَلُهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا، لاَ تَحُتُّ وَرَقَهَا)).
فَوَقَعَ فِي نَفْسِي النَّخْلَةُ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ، وَثَمَّ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، فَلَمَّا لَمْ يَتَكَلَّمَا، قَالَ النَّبِيُ ﷺ: «هِيَ النَّخْلَةُ».
فَلَمَّا خَرَجْتُ مَعَ أَبِي، قُلْتُ: يَا أَبَتِ، وَقَعَ فِي نَفْسِي النَّخْلَةُ.
قَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَقُولَهَا؟ لَوْ كُنْتَ قُلْتَهَا كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا.
قَالَ: مَا مَنَعَنِي إِلَّا لَمْ أَرَكَ، وَلَا أَبَا بَكْرٍ تَكَلَّمْتُمَا، فَكَرِهْتُ.
الْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ))، وَفِيهِ أَلْفَاظٌ سِوَى مَا ذَكَرَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ)).
قَوْلُهُ: ((تُؤْتِي أُكُلَهَا))؛ أَيْ: تُعْطِي ثَمَرَهَا.
قَوْلُهُ: ((لَا تَحُتُّ وَرَقَهَا))؛ أَيْ: لَا تُسْقِطُهُ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: ((وَجَعَلْتُ أُرِيدُ أَنْ أَقُولَهَا فَإِذَا أَسْنَانُ الْقَوْمِ)): ((أَسْنَانُ)): جَمْعُ سِنٍّ بِمَعْنَى عُمُرٍ؛ يَعْنِي: كِبَارَ الْقَوْمِ وَشُيُوخَهُمْ حَاضِرُونَ، أَفَأَتَكَلَّمُ أَنَا؟!
فَمَا أَعْظَمَ أَدَبَهُ!
وَمَا أَقَلَّ أَدَبَ مَنْ بَعْدَهُمْ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ!
فِي الْحَدِيثِ: تَوْقِيرُ الْكِبَارِ، لَكِنْ إِذَا لَمْ يَعْرِفِ الْكِبَارُ الْمَسْأَلَةَ فَيَنْبَغِي لِلصَّغِيرِ أَنْ يَقُولَهَا.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ –صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-, صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَومِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
5*حُقُوقٌ عَامَّةٌ لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ -كِبَارُ السِّنِّ بِهَا أَجْدَرُ وَأَوْلَى-:
فَالنَّبِيُّ ﷺ أَمَرَكُمْ بِالتَّوَادِّ؛ قَالَ ﷺ: ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)).
وَثَبَتَ فِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ))، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ)) أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ: إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ)).
فَفي هذا الحَدِيثِ بَيَانُ عدةِ حُقُوقٍ بَينَ المُسْلِمِينَ:
*الحقُّ الأوَّلُ: السَّلامُ:
فَالسَّلَامُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَهُوَ مِنْ أَسْبَابِ تَآلُفِ الْمُسْلِمِينَ وَتَوَادِّهِمْ، كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ، وَكَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: ((وَاللهِ لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَفَلَا أُخْبِرُكُمْ بِشَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَينَكُمْ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).
وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَبْدَأُ مَنْ لَقِيَهُ بِالسَّلَامِ، وَيُسَلِّمُ عَلَى الصِّبْيَانِ إِذَا مَرَّ بِهِمْ، كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).
وَالسُّنَّةُ أَنْ يُسَلِّمَ الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ، وَالرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي، وَلَكِنْ إِذَا لَمْ يَقُمْ بِالسُّنَّةِ مَنْ هُوَ أَوْلَى بِهَا؛ فَلْيَقُمْ بِهَا الْآخَرُ؛ لِئَلَّا يَضِيعَ السَّلَامُ، فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمِ الصَّغِيرُ فَلْيُسَلِّمِ الْكَبِيرُ، وَإِذَا لَمْ يُسَلِّمِ الْقَلِيلُ فَلْيُسَلِّمِ الْكَثِيرُ؛ لِكَيْ يَحُوزُوا الْأَجْرَ.
*الْحَقُّ الثَّانِي: إِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ:
أَيْ: إِذَا دَعَاكَ إِلَى مَنْزِلِهِ؛ لِتَنَاوُلِ طَعَامٍ أَوْ غَيْرِهِ فَأَجِبْهُ، وَالْإِجَابَةُ إِلَى الدَّعْوَةِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ جَبْرِ قَلْبِ الدَّاعِي، وَجَلْبِ الْمَوَدَّةِ وَالْأُلْفَةِ، وَيُسْتَثْنَي مِنْ ذَلِكَ وَلِيمَةُ الْعُرْسِ، فَإِنْ أَجَابَ فَإِنَّ الْإِجَابَةَ إِلَى الدَّعْوَةِ إِلَيْهَا واجِبَةٌ بِشُرُوطٍ مَعْرُوفَةٍ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: ((وَمَنْ لَمْ يُجِبْ فَقَدْ عَصَى اللهَ وَرَسُولَهُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلَعَلَّ قَوْلَهُ ﷺ: ((إِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ)): يَشْمَلُ حَتَّى الدَّعْوَةَ لِمُسَاعَدَتِه وَمُعَاوَنَتِهِ، فَإِنَّكَ مَأْمُورٌ بِإِجَابَةِ أَخِيكَ الْمُسْلِمِ إِذَا دَعَاكَ لِذَلِكَ، فَإِذَا دَعَاكَ لِتُعِينَهُ فِي حَمْلِ شَيْءٍ، أَوْ إِلْقَائِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّكَ مَأْمُورٌ بِمُسَاعَدَتِهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: ((الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا)).
*الْحَقُّ الثَّالِثُ: إِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْهُ:
يَعْنِي: إِذَا جَاءَ إِلَيْكَ يَطْلُبُ نَصِيحَتَكَ لَهُ فِي شَيْءٍ فَانْصَحْهُ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنَ الدِّينِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((الدِّينُ النَّصِيحَةُ: لِلَّهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلِأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
أَمَّا إِذَا لَمْ يَأْتِ إِلَيْكَ يَطْلُبُ النَّصِيحَةَ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ ضَرَرٌ أَوْ إِثْمٌ فِيمَا سَيُقْدِمُ عَلَيْهِ وَجَبَ عَلَيْكَ أَنْ تَنْصَحَهُ وَإِنْ لَمْ يَأْتِ إِلَيْكَ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ إِزَالَةِ الضَّرَرِ وَالْمُنْكَرِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ كَانَ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِيمَا سَيَفْعَلُ وَلَا إِثْمَ وَلَكِنَّكَ تَرَى أَنَّ غَيْرَهُ أَنْفَعُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تَقُولَ لَهُ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَسْتَنْصِحَكَ فَتَلْزَمُ النَّصِيحَةُ حِينَئِذٍ.
*الْحَقُّ الرَّابِعُ: إِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللهَ فَشَمِّتْهُ:
أَيْ قُلْ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللهُ؛ شُكْرًا لَهُ عَلَى حَمْدِهِ لِرَبِّهِ عِنْدَ الْعُطَاسِ، أَمَّا إِذَا عَطَسَ وَلَمْ يَحْمَدِ اللهَ؛ فَإِنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ، فَلَا يُشَمَّتُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَحْمَدِ اللهَ كَانَ جَزَاؤُهُ أَنْ لَا يُشَمَّتَ.
وتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ إِذَا حَمِدَ فَرْضٌ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الرَّدُّ، فَيَقُولُ: ((يَهْدِيكُمُ اللهُ ويُصْلِحُ بَالَكُمْ)).
وَإِذَا اسْتَمَرَّ مَعَهُ الْعُطَاسُ وَشَمَّتَّهُ ثَلَاثًا فَقُلْ لَهُ فِي الرَّابِعَةِ: ((أَنْتَ مَزْكُومٌ))، أَوْ ((عَافَاكَ اللهُ))، بَدَلًا مِنْ قَوْلِكَ: يَرْحَمُكَ اللهُ.
*الْحَقُّ الْخَامِسُ: إِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ:
وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ: زِيَارَتُهُ، وَهِيَ حَقٌّ لَهُ عَلَى إِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَجِبُ عَلَيهِمُ الْقِيَامُ بِهَا، وَكُلَّمَا كَانَ لِلْمَرِيضِ حَقٌّ عَلَيْكَ مِنْ قَرَابَةٍ أَوْ صُحْبَةٍ أَوْ جِوَارٍ كَانَتْ عِيَادَتُهُ آكَدَ.
وَالْعِيَادَةُ بِحَسَبِ حَالِ الْمَرِيضِ، وَبِحَسَبِ حَالِ مَرَضِهِ، فَقَدْ تَتَطَلَّبُ الْحَالُ كَثْرَةَ التَّرَدُّدِ إِلَيْهِ، وَقَدْ تَتَطَلَّبُ الْحَالُ قِلَّةَ التَّرَدُّدِ إِلَيْهِ؛ فَالْأَوْلَى مُرَاعاةُ الْأَحْوَالِ.
وَالسُّنَّةُ لِمَنْ عَادَ مَرِيضًا: أَنْ يَسْأَلَ عَنْ حَالِهِ، وَيَدْعُوَ لَهُ، وَيَفْتَحَ لَهُ بَابَ الْفَرَجِ وَالرَّجَاءِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ الصِّحَّةِ وَالشِّفَاءِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُذَكِّرَهُ التَّوْبَةَ بِأُسْلُوبٍ لَا يُرَوِّعُهُ، فَيَقُولُ لَهُ مَثَلًا: إِنَّ فِي مَرَضِكَ هَذَا تَكْتَسِبُ خَيْرًا، فَإِنَّ الْمَرَضَ يُكَفِّرُ اللهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَمْحُو بِهِ السَّيِّئَاتِ، وَلَعَلَّكَ تَكْسِبُ بِانْحِبَاسِكَ أَجْرًا كَثِيرًا بِكَثْرَةِ الذِّكْرِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالدُّعَاءِ.
*الْحَقُّ السَّادِسُ: إِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ:
فَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِ عَلَى أَخِيهِ, وَفِيهِ أَجْرٌ كَبِيرٌ؛ فَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((مَنْ تَبِعَ الجَنَازَةَ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ تَبِعَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ)).
قِيلَ: وَمَا الْقِيرَاطَانِ؟
قَالَ: ((مِثْلُ الْجَبَلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ)).
*الْحَقُّ السَّابِعُ: وَمِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ: كَفُّ الْأَذَى عَنْهُ:
فَإِنَّ فِي أَذِيَّةِ الْمُسْلِمِينَ إِثْمًا عَظِيمًا، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأَحزاب: 58].
وَالْغَالِبُ أَنَّ مَنْ تَسَلَّطَ عَلَى أَخِيهِ بِأَذًى؛ فَإِنَّ اللهَ يَنْتَقِمُ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ، بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ)).
وَحُقُوقُ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ كَثِيرَةٌ، وَلَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الْجَامِعُ لِهَذِهِ الْحُقُوقِ كُلِّهَا قَوْلُ الرَّسُولِ ﷺ: ((الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ))، فَإِنَّهُ مَتَى قَامَ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الْأُخُوَّةِ اجْتَهَدَ أَنْ يَتَحَرَّى لَهُ الْخَيْرَ كُلَّهُ، وَأَنْ يَجْتَنِبَ كُلَّ مَا يَضُرُّهُ.
6*مِنْ حُقُوقِ الْكِبَارِ سِنًّا وَحِكْمَةً وَعِلْمًا: تَوْلِيَتُهُمْ مَصَالِحَ الْمُسْلِمِينَ، وَجَعْلُهُمُ الْمَرْجِعَ وَأَصْحَابَ الْكَلِمَةِ:
عَنْ حَكِيمِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ، أَنَّ أَبَاهُ أَوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ بَنِيهِ فَقَالَ: ((اتَّقُوا اللَّهَ وَسَوِّدُوا أَكْبَرَكُمْ؛ فَإِنَّ الْقَوْمَ إِذَا سَوَّدُوا أَكْبَرَهُمْ خَلَفُوا أَبَاهُمْ، وَإِذَا سَوَّدُوا أَصْغَرَهُمْ أَزْرَى بِهِمْ ذَلِكَ فِي أَكْفَائِهِمْ)). هَذَا الْحَدِيثُ حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ.
* «أَبَاهُ»: أَبُوهُ: هُوَ قَيْسُ بْنُ عَاصِمِ بْنِ سِنَانٍ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: لَهُ صُحْبَةٌ.
رَوَى عَنِ النَّبِيِّ ﷺ عِدَّةَ أَحَادِيثَ، كَانَ عَاقِلًا حَلِيمًا، يُقْتَدَى بِهِ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو: قِيلَ لِلْأَحْنَفِ: مِمَّنْ تَعَلَّمْتَ الْحِلْمَ؟
قَالَ: مِنْ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِيهِ: «هَذَا سَيِّدُ أَهْلِ الْوَبَرِ».
«سَوَّدُوا»؛ أَيْ: جَعَلُوهُ سَيِّدًا عَلَيْهِمْ.
«خَلَفُوا أَبَاهُمْ»؛ أَيْ: قَامُوا مَقَامَ أَبِيهِمْ فِي حُسْنِ الْفَعَالِ.
«أَزْرَى بِهِمْ ذَلِكَ»؛ أَيْ: عِيبَ عَلَيْهِمْ، وَاحْتُقِرَ صَنِيعُهُمْ.
وَالْمَعْنَى: اجْعَلُوا سَادَتَكُمْ الْمَنْظُورَ إِلَيْهِمْ الْمُطَاعِينَ فِي أَمْرِهِمْ أَكَابِرَكُمْ.
«فَإِنَّ الْقَوْمَ إِذَا سَوَّدُوا أَكْبَرَهُمْ خَلَفُوا أَبَاهُمْ»؛ أَيْ: إِنَّكُمْ إِذَا سَوَّدْتُمْ أَكَابِرَكُمْ لَمْ يَزَلْ لِأَبِيكُمْ فِيكُمْ خَلِيفَةٌ، فَأَحْيُوا ذِكْرَ آبَائِكُمْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ أَحْيَيْتُمْ ذِكْرَ أَبِيكُمْ كَمَا فِي لَفْظِ: «أَحْيَوْا ذِكْرَ أَبِيهِمْ».
«أَزْرَى»؛ أَيْ: عَابَ، وَأَزْرَى بِأَخِيهِ: أَدْخَلَ عَلَيْهِ أَمْرًا يُرِيدُ أَنْ يُلَبِّسَ عَلَيْهِ بِهِ.
«أكَفْائِهِمْ». الْأَكْفَاءُ: جَمْعُ (كُفْءٍ)، وَهُوَ: النَّظِيرُ الْمُسَاويِ وَالْمُمَاثِلُ.
وَالْكُفْءُ: الْقَوِيُّ الْقَادِرُ عَلَى تَصْرِيفِ الْعَمَلِ.
«وَإِذَا سَوَّدُوا أَصْغَرَهُمْ أَزْرَى بِهِمْ ذَلِكَ فِي أَكْفَائِهِمْ»: إِذَا جَعَلُوا الصَّغِيرَ سَيَّدَهُمُ الْمُطَاعَ كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا فِي نَقْصِ قَدْرِ الْأَكَابِرِ وَتَسْفِيهِهِمْ وَالزُّهْدِ فِيهِمْ، وَإِذَا سَوَّدْتُمْ أَصَاغِرَكُمْ هَانَ أَكَابِرُكُمْ عَلَى النَّاسِ.
تَأَمَّلْ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ، هِيَ مِمَّا يُقَالُ لَهُ فِي هَذَا الْعَصْرِ: مِنْ أُمُورِ الِاجْتِمَاعِ، وَضَبْطِ مَسَائِلِ الِاجْتِمَاعِ فِي تَعَامُلِ الْمُجْتَمَعَاتِ وَتَعَامُلِ الْأَفْرَادِ فِي مْجُتَمَعَاتِهِمْ، وَفِي هَذَا ضَبْطٌ لِإِيقَاعِ الْحَيَاةِ، حَتَّى تَكُونَ عَلَى قَدَمِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
فِي هَذَا الْحَدِيث: الْحَثُّ عَلَى تَكْرِيمِ الْأَكَابِرِ وَتَبْجِيلِهِمْ وَتَعْيِينِهِمْ لِحَمْلِ مَسْؤُولِيَّاتِ الْمُجْتَمَعِ الْإِسْلَامِيِّ وَالْإِشْرَافِ عَلَيْهِ.
وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ الْإِرْشَادُ إِلَى أَنْ يَكُونَ الْكَبِيرُ مِنَ الْأَبْنَاءِ هُوَ الْمَرْجِعُ وَصَاحِبُ الْكَلِمَةِ، وَهَذَا إِذَا كَانَ أَهْلًا لِذَلِكَ، فَإِذَا وُجِدَ مَنْ هُوَ أَصْغَرُ مِنْهُ وَلَكِنَّهُ أَكْبَرُ فِي الْعِلْمِ فَصَاحِبُ الْعِلْمِ يُقَدَّمُ عَلَى مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ وَالِدُهُمْ بِأَنَّ الْقَوْمَ إِذَا سَوَّدُوا أَكْبَرَهُمْ خَلَفُوا أَبَاهُمْ، يَعْنِي: كَأَنَّ الْأَبَ مَوْجُودٌ وَقَامَ الْكَبِيرُ مَقَامَهُ عِنْدَ فَقْدِهِ، وَإِذَا سَوَّدُوا أَصْغَرَهُمْ أَزْرَى بِهِمْ ذَلِكَ فِي أَكْفَائِهِمْ، يَعْنِي: يَحْتَقِرُونَ الْكَبِيرَ وَلَا يَعْتَبِرُونَ الصَّغِيرَ.
7*مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِ عَلَى أَخِيهِ -وَكِبَارُ السِّنِّ مِنَ الْمُسِنِّينَ بِهَا أَوْلَى وَأَجْدَرُ؛ لِضَعْفِهِمْ-: الْحِرْصُ عَلَى قَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ، وَكَشْفِ كُرُبَاتِهِمْ، وَسَتْرِ عَوَرَاتِهِمْ، وَرِعَايَتِهِمْ:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَمَا فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» وَغَيْرِهِ: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا؛ نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ فِي الدُّنْيَا؛ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ فِي الدُّنْيَا؛ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ».
عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ: إِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى الْمُؤْمِنِ، كَسَوْتَ عَوْرَتَهُ، أَوْ أَشْبَعْتَ جَوْعَتَهُ، أَوْ قَضَيْتَ لَهُ حَاجَةً».
النَّبِيُّ ﷺ يَجْعَلُ فِي قِمَّةِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَفِي قِمَّةِ الْأَعْمَالِ الْمَقْبُولَةِ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: إِدْخَالَ السُّرُورِ عَلَى الْمُؤْمِنِ: «كَسَوْتَ عَوْرَتَهُ، أَوْ أَشْبَعْتَ جَوْعَتَهُ، أَوْ قَضَيْتَ لَهُ حَاجَةً»، وَذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ الْحَاجَةَ مُنَكَّرَةً لِيَدُلَّ عَلَى أَيِّ حَاجَةٍ قُضَيْتَ، قَضَيْتَ لَهُ حَاجَةً بِمُطْلَقِ الْحَاجَةِ.
فَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: «أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جَزَعًا، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا».
وَذَكَرَ الرَّسُولُ ﷺ أَمْرًا عَظِيمًا جِدًّا، لَوْ تَأَمَّلَ الْإِنْسَانُ فِيهِ تَأمُّلًا صَحِيحًا؛ لَعَلِمَ أَنَّ الْأَعْمَالَ تَتَفَاوَتُ مَرَاتِبُهَا عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَأَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- لَمْ يَجْعَلِ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ مَقْصُورَةً عَلَى أُمُورٍ بِعَيْنِهَا، وَإِنَّمَا جَعَلَ الْخَيْرَ شَائِعًا فِي أَعْمَالِ الْبِرِّ وَالصَّلَاحِ.
جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ، وَأَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟
فَقَالَ ﷺ: «أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا».
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَمَا فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» وَغَيْرِهِ: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا؛ نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ فِي الدُّنْيَا؛ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ فِي الدُّنْيَا؛ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ».
((أَوْلَى الْكِبَارِ بِالْبِرِّ الْوَالِدَانِ))
إِنَّ حَقَّ الْأَبَوَيْنِ يَلِي حَقَّ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَحَقَّ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي الْفَرْضِيَّةِ وَالْوُجُوبِ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخَلْقِ لَيُفَرِّطُونَ فِي هَذَا الْحَقِّ، وَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَيْهِ، وَلَا يُلْقُونَ لَهُ بَالًا!! بَلْ يَعْتَدِي الْوَاحِدُ مِنْهُمْ عَلَى هَذَا الْحَقِّ الْمَكِينِ الَّذِي ذَكَرَهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَعْدَ الْأَمْرِ بِعِبَادَتِهِ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}.
{وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)} [الإسراء: 23-24].
فَأَمَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَعْدَ الْأَمْرِ بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَبِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا؛ فَهَذَا مِنْ آكَدِ الْحُقُوقِ وَمِنْ أَجَلِّهَا.
وَبَيَّنَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّهُ لَا يُجِيزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِكَلِمَةِ سُوءٍ تَنُمُّ عَنْ ضَجَرٍ يُحِسُّهُ فِي نَفْسِهِ، فَيُعْلِنُهُ بِلِسَانِهِ، {فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}.
فَلَمْ يُجِزْ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يَتَأَفَّفَ الْإِنْسَانُ مِنْ أَبَوَيْهِ إِذَا بَلَغَا الْكِبَرَ، وَصَارَا إِلَى حَالٍ لَا يَتَحَكَّمَانِ فِيهَا فِي الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ، فَيَتَأَفَّفُ مِنْهُمَا مُتَضَجِّرًا!! وَقَدْ كَانَا يَرَيَانِ مِنْهُ مِثْلَ ذَلِكَ وَأْعَظَمَ مِنْهُ وَلَا يَتَضَجَّرَانِ، وَإِنَّمَا يَأْتِيَانِ بِهِ بِسَمَاحَةِ نَفْسٍ وَطِيبٍ خَاطِرٍ.
فَنَهَى رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْ تَأَفُّفِ الْمَرْءِ مِنْ أَبَوَيْهِ أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ حَقَّهُمَا عَظِيمًا، وَجَعَلَ الْوَاجِبَ عَلَى الْعَبْدِ تِجَاهَهُمَا وَاجِبًا جَسِيمًا، وَإِذَا فَرَّطَ فِي ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ ((مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةُ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يُدَّخَرُ لَهُ مِنَ الْعُقُوبَةِ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْبَغْيِ، وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ)).
وَإِنَّ أَوْلَى الْأَرْحَامِ بِالرِّعَايَةِ لَهِيَ مَا يَتَّصِلُ بِالْأَبَوَيْنِ، وَالنَّبِيُّ ﷺ قَدْ سُئِلَ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ؛ فَأَجَابَ ﷺ بِتَرْتِيبٍ وَاضِحٍ لَا لَبْسَ فِيهِ وَلَا غُمُوضَ؛ فَإِنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟
قَالَ: ((أُمُّكَ)).
قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟
قَالَ: ((أُمُّكَ)).
قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟
قَالَ: ((أُمُّكَ)).
قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟
قَالَ: ((أَبُوكَ)).
فَذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ لِلْأُمِّ، وَكَرَّرَ ذَلِكَ ﷺ مِرَارًا، ثُمَّ ذَكَرَ الْأَبَ بَعْدُ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ أَخْبَرَ أَنَّ الْوَالِدَ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَقَالَ: ((الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَخُذْ أَوْ فَدَعْ))؛ يَعْنِي: إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَدْخُلَ مِنْ أَوْسَطِ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ فَدُونَكَ بِرَّ أَبِيكَ؛ فَإِنَّ أَبَاكَ هُوَ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ)) بِسَنَدِهِ عَنْ أُمِّنَا أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهَا- عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، قَالَ: ((أُرِيْتُ فِي الْمَنَامِ فِي الرُّؤْيَا أَنِّي كُنْتُ فِي الْجَنَّةِ، فَسَمِعْتُ رَجُلًا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟))
قَالُوا: هُوَ حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ.
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِعَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((كَذَاكِ الْبِرُّ، كَذَاكِ الْبِرُّ))، وَكَان بَرًّا بِأُمِّهِ.
فَأُرِيَهُ النَّبِيُّ ﷺ فِي الرُّؤْيَا، وَسَمِعَ تِلَاوَتَهُ لَمَّا قَبَضَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي الْجَنَّةِ؛ لِبِرِّهِ بِأُمِّهِ، وَكَانَ أَبَرَّ النَّاسِ بِأُمِّهِ -رَضِيَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُ-.
((ثَمَرَاتُ رِعَايَةِ كِبَارِ السِّنِّ عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ))
*اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- لَا يُخْزِي مَنْ يُعِينُ الْمُحْتَاجِينَ وَالضُّعَفَاءَ الْمَسَاكِينَ -خَاصَّةً مِنَ الْمُسِنِّينَ-:
قَالَتْ خَدِيجَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: «لَا وَاللهِ، لَا يُصِيبُكَ شَرٌّ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَاللهِ لَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا».
*رِعَايَةُ الْمُسِنِّينَ -خَاصَّةً الْوَالِدَيْنِ- سَبَبٌ فِي تَفْرِيجِ الْكُرُبَاتِ:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((بَيْنَمَا ثَلَاثَةُ نَفَرٍ يَتَمَشَّوْنَ أَخَذَهُمْ الْمَطَرُ، فَأَوَوْا إِلَى غَارٍ فِي جَبَلٍ، فَانْحَطَّتْ عَلَى فَمِ غَارِهِمْ صَخْرَةٌ مِنْ الْجَبَلِ، فَانْطَبَقَتْ عَلَيْهِمْ.
فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: انْظُرُوا أَعْمَالًا عَمِلْتُمُوهَا صَالِحَةً لِلَّهِ، فَادْعُوا اللَّهَ تَعَالَى بِهَا، لَعَلَّ اللَّهَ يَفْرُجُهَا عَنْكُمْ.
فَقَالَ أَحَدُهُمْ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَ لِي وَالِدَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ وَامْرَأَتِي وَلِي صِبْيَةٌ صِغَارٌ أَرْعَى عَلَيْهِمْ، فَإِذَا أَرَحْتُ عَلَيْهِمْ حَلَبْتُ فَبَدَأْتُ بِوَالِدَيَّ فَسَقَيْتُهُمَا قَبْلَ بَنِيَّ، وَأَنَّهُ نَأَى بِي ذَاتَ يَوْمٍ الشَّجَرُ، فَلَمْ آتِ حَتَّى أَمْسَيْتُ فَوَجَدْتُهُمَا قَدْ نَامَا، فَحَلَبْتُ كَمَا كُنْتُ أَحْلُبُ، فَجِئْتُ بِالْحِلَابِ، فَقُمْتُ عِنْدَ رُؤُوسِهِمَا، أَكْرَهُ أَنْ أُوقِظَهُمَا مِنْ نَوْمِهِمَا، وَأَكْرَهُ أَنْ أَسْقِيَ الصِّبْيَةَ قَبْلَهُمَا، وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ قَدَمَيَّ.
فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبِي وَدَأْبَهُمْ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ لَنَا مِنْهَا فُرْجَةً نَرَى مِنْهَا السَّمَاءَ، فَفَرَجَ اللَّهُ مِنْهَا فُرْجَةً، فَرَأَوْا مِنْهَا السَّمَاءَ)).
وَأَمَّا ثَمَرَاتُ رِعَايَةُ الْمُسِنِّينَ عَلَى الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ أَنَّهُ: بِرَحْمَةِ الْكَبِيرِ لِلصَّغِيرِ، وَتَوْقِيرِ الصَّغِيرِ لِلْكَبِيرِ يَحْصُلُ التَّآلُفُ بَيْنَ الْمُجْتَمَعَات، وَالـتَّآخِي بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي اللَّهِ وَمِنْ أَجْلِ اللَّهِ، لَا مِنْ أَجْلِ الْأَنْسَابِ وَالْأَحْسَابِ، وَلَا لِلْمَصَالِحِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَلَكِنَّهُ رَجَاءُ ثَوَابِ اللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.
المصدر:رِعَايَةُ الْمُسِنِّينَ وَحِمَايَةُ حُقُوقِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ