((دُرُوسٌ عَظِيمَةٌ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((غَزْوَةُ أُحُدٍ مِنْ أَكْبَرِ الْمَعَارِكِ فِي تَارِيخِ الْإِسْلَامِ))
فَإِنَّ غَزْوَةَ أُحُدٍ غَزْوَةٌ مِنَ الْغَزَوَاتِ الْكِبَارِ، وَمَعْرَكَةٌ مِنَ الْمَعَارِكِ الْحَاسِمَةِ فِي الْإِسْلَامِ، كَانَ لَهَا أَثَرٌ كَبِيرٌ عَلَى الرَّسُولِ ﷺ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ؛ ذَلِكَ أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ جُرِحَ فِي أُحُدٍ جِرَاحَاتٍ قَوِيَّةً لَمْ يَقَعْ لَهُ مِثْلُهَا فِي سَائِرِ غَزَوَاتِهِ ﷺ، وَكَذَلِكَ قُتِلَ فِي أُحُدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَدَدٌ كَبِيرٌ؛ مِنْ أَشْهَرِهِمْ: حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمُّ الرَّسُولِ ﷺ.
وَتَبَيَّنَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنَّ أَعْدَاءً لَهُمْ يَعِيشُونَ بَيْنَهُمْ، وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ، فَأَخَذَ الْمُسْلِمُونَ الْحَذَرَ مِنْهُمْ!
وَغَزْوَةُ أُحُدٍ مِنَ الْغَزَوَاتِ الَّتِي نَزَلَ فِيهَا قُرْآنٌ كَثِيرٌ؛ فَقَدْ نَزَلَ فِيهَا نَحْوُ سِتِّينَ آيَةً مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ؛ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران : 121] إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} الآية [آل عمران: 179].
وَنَزَلَ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ أَيْضًا –أَيْ: فِي شَأْنِهَا- آيَاتٌ أُخْرَى مِنْ سُوَرٍ أُخْرَى.
وَهِيَ غَزْوَةٌ أَعَدَّ لَهَا الرَّسُولُ ﷺ وَالْمُسْلِمُونَ مَا اسْتَطَاعُوا، كَمَا أَمَرَ بِذَلِكَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]، وَثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ فَسَّرَ هَذِهِ الْآيَةَ بِالرَّمْيِ؛ فَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: (({وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}؛ أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَتَهَيَّأَ الْمُسْلِمُونَ لِأُحُدٍ، وَتَأَهَّبُوا وَاسْتَعَدُّوا، وَأَخَذُوا بِأَسْبَابِ النَّصْرِ {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 10].
وَقَدِ اجْتَهَدَ الْمُسْلِمُونَ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ غَايَةَ الِاجْتِهَادِ، وَأَبْلَوْا فِيهَا بَلَاءً حَسَنًا؛ نُصْرَةً لِدِينِ اللهِ -تَعَالَى-، وَطَلَبًا لِثَوَابِهِ، وَدِفَاعًا عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
أَكْرَمَ اللهُ -تَعَالَى- فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ مَنِ اخْتَارَهُمْ شُهَدَاءَ فِي سَبِيلِهِ، وَابْتُلِيَ فِيهَا الْمُؤْمِنُونَ؛ تَمْحِيصًا مِنَ اللهِ لَهُمْ، وَاصْطِفَاءً لِلشُّهَدَاءِ مِنْهُمْ، كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 140-141].
أَدَالَ اللهُ فِيهَا الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ جَرْيًا عَلَى سُنَّتِهِ فِي رُسُلِهِ وَأَوْلِيَائِهِ؛ فَإِنَّهُ يُدِيلُهُمْ مَرَّةً، وَيُدِيلُ أَعْدَاءَهُمْ مَرَّةً، ثُمَّ تَكُونُ الْعَاقِبَةُ لِأَوْلِيَائِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَحِزْبِهِ الْمُفْلِحِينَ عَلَى أَعْدَائِهِ الْكَافِرِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128] أَيِ: النِّهَايَةُ الْحَمِيدَةُ لَهُمْ.
((مَكَانُ وَزَمَانُ الْغَزْوَةِ وَسَبَبُ تَسْمِيَتِهَا))
((لَقَدْ وَقَعَتِ الْمَعْرَكَةُ بِالْقُرْبِ مِنْ سُفُوحِ جَبَلِ أُحُدٍ مِنَ النَّاحِيَةِ الْجَنُوبِيَّةِ فِي بَطْنِ (وَادِي قَنَاةٍ) وَمَا حَوَالَيْهِ مِنَ السُّهُولِ)).
((عُرِفَتْ غَزْوَةُ أُحُدٍ بِاسْمِ الْجَبَلِ الَّذِي وَقَعَتْ عِنْدَهُ، يَقَعُ فِي شَمَالِ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ يَرْتَفِعُ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ وَمِائَةً مِنَ الْأَمْتَارِ، أَمَّا الْآنَ فَيَرْتَفِعُ وَاحِدًا وَعِشْرِينَ وَمِائَةً مِنَ الْأَمْتَارِ فَقَطْ بِسَبَبِ عَوَامِلِ التَّعْرِيَةِ.
وَيَبْعُدُ عَنِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ خَمْسَةَ كِيلُو مِتْرَاتٍ وَنِصْفَ الْكِيلُو مِتْرٍ، وَيَتَكَوَّنُ أُحُدٌ مِنْ صُخُورٍ جِرَانِيتِيَّةٍ حَمْرَاءَ، وَلَهُ رُؤُوسٌ مُتَعَدِّدَةٌ، وَيُقَابِلُهُ مِنْ جِهَةِ الْجَنُوبِ جَبَلٌ صَغِيرٌ يُسَمَّى (عَيْنَيْنِ).
وَ(جَبَلُ عَيْنَيْنِ) هَذَا أَوْ هَذَا الْجُبَيِّلُ هُوَ الَّذِي عُرِفَ بَعْدَ الْمَعْرَكَةِ بِجَبَلِ الرُّمَاةِ، وَبَيْنَ الْجَبَلَيْنِ وَادٍ عُرِفَ بِـ(وَادِي قَنَاةٍ) )).
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: ((أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ)).
قَالَ النَّوَوِيُّ: ((قِيلَ: مَعْنَاهُ: يُحِبُّنَا أَهْلُهُ -وَهُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ- وَنُحِبُّهُمْ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَأَنَّ مَعْنَاهُ: يُحِبُّنَا هُوَ بِنَفْسِهِ -فَالْجَبَلُ نَفْسُهُ يُحِبُّ النَّبِيَّ ﷺ وَالْمُؤْمِنِينَ- وَقَدْ جَعَلَ اللهُ فِيهِ تَمْيِيزًا)).
وَفِي تَسْمِيَةِ هَذَا الْجَبَلِ بِأُحُدٍ لَطِيفَةٌ جَمِيلَةٌ، وَهِيَ أَنَّهُ قِيلَ: إِنَّمَا ((سُمِّيَ أُحُدًا؛ لِتَوَحُّدِهِ وَانْقِطَاعِهِ عَنْ جِبَالٍ أُخَرَ هُنَالِكَ، أَوْ لِمَا وَقَعَ مِنْ أَهْلِهِ مِنْ نُصْرَةِ التَّوْحِيدِ، وَلَا أَحْسَنَ مِنِ اسْمٍ مُشْتَقٍّ مِنَ الْأَحَدِيَّةِ.
وَقَدْ سَمَّى اللهُ -تَعَالَى- هَذَا الْجَبَلَ بِهَذَا الِاسْمِ تَقْدِمَةً لِمَا أَرَادَهُ -تَعَالَى- مِنْ مُشَاكَلَةِ اسْمِهِ لِمَعْنَاهُ؛ إِذْ أَهْلُهُ -وَهُمُ الْأَنْصَارُ- نَصَرُوا التَّوْحِيدَ، وَالْمَبْعُوثُ بِدِينِ التَّوْحِيدِ عِنْدَهُ اسْتَقَرَّ حَيًّا وَمَيِّتًا)).
((فِي فَمِ الشِّعْبِ مِنْ هَذَا الْجَبَلِ عَسْكَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِجَيْشِهِ، وَبِهَذَا احْتَلَّ مَرْكَزًا مُرْتَفِعًا مُمْتَازًا أَجْبَرَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى قَبُولِ الْمَعْرَكَةِ عِنْدَهُ؛ مِمَّا سَاعَدَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى إِنْزَالِ الْهَزِيمَةِ بِالْمُشْرِكِينَ فِي الصَّفْحَةِ الْأُولَى مِنَ الْمَعْرَكَةِ، وَيَسَّرَ لَهُمْ الِانْسِحَابَ بِانْتِظَامٍ إِلَى هِضَابِ جَبَلِ أُحُدٍ بَعْدَ الِانْتِكَاسَةِ)).
((حَدَثَتْ غَزْوَةُ أُحُدٍ نَهَارَ يَوْمِ السَّبْتِ لِلنِّصْفِ مِنْ شَوَّالٍ مِنَ السَّنَةِ الثَّالِثَةِ لِلْهِجْرَةِ)).
قَالَ الْحَافِظُ: ((كَانَتْ هَذِهِ الْوَقْعَةُ الْمَشْهُورَةُ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ بِاتِّفَاقِ الْجُمْهُورِ)).
((أَسْبَابُ الْغَزْوَةِ))
كَانَ السَّبَبُ الرَّئِيسُ لِغَزْوَةِ أُحُدٍ حِرْصَ قُرَيْشٍ عَلَى أَخْذِ الثَّأْرِ وَالِانْتِصَارِ لِهَزِيمَتِهَا فِي بَدْرٍ؛ فَإِنَّهَا قَدْ شَعَرَتْ أَنَّ كِبْرِيَاءَهَا قَدْ كُسِرَتْ، وَفَقَدَتْ فِلْذَاتِ أَكْبَادِهَا؛ فَهَذَا سَبَبٌ.
وَالسَّبَبُ الْآخَرُ: هُوَ أَنَّ تِجَارَتَهَا إِلَى الشَّامِ صَارَتْ مُهَدَّدَةً، كَمَا قَالَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ: إِنَّ مُحَمَّدًا وَصَحْبَهُ عَوَّرُوا عَلَيْنَا مَتْجَرَنَا -أَيْ: أَفْسَدُوهُ عَلَيْنَا-؛ فَمَا نَدْرِي كَيْفَ نَصْنَعُ بِأَصْحَابِهِ وَهُمْ لَا يَبْرَحُونَ السَّاحِلَ!!
غَيْرَ أَنَّ السَّبَبَ الرَّئِيسَ هُوَ الْأَوَّلُ؛ وَلِذَلِكَ ((كَانَ أَوَّلَ مَا فَعَلُوهُ بِهَذَا الصَّدَدِ أَنَّهُمُ احْتَجَزُوا الْعِيرَ الَّتِي كَانَ قَدْ نَجَا بِهَا أَبُو سُفْيَانَ وَالَّتِي كَانَتْ سَبَبًا لِمَعْرَكَةِ بَدْرٍ، وَقَالُوا لِلَّذِينَ كَانَتْ فِيهَا أَمْوَالُهُمْ: ((يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ وَتَرَكُمْ، وَقَتَلَ خِيَارَكُمْ؛ فَأَعِينُونَا بِهَذَا الْمَالِ عَلَى حَرْبِهِ؛ لَعَلَّنَا أَنْ نُدْرِكَ مِنْهُ ثَأْرًا، فَأَجَابُوا لِذَلِكَ فَبَاعُوهَا)) )).
وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ أَوَّلَ مَنْ أَجَابَ إِلَى ذَلِكَ.
((أَسْبَابُ الْغَزْوَةِ -غَزْوَةِ أُحُدٍ- مُتَعَدِّدَةٌ؛ مِنْهَا الدِّينِيُّ، وَمِنْهَا الِاجْتِمَاعِيُّ، وَمِنْهَا الِاقْتِصَادِيُّ، وَمِنْهَا السِّيَاسِيُّ.
السَّبَبُ الدِّينِيُّ: أَخْبَرَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَنَّ الْمُشْرِكِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، وَإِقَامَةِ الْعَقَبَاتِ أَمَامَ الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَمَنْعِ النَّاسِ مِنَ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، وَالسَّعْيِ لِلْقَضَاءِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ وَدَوْلَتِهِمُ النَّاشِئَةِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال : 36].
قَالَ الطَّبَرِيُّ: ((يَصْرِفُونَ أَمْوَالَهُمْ وَيُنْفِقُونَهَا؛ لِيَمْنَعُوا النَّاسَ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ)).
السَّبَبُ الِاجْتِمَاعِيُّ: كَانَ لِلْهَزِيمَةِ الْكَبِيرَةِ فِي بَدْرٍ وَقَتْلِ السَّادَةِ الْأَشْرَافِ مِنْ قُرَيْشٍ وَقْعٌ كَبِيرٌ مِنَ الْخِزْيِ وَالْعَارِ الَّذِي لَحِقَ بِهِمْ، وَجَعَلَهُمْ يَشْعُرُونَ بِالْمَذَلَّةِ وَالْهَزِيمَةِ؛ وَلِذَلِكَ بَذَلُوا قُصَارَى جَهْدِهِمْ فِي غَسْلِ هَذِهِ الذِّلَّةِ وَالْمَهَانَةِ الَّتِي لَصِقَتْ بِهِمْ؛ وَلِذَلِكَ شَرَعُوا فِي جَمْعِ الْمَالِ؛ لِحَرْبِ رَسُولِ اللهِ ﷺ فَوْرَ عَوْدَتِهِمْ مِنْ بَدْرٍ.
وَأَمَّا السَّبَبُ الِاقْتِصَادِيُّ؛ فَقَدْ كَانَتْ حَرَكَةُ السَّرَايَا الَّتِي تَقُومُ بِهَا الدَّوْلَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ النَّاشِئَةُ فِي الْمَدِينَةِ قَدْ أَثَّرَتْ عَلَى اقْتِصَادِ قُرَيْشٍ، وَفَرَضَتْ عَلَيْهِمْ حِصَارًا اقْتِصَادِيًّا قَوِيًّا.
وَأَمَّا السَّبَبُ السِّيَاسِيُّ؛ فَقَدْ أَخَذَتْ سِيَادَةُ قُرَيْشٍ فِي الِانْهِيَارِ بَعْدَ غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَتَزَعْزَعَ مَرْكَزُ قُرَيْشٍ بَيْنَ الْقَبَائِلِ بِوَصْفِهَا زَعِيمَةً لَهَا؛ فَلَا بُدَّ مِنْ رَدِّ الِاعْتِبَارِ وَالْحِفَاظِ عَلَى زَعَامَتِهَا مَهْمَا كَلَّفَهَا الْأَمْرُ مِنْ جُهُودٍ وَمَالٍ وَضَحَايَا.
فَهَذِهِ أَهَمُّ الْأَسْبَابِ الَّتِي جَعَلَتْ قُرَيْشًا تُبَادِرُ إِلَى الْمُوَاجَهَةِ الْعَسْكَرِيَّةِ ضِدَّ الدَّوْلَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِالْمَدِينَةِ)).
((تَعْبِئَةُ الْجَيْشَيْنِ وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْمَعْرَكَةِ))
((جَمَعَتْ قُرَيْشٌ الْجُمُوعَ مِنْ حُلَفَائِهَا وَالْأَحَابِيشَ وَالْأَعْرَابَ مِنْ كِنَانَةَ وَتِهَامَةَ؛ لِحَرْبِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهَا أَبُو عَامِرٍ الْفَاسِقُ -وَهُوَ وَالِدُ حَنْظَلَةَ غَسِيلِ الْمَلَائِكَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-- فِي خَمْسِينَ رَجُلًا مِنْ قَوْمِهِ، فَتَجَمَّعَ لِقُرَيْشٍ ثَلَاثَةُ آلَافِ مُقَاتِلٍ، فِيهِمْ سَبْعُ مِائَةِ دَارِعٍ، وَكَانَ مَعَهُمْ مِائَتَا فَرَسٍ وَثَلَاثَةُ آلَافِ بَعِيرٍ.
وَرَأَى قَادَةُ قُرَيْشٍ أَنْ يَصْطَحِبُوا مَعَهُمُ النِّسَاءَ؛ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي اسْتِمَاتَةِ الرِّجَالِ، وَحَتَّى لَا يَفِرُّوا.
وَكَانَتِ الْقِيَادَةُ الْعَامَّةُ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، وَقِيَادَةُ الْفُرْسَانِ إِلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ يُعَاوِنُهُ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، أَمَّا اللِّوَاءُ فَكَانَ إِلَى بَنِي عَبْدِ الدَّارِ.
* الِاسْتِخْبَارَاتُ النَّبَوِيَّةُ تُتَابِعُ حَرَكَةَ الْعَدُوِّ:
لَمَّا خَرَجَتْ قُرَيْشٌ بَعَثَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِرِسَالَةٍ مُسْتَعْجَلَةٍ إِلَى الرَّسُولِ ﷺ ضَمَّنَهَا جَمِيعَ تَفَاصِيلِ جَيْشِ قُرَيْشٍ، وَدَفَعَ بِالْكِتَابِ –أَيْ: بِالرِّسَالَةِ- إِلَى رَجُلٍ مِنْ بَنِي غِفَارٍ كَانَ قَدِ اسْتَأْجَرَهُ، وَشَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ الْمَدِينَةَ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَفَعَلَ الرَّجُلُ وَسَلَّمَ الرِّسَالَةَ إِلَى الرَّسُولِ ﷺ وَهُوَ بِمَسْجِدِ قُبَاءٍ، فَقَرَأَ الرِّسَالَةَ عَلَى الرَّسُولِ ﷺ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَأَمَرَهُ الرَّسُولُ ﷺ بِالْكِتْمَانِ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي «الِاسْتِيعَابِ»: ((وَكَانَ الْعَبَّاسُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَكْتُبُ بِأَخْبَارِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَتَقَوَّوْنَ بِهِ بِمَكَّةَ)).
قَالَ الذَّهَبِيُّ: ((وَلَمْ يَزَلِ الْعَبَّاسُ مُشْفِقًا عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، مُحِبًّا لَهُ، صَابِرًا عَلَى الْأَذَى وَلَمَّا يُسْلِمْ بَعْدُ)).
أَرْسَلَ الْعَبَّاسُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- جَمِيعَ تَفَاصِيلِ جَيْشِ قُرَيْشٍ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ مُبَادِرًا يُعْلِمُهُ بِنِيَّةِ الْقَوْمِ وَبِعَمَلِهِمْ.
فَلَمَّا جَاءَهُ الْكِتَابُ وَقُرِئَ عَلَيْهِ؛ أَمَرَ مَنْ قَرَأَهُ عَلَيْهِ بِالْكِتْمَانِ، ثُمَّ عَادَ مُسْرِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ -وَكَانَ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ- وَأَخَذَ يَسْتَشِيرُ أَصْحَابَهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَحِينَئِذٍ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِحِرَاسَةِ الْمَدِينَةِ، وَإِعْلَانِ حَالَةِ الطَّوَارِئِ فِيهَا؛ خَوْفًا مِنْ أَنْ يُؤْخَذُوا عَلَى غِرَّةٍ.
وَقَامَ نَفَرٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فِيهِمْ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، قَامُوا بِحِرَاسَةِ الرَّسُولِ ﷺ، فَبَاتُوا لَيْلَةَ الجُمُعَةِ عَلَى بَابِهِ وَعَلَيْهِمُ السِّلَاحُ حَتَّى أَصْبَحُوا».
((وَكَانَتِ الْمَعْلُومَاتُ الَّتِي قَدَّمَهَا الْعَبَّاسُ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ دَقِيقَةً؛ فَقَدْ جَاءَ فِي رِسَالَتِهِ: ((أَنَّ قُرَيْشًا قَدْ أَجْمَعَتِ الْمَسِيرَ إِلَيْكَ؛ فَمَا كُنْتَ صَانِعًا إِذَا حَلُّوا بِكَ فَاصْنَعْهُ، وَقَدْ تَوَجَّهُوا إِلَيْكَ وَهُمْ ثَلَاثَةُ آلَافٍ، وَقَادُوا مِائَتَيْ فَرَسٍ، وَفِيهِمْ سَبْعُ مِائَةِ دَارِعٍ، وَثَلَاثَةُ آلَافِ بَعِيرٍ، وَأَوْعَبُوا مِنَ السِّلَاحِ -أَيْ: خَرَجُوا بِجَمِيعِ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ السِّلَاحِ-)).
فَاحْتَوَتْ هَذِهِ الرِّسَالَةُ الِاسْتِخْبَارَاتِيَّةُ عَلَى أُمُورٍ مُهِمَّةٍ؛ مِنْهَا: مَعْلُومَاتٌ مُؤَكَّدَةٌ عَنْ تَحَرُّكِ قُوَّاتِ الْمُشْرِكِينَ نَحْوَ الْمَدِينَةِ، وَحَجْمُ الْجَيْشِ وَقُدُرَاتُهُ الْقِتَالِيَّةِ، وَهَذَا يُعِينُ عَلَى وَضْعِ خُطَّةٍ تُوَاجِهُ هَذِهِ الْقُوَّاتِ الزَّاحِفَةَ.
لَمْ يَكْتَفِ النَّبِيُّ ﷺ بِمَعْلُومَاتِ الْمُخَابَرَاتِ الْمَكِّيَّةِ، بَلْ حَرَصَ عَلَى أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَاتُهُ عَنْ هَذَا الْعَدُوِّ مُتَجَدِّدَةً مَعَ تَلَاحُقِ الزَّمَنِ وَمُرُورِهِ؛ لِذَلِكَ أَرْسَلَ ﷺ الْحُبَابَ بْنَ الْمُنْذِرِ إِلَى قُرَيْشٍ يَسْتَطْلِعُ الْخَبَرَ، فَدَخَلَ بَيْنَ جَيْشِ مَكَّةَ، وَحَزَرَ عَدَدَهُ وَعُدَدَهُ، وَرَجَعَ، فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَا رَأَيْتَ؟)).
قَالَ: ((رَأَيْتُ -أَيْ: رَسُولَ اللهِ- عَدَدًا حَزَرْتُهُمْ –أَيْ: قَدَّرْتُهُمْ- ثَلَاثَةَ آلَافٍ، يَزِيدُونَ قَلِيلًا أَوْ يَنْقُصُونَ قَلِيلًا، وَالْخَيْلَ مِائَتَيْ فَرَسٍ، وَرَأَيْتُ دُرُوعًا ظَاهِرَةً حَزَرْتُهَا سَبْعَ مِائَةِ دِرْعٍ)).
قَالَ: ((هَلْ رَأَيْتَ ظُعُنًا؟)).
قَالَ: ((رَأَيْتُ النِّسَاءَ مَعَهُنَّ الدِّفَافُ وَالْأَكْبَارُ -الْأَكْبَارُ: جَمْعُ الْكَبَرِ، وَالْكَبَرُ: الطَّبْلُ ذُو الْوَجْهِ الْوَاحِدِ-)).
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَرَدْنَ أَنْ يُحَرِّضْنَ الْقَوْمَ وَيُذَكِّرْنَهُمْ قَتْلَى بَدْرٍ، هَكَذَا جَاءَنِي خَبَرُهُمْ، لَا تَذْكُرْ مِنْ شَأْنِهِمْ حَرْفًا، حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، اللَّهُمَّ بِكَ أَجُولُ وَبِكَ أَصُولُ)).
بَعْدَ أَنْ تَأَكَّدَ ﷺ مِنْ هَذِهِ الْمَعْلُومَاتِ حَرَصَ عَلَى حَصْرِ تِلْكَ الْمَعْلُومَاتِ عَلَى الْمُسْتَوَى الْقِيَادِيِّ؛ خَوْفًا مِنْ أَنْ يُؤَثِّرَ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى مَعْنَوِيَّاتِ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ إِعْدَادِ الْعُدَّةِ؛ لِذَلِكَ حِينَ قَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ رِسَالَةَ الْعَبَّاسِ؛ أَمَرَهُ ﷺ بِكِتْمَانِ الْأَمْرِ، وَعَادَ مُسْرِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَتَبَادَلَ الرَّأْيَ مَعَ قَادَةِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فِي كَيْفِيَّةِ مُوَاجَهَةِ الْمَوْقِفِ.
فَيَنْبَغِي الْحَذَرُ مِنْ إِفْشَاءِ مِثْلِ هَذِهِ الْأَسْرَارِ؛ لِأَنَّ إِفْشَاءَهَا يُهَدِّدُ الْأُمَّةَ وَمُسْتَقْبَلَهَا بِكَارِثَةٍ كُبْرَى)).
*وُصُولُ جَيْشِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْمَدِينَةِ:
((تَابَعَتْ قُرَيْشٌ وَمَنْ مَعَهَا مَسِيرَهَا إِلَى الْمَدِينَةِ حَتَّى اقْتَرَبُوا مِنَ الْمَدِينَةِ، فَسَلَكُوا (وَادِيَ الْعَقِيقِ)، ثُمَّ انْحَرَفُوا مِنْهُ إِلَى ذَاتِ الْيَمِينِ، ثُمَّ نَزَلُوا قَرِيبًا مِنْ جَبَلِ أُحُدٍ فِي (بَطْنِ قَنَاةٍ) -وَقَنَاةُ: هِيَ وَادٍ مِنْ أَوْدِيَةِ الْمَدِينَةِ عَلَيْهِ حَرْثٌ وَمَالٌ وَزَرْعٌ-، حَتَّى نَزَلُوا قَرِيبًا مِنْ جَبَلِ أُحُدٍ فِي (بَطْنِ قَنَاةٍ) عَلَى شَفِيرِ الْوَادِي -وَشَفِيرُ الْوَادِي: جَانِبُهُ- مُقَابِلَ الْمَدِينَةِ، فَعَسْكَرُوا هُنَالِكَ، وَكَانَ وُصُولُهُمْ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ لِخَمْسِ لَيَالٍ مَضَيْنَ مِنْ شَوَّالٍ.
وَشَاعَ خَبَرُ قُرَيْشٍ وَمَسِيرُهُمْ فِي النَّاسِ حَتَّى نَزَلُوا (ذَا الْحُلَيْفَةِ)، وَأَرْجَفَ الْيَهُودُ وَالْمُنَافِقُونَ -أَرْجَفَ الْقَوْمُ: إِذَا خَاضُوا فِي الْأَخْبَارِ السَّيِّئَةِ وَذِكْرِ الْفِتَنِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب : 60]-.
*رُؤْيَا الرَّسُولِ ﷺ، وَمُشَاوَرَتُهُ أَصْحَابَهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-:
بَعْدَ أَنْ تَأَكَّدَ لِلنَّبِيِّ ﷺ خَبَرُ قُرَيْشٍ وَوُصُولُهُمْ إِلَى الْمَدِينَةِ؛ عَقَدَ اجْتِمَاعًا اسْتِشَارِيًّا مَعَ الصَّحَابَةِ، وَأَخْبَرَهُمْ بِرُؤْيَاهُ الَّتِي رَآهَا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ ﷺ: ((إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ وَاللهُ خَيْرٌ)) -قَالَ الْحَافِظُ: ((هَذَا مِنْ جُمْلَةِ الرُّؤْيَا كَمَا جَزَمَ بِهِ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ، كَذَا بِالرَّفْعِ فِيهِمَا: ((وَاللهُ خَيْرٌ)) عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَفِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: وَصَنَعَ اللهُ خَيْرٌ))- ((رَأَيْتُ بَقَرًا تُذْبَحُ، وَرَأَيْتُ فِي ذُبَابِ سَيْفِي ثَلْمًا)) -وَ((ذُبَابُ السَّيْفِ)): طَرَفُهُ الَّذِي يُضْرَبُ بِهِ، ((وَالثَّلْمُ)): الْكَسْرُ - ((رَأَيْتُ بَقَرًا تُذْبَحُ، وَرَأَيْتُ فِي ذُبَابِ سَيْفِي ثَلْمًا، وَرَأَيْتُ أَنِّي أَدْخَلْتُ يَدِي فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ)).
فَلَمَّا أَخْبَرَهُمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِرُؤْيَاهُ قَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! مَاذَا أَوَّلْتَ رُؤْيَاكَ؟)).
قَالَ: ((فَأَمَّا الْبَقَرُ فَهُمْ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِي يُقْتَلُونَ، وَأَمَّا الثَّلْمُ الَّذِي رَأَيْتُ فِي ذُبَابِ سَيْفِي فَهُوَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يُقْتَلُ، وَأَوَّلْتُ الدِّرْعَ الْحَصِينَةَ الْمَدِينَةَ)). أَخْرَجَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي «السِّيرَةِ»، وَمِنْ طَرِيقِهِ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي «جَامِعِ الْبَيَانِ».
رَأَى النَّبِيُّ ﷺ رُؤْيَا مَنَامِيَّةً قَصَّهَا عَلَى أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، فَقَالَ: ((رَأَيْتُ فِي رُؤْيَايَ أَنِّي هَزَزْتُ سَيْفًا فَانْقَطَعَ صَدْرُهُ، فَإِذَا هُوَ مَا أُصِيبَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ أُحُدٍ، ثُمَّ هَزَزْتُهُ أُخْرَى فَعَادَ أَحْسَنَ مِمَّا كَانَ، فَإِذَا هُوَ مَا جَاءَ بِهِ اللهُ مِنَ الْفَتْحِ وَاجْتِمَاعِ الْمُؤْمِنِينَ، وَرَأَيْتُ فِيهَا بَقَرًا وَاللهُ خَيْرٌ، فَإِذَا هُمُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ أُحُدٍ))، أَيْ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ قُتِلُوا يَوْمَ أُحُدٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ثُمَّ قَدَّمَ الرَّسُولُ ﷺ رَأْيَهُ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ لَهُمْ: ((امْكُثُوا فِي الْمَدِينَةِ، وَاجْعَلُوا النِّسَاءَ وَالذَّرَارِيَّ فِي الْآطَامِ -الْأُطُمُ: بِنَاءٌ مُرْتَفِعٌ، جَمْعُهُ آطَامٌ، أَيِ: الْحُصُونُ-، وَاجْعَلُوا النِّسَاءَ وَالذَّرَارِيَّ فِي الْآطَامِ، فَإِنْ دَخَلَ عَلَيْنَا الْقَوْمُ قَاتَلْنَاهُمْ فِي الْأَزِقَّةِ)). الزُّقَاقُ: الطَّرِيقُ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي «الْمُسْنَدِ» بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِأَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: ((لَوْ أَنَّا أَقَمْنَا بِالْمَدِينَةِ؛ فَإِنْ دَخَلُوا عَلَيْنَا فِيهَا قَاتَلْنَاهُمْ)).
هَذَا رَأْيُ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَكَانَ -أَيْضًا- رَأْيَ الْأَكَابِرِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَوَافَقَهُمْ عَلَيْهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ الْمُنَافِقُ، وَكَانَ قَدْ حَضَرَ الْمَجْلِسَ بِصِفَتِهِ أَحَدَ زُعَمَاءِ الْخَزْرَجِ، وَيَبْدُو أَنَّ مُوَافَقَةَ ابْنِ سَلُولٍ لِهَذَا الرَّأْيِ لَمْ تَكُنْ لِأَجْلِ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَوْقِفُ الصَّحِيحُ مِنْ حَيْثُ الْوُجْهَةُ الْعَسْكَرِيَّةُ، بَلْ لِيَتَمَكَّنَ مِنَ التَّبَاعُدِ عَنِ الْقِتَالِ دُونَ أَنْ يَعْلَمَ بِذَلِكَ أَحَدٌ، وَشَاءَ اللهُ أَنْ يُفْتَضَحَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ؛ وَلَكِنَّ رَأْيَ الْأَغْلَبِيَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ الْخُرُوجُ إِلَى الْعَدُوِّ؛ خَاصَّةً الَّذِينَ لَمْ يَشْهَدُوا بَدْرًا، فَقَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! مَا دُخِلَ عَلَيْنَا فِيهَا -أَيِ: الْمَدِينَةِ- فِي الْجَاهِلِيَّةِ؛ فَكَيْفَ يُدْخَلُ عَلَيْنَا فِيهَا فِي الْإِسْلَامِ؟!! اخْرُجْ بِنَا إِلَى أَعْدَائِنَا لَا يَرَوْنَ أَنَّا جَبُنَّا وَضَعُفْنَا)).
وَعَامَّةُ مَنْ أَشَارَ عَلَيْهِ بِالْخُرُوجِ رِجَالٌ لَمْ يَشْهَدُوا بَدْرًا، قَدْ عَلِمُوا الَّذِي سَبَقَ لِأَصْحَابِ بَدْرٍ مِنَ الْفَضِيلَةِ، فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللهِ ﷺ أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ أَبَى إِلَّا الْخُرُوجَ إِلَى الْعَدُوِّ، وَلَمْ يَتَنَاهَوْا إِلَى رَأْيِهِ قَالَ: ((شَأْنَكُمْ إِذَنْ!!)).
*تَهَيُّؤُ الرَّسُولِ ﷺ لِلْخُرُوجِ:
ثُمَّ صَلَّى الرَّسُولُ ﷺ الْجُمُعَةَ بِالنَّاسِ، فَوَعَظَهُمْ وَأَمَرَهُمْ بِالْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ لَهُمُ النَّصْرَ إِذَا صَبَرُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالتَّهَيُّئِ لِعَدُوِّهِمْ، فَفَرِحَ النَّاسُ بِذَلِكَ، ثُمَّ صَلَّى رَسُولُ اللهِ ﷺ بِالنَّاسِ الْعَصْرَ وَقَدْ حُشِدُوا وَحَضَرَ أَهْلُ الْعَوَالِي، ثُمَّ دَخَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بَيْتَهُ وَكَانَ النَّاسُ يَنْتَظِرُونَ خُرُوجَهُ ﷺ، فَقَالَ لَهُمْ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((اسْتَكْرَهْتُمْ رَسُولَ اللهِ ﷺ عَلَى الْخُرُوجِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِاللهِ وَبِمَا يُرِيدُ، وَالْوَحْيُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ))، فَرَدُّوا الْأَمْرَ إِلَيْهِ، فَنَدِمُوا جَمِيعًا عَلَى مَا صَنَعُوا.
فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَقَدْ لَبِسَ لَأْمَتَهُ -اللَّأْمَةُ: السِّلَاحُ، وَالسِّلَاحُ هُنَا الدِّرْعُ-، وَظَاهَرَ بَيْنَ دِرْعَيْنِ -أَيْ: لَبِسَ دِرْعًا فَوْقَ دِرْعٍ- وَتَقَلَّدَ السَّيْفَ، فَلَمَّا رَآهُ النَّاسُ قَامُوا فَاعْتَذَرُوا إِلَيْهِ، وَقَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُخَالِفَكَ، وَلَا نَسْتَكْرِهَكَ عَلَى الْخُرُوجِ؛ فَاصْنَعْ مَا بَدَا لَكَ)).
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ إِذَا لَبِسَ لَأْمَتَهُ أَنْ يَضَعَهَا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدُوِّهِ)).
*عَقْدُ الْأَلْوِيَةِ وَخُرُوجُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى أُحُدٍ:
ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنُ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي النَّاسِ بِالْخُرُوجِ إِلَى الْعَدُوِّ، وَأَلَّا يَرْجِعَ حَتَّى يُقَاتِلَ، ثُمَّ عَقَدَ الرَّسُولُ ﷺ الْأَلْوِيَةَ؛ لِوَاءً لِلْأَوْسِ دَفَعَهُ إِلَى أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَلِوَاءً لِلْخَزْرَجِ دَفَعَهُ إِلَى الْحُبَابِ بْنِ الْمُنْذِرِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَلِوَاءً لِلْمُهَاجِرِينَ دَفَعَهُ إِلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَاسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ عَلَى الصَّلَاةِ بِالنَّاسِ بِمَنْ بَقِيَ فِي الْمَدِينَةِ.
ثُمَّ خَرَجَ ﷺ فِي أَلْفٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَخَرَجَ السَّعْدَانِ أَمَامَ الرَّسُولِ ﷺ؛ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَكَانَا أَمَامَهُ يَعْدُوَانِ، وَكَانَا دَارِعَيْنِ، وَخَرَجَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- حَاسِرًا لَا دِرْعَ عَلَيْهِ وَلَا مِغْفَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ».
فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِجَيْشٍ تَعْدَادُهُ أَلْفُ مُقَاتِلٍ، مَعَهُمْ فَرَسَانِ فَقَطْ، وَمِئَةُ دَارِعٍ، وَلَبِسَ النَّبِيُّ ﷺ دِرْعَيْنِ ظَاهَرَ بَيْنَهُمَا، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ لِلصَّلَاةِ بِالنَّاسِ.
((كَانَ رَأْيُ مَنْ يَرَى الْخُرُوجَ إِلَى خَارِجِ الْمَدِينَةِ مَبْنِيًّا عَلَى أُمُورٍ؛ مِنْهَا:
أَنَّ الْأَنْصَارَ قَدْ تَعَاهَدُوا فِي بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى نُصْرَةِ الرَّسُولِ ﷺ، فَكَانَ أَغْلَبُهُمْ يَرَى أَنَّ الْمُكُوثَ دَاخِلَ الْمَدِينَةِ تَقَاعُسٌ عَنِ الْوَفَاءِ بِهَذَا الْعَهْدِ.
وَأَنَّ الْأَقَلِّيَّةَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ كَانَتْ تَرَى أَنَّهَا أَحَقُّ مِنَ الْأَنْصَارِ بِالدِّفَاعِ عَنِ الْمَدِينَةِ، وَمُهَاجَمَةِ قُرَيْشٍ وَصَدِّهَا عَنْ زُرُوعِ الْأَنْصَارِ.
وَالَّذِينَ فَاتَتْهُمْ غَزْوَةُ بَدْرٍ كَانُوا يَتَحَرَّقُونَ شَوْقًا مِنْ أَجْلِ مُلَاقَاةِ الْأَعْدَاءِ؛ طَمَعًا فِي حُصُولِ الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ -تَعَالَى-.
وَالْأَكْثَرُونَ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ فِي مُحَاصَرَةِ قُرَيْشٍ لِلْمَدِينَةِ نَصْرًا يَجِبُ أَلَّا تَحْلَمَ بِهِ قُرَيْشٌ، كَمَا تَوَقَّعُوا أَنَّ وَقْتَ الْحِصَارِ سَيَطُولُ أَمَدُهُ، فَيُصْبِحُ الْمُسْلِمُونَ مُهَدَّدِينَ بِقَطْعِ الْمُؤَنِ عَنْهُمْ.
أَمَّا مِنْ وِجْهَةِ نَظَرِ مَنْ يَرَى الْبَقَاءَ فِي الْمَدِينَةِ؛ وِجْهَةُ نَظَرِهِ كَانَتْ مَبْنِيَّةً عَلَى التَّخْطِيطِ الْحَرْبِيِّ الْآتِي:
أَنَّ جَيْشَ مَكَّةَ لَمْ يَكُنْ مُوَحَّدَ الْعَنَاصِرِ، وَبِذَلِكَ يَسْتَحِيلُ عَلَى هَذَا الْجَيْشِ الْبَقَاءُ زَمَنًا طَوِيلًا؛ إِذْ لَا بُدَّ مِنْ ظُهُورِ الْخِلَافِ بَيْنَهُمْ إِنْ عَاجِلًا أَوْ آجِلًا.
وَأَنَّ مُهَاجَمَةَ الْمُدُنِ الْمُصَمِّمَةِ عَلَى الدِّفَاعِ عَنْ حِيَاضِهَا وَقِلَاعِهَا وَبَيْضَتِهَا أَمْرٌ بَعِيدُ الْمَنَالِ؛ خُصُوصًا إِذَا تَشَابَهَ السِّلَاحُ عِنْدَ كِلَا الْجَيْشَيْنِ، وَقَدْ كَانَ السِّلَاحُ يَوْمَ أُحُدٍ مُتَشَابِهًا -يَعْنِي: لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ الْمَجَانِيقُ، فَيَرْمُونَ بِهَا الْمَدِينَةَ، وَيَرْمُونَ بِالْحِجَارَةِ مِنْ بَعِيدٍ، وَلَا كَانُوا يَعْرِفُونَ كُرَاتِ النَّارِ الَّتِي يُقْذَفُ بِهَا مِنْ بَعِيدٍ، كَانَ السِّلَاحُ مُتَشَابِهًا يَوْمَ أُحُدٍ-.
وَالْمُدَافِعُونَ إِذَا كَانُوا بَيْنَ أَهْلِيهِمْ فِي الْمَدِينَةِ؛ فَإِنَّهُمْ يَسْتَبْسِلُونَ فِي الدِّفَاعِ عَنْ أَبْنَائِهِمْ، وَحِمَايَةِ نِسَائِهِمْ، وَبَنَاتِهِمْ، وَأَعْرَاضِهِمْ.
كَذَلِكَ كَانَ الْبَقَاءُ فِي الْمَدِينَةِ يَضْمَنُ مُشَارَكَةَ النِّسَاءِ وَالْأَبْنَاءِ فِي الْقِتَالِ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ؛ فَبِذَلِكَ يَتَضَاعَفُ عَدَدُ الْمُقَاتِلِينَ، فَيَسْتَخْدِمُونَ -يَعْنِي: الْمُدَافِعِينَ- أَسْلِحَةً لَهَا أَثَرٌ فِي صُفُوفِ الْأَعْدَاءِ؛ كَالْأَحْجَارِ، وَغَيْرِهَا، وَتَكُونُ إِصَابَةُ الْمُهَاجِمِينَ فِي مُتَنَاوَلِهِمْ.
مِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ عَوَّدَ أَصْحَابَهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- عَلَى التَّصْرِيحِ بِآرَائِهِمْ عِنْدَ مُشَاوَرَتِهِ لَهُمْ؛ حَتَّى وَلَوْ خَالَفَتْ رَأْيَهُ، فَهُوَ إِنَّمَا يُشَاوِرُهُمْ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ؛ تَعْوِيدًا لَهُمْ عَلَى التَّفْكِيرِ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ، وَمُعَالَجَةِ مَشَاكِلِ الْأُمَّةِ، فَلَا فَائِدَةَ مِنَ الْمَشُورَةِ إِذَا لَمْ تَقْتَرِنْ بِحُرِّيَّةِ إِبْدَاءِ الرَّأْيِ، وَلَمْ يَحْدُثْ أَنْ لَامَ الرَّسُولُ ﷺ أَحَدًا لِأَنَّهُ أَخْطَأَ فِي اجْتِهَادِهِ وَلَمْ يُوَفَّقْ فِي رَأْيِهِ.
وَكَذَلِكَ فَإِنَّ الْأَخْذَ بِالشُّورَى مُلْزِمٌ لِلْإِمَامِ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يُطَبِّقَ الرَّسُولُ ﷺ التَّوْجِيهَ الْقُرْآنِيَّ، {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159]؛ لِتَعْتَادَ الْأُمَّةُ عَلَى مُمَارَسَةِ الشُّورَى.
وَهُنَا يَظْهَرُ الْوَعْيُ السِّيَاسِيُّ عِنْدَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، فَرَغْمَ أَنَّ لَهُمْ إِبْدَاءَ الرَّأْيِ إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ فَرْضُهُ عَلَى الْقَائِدِ، فَحَسْبُهُمْ أَنْ يُبَيِّنُوا رَأْيَهُمْ، وَيَتْرُكُوا لِلْقَائِدِ حُرِّيَّةَ اخْتِيَارِ مَا يَتَرَجَّحُ لَدَيْهِ مِنَ الْآرَاءِ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ أَلَحُّوا فِي الْخُرُوجِ، وَأَنَّ الرَّسُولَ ﷺ عَزَمَ عَلَى الْخُرُوجِ بِسَبَبِ إِلْحَاحِهِمْ؛ عَادُوا فَاعْتَذَرُوا إِلَيْهِ؛ وَلَكِنَّ الرَّسُولَ الْكَرِيمَ ﷺ عَلَّمَهُمْ دَرْسًا آخَرَ -وَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الْقِيَادَةِ النَّاجِحَةِ-، وَهُوَ عَدَمُ التَّرَدُّدِ بَعْدَ الْعَزِيمَةِ وَالشُّرُوعِ فِي التَّنْفِيذِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُزَعْزِعُ الثِّقَةَ بِهَا، وَيَغْرِسُ الْفَوْضَى بَيْنَ الْأَتْبَاعِ».
*خُرُوجُ الْجَيْشِ الْإِسْلَامِيِّ إِلَى أُحُدٍ، وَرُجُوعُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ بِالْمُنَافِقِينَ:
((وَتَتَلَخَّصُ دَوَافِعُ الرَّاغِبِينَ فِي الْخُرُوجِ؛ بِإِظْهَارِ الشَّجَاعَةِ أَمَامَ الْأَعْدَاءِ، وَبِرَغْبَةِ الَّذِينَ فَاتَتْهُمُ الْمُشَارَكَةُ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ أَنْ يُشَارِكُوا فِي مَوْقِعَةٍ مُمَاثِلَةٍ.
أَمَّا رَأْيُ الرَّسُولِ ﷺ وَمَنْ وَافَقَهُ؛ فَمَبْنِيٌّ عَلَى الْإِفَادَةِ مِنْ حُصُونِ الْمَدِينَةِ فِي الدِّفَاعِ، مِمَّا يُقَلِّلُ خَسَائِرَ الْمُدَافِعِينَ، وَيَزِيدُ فِي خَسَائِرِ الْمُهَاجِمِينَ، ثُمَّ الْإِفَادَةُ مِنْ طَاقَاتِ السُّكَّانِ كَافَّةً؛ حَتَّى الَّذِينَ لَا يَسْتَطِيعُونَ الْقِتَالَ فِي الْمَيَادِينِ الْمَكْشُوفَةِ؛ كَالنِّسَاءِ، وَالصِّبْيَانِ.
خَرَجَ الْجَيْشُ الْإِسْلَامِيُّ إِلَى أُحُدٍ مُخْتَرِقًا الْجَانِبَ الْغَرْبِيَّ مِنَ (الْحَرَّةِ الشَّرْقِيَّةِ)؛ حَيْثُ انْسَحَبَ الْمُنَافِقُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ بِثَلَاثِ مِائَةٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، مُدَّعِيًا أَنَّهُ لَنْ يَقَعَ قِتَالٌ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، مُعْتَرِضًا عَلَى قَرَارِ الرَّسُولِ ﷺ بِالْخُرُوجِ بِقَوْلِهِ: ((أَطَاعَهُمْ وَعَصَانِي!!))».
((فِي هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179].
قَالَ مُجَاهِدُ بْنُ جَبْرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: ((مَيَّزَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ الْمُنَافِقَ مِنَ الْمُؤْمِنِ)).
*تَأَثُّرُ بَنِي سَلِمَةَ وَبَنِي حَارِثَةَ بِالمُنَافِقِينَ:
لَمَّا رَجَعَ ابْنُ سَلُولٍ وَأَصْحَابُهُ هَمَّتْ بَنُو سَلِمَةَ وَبَنُو حَارِثَةَ أَنْ تَرْجِعَا؛ وَلَكِنَّ اللهَ ثَبَّتَهُمَا وَعَصَمَهُمَا قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِينَا {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 122]؛ بَنِي سَلِمَةَ وَبَنِي حَارِثَةَ، وَمَا أُحِبُّ -يَقُولُ جَابِرٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-- وَمَا أُحِبُّ أَنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ وَاللهُ يَقُولُ: {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا}. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ».
((أَثَّرَ مَوْقِفُ الْمُنَافِقِينَ فِي نُفُوسِ طَائِفَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَفَكَّرُوا بِالْعَوْدَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ؛ وَلَكِنَّهُمْ غَالَبُوا الضَّعْفَ الَّذِي أَلَمَّ بِهِمْ، وَانْتَصَرُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بَعْدَ أَنْ تَوَلَّاهُمُ اللهُ -تَعَالَى- فَدَفَعَ عَنْهُمُ الْوَهَنَ، فَثَبَتُوا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ)).
*خُطَّةُ الرَّسُولِ ﷺ لِمُوَاجَهَةِ كُفَّارِ مَكَّةَ، وَتَحْرِيضُهُ أَصْحَابَهُ عَلَى الْقِتَالِ:
((تَقَدَّمَ الْجَيْشُ الْإِسْلَامِيُّ إِلَى مَيْدَانِ أُحُدٍ، وَاتَّخَذَ مَوَاقِعَهُ بِمُوجِبِ خُطَّةٍ مُحْكَمَةٍ؛ حَيْثُ نَظَّمَ الرَّسُولُ ﷺ صُفُوفَ جَيْشِهِ، جَاعِلًا ظُهُورَهُمْ إِلَى جَبَلِ أُحُدٍ، وَوُجُوهَهُمْ تَسْتَقْبِلُ الْمَدِينَةَ، وَجَعَلَ خَمْسِينَ مِنَ الرُّمَاةِ بِقِيَادَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ جُبَيْرٍ فَوْقَ (جَبَلِ عَيْنَيْنِ) الْمُقَابِلِ لِأُحُدٍ؛ لِحِمَايَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْتِفَافِ خَيَّالَةِ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِمْ، وَشَدَّدَ عَلَى الرُّمَاةِ بِلُزُومِ أَمَاكِنِهِمْ، وَقَالَ: ((إِنْ رَأَيْتُمُونَا تَخْطُفُنَا الطَّيْرُ فَلَا تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ هَذَا، وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا هَزَمْنَا الْقَوْمَ وَأَوْطَأْنَاهُمْ فَلَا تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ)).
وَضَعَ خَمْسِينَ مِنَ الرُّمَاةِ بِإِمْرَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي مَوْضِعٍ عَلَى طَرِيقٍ تُؤَدِّي إِلَى الْجَبَلِ إِلَى خَلْفَ قُوَّاتِهِ، وَكَانَ هَدَفُهُ مِنْ وَضْعِ هَذِهِ الْقُوَّةِ حِرْمَانَ الْعَدُوِّ مِنَ الِالْتِفَافِ عَلَى قُوَّاتِهِ مِنَ الْخَلْفِ؛ وَلِتَكُونَ هَذِهِ الْقُوَّةُ قَاعِدَةً أَمِينَةً لِقُوَّاتِهِ تَحْمِي ظَهْرَهُ، وَيَسْتَنِدُ إِلَيْهَا، وَتَسْتُرُ انْسِحَابَهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَأَصْدَرَ لِهَذِهِ الْقُوَّةِ الْأَمْرَ الْجَازِمَ: احْمُوا لَنَا ظُهُورَنَا؛ فَإِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَجِيئُوا مِنْ وَرَائِنَا، الْزَمُوا مَكَانَكُمْ لَا تَبْرَحُوا مِنْهُ، وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا نُقْتَلُ فَلَا تُعِينُونَا وَلَا تَدْفَعُوا عَنَّا، إِنَّما عَلَيْكُمْ أَنْ تَرْشُقُوا خَيْلَهُمْ بِالنَّبْلِ؛ فَإِنَّ الْخَيْلَ لَا تُقْدِمُ عَلَى النَّبْلِ.
وَبِذَلِكَ سَيْطَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْمُرْتَفَعَاتِ، تَارِكِينَ الْوَادِيَ لِجَيْشِ قُرَيْشٍ الَّذِي تَقَدَّمَ وَهُوَ يُوَاجِهُ أُحُدًا وَظَهْرُهُ -أَيْ: ظَهْرُ جَيْشِ مَكَّةَ- إِلَى الْمَدِينَةِ.
((وَقَامَ بِتَقْسِيمِ الْجَيْشِ إِلَى ثَلَاثِ كَتَائِبَ، وَأَعْطَى اللِّوَاءَ لِأَحَدِ أَفْرَادِ الْكَتِيبَةِ.
وَهَذِهِ الْكَتَائِبُ هِيَ: ((كَتِيبَةُ الْمُهَاجِرِينَ)) وَأَعْطَى لِوَاءَهَا مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
((كَتِيبَةُ الْأَوْسِ مِنَ الْأَنْصَارِ)) وَأَعْطَى لِوَاءَهَا أُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
((كَتِيبَةُ الْخَزْرَجِ مِنَ الْأَنْصَارِ)) وَأَعْطَى لِوَاءَهَا الْحُبَابَ بْنَ الْمُنْذِرِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
كَانَ ﷺ مِنْ هَدْيِهِ: أَنْ يُحَرِّضَ أَصْحَابَهُ عَلَى قِتَالِ أَعْدَائِهِمْ، وَيَحُثَّهُمْ عَلَى التَّحَلِّي بِالصَّبْرِ فِي مَيَادِينِ الْقِتَالِ؛ لِكَيْ تَقْوَى رُوحُهُمُ الْمَعْنَوِيَّةُ، وَيَصْمُدُوا عِنْدَ مُلَاقَاةِ أَعْدَائِهِمْ، وَمِنْ ذَلِكَ: مَا فَعَلَهُ يَوْمَ أُحُدٍ.
وَفِي ذَلِكَ قَالَ الْوَاقِدِيُّ: ((ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَخَطَبَ النَّاسَ: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ! أُوصِيكُمْ بِمَا أَوْصَانِي اللهُ فِي كِتَابِهِ؛ مِنَ الْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ، وَالتَّنَاهِي عَنْ مَحَارِمِهِ، ثُمَّ إِنَّكُمُ الْيَوْمَ بِمَنْزِلِ أَجْرٍ وَذُخْرٍ لِمَنْ ذَكَرَ الَّذِي عَلَيْهِ، ثُمَّ وَطَّنَ نَفْسَهُ لَهُ عَلَى الصَّبْرِ وَالْيَقِينِ وَالْجِدِّ وَالنَّشَاطِ؛ فَإِنَّ جِهَادَ الْعَدُوِّ شَدِيدٌ كَرِيهٌ، قَلِيلٌ مَنْ يَصْبِرُ عَلَيْهِ إِلَّا مَنْ عَزَمَ اللهُ رُشْدَهُ؛ فَإِنَّ اللهَ مَعَ مَنْ أَطَاعَهُ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ مَنْ عَصَاهُ؛ فَافْتَتِحُوا أَعْمَالَكُمْ بِالصَّبْرِ عَلَى الْجِهَادِ، وَالْتَمِسُوا بِذَلِكَ مَا وَعَدَكُمُ اللهُ، وَعَلَيْكُمْ بِالَّذِي آمُرُكُمْ؛ فَإِنِّي حَرِيصٌ عَلَى رُشْدِكُمْ؛ فَإِنَّ الِاخْتِلَافَ وَالتَّنَازُعَ وَالتَّثْبِيطَ مِنْ أَمْرِ الْعَجْزِ، وَالضَّعْفُ مِمَّا لَا يُحِبُّ اللهُ، وَلَا يُعْطَى عَلَيْهِ نَصْرٌ وَلَا ظَفَرٌ)).
فَيَتَّضِحُ مِنْ هَذِهِ الْخُطْبَةِ عِدَّةُ أَهْدَافٍ، مِنْهَا:
الْحَثُّ عَلَى الْجِدِّ وَالنَّشَاطِ فِي مَيَادِينِ الْجِهَادِ.
وَالْحَثُّ عَلَى الصَّبْرِ عِنْدَ قِتَالِ الْأَعْدَاءِ.
وَبَيَانُ مَسَاوِئِ الِاخْتِلَافِ وَالتَّنَازُعِ.
إِنَّ هَذَا الْهَدْيَ النَّبَوِيَّ الْمُبَارَكَ الَّذِي سَنَّهُ ﷺ يُعَلِّمُنَا حَقَائِقَ ثَابِتَةً؛ وَهِيَ أَنَّ الْجُيُوشَ مَهْمَا عَظُمَ تَسْلِيحُهَا وَتَنْظِيمُهَا فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُغْنِي شَيْئًا؛ إِلَّا إِذَا حَمَلَتْهُ نُفُوسٌ قَوِيَّةٌ تَحْرِصُ عَلَى الْمَوْتِ أَشَدَّ مِنْ حِرْصِهَا عَلَى الْحَيَاةِ، وَهَذَا يَكُونُ بِتَعْبِئَةِ الْجُنُودِ بِالْمَوْعِظَةِ وَالتَّوْجِيهِ، وَغَرْسِ حُبِّ الْجِهَادِ وَالشَّهَادَةِ فِي نُفُوسِهِمْ.
*تَسْوِيَةُ الصُّفُوفِ وَتَنْظِيمُ الْجَيْشِ:
تَقَدَّمَ الرَّسُولُ ﷺ وَأَصْحَابُهُ، وَصَفَّهُمْ عَلَى هَيْئَةِ صُفُوفِ الصَّلَاةِ، وَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْهِ يُسَوِّي تِلْكَ الصُّفُوفَ، وَيُبَوِّءُ أَصْحَابَهُ لِلْقِتَالِ، يَقُولُ: ((تَقَدَّمْ يَا فُلَانُ، وَتَأَخَّرْ يَا فُلَانُ!))، وَهُوَ يُقَوِّمُهُمْ حَتَّى اسْتَوَتِ الصُّفُوفُ، وَوَضَعَ ﷺ فِي مُقَدِّمَةِ الصُّفُوفِ الْأَشِدَّاءَ؛ لِكَيْ يَفْتَحُوا الطَّرِيقَ لِمَنْ خَلْفَهُمْ.
وَقَدْ أَخَذَ الرَّسُولُ ﷺ بِهَذَا الْأُسْلُوبِ؛ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي قِتَالِ الْأَعْدَاءِ.
قَالَ الطَّبَرِيُّ: ((فَجَعَلَ ظَهْرَهُ وَعَسْكَرَهُ إِلَى أُحُدٍ)).
وَقَالَ: ((لَا يُقَاتِلَنَّ أَحَدٌ حَتَّى نَأْمُرَهُ بِالْقِتَالِ)).
فِي هَذَا التَّوْجِيهِ فَائِدَةٌ مُهِمَّةٌ، وَهِيَ: تَوْحِيدُ الْقِيَادَةِ وَالْمَسْؤُولِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ ﷺ أَدْرَى بِالْمَصْلَحَةِ)).
((أَمَّا بَقِيَّةُ الْجَيْشِ؛ فَجَعَلَ عَلَى الْمَيْمَنَةِ الْمُنْذِرَ بْنَ عَمْرٍو، وَجَعَلَ عَلَى الْمَيْسَرَةِ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ يُسَانِدُهُ الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَكَانَ إِلَى الزُّبَيْرِ مُهِمَّةُ الصُّمُودِ فِي وَجْهِ فُرْسَانِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَجَعَلَ فِي مُقَدِّمَةِ الصُّفُوفِ نُخْبَةً مُمْتَازَةً مِنْ شُجْعَانِ الْمُسْلِمِينَ وَرِجَالَاتِهِمُ الْمَشْهُورِينَ بِالنَّجْدَةِ وَالْبَسَالَةِ وَالَّذِينَ يُوزَنُونَ بِالْأُلُوفِ.
وَلَقَدْ كَانَتْ خُطَّةً حَكِيمَةً وَدَقِيقَةً جِدًّا تَتَجَلَّى فِيهَا حِكْمَةُ قِيَادَةِ النَّبِيِّ ﷺ الْعَسْكَرِيَّةِ، وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ لِأَيِّ قَائِدٍ مَهْمَا تَقَدَّمَتْ كَفَاءَتُهُ أَنْ يَضَعَ خُطَّةً أَدَقَّ وَأَحْكَمَ مِنْهَا؛ فَقَدِ احْتَلَّ أَفْضَلَ مَوْضِعٍ مِنْ مَيْدَانِ الْمَعْرَكَةِ، مَعَ أَنَّهُ نَزَلَ فِي الْمَيْدَانِ بَعْدَ الْعَدُوِّ؛ فَقَدْ حَمَى ظَهْرَهُ وَيَمِينَهُ بِارْتِفَاعَاتِ الْجَبَلِ، وَحَمَى مَيْسَرَتَهُ وَظَهْرَهُ حِينَ يَحْتَدِمُ الْقِتَالُ بِسَدِّ الثُّلْمَةِ الْوَحِيدَةِ الَّتِي كَانَتْ تُوجَدُ فِي جَانِبِ الْجَيْشِ الْإِسْلَامِيِّ، وَاخْتَارَ لِمُعَسْكَرِهِ مَوْضِعًا مُرْتَفِعًا لِيَحْتَمِيَ بِهِ إِذَا نَزَلَتِ الْهَزِيمَةُ بِالْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَلْتَجِؤُوا إِلَى الْفِرَارِ حَتَّى يَتَعَرَّضَ لِلْوُقُوعِ فِي قَبْضَةِ الْأَعْدَاءِ الْمُطَارِدِينَ وَأَسْرِهِمْ، وَيُلْحِقُ مَعَ ذَلِكَ خَسَائِرَ فَادِحَةً بِأَعْدَائِهِ إِنْ أَرَادُوا احْتِلَالَ مَوْقِعِ عَسْكَرِهِ وَتَقَدَّمُوا إِلَيْهِ، وَأَلْجَأَ أَعْدَاءَهُ إِلَى قَبُولِ مَوْضِعٍ مُنْخَفِضٍ يَصْعُبُ عَلَيْهِمْ جِدًّا أَنْ يَحْصُلُوا عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَوَائِدِ الْفَتْحِ إِنْ كَانَتِ الْغَلَبَةُ لَهُمْ، وَيَصْعُبُ عَلَيْهِمُ الْإِفْلَاتُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْمُطَارِدِينَ إِنْ كَانَتِ الْغَلَبَةُ لِلْمُسْلِمِينَ، كَمَا أَنَّهُ عَوَّضَ النَّقْصَ الْعَدَدِيَّ فِي رِجَالِهِ بِاخْتِيَارِ نُخْبَةٍ مُمْتَازَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ الشُّجْعَانِ الْبَارِزِينَ.
وَهَكَذَا تَمَّتْ تَعْبِئَةُ الْجَيْشِ النَّبَوِيِّ)).
*تَعْبِئَةُ الرَّسُولِ ﷺ جَيْشَهُ وَوَصِيَّتُهُ لِلرُّمَاةِ:
((فِي صَبِيحَةِ يَوْمِ السَّبْتِ الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْ شَوَّالٍ عَبَّأَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَصْحَابَهُ لِلْقِتَالِ، وَأَخَذَ يُسَوِّي صُفُوفَهُمْ، وَأَمَّرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَبْدَ اللهِ بْنَ جُبَيْرِ بْنِ النُّعْمَانِ الْأَنْصَارِيَّ الْأَوْسِيَّ الْبَدْرِيَّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَلَى خَمْسِينَ رَامٍ -فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» قَالَ ﷺ لِلرُّمَاةِ: ((إِنْ رَأَيْتُمُونَا تَخْطُفُنَا الطَّيْرُ فَلَا تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ هَذَا، وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا هَزَمْنَا الْقَوْمَ وَأَوْطَأْنَاهُمْ فَلَا تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ)) -.
كَانَتِ الْأَوَامِرُ وَاضِحَةً، فَلَمَّا جَاءَتِ الْمُخَالَفَةُ جَاءَتِ الْكَسْرَةُ وَقُتِلَ سَبْعُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ الْمَأْمُونِ ﷺ.
نَظَّمَ ﷺ أَصْحَابَهُ صُفُوفًا لِلْقِتَالِ بِهِمْ بِأُسْلُوبِ الصَّفِّ، وَتَخَيَّرَ الْأَشِدَّاءَ لِيَكُونُوا طَلِيعَةَ الصُّفُوفِ.
وَأَصْدَرَ أَوَامِرَهُ بِأَلَّا يُقَاتِلَ أَحَدٌ إِلَّا بِأَمْرٍ مِنْهُ.
أَخَذَ يُشَجِّعُ أَصْحَابَهُ وَيَحُثُّهُمْ عَلَى الصَّبْرِ فِي الْقِتَالِ، وَلِبَعْثِ التَّنَافُسِ الشَّرِيفِ فِي إِظْهَارِ الْبُطُولَةِ أَخَذَ الرَّسُولُ ﷺ سَيْفًا بِيَدِهِ، فَقَالَ مُخَاطِبًا أَصْحَابَهُ: ((مَنْ يَأْخُذُ هَذَا السَّيْفَ بِحَقِّهِ؟)).
فَقَامَ إِلَيْهِ رِجَالٌ، فَأَمْسَكَهُ عَنْهُمْ حَتَّى قَامَ أَبُو دُجَانَةَ فَقَالَ: ((وَمَا حَقُّهُ يَا رَسُولَ اللهِ؟)).
فَقَالَ ﷺ: ((أَنْ تَضْرِبَ بِهِ الْعَدُوَّ حَتَّى يَنْحَنِيَ))».
*تَعْبِئَةُ قُرَيْشٍ جَيْشَهَا:
((أَمَّا قُرَيْشٌ فَقَدْ عَبَّأَتْ جَيْشَهَا، فَكَانَتِ الْقِيَادَةُ الْعَامَّةُ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهَا عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَاسْتَعْمَلُوا عَلَى مَيْمَنَةِ خَيْلِهِمْ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَكَانَ مَعَهُمْ مِائَتَا فَرَسٍ، وَجَعَلُوا عَلَى الْمُشَاةِ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ، وَيُقَالُ: عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، وَعَلَى الرُّمَاةِ -وَكَانُوا مِائَةً- عَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، وَدَفَعُوا اللِّوَاءَ إِلَى طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ)).
لَمْ يَكُنِ الْمُسْلِمُونَ يُقَاتِلُونَ قَوْمًا هَيِّنِينَ كَمَا يَتَصَوَّرُ كَثِيرٌ مِنَ الطَّيِّبِينَ، كَانَ الْأَمْرُ شَاقًّا وَعَسِيرًا!!
وَمِثْلُ هَذَا الْجَيْشِ الَّذِي أَخَذُوا يُعِدُّونَ لَهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ شَهْرًا، مَعَ مَالٍ كَثِيرٍ، وَضَجَّةٍ إِعْلَامِيَّةٍ مُؤَثِّرَةٍ، وَجَمْعٍ لِلسِّلَاحِ وَلِلْأَفْرَادِ، وَمَعَ خُرُوجِهِمْ بِحَدِّهِمْ وَحَدِيدِهِمْ وَأَحَابِيشِهِمْ يُرِيدُونَ اسْتِئْصَالَ شَأْفَةِ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، كَانَ أَمْرًا عَسِرًا؛ حَتَّى تَعْلَمَ كَيْفَ عَانَى النَّبِيُّ ﷺ، وَمَاذَا عَانَى، وَكَذَلِكَ مَاذَا عَانَى أَصْحَابُهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-!!
أَمَّا أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ عَلَى تَسْطِيحٍ لَا عُمْقَ لَهُ؛ فَهَذَا لَا يَجْعَلُ لِلْعَسْكَرِيَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فِي الْعَهْدِ النَّبَوِيِّ وَلَا لِلْفُرُوسِيَّةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا الصَّحَابَةُ.. لَا يَجْعَلُ لَهَا -حِينَئِذٍ- شَأْنًا كَبِيرًا!!
*مُحَاوَلَاتٌ فَاشِلَةٌ فِي إِيقَاعِ الْفُرْقَةِ وَالنِّزَاعِ فِي جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ:
((قُبَيْلَ نُشُوبِ الْمَعْرَكَةِ حَاوَلَتْ قُرَيْشٌ إِيقَاعَ الْفُرْقَةِ وَالنِّزَاعِ فِي صُفُوفِ الْمُسْلِمِينَ، فَأَرْسَلَ أَبُو سُفْيَانَ رَسُولًا إِلَى الْأَنْصَارِ يَقُولُ لَهُمْ: ((يَا مَعْشَرَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ! خَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ ابْنِ عَمِّنَا نَنْصَرِفْ عَنْكُمْ؛ فَإِنَّهُ لَا حَاجَةَ لَنَا بِقِتَالِكُمْ!!))، وَلَكِنْ أَيْنَ هَذِهِ الْمُحَاوَلَةُ أَمَامَ الْإِيمَانِ الَّذِي لَا تَقُومُ لَهُ الْجِبَالُ؟!! فَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ الْأَنْصَارُ رَدًّا عَنِيفًا، وَأَسْمَعُوهُ مَا يَكْرَهُ)).
((أَحْدَاثُ الْمَعْرَكَةِ وَمَشَاهِدُهَا))
((لَقَدِ اقْتَرَبَتْ سَاعَةُ الصِّفْرِ يَوْمَ أُحُدٍ بَعْدَ أَنْ أَتَمَّ الْفَرِيقَانِ تَعْبِئَتَهُمَا، وَأَخَذَ كُلٌّ مِنَ الْقَادَةِ وَالْجُنُودِ مَكَانَهُ الْمَرْسُومَ لَهُ، فَتَقَابَلَ الْخَصْمَانِ وَجْهًا لِوَجْهٍ، ثَلَاثَةُ آلَافٍ مِنْ فُرْسَانِ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْطَالِهِمْ تَقُودُهُمُ الْحَمِيَّةُ الْجَاهِلِيَّةُ، وَتَدْفَعُهُمُ الرَّغْبَةُ فِي الْأَخْذِ بِالثَّأْرِ، مُجَهَّزِينَ أَعْظَمَ تَجْهِيزٍ، وَمُسَلَّحِينَ أَحْسَنَ تَسْلِيحٍ، يُوَاجِهُونَ سَبْعَ مِائَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ تَدْفَعُهُمُ الرَّغْبَةُ الصَّادِقَةُ فِي الِاسْتِشْهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَالِانْتِصَارِ لِرَفْعِ كَلِمَةِ اللهِ، لَيْسَ لَدَيْهِمْ مَا يَتَفَوَّقُونَ بِهِ عَلَى خُصُومِهِمْ سِوَى سِلَاحِ الْإِيمَانِ الْقَوِيِّ، وَتَجْهِيزَاتِ الْعَقِيدَةِ الصَّادِقَةِ الثَّابِتَةِ الصَّامِدَةِ، وَأَعْظِمْ بِهِ مِنْ سِلَاحٍ! وَأَكْرِمْ بِهَا مِنْ تَجْهِيزَاتٍ!!
وَبَعْدَ إِتْمَامِ التَّعْبِئَةِ تَقَارَبَ الْجَمْعَانِ، فَجَاشَتِ الْعَوَاطِفُ، وَرَكَضَتِ الْقُلُوبُ بَيْنَ الْجُنُوبِ، وَاحْمَرَّتِ الْحَدَقُ، وَارْتَفَعَ غَلَيَانُ الدَّمِ فِي الْعُرُوقِ، وَاخْتَلَطَ صَهِيلُ الْخَيْلِ بِقَعْقَعَةِ السِّلَاحِ، وَنِدَاءَاتُ الْأَبْطَالِ بِصَيْحَاتِ الْفُرْسَانِ)).
كَانَ النَّبِيُّ الْكَرِيمُ ﷺ قَدْ أَصْدَرَ أَمْرَهُ لِأَصْحَابِهِ بِأَنْ يَتْرُكُوا الْمُشْرِكِينَ يَبْدَؤُونَ الْقِتَالَ؛ فَإِنَّهُ عَلَى الْبَاغِي تَدُورُ الدَّوَائِرُ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ ﷺ: ((لَا يُقَاتِلَنَّ أَحَدٌ حَتَّى نَأْمُرَهُ بِالْقِتَالِ)).
وَهُنَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ تُعْلِنَ الْحَرْبُ عَنْ بِدَايَتِهَا، وَيَبْدَأَ النِّزَالُ بَيْنَ جُنْدِ اللهِ وَحِزْبِهِ وَبَيْنَ جُنْدِ الشَّيْطَانِ وَحِزْبِهِ.
*هُجُومُ الْمُشْرِكِينَ:
((كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ أُحُدٍ الْبَادِئِينَ بِالْهُجُومِ؛ فَقَدْ قَامَتْ قُوَّةٌ مِنْ مُشَاتِهِمْ بِقِيَادَةِ الْخَائِنِ أَبِي عَامِرٍ الْفَاسِقِ الْأَوْسِيِّ تُسَانِدُهَا كَوْكَبَةٌ مِنَ الْفُرْسَانِ بِقِيَادَةِ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ عَلَى جَنَاحِ الْمُسْلِمِينَ الْأَيْسَرِ؛ بُغْيَةَ تَحْطِيمِ هَذَا الْجَنَاحِ، وَالتَّسَرُّبِ إِلَى دَاخِلِ الشِّعْبِ؛ لِضَرْبِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْخَلْفِ؛ لِإِحْدَاثِ الِارْتِبَاكِ فِي صُفُوفِهِمْ.
وَلَكِنَّ مَوَاقِعَ الْجَيْشِ الْإِسْلَامِيِّ الَّتِي اخْتَارَهَا الرَّسُولُ ﷺ لِمُرَابَطَةِ جَيْشِهِ قَبْلَ الْمَعْرَكَةِ، وَاحْتِلَالِ هَذَا الْجَيْشِ الْمَوَاقِعَ التَّعْبَوِيَّةَ الْهَامَّةَ فِي جَبَلِ الرُّمَاةِ عِنْدَ مَدْخَلِ الشِّعْبِ أَحْبَطَ هَذِهِ الْمُحَاوَلَةَ إِحْبَاطًا كَامِلًا؛ حَيْثُ قُوبِلَ هَذَا الْهُجُومُ وَخَاصَّةً هُجُومَ الْفُرْسَانِ بِسَيْلٍ مُنْهَمِرٍ مِنْ نِبَالِ الرُّمَاةِ فِي الْجَبَلِ، كَمَا تَصَدَّى الْمُشَاةُ بِقِيَادَةِ الزُّبَيْرِ وَالْمِقْدَادِ لِلْمُهَاجِمِينَ، وَقَاوَمُوهُمْ مُقَاوَمَةً عَنِيفَةً، مِمَّا أَجْبَرَ الْمُهَاجِمِينَ عَلَى الِارْتِدَادِ.
وَقَدْ سَاعَدَ فِي تَشْتِيتِ الْمُهَاجِمِينَ -عَلَى مَا يَظْهَرُ- رِجَالٌ رَابَطُوا فِي مَوَاقِعَ مُخْتَارَةٍ مِنْ جَبَلِ أُحُدٍ، وَرَجَمُوا الْمُهَاجِمِينَ بِالْحِجَارَةِ، وَسَلَّطُوا عَلَيْهِمْ مِنَ الصُّخُورِ قِطَعًا كَبِيرَةً دَحْرَجُوهَا نَحْوَهُمْ، فَأَحْدَثَتْ الِارْتِبَاكَ فِي تَشْكِيلَاتِهِمْ، وَأَجْبَرَتْهُمْ عَلَى الِابْتِعَادِ عَنْ سَفْحِ الْجَبَلِ.
وَقَدْ عَاوَدَ فُرْسَانُ مَكَّةَ الْهُجُومَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ؛ وَلَكِنَّهُمْ فَشِلُوا فِيهَا جَمِيعًا؛ وَذَلِكَ بِسَبَبِ يَقَظَةِ الرُّمَاةِ فِي الْجَبَلِ، وَكَانَ هَذَا فِي أَوَّلِ الْمَعْرَكَةِ، أَمَّا فِي آخِرِهَا فَقَدْ نَجَحَ هُجُومُ خَيَّالَةِ مَكَّةَ بَعْدَ انْسِحَابِ الرُّمَاةِ مِنْ مَوَاقِعِهِمْ فِي الْجَبَلِ.
وَكَانَ فَشَلُ الْمُشْرِكِينَ فِي هُجُومِهِمُ الْأَوَّلِ هَذَا مِنْ ثَمَرَاتِ الْخُطَّةِ الْحَكِيمَةِ الدَّقِيقَةِ الَّتِي وَضَعَهَا الرَّسُولُ الْقَائِدُ ﷺ؛ لِإِدَارَةِ دَفَّةِ الْمَعْرَكَةِ)).
*نَقْلُ الْمَعْرَكَةِ حَوْلَ لِوَاءِ قُرَيْشٍ:
((كَانَ ثِقَلُ الْمَعْرَكَةِ يَدُورُ حَوْلَ لِوَاءِ الْمُشْرِكِينَ؛ فَقَدْ كَانَ هُجُومُ الْمُسْلِمِينَ الْمُضَادُّ مُرَكَّزًا بِصِفَةٍ خَاصَّةٍ عَلَى حَمَلَةِ هَذَا اللِّوَاءِ؛ وَلِذَلِكَ دَارَ الْقِتَالُ أَوَّلَ مَا دَارَ بِضَرَاوَةٍ وَعُنْفٍ حَوْلَ هَذَا اللِّوَاءِ؛ فَقَدْ كَانَ حَمَلَتُهُ مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ الْمَشْهُورِينَ بِالشَّجَاعَةِ وَالثَّبَاتِ.
وَقَدْ كَانَ هَدَفُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ تَرْكِيزِ الْهُجُومِ عَلَى حَمَلَةِ اللِّوَاءِ الْإِطَاحَةَ بِهَذَا اللِّوَاءِ؛ لِأَنَّ الْإِطَاحَةَ بِاللِّوَاءِ -وَخَاصَّةً فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ- يُعَجِّلُ بِهَزِيمَةِ مَنْ يَسْقُطُ لِوَاؤُهُمْ؛ وَلِهَذَا كَانَ لَا يَتَحَمَّلُ مَسْئُولِيَّةَ حَمْلِ اللِّوَاءِ فِي تِلْكَ الْمَعَارِكِ إِلَّا الْأَبْطَالُ الْمَغَاوِيرُ.
وَكَانَ أَوَّلَ وَقُودِ الْمَعْرَكَةِ قَائِدُ حَمْلَةِ لِوَاءِ الْمُشْرِكِينَ طَلْحَةُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ الْعَبْدَرِيُّ، كَانَ مِنْ أَشْجَعِ فُرْسَانِ قُرَيْشٍ، وَكَانَ يَوْمَ أُحُدٍ رَاكِبًا جَمَلًا وَمَعَهُ لِوَاءُ مَكَّةَ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ لِشَجَاعَتِهِ يُسَمُّونَهُ (كَبْشَ الْكَتِيبَةِ)؛ فَقَدْ دَعَا طَلْحَةُ الْعَبْدَرِيُّ هَذَا الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْبِرَازِ، فَأَحْجَمَ النَّاسُ عَنْهُ؛ وَلَكِنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ أَجَابَهُ إِلَى الْمُبَارَزَةِ، وَلَمَّا كَانَ طَلْحَةُ رَاكِبًا جَمَلًا لَمْ يُمْهِلْهُ الزُّبَيْرُ حَتَّى يَنْزِلَ الْأَرْضَ، بَلْ وَثَبَ إِلَيْهِ وَثْبَةَ الْأَسَدِ حَتَّى صَارَ مَعَهُ عَلَى جَمَلِهِ، ثُمَّ اقْتَحَمَ بِهِ الْأَرْضَ وَبَرَكَ عَلَيْهِ، ثُمَّ عَاجَلَهُ بِطَعْنَةٍ مِنْ سَيْفِهِ فَصَلَتْ رَأْسَهُ عَنْ جَسَدِهِ!!
وَكَانَ النَّبِيُّ الْقَائِدُ ﷺ يَرْقُبُ صِرَاعَ الزُّبَيْرِ مَعَ قَائِدِ حَمَلَةِ لِوَاءِ مَكَّةَ، فَلَمَّا قَتَلَ الزُّبَيْرُ طَلْحَةَ بْنَ أَبِي طَلْحَةَ وَهُوَ (كَبْشُ الْكَتِيبَةِ) -كَمَا يَقُولُ ابْنُ سَعْدٍ فِي «الطَّبَقَاتِ»-؛ سُرَّ النَّبِيُّ ﷺ سُرُورًا عَظِيمًا، وَرَفَعَ صَوْتَهُ بِالتَّكْبِيرِ، فَكَبَّرَ الْمُسْلِمُونَ لِتَكْبِيرِهِ.
وَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي «الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ» أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَثْنَى عَلَى الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ؛ لِقَتْلِهِ حَامِلَ لِوَاءِ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ فِي حَقِّهِ: ((إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا، وَحَوَارِيِّي الزُّبَيْرُ)). وَهَذَا ثَابِتٌ فِي ((الصَّحِيحِ)).
وَبَعْدَ أَنْ قَتَلَ الزُّبَيْرُ قَائِدَ حَمَلَةِ اللِّوَاءِ طَلْحَةَ بْنَ أَبِي طَلْحَةَ تَعَاقَبَ بَنُو عَبْدِ الدَّارِ لِحَمْلِ اللِّوَاءِ حَتَّى أَبَادَهُمُ الْمُسْلِمُونَ جَمِيعًا.
* احْتِدَامُ الْمَعَرَكَةِ:
وَبَيْنَمَا الصِّرَاعُ يَدُورُ رَهِيبًا هَكَذَا حَوْلَ لِوَاءِ مَكَّةَ كَانَتْ نِيرَانُ الْمَعْرَكَةِ قَدِ انْدَلَعَتْ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي كُلِّ نُقْطَةٍ مِنْ نِقَاطِ الْمَيْدَانِ؛ فَقَدِ اخْتَلَطَ الْفَرِيقَانِ، وَانْدَفَعَتْ قُرَيْشٌ إِلَى الْقِتَالِ يَثُورُ فِي عُرُوقِهَا طَلَبُ الثَّأْرِ لِمَنْ مَاتَ مِنْ أَشْرَافِهَا وَسَادَتِهَا مُنْذُ عَامٍ بِبَدْرٍ.
وَسَادَتْ رُوحُ الْإِيمَانِ صُفُوفَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُجَاهِدِينَ، فَانْطَلَقُوا خِلَالَ الشِّرْكِ انْطِلَاقَ الْفَيَضَانِ تَقَطَّعَتْ أَمَامَهُ السُّدُودُ».
*شِدَّةُ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- فِي الْقِتَالِ، وَجُمْلَةٌ مِنْ بُطُولَاتِهِمْ:
((وَبَيْنَمَا كَانَ الْقِتَالُ شَدِيدًا حَوْلَ لِوَاءِ الْمُشْرِكِينَ؛ كَانَ الْقِتَالُ الْمَرِيرُ يَجْرِي فِي جَمِيعِ مَيْدَانِ الْمَعْرَكَةِ، وَلَقَدْ ظَهَرَتْ لِلصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- بُطُولَاتٌ عَظِيمَةٌ، فَمِنْ ذَلِكَ:
شِدَّةُ أَبِي دُجَانَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي الْقِتَالِ، أَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي «الْمُسْتَدْرَكِ» وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ إِسْحَاقَ فِي «السِّيرَةِ» عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: ((وَجَدْتُ فِي نَفْسِي حِينَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ السَّيْفَ، فَمَنَعَنِيهِ وَأَعْطَاهُ أَبَا دُجَانَةَ، وَقُلْتُ: أَنَا ابْنُ صَفِيَّةَ عَمَّتِهِ وَمِنْ قُرَيْشٍ، وَقَدْ قُمْتُ إِلَيْهِ فَسَأَلْتُهُ إِيَّاهُ قَبْلَهُ -أَيْ: قَبْلَ أَبِي دُجَانَةَ-، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ وَتَرَكَنِي، وَاللهِ! لَأَنْظُرَنَّ مَا يَصْنَعُ، فَاتَّبَعْتُهُ، فَأَخْرَجَ عِصَابَةً لَهُ حَمْرَاءَ -وَالْعِصَابَةُ: هِيَ كُلُّ مَا يُعْصَبُ أَوْ يُلَفُّ وَيُشَدُّ بِهِ الرَّأْسُ مِنْ خِرْقَةٍ أَوْ عِمَامَةٍ- فَأَخْرَجَ عِصَابَةً لَهُ حَمْرَاءَ، فَعَصَبَ بِهَا رَأْسَهُ -وَعَصَبَ الشَّيْءَ: طَوَاهُ وَلَوَاهُ- فَعَصَبَ بِتِلْكَ الْعِصَابَةِ رَأْسَهُ.
فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: أَخْرَجَ أَبُو دُجَانَةَ عِصَابَةَ الْمَوْتِ، فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ:
أَنَا الَّذِي عَاهَدَنِي خَلِيلِي = وَنَحْنُ بِالسَّفْحِ لَدَى النَّخِيلِ
أَلَّا أَقُومَ الدَّهْرَ فِي الْكَيُّولِ = أَضْرِبُ بِسَيْفِ اللهِ وَالرَّسُولِ
وَالْكَيُّولُ: الصَّفُّ الْأَخِيرُ فِي الْقِتَالِ.
فَجَعَلَ لَا يَلْقَى أَحَدًا إِلَّا قَتَلَهُ!
وَكَانَ فِي الْمُشْرِكِينَ رَجُلٌ لَا يَدَعُ لَنَا جَرِيحًا إِلَّا ذَفَّفَ عَلَيْهِ -وَتَذْفِيفُ الْجَرِيحِ: الْإِجْهَازُ عَلَيْهِ وَقَتْلُهُ-، فَجَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدْنُو مِنْ صَاحِبِهِ، فَدَعَوْتُ اللهَ -الدَّاعِي هُوَ الزُّبَيْرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-- فَدَعَوْتُ اللهَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا، فَالْتَقَيَا فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ، فَضَرَبَ الْمُشْرِكُ أَبَا دُجَانَةَ، فَاتَّقَاهُ بِدَرَقَتِهِ -وَالدَّرَقَةُ: التُّرْسُ مِنْ جُلُودٍ لَيْسَ فِيهِ خَشَبٌ وَلَا عَقَبٌ-، فَعَضَدَتْ بِسَيْفِهِ -عَضَدَتْ بِسَيْفِهِ: أَيْ لَزِمَتْه وَلَزِقَتْ بِهِ-، فَضَرَبَهُ أَبُو دُجَانَةَ فَقَتَلَهُ.
ثُمَّ أَمْعَنَ أَبُو دُجَانَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي الصُّفُوفِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى نِسْوَةٍ فِي سَفْحِ الْجَبَلِ، فَأَهْوَى بِالسَّيْفِ عَلَى مَفْرِقِ رَأْسِ هِنْدَ بِنْتِ عُتْبَةَ زَوْجِ أَبِي سُفَيْاَنَ، ثُمَّ كَفَّ السَّيْفَ عَنْهَا.
قَالَ الزُّبَيْرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: فَلَمَّا انْكَشَفَ الْقِتَالُ قُلْتُ لِأَبِي دُجَانَةَ: كُلَّ عَمَلِكَ قَدْ رَأَيْتُ مَا خَلَا رَفْعِكَ السَّيْفَ عَلَى الْمَرْأَةِ؛ لِمَ لَمْ تَضْرِبْهَا؟!!
فَقَالَ أَبُو دُجَانَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: رَأَيْتُ إِنْسَانًا يَحْمِشُ النَّاسَ حَمْشًا شَدِيدًا -يَحْمِشُ النَّاسَ: أَيْ يَسُوقُهُمْ بِغَضَبٍ-، فَصَمَدْتُ لَهُ -أَيْ: فَقَصَدْتُ لَهُ-، فَلَمَّا حَمَلْتُ عَلَيْهِ السَّيْفَ وَلْوَلَ، فَإِذَا امْرَأَةٌ، فَأَكْرَمْتُ سَيْفَ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَنْ أَضْرِبَ بِهِ امْرَأَةً)). أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ وَالْحَاكِمُ فِي «الْمُسْتَدْرَكِ».
وَمِنَ الَّذِينَ أَبْلَوْا بَلَاءً حَسَنًا يَوْمَ أُحُدٍ وَقُتِلُوا: عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ وَالِدُ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-؛ فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ جِيءَ بِأَبِي مُسَجًّى -أَيْ: مُغَطًّى- وَقَدْ مُثِّلَ بِهِ -مُثِّلَ بِهِ وَمَثَّلْتَ بِالْقَتِيلِ: إِذَا قَطَعْتَ أَطْرَافَهُ، أَوْ أَنْفَهُ، أَوْ أُذُنَهُ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ- وَقَدْ مُثِّلَ بِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْفَعَ الثَّوْبَ فَنَهَانِي قَوْمِي، ثُمَّ أَرَدْتُ أَنْ أَرْفَعَ الثَّوْبَ فَنَهَانِي قَوْمِي، فَرَفَعَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَوْ أَمَرَ بِهِ فَرُفِعَ، فَسَمِعَ صَوْتَ بَاكِيَةٍ أَوْ صَائِحَةٍ، فَقَالَ ﷺ: ((مَنْ هَذِهِ؟)).
فَقَالُوا: بِنْتُ عَمْرٍو، أَوْ أُخْتُ عَمْرٍو.
قَالَ الْحَافِظُ: ((هَذَا شَكٌّ مِنْ سُفْيَانَ، وَهُوَ أَحَدُ رُوَاةِ الْحَدِيثِ، وَالصَّوَابُ: بِنْتُ عَمْرٍو، وَهِيَ فَاطِمَةُ بِنْتُ عَمْرٍو)).
فَقَالَ ﷺ: ((وَلِمَ تَبْكِي؟! فَمَا زَالَتِ الْمَلَائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رَفَعَ)).
قَالَ الْحَافِظُ: (( ((وَلِمَ تَبْكِي؟!))؛ لِأَنَّ هَذَا الْجَلِيلَ الْقَدْرِ الَّذِي تُظِلُّهُ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُبْكَى عَلَيْهِ، بَلْ يُفْرَحُ لَهُ بِمَا صَارَ إِلَيْهِ)) .
وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي «صَحِيحِهِ»، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَه، وَالْحَاكِمُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((لَقِيَنِي النَّبِيُّ ﷺ فَقَالَ لِي: ((يَا جَابِرُ! مَالِي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا؟)).
فَقُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! اسْتُشْهِدَ أَبِي، وَتَرَكَ عِيَالًا وَدَيْنًا)).
فَقَالَ ﷺ: ((أَلَا أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ اللهُ بِهِ أَبَاكَ؟)).
قُلْتُ: ((بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ)).
قَالَ: ((مَا كَلَّمَ اللهُ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَإِنَّ اللهَ أَحْيَا أَبَاكَ فَكَلَّمَهُ كِفَاحًا -أَيْ: مُوَاجَهَةً لَيْسَ بَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَلَا رَسُولٌ-، فَقَالَ: يَا عَبْدِي! تَمَنَّ أُعْطِكَ! قَالَ: تُحْيِينِي فَأُقْتَلَ قَتْلَةً ثَانِيَةً، قَالَ اللهُ تَعَالَى: إِنِّي قَضَيْتُ أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران : 169])).
وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَوْصَى وَلَدَهُ جَابِرًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِقَضَاءِ دَيْنِهِ، وَحِفْظِ أَخَوَاتِهِ.
وَمِنَ الْأَبْطَالِ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي تِلْكَ الْمَعْرَكَةِ الْعَظِيمَةِ: حَنْظَلَةُ غَسِيلُ الْمَلَائِكَةِ، وَقَدْ كَادَ حَنْظَلَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنْ يَقْتُلَ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ قَائِدَ قُرَيْشٍ؛ لَكِنَّ شَدَّادَ بْنَ الْأَسْوَدِ قَتَلَهُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ.
أَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي «صَحِيحِهِ»، وَالْحَاكِمُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((كَانَ النَّاسُ انْهَزَمُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ حَتَّى انْتَهَى بَعْضُهُمْ إِلَى دُونِ الْأَعْرَاضِ -وَأَعْرَاضُ الْمَدِينَةِ: هِيَ قُرَاهَا الَّتِي فِي أَوْدِيَتِهَا، وَقِيلَ: أَعْرَاضُ الْمَدِينَةِ: بُطُونُ سَوَادِهَا حَيْثُ الزَّرْعُ وَالنَّخْلُ-، كَانَ النَّاسُ قَدِ انْهَزَمُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ حَتَّى انْتَهَى بَعْضُهُمْ إِلَى دُونِ الْأَعْرَاضِ إِلَى جَبَلٍ بِنَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَقَدْ كَانَ حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ الْتَقَى هُوَ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، فَلَمَّا اسْتَعْلَاهُ حَنْظَلَةُ رَآهُ شَدَّادُ بْنُ الْأَسْوَدِ، فَعَلَاهُ شَدَّادٌ بِالسَّيْفِ حَتَّى قَتَلَهُ، وَقَدْ كَادَ يَقْتُلُ أَبَا سُفْيَانَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ صَاحِبَكُمْ حَنْظَلَةَ تُغَسِّلُهُ الْمَلَائِكَةُ؛ فَسَلُوا صَاحِبَتَهُ)) أَيْ: زَوْجَتَهُ، وَهِيَ جَمِيلَةُ بِنْتُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ الْمُنَافِقِ، وَكَانَتِ امْرَأَةً مُؤْمِنَةً صَالِحَةً -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، ((فَسَلُوا صَاحِبَتَهُ)).
فَقَالَتْ: ((خَرَجَ وَهُوَ جُنُبٌ لَمَّا سَمِعَ الْهَائِعَ -وَالْهَائِعُ: صَوْتُ الصَّارِخِ بِالْفَزَعِ-)).
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((فَذَاكَ قَدْ غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ)).
وَأَمَّا عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ فَإِنَّهُ يَخُوضُ فِي الْجَنَّةِ بِعَرْجَتِهِ، وَكَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَعْرَجَ شَدِيدَ الْعَرَجِ، وَكَانَ لَهُ أَرْبَعَةُ أَبْنَاءٍ شَبَابٍ يَشْهَدُونَ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ الْمَشَاهِدَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ قَالَ لَهُ أَبْنَاؤُهُ: إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَدْ عَذَرَكَ، فَأَتَى رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَأَذِنَ لَهُ.
أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي «مُسْنَدِهِ» بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: ((أَتَى عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلْتُ فِي سَبِيلِ اللهِ حَتَّى أُقْتَلَ؛ أَمْشِي بِرِجْلِي هَذِهِ صَحِيحَةً فِي الْجَنَّةِ؟!!)) وَكَانَتْ رِجْلُهُ عَرْجَاءَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((نَعَمْ)).
فَقَتَلُوهُ يَوْمَ أُحُدٍ، فَمَرَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَقَالَ: ((كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْكَ تَمْشِي بِرِجْلِكَ هَذِهِ صَحِيحَةً فِي الْجَنَّةِ)).
وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي «صَحِيحِهِ» بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((جَاءَ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ يَوْمَ أُحُدٍ، فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! مَنْ قُتِلَ الْيَوْمَ دَخَلَ الْجَنَّةَ؟)).
قَالَ: ((نَعَمْ)).
قَالَ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَا أَرْجِعُ إِلَى أَهْلِي حَتَّى أَدْخُلَ الْجَنَّةَ)).
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((يَا عَمْرُو! لَا تَأَلَّ عَلَى اللهِ)) أَيْ: لَا تَحْلِفْ عَلَيْهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَهْلًا يَا عُمَرُ؛ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ، مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ يَخُوضُ فِي الْجَنَّةِ بِعَرْجَتِهِ)).
وَعَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ هُوَ سَيِّدُ بَنِي سَلِمَةَ.
وَفِي هَذَا الْخَبَرِ مَوْقِفٌ لِعَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، وَذَلِكَ فِي إِظْهَارِ شَوْقِهِ الشَّدِيدِ لِلْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ -تَعَالَى-، مَعَ أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- قَدْ عَذَرَهُ فِي الْقُعُودِ لِعَرَجِهِ الشَّدِيدِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ قَالَ: ((لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِلَى أُحُدٍ؛ رُفِعَ حُسَيْلُ بْنُ جَابِرٍ -وَهُوَ الْيَمَانُ أَبُو أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ- وَثَابِتُ بْنُ وَقْشٍ فِي الْآطَامِ -يَعْنِي: فِي الْحُصُونِ- مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ وَهُمَا شَيْخَانِ كَبِيرَانِ: لَا أَبَا لَكَ مَا تَنْتَظِرُ؟!! فَوَاللهِ! مَا بَقِيَ لِوَاحِدٍ مِنَّا مِنْ عُمْرِهِ إِلَّا ظِمْءُ حِمَارٍ -أَيْ: مِقْدَارُ مَا بَيْنَ شَرْبَتَيِ الْحِمَارِ، وَالْحِمَارُ لَا يَصْبِرُ عَلَى الظَّمَأِ، يَعْنِي: مُدَّةً يَسِيرَةً-، إِنَّمَا نَحْنُ هَامَّةُ الْيَوْمِ أَوْ غَدٍ -نَمُوتُ الْيَوْمَ أَوْ غَدًا-، أَفَلَا نَأْخُذُ أَسْيَافَنَا، ثُمَّ نَلْحَقُ بِرَسُولِ اللهِ ﷺ؛ لَعَلَّ اللهَ يَرْزُقُنَا شَهَادَةً مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ؟
فَأَخَذَا أَسْيَافَهُمَا ثُمَّ خَرَجَا حَتَّى دَخَلَا فِي النَّاسِ، وَلَمْ يُعْلَمْ بِهِمَا، فَأَمَّا ثَابِتُ بْنُ وَقْشٍ فَقَتَلَهُ الْمُشْرِكُونَ، وَأَمَّا حُسَيْلُ بْنُ جَابِرٍ فَاخْتَلَفَ عَلَيْهِ أَسْيَافُ الْمُسْلِمِينَ، فَقَتَلُوهُ وَلَا يَعْرِفُونَهُ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: ((أَبِي!)).
فَقَالُوا: ((وَاللهِ! إِنْ عَرَفْنَاهُ))، وَصَدَقُوا.
قَالَ حُذَيْفَةُ: ((يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)).
فَأَرَادَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَنْ يَدِيَهُ، فَتَصَدَّقَ حُذَيْفَةُ بِدِيَتِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَزَادَهُ ذَلِكَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ خَيْرًا)). وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مُخْتَصَرًا.
وَفِي هَذَا الْخَبَرِ مَوَاقِفُ وَعِبَرٌ، مِنْهَا: مَا كَانَ مِنْ هَذَيْنِ الشَّيْخَيْنِ الْكَبِيرَيْنِ: حُسَيْلِ بْنِ جَابِرٍ الْيَمَانِ، وَثَابِتِ بْنِ وَقْشٍ الْأَنْصَارِيَّيْنِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-؛ حَيْثُ اشْتَاقَتْ نُفُوسُهُمَا إِلَى الِاسْتِشْهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَخَرَجَا إِلَى الْجِهَادِ مَعَ كَوْنِهِمَا مِمَّنْ عَذَرَهُمَا اللهُ -تَعَالَى- بِالْقُعُودِ لِكِبَرِ سِنِّهِمَا؛ لَكِنْ دَفَعَهُمَا إِلَى الْخُرُوجِ رَغْبَتُهُمَا فِي الشَّهَادَةِ الَّتِي هِيَ غَايَةُ أَمَانِيِّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ، وَقَدْ حَصَلَ لَهُمَا مَا أَرَادَا مِنْ ذَلِكَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-.
وَالثَّانِي: مَوْقِفٌ لِحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- حِينَمَا سَامَحَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَبَاهُمْ خَطَأً، وَتَصَدَّقَ بِدِيَتِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِمَّا أَثَارَ إِعْجَابَ النَّبِيِّ ﷺ بِهِ، وَزَادَ فِي مَكَانَتِهِ عِنْدَهُ.
وَكَانَ عَمْرُو بْنُ ثَابِتٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الْمَعْرُوفُ بِالْأُصَيْرِمِ الْأَنْصَارِيِّ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ كَانَ يَأْبَى الْإِسْلَامَ عِنْدَمَا قَدِمَ الرَّسُولُ ﷺ الْمَدِينَةَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ قَذَفَ اللهُ الْإِسْلَامَ فِي قَلْبِهِ لِلْحُسْنَى الَّتِي سَبَقَتْ لَهُ مِنْهُ -جَلَّ وَعَلَا-.
وَالْمَقْصُودُ بِالْحُسْنَى: الْجَنَّةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء: 95].
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَيِ الْجَنَّةُ، وَالْجَزَاءُ الْجَزِيلُ)).
((قَذَفَ اللهُ الْإِسْلَامَ فِي قَلْبِهِ لِلْحُسْنَى الَّتِي سَبَقَتْ لَهُ مِنْ رَبِّهِ، فَأَسْلَمَ وَأَخَذَ سَيْفَهُ، وَلَحِقَ بِالرَّسُولِ ﷺ، فَقَاتَلَ فَأَثْبَتَتْهُ الْجِرَاحُ -أَثْبَتَتْهُ الْجِرَاحُ: إِذَا اشْتَدَّتْ عَلَيْهِ فَلَمْ يَسْتَطِعِ الْحَرَكَةَ-.
وَلَمْ يَعْلَمْ أَحَدٌ بِأَمْرِهِ فَلَمَّا انْجَلَتِ الْحَرْبُ -انْكَشَفَ وَانْتَهَتْ- طَافَ بَنُو عَبْدِ الْأَشْهَلِ فِي الْقَتْلَى يَلْتَمِسُونَ قَتْلَاهُمْ فَوَجَدُوا الْأُصَيْرِمَ وَبِهِ رَمَقٌ يَسِيرٌ -وَالرَّمَقُ: بَقِيَّةُ الْحَيَاةِ- فَقَالُوا: وَاللهِ إِنَّ هَذَا الْأُصَيْرِمُ، مَا جَاءَ بِهِ؟!! لَقَدْ كَانَ يَأْبَى عَلَيْنَا الْإِسْلَامَ، ثُمَّ سَأَلُوهُ: مَا الَّذِي جَاءَ بِكَ؟ أَحَدَبٌ عَلَى قَوْمِكَ؟ -حَدِبَ عَلَيْهِ: إِذَا عَطَفَ وَأَشْفَقَ- أَحَدَبٌ عَلَى قَوْمِكَ أَمْ رَغْبَةٌ فِي الْإِسْلَامِ؟
فَقَالَ: بَلْ رَغْبَةٌ فِي الْإِسْلَامِ، آمَنْتُ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَأَسْلَمْتُ، ثُمَّ قَاتَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ حَتَّى أَصَابَنِي مَا تَرَوْنَ! وَمَاتَ فِي وَقْتِهِ، فَذَكَرُوهُ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالَ ﷺ: ((إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ)).
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((وَلَمْ يُصَلِّ لِلَّهِ صَلَاةً قَطُّ!!)).
لَقَدْ أُعْجِلَ، كَانَ كَافِرًا فَأَسْلَمَ! فَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَقُتِلَ، فَأَدْخَلَهُ اللهُ -تَعَالَى- الْجَنَّةَ، فَمَاتَ وَلَمْ يُصَلِّ لِلَّهِ صَلَاةً قَطُّ!!
سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- هُوَ الَّذِي آخَى رَسُولُ اللهِ ﷺ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
وَكَانَ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مِنْ أَغْنِيَاءِ الْأَنْصَارِ، وَقِصَّتُهُ مَشْهُورَةٌ فِي تَقْسِيمِ مَالِهِ نِصْفَيْنِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَقَدْ قُتِلَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَوْمَ أُحُدٍ، أَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي «الْمُسْتَدْرَكِ» وَصَحَّحَهُ: عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ ﷺ يَوْمَ أُحُدٍ لِطَلَبِ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَقَالَ لِي: ((إِنْ رَأَيْتَهُ فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ، وَقُلْ لَهُ: يَقُولُ لَكَ رَسُولُ اللهِ: كَيْفَ تَجِدُكَ؟)).
قَالَ زَيْدٌ: ((فَجَعَلْتُ أَطُوفُ بَيْنَ الْقَتْلَى، فَأَصَبْتُهُ وَهُوَ فِي آخِرِ رَمَقٍ، وَبِهِ سَبْعُونَ ضَرْبَةً مَا بَيْنَ طَعْنَةٍ بِرُمْحٍ وَضَرْبَةٍ بِسَيْفٍ وَرَمْيَةٍ بِسَهْمٍ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا سَعْدُ! إِنَّ رَسُولِ اللهِ ﷺ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ، وَيَقُولُ لَكَ: ((أَخْبِرْنِي كَيْفَ تَجِدُكَ؟)).
قَالَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((عَلَى رَسُولِ اللهِ السَّلَامُ وَعَلَيْكَ السَّلَامُ، قُلْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَجِدُنِي أَجِدُ رِيحَ الْجَنَّةِ! وَقُلْ لِقَوْمِي الْأَنْصَارِ: لَا عُذْرَ لَكُمْ عِنْدَ اللهِ إِنْ خُلِصَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ وَفِيكُمْ شُفْرٌ يَطْرِفُ)).
وَالشُّفْرُ: حَرْفُ جَفْنِ الْعَيْنِ الَّذِي يَنْبُتُ عَلَيْهِ الشَّعْرُ.
قَالَ زَيْدٌ: ((وَفَاضَتْ نَفْسُهُ)) -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
قَالَ الْحَاكِمُ: ((هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ))، وَأَقَرَّهُ الذَّهَبِيُّ.
فِي هَذَا الْخَبَرِ مَوْقِفٌ جَلِيلٌ فِي الثَّبَاتِ وَالتَّضْحِيَةِ يُقَدِّمُهُ عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ الْأَنْصَارِ وَأَحَدُ نُقَبَائِهِمْ فِي بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ الْأَنْصَارِيُّ الْخَزْرَجِيُّ؛ فَقَدْ ثَبَتَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي مَيْدَانِ الْمَعْرَكَةِ، وَكَانَ مِمَّنْ وَاجَهُوا هُجُومَ الْأَعْدَاءِ الْأَخِيرَ حَتَّى اسْتُشْهِدَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
وَإِنَّ مَا فِي هَذَا الْخَبَرِ مِنْ إِصَابَتِهِ بِسَبْعِينَ إِصَابَةً؛ مَا بَيْنَ طَعْنَةٍ بِرُمْحٍ وَضَرْبَةٍ بِسَيْفٍ وَرَمْيَةٍ بِسَهْمٍ مَا يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ احْتِمَالِهِ، وَأَنَّهُ كَانَ يُقَارِعُ الْقَوْمَ وَهُوْ مُثْخَنٌ بِالْجِرَاحِ حَتَّى سَقَطَ عَلَى الْأَرْضِ، وَلَقَدْ ظَلَّ اهْتِمَامُهُ بِالنَّبِيِّ ﷺ حَتَّى فَاضَتْ رُوحُهُ؛ مُذَكِّرًا قَوْمَهُ بِوُجُوبِ فِدَاءِ النَّبِيِّ ﷺ بِأَرْوَاحِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَا عُذْرَ لَهُمْ إِنْ وَصَلَ إِلَيْهِمُ الْأَعْدَاءُ وَفِيهِمْ رَجُلٌ عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ!!
وَقَاتَلَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قِتَالًا شَدِيدًا فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ الْعَظِيمَةِ؛ حَتَّى إِنَّ الرَّسُولَ ﷺ مِنْ شِدَّةِ إِعْجَابِهِ بِسَعْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَوْمَ أُحُدٍ فَدَّاهُ بِأَبِيهِ وَأُمِّهِ.
أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((مَا سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ جَمَعَ أَبَوَيْهِ لِأَحَدٍ إِلَّا لِسَعْدِ بْنِ مَالِكٍ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ يَوْمَ أُحُدٍ: ((يَا سَعْدُ! ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي)).
قَالَ الْحَافِظُ: ((وَفِي هَذَا الْحَصْرِ أَيْ حَصِرْ ِعَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ مَا قَالَ لِأَحَدٍ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي إِلَّا لِسَعْدٍ فِي هَذَا الْحَصْرِ نَظَرٌ؛ فَإِنَّهُ ثَبَتَ فِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)) أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ جَمَعَ أَبَوَيْهِ لِلزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَوْمَ الْخَنْدَقِ)).
وَيُجْمَعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِأَنَّ عَلِيًّا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى ذَلِكَ أَوْ أَنَّ مُرَادَهُ بِذَلِكَ بِقَيْدِ يَوْمِ أُحُدٍ.
وَقَاتَلَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -زَوْجُ أُمِّ سَلَمَةَ هِنْدِ بِنْتِ أَبِي أُمَيَّةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-- قَاتَلَ فَجُرِحَ يَوْمَ أُحُدٍ فِي عَضُدِهِ، فَمَكَثَ شَهْرًا يُدَاوِيهِ، فَبَرِئَ وَقَدِ انْدَمَلَ الْجُرْحُ عَلَى بَغْيٍ لَا يَعْرِفُهُ -أَيِ: انْخَتَمَ عَلَى فَسَادٍ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ-.
وَمَاتَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بَعْدَ أُحُدٍ.
وَرَوَى الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ يَوْمَ أُحُدٍ: ((أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ؛ فَأَيْنَ أَنَا؟)).
فَقَالَ ﷺ: ((فِي الْجَنَّةِ))، فَأَلْقَى تَمَرَاتٍ فِي يَدِهِ، ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ.
وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ» مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ عُمَيْرَ بْنَ الْحِمَامِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَخْرَجَ تَمَرَاتٍ فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: ((لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ، فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ)).
وَقَاتَلَ أَبُو طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَوْمَ أُحُدٍ قِتَالًا عَظِيمًا، وَكَانَ مِنْ أَمْهَرِ الرُّمَاةِ، أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْهَزَمَ النَّاسُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، وَأَبُو طَلْحَةَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ ﷺ مُجَوِّبٌ عَلَيْهِ -أَيْ: مُتَرِّسٌ عَلَيْهِ- بِحَجَفَةٍ -أَيْ: بِتُرْسٍ لَهُ-، وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ رَجُلًا رَامِيًا شَدِيدَ النَّزْعِ، كَسَرَ يَوْمَئِذٍ قَوْسَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا)) .
كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُعْجَبُ بِشَجَاعَةِ أَبِي طَلْحَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ حَتَّى إِنَّهُ قَالَ ﷺ: ((لَصَوْتُ أَبِي طَلْحَةَ أَشَدُّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ فِئَةٍ)). الْفِئَةُ: الْفِرْقَةُ وَالْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ، وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي «الْمُسْنَدِ»، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.
وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ قِتَالًا يَوْمَ أُحُدٍ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ فَإِنَّهُ أَخَذَ يَهُدُّ الْكَافِرِينَ هَدًّا.
كَانَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَأَبُو دُجَانَةَ الْأَنْصَارِيُّ كَفَرَسَيْ رِهَانٍ فِي سِبَاقِ الْبُطُولَةِ؛ حَيْثُ انْطَلَقَا يَهُدَّانِ صُفُوفَ الْمُشْرِكِينَ هَدًّا.
أَمَّا حَمْزَةُ؛ فَبَعْدَ أَنْ أَصْدَرَ الرَّسُولُ ﷺ أَوَامِرَهُ بِالْقِتَالِ هَتَفَ بِكَلِمَةِ التَّعَارُفِ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ، وَهِيَ: أَمِتْ أَمِتْ، ثُمَّ انْدَفَعَ إِلَى قَلْبِ جَيْشِ الشِّرْكِ كَالصَّاعِقَةِ وَفِي يَدَيْهِ سَيْفَانِ لَا يَقِفُ لَهُ أَحَدٌ.
فَبِالْإِضَافَةِ إِلَى مُشَارَكَتِهِ الْفَعَّالَةِ فِي إِبَادَةِ حَمَلَةِ لِوَاءِ الْمُشْرِكِينَ.. فَعَلَ الْأَفَاعِيلَ بِأَبْطَالِهِمُ الْآخَرِينَ، وَكَانَ يَجُولُ الْأَبْطَالُ أَمَامَهُ كَمَا تَجُولُ الرِّيحُ أَمَامَهَا الْوَرَقَةَ الْيَابِسَةَ؛ لِمَا لَهُ مِنْ هَيْبَةٍ فِي نُفُوسِ الْأَبْطَالِ.
وَقَدْ تَعَرَّضَ لَهُ أَحَدُ فُرْسَانِ قُرَيْشٍ الْأَفْذَاذِ الْمَشْهُورِينَ، وَهُوَ سِبَاعُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى، فَنَادَاهُ حَمْزَةُ لِلْبِرَازِ قَائِلًا لَهُ فِي سُخْرِيَةٍ: ((هَلُمَّ إِلَيَّ!))، فَأَسْرَعَ إِلَيْهِ سِبَاعٌ يَكُتُّ كَتَّ الْفَحْلِ الْهَائِجِ، فَالْتَقَاهُ حَمْزَةُ بِضَرْبَةٍ هَاشِمِيَّةٍ مُسْلِمَةٍ جَعَلَتْهُ كَأَمْسِ الدَّابِر.
وَقَدْ كَانَ لِمَقْتَلِ سِبَاعٍ هَذَا أَثَرٌ سَيِّئٌ فِي نُفُوسِ الْمُشْرِكِينَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَبْطَالِهِمُ الْمُعْتَمَدِ عَلَيْهِمْ سَاعَةَ الشِّدَّةِ.
*هَزِيمَةُ الْمُشْرِكِينَ فِي بِدَايَةِ الْمَعْرَكَةِ، وَنَجَاحُ الْخُطَّةِ النَّبَوِيَّةِ:
شَدَّ الْمُسْلِمُونَ عَلَى صُفُوفِ الْمُشْرِكِينَ، فَزَعْزَعُوهَا وَأَشَاعُوا الذُّعْرَ فِيهَا، وَبَدَأَ الِاضْطِرَابُ فِي صُفُوفِ جَيْشِ مَكَّةَ، وَسَادَ الِاضْطِرَابُ صُفُوفَهُمْ بَعْدَ أَنْ سَقَطَ لِوَاؤُهُمْ عَلَى الْأَرْضِ عَقِبَ إِبَادَةِ الْمُسْلِمِينَ لِجَمِيعِ أَفْرَادِ حَمَلَةِ اللِّوَاءِ، فَأَخَذَتْ رُوحُهُمُ الْمَعْنَوِيَّةُ فِي الِانْهِيَارِ، وَهَذَا طَبِيعِيٌّ بَعْدَ سُقُوطِ لِوَائِهِمْ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ اللِّوَاءِ خَاصَّةً فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ مَعْنَاهُ بِدَايَةُ الْهَزِيمَةِ.
وَهَذَا الَّذِي عَنَاهُ أَبُو سُفْيَانَ بِقَوْلِهِ لِبَنِي عَبْدِ الدَّارِ عِنْدَمَا سَلَّمَ إِلَيْهِمْ لِوَاءَ مَكَّةَ: ((إِنَّمَا يُؤْتَى النَّاسُ مِنْ قِبَلِ رَايَاتِهِمْ، يَا بَنِي عَبْدِ الدَّارِ! إِمَّا أَنْ تَكْفُونَا لِوَاءَنَا، وَإِمَّا أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ فَنَكْفِيكُمُوهُ)).
وَلَقَدْ أَوْفَى بَنُو عَبْدِ الدَّارِ عَلَى الْغَايَةِ؛ حَيْثُ قَاتَلُوا عَلَى اللِّوَاءِ بِشَرَاسَةٍ وَعِنَادٍ جَاهِلِيٍّ حَتَّى أَبَادَتْهُمْ سُيُوفُ الْإِسْلَامِ عَنْ آخِرِهِمْ.
وَهُنَا سَقَطَ اللِّوَاءُ مِنْ أَيْدِيهِمْ عَلَى الْأَرْضِ، وَبَقِيَ مَطْرُوحًا عَلَيْهَا حَتَّى رَفَعَتْهُ بَعْدَ كَارِثَةِ الْجَبَلِ عَمْرَةُ الْحَارِثِيَّةُ، فَالْتَفَّتْ حَوْلَهُ قُرَيْشٌ مِنْ جَدِيدٍ.
وَبَعْدَ مَعْرَكَةِ اللِّوَاءِ تَبَلْوَرَ الْمَوْقِفُ، وَبَدَأَ رُجْحَانُ كِفَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَعْرَكَةِ ظَاهِرًا، فَضَاعَفَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ حَمْلَاتِهِمْ، وَبَذَلَتْ قُرَيْشٌ قُصَارَى جُهْدِهَا لِلصُّمُودِ فِي وَجْهِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ سَيْطَرُوا عَلَى الْمَوْقِفِ؛ وَلَكِنْ دُونَمَا جَدْوَى، فَقَدْ تَخَاذَلَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى كَثْرَتِهِمْ أَمَامَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى قِلَّتِهِمْ، وَأَخَذُوا يُوَلُّونَ الْفِرَارَ وَالْأَدْبَارَ، وَنَزَلَتِ الْهَزِيمَةُ بِجَيْشِ مَكَّةَ نُزُولَ السَّيْلِ الْعَرِمِ بِالسَّدِّ الْخَرِبِ الْمُتَهَدِّمِ.
وَأَخَذَ جَيْشُ الْمُشْرِكِينَ فِي التَّقَهْقُرِ، وَأَبْلَى أَبُو دُجَانَةَ الْأَنْصَارِيُّ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ، وَأَسَدُ اللهِ وَأَسَدُ رَسُولِهِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَأَنَسُ بْنُ النَّضْرِ، وَسَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-؛ أَبْلَوْا بَلَاءً شَدِيدًا، وَصَدَقُوا الْقِتَالَ، فَحَشُّوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى كَشَفُوهُمْ عَنِ الْمُعَسْكَرِ، وَنَهَكُوهُمْ قَتْلًا، وَانْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ بِنِسَائِهِمْ حَتَّى بَدَتْ سُوقُهُنَّ وَخَلَاخِلُهُنَّ مُشَمِّرَاتٍ هَوَارِبَ، كَمَا قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((لَقَدْ رَأَيْتُنَا نَنْظُرُ إِلَى خَدَمِ هِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةَ وَصَوَاحِبِهَا مُشَمِّرَاتٍ هَوَارِبَ، يَرْفَعْنَ عَنْ سُوقِهِنَّ حَتَّى بَدَتْ خَلَاخِلُهُنَّ))، وَانْهَزَمَ الْقَوْمُ مَا دُونَ أَخْذِهِنَّ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ.
وَكَانَتِ الْهَزِيمَةُ لَا شَكَّ فِيهَا، وَدَخَلَ الْمُسْلِمُونَ عَسْكَرَ الْمُشْرِكِينَ فَانْتَهَبُوهُ.
إِلَى هُنَا الْمَوْقِفُ لِصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَدْ بَدَا نَجَاحُ الْخُطَّةِ النَّبَوِيَّةِ؛ فَقَدْ حَاوَلَتْ قُوَّةُ الْمُشْرِكِينَ بِقِيَادَةِ أَبِي عَامِرٍ وَمُسَانَدَةِ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْفُرْسَانِ.. حَاوَلُوا التَّسَلُّلَ إِلَى دَاخِلِ الشِّعْبِ لِضَرْبِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْخَلْفِ؛ وَلَكِنَّ مَوَاقِعَ الْجَيْشِ الْإِسْلَامِيِّ الَّتِي اخْتَارَهَا الرَّسُولُ ﷺ لِمُرَابَطَةِ جَيْشِهِ قَبْلَ الْمَعْرَكَةِ.. وَلَكِنَّ احْتِلَالَ هَذَا الْجَيْشِ الْمَوَاقِعَ التَّعْبَوِيَّةَ الْهَامَّةَ فِي جَبَلِ الرُّمَاةِ عِنْدَ مَدْخَلِ الشِّعْبِ أَحْبَطَ هَذِهِ الْمُحَاوَلَةَ إِحْبَاطًا كَامِلًا؛ حَيْثُ قُوبِلَ هَذَا الْهُجُومُ -خَاصَّةً هُجُومَ الْفُرْسَانِ- بِسَيْلٍ مُنْهَمِرٍ مِنْ نِبَالِ الرُّمَاةِ فِي الْجَبَلِ، كَمَا تَصَدَّى الْمُشَاةُ بِقِيَادَةِ الزُّبَيْرِ وَالْمِقْدَادِ لِلْمُهَاجِمِينَ، وَقَاوَمُوهُمْ مُقَاوَمَةً عَنِيفَةً مِمَّا أَجْبَرَ الْمُهَاجِمِينَ عَلَى الِارْتِدَادِ، وَقَدْ سَاعَدَ فِي تَشْتِيتِ الْمُهَاجِمِينَ عَلَى مَا يَظْهَرُ رِجَالٌ رَابَطُوا فِي مَوَاقِعَ مُخْتَارَةٍ مِنْ جَبَلِ أُحُدٍ، رَجَمُوا الْمُهَاجِمِينَ بِالْحِجَارَةِ، وَسَلَّطُوا عَلَيْهِمْ مِنَ الصُّخُورِ قِطَعًا كَبِيرَةً دَحْرَجُوهَا نَحْوَهُمْ، فَأَحْدَثَتْ الِارْتِبَاكَ فِي تَشْكِيلَاتِهِمْ، وَأَجْبَرَتْهُمْ عَلَى الِابْتِعَادِ عَنْ سَفْحِ الْجَبَلِ.
وَقَدْ عَاوَدَ فُرْسَانُ مَكَّةَ الْهُجُومَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ؛ وَلَكِنَّهُمْ فَشِلُوا فِيهَا جَمِيعًا، وَذَلِكَ بِسَبَبِ يَقَظَةِ الرُّمَاةِ فِي الْجَبَلِ، وَكَانَ فَشَلُ الْمُشْرِكِينَ فِي هُجُومِهِمُ الْأَوَّلِ أُولَى ثَمَرَاتِ الْخُطَّةِ الْحَكِيمَةِ الدَّقِيقَةِ الَّتِي وَضَعَهَا الرَّسُولُ الْقَائِدُ ﷺ لِإِدَارَةِ دِفَّةِ الْمَعْرَكَةِ، وَاخْتَارَ بِمُوجِبِهَا الْمُرَابَطَةَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ التَّعْبَوِيِّ الْحَصِينِ مِنَ الشِّعْبِ.
وَبِهَذِهِ الْخُطَّةِ الْمُوَفَّقَةِ الْحَكِيمَةِ -بَعْدَ تَقْدِيرِ اللهِ وَنَصْرِهِ لِأَوْلِيَائِهِ- تَبَيَّنَ حِنْكَةُ النَّبِيِّ ﷺ فِي اخْتِيَارِ الْمَكَانِ، وَسَدِّ الثُّلْمَةِ الَّتِي رُبَّمَا يَنْفُذُ مِنْهَا الْمُشْرِكُونَ، وَحَصَلَ مَا تَوَقَّعَهُ النَّبِيُّ الْمَأْمُونُ ﷺ بِحِنْكَتِهِ الْحَرْبِيَّةِ مِنْ مُحَاوَلَةِ الْمُشْرِكِينَ الِالْتِفَافَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ؛ لَكِنَّ يَقَظَةَ رُمَاةِ الْمُسْلِمِينَ وَفُرْسَانِهِمْ رَدَّتْهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ خَاسِرِينَ.
إِنَّ الْمُشْرِكِينَ فِي بِدَايَةِ الْمَعْرَكَةِ يَوْمَ أُحُدٍ هُزِمُوا هَزِيمَةً مُنْكَرَةً؛ فَمِنْ حَدِيثِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((وَاللهِ! لَقَدْ رَأَيْتُنِي أَنْظُرُ إلَى خَدَمِ هِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةَ - يَعْنِي: خَلَاخِلَهَا- وَصَوَاحِبُهَا مُشَمِّرَاتٍ هَوَارِبَ، مَا دُونِ أَخْذِهِنَّ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ؛ إذْ مَالَتِ الرُّمَاةُ إلَى الْعَسْكَرِ حِينَ كَشَفْنَا الْقَوْمَ عَنْهُ، وَخَلَّوْا ظُهُورَنَا لِلْخَيْلِ، فَأُتِينَا مِنْ خَلْفِنَا، وَصَرَخَ صَارِخٌ: أَلَا إنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، فَانْكَفَأْنَا -أَيْ: رَجَعْنَا- وَانْكَفَأَ عَلَيْنَا الْقَوْمُ بَعْدَ أَنْ أَصَبْنَا أَصْحَابَ اللِّوَاءِ حَتَّى مَا يَدْنُو مِنْهُ أَحَدٌ مِنَ الْقَوْمِ)). ذكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي «السِّيَرِ» بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي ((الدَّلَائِلِ)).
أَنْزَلَ اللهُ نَصْرَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَصَدَقَهُمْ وَعْدَهُ، فَحَسُّوهُمْ بِالسُّيُوفِ -أَيِ: اسْتَأْصَلُوُهُمْ قَتْلًا-، ووَلَّتْ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ هَوَارِبَ، وَكَانَتِ الْهَزِيمَةُ الَّتِي لَا شَكَّ فِيهَا، وَسَيْطَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَرْضِ الْمَعْرَكَةِ سَيْطَرَةً تَامَّةً، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} [آل عمران: 152].
رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي «صَحِيحِهِ» عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((فَهَزَمُوهُمْ، فَأَنَا -وَاللهِ- رَأَيْتُ النِّسَاءَ يَشْدُدْنَ وَقَدْ بَدَتْ خَلَاخِلُهُنَّ -وَالْخَلْخَالُ: نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْحُلِيِّ تَلْبَسُهُ الْمَرْأَةُ فِي سَاقِهَا-، قَدْ بَدَتْ -أَيْ: ظَهَرَتْ- خَلَاخِلُهُنَّ وَأَسْوَاقُهُنَّ رَافِعَاتٍ ثِيَابَهُنَّ)).
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي «صَحِيحِهِ» عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّهَا قَالَتْ: ((هُزِمَ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ أُحُدٍ هَزِيمَةً تُعْرَفُ فِيهِمْ)).
وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي «مُسْنَدِهِ» وَالْحَاكِمُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُ قَالَ: ((مَا نُصِرَ النَّبِيُّ ﷺ فِي مَوْطِنٍ كَمَا نُصِرَ يَوْمَ أُحُدٍ)).
قَالَ: ((فَأَنْكَرْنَا ذَلِكَ)).
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: بَيْنِي وَبَيْنَ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ كِتَابُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَقُولُ فِي يَوْمِ أُحُدٍ {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} [آل عمران: 152] .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((وَالْحَسُّ الْقَتْلُ)).
وَبَدَأَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- بَعْدَ هَذَا الِانْتِصَارِ الْعَظِيمِ يَتْبَعُونَ الْمُشْرِكِينَ، وَيَجْمَعُونَ الْغَنَائِمَ، وَقَدْ كَانَ لِلرُّمَاةِ دَوْرٌ بَارِزٌ فِي هَذَا النَّصْرِ الْمُؤَزَّرِ؛ فَقَدْ حَمَلَتْ خَيْلُ الْمُشْرِكِينَ بِقِيَادَةِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ثَلَاثَ مَرَّاتٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ؛ لِيُحْدِثَوا الْبَلْبَلَةَ وَالِاضْطِرَابَ فِي صُفُوفِهِمْ؛ لَكِنْ دُونَ جَدْوَى؛ بِسَبَبِ نُضْحِ الرُّمَاةِ عَلَيْهِمْ بِالنَّبْلِ حَتَّى رَجَعَتْ خَيْلُهُمْ مَغْلُوبَةً، وَفَشِلَتْ هَجَمَاتُهُمُ الثَّلَاثُ.
إِلَى هُنَا وَالْمَعْرَكَةُ تَمْضِي عَلَى هَذَا النَّحْوِ لِصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، إِلَى هُنَا وَالنَّصْرُ الْمُؤَزَّرُ حَلِيفُهُمْ، إِلَى هُنَا وَالْمُشْرِكُونَ فِي هَذَا الْمَأْزِقِ الشَّدِيدِ عَلَى كَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وَوَفْرَةِ عُدَدِهِمْ، وَالْمُؤْمِنُونَ يَتَّبِعُونَ النَّبِيَّ الْمَأْمُونَ ﷺ فِيمَا أَمَرَ بِهِ، وَيَنْتَهُونَ عَمَّا نَهَى عَنْهُ.
*مُخَالَفَةُ الرُّمَاةِ أَمْرَ الرَّسُولِ ﷺ، وَوُقُوعُ الِاضْطِرَابِ فِي جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ:
ثُمَّ اسْتَدَارَتِ الْمَعْرَكَةُ رَأْسًا عَلَى عَقِبٍ، وَوَلَّى النَّصْرُ ظَهْرَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْمُخَالَفَةِ؛ لَمَّا فَارَقَ الرُّمَاةُ (جَبَلَ عَيْنَيْنِ)، وَهُوَ الَّذِي عُرِفَ بَعْدُ بِـ(جَبَلِ الرُّمَاةِ)، لَمَّا رَأَوْا مَا مَرَّ وَصْفُهُ مِنْ حَالِ السَّاحَةِ -سَاحَةِ الْمَعْرَكَةِ- وَكَيْفَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ رَكِبُوا أَكْتَافَ الْمُشْرِكِينَ فَانْهَزَمُوا مَا بَيْنَ أَخْذِهِمْ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ، لَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ تَرَكُوا مَوَاقِعَهُمْ، مَعَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ نَهَاهُمْ وَشَدَّدَ عَلَيْهِمْ.. نَهَاهُمْ عَنْ تَرْكِ مَوَاقِعِهِمُ الَّتِي حَدَّدَهَا لَهُمْ، وَشَدَّدَ عَلَيْهِمْ فِي الِالْتِزَامِ بِأَوَامِرِهِ، وَذَكَرَ لَهُمْ: ((أَنَّهُمْ لَوْ رَأَوُا الْمُشْرِكِينَ يَرْكَبُونَ أَكْتَافَ الْمُؤْمِنِينَ وَيَقْتُلُونَهُمْ، قَالَ: فَلَا تَنْصُرُونَا، وَإِذَا رَأَيْتُمُونَا قَدْ عَلَوْنَاهُمْ وَانْتَصَرْنَا عَلَيْهِمْ فَلَا تُفَارِقُوا مَوَاضِعَكُمْ))، فَفَارَقُوا، وَكَانَتْ هَذِهِ الْغَلْطَةُ سَبَبًا فِي الْكَثِيرِ مِمَّا وَقَعَ فِي أُحُدٍ.
وَقَدْ تَسَاءَلَ الْمُؤْمِنُونَ بَعْدُ فَقَالُوا: نَحْنُ الْمُسْلِمِينَ، نَحْنُ الْمُؤْمِنِينَ، نَحْنُ الْأَصْحَابَ لَيْسَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ بَعْدَ نَبِيِّنَا ﷺ مَنْ يُقَاتِلُ دُونَ التَّوْحِيدِ سِوَانَا؛ فَكَيْفَ يَحْدُثُ لَنَا هَذَا؟!!
وَقَدْ أَخْبَرَهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِسَبَبِ مَا وَقَعَ لَهُمْ، وَكَانَ دَرْسًا فِي التَّرْبِيَةِ لِمَنْ شَهِدَ وَلِمَنْ غَابَ، لِمَنْ حَضَرَ وَلِمَنْ لَمْ يُخْلَقْ بَعْدُ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165].
{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} يُرِيدُ بِالْمُصِيبَةِ مَا كَانَ مِنْ قَتْلِ سَبْعِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ ﷺ، وَهُمُ الشُّهَدَاءُ فِي أُحُدٍ، {قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} يَعْنِي: يَوْمَ بَدْرٍ؛ فَقَدْ قَتَلْتُمْ سَبْعِينَ، وَأَسَرْتُمْ سَبْعِينَ، فَنَزَّلَ الْأَسْرَى مَنْزِلَةَ الْمَقْتُولِينَ.
{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} كَيْفَ هَذَا يَكُونُ؟!! وَمَا هَذَا الَّذِي وَقَعَ عَلَيْنَا؟!!
{قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} فَمَا أَصَابَ الْإِنْسَانَ وَلَا أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ شَيْءٍ يَسُوؤُهُمْ إِلَّا بِذَنْبٍ يُحْدِثُونَهُ، وَلَا يُرْفَعُ عَنْهُمْ مَا نَزَلَ بِهِمْ إِلَّا بِتَوْبَةٍ يُجَدِّدُونَهَا.
بَيْنَمَا الْمُسْلِمُونَ يَتْبَعُونَ الْمُشْرِكِينَ، يَقْتُلُونَ، وَيَأْسِرُونَ، وَيَجْمَعُونَ الغَنَائِمَ؛ وَإِذَا بِالرُّمَاةِ الَّذِينَ وَضَعَهُمُ الرَّسُولُ ﷺ عَلَى الْجَبَلِ يَتْرُكُونَ أَمَاكِنَهُمْ.
أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي «صَحِيحِهِ» عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((فَهَزَمُوهُمْ، فَقَالَ أَصْحَابُ ابْنِ جُبَيْرٍ: الْغَنِيمَةَ الْغَنِيمَةَ، ظَهَرَ أَصْحَابُكُمْ فَمَا تَنْتَظِرُونَ؟!!)).
فَقَالَ لَهُمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ جُبَيْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -وَهُوَ أَمِيرُ الرُّمَاةِ- يَوْمَئِذٍ: ((أَنَسِيتُمْ مَا قَالَ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ؟!!)).
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((قَالَ لَهُمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ جُبَيْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: عَهِدَ إِلَيَّ النَّبِيُّ ﷺ أَلَّا تَبْرَحُوا -أَيْ: أَلَّا تَزُولُوا عَنْ مَكَانِكُمْ-، فَقَالُوا: وَاللهِ لَنَأْتِيَنَّ النَّاسَ فَلَنُصِيبَنَّ مِنَ الْغَنِيمَةِ)).
وَانْتَهَزَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- هَذِهِ الْفُرْصَةَ الذَّهَبِيَّةَ، فَاسْتَدَارَ بِسُرْعَةٍ خَاطِفَةٍ حَتَّى وَصَلَ إِلَى مُؤَخَّرَةِ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ أَبَادَ عَبْدَ اللهِ بْنَ جُبَيْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَأَصْحَابَهُ.
فِي رِوَايَةِ ابْنِ سَعْدٍ فِي «الطَّبَقَاتِ»: ((وَرَمَى عَبْدُ اللهِ بْنُ جُبَيْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- حَتَّى فَنِيَتْ نَبْلُهُ، ثُمَّ طَاعَنَ بِالرُّمْحِ حَتَّى انْكَسَرَ، ثُمَّ انْكَسَرَ جَفْنُ سَيْفِهِ، فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ، فَلَمَّا وَقَعَ جَرَّدُوهُ وَمَثَّلُوا بِهِ أَقْبَحَ تَمْثِيلٍ)) -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ أَبَادَ عَبْدَ اللهِ بْنَ جُبَيْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَأَصْحَابَهُ، ثُمَّ انْقَضَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ خَلْفِهِمْ، وَصَاحَ فُرْسَانُهُ صَيْحَةً عَالِيَةً، عَرَفَ الْمُشْرِكُونَ الْمُنْهَزِمُونَ أَنَّ خَيْلَهُمْ تُقَاتِلُ وَتُنَادِي فَأَقْبَلُوا، وَأَسْرَعَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُمْ هِيَ عَمْرَةُ بِنْتُ عَلْقَمَةَ الْحَارِثِيَّةُ، فَرَفَعَتْ لِوَاءَ الْمُشْرِكِينَ الْمَطْرُوحَ عَلَى الْأَرْضِ، فَاجْتَمَعَ حَوْلَهُ الْمُشْرِكُونَ، وتَنَادَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى اجْتَمَعُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وأُحِيطَ بِهِمْ مِنَ الْأَمَامِ وَالْخَلْفِ.
فَلَمَّا وَقَع الْمُسْلِمُونَ فِي هَذَا التَّطْوِيقِ مِنْ قِبَلِ الْمُشْرِكِينَ؛ حَدَثَتْ فَوْضَى عَارِمَةٌ فِي صُفُوفِ الْمُسْلِمِينَ، وَانْفَلَتَ الزِّمَامُ، وَضَاعَ النِّظَامُ.
وَبِهَذَا تَغَيَّرَ الْمَوْقِفُ تَغَيُّرًا كَامِلًا، وَتَحَوَّلَ مَجْرَى الْقِتَالِ لِصَالِحِ الْمُشْرِكِينَ.
وَلَقَدْ كَانَ مِنَ الْمُتَوَقَّعِ أَنْ تَقْضِيَ كَثْرَةُ الْعَدُوِّ الْعَدِيدَةُ الْمُتَفَوِّقَةُ الَّتِي أَعَادَتْ تَنْظِيمَهَا بَعْدَ حَرَكَةِ خَالِدٍ النَّاجِحَةِ.. كَانَ مِنَ الْمُتَوَقَّعِ أَنْ تَقْضِيَ هَذِهِ الْكَثْرَةُ عَلَى الْقِلَّةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْمُطَوَّقِينَ، وَأَنْ تَسْحَقَهُمْ سَحْقًا كُلِّيًّا؛ وَلَكِنَّ اللُّيُوثَ لَا تُصْطَادُ بِسُهُولَةٍ.
فَبِالرَّغْمِ مِنَ الْمَأْزِقِ الْحَرِجِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ سَوَادُ الْجَيْشِ الْإِسْلَامِيِّ؛ فَإِنَّهُمْ أَخَذُوا يُقَاتِلُونَ بِضَرَاوَةٍ؛ لِيَشُقُّوا طَرِيقَهُمْ نَحْوَ قَائِدِهِمُ النَّبِيِّ ﷺ، الَّذِي تَأَكَّدُوا مِنْ سَلَامَتِهِ بَعْدَ أَنْ سَمِعُوهُ يُنَادِيهِمْ بِصَوْتِهِ الْكَرِيمِ مِنْ مَقَرِّ قِيَادَتِهِ.
فَشَقُّوا طَرِيقَهُمْ؛ وَلَكِنْ بِصُعُوبَةٍ بَالِغَةٍ وَسْطَ غَابَاتِ الرِّمَاحِ وَالسُّيُوفِ الَّتِي أَحَاطَهُمُ الْمُشْرِكُونَ بِهَا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ بَعْدَ نَجَاحِ حَرَكَةِ الْتِفَافِ خَالِدٍ الْمُفَاجِئَةِ.
وَلَقَدِ اتَّصَلَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ جَدِيدٍ بِنَبِيِّهِمُ الَّذِي بَقِيَ مَعَ بَعْضِ هَيْئَةِ أَرْكَانِ حَرْبِهِ يَرْقُبُونَ مُطَارَدَةَ الْمُسْلِمِينَ لِلْعَدُوِّ، وتَخَلَّصُوا مِنَ الطَّوْقِ الْمَضْرُوبِ عَلَيْهِمْ؛ وَلَكِنْ بَعْدَ أَنْ دَفَعُوا الثَّمَنَ غَالِيًا.
*إِشَاعَةُ مَقْتَلِ الرَّسُولِ ﷺ، وَتَأْثِيرُ ذَلِكَ عَلَى الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-:
وَمَّمَا زَادَ النَّكْبَةَ: أَنَّ إِشَاعَةً سرَتْ؛ مَفَادُهَا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ تَمَكَّنُوا مِنْ قَتْلِ النَّبِيِّ ﷺ، وَنَادَى مُنَادِيهِمْ بِذَلِكَ، وَسَبَبُ هَذِهِ الْإِشَاعَةِ: أَنَّ أَحَدَ فُرْسَانِ الْمُشْرِكِينَ -وَاسْمُهُ ابْنُ قَمِئَةَ- الْتَقَى بِمُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ الْعَبْدَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- حَامِلِ لِوَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَقَتَلَهُ.
وَكَانَتْ طَلْعَةُ مُصْعَبٍ شَبِيهَةً بِطَلْعَةِ النَّبِيِّ ﷺ؛ خَاصَّةً إِذَا لَبِسَ السِّلَاحَ، فَظَنَّ الْفَارِسُ الْمُشْرِكُ أَنَّهُ قَدْ قَتَلَ الرَّسُولَ ﷺ، فَصَاحَ: ((لَقَدْ قَتَلْتُ مُحَمَّدًا!))، فَشَاعَ هَذَا الْخَبَرُ الْكَاذِبُ بَيْنَ الْمُقَاتِلِينَ.
فوَقَعَ لِهَذِهِ الْإِشَاعَةِ مَزِيدٌ مِنَ الذُّعْرِ وَالِارْتِبَاكِ فِي صُفُوفِ الْمُسْلِمِينَ الْمُطَوَّقَةِ.
لَقَدْ صَارَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ حَائِرِينَ لَا يَدْرُونَ مَاذَا يَصْنَعُونَ، وَتَوَقَّفَ آخَرُونَ عَنِ الْقِتَالِ، وَأَلْقَوْا بِأَسْلِحَتِهِمْ.
وَبَيْنَمَا هُمْ حَائِرُونَ هَكَذَا؛ إِذْ أَقْبَلَ إِلَيْهِمْ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَلَمَّا رَآهُمْ قَدْ أَلْقَوُا السِّلَاحَ قَالَ لَهُمْ: ((مَا لَكُمْ قَدْ أَلْقَيْتُمْ بِأَيْدِيكُمْ هَكَذَ!!)) أَوْ كَمَا قَالَ.
فَقالُوا لَهُ: ((قُتِلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ )).
فَقَالَ: ((فَمَاذَا تَصْنَعُونَ بِالْحَيَاةِ بَعْدَهُ؟! قُومُوا فَمُوتُوا عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ )).
ثُمَّ اسْتَقْبَلَ الْمُشْرِكِينَ بِسَيْفِهِ، وَانْدَفَعَ نَحْوَهُمْ كَالْإِعْصَارِ وَهُوَ يَقُولُ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكِ مِمَّا جَاءَ بِهِ هَؤُلَاءِ –يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ-، وَأَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا يَقُولُ هَؤُلَاءِ –يَعْنِي: الْمُسْلِمِينَ الَّذِين أَلْقَوُا السِّلَاحَ، وَفَكَّرُوا فِي الِاسْتِسْلَامِ-)) ، ثُمَّ قَاتَلَ الْمُشْرِكِينَ قِتَالًا مُنْقَطِعَ النَّظِيرِ حَتَّى قُتِلَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
وُجِدَ فِي جَسَدِ أنَسِ بْنِ النَّضْرِ بِضْعٌ وَثَمَانُونَ؛ مَا بَيْنَ ضَرْبَةٍ بِسَيْفٍ، أَوْ طَعْنَةٍ بِرُمْحٍ، أَوْ رَمْيَةٍ بِسَهْمٍ، وَقَدْ مَثَّلَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ، فَمَا عَرَفَهُ إِلَّا أُخْتُهُ بِبَنَانٍ، وَكَانَ حَسَنَ الْبَنَانِ.
قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((كُنَّا نَرَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وَفِي أَشْبَاهِهِ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23])).
كَمَا أَنَّ ثَابِتَ بْنَ الدَّحْدَاحِ عِنْدَمَا رَأَى الِانْهِيَارَ بَيْنَ بَعْضِ الْمُقَاتِلِينَ الْمُسْلِمِينَ لِإِشَاعَةِ مَقْتَلِ الرَّسُولِ ﷺ؛ صَاحَ فِي قَوْمِهِ الْأَنْصَارِ يُحَرِّضُهُمْ عَلَى الِاسْتِبْسَالِ وَالْمُقَاوَمَةِ: ((يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ! إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ ﷺ قَدْ قُتِلَ فَإِنَّ اللهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، قَاتِلُوا عَلَى دِينِكُمْ؛ فَإِنَّ اللهَ مُظْفِرُكُمْ وَنَاصِرُكُمْ)).
فَنَهَضَ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَحَمَلَ بِهِمْ عَلَى كَتِيبَةٍ مِنْ سِلَاحِ فُرْسَانِ مَكَّةَ فِيهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَضِرَارُ بْنُ الْخَطَّابِ، فحَمَلَ عَلَيْهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فقَتَلَهُ بِالرُّمْحِ، وَقَتَلَ مَنْ حَمَلَ مَعَهُ مِنَ الْأَنْصَارِ.
*مَقْتَلُ حَمْزَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-:
وَمَعَ هَذِهِ الْفَوْضَى وَالْفُرْقَةِ الَّتِي حَدَثَتْ فِي الْمُسْلِمِينَ؛ انْكَشَفَ حَمْزَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لِوَحْشِيٍّ، فَاسْتَغَلَّ وَحْشِيٌّ ذَلِكَ فَرَمَاهُ بِالرُّمْحِ فَقَتَلَهُ.
قَاتَلَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قِتَالَ اللُّيُوثِ الْمُهْتَاجَةِ؛ فَقَدِ انْدَفَعَ إِلَى قَلْبِ جَيْشِ الْمُشْرِكِينَ يُغَامِرُ مُغَامَرَةً مُنْقَطِعَةَ النَّظِيرِ، يَنْكَشِفُ عَنْهُ الْأَبْطَالُ كَمَا تَطَايَرَ الْأَوْرَاقُ أَمَامَ الرِّيحِ الْعَاصِفَةِ.
فَبِالْإِضَافَةِ إِلَى مُشَارَكَتِهِ الْفَعَّالَةِ فِي إِبَادَةِ حاَمِلِي لِوَاءِ الْمُشْرِكِينَ.. فَعَلَ الْأَفَاعِيلَ بِأَبْطَالِهِمُ الْآخَرِينَ حَتَّى صُرِعَ وَهُوَ فِي مُقَدِّمَةِ الْمُبَرِّزِينَ؛ وَلَكِنْ لَا كَمَا تُصْرَعُ الْأَبْطَالُ وَجْهًا لِوَجْهٍ فِي مَيْدَانِ الْقِتَالِ، وَإِنَّمَا كَمَا يُغْتَالُ الْكِرَامُ فِي حَالِكِ الظَّلَامِ!!
قَالَ وَحْشِيٌّ: ((كَمَنْتُ لِحَمْزَةَ تَحْتَ صَخْرَةٍ، فَلَمَّا دَنَا مِنِّي رَمَيْتُهُ بِحَرْبَتِي فَأَضَعُهَا فِي ثُنَّتِهِ حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ بَيْنِ وَرِكَيْهِ)).
وَمِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((لَمَّا بَلَغَ النَّبِيَّ ﷺ قَتْلُ حَمْزَةَ بَكَى، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ شَهِقَ ﷺ )).
وكُفِّنَ حَمْزَةُ فِي بُرْدَةٍ إِذَا غُطِّيَ رَأْسُهُ خَرَجْتَ رِجْلَاهُ، وَإِذَا غُطِّيَتْ رِجْلَاهُ خرَجَ رَأْسُهُ، فَغُطِّيَ رَأْسُهُ، وَجُعِلَ عَلَى رِجْلَيْهِ إِذْخِرٌ.
النَّبِيُّ ﷺ أَثَّرَ فِيهِ قَتْلُ حَمْزَةَ تَأْثِيرًا عَظِيمًا؛ وَلَكِنَّهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَعْلَمُ أَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، وَأَنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ، مِنْ صِفَاتِهِ: الْحِكْمَةُ، وَمَعَ الْحِكْمَةُ لَا عَزِيزٌ وَلَا كَبِيرٌ؛ فَإِنَّ الْحِكْمَةَ اقْتَضَتْ أَنْ يُصَابَ النَّبِيُّ ﷺ فِي هَذِهِ الْمَعْرَكَةِ بِإِصَابَاتٍ بَالِغَةٍ؛ فَإِنَّهُ وَقَعَ فِي حُفْرَةٍ مِنَ الْحُفَرِ الَّتِي أَعَدَّهَا أَبُو عَامِرٍ الْفَاسِقُ، فَجُحِشَ لِشِقِّهِ ﷺ -أَيْ: جُرِحَ فِي جَنْبِهِ-، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ -أَيْ: كُسِرَتْ سِنُّهُ ﷺ-، وَدَخَلَتْ حَلْقَةٌ مِنْ حَلَقَاتِ الْمِغْفَرِ فِي وَجْنَتِهِ ﷺ.
فَدَمَّوْا رَسُولَ اللهِ ﷺ -أَيْ: أَسَالُوا دِمَاهُ ﷺ-، وَكَانَ مَوْقِفًا عَصِيبًا، وَأَشَاعُوا أَنَّهُ قُتِلَ، وَوَقَعَ مَا وَقَعَ مِنَ الِانْهِزَامِ فِي جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ، وَقُتِلَ مَنْ قُتِلَ شَهِيدًا حَمِيدًا، وَمِنْهُمْ: حَمْزَةُ الَّذِي اقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ أَنَّهُ مَعَ فُرُوسِيَّتِهِ وَمَعَ بُطُولَتِهِ ومَعَ أَنَّهُ لَا يَقُومُ لَهُ بَطَلٌ مَهْمَا بَلَغَتْ بُطُولَتُهُ فَلَا يُوَاجَهُ، وَمِثْلُهُ لَا يُقْتَلُ مُوَاجَهًا، وَإِنَّمَا يُغْتَالُ غِيلَةً -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
*ثَبَاتُ الرَّسُولِ ﷺ فِي الْمَعْرَكَةِ، وَإِعَادَةُ شَتَاتِ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ:
لَقَدْ ثَبَتَ الرَّسُولُ ﷺ فِي سَاحَةِ الْمَعْرَكَةِ ثَبَاتَ الْجِبَالِ الرَّاسِيَاتِ، وَلَمْ يُفَارِقْ مَكَانَهُ، قَالَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ! مَا زَالَتْ قَدَمُهُ شِبْرًا وَاحِدًا عَنْ مَوْقِفِهِ، وَإِنَّهُ لَفِي وَجْهِ الْعَدُوِّ)).
أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي «مُسْنَدِهِ» بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: ((كُنَّا إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ -أَيْ: إِذَا اشْتَدَّتِ الْحَرْبُ-، وَلَقِيَ الْقَوْمُ الْقَوْمَ؛ اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللهِ ﷺ، فَمَا يَكُونُ مِنَّا أَحَدٌ أَدْنَى إِلَى الْقَوْمِ مِنْهُ)).
فَلَمَّا انْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ أَخَذَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُنَادِيهِمْ: ((إِلَيَّ عِبَادَ اللهِ! إِلَيَّ عِبَادَ اللهِ! أَنَا رَسُولُ اللهِ)).
بَعْدَ أَنْ دَاهَمَ فُرْسَانُ الْمُشْرِكِينَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ خَلْفِهِمْ، وَصَاحَ الشَّيْطَانُ بِهِمْ: ((أَلَا إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ!!))؛ حَصَلَ مَا حَصَلَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنَ الِاضْطِرَابِ وَالِارْتِبَاكِ، فَفَرَّ مِنْهُمْ مَنْ فَرَّ، وَانْسَحَبَ مِنْهُمْ إِلَى سَفْحِ الْجَبَلِ مَنِ انْسَحَبَ، وَثَبَتَ مَنْ ثَبَتَ فِي مَيْدَانِ الْمَعْرَكَةِ.
أَمَّا رَسُولُ اللهِ ﷺ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَفِرَّ وَلَمْ يَنْسَحِبْ، وَلَقَدْ ضَرَبَ بِنَفْسِهِ أَرْوَعَ الْأَمْثَالِ فِي الشَّجَاعَةِ، وَرَبَاطَةِ الْجَأْشِ، وَالْإِقْدَامِ عَلَى الْمَكَارِهِ؛ فَلَقَدْ أُفْرِدَ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَثَبَتَ وَقَاتَلَ الْكُفَّارَ هُوَ وَمَنْ ثَبَتُوا مَعَهُ؛ بَلْ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ نَادَى الْمُسْلِمِينَ الْمُنْسَحِبِينَ إِلَى أَعْلَى الْوَادِي مِنْ خَلْفِهِم، يَقُولُ: ((إِلَيَّ عِبَادَ اللهِ! إِلَيَّ عِبَادَ اللهِ!)).
وَقَدْ نَزَلَ فِي ذَلِكَ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [آل عمران: 153].
كَوْنُ النَّبِيِّ ﷺ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِنِدَاءِ أَصْحَابِهِ يُعَدُّ مُنَتَهَى الشَّجَاعَةِ وَالْبُطُولَةِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ مَقْصُودُ الْمُشْرِكِينَ الْأَوَّلِ، وَهُمْ يَعْرِفُونَ صَوْتَهُ، وَهُوَ بِهَذَا النِّدَاءِ يُغْرِي الْمُشْرِكِينَ بِنَفْسِهِ، لِكَنَّهُ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عَوْدَةَ الْمُؤْمِنِينَ وَاجْتِمَاعَهُمْ تَحْتَ قِيَادَتِهِ أَهَمُّ مِنْ أَمْرِ سَلَامَتِهِ مَعَ بَقَائِهِ مُنْفَرِدًا عَنْ أَصْحَابِهِ وَتَفَرُّقِهِمْ بِغَيْرِ قِيَادَةٍ وَلَا نِظَامٍ.
وَقَدْ أَقْبَلَ الْمُشْرِكُونَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، وَقَاتَلَهُمْ وَقَاتَلَ دُونَهُ عَدَدٌ قَلِيلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ حَتَّى قُتِلَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ، وأُثْخِنَ بَعْضُهُمْ بِالْجِرَاحِ إِلَى أَنْ فَاءَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَمَا عَرَفُوا مَكَانَ النَّبِيِّ ﷺ.
إِنَّ مُشَارَكَةَ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْجِهَادِ وَثَبَاتَهُ الْعَظِيمَ فِي وَجْهِ الْعَدُوِّ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى اهْتِمَامِهِ الْكَبِيرِ بِأَصْحَابِهِ، وَتَرَفُّعِهِ عَنِ النَّظَرِ إِلَى الذَّاتِ؛ فَلَقَدْ كَانَ بِوُسْعِهِ ﷺ أَنْ يَبْقَى فِي مَكَانٍ حَصِينٍ، وَأَنْ يَجْعَلَ حَوْلَهُ حَرَسًا يَحْمُونَهُ مِنْ هَجَمَاتِ الْأَعْدَاءِ، وَسَيَجِدُ أَنَّ جَمِيعَ الصَّحَابَةِ سَيَتَنَافَسُونَ عَلَى حِمَايَتِهِ وَوِقَايَتِهِ بِأَرْوَاحِهِمْ؛ وَلَكِنَّهُ وَاجَهَ حَرَّ الْمَعْرَكَةِ، وَتَعَرَّضَ لِاسْتِهْدَافِ الْعَدُوِّ؛ لِأَنَّهُ يُشَرِّعُ لِأُمَّتِهِ وَيَرْسُمُ لِلْقَادَةِ مِنْ بَعْدِهِ الطَّرِيقَ الْأَمْثَلَ، وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ سَارَ قَادَةُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-.
هَذَا وَقَدْ جَاءَتْ رِوَايَاتٌ تُبَيِّنُ جُهُودَ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْجِهَادِ، فَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَاشَرَ الْقِتَالَ بِنَفْسِهِ، فَرَمى بِالنَّبْلِ حَتَّى فَنِيَتْ نَبْلُهُ، وَتَكَسَّرَتْ سِيَةُ قَوْسِهِ، وَقَبْلَ ذَلِكَ انْقَطَعَ وَتَرُهُ، وَبَقِيَ فِي يَدِهِ قِطْعَةٌ تَكُونُ شِبْرًا فِي سِيَةِ الْقَوْسِ، وأَخَذَ الْقَوْسَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ يُوتِرُهُ لَهُ -أَيْ: يَشُدُّ وَتَرَهُ-، فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! لَا يَبْلُغُ الْوَتَرُ)).
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مُدَّهُ يَبْلُغُ)).
قَالَ عُكَّاشَةُ: ((فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ! لَمَدَدْتُهُ حَتَّى بَلَغَ، وَطَوَيْتُ مِنْهُ اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ عَلَى سِيَةِ الْقَوْسِ)).
ثُمَّ أخَذَ رَسُولُ اللهِ ﷺ قَوْسَهُ، فَمَا زَالَ يَرْمِي الْقَوْمَ، وَأَبُو طَلْحَةَ أَمَامَهُ يَسْتُرُهُ مُتَرِّسًا عَلَيْهِ؛ حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى قَوْسِهِ وَقَدْ تَحَطَّمَتْ، فَأَخَذَهَا قَتَادَةُ بْنُ النُّعْمَانِ.
فَهَذَا الْخَبَرُ فِيهِ بَيَانُ شَيْءٍ مِنَ الْجَهْدِ الَّذِي بَذَلَهُ الرَّسُولُ ﷺ فِي قِتَالِ الْأَعْدَاءِ؛ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ عَمَلُهُ قَاصِرًا عَلَى إِدَارَةِ الْمَعْرَكَةِ، وَإِنَّمَا تَجَاوَزَ ذَلِكَ إِلَى الْإِسْهَامِ فِي الْقِتَالِ.
وَلَقَدْ كَانَ الْجُهْدُ الَّذِي بَذَلَهُ فِي الرَّمْيِ كَبِيرًا؛ حَيْثُ بَلَغَتْ كَثَافَةُ الرَّمْيِ إِلَى الْحَدِّ الَّذِي أَتْلَفَتْ قَوْسَهُ ﷺ.
كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ كَاللَّيْثِ يُقَاتِلُ بَيْنَ الصُّفُوفِ، ((وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ عَرَفَ بِأَنَّ الرَّسُولَ ﷺ حَيٌّ هُوَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَنَادَى فِي الْمُسْلِمِينَ يُبَشِّرُهُمْ، فَأَمَرَهُ الرَّسُولُ ﷺ وَقْتَذَاكَ بِالسُّكُوتِ؛ لِئَلَّا يَفْطِنَ لَهُ الْمُشْرِكُونَ)). وَهَذَا صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي ((الْمُسْتَدْرَكِ)).
وَظَلَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُقَاتِلُ وَحَوْلَهُ فِئَةٌ قَلِيلَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- صَمَدُوا مَعَهُ يُدَافِعُونَ عَنْهُ ﷺ.
وَقَدْ تَفَطَّنَ الْمُشْرِكُونَ إِلَى أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ حَيٌّ لَمْ يُقْتُلْ، فَتَكَاثَرُوا عَلَيْهِ يُرِيدُونَ قَتْلَهُ، وَكَانَ حَوْلَ النَّبِيِّ ﷺ تِسْعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ؛ سَبْعَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَاثْنَانِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، فَلَمَّا رَهِقُوهُ -أَيْ: قَرُبُوا مِنْهُ- قَالَ: ((مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّةُ، أَوْ هُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ؟)).
فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، ثُمَّ رَهِقُوهُ -أَيْضًا-، فَقَالَ: ((مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّةُ، أَوْ هُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ؟)).
فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى قُتِلَ السَّبْعَةُ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِصَاحِبَيْهِ -أَيْ: لِلْمُهَاجِرَيْنِ- فَقَالَ ﷺ لِصَاحِبَيْهِ: ((مَا أَنْصَفْنَا أَصْحَابَنَا)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَكَانَ هَذَا الدِّفَاعُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَنْصَارِيِّينَ السَّبْعَةِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ لِحُبِّهِمُ الشَّدِيدِ لَهُ، وَإِيثَارِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ لِمَا عَاهَدُوا عَلَيْهِ النَّبِيَّ ﷺ عِنْدَ بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ، وَأَنَّهُمْ يَمْنَعُونَهُ مِمَّا يَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ.
وَقَوْلُ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((مَا أَنْصَفْنَا أَصْحَابَنَا)): قَالَ النَّوَوِيُّ: ((الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ فِيهِ: ((مَا أَنْصَفْنَا)) بِإِسْكَانِ الْفَاءِ، وَ((أَصْحَابَنَا)): مَنْصُوبٌ مَفْعُولٌ بِهِ -هَكَذَا ضَبَطَهُ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ-، مَا أَنْصَفْنَا نَحْنُ أَصْحَابَنَا، وَمَعْنَاهُ: مَا أَنْصَفَتْ قُرَيْشٌ الْأَنْصَارَ؛ لِكَوْنِ الْقُرَشِيَّيْنِ لَمْ يَخْرُجَا لِلْقِتَالِ، بَلْ خَرَجَتِ الْأَنْصَارُ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ)).
وَذَكَرَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ أَنَّ بَعْضَهُمْ رَوَاهُ: (( ((مَا أَنْصَفَنَا)) بِفَتْحِ الْفَاءِ، وَالْمُرَادُ عَلَى هَذَا الَّذِينَ فَرُّوا مِنَ الْقِتَالِ؛ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُنْصِفُوا لِفِرَارِهِمْ)).
أَخَذَ النَّبِيُّ ﷺ يَدْعُو أَصْحَابَهُ لِلْعَوْدَةِ إِلَى الْقِتَالِ، وَكَانَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ مِمَّنْ ثَبَتَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ، وَدَافَعَ عَنْهُ حَتَّى شَلَّتْ يَدُهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، كَانَ يَقِي بِهَا النَّبِيَّ ﷺ.
وَكَانَ مِمَّنْ ثَبَتَ -أَيْضًا- مَعَ النَّبِيِّ: سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَكَانَ رَامِيًا مَاهِرًا لَا تَكَادُ رَمْيَتُهُ تُخْطِئُ، فَنَثَلَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ كِنَانَتَهُ، وَجَعَلَ يَقُولُ لَهُ: ((ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي)).
وَمِمَّنْ ثَبَتَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ يُدَافِعُ عَنْهُ: أَبُو طَلْحَةَ زَيْدُ بْنُ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَهُوَ مُجَوِّبٌ عَلى النَّبِيِّ ﷺ بِحَجَفَةٍ لَهُ، وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ رَجُلًا رَامِيًا شَدِيدَ النَّزْعِ، كَسَرَ يَوْمَئِذٍ قَوْسَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، وَكَانَ الرَّجُلُ يَمُرُّ مَعَهُ جَعْبَةٌ مِنَ النَّبْلِ، فَيَقُولُ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: ((انْثُرْهَا لِأَبِي طَلْحَةَ)).
وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُشْرِفُ بِرَأْسِهِ لِيَنْظُرَ إِلَى الْقَوْمِ، فَيَقُولُ لَهُ أَبُو طَلْحَةَ: ((بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي لَا تُشْرِفْ يُصِيبُكَ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ الْقَوْمِ، نَحْرِي دُونَ نَحْرِكَ)).
وَكَانَ يَتَتَرَّسُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ بِتُرْسٍ وَاحِدٍ، فَكَانَ كُلَّمَا رَمَى رَمْيَةً رَفَعَ النَّبِيُّ ﷺ بَصَرَهُ يَنْظُرُ إِلَى أَيْنَ وَقَعَ السَّهْمُ، فَيَدْفَعُ أَبُو طَلْحَةَ صَدْرَ رَسُولِ اللهِ ﷺ بِيَدِهِ، وَيَقُولُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! هَكَذَا لَا يُصِيبُكَ سَهْمٌ)).
وَرَغْمَ اسْتِبْسَالِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- فِي الدِّفَاعِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وَأَنَّهُمْ أَفْدَوْهُ بِأَرْوَاحِهِمْ؛ إِلَّا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ اسْتَطَاعُوا أَنْ يَصِلُوا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ؛ حَيْثُ جُرِحَ وَجْهُهُ ﷺ، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ، وَهُشِّمَتِ الْبَيْضَةُ -أَيِ: الْخَوْذَةُ- عَلَى رَأْسِهِ، كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).
لَمَّا حَدَثَ هَذَا لِلنَّبِيِّ، وَكَادَ الْمُشْرِكُونَ أَنْ يَقْتُلُوهُ، وَقَدْ تَكَفَّلَ اللهُ -تَعَالَى- بِعِصْمَتِهِ مِنَ النَّاسِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 87]؛ أَنْزَلَ اللهُ -تَعَالَى- جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- يُدَافِعَانِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، وَيَمْنَعَانِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ -وَاللَّفْظُ لَهُ- عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((لَقَدْ رَأَيْتُ يَوْمَ أُحُدٍ عَنْ يَمِينِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَعَنْ يَسَارِهِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ يُقَاتِلَانِ عَنْهُ كَأَشَدِّ الْقِتَالِ، مَا رَأَيْتُهُمَا قَبْلُ وَلَا بَعْدُ))؛ يَعْنِي: جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ-.
وَكُلُّ هَذَا الَّذِي وَقَعَ وَقَدْ وَقَعَ بِقَدَرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَتَقْدِيرِهِ؛ وَلَكِنْ كَانَ بِسَبَبِ مَعْصِيَةٍ وَقَعَ فِيهَا الرُّمَاةُ -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ وَعَفَا عَنْهُمْ-؛ فَإِنَّهُمْ لَمَّا خَالَفُوا أَمْرَ رَسُولِ اللهِ ﷺ بِالثَّبَاتِ عَلَى الْجَبَلِ مَهْمَا وَقَعَ فِي السَّاحَةِ.. لَمَّا خَالَفُوا أَوْقَعَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِسَبَبِ هَذِهِ الْمُخَالَفَةِ لِلنَّبِيِّ ﷺ فِي بَدَنِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ قَتْلٍ، وَجَرْحٍ، وَتَشْرِيدٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ فِي سَاحَةِ الْمَعْرَكَةِ مَعَ مَا وَقَعَ مِنَ التَّمْثِيلِ بِكَثِيرٍ مِنْ جُثَثِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
وَقَعَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِسَبَبِ مُخَالَفَةٍ؛ لِتَعْلَمَ الْأُمَّةُ أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ أَحَدٍ وَبَيْنَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَهْدٌ وَمِيثَاقٌ أَنْ يَنْصُرَهُ طَائِعًا وَعَاصِيًا، بَرًّا وَفَاجِرًا، لَا؛ وَإِنَّمَا يَنْصُرُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَنْ نَصَرَهُ، وَالْمُخَالَفَةُ إِذَا وَقَعَتْ لَا بُدَّ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا أَثَرُهَا، وَالْأَثَرُ هَا هُنَا كَانَ عَظِيمًا جَلِيلًا.
((ثَبَتَ رَسُولُ اللهِ ﷺ كَالْجَبَلِ الْأَشَمِّ، يُدَافِعُ وَيُجَالِدُ جُمُوعَ الْمُشْرِكِينَ الْمُحِيطِينَ بِهِ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ وَهُوَ يَقُولُ: ((إِلَيَّ عِبَادَ اللهِ! إِلَيَّ عِبَادَ اللهِ!)).
فَفَاءَ إِلَيْهِ الْكَثِيرُونَ مِمَّنْ أَذْهَلَتْهُمْ شَائِعَةُ أَنَّهُ قُتِلَ فَقَعَدُوا عَنِ الْقِتَالِ، وَمِمَّنْ تَفَرَقَّوُا يُقَاتِلُونَ بَيْنَ الصُّفُوفِ حَتَّى تَكَوَّنَتْ حَوْلَهُ ثُلَّةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَسَارَ بِهِمْ حَتَّى وَصَلَ إِلَى الصَّخْرَةِ الَّتِي فَوْقَ الْجَبَلِ.
وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ عَرَفَ رَسُولَ اللهِ ﷺ بَعْدَ شَائِعَةِ قَتْلِهِ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ؛ فَإِنَّهُ رَأَى عَيْنَيْهِ ﷺ تُزْهِرَانِ مِنْ تَحْتِ الْمِغْفَرِ، فَنَادَى: ((يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ! أَبْشِرُوا هَذَا رَسُولُ اللهِ)).
فَأَشَارَ إِلَيْهِ الرَّسُولُ ﷺ أَنْ أَنْصِتْ، وَكَانَتْ تِلْكَ حِكْمَةً بَالِغَةً مِنَ الرَّسُولِ ﷺ؛ فَإِنَّ شَائِعَةَ قَتْلِهِ كَانَ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ يُخَفِّفَ الْمُشْرِكُونَ الْوَطْأَةَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا مَا عَلِمُوا أَنَّهُ مَا يَزَالُ حَيًّا عَاوَدُوا الْكَرَّةَ، وَكَرَّرُوا مُحَاوَلَةَ قَتْلِهِ ﷺ.
وَلَكِنْ لَمْ يَلْبَثِ الْخَبَرُ أَنْ ذَاعَ وَانْتَشَرَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَوِيَتِ الْعَزَائِمُ بَعْدَ خَوَرٍ، وَتَجَمَّعَتِ الصُّفُوفُ بَعْدَ تَفَرُّقٍ، ثُمَّ أَرَادَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَنْ يَعْلُوَ الصَّخْرَةَ الَّتِي فِي الشِّعْبِ مِنَ الْجَبَلِ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ؛ لِكَثْرَةِ مَا نَزَفَ مِنْ دَمِهِ الزَّكِيِّ!!
فَجَلَسَ تَحْتَهُ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ، فَنَهَضَ بِهِ حَتَّى اسْتَوَى عَلَى الصَّخْرَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ حِينَئِذٍ: ((أَوْجَبَ طَلْحَةُ))» أَيْ: وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ.
((فَلَمَّا أَسْنَدَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ في الشِّعْبِ؛ أَدْرَكَهُ أُبَيُّ بنُ خَلَفٍ وَهُوَ يَقُولُ: ((أَيْنَ مُحَمَّدٌ؟ لَا نَجَوْتُ إِنْ نَجَا)).
فَقَالَ القَوْمُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَيَعْطِفُ -عَطَفَ عَلَيْهِ: إِذَا كَرَّ، وَالكَرُّ: الرُّجُوعُ- عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنَّا؟)).
فَقَالَ ﷺ: «دَعُوهُ!».
وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ سَعْدٍ في ((طَبَقَاتِهِ)): ((فَاعْتَرَضَهُ رِجَالٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ لِيَقْتُلُوهُ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ : «اسْتَأْخِرُوا، اسْتَأْخِرُوا»، فَخَلَّوْا سَبِيلَهُ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ تَنَاوَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الحَرْبَةَ مِنَ الحَارِثِ بنِ الصِّمَّةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَلَمَّا أَخَذَهَا ﷺ انْتَفَضَ بِهَا انْتِفَاضَةً تَطَايَرَ عَنْهُ أصْحَابُهُ تَطَايُرَ الشَّعْرَاءِ عَنْ ظَهْرِ البَعِيرِ إِذَا انْتَفَض -وَالشَّعْرَاءُ: ذُبَابٌ أَحْمَرٌ وَقِيلَ: أَزْرَقٌ حُمْرٌ يَقَعُ عَلَى الْإِبِلِ وَالْحَمِيرِ، فَيُؤْذِيهَا أذًى شَدِيدًا-، ثُمَّ اسْتَقْبَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَطَعَنَهُ في تَرْقُوَتِهِ -التَّرْقُوَةُ العَظْمُ الَّذي بَيْنَ ثُغْرَةِ النَّحْرِ وَالْعَاتِقِ- مِنْ فُرْجَةٍ بَيْنَ سَابِغَةِ الدِّرْعِ وَالبَيْضَةِ -وَسَابِغَةُ الدِّرْعِ: شَيْءٌ مِنْ حِلَقِ الدُّرُوعِ تَسْتُرُ الْعُنُقَ، فَهُنَالِكَ فُرْجَةٌ كَانَتْ بَيْنَ سَابِغَةِ الدِّرْعِ وَالْبَيْضَةِ-، تَدَهْدَهَ مِنْهُ -أَيْ: تَدَحْرَجَ وَسَقَطَ مِنَ الطَّعْنَةِ- عَنْ فَرَسِهِ مِرَارًا ، وَجَعَلَ يَخُورُ كَمَا يَخُورُ الثَّوْرُ)).
فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى قُرَيْشٍ وَقَدْ خَدَشَهُ في عُنُقهِ خَدْشًا غَيْرَ كَبِيرٍ؛ قَالَ: ((قَتَلَنِي وَاللَّهِ مُحَمَّدٌ)).
فَقَالُوا لَهُ: ((ذَهَبَ وَاللَّهِ فُؤَادُكَ، وَاللَّهِ إِنَّ بِكَ مِنْ بَأْسٍ!!)).
قَالَ: ((إِنَّهُ قَدْ كَانَ قَالَ لِي بِمَكَّةَ: «أَنَا أَقْتُلُكَ»؛ فَوَاللَّهِ لَوْ بَصَقَ عَلَيَّ لَقَتَلَنِي!!)).
وَهَذَا عَجِيبٌ! فَأَنْتَ لَا تَشُكُّ فِي صِدْقِهِ أَبَدًا؛ بَلْ أَنْتَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ صِدْقِهِ، وَتَخْشَاهُ هَذِهِ الْخَشْيَةَ؛ فَلِمَ تُعَانِدُهُ؟!!
((وَبَصَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِيهِمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَلَى ظَهْرِ الْجَبَلِ، فَقَالَ: ((لَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَعْلُونَا))، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فِي رَهْطٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، فَقَاتَلُوهُمْ حَتَّى أَهْبَطُوهُمْ مِنَ الْجَبَلِ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الرَّغْمِ مِمَّا أَصَابَهُمْ مِنْ جِرَاحٍ كَانُوا وَمَا يَزَالُونَ بِهِمْ قُوَّةٌ وَمَنَعَةٌ)).
عِنْدَمَا ابْتَدَأَ الْهُجُومُ الْمُضَادُّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ خَلْفَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْهَدَفُ الرَّئِيسُ فِي هَذَا الْهُجُومِ شَخْصُ الرَّسُولِ ﷺ، عِنْدَمَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَمْ يَتَزَحْزَحْ ﷺ مِنْ مَوْقِفِه، وَالصَّحَابَةُ يَسْقُطُونَ وَاحِدًا تِلْوَ الْآخَرِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَحُصِرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي قَلْبِ جَيْشِ الْمُشْرِكِينَ وَلَيْسَ مَعَهُ إِلَّا تِسْعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، سَبْعَةٌ مِنْهُمْ مِنَ الْأَنْصَارِ.
وَكَانَ الْهَدَفُ أَنْ يَفُكَّ هَذَا الْحِصَارَ، وَأَنْ يَصْعَدَ فِي الْجَبَلِ؛ لِيَمْضِيَ إِلَى جَيْشِهِ، وَاسْتَبْسَلَ الْأَنْصَارُ فِي الدِّفَاعِ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَاسْتُشْهِدُوا وَاحِدًا بَعْدَ الْآخَرِ، ثُمَّ قَاتَلَ عَنْهُ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ حَتَّى أُثْخِنَ، وَأُصِيبَ بِسَهْمٍ شَلَّتْ يَمِينَهُ.
*مُشَارَكَةُ وَشَجَاعَةُ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي مَعْرَكَةِ أُحُدٍ:
وَوَقَفَتْ نَسِيبَةُ بِنْتُ كَعْبٍ تَذُبُّ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ بِالسَّيْفِ، وَتَرْمِي بِالقَوْسِ، وَأُصِيبَتْ بِجِرَاحٍ كَبِيرَةٍ.
وَكَانَ ضَمِرَةُ بْنُ سَعِيدٍ يُحَدِّثُ عَنْ جَدَّتِهِ، وَكَانَتْ قَدْ شَهِدَتْ أُحُدًا تَسْقِي الْمَاءَ، قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ((لَمَقَامُ نَسِيبَةَ بِنْتِ كَعْبٍ الْيَوْمَ خَيْرٌ مِنْ مَقَامِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ)).
وَكَانَ يَرَاهَا تُقَاتِلُ -يَوْمَئِذٍ- أَشَدَّ الْقِتَالِ، إِنَّهَا لَحَاجِزَةٌ ثَوْبَهَا عَلَى وَسَطِهَا حَتَّى جُرِحَتْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ جُرْحًا، فَلَمَّا حَضَرَتْهَا الْوَفَاةُ قَالَتْ: ((كُنْتُ فِيمَنْ غَسَّلَهَا، فَعَدَدْتُ جِرَاحَهَا جُرْحًا جُرْحًا، فَوَجَدْتُهَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ جُرْحًا)).
وَكَانَتْ تَقُولُ: ((إِنِّي لَأَنْظُرُ إِلَى ابْنِ قَمِئَةَ وَهُوَ يَضْرِبُهَا عَلَى عَاتِقِهَا، وَكَانَ أَعْظَمَ جِرَاحِهَا)).
((وَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَيُدْهَشُ مِنْ هَذِهِ الشَّجَاعَةِ الَّتِي لَا نَكَادُ نَجِدُ لَهَا مِثَالًا فِي تَارِيخِ الدُّنْيَا!!
وَإِنَّ لِهَذِهِ السَّيِّدَةِ الْبَطَلَةِ لَتَارِيخًا حَافِلًا فِي بَابِ الْجِهَادِ فِي الْإِسْلَامِ، وَشَهِدَتْ كَذَلِكَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ، وَأَبْلَتْ بَلَاءً حَسَنًا فِي حُرُوبِ الرِّدَّةِ)).
((وَلَقَدْ ضَرَبَ نِسَاءُ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- أَرْوَعَ الْأَمْثِلَةِ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ الْعَظِيمَةِ؛ فَكُنَّ يَسْقِينَ الْعَطْشَى، وَيُدَاوِينَ الْجَرْحَى.
أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «وَلَقَدْ رَأَيْتُ عَائِشَةَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ، وَأُمَّ سُلَيْمٍ –وَهِيَ: أُمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-- وَإِنَّهُمَا لَمُشَمِّرَتَانِ -وَالتَّشْمِيرُ: الْجِدُّ فِي الْعَمَلِ، وَالِاجْتِهَادُ- أَرَى خَدَمَ سُوقِهِمَا -الْخَدَمُ: جَمْعُ خَدَمَةٍ، وَهُوَ الْخَلْخَالُ- تَنْقُلَانِ الْقِرَبَ عَلَى مُتُونِهِمَا -أَيْ: عَلَى ظُهُورِهِمَا-، ثُمَّ تُفْرِغَانِهِ فِي أَفْوَاهِهِمْ، ثُمَّ تَرْجِعَانِ فَتَمْلَآنِهَا، ثُمَّ تَجِيئَانِ تُفْرِغَانِهِ فِي أَفْوَاهِ الْقَوْمِ)).
قَالَ النَّوَوِيُّ: ((وَنَظَرُ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لِخَدَمِ سُوقِهِمَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا نَهْيٌ؛ لِأَنَّ هَذَا كَانَ يَوْمَ أُحُدٍ قَبْلَ أَمْرِ النِّسَاءِ بِالْحِجَابِ، وَتَحْرِيمِ النَّظَرِ إِلَيْهِنَّ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ تَعَمَّدَ النَّظَرَ إِلَى نَفْسِ السَّاقِ؛ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ حَصَلَتْ تِلْكَ النَّظْرَةُ فَجْأَةً بِغَيْرِ قَصْدٍ، وَلَمْ يَسْتَدِمْهَا)) )).
((كَانَ النِّسَاءُ يَقُمْنَ بِهَذِهِ الْخَدَمَاتِ وَهُنَّ عَلَى حَالَةٍ مِنَ الْوَقَارِ وَالِاحْتِشَامِ، وَعَدَمِ التَّبَرُّجِ وَالْمُخَالَطَةِ الْمُرِيبَةِ؛ فَالْإِسْلَامُ لَا يَمْنَعُ الْمَرْأَةَ مِنَ الْمُشَارَكَةِ فِي الْحَرْبِ بِمَا يَلِيقُ بِحَالِهَا؛ بَلْ وَمِنَ الْأَخْذِ بِالسِّلَاحِ إِذَا لَزِمَ الْأَمْرُ، كَمَا فَعَلَتْ نَسِيبَةُ، وَغَيْرُهَا)).
((كَانَتْ مَعْرَكَةُ أُحُدٍ أَوَّلَ مَعْرَكَةٍ قَاتَلَتْ فِيهَا الْمَرْأَةُ الْمُسْلِمَةُ الْمُشْرِكِينَ فِي الْإِسْلَامِ)).
*انْحِيَازُ الرَّسُولِ ﷺ بِأَصْحَابِهِ نَحْوَ الْجَبَلِ، وَاسْتِعَادَتُهُمْ زِمَامَ الْأُمُورِ:
((وَتَرَّسَ أَبُو دُجانَةَ دُونَ رَسُولِ اللهِ ﷺ بِنَفْسِهِ، يَقَعُ النَّبْلُ فِي ظَهْرِهِ وَهُوَ مُنْحَنٍ عَلَيْهِ حَتَّى كَثُرَ فِيهِ النَّبْلُ)).
((وَالْتَفَّ حَوْلَ الرَّسُولِ ﷺ فِي تِلْكَ اللَّحَظَاتِ الْعَصِيبَةِ أَبُو بَكْرٍ وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَقَامَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِنَزْعِ السَّهْمَيْنِ مِنْ وَجْهِ النَّبِيِّ ﷺ بِأَسْنَانِهِ.
ثُمَّ تَوَارَدَ مَجْمُوعَةٌ مِنْ الْأَبْطَالِ الْمُسْلِمِينَ؛ حَيْثُ بَلَغُوا قُرَابَةَ الثَّلَاثِينَ، يَذُودُونَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، مِنْهُمْ: قَتَادَةُ، وَثَابِتُ بْنُ الدَّحْدَاحِ، وَسَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ.
وَاسْتَطَاعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنْ يَرُدَّ هُجُومًا مُضَادًّا قَادَهُ خَالِدٌ ضِدَّ الْمُسْلِمِينَ مِنْ عَالِيَةِ الْجَبَلِ، وَاسْتَبْسَلَ الصَّحَابَةُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ عُمَرَ فِي رَدِّ الْهُجُومِ الْعَنِيفِ.
عَادَ الْمُسْلِمُونَ فَسَيْطَرُوا عَلَى الْمَوْقِفِ مِنْ جَدِيدٍ، وَيَئِسَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ إِنْهَاءِ الْمَعْرَكَةِ بِنَصْرٍ حَاسِمٍ، وَتَعِبُوا مِنْ طُولِهَا وَمِنْ جَلَادَةِ الْمُسْلِمينَ، وَانْحَازَ النَّبِيُّ ﷺ بِمَنْ مَعَهُ وَمَنْ لَحِقَ بِهِ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى أَحَدِ شِعَابِ جَبَلِ أُحُدٍ)).
وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي حَالَةٍ مِنَ الْأَلَمِ، وَالْخَوْفِ، وَالْغَمِّ؛ لِمَا أَصَابَ رَسُولَ اللهِ ﷺ وَمَا أَصَابَهُمْ رَغْمَ نَجَاحِهِمْ فِي رَدِّ الْمُشْرِكِينَ، فَأَنْزَلَ اللهُ -تَعَالَى- عَلَيْهِمُ النُّعَاسَ، فَنَامُوا يَسِيرًا، ثُمَّ أَفَاقُوا آمِنِينَ مُطْمَئِنِّينَ، قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: 154].
وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الطَّائِفَةَ الَّتِي قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهْم هُمُ الْمُنَافِقُونَ، أَمَّا قُرَيْشٌ فَإِنَّهَا يَئِسَتْ مِنْ تَحْقِيقِ نَصْرٍ حَاسِمٍ، وَأُجْهِدَ رِجَالُهَا مِنْ طُولِ الْمَعْرَكَةِ، وَمِنْ صُمُودِ الْمُسْلِمِينَ وَجَلَدِهِمْ؛ خَاصَّةً بَعْدَ أَنِ اطْمَأَنُّوا وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْأَمَنَةَ وَالصُّمُودَ، فَالْتَفُّوا حَوْلَ النَّبِيِّ ﷺ؛ وَلِذَلِكَ كَفُّوا عَنْ مُطَارَدَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَنْ مُحَاوَلَةِ اخْتِرَاقِ قُوَّاتِهِمْ.
((وَهَكَذَا أَخَذَ الْمُسْلِمُونَ الْمُحَاصَرُونَ يُشَجِّعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَعَدَلُوا عَنْ فِكْرَةِ الِاسْتِسْلَامِ، وَأَخَذُوا سِلَاحَهُمْ، وَانْدَفَعُوا فِي بَسَالَةٍ يُصَارِعُونَ أَمْوَاجَ جُنْدِ الشِّرْكِ الْمُتَلَاطِمَةِ حَوْلَهُمْ، وَقَدْ عَادَتْ إِلَيْهِمْ رُوحُهُمُ الْمَعْنَوِيَّةُ الَّتِي فَقَدَهَا الْكَثِيرُ مِنْهُمْ، وَأَخَذُوا يَشُقُّونَ لَهُمْ بِسُيُوفِهِمْ طَرِيقًا عَبْرَ صُفُوفِ الْعَدُوِّ الْمُحِيطَةِ بِهِمْ.
وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ تَأَكَّدُوا مِنْ سَلَامَةِ قَائِدِهِمُ النَّبِيِّ ﷺ الَّذِي سَمِعُوهُ يُنَادِيهِمْ بِصَوْتِهِ الْكَرِيمِ؛ لِيَنْضَمُّوا إِلَيْهِ حَوْلَ الْمَقَرِّ الَّذِي ظَلَّ فِيهِ مُرَابِطًا بَعْدَ أَنْ كَشَفَ الْمُسْلِمُونَ الْمُشْرِكِينَ فِي أَوَّلِ الْمَعْرَكَةِ.
وَكَانَ بَقَاءُ الرَّسُولِ ﷺ وَهَيْأَةِ أَرْكَانِ حَرْبِهِ فِي مَقَرِّ الْقِيَادَةِ وَعَدَمُ اشْتِرَاكِهِمْ فِي الْمُطَارَدَةِ جَاءَ بِمُوجَبِ خُطَّةٍ وِقَائِيَّةٍ؛ ذَلِكَ أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ عِنْدَمَا وَضَعَ خُطَّةَ الْمَعْرَكَةِ، وَصَفَّ رِجَالَهُ لِلْقِتَالِ؛ أَدْخَلَ فِي حِسَابِهِ شَأْنَ الْقَائِدِ الْيَقِظِ إِمْكَانَ تَطَوُّرِ الْمَوْقِفِ لِغَيْرِ صَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَحِسَابُ أَسْوَءِ الِاحْتِمَالَاتِ مَبْدَأٌ لَا يَغْفُلُ عَنْهُ الْقَادَةُ الْعَسْكَرِيُّونَ فِي الْحُرُوبِ، فَجَعَلَهُ ظَهْرَهُ وَظَهْرَ أَصْحَابِهِ إِلَى جَبَلِ أُحُدٍ؛ لِيَتَّخِذَ مِنْ هَذَا الْجَبَلِ مَفْزَعًا يَلْجَأُ إِلَيْهِ إِذَا مَا أَلَمَّتْ بِهِمْ كَارِثَةٌ.
وَكَانَ الرَّسُولُ ﷺ كَقَائِدٍ أَعْلَى لِلْجَيْشِ حِينَ شُغِلَ الْمُسْلِمُونَ بِمُطَارَدَةِ الْعَدُوِّ قَدْ بَقِيَ مَعَ بَعْضِ أَرْكَانِ حَرْبِهِ؛ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَطَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ، فَلَمْ يَبْرَحُوا مَوَاقِعَهُمْ، وَكَأَنَّ الْجَمِيعَ ظَلُّوا يَتَتَبَّعُونَ سَيْرَ الْمَعْرَكَةِ وَأَعْيُنُهُمْ عَلَى جَبَلِ الرُّمَاةِ، فَلَمْ يَكَدِ الرَّسُولُ يَرَى خَالِدًا يَنْقَضُّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَيَحْتَلُّ الْمَوْقِعَ الَّذِي هَجَرَهُ الرُّمَاةُ حَتَّى أَدْرَكَ عِظَمَ الْخَطَرِ الْمُحْدِقِ بِالْجَيْشِ الْإِسْلَامِيِّ.
وَلَمْ يَكُنْ أَمَامَهُ فِي تِلْكَ اللَّحَظَاتِ سِوَى سَبِيلَيْنِ اثْنَيْنِ يَسْتَطِيعُ انْتِهَاجَهُمَا: إِمَّا أَنْ يَكْفُلَ السَّلَامَةَ الشَّخْصِيَّةَ لِنَفْسِهِ بِالشُّخُوصِ إِلَى مَفْزَعٍ مَا، تَارِكًا أَصْحَابَهُ لِمَصِيرِهِمُ الْمَقْدُورِ، وَإِمَّا أَنْ يُنَادِيَهُمْ مُخَاطِرًا بِنَفْسِهِ؛ لِكَيْ يُنْقِذَهُمْ مِنَ الْخَطَرِ، لِيَجْعَلَ مِنْ مَقَرِّهِ مَكَانَ تَجَمُّعٍ لَهُمْ، فَيُنْقِذَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ خَطَرِ الْإِبَادَةِ، أَوِ الضَّيَاعِ وَالتَّفَكُّكِ.
وَلَقَدِ اخْتَارَ السَّبِيلَ الثَّانِيَةَ؛ وَإِذْ وَجَدَهُمْ فِي ضِيقٍ صَاحَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: ((هَلُمَّ إِلَيَّ عِبَادَ اللهِ!)).
وَلَقَدْ أَشَارَ الْقُرْآنُ الْمَجِيدُ إِلَى مَوْقِفِ الرَّسُولِ الرَّائِعِ الْبُطُولِيِّ هَذَا الَّذِي أَنْقَذَ بِهِ الْجَيْشَ مِنْ حَيْرَتِهِ وَارْتِبَاكِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} [آل عمران: 153].
وَلَقَدْ كَانَ صَوْتُ الرَّسُولِ الْكَرِيمِ ﷺ بِمَثَابَةِ تَيَّارٍ أَعَادَ إِلَى الْمُنْهَزِمِينَ رُشْدَهُمْ، فَلَمْ يَكَدْ صَوْتُهُ ﷺ يَصِلُ إِلَى آذَانِهِمْ حَتَّى عَادَتْ إِلَيْهِمُ الطُّمَأْنِينَةُ، وَأَخَذُوا يَتَوَافَدُونَ نَحْوَهُ، وَنَجَحَ الْكَثِيرُ مِنَ الْمُطَوَّقِينَ فِي كَشْفِ طَرِيقِهِمْ وَشَقِّهِ عَبْرَ صُفُوفِ الْأَعْدَاءِ، غَيْرَ مُبَالِينَ بِالْخَسَائِرِ الْبَاهِظَةِ فِي الْأَرْوَاحِ.
وَبِهَذَا تَحَسَّنَتْ حَالُ الْمُسْلِمِينَ، وَأَخَذُوا بِقِيَادَةِ نَبِيِّهِمْ ﷺ فِي اسْتِعَادَةِ تَنْظِيمِهِمْ، وَصَارُوا يَتَجَمَّعُونَ مِنْ حَوْلِهِ، وَأَخَذُوا فِي إِنْشَاءِ جَبْهَةِ قِتَالٍ مُتَّحِدَةٍ جَدِيدَةٍ، وَبِهَذَا أَخَذَ مَجْرَى الْقِتَالِ يَتَغَيَّرُ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ سَاعَةَ نَجَحَ الْمُشْرِكُونَ فِي تَطْوِيقِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِشَاعَةِ الِارْتِبَاكِ فِي صُفُوفِهِمْ بَعْدَ حَرَكَةِ خَالِدٍ، وَإِشَاعَةِ مَقْتَلِ الرَّسُولِ ﷺ.
لَكِنَّ صَيْحَةَ الرَّسُولِ ﷺ إِذَا كَانَتْ قَدْ جَمَعَتْ شَتَاتَ الْمُسْلِمِينَ الْمُبَعْثَرِينَ عَلَى صَعِيدِ الْهَزِيمَةِ، وَأَعَادَتْ إِلَيْهِمْ رُوحَهُمْ؛ فَإِنَّهَا كَذَلِكَ نَبَّهَتِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ حَيٌّ لَمْ يُقْتَلْ، وَدَلَّتْهُمْ عَلَى مَكَانِهِ ﷺ، مِمَّا جَعَلَ النَّبِيَّ ﷺ هَدَفًا لِهَجَمَاتِ الْمُشْرِكِينَ السَّرِيعَةِ الْمُتَلَاحِقَةِ.
وَلَقَدْ كَانَتْ فَتْرَةً عَصِيبَةً حَقًّا، تَعَرَّضَتْ فِيهَا حَيَاةُ النَّبِيِّ ﷺ لِأَشَدِّ الْأَخْطَارِ؛ فَقَدْ عَرَفَ الْمُشْرِكُونَ الْقَرِيبُونَ مِنْهُ ﷺ مَكَانَهُ بِالتَّحْدِيدِ، فَمَالُوا عَلَيْهِ بِثِقَلِهِمْ وَهُوَ لَمَّا يَزَلْ فِي قِلَّةٍ قَلِيلَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ؛ بُغْيَةَ التَّخَلُّصِ مِنْهُ وَالْقَضَاءِ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَتَمَكَّنَ سَوَادُ أَصْحَابِهِ مِنَ الِالْتِفَافِ حَوْلَهُ.
وَهُنَا دَخَلَتِ الْمَعْرَكَةُ فِي طَوْرٍ آخَرَ، وَأَخَذَتْ نِيرَانُهَا فِي الِاشْتِعَالِ مِنْ جَدِيدٍ؛ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- الْخَطَرَ الْجَسِيمَ الْمُحْدِقَ بِنَبِيِّهِمْ، فَخَشَوْا أَنْ يُطَوِّقَهُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ عَرَفُوا مَكَانَهُ؛ لَاسِيَّمَا فِي تِلْكَ الْفَتْرَةِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَعَهُ سِوَى بَعْضِ هَيْئَةِ أَرْكَانِ حَرْبِهِ، وَقِلَّةٍ مِمَّنْ سَارَعَ بِالِانْضِمَامِ إِلَيْهِ، لَا يَزِيدُونَ عَلَى عَدَدِ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ؛ وَلِهَذَا تَدَافَعَ الصَّحَابَةُ نَحْوَ نَبِيِّهِمْ، وأَخَذُوا فِي إِقَامَةِ سُورٍ بَشَرِيٍّ مِنْ أَنْفُسِهِمْ؛ لِمُوَاجَهَةِ ضَرَبَاتِ الْمُشْرِكِينَ الْمُوَجَّهَةِ إِلَى الرَّسُولِ ﷺ بِشَخْصِهِ.
وَكَانَ هَدَفُ الصَّحَابَةِ هَذِهِ الْمَرَّةَ فِي الدَّرَجَةِ الْأُولَى الْحِفَاظَ عَلَى حَيَاةِ نَبِيِّهِمْ ﷺ الَّتِي أَصْبَحَتْ مُهَدَّدَةً بِشَكْلٍ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ مَثِيلٌ فِي تَارِيخِ الْحُرُوبِ الَّتِي خَاضَهَا ﷺ.
ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَعْدَ الِانْتِكَاسَةِ وَاضْطِرَابِ الْمُسْلِمِينَ وَتَشَتُّتِهِمْ بَقِيَ مُنْفَرِدًا فِي مَقَرِّ الْقِيَادَةِ الْعَامَّةِ مَعَ نَفَرٍ قَلِيلٍ جِدًّا مِنْ أَصْحَابِهِ؛ وَلِذَلِكَ اغْتَنَمَ الْمُشْرِكُونَ الْقَرِيبُونَ مِنْهُ الْفُرْصَةَ، فَقَامَتْ مَجْمُوعَةٌ مِنْ فُرْسَانِهِمْ وَمُشَاتِهِمْ بِهَجَمَاتٍ خَاطِفَةٍ رَكَّزُوهَا عَلَى شَخْصِ النَّبِيِّ ﷺ؛ لِلتَّخَلُّصِ مِنْهُ وَالْقَضَاءِ عَلَيْهِ، مُغْتَنِمِينَ انْفِرَادَهُ، وَتَفَرُّقَ عَامَّةِ أَصْحَابِهِ عَنْهُ.
وَقَدْ ثَبَتَ النَّبِيُّ ﷺ لِتِلْكَ الْهَجَمَاتِ السَّرِيعَةِ الْمُتَلَاحِقَةِ ثُبُوتَ الرَّوَاسِي، وَقَاتَلَ الْمُهَاجِمِينَ بِضَرَاوَةٍ وَشَجَاعَةٍ مُنْقَطِعَةِ النَّظِيرِ، يُسَانِدُهُ فِي ذَلِكَ قِلَّةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ الَّذِين ثَبَتُوا مَعَهُ، وَالَّذِينَ لَمْ يُفَارِقْهُ بَعْضُهُمْ مُنْذُ بِدَايَةِ الْمَعْرَكَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ سَارَعَ بِالِانْضِمَامِ إِلَيْهِ سَاعَةَ الِانْتِكَاسَةِ)).
*جِرَاحَاتُ النَّبِيِّ ﷺ الْخَطِيرَةُ وَمُدَاوَاتُهَا:
((أَثْنَاءَ هَذَا الصِّرَاعِ الرَّهِيبِ أُصِيبَ الرَّسُولُ الْقَائِدُ ﷺ بِجِرَاحَاتٍ كَثِيرَةٍ؛ فَقَدْ تَحَطَّمَتِ الْخَوْذَةُ الْحَدِيدِيَّةُ الَّتِي كَانَتْ عَلَى رَأْسِهِ نَتِيجَةً لِلضَّرَبَاتِ الَّتِي أَصَابَهُ الْمُشْرِكُونَ بِهَا، كَمَا أَنَّهُ -أَيْضًا- جُرِحَ فِي وَجْهِهِ الشَّرِيفِ عِدَّةَ جِرَاحَاتٍ؛ فَقَدْ حَمَلَ عَلَيْهِ أَحَدُ فُرْسَانِ الْمُشْرِكِينَ -وَهُوَ ابْنُ قَمِئَةَ- وَهُوَ يَقُولُ: ((أَيْنَ مُحَمَّدٌ؟ لَا نَجَوْتُ إِنْ نَجَا)).
وَأَثْنَاءَ صِرَاعِهِ مَعَ ابْنِ قَمِئَةَ عَلَاهُ الْأَخِيرُ بِالسَّيْفِ، وَضَرَبَهُ بِهِ ضَرْبَةً شَدِيدَةً، فَلَمْ تَضُرَّهُ كَثِيرًا؛ لِأَنَّهُ ﷺ كَانَ قَدْ لَبِسَ دِرْعَيْنِ، وَقَدْ أَصَابَتْ هَذِهِ الضَّرْبَةُ عَاتِقَ النَّبِيِّ ﷺ فَتَأَثَّرَ مِنْهَا، وَشَكَا بِسَبَبِهَا أَكْثَرَ مِنْ شَهْرٍ؛ فَقَدْ كَانَتْ ضَرْبَةُ عَدُوِّ اللهِ عَنِيفَةً؛ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ هَتْكِ الدِّرْعَيْنِ بِهَا، فَنَجَا رَسُولُ اللهِ ﷺ مِنْهَا.
كَمَا أَنَّهُ ﷺ أَثْنَاءَ هَذَا الصِّرَاعِ جُرِحَ فِي وَجْهِهِ، جَرَحَهُ ابْنُ قَمِئَةَ الَّذِي كَانَ يُلِحُّ مَعَ أَصْحَابِهِ فِي الْهُجُومِ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ فَقَدْ دَخَلَتْ حَلْقَتَانِ مِنْ حِلَقِ الْمِغْفَرِ فِي وَجْنَتَيْهِ الشَّرِيفَتَيْنِ، وَأَخَذَ الدَّمُ يَسِيلُ عَلَى أَثَرِ ذَلِكَ نَتِيجَةً لِضَرْبَةٍ أُخْرَى أَصَابَهُ بِهَا -أَيْضًا- ابْنُ قَمِئَةَ، وَكَانَ عَدُوُّ اللهِ مِنْ فُرْسَانِ الْمُشْرِكِينَ الْفَاتِكِينَ.
كَمَا شُجَّ وَجْهُهُ الشَّرِيفُ شَجَّةً كَبِيرَةً بَقِيَ أَثَرُهَا فِي وَجْهِهِ حَتَّى الْتَحَقَ بِالرَّفِيقِ الْأَعْلَى؛ نَتِيجَةً لِضَرْبَةٍ جَاءَتْهُ أَثْنَاءَ احْتِدَامِ الْمَعْرَكَةِ مِنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ؛ جَدِّ الْإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ الْمَشْهُورِ، وَهُوَ صَحَابِيٌّ؛ لِأَنَّهُ أَسْلَمَ بَعْدَ مَعْرَكَةِ أُحُدٍ، وَمَاتَ بَعْدَ الْفَتْحِ.
كَذَلِكَ تَكَسَّرَتْ رَبَاعِيَتُهُ -وَهِيَ السِّنُّ الَّتِي بَيْنَ الثَّنِيَّةِ وَالنَّابِ-، تَكَسَّرَتْ رَبَاعِيَتُهُ السُّفْلَى، وَانْشَقَّتْ شَفَتُهُ عِنْدَمَا قَذَفَهُ بِحَجَرٍ كَبِيرٍ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ أَخُو سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
كَمَا وَقَعَ ﷺ أَثْنَاءَ تِلْكَ السَّاعَةِ الْعَصِيبَةِ الدَّامِيَةِ فِي حُفْرَةٍ عَمِيقَةٍ؛ فَجُرِحَتْ رُكْبَتَاهُ، وَقَدْ سَارَعَ أَصْحَابُهُ الْمُدَافِعُونَ عَنْهُ إِلَى إِنْقَاذِهِ، وَأَخَذَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِيَدِهِ، وَرَفَعَهُ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ مِنَ الْحُفْرَةِ حَتَّى اسْتَوَى قَائِمًا ﷺ )).
((وَفِي هَذِهِ اللَّحَظَاتِ الْحَرِجَةِ أَنْزَلَ اللهُ -تَعَالَى- مَلَائِكَتَهُ؛ لِحِمَايَةِ نَبِيِّهِ ﷺ.
أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَوْمَ أُحُدٍ وَمَعَهُ رَجُلَانِ يُقَاتِلَانِ عَنْهُ)).
نَزَلَتِ الْمَلَائِكَةُ؛ لِحِمَايَةِ الرَّسُولِ ﷺ، وَلَمْ تُقَاتِلِ الْمَلَائِكَةُ إِلَّا فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ الْكُبْرَى، فَنَزَلَتْ فِي أُحُدٍ حِمَايَةً لِلرَّسُولِ ﷺ، لَا جِهَادًا وَمُجَالَدَةً لِلْكَافِرِينَ)).
((وَلَمَّا جُرِحَ النَّبِيُّ ﷺ، وَجَعَلَ الدَّمُ يَسِيلُ بِغَزَارَةٍ عَلَى وَجْهِهِ الشَّرِيفِ؛ أخَذَ يَمْسَحُ الدَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: ((كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ خَضَبُوا وَجْهَ نَبِيِّهِمْ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ؟!! اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ عَلَى قَوْمٍ أَدْمَوْا وَجْهَ رَسُولِ اللهِ)) أَيْ: جَرَحُوهُ حَتَّى خرَجَ مِنْهُ الدَّمُ، وَهَشَّمُوا عَلَيْهِ الْبَيْضَةَ، وَكَسَرُوا رَبَاعِيَتَهُ.
فَأَنْزَلَ اللهُ -تَعَالَى- عَلَيْهِ بِسَبَبِ هَذَا الْكَلَامِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128].
لَقَدْ تَعَرَّضَ الرَّسُولُ ﷺ لِمَا تَعَرَّضَ لَهُ، وَأُصِيبَ بِمَا أُصِيبَ بِهِ مِنْ جِرَاحَاتٍ وَهُوَ فِي قِلَّةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ)).
((وَقَدِ اسْتَجَابَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- دَعْوَةَ نَبِيِّهِ ﷺ فِي ابْنِ قَمِئَةَ؛ ((فَإِنَّهُ لَمَّا انْصَرَفَ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ إِلَى أَهْلِهِ؛ خَرَجَ ابْنُ قَمِئَةَ إِلَى غَنَمِهِ، فَوَجَدَهَا عَلَى ذِرْوَةِ جَبَلٍ، فَسَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِ تَيْسًا، فَلَمْ يَزَلْ يَنْطَحُهُ حَتَّى قَطَّعَهُ)).
وَفِي رِوَايَةٍ: ((فَشَدَّ عَلَيْهِ التَّيْسُ، فَنَطَحَهُ نَطْحَةً أَرْدَاهُ مِنْ شَاهِقِ الْجَبَلِ فَتَقَطَّعَ)).
وَدَعَا رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَى عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، فَقَالَ: ((اللَّهُمَّ لَا تُحِلْ عَلَيْهِ الْحَوْلَ حَتَّى يَمُوتَ كَافِرًا)).
فَمَا حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ حَتَّى مَاتَ كَافِرًا إِلَى النَّارِ».
لَمَّا هَدَأَ الأَمْرُ أَخَذَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يُدَاوُونَ جِرَاحَ الرَّسُولِ ﷺ.
جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ الرَّسُولِ ﷺ، وَأَخَذَتْ تُدَاوِي جِرَاحَ الرَّسُولِ ﷺ؛ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي ((صَحِيحَيْهِمَا)) عَنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((فَكَانَتْ فَاطِمَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ تَغْسِلُ الدَّمَ، وكَانَ عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَسْكُبُ عَلَيْهَا المَاءَ بِالْمِحْجَنِ)).
((يَسْكُبُ)) أَيْ: يَصُبُّ عَلَيْهَا الْمَاءَ وَهِيَ تَغْسِلُ جِرَاحَ رَسُولِ اللهِ ﷺ بِالْمَاءِ الَّذِي أَتَى بِهِ فِي دَرَقَتِهِ بِالْمِحْجَنِ، أَيْ: بِالتُّرْسِ.
((فَلَمَّا رَأَتْ فَاطِمَةُ أَنَّ المَاءَ لَا يَزِيدُ الدَّمَ إِلَّا كَثْرَةً؛ أَخَذَتْ قِطْعَةً مِنْ حَصِيرٍ -هُوَ: الْبِسَاطُ الصَّغِيرُ، يُصْنَعُ مِنَ النَّبَاتِ، يُبْسَطُ فِي الْبُيُوتِ-، أَخَذَتْ قِطْعَةً مِنْ حَصِيرٍ فَأَحْرَقَتْهُ حَتَّى صَارَ رَمَادًا، ثُمَّ أَلْصَقَتْهُ بِالْجُرُوحِ، فَاسْتَمْسَكَ الدَّمُ)).
*تَمْثِيلُ الْمُشْرِكِينَ بِالْجُثَثِ، وَحِوَارُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَأَبِي سُفْيَانَ:
((فَلَمَّا رَأَى المُشْرِكُونَ أَنَّهُمْ لَنْ يَصِلُوا إِلَى الرَّسُولِ ﷺ، وَإِلَى الصَّحَابَةِ؛ آثَرُوا الِانْسِحَابَ، وَلَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُوا مَا مَصِيرُ الرَّسُولِ ﷺ؛ هَلْ قُتِلَ أَمْ لَا، فَأَخَذُوا يَتَهَيَّؤُونَ لِلرُّجُوعِ إِلَى مَكَّةَ، وَأَخَذَ بَعْضُهُمْ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ يُمَثِّلُونَ بِقَتْلَى المُسْلِمِينَ، يُقَطِّعُونَ الآذَانَ، وَالأُنُوفَ، وَالفُرُوجَ، ويَبْقَرُونَ البُطُونَ.
فَلَمَّا أَرَادَ المُشْرِكُونَ الِانْصِرَافَ؛ أَشْرَفَ أَبُو سُفْيَانَ عَلَى الجَبَلِ، فَنَادَى المُسْلِمِينَ: ((أَفِي القَوْمِ مُحَمَّدٌ؟)) ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ : «لَا تُجِيبُوهُ».
ثُمَّ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: ((أَفِي القَوْمِ ابنُ أَبِي قُحَافَةَ؟)) ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا تُجِيبُوهُ».
ثُمَّ قَالَ: ((أَفِي القَوْمِ ابنُ الخَطَّابِ؟)) ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا تُجِيبُوهُ».
ثُمَّ رَجَعَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: ((أَمَّا هَؤُلَاءِ فَقَدْ قُتِلُوا؛ فَلَوْ كَانُوا أَحْيَاءً لَأَجَابُوا)).
فَلَمْ يَمْلِكْ عُمَرُ نَفْسَهُ، فَقَالَ: ((كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ! أَبْقَى اللَّهُ عَلَيْكَ مَا يُخْزِيكَ)).
فِي رِوَايَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي «الْمُسْنَدِ» قَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَلَا أُجِيبُهُ؟)).
قَالَ: ((بَلَى)).
فَلَمْ يُجِبْهُ مِنْ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَمْلِكْ عُمَرُ نَفْسَهُ، فَاسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللهِ ﷺ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَلَا أُجِيبُهُ؟)).
قَالَ: ((بَلَى)).
فَأَجَابَهُ: ((كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللهِ، أَبْقَى اللهُ عَلَيْكَ مَا يُخْزِيكَ)).
فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عِنْدَ الْبُخَارِيِّ: قَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((إِنَّ الَّذِينَ عَدَدْتَ لَأَحْيَاءٌ كُلُّهُمْ، وَقَدْ بَقِيَ لَكَ مَا يَسُوؤُكَ)).
فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: ((يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ، وَالأَيَّامُ دُوَلٌ)).
((دَالَتِ الْأَيَّامُ)) أَيْ: دَارَتْ.
((وَالأَيَّامُ دُوَلٌ، وَالحَرْبُ سِجَالٌ، مَرَّةً لَنَا ومَرَّةً عَلَيْنَا)).
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: ((لَا سَوَاءَ، قَتْلَانَا فِي الجَنَّةِ، وَقَتْلَاكُمْ فِي النَّارِ)).
ثُمَّ أَخَذَ أَبُو سُفْيَانَ يَرْتَجِزُ: ((اعْلُ هُبَلْ، اعْلُ هُبَلْ)).
قَالَ الرَّسُولُ ﷺ : «أَلَا تُجِيبُونَهُ؟».
قَالُوا: ((مَا نَقُولُ؟)).
قَالَ: «قُوُلوا: اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ».
فَقَالَ عُمَرُ: ((اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ)).
قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: ((لَنَا العُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ)).
فَقَالَ الرَّسُولُ ﷺ : «أَلَا تُجِيبُونَهُ؟».
قَالُوا: ((وَمَا نَقُولُ؟)).
قَالَ: «قُولُوا: اللَّهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ».
فَقَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((اللَّهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي «الصَّحِيحِ»».
كَانَ فِي سُؤَالِ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى اهْتِمَامِ الْمُشْرِكِينَ بِهَؤُلَاءِ دُونَ غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّهُ فِي عِلْمِهِمْ أَنَّهُمْ أَهْلُ الْإِسْلَامِ، وَبِهِمْ قَامَ صَرْحُهُ، وَهُمْ أَرْكَانُ دَوْلَتِهِ وَأَعْمِدَةُ نِظَامِهِ؛ فَفِي مَوْتِهِمْ يَعْتَقِدُ الْمُشْرِكُونَ أَنَّهُ لَا يَقُومُ الْإِسْلَامُ بَعْدَهُمْ.
((وَكَانَ السُّكُوتُ عَنْ إِجَابَةِ أَبِي سُفْيَانَ أَوَّلًا تَصْغِيرًا لَهُ؛ حَتَّى إِذَا انْتَشَى وَمَلَأَهُ الْكِبْرُ أَخْبَرُوهُ بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ، وَرَدُّوا عَلَيْهِ بِشَجَاعَةٍ)).
*جَمْعُ الشُّهَدَاءِ، وَالْأَمْرُ بِدَفْنِهِمْ، وَفَضْلُهُمْ:
((أَشْرَفَ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَى الشُّهَدَاءِ، فَقَالَ: ((أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((مُسْنَدِهِ)) بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ ثَعْلَبَةَ بنِ صُعَيْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: لَمَّا أَشْرَفَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى قتلَى أُحُدٍ قَالَ: «أَشْهَدُ عَلَى هَؤُلَاءِ، مَا مِنْ مَجْرُوحٍ جُرِحَ فِي اللَّهِ إِلَّا بَعَثَهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وجُرْحُهُ يَدْمَى، اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، وَالرِّيحُ رِيحُ المِسْكِ».
ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِقَتْلَى أُحُدٍ أَنْ يُنْزَعَ عَنْهُمُ الحَدِيدُ وَالجُلُودُ، وَأَنْ يَدْفِنُوهُمْ حَيْثُ صُرِعُوا بِدِمَائِهِمْ وَثِيَابِهِمْ، وَلَا يُغَسَّلُوا.
أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((مُسْنَدِهِ)) بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ ثَعْلَبَةَ بنِ صُعَيْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ أُحُدٍ: «زَمِّلُوهُمْ فِي ثِيَابِهِمْ»».
((أَمَرَ الرَّسُولُ ﷺ بِدَفْنِ القَتْلَى، فَكَانَ يُوضَعُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلَانِ وَالثَّلَاثَةُ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ؛ بَلْ كَانَ يُكَفَّنُ الرَّجُلَانِ وَالثَّلَاثَةُ فِي الثَّوْبِ الوَاحِدِ، وَإِنَّمَا أَرْخَصَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ لِمَا بِالمُسْلِمِينَ مِنَ الجِرَاحِ التِي يَشُقُّ مَعَهَا أَنْ يَحْفِرُوا لِكُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدًا، وَقِلَّةِ الثِّيَابِ.
أَخْرَجَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ فِي «صَحِيحِهِ» عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ يَقُولُ: ((أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ؟))، فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدٍ قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ.
وَأَمَّا عَدَدُ مَنْ قُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي مَعْرَكَةِ أُحُدٍ؛ فَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي «صَحِيحِهِ» بِسَنَدِهِ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّهُ أُصِيبَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي تِلْكَ الْمَعْرَكَةِ سَبْعُونَ قَتِيلًا».
فَضْلُ شُهَدَاءِ أُحُدٍ أَنْزَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيهِ آيَاتٍ بِخُصُوصِهِ، وَكَذَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ فِي جُمْلَةِ أَحَادِيثَ.
قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران: 169-170]. وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ خَاصَّةً.
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لَمَّا أُصِيبَ إِخْوَانُكُمْ بِأُحُدٍ؛ جَعَلَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَرِدُ أَنْهَارَ الجَنَّةِ، تَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا، وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ مُعَلَّقَةٍ فِي ظِلِّ العَرْشِ، فَلَمَّا وَجَدُوا طِيبَ مَأْكَلِهِمْ وَمَشْرَبِهِمْ وَمَقِيلِهِمْ؛ قَالُوا: مَنْ يُبَلِّغُ إِخْوَانَنَا عَنَّا أَنَّا أَحْيَاءٌ فِي الْجَنَّةِ نُرْزَقُ؛ لِئَلَّا يَزْهَدُوا فِي الجِهَادِ، وَلَا يَنْكُلُوا عَنِ الحَرْبِ.
فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا أُبَلِّغُهُمْ عَنْكُمْ، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران : 169]». أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.
((لَمْ يُهْزَمِ الْمُسْلِمُونَ فِي أُحُدٍ))
((لَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ -بَعْدَمَا تَفَقَّدَ الْقَتْلَى، وَدَفَنَ الشُّهَدَاءَ- الرُّجُوعَ إِلَى المَدِينَةِ وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ؛ وَقَفَ عَلَى جَبَلِ أُحُدٍ، فَأَثْنَى عَلَى رَبِّهِ، وَتَضَرَّعَ إِلَيْهِ، أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((مُسْنَدِهِ))، وَالحَاكِمُ، وَالبُخَارِيُّ فِي ((الأَدَبِ المُفْرَدِ)) بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عُبَيْدِ بنِ رِفَاعَةَ الزُّرَقِيِّ قَالَ: ((لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَانْكَفَأَ المُشْرِكُونَ -أَيْ: رَجَعُوا-؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «اسْتَوُوا حَتَّى أُثْنِيَ عَلَى رَبِّي»».
يَعْرِفُ قَدْرَ النِّعْمَةِ.
قَدْ يَقُولُ قَائِلٌ: وَالْحَمْدُ هُنَا وَالثَّنَاءُ عَلَى مَاذَا؟!
قُتِلَ سَبْعُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ، وَمَا كَانَ أَحَدٌ مِنْ جُنْدِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَعْرَكَةِ إِلَّا وَهُوَ مُصَابٌ بِجِرَاحَةٍ، وَكَانَتْ كَسْرَةً أَعْقَبَتْهَا إِلَى النَّصْرِ كَرَّةٌ، وَالنَّبِيُّ ﷺ يَعْرِفُ قَدْرَ النِّعْمَةِ؛ لِأَنَّ مَا وَقَعَ فِي أُحُدٍ كَانَ مِنْ أَعْظَمِ مَا مَنَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهِ عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ.
وَالْعُلَمَاءُ لَا يَرَوْنَ أَنْ يُقَالَ: هُزِمَ الْمُسْلِمُونَ فِي أُحُدٍ، كَانَ النَّصْرُ فِي الْبِدَايَةِ ظَاهِرًا لَائِحًا؛ حَتَّى إِنَّ النِّسْوَةَ شَمَّرْنَ عَنْ سُوقِهِنَّ حَتَّى بَدَتْ خَلَاخِلُهُنَّ، وَأَسْرَعْنَ مُوَلْوِلَاتٍ.
وَكَذَلِكَ كَانَ جُنْدُ الْكُفَّارِ، فَانْكَشَفُوا انْكِشَافًا كَامِلًا، فَلَمَّا غَادَرَ الرُّمَاةُ مَوْقِعَهُمْ عَلَى الْجَبَلِ، وَالْتَفَّ خَالِدٌ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْخَيَّالَةِ -خَيَّالَةِ الْمُشْرِكِينَ- وَرَاءَ جَيْشِ النَّبِيِّ ﷺ؛ وَقَعَ الِاضْطِرَابُ وَالْفَوْضَى فِي جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ، فَوَقَعَ مَا وَقَعَ.
وَلَكِنْ كَانَ الَّذِي وَقَعَ آخِرًا عَوْدًا إِلَى النَّصْرِ الْأَوَّلِ، كَيْفَ وَقَعَ انْسِحَابُ الْجَيْشِ؟! بَلْ كَيْفَ الْتَمَّ الْجَيْشُ عَلَى بَعْضِهِ مِنْ بَعْدِ مَا صَارَ فُلُولًا، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ حَتَّى إِنَّ الْمُشْرِكِينَ مَا جَرُءُوا -وَجَيْشُ الْمَدِينَةِ قَائِمٌ فِي السَّاحَةِ بِأُحُدٍ- أَنْ يُعَرِّجُوا عَلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ ولَيْسَ بِهَا حِمَايَةٌ عَسْكَرِيَّةٌ؛ مِنْ أَجْلِ احْتِلَالِهَا، أَوْ نَهْبِ شَيْءٍ مِنْ ثِمَارِهَا وَأَمْوَالِهَا.
وَلَكِنْ كَانُوا فِي ذَهَابِهِمْ إِلَى مَكَّةَ كَالَّذِينَ يَفِرُّونَ مِنَ الْمَعْرَكَةِ.
((فَلَا شَكَّ أَنَّ الْحَرَكَةَ الْمُبَاغِتَةَ الَّتِي قَامَ بِهَا سِلَاحُ الْفُرْسَانِ الْمَكِّيُّ أَثْنَاءَ الْقِتَالِ بِقِيَادَةِ خَالِدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -وَكَانَ مَا زَالَ مُشْرِكًا-؛ لَا شَكَّ أَنَّ تِلْكَ الْحَرَكَةَ أَوْقَعَتْ جَمْهَرَةَ جَيْشِ الْمَدِينَةِ بَيْنَ فَكَّيِ الْكَمَّاشَةِ.
نَجَحَ الْمُشْرِكُونَ فِي إِطْبَاقِهَا عَلَى جَيْشِ الْمَدِينَةِ مِنْ كُلِّ الْجِهَاتِ، وَكُلُّ جَيْشٍ يَقَعُ فِيمَا وَقَعَ الْجَيْشُ الْإِسْلَامِيُّ يَوْمَ أُحُدٍ فِيهِ يَكُونُ مَصِيرُهُ غَالِبًا: إِمَّا السَّحْقَ كَامِلًا، وَإِمَّا اسْتِسْلَامَهُ لِلْأَسْرِ.
إِذَا أَضَفْنَا إِلَى وَاقِعَةِ التَّطْوِيقِ الْمُبَاغِتِ تَفَوُّقَ الْجَيْشِ الْمُطَوِّقِ عَلَى الْجَيْشِ الْمُطَوَّقِ فِي الْعَدَدِ تَفَوُّقًا سَاحِقًا؛ حَيْثُ إِنَّ الْجَيْشَ الْمَدَنِيَّ الْمُطَوَّقَ كَانَ لَا يَزِيدُ عَدَدُهُ عَلَى خَمْسِ مِائَةِ مُقَاتِلٍ تَقْرِيبًا، بَيْنَمَا الْجَيْشُ الْمَكِّيُّ الْمُطَوِّقُ لَا يَقِلُّ عَدَدُهُ عَنْ أَلْفَيْنِ وَسَبْعِ مِائَةِ مُقَاتِلٍ عَلَى أَقَلِّ تَقْدِيرٍ.
لَوْ أَضَفْنَا هَذَا -أَيْضًا-؛ لَوَجَدْنَا أَنَّهُ يَكَادُ يَكُونُ مِنَ الْمُسْتَحِيلِ نَجَاةُ الْجَيْشِ الصَّغِيرِ مِنْ قَتْلِ جَمِيعِ رِجَالِهِ، أَوِ اسْتِسْلَامِهِمْ عَنْ آخِرِهِمْ.
وَلَكِنَّ الَّذِي حَدَثَ خِلَافُ ذَلِكَ؛ فَقَدْ تَمَكَّنَ الْمُسْلِمُونَ الْمُطَوَّقُونَ مِنَ التَّغَلُّبِ عَلَى جَيْشِ مَكَّةَ الْمُطَوِّقِ؛ حَيْثُ كَسَرُوا الطَّوْقَ الَّذِي ضَرَبَهُ جَيْشُ مَكَّةَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ أَفْلَتُوا مِنْ قَبْضَتِهِ، وَشَقُّوا طَرِيقَهُمْ عَبْرَ صُفُوفِهِمْ نَحْوَ الشِّعْبِ مِنْ أُحُدٍ؛ حَيْثُ يُوجَدُ قَائِدُهُمُ الْأَعْلَى.. النَّبِيُّ ﷺ، بَعْدَ أَنْ دَفَعُوا لِهَذَا التَّخَلُّصِ مِنَ الطَّوْقِ ثَمَنًا قِوَامُهُ عَشْرَةٌ بِالْمِائَةِ (10%) مِنْ مَجْمُوعِ قُوَّاتِهِمْ، فَفَوَّتُوا بِذَلِكَ عَلَى قُرَيْشٍ أَثْمَنَ فُرْصَةٍ سَنَحَتْ لَهُمْ لِلْقَضَاءِ عَلَى الْجَيْشِ الْإِسْلَامِيِّ بِالْإِبَادَةِ أَوِ الْأَسْرِ.
وَقَدِ اعْتَبَرَ كَثِيرٌ مِنَ الْعَسْكَرِيِّينَ تَمَكُّنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كَسْرِ الطَّوْقِ الَّذِي ضَرَبَهُ الْمُشْرِكُونَ حَوْلَهُمْ وَاعْتَبَرُوا إِفْلَاتَهُمْ نَصْرًا جَدِيدًا سَجَّلَهُ الْمُسْلِمُونَ، وَانْدِحَارًا ثَانِيًا مُنِيَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ.
مَا هِيَ أَسْبَابُ التَّمَاسُكِ بَعْدَ الْهَزِيمَةِ؟
مَا الْأَسْبَابُ الَّتِي جَعَلَتْ هَذَا الْجَيْشَ الصَّغِيرَ الْمَنْكُوبَ يَنْجُو مِنْ فَنَاءٍ مُحَقَّقٍ، وَيَجْمَعُ شَتَاتَهُ، وَيُعِيدُ تَنْظِيمَهُ مِنْ جَدِيدٍ، وَيَصْمُدُ فِي وَجْهِ جَيْشِ مَكَّةَ الَّذِي ظَنَّ نَفْسَهُ بَعْدَ الِانْتِكَاسَةِ سَيِّدَ الْمَوْقِفِ، ثُمَّ يُجْبِرُهُ هَذَا الْجَيْشُ الصَّغِيرُ عَلَى الِانْسِحَابِ مِنْ مَيْدَانِ الْمَعْرَكَةِ دُونَ أَنْ يُحَقِّقَ أَهْدَافَهُ؛ حَيْثُ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَسْجِيلِ مَا يُمْكِنُ تَسْمِيَتُهُ انْتِصَارًا؟!!
مَا هِيَ الْأَسْبَابُ؟!!
مِنَ النَّاحِيَةِ الْعَسْكَرِيَّةِ يُمْكِنُ الْإِشَارَةُ إِلَى مُجْمَلِ أَسْبَابِ ذَلِكَ، وَهِيَ:
الْقِيَادَةُ الْحَكِيمَةُ، وَشَجَاعَةُ الْقَائِدِ الْعَامِّ؛ فَمِمَّا لَا جِدَالَ فِيهِ: أَنَّ كُلَّ قَائِدٍ عَامٍّ مَسْؤُولٍ يَعْلَمُ تَمَامَ الْعِلْمِ أَنَّ مَسْأَلَةَ تَحْطِيمِ جَيْشِهِ أَوْ تَمَاسُكِهِ فِي مِثْلِ تِلْكَ اللَّحْظَةِ الْحَرِجَةِ الْحَاسِمَةِ الَّتِي مَرَّ بِهَا الْجَيْشُ النَّبَوِيُّ فِي أُحُدٍ بَعْدَ حَادِثَةِ الْجَبَلِ إِنَّمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى شَجَاعَةِ هَذَا الْقَائِدِ أَوْ تَخَاذُلِهِ، فَإِنْ تَخَاذَلَ الْقَائِدُ الْعَامُّ تَخَاذَلَ جَيْشُهُ وَانْهَزَمَ، وَإِنْ ثَبَتَ وَصَمَدَ كَانَ جَيْشُهُ تَبَعًا لَهُ فِي هَذَا الثَّبَاتِ وَالصُّمُودِ.
وَلَقَدْ أَظْهَرَ الرَّسُولُ الْقَائِدُ ﷺ سَاعَةَ انْتِكَاسَةِ الْجَيْشِ الْإِسْلَامِيِّ فِي أُحُدٍ شَجَاعَةً مُنْقَطِعَةَ النَّظِيرِ بَلَغَتْ إِلَى حَدِّ الْكَمَالِ، وَأَظْهَرَ مِنَ الْحِكْمَةِ فِي الْقِيَادَةِ وَالْحِنْكَةِ فِي التَّصَرُّفِ فِي تِلْكَ السَّاعَاتِ الدَّقِيقَةِ الْحَرِجَةِ مَا مَكَّنَهُ مِنْ حِمَايَةِ جَيْشِهِ الصَّغِيرِ مِنْ ضَيَاعٍ وَتَدْمِيرٍ مُحَقَّقَيْنِ؛ فَقَدْ وَجَدَ الرَّسُولُ ﷺ نَفْسَهُ بَعْدَ حَرَكَةِ الْتِفَافِ خَالِدٍ عَلَى جُنْدِهِ.. وَجَدَ نَفْسَهُ مُنْعَزِلًا تَمَامًا فِي مَقَرِّ قِيَادَتِهِ؛ حَيْثُ تَمَزَّقَتْ صُفُوفُ الْمُسْلِمِينَ تَمَزُّقًا شَدِيدًا، وَتَفَرَّقَ مِنْ حَوْلِهِ عَامَّةُ جُنْدِهِ، فَأَصْبَحَ وَحْدَهُ تَقْرِيبًا عُرْضَةً لِهَجَمَاتِ الْمُشْرِكِينَ الضَّارِيَةِ، فَكَانَتْ صَدْمَةً عَنِيفَةً جَدِيرَةً بِأَنْ تَنْهَارَ لَهَا أَعْصَابُ أَعَاظِمِ الْقُوَّادِ؛ خَاصَّةً فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ الَّذِي يَعْتَمِدُ فِيهِ الْقَائِدُ عَلَى رِمَاحِ جُنْدِهِ وَسُيُوفِهِمْ فَحَسْبُ.
ولَكِنَّ الرَّسُولَ ﷺ صَمَدَ أَمَامَ تِلْكَ النَّازِلَةِ، وَسَيْطَرَ عَلَى أَعْصَابِهِ، فَثَبَتَ ثُبُوتَ الرَّوَاسِي أَمَامَ تَيَّارَاتِ تِلْكَ الْعَاصِفَةِ الْمُخِيفَةِ الَّتِي تَبَعْثَرَ لَهَا جُنْدُهُ عَلَى سَاحَةِ الْهَزِيمَةِ، لَا يَدْرُونَ مَاذَا يَصْنَعُونَ، وَإِلَى أَيْنَ يَتَّجِهُونَ؛ لَاسِيَّمَا بَعْدَ أَنْ سَرَتْ بَيْنَهُمْ إِشَاعَةُ مَقْتَلِ نَبِيِّهِمْ ﷺ، فَوَقَفَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى مُرْتَفَعٍ رَابِطَ الْجَأْشِ ثَابِتَ الْجَنَانِ، وَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: ((هَلُمُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللهِ)).
فَكَانَ لِصَيْحَتِهِ تِلْكَ أَكْبَرُ الْأَثَرِ فِي إِعَادَةِ الرُّوحِ الْمَعْنَوِيَّةِ إِلَى نُفُوسِ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ سَمِعُوا صَوْتَهُ الْحَبِيبَ؛ فَمَا أَنْ عَلِمُوا بِمَكَانِهِ حَتَّى تَوَافَدُوا إِلَيْهِ، وَأَخَذُوا فِي تَنْظِيمِ صُفُوفِهِمْ مِنْ جَدِيدٍ.
وَانْتَشَرَ بَيْنَ الْجَيْشِ الْإِسْلَامِيِّ عَامَّةً نَبَأُ سَلَامَةِ نَبِيِّهِمُ الْقَائِدِ، فتَرَاجَعَتْ فُلُولُهُمْ، وَأَخَذُوا يَتَحَلَّقُونَ حَوْلَ قَائِدِهِمْ، وَيُنَاضِلُونَ الْمُشْرِكِينَ فِي شَجَاعَةٍ وَاسْتِبْسَالٍ حَتَّى تَغَلَّبُوا عَلَى جُنْدِ مَكَّةَ؛ إِذْ حَالُوا بَيْنَ هَذَا الْجُنْدِ وَبَيْنَ تَحْقِيقِ الْهَدَفِ الَّذِي جَاءُوا مِنْ أَجْلِهِ، وَالَّذِي سَنَحَتْ لَهُمْ فُرْصَةُ تَحْقِيقِهِ بَعْدَ الِانْتِكَاسَةِ؛ وَهُوَ إِنْزَالُ الْهَزِيمَةِ السَّاحِقَةِ بِالْجَيْشِ الْإِسْلَامِيِّ.
وَهَكَذَا كَانَ لِثَبَاتِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَحِكْمَتِهِ وَشَجَاعَتِهِ الْفَائِقَةِ فِي تِلْكَ اللَّحَظَاتِ الشَّدِيدَةِ الْحَرِجَةِ.. كَانَ لِذَلِكَ الْمَقَامُ الْأَوَّلُ فِي تَمَاسُكِ الْجُنْدِ الْإِسْلَامِيِّ بِعَوْدَةِ الْمُنْهَزِمِينَ وَإِقْدَامِ الْمُتَرَدِّدِينَ إِلَى سَاحَةِ الْوَغَى، وَصُمُودِهِمْ فِي وَجْهِ الْجَيْشِ الْمَكِّيِّ الَّذِي أَعَادُوهُ خَائِبًا مِنْ حَيْثُ أَتَى بَعْدَ أَنْ كَانَ سَيِّدَ الْمَوْقِفِ بَعْدَ حَادِثَةِ الْجَبَلِ)).
((إِنَّ كُلَّ ذَلِكَ -عَلَى أَهَمِّيَّتِهِ- لَا يُعْتَبَرُ شَيْئًا بِالنِّسْبَةِ لِظُهُورِ حِكْمَةِ قِيَادَتِهِ ﷺ فِي أَثْنَاءِ الْقِتَالِ خِلَالَ الصَّفْحَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ مَعْرَكَةِ أُحُدٍ)).
الصَّفْحَةُ الْأُولَى انْتَصَرَ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ انْتِصَارًا سَاحِقًا، وَفَرَّ الْجَيْشُ الْمَكِّيُّ مُوَلِّيًا الْأَدْبَارَ، تَارِكًا النِّسَاءَ وَالْإِبِلَ وَمَا وَرَاءَهُ غَنِيمَةً لِلْمُسْلِمِينَ.
فِي الصَّفْحَةِ الثَّانِيَةِ نَزَلَ الرُّمَاةُ وَانْشَغَلَ الْجَمْهَرةُ بِجَمْعِ الْغَنَائِمِ، فَطُوِّقَ الْجَيْشُ الْإِسْلَامِيُّ، وَجَاءَتْ الِانْتِكَاسةُ.
فِي هَذِهِ الصَّفْحَةِ الثَّانِيَةِ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ بِحِكْمَةِ قِيَادَتِهِ فِي أَثْنَاءِ الْقِتَالِ حِينَ طَوَّقَ الْمُشْرِكُونَ الْمُتَفَوِّقُونَ بِالْعَدَدِ إِلَى خَمْسَةِ أَمْثَالِ الْمُسْلِمِينَ، حِينَمَا طَوَّقُوا قُوَّةَ الْمُسْلِمِينَ الْقَلِيلَةَ بَعْدَ أَنِ انْهَارَتْ مَعْنَوِيَّاتُ الْكَثِيرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا تَطَايَرَ خَبَرُ مَقْتَلِ الرَّسُولِ ﷺ فِي الْمَعْرَكَةِ، فَلَجَئُوا إِلَى الْهِضَابِ بَعِيدًا عَنْ سَاحَةِ الْمَعْرَكَةِ، وَبَقِيَ مَعَ الرَّسُولِ ﷺ قِلَّةٌ قَلِيلَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؛ كَانَ لِحِكْمَةِ قِيَادَتِهِ ﷺ خِلَالَ هَذِهِ الصَّفْحَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ مَعْرَكَةِ أُحُدٍ الْأَثَرَ الْفَاعِلَ فِي جَمْعِ الْمُسْلِمينَ، وَإِقْدَامِ الْمُتَرَدِّدِينَ، وَانْقِلَابِ مَوَازِينِ الْمَعْرَكَةِ مَرَّةً ثَانِيَةً.
مِنْ أَسْبَابِ التَّمَاسُكِ بَعْدَ الْهَزِيمَةِ: ((حِكْمَةُ وَمَهَارَةُ الرَّسُولِ ﷺ فِي وَضْعِ الْخُطَطِ الْحَرْبِيَّةِ؛ فَقَدْ كَانَ لِمَهَارَةِ الرَّسُولِ ﷺ وَحِنْكَتِهِ وَحِكْمَتِهِ فِي وَضْعِ الْخُطَطِ الدَّقِيقَةِ السَّلِيمَةِ، وَكَذَلِكَ فِي اخْتِيَارِ الْمَوْقِعِ لِإِدَارَةِ الْمَعْرَكَةِ؛ كَانَ لِذَلِكَ أَثَرٌ كَبِيرٌ فِي تَخْلِيصِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ فَنَاءٍ كَادَ يُحِيقُ بِهِمْ)).
((لَقَدْ كَانَ اتِّخَاذُ الرَّسُولِ ﷺ الشِّعْبَ مِنْ أُحُدٍ مُعَسْكَرًا لِجَيْشِهِ مِنَ الْعَوَامِلِ الْمُهِمَّةِ فِي تَخْلِيصِ الْجَيْشِ الْإِسْلَامِيِّ سَاعَةَ الِانْتِكَاسَةِ مِنْ خَطَرِ الْإِبَادَةِ أَوِ التَّشَتُّتِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَكَّنَهُمْ مِنَ الِاعْتِصَامِ بِهِضَابِ الْجَبَلِ الَّذِي الِاعْتِصَامُ بِهِ أَعْطَى الْمُسْلِمِينَ فُرْصَةً طَيِّبَةً مَكَّنَتْهُمْ مِنْ جَمْعِ شَتَاتِهِمْ، وَإِحْبَاطِ كُلِّ مُحَاوَلَاتِ الْقُرَشِيِّينَ الْيَائِسَةِ لِلنَّيْلِ مِنْهُمْ)).
مِنْ أَسْبَابِ التَّمَاسُكِ فِي أُحُدٍ بَعْدَ الِانْتِكَاسَةِ الَّتِي وَقَعَتْ: عَدَمُ كَفَاءَةِ الْقِيَادَةِ فِي جَيْشِ مَكَّةَ.
وَمِنْ أَسْبَابِ التَّمَاسُكِ فِي أُحُدٍ بَعْدَ الِانْتِكَاسَةِ: عُقْدَةُ الْخَوْفِ عِنْدَ جُنْدِ مَكَّةَ.
وَمِنْ أَسْبَابِ التَّمَاسُكِ فِي أُحُدٍ بَعْدَ الْهَزِيمَةِ أَوْ بَعْدَ الِانْتِكَاسَةِ: التَّأَكُّدُ مِنْ سَلَامَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
لَقَدْ تَجَلَّتْ حِكْمَةُ الرَّسُولِ ﷺ الْعَسْكَرِيَّةُ وبَرَاعَتُهُ الْقِيَادِيَّةُ يَوْمَ أَنْ وَقَفَ فِي تِلْكَ اللَّحَظَاتِ الْحَاسِمَةِ مُخَاطِرًا بِحَيَاتِهِ، وَنَادَى جَمْهَرَةَ جُنْدِهِ الْمَحْصُورِ بِأَعْلَى صَوْتِهِ؛ لِيَدُلَّهُمْ عَلَى مَكَانِهِ: ((هَلُمُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللهِ))، فَكَانَ لِسَمَاعِ ذَلِكَ الصَّوْتِ الْحَبِيبِ أَعْظَمُ الْأَثَرِ فِي تَخْلِيصِ الْمُسْلِمِينَ الْمُطَوَّقِينَ أَنْفُسَهُمْ مِنْ قَبْضَةِ الْعَدُوِّ.
وَمِنْ أَسْبَابِ التَّمَاسُكِ بَعْدَ الِانْتِكَاسَةِ: الْعَقِيدَةُ.
وَلَعَلَّهُ مِنْ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْلِمِينَ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْعَقِيدَةَ السَّبَبُ الْأَكْبَرُ فِي تَمَاسُكِ الْمُسْلِمِينَ وَثَبَاتِهِمْ بَعْدَ النَّكْبَةِ الْمُزَلْزِلَةِ، فَلَوْ لَا تَغَلْغُلُ عَقِيدَةِ الْإِسْلَامِ الصَّادِقَةِ فِي نُفُوسِ جُنْدِ الْمَدِينَةِ؛ لَمَا ثَبَتُوا بَعْدَ الِانْتِكَاسَةِ الْمُرَوِّعَةِ ذَلِكَ الثَّبَاتَ الَّذِي اعْتَبَرَهُ كَثِيرٌ مِنْ خُبَرَاءِ الْحَرْبِ نَصْرًا مُؤَزَّرًا سَجَّلَهُ جَيْشُ الْمَدِينَةِ عَلَى جَيْشِ مَكَّةَ.
فَالْعَقِيدَةُ دُونَمَا جِدَالٍ هِيَ الْمَصْدَرُ الْأَوَّلُ لِكُلِّ الِانْتِصَارَاتِ الَّتِي حَقَّقَهَا الْجَيْشُ الْإِسْلَامِيُّ، لَا فِي مَعْرَكَةِ الْمَصِيرِ بَعْدَ الِانْتِكَاسَةِ فِي أُحُدٍ، وَإِنَّمَا فِي جَمِيعِ الْمَعَارِكِ الَّتِي خَاضَهَا الْعَرَبُ وَغَيْرُ الْعَرَبِ فِي سَبِيلِ الْإِسْلَامِ وَتَحْتَ رَايَتِهِ.
جَيْشُ مَكَّةَ كَانَ جَيْشًا بِلَا عَقِيدَةٍ!
لِمَاذَا كَانَ يُحَارِبُ؟!!
إِنَّمَا هِيَ أَحْقَادٌ وَثَارَاتٌ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ، كِبْرٌ وَاسْتِعْلَاءٌ بِالشِّرْكِ وَالْبَاطِلِ!!
وَأَمَّا جُنْدُ الْمَدِينَةِ؛ فَإِنَّ مَبْدَأَهُمُ النَّصْرُ أَوِ الشَّهَادَةُ، إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ؛ إِمَّا النَّصْرُ وَإِمَّا الشَّهَادَةُ، وَالشَّهَادَةُ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ.
وَنَصَرَهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي ذَلِكَ الْمَوْطِنِ الْعَصِيبِ، ونَجَّاهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ تِلْكَ النَّجَاةَ الْمُبْهِرَةَ الَّتِي تُعْتَبَرُ نَصْرًا مُؤَزَّرًا سَجَّلَهُ جَيْشُ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى جَيْشِ مَكَّةَ؛ لِأَنَّ النَّصْرَ الْمَكِّيَّ كَانَ نَصْرًا تَعْبَوِيًّا، إِنَّمَا هِيَ لَحْظَةٌ ثُمَّ تَمُرُّ، وَالْأَمْرُ عَلَى أَصْلِهِ بِلَا تَحَوُّلٍ وَلَا انْتِقَالٍ.
((عَوْدَةُ النَّبِيِّ ﷺ إِلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ))
انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَسَاءَ السَّبْتِ رَاجِعًا إِلَى المَدِينَةِ، فَصَلَّى بِهَا المَغْرِبَ، وَكَانَتِ النِّسَاءُ قَدْ خَرَجْنَ يَتَلَقَّيْنَ النَّاسَ.
فَلَمَّا انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى بَيْتِهِ وَمَعَهُ عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ أَعْطَى سَيْفَهُ فَاطِمَةَ لِتَغْسِلَهُ.
أَخْرَجَ الحَاكِمُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: لَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ؛ أَعْطَى فَاطِمَةَ ابْنَتَهُ سَيْفَهُ، فَقَالَ: «يَا بُنَيَّةُ! اغْسِلِي عَنْ هَذَا الدَّمَ»، فَأَعْطَاهَا عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- سَيْفَهُ، وَقَالَ: ((وَهَذَا فَاغْسِلِي عَنْهُ دَمَهُ؛ فَوَاللهِ! لَقَدْ صَدَقَنِي اليَوْمَ القِتَالَ)).
وَبَاتَ الْمُسْلِمُونَ فِي اْلمَدِينَةِ لَيْلَةَ الْأَحَدِ مِنْ شَهْرِ شَوَّالٍ مِنَ السَّنَةِ الثَّالِثَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ، بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ غَزْوَةِ أُحُدٍ بَاتُوا لَيْلَةَ الأَحَدِ، يَحْرُسُونَ أَنْقَابَ المَدِينَةِ وَمَدَاخِلَهَا، وَقَدْ أَنْهَكَهُمُ التَّعَبُ.
وَبَاتَ الأَنْصَارُ عَلَى بَابِ الرَّسُولِ ﷺ بِالمَسْجِدِ يَحْرُسُونَهُ؛ خَوْفًا مِنْ هُجُومِ العَدُوِّ عَلَى المَدِينَةِ.
لَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يُحِيطُونَ بِالنَّبِيِّ ﷺ؛ حُبًّا لَهُ، وَحَدَبًا عَلَيْهِ مَعَ مَا بِهِمْ مِنَ التَّعَبِ وَالْجِرَاحِ، حَتَّى عَزَمَ عَلَيْهِمْ ﷺ رَحْمَةً بِهِمْ أَلَّا يَتْبَعَهُ جَرِيحٌ، وَبَقِيَ مَعَهُ الْآخَرُونَ، فِي مُقَدِّمَتِهِمْ السَّعْدَانِ: سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، حَتَّى وَصَلَ بَيْتَهُ، وَقَامُوا يَحْرُسُونَهُ خَوْفًا عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ ﷺ حِينَ صَلَّى الْعِشَاءَ رَجَعَ إِلَى بَيْتِهِ وَقَدْ صُفَّ لَهُ الرِّجَالُ مَا بَيْنَ بَيْتِهِ إِلَى مُصَلَّاهُ، يَمْشِي وَحْدَهُ حَتَّى دَخَلَ بَيْتَهُ، وَبَاتَتْ وُجُوهُ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ عَلَى بَابِهِ فِي الْمَسْجِدِ يَحْرُسُونَهُ؛ فَرَقًا -أَيْ: خَوْفًا- مِنْ قُرَيْشٍ أَنْ تَكِرَّ، يَعْنِي: أَنْ تَرْجِعَ بِجَيْشِهَا.
((حَدِيثُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ عَنْ غَزْوَةِ أُحُدٍ))
لَقَدْ تَحَدَّثَ الْقُرْآنُ الْمَجِيدُ عَنْ مَعْرَكَةِ أُحُدٍ بِإِسْهَابٍ، أَنْزَلَ اللهُ -تَعَالَى- فِيهَا سِتِّينَ آيَةً تَنَاوَلَتْ مُجْمَلَ الْأَحْدَاثِ وَالتَّطَوُّرَاتِ وَالتَّحَوُّلَاتِ الْمُفَاجِئَةِ، وَالِانْتِكَاسَاتِ الَّتِي أَصَابَتِ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْمَعْرَكَةِ الرَّهِيبَةِ.
قَالَ -تَعَالَى- فِي بَيَانِ سُنَّةِ اللهِ فِي الْأُمَمِ، وَأَنَّ النَّصْرَ لِلرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ، وَالْهَلَاكَ لِلْمُكَذِّبِينَ أَعْدَائِهِمْ: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران: 137] إِلَى قَوْلِهِ: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139].
{وَلَا تَهِنُوا} أَيْ: لَا تَضْعُفُوا عَنِ الْجِهَادِ بِسَبَبِ مَا جَرَى لَكُمْ، {وَلَا تَحْزَنُوا} عَلَى مَا أَصَابَكُمْ مِنْ قَتْلٍ وَجِرَاحٍ، {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ}: جَمْعُ الْأَعْلَى، أَيِ: الْأَعْلَوْنَ شَأْنًا؛ لِأَنَّ قِتَالَكُمْ للهِ وَفِي سَبِيلِ إِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ، وَلِأَنَّ قِتَالَهُمْ لِلشَّيْطَانِ وَلِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ، وَأَيْضًا فَقَتْلَاكُمْ فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ، ثُمَّ إِنَّكُمْ أَصَبْتُمْ مِنْهُمْ فِي بَدْرٍ أَكْثَرَ مِمَّا أَصَابُوا مِنْكُمْ.
{إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أَنَّ الْعَاقِبَةَ وَالنَّصْرَ لِلْمُؤْمِنِينَ، أَوْ إِنْ كُنْتُمْ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ الصَّادِقِ، فَفِيهِ تَهْيِيجٌ وَإِلْهَابٌ لِحَمَاسَتِهِمْ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ الصَّادِقَ لَا يَهِنُ صَاحِبُهُ وَلَا يَحْزَنُ لِمَا أَصَابَهُ، وَيَسْتَهِينُ بِكُلِّ شَدَائِدِ الْحَيَاةِ فِي سَبِيلِ الْعَقِيدَةِ الْحَقَّةِ وَالْغَايَةِ الشَّرِيفَةِ.
ثُمَّ بَيَّنَ -تَعَالَى- أَنَّ الْجَنَّةَ حُفَّتْ بِالْمَكَارِهِ؛ فَلَا مَحِيصَ لِمَنْ يَطْلُبُهَا مِنَ الْجِهَادِ، وَالصَّبْرِ، وَالْكِفَاحِ، وَالْقَتْلِ، وَالْعَنَتِ، وَالْجِرَاحِ، قَالَ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران : 142] إِلَى قَوْلِهِ: {وَأنْتُمْ تَنْظُرُونَ}.
((غَزْوَةُ حَمْرَاءِ الْأَسَدِ))
رَجَعَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى الْمَدِينَةِ وَقَدْ دَفَنَ بِأُحُدٍ سَبْعِينَ شَهِيدًا، وَبِأَصْحَابِهِ الْعَائِدِينَ جِرَاحٌ، فَأَظْهَرَ الْمُنَافِقُونَ وَالْيَهُودُ بِالْمَدِينَةِ فَرَحَهُمْ، وَفَارَتِ الْمَدِينَةُ بِالنِّفَاقِ وَالتَّشَفِّي.
وَلَمْ يَقِفْ أَمْرُهُمْ عِنْدَ حَدِّ السُّرُورِ وَالِانْشِرَاحِ النَّفْسِيِّ، بَلْ ظَهَرَتْ سَخَائِمُ نُفُوسِهِمْ فِي كَلِمَاتٍ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ، فَقَالَتِ الْيَهُودُ: ((لَوْ كَانَ نَبِيًّا مَا ظَهَرُوا عَلَيْهِ وَلَا أُصِيبَ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ طَالِبُ مُلْكٍ تَكُونُ لَهُ الدَّوْلَةُ وَعَلَيْهِ)).
ونَسُوا مَا حَلَّ بِأَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ تَقْتِيلٍ وَتَشْرِيدٍ؛ بَلْ نَسُوا فِرَارَ مُوسَى وَأَتْبَاعِهِ مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، وَلَوْ لَا أَنْ أَنْجَاهُمُ اللهُ لَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ.
وَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: ((لَوْ كُنْتُمْ أَطَعْتُمُونَا وَلَمْ تَخْرُجُوا لَمَا أَصَابَكُمْ مَا أَصَابَكُمْ)).
وَتَجَاوَزَ أَثَرُ أُحُدٍ الْمَدِينَةَ إِلَى مَنْ حَوْلَهَا مِنَ الْأَعْرَابِ وَالْقَبَائِلِ الْمُوَالِيَةِ لِأَهْلِ الشِّرْكِ، فَكَانَ لَا بُدَّ مِنَ اسْتِرْجَاعِ هَيْبَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِيذَانِ النَّاسِ جَمِيعًا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الرَّغْمِ مِمَّا نَالَهُمْ لَا يَزَالُونَ أَقْوِيَاءَ وَقَادِرِينَ عَلَى مُنَازَلَةِ أَعْدَائِهِمْ، فَكَانَ الْخُرُوجُ إِلَى ((غَزْوَةِ حَمْرَاءِ الْأَسَدِ)).
كَانَتْ غَزْوَةُ أُحُدٍ فِي يَوْمِ السَّبْتِ، وَرَجَعَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْهَا عَشِيَّةً، فَباتُوا لَيْلَةَ الْأَحَدِ، ثُمَّ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللهِ ﷺ بِالْخُرُوجِ إِلَى الْجِهَادِ؛ لِكَيْ يَتْبَعَ قُرَيْشًا، وَلَمْ يَأْذَنْ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهُ إِلَّا مَنْ شَهِدَ مَعَهُ أُحُدًا، مَعَ أَنَّهُ رُبَّمَا لَمْ يَخْلُ وَاحِدٌ مِمَّنْ شَهِدَ أُحُدًا مِنْ جِرَاحٍ أَلَمَّتْ بِهِ؛ وَلَكِنْ هِيَ قُوَّةُ الْإِيمَانِ.
بِالرَّغْمِ مِنْ أَنَّ الْجَيْشَ الْإِسْلَامِيَّ الَّذِي خَاضَ مَعْرَكَةَ أُحُدٍ مَا تَزَالُ جِرَاحُهُ تَنْضَحُ دَمًا؛ فَقَدْ صَدَرَتْ أَوَامِرُ الْقَائِدِ الْأَعْلَى الرَّسُولِ ﷺ بِأَنْ يَتَحَرَّكَ هَذَا الْجَيْشُ عَلَى جَنَاحِ السُّرْعَةِ؛ لِمُطَارَدَةِ جَيْشِ مَكَّةَ الَّذِي يُقَالُ: إِنَّهُ الْمُنْتَصِرُ.
وَمَتَى صَدَرَتْ هَذِهِ الْأَوَامِرُ إِلَى الْجَيْشِ الْإِسْلَامِيِّ؟
لَقَدْ صَدَرَتْ إِلَيْهِ هَذِهِ الْأَوَامِرُ النَّبَوِيَّةُ بَعْدَ مُرُورِ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَ عَشْرَةَ سَاعَةً عَلَى انْتِهَاءِ الْمَعْرَكَةِ الرَّهِيبَةِ الَّتِي خَاضَهَا هَذَا الْجَيْشُ فِي أُحُدٍ، وَالَّتِي نَالَهُ فِيهَا مَا نَالَهُ مِنَ انْدِحَارٍ تَعْبَوِيٍّ.
وَحِرْصًا مِنَ النَّبِيِّ الْقَائِدِ الْمُحَنَّكِ الْعَظِيمِ عَلَى إِظْهَارِ الْمُسْلِمِينَ أَمَامَ أَعْدَائِهِمْ الْمُتَرَبِّصِينَ بِهِمْ، وَالظَّانِّينَ بِهِمْ ظَنَّ الضَّعْفِ وَالِانْهِيَارِ.. حِرْصًا مِنْهُ عَلَى إِظْهَارِ الْمُسْلِمِينَ بِمَظْهَرِ الْقُوَّةِ وَالنَّجْدَةِ، وَالتَّمَاسُكِ وَالثَّبَاتِ، وَعَدَمِ الِاكْتِرَاثِ بِمَا أَصَابَهُمْ فِي مَعْرَكَةِ أُحُدٍ أَمَرَ أَلَّا يَشْتَرِكَ فِي حَمْلَةِ مُطَارَدَةِ الْجَيْشِ الْمَكِّيِّ إِلَّا الْجُنْدُ الَّذِينَ خَاضُوا مَعْرَكَةَ أُحُدٍ فَقَطْ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ((فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ لِسِتَّ عَشْرَةَ لَيْلَةً مِنْ شَوَّالٍ؛ أَذَّنَ مُؤَذِّنُ الرَّسُولِ ﷺ فِي النَّاسِ بِطَلَبِ الْعَدُوِّ، فَأَذَّنَ مُؤَذِّنُهُ أَلَّا يَخْرُجَنَّ مَعَنَا أَحَدٌ إِلَّا أَحَدًا حَضَرَنَا يَوْمَنَا بِالْأَمْسِ)) يَعْنِي: كَانَ شَاهِدًا مَعَنَا مَعْرَكَةَ أُحُدٍ.
((غَزْوَةُ حَمْرَاءِ الْأَسَدِ)) كَانَتْ يَوْمَ الْأَحَدِ، بَعْدَ أُحُدٍ بِيَوْمٍ وَاحِدٍ فَقَطْ؛ لِأَنَّ أُحُدًا كَانَتْ يَوْمَ السَّبْتِ لِسِتَّ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْ شَوَّالٍ.
وَأَمَّا سَبَبُ ((غَزْوَةِ حَمْرَاءِ الْأَسَدِ))؛ فَكَانَ سَبَبُهَا مَا بَلَغَ الرَّسُولَ ﷺ -بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا مَرَّ- عَنْ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ أَنَّهُ يُرِيدُ الرُّجُوعَ بِقُرَيْشٍ إِلَى الْمَدِينَةِ؛ لِيَسْتَأْصِلُوا مَنْ بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ فِي «السُّنَنِ الْكُبْرَى» بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((لَمَّا انْصَرَفَ الْمُشْرِكُونَ عَنْ أُحُدٍ، وَبَلَغُوا (الرَّوْحَاءَ) -والرَّوْحَاءُ: مَوْضِعٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ سِتَّةٌ وَثَلاثُونَ مِيلًا-؛ قَالُوا: لَا مُحَمَّدًا قتَلْتُمُوهُ، وَلَا الكَوَاعِبَ أَرْدَفْتُمْ، وَبِئْسَ مَا صَنَعْتُمْ!!
الْكَوَاعِبُ: جَمْعُ كَاعِبٍ، وَهِيَ الْفَتَاةُ إِذَا نَهَدَ ثَدْيُهَا، أَيْ: إِذَا ارْتَفَعَ عَنْ صَدْرِهَا وَصَارَ لَهُ حَجْمٌ.
لَا مُحَمَّدًا قتَلْتُمُوهُ، وَلَا الكَوَاعِبَ أَرْدَفْتُمْ، وَبِئْسَ مَا صَنَعْتُمْ!! ارْجِعُوا، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فنَدَبَ النَّاسَ، فَانتدَبُوا حَتَّى بَلَغُوا (حَمْرَاءَ الْأَسَدِ)، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الصُّبْحَ أَمَرَ بِلَالًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنْ يُنَادِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّه ﷺ يَأْمُرُكُمْ بِطَلَبِ العَدُوِّ، وَلَا يَخْرُجُ مَعَنَا إِلَّا مَنْ شَهِدَ القِتَالَ بِالأَمْسِ.
فكَلَّمَ جَابِرٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ! إِنَّ أَبِي كَانَ خَلَّفَنِي عَلَى أَخَوَاتٍ لِي سَبْعٍ -أَوْ قَالَ تِسْعٍ-، وَقَالَ: يَا بُنَيَّ! إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِي وَلَا لَكَ أَنْ نَتْرُكَ هَؤُلَاءِ النِّسْوَةَ لَا رَجُلَ فِيهِنَّ، وَلَسْتُ بِالذِي أُوثِرُكَ بِالجِهَادِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَلَى نَفْسِي؛ فتَخَلَّفْ عَلَى أَخَوَاتِكَ، فتَخَلَّفْتُ عَلَيْهِنَّ، وَلَا أُحِبُّ أَنْ تَتَوَجَّهَ وَجْهًا إِلَّا كُنْتُ مَعَكَ؛ فَأْذَنْ لِي أَخْرُجْ مَعَكَ، فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَلَمْ يَخْرُجْ مَعَهُ أَحَدٌ لَمْ يَشْهَدِ القِتَالَ يَوْمَ أُحُدٍ غَيْرَهُ)).
وَاسْتَأْذَنَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ أُبَيِّ بنِ سَلُولٍ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بِأَنْ يَذْهَبَ مَعَهُ، فَأَبَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ذَلِكَ وَرَدَّهُ .
كَانَ أَبُو سُفْيَانَ قَدْ تَوَقَّفَ بِجَيْشِهِ، وَعَسْكَرَ بِهِ فِي (الرَّوْحَاءِ)، وَهُوَ مَكَانٌ لَا يَبْعُدُ كَثِيرًا عَنْ (حَمْرَاءِ الْأَسَدِ)، وَيَظْهَرُ أَنَّ بَعْضَ الْقَادَةِ فِي جَيْشِ مَكَّةَ وَجَّهُوا اللَّوْمَ إِلَى الْقَائِدِ الْعَامِّ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ؛ لِعَدَمِ هُجُومِهِ عَلَى الْمَدِينَةِ سَاعَةَ انْسِحَابِهِ مِنْ أُحُدٍ، وَمُسَارَعَتِهِ بِالِانْسِحَابِ مِنَ الْمَيْدَانِ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ عَلَى جَيْشِ الْمَدِينَةِ وَيَسْتَأْصِلَ شَأْفَتَهُ.
وَطَلَبُوا مِنْهُ فِي إِلْحَاحٍ أَنْ يُسَارِعَ بِالْعَوْدَةِ؛ لِمُهَاجَمَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَدِينَةِ؛ حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ مُوَجِّهَا اللَّوْمَ لِأَبِي سُفْيَانَ: ((لَا مُحَمَّدًا قَتَلْتُمْ، وَلَا الْكَوَاعِبَ أَرْدَفْتُمْ -يَعْنِي: السَّبَايَا-، بِئْسَ مَا صَنَعْتُمْ، إِنَّكُمْ قَتَلْتُمُوهُمْ حَتَّى لَمْ يَبْقَ إِلَّا الشَّرِيدُ تَرَكْتُمُوهُ، ارْجِعُوا فَاسْتَأْصِلُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَجِدُوا قُوَّةً وَشَوْكَةً)).
هَذَا الْكَلَامُ وَجَّهَهُ بَعْضُ أُولَئِكَ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ فِي الْمُؤْتَمَرِ الَّذِي عَقَدَهُ قَادَةُ جَيْشِ مَكَّةَ فِي (فَجِّ الرَّوْحَاءِ)؛ لِمُنَاقَشَةِ اقْتِرَاحِ بَعْضِ الْقَادَةِ الَّذِينَ دَعَوْا إِلَى أَنْ يَعُودَ جَيْشُ مَكَّةَ مِنَ (الرَّوْحَاءِ)؛ لِمُهَاجَمَةِ الْمَدِينَةِ بَعْدَ أَنْ ذَهَبُوا عَنْهَا.
وَبِالرَّغْمِ مِنْ أَنَّ أَكْثَرَ الْقَادَةِ فِي الْجَيْشِ الْمَكِّيِّ كَانُوا يُحَبِّذُونَ هَذَا الرَّأْيَ؛ فَإِنَّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ الْجُمَحِيَّ خَالَفَهُمْ فِي هَذَا الرَّأْيِ، وَنَصَحَهُمْ بِأَنْ يَمْضُوا فِي انْسِحَابِهِمْ إِلَى مَكَّةَ، وَأَلَّا يُفَكِّرُوا فِي الْعَوْدَةِ بِجَيْشِهِمْ لِمُقَاتَلَةِ الْجَيْشِ الْمَدَنِيِّ؛ لِأَنَّهُ يَخْشَى عَلَيْهِمْ أَنْ يُصَابُوا بِنَكْسَةٍ كَبِيرَةٍ؛ حَيْثُ قَالَ لَهُمْ: ((يَا قَوْمُ! لَا تَفْعَلُوا؛ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَجْمَعَ عَلَيْكُمْ مَنْ تَخَلَّفَ عَنِ الْخُرُوجِ -يَعْنِي: الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَمْ يَشْهَدُوا أُحُدًا-، فَارْجِعُوا وَالدَّوْلَةُ لَكُمْ؛ فَإِنِّي لَا آمَنُ إِنْ رَجَعْتُمْ أَنْ تَكُونَ الدَّوْلَةُ عَلَيْكُمْ)).
وَيَظْهَرُ أَنَّ الْقَائِدَ الْعَامَّ أَبَا سُفْيَانَ كَانَ يُشَاطِرُ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ رَأْيَهُ؛ إِلَّا أَنَّهُ مَالَ أَخِيرًا إِلَى رَأْيِ الْقَادَةِ الَّذِينَ أَصَرُّوا عَلَى الْعَوْدَةِ بِالْجَيْشِ الْمَكِّيِّ؛ لِمُهَاجَمَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَدِينَةِ.
بَيْنَمَا قَادَةُ الْجَيْشِ الْمَكِّيِّ يَتَدَاوَلُونَ الرَّأْيَ فِي مُؤْتَمَرِهِمْ بِـ(الرَّوْحَاءِ)؛ إِذَا بِاسْتِخْبَارَاتِهِمُ الْعَسْكَرِيَّةِ تَنْقُلُ إِلَيْهِمْ خَبَرَ خُرُوجِ الْجَيْشِ الْمَدَنِيِّ؛ لِمُطَارَدَتِهِمْ بِقِيَادَةِ النَّبِيِّ ﷺ، وَأَنَّ هَذَا الْجَيْشَ قَدْ عَسْكَرَ بِالْقُرْبِ مِنْهُمْ فِي (حَمْرَاءِ الْأَسَدِ) فِي تَحَدٍّ سَافِرٍ، فَأُسْقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ، وَخَارَتْ عَزَائِمُهُمْ، وَامْتَلَأَتْ نُفُوسُهُمْ رُعْبًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَتَأَكَّدَ لَدَيْهِمْ أَنَّهُمْ أَجْبَنُ مِنْ أَنْ يَخُوضُوا الْمَعْرَكَةَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْعَرَاءِ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُهَاجِمُوهُمْ فِي الْمَدِينَةِ، فَاسْتَصْوَبُوا رَأْيَ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ.
وَبَدلًا مِنْ أَنْ يَرْسُمُوا الْخُطَّةَ لِمُهَاجَمَةِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا تَقَرَّرَ فِي مُؤْتَمَرِ الرَّوْحَاءِ أَخَذُوا يُفَكِّرُونَ فِي الطَّرِيقَةِ الَّتِي بِهَا يَنْسَحِبُونَ مِنَ (الرَّوْحَاءِ) مَعَ مُحَافَظَتِهِمْ عَلى قِيمَةِ النَّصْرِ الِاسْمِيِّ الَّذِي حَصَلُوا عَلَيْهِ فِي مَعْرَكَةِ أُحُدٍ.
هَذِهِ الْقِيمَةُ الَّتِي سَتَضِيعُ فِي نَظَرِ سُكَّانِ الْجَزِيرَةِ الْعَرَبِيَّةِ إِذَا مَا عَلِمُوا أَنَّ جَيْشَ مَكَّةَ قَدْ نَكَلَ عَنِ الْحَرْبِ الَّتِي خَرَجَ لِيَخُوضَهَا مَعَهُ جَيْشُ الْمَدِينَةِ الَّذِي عَسْكَرَ فِي تَحَدٍّ عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنْهُمْ فِي (حَمْرَاءِ الْأَسَدِ).
فَقَدْ وَقَعَ فِي رُوْعِ الْجَيْشِ الْمَكِّيِّ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدْ جَاءَ مِنَ الْمَدِينَةِ بِمَدَدٍ جَدِيدٍ لِمُقَاتَلَتِهِمْ، فَخَافُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَوْفًا شَدِيدًا.
حَمَلَ لِوَاءَ المُسْلِمِينَ عِنْدَ خُرُوجِ الرَّسُولِ ﷺ إِلَى حَمْرَاءِ الْأَسْدِ عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَاسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى المَدِينَةِ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ مَجْرُوحٌ فِي وَجْهِهِ، وَمَشْجُوجٌ فِي جَبْهَتِهِ، وَقَدْ كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ، وَهُوَ مُتَوَهِّنٌ مَنْكِبُهُ الأَيْمَنُ مِنْ ضَرْبَةِ ابْنِ قَمِئَةَ، وَرُكْبَتَاهُ مَجْحُوشَتَانِ، وَخَرَجَ مَعَهُ جَمِيعُ مَنْ حَضَرَ القِتَالَ بِأُحُدٍ عَلَى مَا بِهِمْ مِنَ الجِرَاحِ وَالقَرْحِ.
أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي ((صَحِيحَيْهِمَا)) عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: (({الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 172]، قَالَتْ لِعُرْوَةَ: يَا ابْنَ أُخْتِي! كَانَ أَبَوَاكَ مِنْهُمْ؛ الزُّبَيْرُ وَأَبُو بَكْرٍ، لَمَّا أَصَابَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مَا أَصَابَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَانْصَرَفَ المُشْرِكُونَ خَافَ أَنْ يَرْجِعُوا.
قَالَ: «مَنْ يَذْهَبُ فِي أَثَرِهِمْ؟» فَانْتَدَبَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا، كَانَ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَالزُّبَيْرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- )).
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- عِنْدَ قَوْلِهَا: ((فَانْتَدَبَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا)): هَذَا السِّيَاقُ غَرِيبٌ جِدًّا؛ فَإِنَّ الْمَشْهُورَ عِنْدَ أَصْحَابِ الْمَغَازِي: أَنَّ الَّذِينَ خَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ إِلَى (حَمْرَاءِ الْأَسَدِ) كُلُّ مَنْ شَهِدَ أُحُدًا، وَكَانُوا سَبْعَ مِائَةٍ، قُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ، وَبَقِيَ الْبَاقُونَ)).
وَقَالَ الشَّامِيُّ فِي «سُبُلِ الْهُدَى وَالرَّشَادِ»: ((وَلَا تَخَالُفَ بَيْنَ قَوْلِ عَائِشَةَ وَمَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُ الْمَغَازِي؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ السَّبْعُونَ سَبَقُوا غَيْرَهُمْ، ثُمَّ تَلَاحَقَ الْبَاقُونَ، وَلَمْ يُنَبِّهْ عَلَى ذَلِكَ الْحَافِظُ فِي «الْفَتْحِ» )).
مَضَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَدَلِيلُهُ فِي السَّيْرِ ثَابِتُ بنُ الضَّحَّاكِ الخَزْرَجِيُّ حَتَّى عَسْكَرَ بِـ(حَمْرَاءِ الأَسَدِ)، وَأَقَامَ المُسْلِمُونَ بِذَلِكَ المَكَانِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، وَكَانُوا يُوقِدُونَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنَ اللَّيَالِي النِّيرَانَ؛ حَتَّى كَانَتْ تُرَى مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ.
وَلَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِـ(حَمْرَاءِ الأَسَدِ) مَعْبَدَ بنَ أَبِي مَعْبَدٍ الخُزَاعِيَّ، وَكَانَتْ خُزَاعَةُ مُسْلِمُهُمْ وَمُشْرِكُهُمْ هَوَاهُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَكَانُوا لَا يُخْفُونَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ شَيْئًا كَانَ بِهَا، وَمَعْبَدٌ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ، فَقَالَ: ((يَا مُحَمَّدُ! أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ عَزَّ عَلَيْنَا -أَيِ: اشْتَدَّ وَعَظُمَ علَيْنَا- مَا أَصَابَكَ فِي أَصْحَابِكَ، وَلَوَدِدْنَا أَنَّ اللَّهَ عَافَاكَ فِيهِمْ)).
ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى لَقِيَ أبَا سُفْيَانَ بنَ حَرْبٍ وَمَنْ مَعَهُ بِـ(الرَّوْحَاءَ)، وَقَدْ أَجْمَعُوا الرَّجْعَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَأَصْحَابِهِ، فَلَمَّا رَأَى أَبُو سُفْيَانَ مَعْبَدًا قَالَ: ((مَا وَرَاءَكَ يَا مَعْبَدُ؟)).
قَالَ: ((مُحَمَّدٌ خَرَجَ فِي أَصْحَابِهِ يَطْلُبُكُمْ فِي جَمْعٍ لَمْ أَرَ مِثْلَهُ قَطُّ، يَتَحَرَّقُونَ -أَيْ: يَتَلَهَّبُونَ- عَلَيْكُمْ تَحَرُّقًا، قَدِ اجْتَمَعَ مَعَهُ مَنْ كَانَ تَخَلَّفَ عَنْهُ فِي يَوْمِكُم -أَيْ: فِي أُحُدٍ- ، فِيهِمْ مِنَ الحَنَقِ عَلَيْكُمْ مَا لَمْ أَرَ مِثْلَهُ قَطُّ)).
قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: ((وَيْحَكَ! مَا تَقُولُ؟!)).
قَالَ: ((وَاللهِ! مَا أَرَى أَنْ تَرْتَحِلَ -أَيْ: مِنْ مَكَانِكَ- بِالرَّوْحَاءِ حَتَّى ترَى نَوَاصِيَ الخَيْلِ)).
قَالَ: ((فَوَاللهِ! لَقَدْ أَجْمَعْنَا الكَرَّةَ عَلَيْهِمْ؛ لِنَسْتَأْصِلَ بَقِيَّتَهُمْ)).
قَالَ: ((فَإِنِّي أَنْهَاكَ عَنْ ذَلِكَ)).
فَخَافَ أَبُو سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ، فَأَسْرَعُوا إِلَى مَكَّةَ، وَعِنْدَ انْصِرَافِهِمْ مَرَّ بِأَبِي سُفْيَانَ رَكْبٌ مِنْ عَبْدِ القَيْسِ.
فَقَالَ لَهُمْ: ((أَيْنَ تُرِيدُونَ؟)).
قَالُوا: ((نُرِيدُ المَدِينَةَ)).
قَالَ: ((وَلِمَ؟)).
قَالُوا: ((نُرِيدُ الْمِيرَةَ)) أَيِ: الطَّعَامَ وَنَحْوَهُ مِمَّا يُجْلَبُ لِلْبَيْعِ.
قَالَ: ((فَهَلْ أَنْتُمْ مُبَلِّغُونَ عَنِّي مُحَمَّدًا رِسَالَةً أُرْسِلُكُمْ بِهَا إِلَيْهِ، وَأُحَمِّلُ لَكُمْ إِبِلَكُمْ غَدًا زَبِيبًا بِعُكَاظَ إِذَا وَافَيْتُمُوهَا؟)).
قَالُوا: ((نَعَمْ)).
قَالَ: ((فَإِذَا وَافَيْتُمُوهُ -يَعْنِي: النَّبِيَّ ﷺ- فَأَخْبِرُوهُ أَنَّا قَدْ أَجْمَعْنَا السَّيْرَ إِلَيْهِ وَإِلَى أَصْحَابِهِ؛ لِنَسْتَأْصِلَ بَقِيَّتَهُمْ)).
فَمَرَّ الرَّكْبُ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ بِـ(حَمْرَاءِ الأَسَدِ)، فَأَخْبَرُوهُ بِالذِي قَالَهُ أَبُو سُفْيَانَ، فَقَالَ ﷺ: «حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكيلُ».
وَفِي هَذَا المَوْقِفِ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 172-174].
أَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ؛ قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ (سلم) حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ ﷺ حِينَ قَالُوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ})).
وَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِـ(حَمْرَاءِ الأَسَدِ) ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ -كَمَا ذَكَرْنَا-، وَفِي يَوْمِ الأَرْبِعَاءِ عَادَ إِلَى المَدِينَةِ، وَقَدِ اسْتَرَدَّ المُسْلِمُونَ الكَثِيرَ مِنْ هَيْبَتِهِمْ بَعْدَ أَنْ كَادَتْ تَتَزَعْزَعُ بِسَبَبِ غَزْوَةِ أُحُدٍ.
بَعْدَ انْسِحَابِ أَبِي سُفْيَانَ بِعَسْكَرِهِ مِنَ (الرَّوْحَاءِ) إِلَى مَكَّةَ عَادَ النَّبِيُّ ﷺ بِجَيْشِهِ الْبَاسِلِ إِلَى الْمَدِينَةِ مَرْفُوعَ الرَّأْسِ، وَقَدْ سَجَّلَ بِهَذِهِ الْحَرَكَةِ الْعَسْكَرِيَّةِ الْجَرِيئَةِ السَّرِيعَةِ نَصْرًا سِيَاسِيًّا وَعَسْكَرِيًّا بَاهِرًا؛ فَقَدْ كَانَتْ ((حَمْلَةُ حَمْرَاءَ الْأَسَدِ)) النَّاجِحَةُ سَبَبًا فِي اسْتِعَادَةِ هَيْبَةِ الْمُسْلِمِينَ وَمَكَانَتِهِمْ فِي النُّفُوسِ؛ حَيْثُ أَثْبَتُوا بِهَذِهِ الْحَمْلَةِ الْجَرِيئَةِ لِلْمُتَرَبِّصِينَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودِ وَالْأَعْرَابِ فَسَادَ ظَنِّهِمْ، وَخَطَأَ تَفْكِيرِهِمْ، وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَعْظَمُ وَأَشَدُّ وَأَقْوَى مِمَّا كَانُوا يَظُنُّونَ.
كَمَا أَثْبَتَ الرَّسُولُ الْقَائِدُ الْعَظِيمُ بِهَذِه الْحَرَكَةِ السَّرِيعَةِ لِلْعَرَبِ أَجْمَعِينَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ لَمْ يَكُنْ مُنْتَصِرًا انْتِصَارًا حَقِيقِيًّا فِي مَعْرَكَةِ أُحُدٍ، وَأَنَّ نَصْرَهُ لَمْ يَكُنْ إِلَّا نَصْرًا مُزَيَّفًا جَاءَ نَتِيجَةَ غَلْطَةٍ فَحَسْبُ.
وَقَدْ أَقَرَّ كِبَارُ الْقَادَةِ الْعَسْكَرِيِّينَ فِي السَّابِقِ وَالْحَاضِرِ بِأَنَّ حَرَكَةَ الْمُطَارَدَةِ الَّتِي قَامَ بِهَا النَّبِيُّ ﷺ إِلَى (حَمْرَاءِ الْأَسَدِ) كَانَتْ مُنَاوَرَةً عَسْكَرِيَّةً رَائِعَةً؛ حَيْثُ حَفِظَ بِهَا النَّبِيُّ ﷺ سُمْعَةَ جَيْشِهِ، وَاسْتَعَادَ بِهَا هَيْبَتَهُمْ ومَكَانَتَهُمُ الَّتِي كَادُوا يَفْقِدُونَهَا عَلَى إِثْرِ مَا أَصَابَهُمْ فِي مَعْرَكَةِ أُحُدٍ.
إِنَّ خُرُوجَ الرَّسُولِ ﷺ إِلَى (حَمْرَاءِ الْأَسَدِ) يُعَدُّ مَظْهَرًا مِنْ مَظَاهِرِ الْكَمَالِ الْمُحَمَّدِيِّ؛ مِنْ شَجَاعَةٍ، وَتَحَمُّلٍ، وَصَبْرٍ، وَعَدَمِ اسْتِسْلَامٍ لِأَيِّ مَظْهَرٍ مِنْ مَظَاهِرِ الْهَزِيمَةِ، وَحُسْنِ سِيَاسَةٍ، كَمَا يُعَدُّ بَيَانًا لِفَضْلِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ طَاعَةٍ، وَصَبْرٍ وَتَحَمُّلٍ، وَاسْتِجَابَةٍ للهِ وَالرَّسُولِ.
وَفِيهِمْ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 172-174].
((دُرُوسٌ وَعِبَرٌ عَظِيمَةٌ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ))
إِنَّ يَوْمَ أُحُدٍ مِنَ الْأَيَّامِ الْعَظِيمَةِ فِي تَارِيخِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُتَأَمِّلُ فِي هَذَا الْيَوْمِ يَجِدُ أَنَّهُ مَلِيءٌ بِالدُّرُوسِ وَالْعِبَرِ؛ فَنَلْحَظُ مِنْ خِلَالِ أَحْدَاثِ غَزْوَةِ أُحُدٍ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ انْتَصَرُوا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ حِينَمَا امْتَثَلُوا لِأَوَامِرِ الرَّسُولِ ﷺ، وَانْقَادُوا لِتَعْلِيمَاتِ قَائِدِهِمْ وَآمِرِهِمْ عَبْدِ اللهِ بْنِ جُبَيْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، بَيْنَمَا انْهَزَمُوا حِينَمَا خَالَفُوا أَمْرَهُ ﷺ، وَنَزَلَ الرُّمَاةُ مِنَ الْجَبَلِ؛ لِجَمْعِ الْغَنَائِمِ مَعَ بَقِيَّةِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-.
قَالَ تَعَالَى: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [آل عمران : 153].
قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِينَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَمِنْ آثَارِ عَدَمِ الطَّاعَةِ: مَا حَصَلَ مِنْ مَعْصِيَةِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَالنَّبِيُّ ﷺ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ وَهُمْ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ.
وَالَّذِي حَصَلَ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْغَلَبَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَرَأَى بَعْضُ الرُّمَاةِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ انْهَزَمُوا؛ تَرَكُوا الْمَوْضِعَ الَّذِي أَمَرَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ أَلَا يَبْرَحُوهُ، وَذَهَبُوا مَعَ النَّاسِ، وَبِهَذَا كَرَّ الْعَدُوُّ عَلَيْهِمْ مِنَ الْخَلْفِ، وَحَصَلَ مَا حَصَلَ مِنَ الِابْتِلَاءِ وَالتَّمْحِيصِ لِلْمُؤْمِنِين.
وَقَدْ أَشَارَ اللهُ -تَعَالَى- إِلَى هَذِهِ الْعِلَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 152].
هَذِهِ الْمَعْصِيَةُ الَّتِي فَاتَ بِهَا نَصْرٌ انْعَقَدَتْ أَسْبَابُهُ وَبَدَتْ أَوَائِلُهُ؛ هِيَ مَعْصِيَةٌ وَاحِدَةٌ وَالرَّسُولُ ﷺ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ؛ فَكَيْفَ بِالْمَعَاصِي الْكَثِيرَةِ؟!!
قَالَ: وَلِهَذَا نَقُولُ: إِنَّ الْمَعَاصِيَ مِنْ آثَارِهَا: أَنَّ اللهَ يُسَلِّطُ بَعْضَ الظَّالِمِينَ عَلَى بَعْضٍ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، وَيَفُوتُهُمْ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ وَالْعِزَّةِ بِقَدْرِ مَا ظَلَمُوا فِيهِ أَنْفُسَهُمْ)).
بَسَطَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي «الزَّادِ» الدُّرُوسَ وَالْعِبَرَ الَّتِي كَانَتْ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ، فَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((مِنْهَا: تَعْرِيفُهُمْ سُوءَ عَاقِبَةِ الْمَعْصِيَةِ، وَالْفَشَلِ، وَالتَّنَازُعِ، وَأَنَّ الَّذِي أَصَابَهُمْ إِنَّمَا هُوَ بِشُؤْمِ ذَلِكَ.
قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 152].
فَلَمَّا ذَاقُوا عَاقِبَةَ مَعْصِيَتِهِمْ لِلرَّسُولِ ﷺ، وَتَنَازُعِهِمْ، وَفَشَلِهِمْ؛ كَانُوا بَعْدَ ذَلِكَ أَشَدَّ حَذَرًا وَأَتَمَّ يَقَظَةً وَتَحَرُّزًا مِنْ أَسْبَابِ الْخِذْلَانِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ حِكْمَةَ اللهِ وَسُنَّتَهُ فِي رُسُلِهِ وَأَتْبَاعِ الرُّسُلِ جَرَتْ بِأَنْ يُدَالُوا مَرَّةً، وَيُدَالَ عَلَيْهِمْ أُخْرَى؛ لَكِنْ تَكُونُ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ؛ فَإِنَّهُمْ لَوِ انْتَصَرُوا دَائِمًا دَخَلَ مَعَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَغَيْرُهُمْ، وَلَمْ يَتَمَيَّزِ الصَّادِقُ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَوِ انْتَصَرَ عَلَيْهِمْ عَدُوُّهُمْ دَائِمًا لَمْ يَحْصُلِ الْمَقْصُودُ مِنَ الْبِعْثَةِ وَالرِّسَالَةِ؛ فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللهِ أَنْ جَمَعَ لَهُمْ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ؛ لِيَمِيزَ مَنْ يَتْبَعُهُمْ وَيُطِيعُهُمْ لِلْحَقِّ وَمَا جَاءُوا بِهِ مِمَّنْ يَتَّبِعُهُمْ عَلَى الظُّهُورِ وَالْغَلَبَةِ خَاصَّةً.
وَمِنَ الْحِكَمِ وَالْغَايَاتِ الْمَحْمُودَةِ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ: أَنَّ هَذَا الَّذِي وَقَعَ مِنْ أَعْلَامِ الرُّسُلِ، كَمَا قَالَ هِرَقْلُ لِأَبِي سُفْيَانَ: ((هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟)).
قَالَ: ((نَعَمْ)).
قَالَ: ((كَيْفَ الْحَرْبُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ؟)).
قَالَ: ((سِجَالٌ، يُدَالُ عَلَيْنَا الْمَرَّةَ، وَنُدَالُ عَلَيْهِ الْأُخْرَى)).
قَالَ: ((كَذَلِكَ الرُّسُلُ؛ تُبْتَلَى، ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَمِنْهَا: أَنْ يَتَمَيَّزَ الْمُؤْمِنُ الصَّادِقُ مِنَ الْمُنَافِقِ الْكَاذِبِ؛ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا أَظْهَرَهُمُ اللهُ عَلَى أَعْدَائِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَطَارَ لَهُمُ الصِّيتُ -أَيِ: الذِّكْرُ- وَالشُّهْرَةُ وَالْعِرْفَانُ؛ دَخَلَ مَعَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ ظَاهِرًا مَنْ لَيْسَ مَعَهُمْ فِيهِ بَاطِنًا؛ فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنْ سَبَّبَ لِعِبَادِهِ مِحْنَةً مَيَّزَتْ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْمُنَافِقِ، فَأَطْلَعَ الْمُنَافِقُونَ رُؤُوسَهُمْ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ، وَتَكَلَّمُوا بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَهُ، وَظَهَرَتْ مُخَبَّآتُهُمْ، وَعَادَ تَلْوِيحُهُمْ تَصْرِيحًا.
وَانْقَسَمَ إِلَى كَافِرٍ، وَمُؤْمِنٍ، وَمُنَافِقٍ انْقِسَامًا ظَاهِرًا، وَعَرَفَ الْمُؤْمِنُونَ أَنَّ لَهُمْ عَدُوًّا فِي نَفْسِ دَوْرِهِمْ، وَهُمْ مَعَهُمْ لَا يُفَارِقُونَهُمْ؛ فَاسْتَعَدُّوا لَهُمْ، وَتَحَرَّزُوا مِنْهُمْ.
وَمِنَ الْحِكَمِ وَالْعِبَرِ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ: أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- لَوْ نَصَرَهُمْ دَائِمًا، وَأَظْفَرَهُمْ بِعَدُوِّهِمْ فِي كُلِّ مَوْطِنٍ، وَجَعَلَ لَهُمُ التَّمْكِينَ وَالْقَهْرَ لِأَعْدَائِهِمْ دَائِمًا؛ لَطَغَتْ نُفُوسُهُمْ وَشَمَخَتْ وَارْتَفَعَتْ.
فَلَوْ بُسِطَ لَهُمُ النَّصْرُ وَالظَّفَرُ لَكَانُوا فِي الْحَالِ الَّتِي يَكُونُونَ فِيهَا لَوْ بُسِطَ لَهُمُ الرِّزْقُ؛ فَلَا يُصْلِحُ عِبَادَهُ إِلَّا السَّرَّاءُ وَالضَّرَّاءُ، وَالشِّدَّةُ وَالرَّخَاءُ، وَالْقَبْضُ وَالْبَسْطُ، فَهُوَ الْمُدَبِّرُ لِأَمْرِ عِبَادِهِ كَمَا يَلِيقُ بِحِكْمَتِهِ، إِنَّهُ بِهِمْ خَبِيرٌ بَصِيرٌ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ إِذَا امْتَحَنَهُمْ بِالْغَلَبَةِ وَالْكَسْرَةِ وَالْهَزِيمَةِ؛ ذَلُّوا وَانْكَسَرُوا وَخَضَعُوا وَأَنَابُوا، فَاسْتَوْجَبُوا مِنْهُ الْعِزَّ وَالنَّصْرَ؛ فَإِنَّ خِلْعَةَ النَّصْرِ إِنَّمَا تَكُونُ مَعَ وِلَايَةِ الذُّلِّ وَالِانْكِسَارِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: 123] [آل عمران: 123] .
وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا} [التوبة: 25] [التوبة: 25] .
فَهُوَ -سُبْحَانَهُ- إِذَا أَرَادَ أَنْ يُعِزَّ عَبْدَهُ وَيَجْبُرَهُ وَيَنْصُرَهُ؛ كَسَرَهُ أَوَّلًا، وَيَكُونُ جَبْرُهُ لَهُ وَنَصْرُهُ عَلَى مِقْدَارِ ذُلِّهِ وَانْكِسَارِهِ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ -سُبْحَانَهُ- هَيَّأَ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ مَنَازِلَ فِي دَارِ كَرَامَتِهِ لَمْ تَبْلُغْهَا أَعْمَالُهُمْ، وَلَمْ يَكُونُوا بَالِغِيهَا إِلَّا بِالْبَلَاءِ وَالْمِحْنَةِ، فَيُقَيِّضُ لَهُمُ الْأَسْبَابَ الَّتِي تُوصِلُهُمْ إِلَيْهَا؛ مِنَ ابْتِلَائِهِ وَامْتِحَانِهِ، كَمَا وَفَّقَهُمْ لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ جُمْلَةِ أَسْبَابِ وُصُولِهِمْ إِلَيْهَا.
وَمِنَ الْحِكَمِ وَالْعِبَرِ مِمَّا وَقَعَ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ: أَنَّ النُّفُوسَ تَكْتَسِبُ مِنَ الْعَافِيَةِ الدَّائِمَةِ وَالنَّصْرِ وَالْغِنَى طُغْيَانًا وَرُكُونًا إِلَى الْعَاجِلَةِ، وَذَلِكَ مَرَضٌ يَعُوقُهَا عَنْ جِدِّهَا فِي سَيْرِهَا إِلَى اللهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ.
فَإِذَا أَرَادَ بِهَا رَبُّهَا وَمَالِكُهَا وَرَاحِمُهَا كَرَامَتَهُ؛ قَيَّضَ لَهَا مِنَ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ مَا يَكُونُ دَوَاءً لِذَلِكَ الْمَرَضِ الْعَائِقِ عَنِ السَّيْرِ الْحَثِيثِ إِلَيْهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ الْبَلَاءُ وَالْمِحْنَةُ بِمَنْزِلَةِ الطَّبِيبِ يَسْقِي الْعَلِيلَ الدَّوَاءَ الْكَرِيهَ، وَيَقْطَعُ مِنْهُ الْعُرُوقَ الْمُؤْلِمَةَ لِاسْتِخْرَاجِ الْأَدْوَاءِ مِنْهُ، وَلَوْ تَرَكَهُ لَغَلَبَتْهُ الْأَدْوَاءُ حَتَّى يَكُونَ فِيهَا هَلَاكُهُ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الشَّهَادَةَ عِنْدَهُ مِنْ أَعْلَى مَرَاتِبِ أَوْليَائِهِ، وَالشُّهَدَاءُ هُمْ خَوَاصُّهُ وَالمُقَرَّبُونَ مِنْ عِبَادِهِ، وَلَيْسَ بَعْدَ دَرَجَةِ الصِّدِّيقِيَّةِ إِلَّا الشَّهَادَةُ، وَهُوَ -سُبْحَانَهُ- يُحِبُّ أَنْ يتَّخِذَ مِنْ عِبَادِهِ شُهَدَاءَ تُرَاقُ دِمَاؤُهُمْ في مَحَبَّتِهِ وَمَرْضَاتِهِ، وَيُؤْثِرُونَ رِضَاهُ وَمَحَابَّهُ عَلَى نُفُوسِهِمْ، وَلَا سَبِيلَ إلى نَيْلِ هَذِهِ الدَّرَجَةِ إِلَّا بِتَقْدِيرِ الأَسْبَابِ المُفْضِيَةِ إِلَيْهَا مِنْ تَسْلِيطِ العَدُوِّ.
وَمِنَ الْحِكَمِ وَالْعِبَرِ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ: أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- إِذَا أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ أَعْدَاءَهُ ويَمْحَقَهُمْ؛ قَيَّضَ لَهُمُ الأَسْبَابَ التِي يَسْتَوْجِبُونَ بِهَا هَلَاكَهُمْ وَمَحْقَهُمْ، وَمِنْ أَعْظَمِهَا بَعْدَ كُفْرِهِمْ: بَغْيُهُمْ، وَطُغْيَانُهُمْ، ومُبَالَغَتُهُمْ في أَذَى أَوْليَائِهِ؛ بِمُحَارَبَتِهِمْ، وَقِتَالِهِمْ، والتَّسَلُّطِ عَلَيْهِمْ، فَيَتَمَحَّصُ بِذَلِكَ أَوْليَاؤُهُ مِنْ ذُنُوبِهِمْ وَعُيُوبِهِمْ، ويَزْدَادُ بِذَلِكَ أَعْدَاؤُهُ مِنْ أَسْبَابِ مَحْقِهِمْ وَهَلَاكِهِمْ.
وَقَدْ ذَكَرَ (سبح) ذَلِكَ في قَوْلِهِ: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 139-141].
فَجَمَعَ لَهُمْ في هَذَا الخِطَابِ بَيْنَ تَشْجِيعِهِمْ وَتَقْوِيَةِ نُفُوسِهِمْ، وَإِحْيَاءِ عَزَائِمِهِمْ وَهِمَمِهِمْ، وبَيْنَ حُسْنِ التَّسْلِيَةِ عَمَّا أَصَابَهُمْ.
وَمِنَ الْحِكَمِ وَالْعِبَرِ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ: أَنَّ تِلْكَ الوَقْعَةِ كَانَتْ مُقَدِّمَةً وَإِرْهَاصًا بَيْنَ يَدَيْ مَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَثَبَّتَهُمْ، وَوَبَّخَهُمْ عَلَى انْقِلَابِهِمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ إِنْ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَوْ قُتِلَ، بَلِ الوَاجِبُ لَهُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَثْبُتُوا عَلَى دينِهِ وتَوْحِيدِهِ، ويَمُوتُوا عَلَيْهِ، أَوْ يُقْتَلُوا؛ فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا يَعْبُدُونَ رَبَّ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، فَلَوْ مَاتَ مُحَمَّدٌ ﷺ أَوْ قُتِلَ؛ لَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَصْرِفَهُمْ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَمَا جَاءَ بِهِ، فكُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ، وَمَا بُعِثَ مُحَمَّدٌ ﷺ لِيُخَلَّدَ، لَا هُوَ وَلَا هُمْ، بَلْ لِيَمُوتُوا عَلَى الإِسْلَامِ وَالتَّوْحِيدِ؛ فَإِنَّ المَوْتَ لا بُدَّ مِنْهُ؛ سَوَاءً مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَوْ بَقِيَ)).
فَهَذِهِ بَعْضُ الْحِكَمِ وَالْعِبَرِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيَّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- بِعَقِبِ مَا ذَكَرَ فِي «زَادِ الْمَعَادِ» عَنْ غَزْوَةِ أُحُدٍ.
((غَزْوَةُ أُحُدٍ دَرْسٌ عَظِيمٌ لِلْمُسْلِمِينَ))
إِنَّ سَبَبَ مَا أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ فِي أُحُدٍ: مُخَالَفَةُ مُعْظَمِ الرُّمَاةِ أَمْرَ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَوَصِيَّتَهُ لَهُمْ أَلَّا يَبْرَحُوا أَمَاكِنَهُمْ؛ سَوَاءٌ انْتَصَرُوا أَمِ انْهَزَمُوا، وَقَدْ كَانَ النَّصْرُ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْجَوْلَةِ الْأُولَى، فَلَمَّا تَخَلَّفُوا عَنْ أَمَاكِنِهِمْ كَانَتِ الْهَزِيمَةُ.
إِيثَارُ بَعْضِهِمُ الْغَنِيمَةَ عَلَى الْجِهَادِ، وَعَرَضَ الدُّنْيَا عَلَى ثَوَابِ الْآخِرَةِ، فَلَوْ لَا أَنَّ الرُّمَاةَ سَارَعُوا إِلَى الْغَنَائِم يَحُوزُونَهَا، ولَوْ لَا أَنَّ الْبَعْضَ شُغِلُوا بِالْغَنِيمَةِ عَنِ الْإِثْخَانِ فِي الْمُشْرِكِينَ لَمَا وَقَعَ مَا وَقَعَ.
وَقَدْ سَجَّلَ اللهُ -تَعَالَى- ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 152].
كَانَتْ أُحُدٌ دَرْسًا قَاسِيًا تَعَلَّمَ مِنْهُ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ مُخَالَفَةَ الرَّسُولِ ﷺ لَا تَجُرُّ إِلَّا إِلَى الْخَيْبَةِ وَالْهَزِيمَةِ، فَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَقَعُوا فِي هَذَا الْخَطَأِ أَبَدًا، وَلَمْ تَقَعْ مِثْلُ هَذِه الْهَزِيمَةِ بَعْدُ.
كَمَا تَعَلَّمُوا مِنْ هَذَا الدَّرْسِ أَنَّ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى، وَأَنَّ الْغَنَائِمَ مَا هِيَ إِلَّا عَرَضٌ زَائِلٌ، لَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ غَرَضًا لِمُجَاهِدٍ فِي سَبِيلِ اللهِ.
كَمَا كَانَ اخْتِبَارًا –أَيْ: هَذَا الدَّرْسُ- تَمَيَّزَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ الصَّادِقُونَ مِنْ ضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ وَالْمُنَافِقِينَ.
وَقَدْ دَلَّ مَا حَدَثَ فِي أُحُدٍ عَلَى أَنَّ الرُّسُلَ وَأَتْبَاعَهُمْ قَدْ تَنَالُهُمُ الْهَزِيمَةُ فِي بَعْضِ الْمَوَاقِفِ لِخَطَأٍ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ؛ وَلَكِنَّ الْعَاقِبَةَ بِالنَّصْرِ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ لَهُمْ، فَهَذِهِ سُنَّةُ اللهِ، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا، قَالَ تَعَالَى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21].
وَسَجَّلَ اللهُ -تَعَالَى- ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ، فَقَالَ: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ( 140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 140-141].
إِنَّ غَزْوَةَ أُحُدٍ كَانَ لَهَا مِنَ النَّتَائِجِ مَا يَجْعَلُهَا فِي مَصَافِّ الْغَزَوَاتِ الْمُظَفَّرَةِ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ وَلِأَنَّ الْأُمَّةَ اسْتَفَادُوا جَمِيعًا مِنْ هَذَا الدَّرْسِ اسْتِفَادَةً عَظِيمَةً فِي جَمِيعِ النَّوَاحِي؛ فِي النَّوَاحِي التَّرْبَوِيَّةِ، فِي النَّوَاحِي الْإِيمَانِيَّةِ، فِي النَّوَاحِي الْأَخْلَاقِيَّةِ، فِي النَّوَاحِي الْعَسْكَرِيَّةِ؛ فَاسْتَفَادُوا اسْتِفَادَةً عَظِيمَةً مِنْ هَذِهِ الْهَزِيمَةِ، فَكَانَتْ فِي الظَّاهِرِ هَزِيمَةً ظَاهِرَةً، وَأَمَّا فِي الْبَاطِنِ فَكَانَتْ نِعْمَةً بَاهِرَةً.
فَنَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَرْزُقَنَا الْإِخْلَاصَ وَالْقَبُولَ، وَأَنْ يَرْزُقَنَا حُسْنَ الْخِتَامِ وَالْوَفَاةَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَأَنْ يَحْشُرَنَا فِي زُمْرَةِ النَّبِيِّ الْهُمَامِ ﷺ.
المصدر:
دُرُوسٌ عَظِيمَةٌ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ