مَجْمُوعُ الْخُطَبِ الْمِنْبَرِيَّةِ
(9)
((التَّنَمُّرُ وَالسُّخْرِيَةُ
وَأَثَرُهُمَا الْمُدَمِّرُ عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ))
الْجُمُعَةُ 2 مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ 1445هـ / 10-5-2024م
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((التَّرْهِيبُ مِنَ السُّخْرِيَةِ وَالْهَمْزِ وَاللَّمْزِ))
فَقَدْ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11].
((هَذَا مِنْ حُقُوقِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، أَنْ {لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} بِكُلِّ كَلَامٍ وَقَوْلٍ وَفِعْلٍ دَالٍّ عَلَى تَحْقِيرِ الْأَخِ الْمُسْلِمِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى إِعْجَابِ السَّاخِرِ بِنَفْسِهِ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ الْمَسْخُورُ بِهِ خَيْرًا مِنَ السَّاخِرِ وَهُوَ الْغَالِبُ وَالْوَاقِعُ؛ فَإِنَّ السُّخْرِيَةَ لَا تَقَعُ إِلَّا مِنْ قَلْبٍ مُمْتَلِئٍ مِنْ مَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ، مُتَحَلٍّ بِكُلِّ خُلُقٍ ذَمِيمٍ، مُتَخَلٍّ عَنْ كُلِّ خُلُقٍ كَرِيمٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يُحَقِّرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} أَيْ: لَا يَعِبْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَاللَّمْزُ بِالْقَوْلِ، وَالْهَمْزُ بِالْفِعْلِ، وَكِلَاهُمَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ حَرَامٌ، مُتَوَعَّدٌ عَلَيْهِ بِالنَّارِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} الْآيَةَ، وَسَمَّى الْأَخَ الْمُسْلِمَ نَفْسًا لِأَخِيهِ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَكَذَا حَالُهُمْ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ، وَلِأَنَّهُ إِذَا هَمَزَ غَيْرَهُ أَوْجَبَ لِلْغَيْرِ أَنْ يَهْمِزَهُ، فَيَكُونُ هُوَ الْمُتَسَبِّبَ لِذَلِكَ.
{وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} أَيْ: لَا يُعَيِّرْ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، وَيُلَقِّبْهُ بِلَقَبٍ يَكْرَهُ أَنْ يُقَالَ لَهُ، وَهَذَا هُوَ التَّنَابُزُ، وَأَمَّا الْأَلْقَابُ غَيْرُ الْمَذْمُومَةِ فَلَا تَدْخُلُ فِي هَذَا.
{بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ} أَيْ: بِئْسَمَا تَبَدَّلْتُمْ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ بِشَرَائِعِهِ وَمَا يَقْتَضِيهِ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ بِاسْمِ الْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ الَّذِي هُوَ التَّنَابُزُ بِالْأَلْقَابِ.
{وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}: هَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى الْعَبْدِ؛ أَنْ يَتُوبَ إِلَى اللَّهِ -تَعَالَى-، وَيَخْرُجَ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ بِاسْتِحْلَالِهِ، وَالِاسْتِغْفَارِ وَالْمَدْحِ لَهُ مُقَابَلَةً عَلَى ذَمِّهِ.
{وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}: فَالنَّاسُ قِسْمَانِ: ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ غَيْرُ تَائِبٍ، وَتَائِبٌ مُفْلِحٌ، وَلَا ثَمَّ غَيْرُهُمَا)).
{وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا ۖ لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ} [الهمزة: 1-9].
(({وَيْلٌ} أَيْ: وَعِيدٌ وَوَبَالٌ وَشِدَّةُ عَذَابٍ {لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} أَيِ: الَّذِي يَهْمِزُ النَّاسَ بِفِعْلِهِ، وَيَلْمِزُهُمْ بِقَوْلِهِ؛ فَالْهَمَّازُ: الَّذِي يَعِيبُ النَّاسَ وَيَطْعَنُ عَلَيْهِمْ بِالْإِشَارَةِ وَالْفِعْلِ، وَاللَّمَّازُ: الَّذِي يَعِيبُهُمْ بِقَوْلِهِ.
وَمِنْ صِفَةِ هَذَا الْهَمَّازِ اللَّمَّازِ: أَنَّهُ لَا هَمَّ لَهُ سِوَى جَمْعِ الْمَالِ وَتَعْدِيدِهِ وَالْغِبْطَةِ بِهِ، وَلَيْسَ لَهُ رَغْبَةٌ فِي إِنْفَاقِهِ فِي طُرُقِ الْخَيْرَاتِ، وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، {يَحْسَبُ}: بِجَهْلِهِ {أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ}: فِي الدُّنْيَا؛ فَلِذَلِكَ كَانَ كَدُّهُ وَسَعْيُهُ كُلُّهُ فِي تَنْمِيَةِ مَالِهِ الَّذِي يَظُنُّ أَنَّهُ يُنَمِّي عُمُرَهُ، وَلَمْ يَدْرِ أَنَّ الْبُخْلَ يَقْصِفُ الْأَعْمَارَ، وَيُخَرِّبُ الدِّيَارَ، وَأَنَّ الْبِرَّ يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ.
{كَلا لَيُنْبَذَنَّ} أَيْ: لَيُطْرَحَنَّ {فِي الْحُطَمَةِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ}: تَعْظِيمٌ لَهَا، وَتَهْوِيلٌ لِشَأْنِهَا، وَتَفْخِيمٌ لِأَمْرِهَا.
ثُمَّ فَسَّرَهَا بِقَوْلِهِ: {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ}: الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ، الَّتِي مِنْ شِدَّتِهَا {تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ} أَيْ: تَنْفُذُ مِنَ الْأَجْسَامِ إِلَى الْقُلُوبِ.
وَمَعَ هَذِهِ الْحَرَارَةِ الْبَلِيغَةِ هُمْ مَحْبُوسُونَ فِيهَا، قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْخُرُوجِ مِنْهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ} أَيْ: مُغْلَقَةٌ {فِي عَمَدٍ}: مِنْ خَلْفِ الْأَبْوَابِ {مُمَدَّدَةٍ}؛ لِئَلَّا يَخْرُجُوا مِنْهَا، كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا -نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، وَنَسْأَلُهُ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ-)).
((التَّنَمُّرُ خُلُقٌ ذَمِيمٌ مُحَرَّمٌ))
بِنَحْوٍ مِمَّا نَهَى اللهُ -تَعَالَى- عَنْهُ مِنَ السُّخْرِيَةِ وَالْهَمْزِ وَاللَّمْزِ وَالتَّنَابُزِ بِالْأَلْقَابِ جَاءَتْ كَلِمَةُ التَّنَمُّرِ.
وَالتَّنَمُّرُ كَمُصْطَلَحٍ حَادِثٍ يَعْنِي: الِانْتِقَاصَ أَوِ النَّظَرَ بِعَيْنِ الِاحْتِقَارِ وَالِاسْتِصْغَارِ، أَوِ السُّخْرِيَةَ مِنَ النَّاسِ، وَذِكْرَ عُيُوبِهِمْ عَلَى وَجْهٍ يَنَالُ مِنْهُمْ بِالْفِعْلِ أَوِ الْقَوْلِ أَوِ الْإِشَارَةِ أَوِ الْحَرَكَةِ.
وَهُوَ خُلُقٌ ذَمِيمٌ يَتَنَافَى مَعَ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْقَوِيمَةِ؛ لِذَلِكَ شَدَّدَ الشَّرْعُ الْحَنِيفُ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ وَالتَّحْذِيرِ مِنْهُ.
قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11].
فَقَدْ وَصَفَ اللهُ -سُبْحَانَهُ- مَنْ لَمْ يَتُبْ مِنْ غَمْزِ وَلَمْزِ النَّاسِ بِأَنَّهُ ظَالِمٌ.
قَالَ تَعَالَى: {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} [الهمزة: 1].
وَقَالَ نَبِيُّنَا ﷺ: ((بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ؛ دَمَهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالْبُخَارِيُّ مُخْتَصَرًا.
((مِنْ أَسْوَأِ أَنْوَاعِ السُّخْرِيَةِ))
وَمِنْ أَسْوَأِ أَنْوَاعِ السُّخْرِيَةِ: السُّخْرِيَةُ مِنْ غَيْرِ الْقَادِرِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي حُدُودِ إِمْكَانَاتِهِمُ الْمَادِّيَّةِ.
قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ ۙ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 79].
((مِنْ صِفَاتِ الْمُسْلِمِ الْحَقِّ))
إِنَّ الْمُسْلِمَ الْحَقَّ هُوَ الَّذِي يَسْلَمُ النَّاسُ مِنْ أَذَى لِسَانِهِ وَيَدِهِ؛ فَلَا يَصْدُرُ مِنْهُ إِلَّا كُلُّ خَيْرٍ وَنَفْعٍ لِلنَّاسِ.
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَزَادَ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ: ((وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ)).
وَزَادَ أَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ: ((وَالْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللهِ)).
فَذَكَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ كَمَالَ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ الْجَلِيلَةِ الَّتِي رَتَّبَ اللهُ وَرَسُولُهُ عَلَيْهَا سَعَادَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَهِيَ: ((الْإِسْلَامُ، وَالْإِيمَانُ، وَالْهِجْرَةُ، وَالْجِهَادُ))، وَذَكَرَ حُدُودَهَا بِكَلَامٍ جَامِعٍ شَامِلٍ، وَأَنَّ الْمُسْلِمَ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، ذَلِكَ أَنَّ الْإِسْلَامَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ: الِاسْتِسْلَامُ للهِ، وَتَكْمِيلُ عُبُودِيَّتِهِ، وَالْقِيَامُ بِحُقُوقِهِ وَحُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ.
وَلَا يَتِمُّ الْإِسْلَامُ حَتَّى يُحِبَّ لِلْمُسْلِمِينَ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إِلَّا بِسَلَامَتِهِمْ مِنْ شَرِّ لِسَانِهِ وَشَرِّ يَدِهِ؛ فَإِنَّ هَذَا أَصْلُ هَذَا الْفَرْضِ الَّذِي عَلَيْهِ لِلْمُسْلِمِينَ، فَمَنْ لَمْ يَسْلَمِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ أَوْ يَدِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ قَائِمًا بِالْفَرْضِ الَّذِي عَلَيْهِ لِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ؟!! فَسَلَامَتُهُمْ مِنْ شَرِّهِ الْقَوْلِيِّ وَالْفِعْلِيِّ عُنْوَانٌ عَلَى كَمَالِ إِسْلَامِهِ.
وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
لَمَّا ذَكَرَ حَقَّ اللهِ وَهُوَ الْوَصِيَّةُ بِالتَّقْوَى الْجَامِعَةُ لِعَقَائِدِ الدِّينِ وَأَعْمَالِهِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ قَالَ: ((وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ))، وَأَوَّلُ الْخُلُقِ الْحَسَنِ: أَنْ تَكُفَّ عَنْهُمْ أَذَاكَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَتَعْفُوَ عَنْ مَسَاوِئِهِمْ وَأَذِيَّتِهِمْ لَكَ، ثُمَّ تُعَامِلَهُمْ بِالْإِحْسَانِ الْقَوْلِيِّ وَالْإِحْسَانِ الْفِعْلِيِّ.
وَأَخَصُّ مَا يَكُونُ بِالْخُلُقِ الْحَسَنِ سَعَةُ الْحِلْمِ عَلَى النَّاسِ، وَالصَّبْرُ عَلَيْهِمْ، وَعَدَمُ الضَّجَرِ مِنْهُمْ، وَبَشَاشَةُ الْوَجْهِ، وَلُطْفُ الْكَلَامِ، وَالْقَوْلُ الْجَمِيلُ الْمُؤْنِسُ لِلْجَلِيسِ، الْمُدْخِلُ عَلَيْهِ السُّرُورَ، الْمُزِيلُ لِوَحْشَتِهِ وَمَشَقَّةِ حِشْمَتِهِ.
وَقَدْ يَحْسُنُ الْمَزْحُ -أَحْيَانًا- إِذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ؛ لَكِنْ لَا يَنْبَغِي الْإِكْثَارُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا الْمَزْحُ فِي الْكَلَامِ كَالْمِلْحِ فِي الطَّعَامِ، إِنْ عُدِمَ أَوْ زَادَ عَلَى الْحَدِّ فَهُوَ مَذْمُومٌ.
وَمِنَ الْخُلُقِ الْحَسَنِ: أَنْ تُعَامِلَ كُلَّ أَحَدٍ بِمَا يَلِيقُ بِهِ وَيُنَاسِبُ حَالَهُ؛ مِنْ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، وَعَاقِلٍ وَأَحْمَقَ، وَعَالِمٍ وَجَاهِلٍ، فَمَنِ اتَّقَى اللهَ وَحَقَّقَ تَقْوَاهُ، وَخَالَقَ النَّاسَ عَلَى اخْتِلَافِ طَبَقَاتِهِمْ بِالْخُلُقِ الْحَسَنِ؛ فَقَدْ حَازَ الْخَيْرَ كُلَّهُ؛ لِأَنَّهُ قَامَ بِحَقِّ اللهِ وَحُقُوقِ عِبَادِ اللهِ، وَلِأَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ فِي عِبَادَةِ اللهِ، وَالْمُحْسِنِينَ إِلَى عِبَادِ اللهِ.
((الْفَرْقُ بَيْنَ السُّخْرِيَةِ وَالِاسْتِهْزَاءِ))
((لَقَدْ تَغَاضَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَنِ الْفَرْقِ الدَّقِيقِ بَيْنَ السُّخْرِيَةِ وَالِاسْتِهْزَاءِ الَّذِي هُوَ ارْتِيَادُ الْهُزْءِ، فَقَالَ: إِنَّ السُّخْرِيَةَ وَالِاسْتِهْزَاءَ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَعَلَى ذَلِكَ فَسَّرَ كَثِيرُونَ السُّخْرِيَةَ بِالِاسْتِهْزَاءِ؛ وَلَكِنَّ الْوَاقِعَ اللُّغَوِيَّ وَتَأَمُّلَ مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ يُشِيرَانِ إِلَى وُجُودِ نَوْعٍ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا؛ حَتَّى وَإِنْ كَانَ هَذَا الْفَرْقُ قَدْ يُتَنَاسَى -أَحْيَانًا-، فَيُسْتَعْمَلُ أَحَدُهُمَا فِي الْمَعْنَى الَّذِي يُسْتَعْمَلُ فِيهِ الْآخَرُ.
وَيَتَمَثَّلُ هَذَا الْفَرْقُ فِي:
أَنَّ الْهُزْءَ: هُوَ إِظْهَارُ الْجِدِّ، وَإِخْفَاءُ الْهَزْلِ فِيهِ، أَيْ: إِنَّهُ يَكُونُ بِالْقَوْلِ الْمَصْحُوبِ بِسُوءِ النِّيَّةِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَسْبِقَهُ فِعْلٌ مِنْ أَجْلِهِ يُسْتَهْزَأُ بِصَاحِبِهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الْفِعْلِ.
أَمَّا السُّخْرِيَةُ: فَإِنَّهَا تَكُونُ بِالْفِعْلِ، أَوْ بِالْإِشَارَةِ، وَتَكُونُ بِالْقَوْلِ، وَيَسْبِقُهَا فِي الْعَادَةِ فِعْلٌ مِنْ أَجْلِهِ يُسْخَرُ بِصَاحِبِهِ، وَيَتَلَخَّصُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ بَيْنَ السُّخْرِيَةِ وَالْهُزْءِ فَرْقًا مِنْ جِهَتَيْنِ:
الْأُولَى: السُّخْرِيَةُ تَكُونُ بِالْفِعْلِ وَبِالْقَوْلِ، وَالْهُزْءُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْقَوْلِ.
وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ السُّخْرِيَةَ يَسْبِقُهَا عَمَلٌ مِنْ أَجْلِهِ يُسْخَرُ بِصَاحِبِهِ، وَأَمَّا الِاسْتِهْزَاءُ فَلَا يَسْبِقُهُ ذَلِكَ.
وَالْهَمْزُ وَاللَّمْزُ مِنَ السُّخْرِيَةِ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ((قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: الْهُمَزَةُ : الَّذِي يَهْمِزُ بِلِسَانِهِ، وَاللُّمَزَةُ: الَّذِي يَلْمِزُ بِعَيْنَيْهِ، قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: الْهُمَزَةُ: الَّذِي يُؤْذِي جُلَسَاءَهُ بِسُوءِ اللَّفْظِ، وَاللُّمَزَةُ: الَّذِي يَكْسِرُ عَيْنَهُ عَلَى جَلِيسِهِ، وَيُشِيرُ بِعَيْنِهِ وَرَأْسِهِ وَبِحَاجِبَيْهِ سُخْرِيَةً بِهِ)).
قَالَ الْمُعَلَّمِيُّ: ((الْهَمْزُ: هُوَ السُّخْرِيَةُ مِنَ النَّاسِ بِالْإِشَارَةِ؛ كَتَحْرِيكِ الْيَدِ قُرْبَ الرَّأْسِ إِشَارَةً إِلَى الْوَصْفِ بِالْجُنُونِ، أَوِ الْوَغْضُ بِالْعَيْنِ رَمْزًا لِلِاسْتِخْفَافِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْحَرَكَاتِ.
وَاللَّمْزُ: هُوَ السُّخْرِيَةُ مِنَ النَّاسِ بِالْقَوْلِ؛ كَتَسْمِيَةِ الشَّخْصِ بِاسْمٍ يَدُلُّ عَلَى عَاهَةٍ فِيهِ أَوْ مَرَضٍ، أَوْ اتِّهَامِهِ بِخَلِيقَةٍ سَيِّئَةٍ، أَوِ التَّعْرِيضِ بِذَلِكَ)).
وَالتَّنَابُزُ بِالْأَلْقَابِ مِنَ السُّخْرِيَةِ.
قَالَ الطَّبَرِيُّ: ((التَّنَابُزُ بِالْأَلْقَابِ: هُوَ دُعَاءُ الْمَرْءِ صَاحِبَهُ بِمَا يَكْرَهُهُ مِنِ اسْمٍ أَوْ صِفَةٍ، وَعَمَّ اللهُ بِنَهْيِهِ ذَلِكَ، وَلَمْ يُخَصِّصْ بِهِ بَعْضَ الْأَلْقَابِ دُونَ بَعْضٍ، وَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَنْبِزَ أَخَاهُ بِاسْمٍ يَكْرَهُهُ، أَوْ صِفَةٍ يَكْرَهُهَا)).
فَالتَّنَابُزُ بِالْأَلْقَابِ دَاخِلٌ فِي مَفْهُومِ السُّخْرِيَةِ، كَمَا دَخَلَ فِيهَا مَفْهُومُ الْهَمْزِ وَاللَّمْزِ، وَمِنْ ثَمَّ يَكُونُ ذِكْرُ الْهَمْزِ وَاللَّمْزِ بَعْدَ ذِكْرِ السُّخْرِيَةِ مِنْ قَبِيلِ ذِكْرِ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ؛ اهْتِمَامًا بِهِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68]؛ إِذِ النَّخْلُ وَالرُّمَّانُ مِنَ الْفَاكِهَةِ -أَيْضًا-.
وَأَمَّا التَّهَكُّمُ وَالتَّعْيِيرُ:
فَالْمُرَادُ بِالتَّهَكُّمِ: مَا كَانَ ظَاهِرُهُ جِدًّا، وَبَاطِنُهُ هَزْلًا.
قَالَ الْكَفَوِيُّ: ((وَلَا تَخْلُو أَلْفَاظُ التَّهَكُّمِ مِنْ لَفْظٍ مِنَ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى الذَّمِّ، أَوْ لَفْظَةٍ مَعْنَاهَا الْهَجْوُ)).
وَمِنْ ثَمَّ كَانَ التَّهَكُّمُ مِنَ السُّخْرِيَةِ.
أَمَّا التَّعْيِيرُ بِالْفَقْرِ، أَوِ الذَّنْبِ، أَوِ الْعِلَّةِ، أَوْ مَا شَابَهَ ذَلِكَ؛ فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ مِنَ السُّخْرِيَةِ.
قَالَ الطَّبَرِيُّ: ((عَمَّ اللهُ بِنَهْيِهِ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ أَنْ يَسْخَرَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ جَمِيعَ مَعَانِي السُّخْرِيَةِ؛ فَلَا يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَسْخَرَ مِنْ مُؤْمِنٍ؛ لَا لِفَقْرِهِ، وَلَا لِذَنْبٍ رَكِبَهُ، وَلَا لِغَيْرِ ذَلِكَ)) )).
((حُكْمُ السُّخْرِيَةِ وَذَمُّهَا فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ))
يُفْهَمُ مِنْ نَهْيِ الْمَوْلَى -جَلَّ وَعَلَا- عَنِ السُّخْرِيَةِ بِأَنْوَاعِهَا الْمُخْتَلِفَةِ أَنَّهَا حَرَامٌ.
قَالَ السَّفَّارِينِيُّ: ((وَتَحْرُمُ السُّخْرِيَةُ وَالْهُزْءُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ} الْآيَةَ، وَلِنَهْيِهِ ﷺ عَنْ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ عِدَّةٍ)).
قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ۘ وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة: 212].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأنعام: 10].
وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ ۙ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 79].
وَقَالَ تَعَالَى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 80].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ۚ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ ۚ قَالَ إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} [هود: 36-39].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأنبياء: 41].
وَقَالَ تَعَالَى: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ} [الصافات: 12-14].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَىٰ رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ} [ص: 62-63].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة: 58].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَٰلِكَ زَنِيمٍ} [القلم: 10-13].
عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ ﷺ: ((حَسْبُكَ مِنْ صَفِيَّةَ كَذَا وَكَذَا)).
قَالَ غَيْرُ مُسَدَّدٍ: تَعْنِي قَصِيرَةً.
فَقَالَ ﷺ: ((لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِالْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ)).
قَالَتْ: ((وَحَكَيْتُ -أَيْ: قَلَّدْتُ- لَهُ إِنْسَانًا فَقَالَ: ((مَا أُحِبُّ أَنِّي حَكَيْتُ إِنْسَانًا وَأَنَّ لِي كَذَا وَكَذَا)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
وَعَنِ الْمَعْرُورِ قَالَ: ((لَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ وَعَلَى غُلَامِهِ حُلَّةٌ -أَيْ: مِثْلُهَا-، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ)).
فَقَالَ: ((إِنِّي سَابَبْتُ رَجُلًا فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ، فَقَالَ لِيَ النَّبِيُّ ﷺ: ((يَا أَبَا ذَرٍّ! أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ؟! إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
((مِنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ وَالشُّعَرَاءِ فِي ذَمِّ السُّخْرِيَةِ))
قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-:
الْمَرْءُ إِنْ كَانَ عَاقِلًا وَرِعًا = أَشْغَلَهُ عَنْ عُيُوبِ غَيْرِهِ وَرَعُهُ
كَمَا الْعَلِيلُ السَّقِيمُ أَشْغَلَهُ = عَنْ وَجَعِ النَّاسِ كُلِّهِمْ وَجَعُهُ
وَقَالَ آخَرُ:
لَا تَكْشِفَنَّ مَسَاوِيَ النَّاسِ مَا سَتَرُوا = فَيَهْتِكَ اللهُ سِتْرًا عَنْ مَسَاوِيكَ
وَاذْكُرْ مَحَاسِنَ مَا فِيهِمْ إِذَا ذُكِرُوا = وَلَا تَعِبْ أَحَدًا مِنْهُمْ بِمَا فِيكَ
((مَفَاتِيحُ الْخَيْرِ مَغَالِيقُ الشَّرِّ))
يَا أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! اتَّقُوا اللهَ -جَلَّ وَعَلَا-، وَاعْلَمُوا ((أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- بِحِكْمَتِهِ جَعَلَ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ خَزَائِنَ، وَجَعَلَ لِهَذِهِ الْخَزَائِنِ مَفَاتِيحَ، فَطُوبَى لِمَنْ كَانَ مِفْتَاحًا لِلْخَيْرِ مِغْلَاقًا لِلشَّرِّ، وَوَيْلٌ لِمَنْ كَانَ مِفْتَاحًا لِلشَّرِّ مِغْلَاقًا لِلْخَيْرِ)).
فَكُونُوا -رَحِمَكُمُ اللهُ- مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ وَمَغَالِيقَ لِلشَّرِّ، قُومُوا بِالنَّصِيحَةِ وَالتَّوْجِيهِ الْقَيِّمِ وَالْإِرْشَادِ؛ سَالِكِينَ بِذَلِكَ طَرِيقَ الْحِكْمَةِ وَالسَّدَادِ، وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا، وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا؛ فَإِنَّ دِينَكُمْ دِينُ الْيُسْرِ، وَلَنْ يُشَادَّهُ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ.
فَمَنْ رَأَيْتُمُوهُ مُقْبِلًا عَلَى الطَّاعَةِ حَرِيصًا عَلَيْهَا فَشَجِّعُوهُ وَأَعِينُوهُ، وَرَجُّوهُ الْخَيْرَ وَالثَّوَابَ وَأَمِّلُوهُ.
وَمَنْ رَأَيْتُمُوهُ حَرِيصًا عَلَى إِقَامَةِ الصَّلَوَاتِ مَعَ الْجَمَاعَةِ فَأَثْنُوا عَلَيْهِ، وَبَيِّنُوا لَهُ الْأَجْرَ الْعَظِيمَ، وَأَنَّ مَنِ اعْتَادَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ ۖ فَعَسَىٰ أُولَٰئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18].
وَمَنْ رَأَيْتُمُوهُ بَارًّا بِوَالِدَيْهِ فَحُثُّوهُ عَلَى اسْتِمْرَارِهِ عَلَى الْبِرِّ، وَبَيِّنُوا لَهُ ثَمَرَتَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَنَّهُ كَمَا يَدِينُ يُدَانُ، فَمَنْ كَانَ بَارًّا بِوَالِدَيْهِ كَانَ لَهُ مَعَ الْأَجْرِ الْمُدَّخَرِ عِنْدَ اللهِ ثَوَابٌ فِي الدُّنْيَا بِأَنْ يَبَرَّهُ أَوْلَادُهُ.
وَمَنْ رَأَيْتُمُوهُ قَائِمًا بِمَا أَوْجَبَ اللهُ عَلَيْهِ مِنْ حُسْنِ الرِّعَايَةِ فِي أَهْلِهِ وَأَوْلَادِهِ فَرَغِّبُوهُ فِي ذَلِكَ، وَبَيِّنُوا لَهُ أَنَّهُ يُحَصِّلُ بِذَلِكَ أَجْرًا عَظِيمًا، وَبَرَاءَةً لِذِمَّتِهِ، وَإِصْلَاحًا لِأَهْلِهِ وَأَوْلَادِهِ، وَجَزَاءً عَاجِلًا بِأَنْ يُسَخَّرَ لَهُ أَوْلَادُهُ بِالْقِيَامِ بِحَقِّهِ وَبِرِّهِ كَمَا قَامَ هُوَ بِحَقِّهِمْ فِي التَّأْدِيبِ وَالتَّوْجِيهِ.
وَمَنْ رَأَيْتُمُوهُ صَدُوقًا فِي مُعَامَلَتِهِ لِلنَّاسِ، يُعَامِلُهُمْ بِالنُّصْحِ وَالصِّدْقِ، مُجَانِبًا الْغِشَّ وَالْكَذِبَ؛ فَأَثْنُوا عَلَيْهِ بَيْنَ النَّاسِ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ تَشْجِيعًا لَهُ وَلِغَيْرِهِ عَلَى حُسْنِ الْمُعَامَلَةِ.
وَهَكَذَا فِي جَمِيعِ طُرُقِ الْخَيْرِ كُونُوا لِأَهْلِهَا مُسَاعِدِينَ، وَلَهُمْ شَاكِرِينَ، وَعَلَيْهِمْ مُثْنِينَ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى الَّذِي هُوَ مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَمَنْ أَعَانَ عَلَى الْخَيْرِ بِدَلَالَةٍ أَوْ إِشَارَةٍ أَوْ مُسَاعَدَةٍ؛ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِ فَاعِلِهِ شَيْءٌ.
وَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْ شَخْصٍ تَفْرِيطًا فِي وَاجِبٍ، أَوِ انْهِمَاكًا فِي مَعْصِيَةٍ؛ فَأَسْدُوا إِلَيْهِ النَّصِيحَةَ وَالْمَوْعِظَةَ، وَكُونُوا مَعَهُ فِي الْمُلَاطَفَةِ فِي إِرْشَادِهِ وَنُصْحِهِ بِمَنْزِلَةِ الطَّبِيبِ مَعَ الْمَرِيضِ؛ فَإِنَّ مَرَضَ الْمَعَاصِي أَعْظَمُ خَطَرًا مِنْ مَرَضِ الْأَبْدَانِ، فَانْظُرُوا إِلَى الْمَرِيضِ -مَرِيضِ الْمَعَاصِي- نَظْرَةَ مُعَظِّمٍ لِحُرُمَاتِ اللهِ، رَاحِمٍ لِعِبَادِ اللهِ، وَلَا تَيْأَسُوا فَتَجْبُنُوا وَتَضْعُفُوا، وَبَيِّنُوا لَهُ ضَرَرَ الْمَعَاصِي عَلَيْهِ خَاصَّةً، وَعَلَى الْمُجْتَمَعِ عَامَّةً، وَأَنَّ مُخَالَفَةَ النُّفُوسِ فِي هَوَاهَا أَمْرٌ شَاقٌّ، وَلَكِنْ لِيَصْبِرْ عَلَى مُخَالَفَةِ هَوَاهُ، وَلْيَحْتَسِبِ الْأَجْرَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ مَوْلَاهُ، وَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ يُمَرِّنَ نَفْسَهُ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَةِ، وَعَلَى اجْتِنَابِ الْمَعْصِيَةِ؛ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ سَهْلًا عَلَيْهِ وَيَسِيرًا، وَيَكْسِبَ بِذَلِكَ أَجْرًا وَثَوَابًا كَثِيرًا.
فَلَوْ سَلَكَ الْمُسْلِمُونَ هَذَا الطَّرِيقَ الَّذِي مَشَى عَلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ وَأَصْحَابُهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- مِنَ التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَاتِّخَاذِ الْوَسَائِلِ الْمُجْدِيَةِ لِسَدِّ أَبْوَابِ الشُّرُورِ وَالْمَفَاسِدِ، وَتَوْطِيدِ أَرْكَانِ الْخَيْرِ وَالْمَصَالِحِ؛ لَأَفْلَحُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1-3].
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ.
أَمَّا بَعْدُ:
((التَّنَمُّرُ وَالسُّخْرِيَةُ
وَأَثَرُهُمَا الْمُدَمِّرُ عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ))
فَإِنَّ أَذِيَّةَ الْمُسْلِمِينَ وَشَتِيمَتَهُمْ وَالسُّخْرِيَةَ مِنْهُمْ وَالِاسْتِهْزَاءَ بِهِمْ مِنْ كَبَائِرِ الْإِثْمِ وَعَظَائِمِ الذُّنُوبِ.
وَلِلتَّنَمُّرِ وَالسُّخْرِيَةِ أَثَرُهُمَا الْمُدَمِّرُ عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ؛ فَالْمُتَنَمِّرُ وَالسَّاخِرُ مِنْ خَلْقِ اللهِ:
* يُغْضِبُ رَبَّهُ.
* وَيَفْقِدُ وَقَارَهُ عِنْدَ النَّاسِ.
* وَيُسْقِطُ عَنْ نَفْسِهِ صِفَةَ الْمُرُوءَةِ.
* كَمَا أَنَّهُ مُنْتَهِكٌ لِحُقُوقِ الْإِنْسَانِ الَّذِي كَرَّمَهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ؛ حَيْثُ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70].
* وَهُوَ ظَالِمٌ لِمَنْ تَعَرَّضَ لَهُ أَوْ سَخِرَ مِنْهُ بِمَا يُسَبِّبُ لَهُ مِنَ الْحَرَجِ.
* كَمَا أَنَّ هَذَا الْخُلُقَ الذَّمِيمَ يُمِيتُ الْقَلْبَ، وَيُورِثُهُ الْغَفْلَةَ حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَدِمَ السَّاخِرُ الْمُتَنَمِّرُ عَلَى مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ، وَلَاتَ سَاعَةَ مَنْدَمِ!
قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر: 56].
وَقَالَ -سُبْحَانَهُ- فِي أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا ذَكَرَ الْقُرْآنُ الْمَجِيدُ: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّىٰ أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون: 109-111].
وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَىٰ أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَٰؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين: 29-32].
* وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّنَمُّرَ وَالسُّخْرِيَةَ يُدَمِّرَانِ الْعَلَاقَاتِ وَالرَّوَابِطَ الِاجْتِمَاعِيَّةَ الْقَائِمَةَ عَلَى الْأُخُوَّةِ وَالتَّوَادِّ وَالتَّرَاحُمِ، كَمَا أَنَّهُمَا يَزْرَعَانِ بُذُورَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، وَيُورِثَانِ الْأَحْقَادَ وَالضَّغَائِنَ بَيْنَ النَّاسِ.
قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا} ]الإسراء: 53].
وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ)).
قَالَ ﷺ: ((لَا تَقَاطَعُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا)).
* وَالسُّخْرِيَةُ إِذَا كَانَتْ مِنْ أَمْرٍ جَسَدِيٍّ خِلْقِيٍّ فَإِنَّهَا تَحْمِلُ تَطَاوُلًا عَلَى سُنَنِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- فِي كَوْنِهِ وَحِكْمَتِهِ فِي خَلْقِهِ، وَهُوَ أَمْرٌ جِدُّ خَطِيرٍ عَلَى دِينِ الْمَرْءِ وَمُرُوءَتِهِ.
((أُصُولٌ عَظِيمَةٌ فِي حُسْنِ مُعَاشَرَةِ الْمُؤْمِنِينَ))
وَالَّذِي يَنْبَغِي سُلُوكُهُ فِي مُعَاشَرَةِ الْمُؤْمِنِينَ أَصْلُهُ: ((أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
وَقَوْلُهُ ﷺ: ((لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ فِي مُعَاشَرَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ دَرَجَاتٌ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ لَا تَنْطَبِقُ، وَأَغْلَبُ الْمُعَاشَرَاتِ قَلِيلَةُ الْجَدْوَى عَدِيمَةُ الْفَائِدَةِ؛ بَلْ كَثِيرٌ مِنْهَا مُؤَدٍّ إِلَى الْخُسْرَانِ وَالْأَضْرَارِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَهُنَا ذِكْرُ أَعْلَى الْأَقْسَامِ وَأَنْفَعِهَا وَأَبْقَاهَا ثَمَرَةً، فَإِنْ أَدْرَكَهَا الْمُؤْمِنُ بِتَوْفِيقِ اللهِ وَجِدِّهِ وَاجْتِهَادِهِ فَقَدْ أَدْرَكَ كُلَّ خَيْرٍ، وَإِنْ لَمْ تَقْوَ نَفْسُهُ عَلَى بُلُوغِهَا فَلْيُجَاهِدْ نَفْسَهُ وَلَوْ عَلَى بَعْضِهَا، وَهِيَ يَسِيرَةٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهَا اللهُ عَلَيْهِ.
فَأَصْلُ ذَلِكَ: ((أَنْ تَعْقِدَ عَزْمًا جَازِمًا وَعَقِيدَةً صَادِقَةً عَلَى مَحَبَّةِ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالتَّقَرُّبِ إِلَى اللهِ فِي هَذِهِ الْمَحَبَّةِ، وَتَجْتَهِدَ عَلَى تَحْقِيقِهَا عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ وَعَلى وَجْهِ الْخُصُوصِ، وَعَلَى قَلْعِ كُلِّ مَا يُضَادُّهَا أَوْ يَنْقُصُهَا؛ فَتَعْتَقِدُ أَنَّ تَحَقُّقَ الْقَلْبِ بِمَحَبَّةِ الْمُؤْمِنِينَ عِبَادَةٌ مِنْ أَجَلِّ الْعِبَادَاتِ وَطَاعَةٌ مِنْ أَفْضَلِ الطَّاعَاتِ، فَتَتَّخِذُ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ إِخْوَانًا ، تُحِبُّ لَهُمْ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ مِنَ الْخَيْرِ، وَتَكْرَهُ لَهُمْ مَا تَكْرَهُهُ لِنَفْسِكَ مِنَ الشَّرِّ، وَتَعْقِدُ قَلْبَكَ فِي تَحْقِيقِ هَذَا الْأَمْرِ الْجَلِيلِ، وَالِاتِّصَافِ بِهِ، وَالِاحْتِرَازِ مِنْ ضِدِّهِ مِنَ الْغِلِّ، وَالْحِقْدِ، وَالْحَسَدِ، وَالْبُغْضِ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
وَمَتَى رَأَيْتَ مِنْ قَلْبِكَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَبَادِرْ بِقَلْعِهِ، وَسَلِ اللهَ أَلَّا يَجْعَلَ فِي قَلْبِكَ غِلًّا عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ خَاصَّتِهِمْ وَعَامَّتِهِمْ، وَمَيِّزْ مَنْ لَهُ فِي الْإِيمَانِ مَقَامٌ جَلِيلٌ؛ كَعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَعُبَّادِهِمْ بِزِيَادَةِ مَحَبَّةٍ بِحَسَبِ مَقَامَاتِهِمْ؛ لِتَكُونَ مُوَافِقًا للهِ فِي مَحَبَّتِهِ)).
((النَّظْرَةُ الصَّحِيحَةُ إِلَى النَّاسِ))
عَنْ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ؟ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعَّفٍ -يَسْتَضْعِفُونَهُ، يَقْهَرُونَهُ، يَفْخَرُونَ عَلَيْهِ لِضَعْفِ حَالِهِ فِي الدُّنْيَا-، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ -لَأَجَابَ قَسَمَهُ-، أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ؟! كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
((الْعُتُلُّ)): الْغَلِيظُ الْجَافِي.
وَ ((الْجَوَّاظُ)): هُوَ الْجَمُوعُ الْمَنُوعُ، وَقِيلَ: الضَّخْمُ الْمُخْتَالُ فِي مِشْيَتِهِ، وَقِيلَ: الْقَصِيرُ الْبَطِينَ.
عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((مَرَّ رَجُلٌ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ لِرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٍ: ((مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟)).
فَقَالَ: ((رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ، هَذَا -وَاللهِ- حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ -أَيْ: يُزَوَّجَ-، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ)).
فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟)).
فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! هَذَا رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، هَذَا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَلَّا يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَلَّا يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ -أَيْ: تَكَلَّمَ- أَلَّا يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ)).
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِثْلِ هَذَا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((احْتَجَّتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ -أَيْ: تَخَاصَمَتْ بِمَعْنَى إِظْهَارِ الْحُجَّةِ وَالشِّكَايَةِ-، فَقَالَتِ النَّارُ: فِيَّ الْجَبَّارُونَ وَالْمُتَكَبِّرُونَ، وَقَالَتِ الْجَنَّةُ: فِيَّ ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَمَسَاكِينُهُمْ، فَقَضَى اللهُ بَيْنَهُمَا؛ إِنَّكِ الْجَنَّةُ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ، وَإِنَّكِ النَّارُ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ، وَلِكِلَيْكُمَا عَلَيَّ مِلْؤُهَا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قالَ: ((إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ السَّمِينُ الْعَظِيمُ -الْعَظِيمُ جِسْمًا- يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَزِنُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
المصدر:التَّنَمُّرُ وَالسُّخْرِيَةُ وَأَثَرُهُمَا الْمُدَمِّرُ عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ