الدِّفَاعُ عَنِ الْأَوْطَانِ وَالْأَرْضِ وَالْعِرْضِ

الدِّفَاعُ عَنِ الْأَوْطَانِ وَالْأَرْضِ وَالْعِرْضِ

((الدِّفَاعُ عَنِ الْأَوْطَانِ وَالْأَرْضِ وَالْعِرْضِ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((أَنْتَ بَعْضُ الْوَطَنِ وَالْوَطَنُ كُلُّكَ))

فَـ(الْوَطَنُ) كَلِمَةٌ صَغِيرَةٌ وَاحِدَةٌ؛ وَلَكِنَّ مَعْنَاهَا عَظِيمٌ جَلِيلٌ، فَهُوَ التُّرْبَةُ الَّتِي مِنْهَا خَرَجْنَا، وَعَلَيْهَا دَرَجْنَا، وَفِيهَا حَيَاتُنَا، وَإِلَيْهَا مَرْجِعُنَا وَمَآبُنَا.

وَهَلْ كَانَ الْوَطَنُ إِلَّا أَنْتَ، وَتِلْكَ الْعِظَامَ الَّتِي اخْتَلَطَتْ بِأَرْضِهِ مِنْ عِظَامِ آبَائِكَ وَأَجْدَادِكَ مِنَ الْقِدَمِ؟!!

فَأَنْتَ بَعْضُ الْوَطَنِ، وَالْوَطَنُ كُلُّكَ؛ فِي حِيَاتِهِ حَيَاتُكَ وَلَوْ مُتَّ، وَفِي مَوْتِهِ مَوْتُكَ وَلَوْ حَيِيتَ.

وَلَا تَحْسَبَنَّ حَيَاتَكَ هِيَ تِلْكَ الْأَيَّامَ الْقَصِيرَةَ الَّتِي تَقْضِيهَا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، تَأْكُلُ وَتَشْرَبُ، وَتَلْهُو وَتَلْعَبُ؛ إِنَّمَا حَيَاتُكَ أَجَلُّ مِنْ ذَلِكَ وَأَعْظَمُ، هِيَ ذِكْرَى الْمَاضِي، وَعِظَةُ الْحَاضِرِ، وَأَمَلُ الْمُسْتَقْبَلِ، هِيَ كُلُّ هَذَا، وَكُلُّ هَذَا هُوَ الْوَطَنُ.

الْوَطَنُ هُوَّ الْأَرْضُ الَّتِي طَوَيْنَا فِيهَا ثَوْبَ طُفُولَتِنَا الْمَرِحَةِ، وَلَا نَزَالُ نَطْوِي فِيهَا رِدَاءَ شَبَابِنَا وَشَيْخُوخَتِنَا، وَالَّتِي نَشَأْنَا فِيهَا وَأَحْبَبْنَاهَا وَفَضَّلْنَاهَا -بِحُكْمِ الطَّبْعِ وَاللُّغَةِ وَالنَّشْأَةِ- عَلَى كُلِّ بَلَدٍ سِوَاهَا.

هَذِهِ هِيَ فِطْرَةُ الْإِنْسَانِ، وَتِلْكَ هِيَ سُنَّةُ اللهِ فِي خَلْقِهِ.

((تَجْسِيدُ النَّبِيِّ ﷺ مَعْنَى حُبِّ الْوَطَنِ))

لَقَدْ جَسَّدَ نَبِيُّنَا ﷺ مَعْنَى حُبِّ الْوَطَنِ حِينَ أَخْرَجَهُ قَوْمُهُ مِنْ مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ، فَخَاطَبَهَا قَائِلًا: : ((مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلْدَةٍ وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ، وَلَوْ لَا أَنَّ قَوْمَكِ أَخْرَجُونِي مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَقَدْ دَعَا النَّبِيُّ ﷺ رَبَّهُ أَنْ يَرْزُقَهُ حُبَّ الْمَدِينَةِ لَمَّا انْتَقَلَ إِلَيْهَا؛ فَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ)).

وَحَيْثُ أَنَّ حُبَّ الْوَطَنِ غَرِيزَةٌ فِي الْإِنْسَانِ؛ فَقَدْ دَعَا النَّبِيُّ ﷺ رَبَّهُ أَنْ يَرْزُقَهُ حُبَّ الْمَدِينَةِ لَمَّا انْتَقَلَ إِلَيْهَا كَمَا فِي الْحَدِيثِ.

وَمِنْ حَنِينِ الْإِنْسَانِ إِلَى بَلَدِهِ أَنَّهُ إِذَا غَابَ عَنْهَا وَقَدِمَ عَلَيْهِ شَخْصٌ مِنْهَا سَأَلَهُ عَنْهَا يَتَلَمَّسُ أَخْبَارَهَا، وَهَذَا كَلِيمُ اللهِ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- حَنَّ إِلَى وَطَنِهِ بَعْدَ أَنْ خَرَجَ مِنْهُ مُجْبَرًا، قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [القصص: 29].

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي ((أَحْكَامِ الْقُرْآنِ)): ((قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ طَلَبَ الرُّجُوعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَحَنَّ إِلَى وَطَنِهِ، وَفِي الرُّجُوعِ إِلَى الْأَوْطَانِ تُقْتَحَمُ الْأَغْرَارُ، وَتُرْكَبُ الْأَخْطَارُ، وَتُعَلَّلُ الْخَوَاطِرُ، وَيَقُولُ: لَمَّا طَالَتِ الْمُدَّةُ لَعَلَّهُ قَدْ نُسِيَتِ التُّهْمَةُ وَبَلِيَتِ الْقِصَّةُ)).

وَهَذِهِ الْمَعَانِي الْكَبِيرَةُ تُوجَدُ دَاخِلَنَا، وَتَظْهَرُ أَقْوَى مَا تَكُونُ فِي صُوَرٍ..

الصُّورَةُ الْأُولَى: إِذَا سَافَرَ الْإِنْسَانُ مِنَّا؛ فَإِنَّنَا مَهْمَا ذَهَبْنَا إِلَى أَرْضٍ هِيَ أَجْمَلُ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ أَغْنَى مِنْ أَرْضِنَا، فَإِنَّ مَشَاعِرَ الْحُبِّ لِلْوَطَنِ يَنْفَدُ صَبْرُهَا عَنِ الْكِتْمَانِ، فَتَبُوحُ بِالْحَنِينِ إِلَى الْوَطَنِ، وَالتَّشَوُّقِ إِلَيْهِ فِي عِبَارَاتٍ يَتْلُوهَا الْإِنْسَانُ أَوْ دُمُوعٍ تَذْرِفُهَا الْعَيْنَانِ، وَهَذَا مِنْ عَلَامَةِ كَمَالِ الْعَقْلِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: ((مِنْ أَمَارَةِ الْعَاقِلِ: بِرُّهُ بِإِخْوَانِهِ، وَحَنِينُهُ إِلَى أَوْطَانِهِ، وَمُدَارَاتُهُ لِأَهْلِ زَمَانِهِ)).

قَالَ أَعْرَابِيٌّ يَتَشَوَّقُ إِلَى وَطَنِهِ:

ذَكَرْتُ بِلَادِي فَاسْتَهَلَّتْ مَدَامِعِي=بِشَوْقِي إِلَى عَهْدِ الصِّبَا الْمُتَقَادِمِ

حَنَنْتُ إِلَى أَرْضٍ بِهَا اخْضَرَّ شَارِبِي=وَحُلَّتْ بِهَا عَنِّي عُقُودُ التَّمَائِمِ

وَالتَّمَائِمُ: جَمْعُ تَمِيمَةٍ؛ وَهِيَ خَرَزَاتٌ كَانَتِ الْعَرَبُ تُعَلِّقُهَا عَلَى صِبْيَانِهَا يَتَّقُونَ بِهَا الْعَيْنَ -فِي زَعْمِهِمْ- فَأَبْطَلَهَا الْإِسْلَامُ، فَهَذَا يَذْكُرُ مَا كَانَ.

أَخَذَ ابْنُ الرُّومِيِّ هَذَا الْبَيْتَ فَقَالَ:

بَلَدٌ صَحِبْتُ بِهِ الشَّبِيبَةَ وَالصِّبَا  =    وَلَبِسْتُ فِيهِ الْعَيْشَ وَهْوَ جَدِيدُ

فَإِذَا تَمَثَّلَ فِي الضَّمِيرِ رَأَيْتُهُ    =     وَعَلَيْهِ أَفْنَانُ الشَّبَابِ تَمِيدُ

فَتَأَمَّلْ أَحْكَامًا شَرْعِيَّةً عَلَّلَهَا الْعُلَمَاءُ -رَحِمَهُمُ اللهُ- لِكَوْنِهَا شُرِعَتْ لِأَجْلِ مَا فِي مُفَارَقَةِ الْوَطَنِ مِنَ الشِّدَّةِ عَلَى النَّفْسِ.

فَالتَّعْزِيرُ -مَثَلًا- قَدْ يَكُونُ بِالنَّفْيِ عَنِ الْوَطَنِ، قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَالنَّفْسُ تَحِنُّ إِلَى الْوَطَنِ إِلَّا إِذَا اعْتَقَدَ تَحْرِيمَ الْمُقَامِ بِهِ، أَوْ أَنَّهُ مَضَرَّةٌ دُنْيَوِيَّةٌ)).

وَأَيْضًا ذَكَرُوا فِي بَابِ الْإِكْرَاهِ: ((أَنَّ مَنْ خُوِّفَ بِالنَّفْيِ عَنِ الْبَلَدِ فَذَلِكَ إِكْرَاهٌ؛ لِأَنَّ مُفَارَقَةَ الْوَطَنِ شَدِيدَةٌ)). ذَكَرَ ذَلِكَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-.

وَفِي حَدِّ الْحِرَابَةِ؛ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ إِلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33]؛ أَيْ: يُخْرَجُونَ مِنْ وَطَنِهِمْ وَعَشِيرَتِهِمْ.

قَالَ: يَكْفِيهِ مُفَارَقَةُ الْوَطَنِ وَالْعَشِيرَةِ خِذْلَانًا وَذِلَّةً؛ فَكُلُّ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ بِتَرْكِ وَطَنِهِ، أَوْ وَقَعَ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ بِتَرْكِ وَطَنِهِ؛ كُلُّ هَؤُلَاءِ يَتَمَنَّوْنَ الرُّجُوعَ إِلَى الْوَطَنِ.

فَالَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الْوَطَنِ سَوَاءٌ كَانَ لِسَفَرٍ بِاخْتِيَارِهِ أَوْ خَرَجَ مُرْغَمًا؛ فَإِنَّهُ يَتَمَنَّى الرُّجُوعَ إِلَيْهِ، وَيَتَأَلَّمُ بِالْبُعْدِ عَنْهُ، فَفِي حَالِ الْخُرُوجِ بِأَيِّ صِفَةٍ مِنَ الصِّفَاتِ يَثُورُ التَّعَلُّقُ الْعَاطِفِيُّ بِالْبَلَدِ؛ وَهَذَا أَمْرٌ مُشَاهَدٌ، أَمْرٌ يَعْرِفُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا مِنْ نَفْسِهِ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَأْكِيدٍ.

وَالصُّورَةُ الْأُخْرَى الَّتِي تَظْهَرُ أَقْوَى مَا تَكُونُ لِأَنَّهَا مُسْتَقِرَّةٌ دَاخِلَنَا: أَنَّهُ إِذَا مُسَّتْ بَلَدُكَ بِسُوءٍ صَغِيرًا كَانَ هَذَا السُّوءُ أَوْ كَبِيرًا -مَثَلًا إِذَا سَبَّهَا أَحَدٌ-؛ تَحَرَّكَتْ فِيكَ مَشَاعِرُ الْحُبِّ فَدَافَعْتَ عَنْهَا.

وَإِذَا وَقَعَ عَلَيْهَا احْتِلَالٌ أَوْ عَبَثَ بِأَمْنِهَا مُفْسِدٌ؛ فَهُنَا تَتَفَجَّرُ جَمِيعُ الْمَشَاعِرِ الْكَامِنَةِ فِيكَ، فَلَا تَرَى نَفْسَكَ الْغَالِيَةَ إِلَّا بِأَرْخَصِ عُهُودِهَا، تَجُودُ بِهَا، تَحْمِلُهَا عَلَى رَاحَتَيْكَ لَعَلَّ وَطَنَكَ الْإِسْلَامِيَّ لَا يُصَابُ بِأَذًى، وَلَا يَغْصِبُهُ مُغْتَصِبٌ؛ وَفِي هَذَا يَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190]

وَهَذَا أَمْرٌ مَضَى عَلَيْهِ النَّاسُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا.

وَفِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ يَقُولُ ابْنُ قَيْسٍ الرُّقَيَّاتِ فِي مَدْحِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ أَوْ مَدْحِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-:

إِنَّ الْبِلَادَ سِوَى بِلَادِكَ   =    ضَاقَ عَرْضُ فَضَائِهَا

فَاجْمَعْ بَنِيَّ إِلَى بَنِيكَ       =    فَأَنْتَ خَيْرُ رِعَائِهَا

نُشْهِدْكَ مِنَّا مَشْهَدًا        =    ضَنْكًا عَلَى أَعْدَائِهَا

نَحْنُ الْفَوَارِسُ مِنْ قُرَيْشٍ   =     يَوْمَ جِدِّ لِقَائِهَا

فَانْظُرْ إِلَى التَّضْحِيَةِ الْعَظِيمَةِ بِبَذْلِ النَّفْسِ وَالْأَوْلَادِ فِي سَبِيلِ الدِّفَاعِ عَنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ.

فَهَذِهِ بَعْضُ الصُّوَرِ الَّتِي تَظْهَرُ مِنْ خِلَالِهَا مَشَاعِرُ الْحُبِّ لِلْوَطَنِ فِي صِدْقٍ وَوُضُوحٍ وَجَلَاءٍ، وَهُنَاكَ صُوَرٌ كَثِيرَةٌ كُلُّهَا تَشْهَدُ بِأَنَّ حُبَّ الْوَطَنِ مِنَ الْإِيمَانِ.

((مُقْتَضَيَاتُ الْوَطَنِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ))

إِنَّ حَقَّ الْوَطَنِ عَلَى أَبْنَائِهِ مِنْ أَوْجَبِ الْحُقُوقِ وَآكَدِهَا، وَالْمُشَارَكَةَ فِي بِنَائِهِ وَرُقِيِّهِ مِنْ أَعْظَمِ الْمُهِمَّاتِ وَأَشْرَفِهَا، وَالدِّفَاعَ عَنْهُ؛ فَالْحُرُّ الْكَرِيمُ يَفْتَدِي وَطَنَهُ بِالنَّفْسِ وَالنَّفِيسِ، وَللهِ دَرُّ الْقَائِلِ:

وَلِلْأَوْطَانِ فِي دَمِ كُلِّ حُرٍّ        =     يَدٌ سَلَفَتْ وَدَيْنٌ مُسْتَحَق

((إِنَّ الْوَطَنَ هُوَ مَدْرَسَةُ الْحَقِّ وَالْوَاجِبِ، يَقْضِي الْعُمُرَ فِيهَا الطَّالِبُ؛ حَقُّ اللهِ وَمَا أَقْدَسَهُ وَأَقْدَمَهُ، وَحَقُّ الْوَالِدَيْنِ وَمَا أَعْظَمَهُ، وَحَقُّ النَّفْسِ وَمَا أَلْزَمَهُ، إِلَى أَخٍ تُنْصِفُهُ، أَوْ جَارٍ تُسْعِفُهُ، أَوْ رَفِيقٍ فِي رِحَالِ الْحَيَاةِ تَتَأَلَّفُهُ، أَوْ فَضْلٍ لِلرِّجَالِ تُزَيِّنُهُ وَلَا تُزَيِّفُهُ.

فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ مِنْ مَصَالِحِ الْوَطَنِ الْمُقَدَّسَةِ وَأَعْبَاءِ أَمَانَاتِهِ الْمُعَظَّمَةِ صِيَانَةُ بِنَائِهِ، وَالضَّنَانَةُ بِأَشْيَائِهِ، وَالنَّصِيحَةُ لِأَبْنَائِهِ، وَالْمَوْتُ دُونَ لِوَائِهِ، قُيُودٌ فِي الْحَيَاةِ بِلَا عَدَدٍ، يَكْسِرُهَا الْمَوْتُ وَهُوَ قَيْدُ الْأَبَدِ.

رَأْسُ مَالِ الْأُمَمِ فِيهِ مِنْ كُلِّ ثَمَرٍ كَرِيمٍ، وَأَثَرٍ ضَئِيلٍ أَوْ عَظِيمٍ، وَمُدَّخَرٍ حَدِيثٍ أَوْ قَدِيمٍ؛ يَنْمُو عَلَى الدِّرْهَمِ كَمَا يَنْمُو عَلَى الدِّينَارِ، وَيَرْبُو عَلَى الرَّذَاذِ كَمَا يَرْبُو عَلَى الْوَابِلِ الْمِدْرَارِ، بَحْرٌ يَتَقَبَّلُ مِنَ السُّحُبِ وَيَتَقَبَّلُ مِنَ الْأَنْهَارِ.

فَيَا خَادِمَ الْوَطَنِ! مَاذَا أَعَدَدْتَ لِلْبِنَاءِ مِنْ حَجَرٍ، أَوْ زِدْتَ فِي الْفِنَاءِ مِنْ شَجَرٍ؟!!

عَلَيْكَ أَنْ تَبْلُغَ الْجَهْدَ، وَلَيْسَ عَلَيْكَ أَنْ تَبْنِيَ السَّدَّ؛ فَإِنَّمَا الْوَطَنُ كَالْبُنْيَانِ.. فَقِيرٌ إِلَى الرَّأْسِ الْعَاقِلِ، وَالسَّاعِدِ الْعَامِلِ، وَإِلَى الْعَتَبِ الْوَضِيعَةِ، وَالسُّقُوفِ الرَّفِيعَةِ.

وَكَالرَّوْضِ مُحْتَاجٌ إِلَى رَخِيصِ الشَّجَرِ وَثَمِينِهِ، وَنَجِيبِ النَّبَاتِ وَهَجِينِهِ؛ إِذْ كَانَ ائْتِلَافُهُ فِي اخْتِلَافِ رَيَاحِينِهِ».

((الدِّفَاعُ عَنِ الْأَوْطَانِ وَالْأَرْضِ وَالْعِرْضِ))

إِنَّ حُبَّ الْوَطَنِ لَيْسَ مُجَرَّدَ كَلِمَاتٍ تُقَالُ أَوْ شِعَارَاتٍ تُرْفَعُ، إِنَّمَا هُوَ سُلُوكٌ وَتَضْحِيَّاتٌ وَحُقُوقٌ تُؤَدَّى؛ مِنْ أَعْلَاهَا وَأَشْرَفِهَا: التَّضْحِيَةُ فِي سَبِيلِ الْوَطَنِ الْإِسْلَامِيِّ الْعَزِيزِ، وَحِمَايَتُهُ مِنْ أَيِّ خَطَرٍ يَتَهَدَّدُهُ، أَوْ يُقَوِّضُ بُنْيَانَهُ، أَوْ يُزَعْزِعُ أَرْكَانَهُ، أَوْ يُرَوِّعُ مُوَاطِنِيهِ، فَحِمَايَةُ الْأَوْطَانِ مِنْ صَمِيمِ مَقَاصِدِ الْأَدْيَانِ، وَهَذَا سَبِيلُ الشُّرَفَاءِ وَالْعُظَمَاءِ الْأَوْفِيَاءِ، فَالْوَطَنِيَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ فِدَاءٌ وَتَضْحِيَةٌ، وَاعْتِزَازٌ بِالْوَطَنِ وَتُرَابِهِ، وَحِفَاظٌ عَلَى مُؤَسَّسَاتِهِ؛ فَالْوَطَنُ إِنْ كَانَ إِسْلَامِيًّا يَجِبُ أَنْ يُحَبَّ، وَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُشَجِّعَ عَلَى الْخَيْرِ فِي وَطَنِهِ، وَعَلى بَقَائِهِ إِسْلَامِيًّا، وَأَنْ يَسْعَى لِاسْتِقْرَارِ أَوْضَاعِهِ وَأَهْلِهِ، وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ الْمُسْلِمِينَ.

وَمِنْ لَوَازِمِ الْحُبِّ الشَّرْعِيِّ لِلْأَوْطَانِ الْمُسْلِمَةِ أَيْضًا: أَنْ يُحَافَظَ عَلَى أَمْنِهَا وَاسْتِقْرَارِهَا، وَأَنْ تُجَنَّبَ الْأَسْبَابَ الْمُفْضِيَةَ إِلَى الْفَوْضَى وَالِاضْطِرَابِ وَالْفَسَادِ؛ فَالْأَمْنُ فِي الْأَوْطَانِ مِنْ أَعْظَمِ مِنَنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ عَلَى الْإِنْسَانِ.

فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَعْرِفَ قَدْرَ بَلَدِهِ الْإِسْلَامِيِّ، وَأَنْ يُدَافِعَ عَنْهُ، وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَحْصِيلِ اسْتِقْرَارِهِ وَأَمْنِهِ، وبُعْدِهِ وَإِبْعَادِهِ عَنِ الْفَوْضَى، وَعَنْ الِاضْطِرَابِ، وَعَنْ وُقُوعِ الْمُشَاغَبَاتِ.

عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُحِبَّ بَلَدَهُ الْإِسْلَامِيَّ، وَأَنْ يُدَافِعَ عَنْهُ، وَأَنْ يَمُوتَ دُونَهُ؛ فَإِنَّ مَنْ مَاتَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَالْأَرْضُ مَالٌ، فَمَنْ مَاتَ دُونَ مَالِهِ فَهُو شَهِيدٌ.

وَمِصْرُ الَّتِي لَا يَعْرِفُ أَبْنَاؤُهَا قِيمَتَهَا يَنْبَغِي أَنْ يُحَافَظَ عَلَيْهَا، وَأَنْ يُحَافَظَ عَلَى وَحْدَتِهَا، وَأَنْ تُجَنَّبَ الْفَوْضَى وَالْاضْطِرَابَ، وَأَنْ تُنَعَّمَ بِالْأَمْنِ وَالْأَمَانِ وَالِاسْتِقْرَارِ.

إِنَّ الدِّفَاعَ عَنِ الْأَوْطَانِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَالْأَرْضِ وَالْعِرْضِ وَاجِبٌ شَرْعِيٌّ وَضَرُورَةٌ وَطَنِيَّةٌ، وَهُوَ دَلِيلُ نُبْلِ النَّفْسِ، وَعُلُوِّ الْهِمَّةِ؛ فَالْوَطَنِيَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ فِدَاءٌ وَتَضْحِيَةٌ، وَاعْتِزَازٌ بِالْوَطَنِ وَالْأَرْضِ وَالْعِرْضِ.

إِنَّ مِنْ عَلَامَاتِ حُسْنِ الْخَاتِمَةِ: الْمَوْتَ مُرَابِطًا فِي سَبِيلِ اللهِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَأُمِنَ الْفَتَّانُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَزَادَ: ((وَبُعِثَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَهِيدًا)).

وَقَالَ ﷺ: ((كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ إِلَّا الَّذِي مَاتَ مُرَابِطًا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنَّهُ يُنَمَّى لَهُ عَمَلُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَيَأْمَنُ فِتْنَةَ الْقَبْرِ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَأَحْمَدُ.

وَمِنْ عَلَامَاتِ حُسْنِ الْخَاتِمَةِ: الْمَوْتُ فِي سَبِيلِ الدِّفَاعِ عَنِ الدِّينِ، وَفِي سَبِيلِ الدِّفَاعِ عَنِ النَّفْسِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمَهِ فَهُوَ شَهِيدٌ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَقَالَ ﷺ: ((مَنْ قُتِلَ دُونَ مَظْلِمَتِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ)). أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

فَالْمَوْتُ فِي سَبِيلِ الدِّفَاعِ عَنِ الدِّينِ، وَالدِّفَاعِ عَنِ الْأَهْلِ، وَالدِّفَاعِ عَنِ الْمَالِ، وَالدِّفَاعِ عَنِ الدَّمِ شَهَادَةٌ، كَمَا قَالَ نَبِيُّنَا ﷺ.

وَيَقُولُ -صَلَوَاتُ رَبِّي وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ-: ((أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِلَيْلَةٍ أَفْضَلَ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ؟ حَارِسُ الْحَرَسِ فِي أَرْضِ خَوْفٍ لَعَلَّهُ أَلَّا يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ)). أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَيَقُولُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: ((عَيْنَانِ لَا تَمَسَّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللهِ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

كَمَا ضَرَبَ نَبِيُّنَا -صَلَوَاتُ رَبِّي وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ- أَعْظَمَ الْأَمْثِلَةِ فِي الدِّفَاعِ عَنِ الْأَوْطَانِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَحِمَايَةِ الْأَرْضِ وَالْعِرْضِ؛ فَكَانَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- يَتَصَدَّرُ الْمَوَاقِفَ دِفَاعًا عَنْ أَهْلِهِ وَوَطَنِهِ، فَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَانَ النَّبِيُّ أَحْسَنَ النَّاسِ، وَأَشْجَعَ النَّاسِ، وَلقَدْ فَزِعَ أَهْلُ المَدِينَةِ لَيْلَةً، فَخَرَجُوا نَحْوَ الصَّوْتِ، فَاسْتَقْبَلَهُمُ النَّبِيُّ وَقَدِ اسْتَبْرَأَ الْخَبَرَ، وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ، وَفِي عُنُقِهِ السَّيْفُ، وَهُوَ يَقُولُ: ((لَمْ تُرَاعُوا، لَمْ تُرَاعُوا)).

وَيَقُولُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((كُنَّا إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ وَلَقِيَ الْقَوْمُ الْقَوْمَ اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللهِ ، فَمَا يَكُونُ مِنَّا أَحَدٌ أَدْنَى إِلَى الْقَوْمِ مِنْهُ)).

وَحِمَايَةُ الْأَوْطَانِ ضَرُورَةٌ لِحِمَايَةِ الْأَعْرَاضِ؛ فَالْوَطَنُ يَحْمِي الدِّينَ وَالْأَرْضَ وَالْعِرْضَ، وَقَدْ عَظَّمَ الْإِسْلَامُ شَأْنَ الْأَعْرَاضِ، وَأَوْلَاهَا عِنَايَةً خَاصَّةً، فَحَرَّمَ الِاعْتِدَاءَ عَلَيْهَا أَوِ النَّيْلَ مِنْهَا بِأَيِّ وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَجَعَلَ الْحِفَاظَ عَلَيْهَا وَالدِّفَاعَ عَنْهَا وَاجِبًا دِينِيًّا وَمَقْصِدًا شَرْعِيًّا، فَشَرَعَ مِنْ أَجْلِ صِيَانَتِهَا الْحُدُودَ، وَنَهَى عَنْ كُلِّ مَا يَنَالُ مِنْ كَرَامَةِ الْإِنْسَانِ؛ إِذْ لَا يَقْبَلُ حُرٌّ أَنْ يُسْتَبَاحَ عِرْضُهُ أَوْ يُسْلَبَ وَطَنُهُ وَأَرْضُهُ.

إِنَّ مِنْ عَظَمَةِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ: أَنَّهَا حَفِظَتْ لِلْإِنْسَانِ كَرَامَتَهُ وَإِنْسَانِيَّتَهُ، وَشَرَفَهُ وَمُرُوءَتَهُ؛ فَهِيَ شَرِيعَةُ الطُّهْرِ وَالْعِفَّةِ، وَقَدْ أَوْجَبَ الْإِسْلَامُ صِيَانَةَ الْأَعْرَاضِ، وَالْمُحَافَظَةَ عَلَيْهَا، وَحَرَّمَ الِاعْتِدَاءَ عَلَيْهَا، وَالنَّيْلَ مِنْهَا بِأَيِّ وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ؛ حَيْثُ يَقُولُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90].

(({وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ}: وَهُوَ كُلُّ ذَنْبٍ عَظِيمٍ اسْتَفْحَشَتْهُ الشَّرَائِعُ وَالْفِطَرُ؛ كَالشِّرْكِ بِاللهِ، وَالْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَالزِّنَا، وَالسَّرِقَةِ، وَالْعُجْبِ، وَالْكِبْرِ، وَاحْتِقَارِ الْخَلْقِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْفَوَاحِشِ.

وَيَدْخُلُ فِي الْمُنْكَرِ كُلُّ ذَنْبٍ وَمَعْصِيَةٍ مُتَعَلِّقَةٍ بِحَقِّ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَبِالْبَغْيِ كُلُّ عُدْوَانٍ عَلَى الْخَلْقِ فِي الدِّمَاءِ، وَالْأَمْوَالِ، وَالْأَعْرَاضِ.

فَصَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ جَامِعَةً لِجَمِيعِ الْمَأْمُورَاتِ وَالْمَنْهِيَّاتِ، لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ إِلَّا دَخَلَ فِيهَا، فَهَذِهِ قَاعِدَةٌ تَرْجِعُ إِلَيْهَا سَائِرُ الْجُزْئِيَّاتِ، فَكُلُّ مَسْأَلَةٍ مُشْتَمِلَةٍ عَلَى عَدْلٍ، أَوْ إِحْسَانٍ، أَوْ إِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى؛ فَهِيَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ.

وَكُلُّ مَسْأَلَةٍ مُشْتَمِلَةٍ عَلَى فَحْشَاءٍ، أَوْ مُنْكَرٍ، أَوْ بَغْيٍ؛ فَهِيَ مِمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَبِهَا يُعْلَمُ حُسْنُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَقُبْحُ مَا نَهَى عَنْهُ، وَبِهَا يُعْتَبَرُ مَا عِنْدَ النَّاسِ مِنَ الْأَقْوَالِ، وَتُرَدُّ إِلَيْهَا سَائِرُ الْأَحْوَالِ؛ فَتَبَارَكَ مَنْ جَعَلَ فِي كَلَامِهِ الْهُدَى، وَالشِّفَاءَ، وَالنُّورَ، وَالْفُرْقَانَ بَيْنَ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {يَعِظُكُمْ بِهِ} أَيْ: بِمَا بَيَّنَهُ لَكُمْ فِي كِتَابِهِ.. بِأَمْرِكُمْ بِمَا فِيهِ غَايَةُ صَلَاحِكُمْ، وَنَهْيِكُمْ عَمَّا فِيهِ مَضَرَّتُكُمْ.

{لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} مَا يَعِظُكُمْ بِهِ فَتَفْهَمُونَهُ وَتَعْقِلُونَهُ؛ فَإِنَّكُمْ إِذَا تَذَكَّرْتُمُوهُ وَعَقِلْتُمُوهُ؛ عَمِلْتُمْ بِمُقْتَضَاهُ فَسَعِدْتُمْ سَعَادَةً لَا شَقَاوَةَ مَعَهَا)).

وَقَدْ بَشَّرَ نَبِيُّنَا ﷺ مَنْ يَحْمِي عِرْضَهُ بِرُفْقَةِ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، يَقُولُ ﷺ: ((مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ، أَوْ دُونَ دَمِهِ، أَوْ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

((الْحِفَاظُ عَلَى الْأَوْطَانِ بِتَوْحِيدِ الْجُهُودِ وَنَبْذِ الْفُرْقَةِ))

لَا شَكَّ أَنَّ الدِّفَاعَ عَنِ الْأَوْطَانِ وَافْتِدَاءَهَا بِالنَّفْسِ وَالنَّفِيسِ، مَعَ الْحِفَاظِ عَلَيْهَا وَعَدَمِ السَّمَاحِ لِأَحَدٍ أَنْ يَنَالَ مِنْهَا، أَوْ يُفْسِدَ فِيهَا، أَوْ يَعْبَثَ بِأَمْنِهَا، أَوْ يُسْهِمَ فِي بَثِّ الْفُرْقَةِ وَالْخِلَافِ أَوِ الْأَكَاذِيبِ وَالشَّائِعَاتِ فَرِيضَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَضَرُورَةٌ وَطَنِيَّةٌ، فَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ وَطَنِيٍّ أَنْ يَنْهَضَ بِوَطَنِهِ فِي كَافَّةِ الْمَجَالَاتِ، بِمَا يَقْتَضِي تَوْحِيدَ الْجُهُودِ، وَنَبْذَ الْخِلَافَاتِ، وَالْحِرْصَ عَلَى الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، وَتَقْدِيمَهَا عَلَى الْمَصْلَحَةِ الْخَاصَّةِ، امْتِثَالًا لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103].

(({وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}: قِيلَ: {بِحَبْلِ اللَّهِ} أَيْ: بِعَهْدِ اللَّهِ، وَقِيلَ : {بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ} يَعْنِي: الْقُرْآنَ.

وَقَوْلُهُ: {وَلَا تَفَرَّقُوا}: أَمَرَهُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَنَهَاهُمْ عَنِ التَّفْرِقَةِ، وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ الْمُتَعَدِّدَةُ بِالنَّهْيِ عَنِ التَّفَرُّقِ وَالْأَمْرِ بِالِاجْتِمَاعِ وَالِائْتِلَافِ، كَمَا فِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) مِنْ حَدِيثِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: ((إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا، وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلَاثًا، يَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَأَنْ تُنَاصِحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ، وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلَاثًا : قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ)).

وَقَدْ ضُمِنَتْ لَهُمُ الْعِصْمَةُ -عِنْدَ اتِّفَاقِهِمْ- مِنَ الْخَطَأِ، كَمَا وَرَدَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الْمُتَعَدِّدَةُ -أَيْضًا-، وَخِيفَ عَلَيْهِمُ الِافْتِرَاقُ وَالِاخْتِلَافُ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ فَافْتَرَقُوا عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، مِنْهَا فِرْقَةٌ نَاجِيَةٌ إِلَى الْجَنَّةِ وَمُسَلَّمَةٌ مِنْ عَذَابِ النَّارِ، وَهُمُ الَّذِينَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَصْحَابُهُ.

وَقَوْلُهُ: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، هَذَا السِّيَاقُ فِي شَأْنِ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، فَإِنَّهُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَعَدَاوَةٌ شَدِيدَةٌ وَضَغَائِنُ، وَإِحَنٌ وَذُحُولٌ طَالَ بِسَبَبِهَا قِتَالُهُمْ وَالْوَقَائِعُ بَيْنَهُمْ، فَلَمَّا جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ فَدَخَلَ فِيهِ مَنْ دَخَلَ مِنْهُمْ صَارُوا إِخْوَانًا مُتَحَابِّينَ بِجَلَالِ اللَّهِ، مُتَوَاصِلِينَ فِي ذَاتِ اللَّهِ، مُتَعَاوِنِينَ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى)).

وقولِهِ جلَّ شأنُهُ: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46].

‏(({وَلَا تَنَازَعُوا‏}‏ تَنَازُعًا يُوجِبُ تَشَتُّتَ الْقُلُوبِ وَتَفَرُّقَهَا، ‏{‏فَتَفْشَلُوا‏}‏ أَيْ‏:‏ تَجْبُنُوا ‏{‏وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ‏}‏ أَيْ‏:‏ تَنْحَلُّ عَزَائِمُكُمْ، وَتَفَرَّقُ قُوَّتُكُمْ، وَيُرْفَعُ مَا وُعِدْتُمْ بِهِ مِنَ النَّصْرِ عَلَى طَاعَةِ اللّهِ وَرَسُولِهِ،‏ ‏{‏وَاصْبِرُوا‏}‏ نُفُوسَكُمْ عَلَى طَاعَةِ اللهِ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ‏}‏ بِالْعَوْنِ وَالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ، وَاخْشَعُوا لِرَبِّكُمْ وَاخْضَعُوا لَهُ)).

فَيَا أَيُّهَا الْأَحَبَّةُ فِي اللهِ! اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَاحْمَدُوا رَبَّكُمْ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، وَقُومُوا بِمَا أَوْجَبَ اللهُ عَلَيْكُمْ مِنَ التَّحَابِّ وَالتَّعَاوُنِ وَالِاجْتِمَاعِ عَلَى الْمَصَالِحِ؛ لِتَكُونُوا مِنَ الْفَائِزِينَ.

اجْتَمِعُوا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَتَعَاوَنُوا وَلَا تَخَاذَلُوا، وَتَآلَفُوا وَلَا تَنَافَرُوا، وَكُونُوا فِي جَمِيعِ أَعْمَالِكُمْ مُخْلِصِينَ.

إِنَّ بِالِاجْتِمَاعِ تَتَّفِقُ الْكَلِمَةُ، وَتَجْتَمِعُ الْآرَاءُ، وَتَتِمُّ الْمَصَالِحُ، إِنَّ الْمَصَالِحَ الْعَامَّةَ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ هَدَفًا لِلْأَغْرَاضِ الشَّخْصِيَّةِ، وَالْعُلُوِّ الْفَرْدِيِّ، إِنَّ الْمَصَالِحَ الْعَامَّةَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ فَوْقَ جَمِيعِ الْمُسْتَوِيَاتِ الَّتِي دُونَهَا، يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَبْسُوطَةً بِذَاتِهَا وَلِذَاتِهَا، يَجِبُ أَنْ تُدْرَسَ مِنْ جَمِيعِ النَّوَاحِي، وَأَنْ تُسْتَخْلَصَ فِيهَا جَمِيعُ الْآرَاءِ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِيمَا يُمْكِنُ مِنَ الطُّرُقِ الْمُوصِلَةِ إِلَيْهَا، فَيُتَّفَقُ عَلَيْهَا وَيُمْشَى عَلَيْهَا.

وَالْإِنْسَانُ مَتَى خَلُصَتْ نِيَّتُهُ، وَصَلُحَ عَمَلُهُ بِالِاجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ فِي الْمَصَالِحِ، وَسُلُوكِ أَقْرَبِ الطُّرُقِ الْمُوصِلَةِ إِلَيْهَا، مَتَى اتَّصَفَ بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ: الْإِخْلَاصُ وَالِاجْتِهَادُ فِي الْإِصْلَاحِ؛ صَلُحَتِ الْأَشْيَاءُ وَقَامَتِ الْأُمُورُ، وَمَتَى نَقَصَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ إِمَّا الْإِخْلَاصُ وَإِمَّا الِاجْتِهَادُ؛ فَإِنَّهُ يُفَوِّتُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ بِقَدْرِ ذَلِكَ.

إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ إِذَا نَظَرَ إِلَى الْأُمُورِ نَظَرَ إِلَيْهَا نَظْرَةَ اسْتِغْلَالٍ لِمَصْلَحَتِهِ الْخَاصَّةِ، أَوْ نَظَرَ إِلَيْهَا نَظْرَةً قَاصِرَةً مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ، وَبِذَلِكَ تَخْتَلُّ الْأُمُورُ وَتَفُوتُ الْمَصَالِحُ.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! إِنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْنَا كَأَبْنَاءِ أُمَّةٍ وَاحِدَةٍ (وَطَنٍ وَاحِدٍ) أَنْ نَسْعَى لِهَدَفٍ وَاحِدٍ هُوَ إِصْلَاحُ هَذِهِ الْأُمَّةِ (هَذَا الْبَلَدِ) إِصْلَاحًا دِينِيًّا وَدُنْيَوِيًّا بِقَدْرِ مَا يُمْكِنُ، وَلَنْ يُمْكِنَ ذَلِكَ حَتَّى تَتَّفِقَ كَلِمَتُنَا، وَنَتْرَكَ الْمُنَازَعَاتِ بَيْنَنَا، وَالْمُعَارَضَاتِ الَّتِي لَا تُحَقِّقُ هَدَفًا، بَلْ رُبَّمَا تُفَوِّتُ مقصودا، وَتُعْدِمُ مَوْجُودًا.

إِنَّ الْكَلِمَةَ إِذَا تَفَرَّقَتْ دَخَلَتِ الْأُمُورَ الْأَهْوَاءُ وَالضَّغَائِنُ، وَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ يَسْعَى لِتَنْفِيذِ كَلِمَتِهِ، وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحَقَّ وَالْعَدْلَ فِي خِلَافِهَا، وَلَكِنْ إِذَا اجْتَمَعْنَا مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَدَرَسْنَا الْمَوْضُوعَ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ، وَاتَّفَقْنَا عَلَى مَا نَرَاهُ مُمْكِنًا نَافِعًا، مِنْ غَيْرِ أَنْ نَنْظُرَ إِلَى مَصَالِحِنَا الْخَاصَّةِ، حَصَلَ لَنَا بِذَلِكَ خَيْرٌ كَثِيرٌ.

وَثِقُوا أَيُّهَا الْأُخْوَةُ أَنَّكُمْ مَتَى أَخْلَصْتُمُ النِّيَّةَ، وَسَلَكْتُمُ الْحِكْمَةَ فِي الْحُصُولِ عَلَى الْمَطْلُوبِ، فَإِنَّ اللهَ سَيُيَسِّرُ لَكُمُ الْأُمُورَ، وَيُصْلِحُ لَكُمُ الْأَعْمَالَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب: 70-71].

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ! لَقَدْ مَثَّلَ النَّبِيُّ ﷺ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ بِالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَهَذَا هُوَ الْمِثَالُ الصَّحِيحُ لِكُلِّ شَعْبٍ مُؤْمِنٍ، أَنْ يَتَعَاوَنَ أفْرَادُهُ فِي إِقَامَةِ بِنَائِهِ، بِحَيْثُ يَكُونُ الْغَرَضُ تَشْيِيدَ هَذَا الْبِنَاءِ وَتَمَاسَكَهُ وَتَرَاصَّهُ، بِحَيْثُ يُكَمِّلُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَيُقَوِّمُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَلَا إِيمَانَ كَامِلَ مَعَ التَّفَرُّقِ، وَلَا بِنَاءَ مُحْكَمٌ مَعَ التَّفَكُّكِ.

أَرَأَيْتُمْ لَوْ أُخِذَ مِنَ الْبِنَاءِ لَبِنَةٌ؛ أَلَا يَنْقُصُ هَذَا الْبِنَاء؟! فَكَيْفَ إِذَا كَانَتِ اللَّبِنَاتُ مُتَنَاثِرَةً مُتَنَافِرَةً، بَلْ كُلُّ وَاحِدَةٍ تَهْدِمُ الْأُخْرَى وَتُزَلْزِلُهَا؟!!

فَيَا أَيُّهَا النَّاسُ اجْتَمِعُوا عَلَى الْحَقِّ، وَتَعَاوَنُوا عَلَيْهِ، وَلَا تَبْعُدُوا شَطَطًا، وَلَا تَقُولُوا بَاطِلًا، وَتَنَاصَحُوا فِيمَا بَيْنَكُمْ، وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ.

((أُمُورُ الْأَوْطَانِ الْعَامَّةِ مِنِ اخْتِصَاصِ أُولِي الْأَمْرِ))

مَا أَحْوَجَنَا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ أَنْ نَشْعُرَ بِقَدْرِ أَوْطَانِنَا، وَأَنْ نَتَيَقَّظَ لِكُلِّ مُحَاوَلَةٍ لِلنَّيْلِ مِنْهَا، حَيْثُ يَقُولُ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ)} [النساء: 71].

مَعَ التَّأْكِيدِ أَنَّ أَمْرَ الْأَوْطَانِ الْعَامِّ يُقَدِّرُهُ أُولُو الْأَمْرِ، وَلَيْسَ آحَادَ النَّاسِ؛ فَقِيَادَةُ الدُّوَلِ وَالْعُبُورُ بِهَا إِلَى بَرِّ الْأَمَانِ يَحْتَاجُ إِلَى عِلْمٍ، وَتَرَاكُمِ خِبْرَاتٍ، وَتَوَفُّرِ مَعْلُومَاتٍ تُمَكِّنُ وَلِيَّ الْأَمْرِ مِنِ اتِّخَاذِ الْقَرَارِ الْمُنَاسِبِ فِي التَّوْقِيتِ الْمُنَاسِبِ.

إِنَّ سِيَاسَةَ الْأُمُورِ مِنْ شُؤُونِ السَّاسَةِ؛ فَهِيَ أُمُورٌ تَحْتَاجُ إِلَى عِلْمٍ وَمَعْرِفَةٍ, وَمُسْتَجَدَّاتُهَا مِنَ النَّوَازِلِ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى عُلَمَاءَ يُبْصِرُونَ الْأُمُورَ جَيِّدًا, فَالْعُلَمَاءُ وَالسَّاسَةُ -وَهُمْ وُلَاةُ الْأَمْرِ- أَدْرَى بِذَلِكَ.

قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْمَاوَرْدِيُّ الشَّافِعِيُّ: ((وَلَمَّا كَانَتِ الْأَحْكَامُ السُّلْطَانِيَّةُ بِوُلَاةِ الْأُمُورِ أَحَقَّ, وَكَانَ امْتِزَاجُهَا بِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ يَقْطَعُهُمْ عَنْ تَصَفُّحِهَا مَعَ تَشَاغُلِهِمْ بِالسِّياسَةِ وَالتَّدْبِيرِ؛ أَفْرَدْتُ لَهَا كِتَابًا امْتَثَلْتُ فِيهِ أَمْرَ مَنْ لَزِمَتْ طَاعَتُهُ؛ لِيَعْلَمَ مَذَاهِبَ الْفُقَهَاءِ فِيمَا لَهُ مِنْهَا فَيَسْتَوْفِيَهُ, وَمَا عَلَيْهِ مِنْهَا فَيُوَفِّيَهُ; تَوَخِّيًا لِلْعَدْلِ فِي تَنْفِيذِهِ وَقَضَائِهِ)).

وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ: ((لَمَّا كَانَتِ الْأَحْكَامُ السُّلْطَانِيَّةُ -أَيِ: السِّيَاسَةُ- بِوُلَاةِ الْأُمُورِ أَحَقَّ))، فَإِنَّ الرَّجُلَ أَعْطَى الْعِلْمَ حَقَّهُ, وَلَوْ لَا انْشِغَالُ وُلَاةِ الْأَمْرِ عَنْ الِاطِّلَاعِ وَالْقِرَاءَةِ حَوْلَ هَذَا الشَّأْنِ؛ لَمَا كَتَبَ وَأَلَّفَ فِيهِ.

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي، وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُونَ))).

قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟

قَالَ: ((فُوا بِبَيْعَةِ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ، وَأَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ؛ فَإِنَّ اللهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ)).

وَمَعْنَى قَوْلِهِ ﷺ: ((تَسُوسُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ))؛ قَالَ عَنْهُ ابْنُ حَجَرٍ: ((أَيْ: إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا ظَهَرَ فِيهِمْ فَسَادٌ؛ بَعَثَ اللَّهُ لَهُمْ نَبِيًّا يُقيمُ لَهُم أَمْرَهُمْ, وَيُزِيلُ مَا غَيَّرُوا مِنْ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ, وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلرَّعِيَّةِ مِنْ قَائِمٍ بِأُمُورِهِم يَحْمِلُهَا عَلَى الطَّرِيقِ الْحَسَنَةِ، وَيُنْصِفُ الْمَظْلُومَ مِنَ الظَّالِمِ)).

فَتَأَمَّلْ مَنِ الَّذِي يَسُوسُ الْقَوْمَ -أَيْ: يُدِيرُ أُمُورَهُمْ-؟ إِنَّهُمُ الْأَنْبِيَاءُ خَيْرُ الْبَشَرِ عِلْمًا وَحِكْمَةً وَخُلُقًا, وَالْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ؛ لِذَا يَسِيرُونَ عَلَى هَدْيِهِمْ وَسُنَّتِهِمْ؛ فَلَيْسَ الْأَمْرُ لِكُلِّ أَحَدٍ, وَلَا تُطْرَحُ السِّيَاسَةُ وَشُؤُونُ الدَّوْلَةِ وَأَسْرَارُهَا عَلَى مَسَامِعِ كُلِّ أَحَدٍ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَا يَفْهَمُ كُلُّهُمْ وَلَا يَدْرِي كَثِيرٌ مِنْهُمُ الْمَصْلَحَةَ مِنَ الْمَفْسَدَةِ.

لِذَا لَم يَكُنْ كِبَارُ الصَّحَابَةِ وَقَادَتُهُمْ -كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-- يُخْبِرُونَ النَّاسَ بِكُلِّ شَيْءٍ, بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ بَيْنَ الْخَاصَّةِ مِنْهُمْ.

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((كُنْتُ أُقْرِئُ رِجَالًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، مِنْهُمْ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، فَبَيْنَمَا أَنَا فِي مَنْزِلِهِ بِمِنًى، وَهُوَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ فِي آخِرِ حَجَّةٍ حَجَّهَا؛ إِذْ رَجَعَ إِلَيَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَقَالَ: لَوْ رَأَيْتَ رَجُلًا أَتَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْيَوْمَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! هَلْ لَكَ فِي فُلَانٍ؟ يَقُولُ: لَوْ قَدْ مَاتَ عُمَرُ لَقَدْ بَايَعْتُ فُلَانًا، فَوَاللَّهِ مَا كَانَتْ بَيْعَةُ أَبِي بَكْرٍ إِلَّا فَلْتَةً فَتَمَّتْ، فَغَضِبَ عُمَرُ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَقَائِمٌ الْعَشِيَّةَ فِي النَّاسِ، فَمُحَذِّرُهُمْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَغْصِبُوهُمْ أُمُورَهُمْ.

قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! لَا تَفْعَلْ؛ فَإِنَّ الْمَوْسِمَ يَجْمَعُ رَعَاعَ النَّاسِ وَغَوْغَاءَهُمْ، فَإِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَغْلِبُونَ عَلَى قُرْبِكَ حِينَ تَقُومُ فِي النَّاسِ، وَأَنَا أَخْشَى أَنْ تَقُومَ فَتَقُولَ مَقَالَةً يُطَيِّرُهَا عَنْكَ كُلُّ مُطَيِّرٍ، وَأَلَّا يَعُوهَا، وَأَلَّا يَضَعُوهَا عَلَى مَوَاضِعِهَا، فَأَمْهِلْ حَتَّى تَقْدُمَ الْمَدِينَةَ؛ فَإِنَّهَا دَارُ الْهِجْرَةِ وَالسُّنَّةِ، فَتَخْلُصَ بِأَهْلِ الْفِقْهِ وَأَشْرَافِ النَّاسِ، فَتَقُولَ مَا قُلْتَ مُتَمَكِّنًا، فَيَعِيَ أَهْلُ الْعِلْمِ مَقَالَتَكَ، وَيَضَعُونَهَا عَلَى مَوَاضِعِهَا.

فَقَالَ عُمَرُ: أَمَا وَاللَّهِ -إِنْ شَاءَ اللَّهُ- لَأَقُومَنَّ بِذَلِكَ أَوَّلَ مَقَامٍ أَقُومُهُ بِالْمَدِينَةِ)). وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَينِ)).

فَالْحَاصِلُ أَنَّ رَجُلًا أَرَادَ أَنْ يُبَايِعَ عَلَى خِلَافِ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِي زَمَنِهِمْ, وَأَرَادَ أَنْ يَزْرَعَ الْفِتْنَةَ فِي الْمُسْلِمِينَ, فَأَرَادَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنْ يَنْهَاهُ عَلَنًا, وَأَنْ يُبَيِّنَ سِياسَةَ الدَّوْلَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فِي اخْتِيَارِ الْخَلِيفَةِ, وَكَيْفَ تَمَّتْ بَيْعَةُ أَبِي بَكْرٍ؛ لَكِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مَنَعَ عُمَرَ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ فِيهِ الْجَاهِلُ وَالْعَالِمُ, وَالْبَلِيدُ وَاللَّبِيبُ, فَخَشِيَ أَلَّا يَفْهَمُوا مُرَادَهُ، وَيُحْمَلَ كَلَامُهُ عَلَى غَيْرِ مَحْمَلِهِ؛ فَتَحْصُلَ الْفِتْنَةُ, لَكِنْ إِذَا أَتَى الْمَدِينَةَ حَدَّثَ مَنْ يَفْقَهُ ذَلِكَ بِلَا إِشْكَالٍ.

وَمَعْنَى قَوْلِهِ: ((رَعَاعَ النَّاسِ وَغَوْغَاءَهُمْ))؛ أَيِ: الْجَهَلَةَ الرُّذَلَاءَ, وَقِيلَ: الشَّبَابُ مِنْهُمْ.

وَالْغَوْغَاءُ: أَصْلُهُ صِغَارُ الْجَرَادِ حِينَ يَبْدَأُ فِي الطَّيَرَانِ, وَيُطْلَقُ عَلَى السِّفْلَةِ الْمُسْرِعِينَ إِلَى الشَّرِّ.

فَبِهَذَا نَعْلَمُ أَنَّ الشُّؤُونَ الْخَاصَّةَ لِلدَّوْلَةِ وَالْأُمُورَ الْحسَّاسَةَ فِيهَا لَا تُطْرَحُ عَلَنًا -وَهِيَ مَا يُقَالُ لَهَا فِي هَذَا الْعَصْرِ: بِأُمُورِ وَأَسْرَارِ الدَّوْلَةِ مِنَ الْأَمْنِ الْقَوْمِيِّ وَمَا أَشْبَهَ-؛ فَهَذِهِ لَا تُطْرَحُ عَلَنًا، بَلْ يَتَصَدَّى لَهَا أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَالْقَادَةُ وَالْعُلَمَاءُ، وَالسَّاسَةُ الْفُقَهَاءُ.

لِذَلِكَ كُلُّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي السِّيَاسَةِ سَابِقًا كَانُوا مِنَ الْعُلَمَاءِ, وَإِلَيْكَ شَيْئًا مِنْ مُؤَلَّفَاتِهِمْ:

*فَهَذَا كِتَابُ ((الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ وَالْوِلَايَاتِ الدِّينِيَّةِ)) لِلْمَاوَرْدِيِّ.

*وَلَهُ -أَيْضًا- كِتَابُ ((دُرَرِ السُّلُوكِ فِي سِيَاسَةِ الْمُلُوكِ)).

*وَأَمَّا ابْنُ نُجَيْمٍ الْفَقِيهُ الْحَنَفِيُّ -وَهُوَ فَقِيهُ الْحَنَفِيَّةِ فِي زَمَانِهِ-؛ فَلَهُ كِتَابُ ((السِّيَاسَةُ الشَّرْعِيَّةُ)).

*وَكَذَا لِابْنِ جَمَاعَةَ قَاضِي مِصْرَ وَالشَّامِ -وَهُوَ بَدْرُ الدِّينِ بْنُ جَمَاعَةَ- لَهُ كِتَابُ ((تَحْرِيرُ الْأَحْكَامِ فِي تَدْبِيرِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ)).

*وَلِشَيْخِ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وَهُوَ أَحْسَنُ مَا كُتِبَ فِي هَذَا ((السِّيَاسَةُ الشَّرْعِيَّةُ فِي إِصْلَاحِ الرَّاعِي وَالرَّعِيَّةِ)).

فَانْظُرْ -رَعَاكَ اللهُ- مَنِ الَّذِي يَتَحَدَّثُ فِي السِّيَاسَةِ, وَلِمَنْ تُكْتَبُ وَتُقَالُ؛ لِتَعْلَمَ أَنَّهُ عِلْمٌ صَعْبُ الْمَنَالِ, قَدْ خَاضَ بِحَارَهُ وَسَبَرَ أَغْوَارَهُ وَاسْتَخْرَجَ كُنُوزَهُ الْعُلَمَاءُ وَالْفُقَهَاءُ، لَا عَامَّةُ النَّاسِ وَالْغَوغَاءُ مِنْهُمْ.

وَنَظَرًا لِخَفَاءِ هَذَا الْعِلْمِ وَصُعُوبَتِهِ؛ فَإِنَّه لَا يُذْكَرُ أَمَامَ عَامَّةِ النَّاسِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى الْفِتَنِ وَالْمِحَنِ, فَإِنَّ انْتِقَادَ سِيَاسَةِ وُلَاةِ الْأَمرِ وَالدَّوْلَةِ أَمَامَ النَّاسِ وَعَبْرَ وَسَائِلِ الْإِعْلَامِ وَعَلَى الْمَنَابِرِ مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ وَالْحِكْمَةِ وَالْعَقْلِ.

فَمَا أَسْرَعَ هَيَجَانَ النَّاسِ وَمَا أَسْهَلَهُ! فَإِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَظُنُّ أَنَّ الْكَلامَ فِي هَذَا الشَّأْنِ شَجَاعَةٌ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ غَبَاوَةٌ؛ لِأَنَّه يَحْتَاجُ إِلَى عِلْمٍ وَفِقْهٍ وَإِلْمَامٍ؛ فَإِنَّ وَلِيَّ الْأَمْرِ تُحِيطُ بِهِ مِنَ الْأَحْوَالِ وَالسِّيَاسَاتِ وَالْمَشَاكِلِ, وَيَعْلَمُ مِنَ التَّقَارِيرِ وَالْأَسْرَارِ مَا لَا يَعْلَمُهُ عَامَّةُ النَّاسِ, وَيَكُونُ قَرَارُهُ فِي الْمُنْتَهَى مُؤَسَّسًا عَلَى ذَلِك كُلِّهِ؛ فَيَظْهَرُ أَمَامَهُمْ بِغَيْرِ مَا يُرِيدُونَ, فَيَأْتِي النَّقْدُ وَالطَّعْنُ وَالتَّهْيِيجُ تَحْتَ عُنْوَانِ (حُرِّيَّةُ الرَّأْيِ أَوِ الدِّيمُقْرَاطِيَّةُ)؛ وَحِينَهَا يَكْرَهُهُ الْكُلُّ أَوْ مُعْظَمُ النَّاسِ, وَلَيْسَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا زَعْزَعَةُ الْأَمْنِ وَالِاسْتِقْرَارِ, وَلَيْسَ إِلَّا الْفَوضَى.

عِبَادَ اللهِ! مَا أَكْثَرَ الْمُرْجِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ!! «وَقَدْ تَوَعَّدَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَهْلَ الشَّرِّ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [الأحزاب: 60]؛ أَيْ: مَرَضُ شَكٍّ أَوْ شَهْوَةٍ.

{وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ}؛ أَيِ: الْمُخَوِّفُونَ الْمُرْهِبُونَ الْأَعْدَاءَ، الْمُتَحَدِّثُونَ بِكَثْرَتِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ وَضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ.

وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَعْمُولَ الَّذِي يَنْتَهُونَ عَنْهُ؛ لِيَعُمَّ ذَلِكَ كُلَّ مَا تُوحِي بِهِ أَنْفُسُهُمْ إِلَيْهِمْ، وَتُوَسْوِسُ بِهِ، وَتَدْعُو إِلَيْهِ مِنَ الشَّرِّ مِنَ التَّعْرِيضِ بِسَبِّ الْإِسْلَامِ وَأهْلِهِ، وَالْإِرْجَافِ بِالْمُسْلِمِينَ، وَتَوْهِينِ قُوَاهُمْ، وَالتَّعَرُّضِ لِلْمُؤْمِنَاتِ بِالسُّوءِ وَالْفَاحِشَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَاصِي الصَّادِرَةِ مِنْ أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ.

{لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ}؛ أَيْ: لَنَأْمُرَنَّكَ بِعُقُوبَتِهِمْ وَقِتَالِهِمْ، وَلَنُسَلِّطَنَّكَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ إِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ؛ لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِكَ، وَلَيْسَ لَهُمْ قُوَّةٌ وَلَا امْتِنَاعٌ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا}؛ أَيْ: لَا يُجَاوِرُونَكَ فِي الْمَدِينَةِ إِلَّا قَلِيلًا، بِأَنْ تَقْتُلَهُمْ أَوْ تَنْفِيَهُمْ.

وَهَذَا فِيهِ دَلِيلٌ لِنَفْيِ أَهْلِ الشَّرِّ الَّذِينَ يُتَضَرَّرُ بِإِقَامَتِهِمْ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ أَحْسَمُ لِلشَّرِّ، وَأَبْعَدُ مِنْهُ، وَيَكُونُونَ {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا}؛ أَيْ: مُبْعَدِينَ حَيْثُ وُجِدُوا، لَا يَحْصُلُ لَهُمْ أَمْنٌ، وَلَا يَقَرُّ لَهُمْ قَرَارٌ، يَخْشَوْنَ أَنْ يُقْتَلُوا، أَوْ يُحْبَسُوا، أَوْ يُعَاقَبُوا».

إِنَّ الْأَرَاجِيفَ وَالشَّائِعَاتِ الَّتِي تَنْطَلِقُ مِنْ مَصَادِرَ شَتَّى وَمَنَافِذَ مُتَعَدِّدَةٍ؛ إِنَّمَا تَسْتَهْدِفُ التَّآلُفَ وَالتَّكَاتُفَ، وَتَسْعَى إِلَى إِثَارَةِ النَّعْرَاتِ وَالْأَحْقَادِ، وَنَشْرِ الظُّنُونِ السَّيِّئَةِ، وَتَرْوِيجِ السَّلْبِيَّاتِ، وَتَضْخِيمِ الْأَخْطَاءِ.

الْإِشَاعَاتُ وَالْأَرَاجِيفُ سِلَاحٌ بِيَدِ الْمُغْرِضِينَ وَأَصْحَابِ الْأَهْوَاءِ وَالْأَعْدَاءِ وَالْعُمَلَاءِ، يَسْلُكُهُ أَصْحَابُهُ؛ لِزَعْزَعَةِ الثَّوَابِتِ، وَهَزِّ الصُّفُوفِ، وَخَلْخَلَةِ تَمَاسُكِهَا.

وَالْمُرْجِفُونَ: هُمُ الَّذِينَ يَنْشُرُونَ الشَّائِعَاتِ الْكَاذِبَةَ، أَوْ يُبَالِغُونَ فِي تَعْظِيمِ قُوَّةِ الْأَعْدَاءِ وَقُدُرَاتِهِمْ، وَاسْتِحَالَةِ هَزِيمَتِهِمْ، وَكَسْرِ شَوْكَتِهِمْ؛ مِنْ أَجْلِ تَخْذِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَخْوِيفِهِمْ مِنْ أَعْدَائِهِمْ، وَقَدْ لَعَنَهُمُ اللهُ حَيْثُمَا وُجِدُوا، وَتَوَعَّدَهُمْ بِأَنْ يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ مَنْ يَسْتَأْصِلُ شَأْفَتَهُمْ، وَيَقْطَعُ دَابِرَهُمْ.

وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَنَّ هَذَا هُوَ دَيْدَنُ الْمُنَافِقِينَ فِي الْمُوَاجَهَاتِ الَّتِي تَقَعُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَتَوَعَّدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِالْعَذَابِ الشَّدِيدِ، وَحَذَّرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ السَّمَاعِ لَهُمْ، وَتَصْدِيقِهِمْ، وَإِشَاعَةِ تَخْوِيفَاتِهِمْ وَأَرَاجِيفِهِمْ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} [الأحزاب: 60-61].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا- كَاشِفًا حَقِيقَةَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ، وَمُبَيِّنًا أَثَرَهُمْ فِي الْإِرْجَافِ وَالتَّخْوِيفِ، وَالتَّعْوِيقِ وَالتَّخْذِيلِ، وَنَشْرِ الْفِتْنَةِ بَيْنَ أَبْنَاءِ الْمُجْتَمَعِ الْوَاحِدِ: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب: 18].

وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالًا ولأَوْضَعُواْ خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: 47].

فَبَيَّنَ أَنَّ وُجُودَهُمْ فِي صَفِّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَزِيدُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا شَرًّا وَفَسَادًا، وَضَعْفًا وَهَوانًا، وَفِتْنَةً وَفُرْقَةً، وَيَعْظُمُ الْبَلَاءُ حِينَ يَكُونُ فِي الْمُسْلِمِينَ جَهَلَةٌ سُذَّجٌ، يَسْمَعُونَ لِهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الْمَفْتُونِينَ، فَيَتَأَثَّرُونَ بِإشَاعَاتِهِمْ، وَيَسْتَجِيبُونَ لِتَخْوِيفَاتِهِمْ، وَيُصْبِحُونَ أَبْوَاقًا لَهُمْ، وَبَبَّغَاوَاتٍ يُرَدِّدُونَ أَرَاجِيفَهُمْ، وَيَنْشُرُونَ فِتَنَهُمْ؛ لِهَذَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}.

فَيَتَوَلَّدُ مِنْ سَعْيِ أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ، وَقَبُولِ هَؤُلَاءِ السَّاذَجِينَ مِنَ الشَّرِّ وَالْبَلَاءِ، وَتَوْهِينِ عَزَائِمِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِرْعَابِهِمْ مَا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْبَلَاءِ عَلَى أُمَّتِهِمْ، وَأَكْبَرِ الْمَدَدِ لِأَعْدَائِهِمْ.

وَمُطلِقُوا الشَّائِعَاتِ سَمَّاهُمُ الْقُرْآنُ مُرْجِفِينَ, وَالْإِرْجَافُ فِي اللُّغَةِ: الِاضْطِرَابُ الشَّدِيدُ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْخَوْضِ فِي الْأَخْبَارِ السَّيِّئَةِ وَذِكْرِ الْفِتَنِ؛ لِأَنَّهُ يَنْشَأُ عَنْهُ اضْطِرَابٌ بَيْنَ النَّاسِ.

وَالْإِرْجَافُ حَرَامٌ، وَتَرْكُهُ وَاجِبٌ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِضْرَارِ بِالْمُسْلِمِينَ، وَفَاعِلُهُ يَسْتَحِقُّ التَّعزِيرَ.

فَيَجِبُ أَنْ يُرَدَّ الْأَمْرُ إِلَى أُولِي الْأَمْرِ، وَلَا يُشِيعُ النَّاسُ بَيْنَ النَّاسِ الشَّائِعَاتِ، فَهَذِهِ قَاعِدَةٌ عَظِيمَةٌ فِي كُلِّ الْأَخْبَارِ الْمُهِمَّةِ، وَالَّتِي لَهَا أَثَرُهَا الْوَاقِعِيُّ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وإذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ولَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلًا} [النساء: 83].

فَأَنْكَرَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ خَوْضَهُمْ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَمْنِ وَالْخَوْفِ، وَإِذَاعَتَهُمْ لِأَخْبَارِهَا قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنُوا حَقِيقَتَهَا، وَيَتَأَمَّلُوا فِي آثَارِهَا وَعَوَاقِبِهَا، ثُمَّ حَثَّهُمْ عَلَى رَدِّ الْأَمْرِ إِلَى وُلَاةِ الْأَمْرِ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْأُمَرَاءِ، فَهُمْ بِحَسَبِ فِقْهِهِمْ بِالشَّرْعِ وَمَعْرِفَتِهِمْ بِالْوَاقِعِ أَقْدَرُ عَلَى إِدْرَاكِ الْحَقَائِقِ، وَالنَّظَرِ فِي عَوَاقِبِ الْأُمُورِ وَمَآلَاتِهَا، وَمَا يَنْبَغِي نَشْرُهُ وَإِعْلَانُهُ، وَمَا يَحْسُنُ السُّكُوتُ عَنْهُ وَكِتْمَانُهُ.

وَالْمُجْتَهِدُ يُصِيبُ وَيُخْطِئُ، فَإِنْ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ، وَاللهُ يَغْفِرُ لَهُ خَطَأَهُ؛ لَكِنَّهُ لَا يُتَابَعُ عَلَى خَطَئِهِ، فَمَا وَافَقهما أَوْ كَانَ أَشْبَهَ بِهِمَا فَهُوَ الصَّوَابُ، وَمَا خَالَفَهُمَا فَهُوَ خَطَأٌ لَا يَجُوزُ لِمَنْ تَبَيَّنَهُ وَاطَّلَعَ عَلَيْهِ مُتَابَعَةُ مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ؛ وَالْحَدِيثُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا اجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ)).

 ((أَمَلٌ وَبُشْرَى.. أُمَّتُنَا لَنْ تَمُوتَ!))

إِنَّ الْأُمَّةَ الْإِسْلَامِيَّةَ تِلْكَ الَّتِي سَادَتِ الْأَرْضَ زَمَانًا، وَعَمَّ بِهَا الْخَيْرُ وَالْعَدْلُ وَالْعَطَاءُ لِلْعَالَمِ أَجْمَعَ، رَغْمَ كُلِّ الْإِحْبَاطَاتِ الْمُعَاصِرَةِ، وَرَغْمَ تَرَبُّصِ الْأَعْدَاءِ بِهَا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَرَغْمَ الْوَاقِعِ الْمُعَاصِرِ الْأَلِيمِ، وَالْهَزِيمَةِ الظَّاهِرَةِ فِي كُبْرَى حَوَاضِرِهَا وَعَوَاصِمِهَا سَتَظَلُّ أُمَّةً خَالِدَةً، سَتَظَلُّ أُمَّةً لَنْ تَمُوتَ.

يَوْمَ الظُّنُونِ صَدَعْتُ فِيكَ تَجَلُّدِي

وَحَمَلْتُ فِيكَ الضَّيْمَ مَغْلُولَ الْيَدِ

وَبَكَيْتُ كَالطِّفْلِ الذَّلِيلِ أَنَا الَّذِي

مَا لَانَ فِي صَعْبِ الْحَوَادِثِ مِقْوَدِي

وَغَصَصْتُ بِالْمَاءِ الَّذِي أَعْدَدْتُهُ

لِلرِّيِّ فِي قَفْرِ الْحَيَاةِ الْمُجْهِدِ

مَاذَا يَنْبَغِي عَلَيْنَا الْيَوْمَ؟

مَاذَا يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَفْعَلَ وَالدَّمَارُ يَزْحَفُ إِلَيْنَا شَيْئًا فَشَيْئًا، وَحِينًا بَعْدَ حِينٍ؛ مَاذَا يَجِبُ عَلَيْنَا؟

عَلَيْنَا أَلَّا نَهْتَزَّ.

عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ النَّصْرَ بِيَدِ اللهِ، وَأَنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- هُوَ الَّذِي يُسَلِّطُ النَّاسَ عَلَى النَّاسِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ، أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ النَّبِيِّ ﷺ يَقُولُ فِي فِتْنَةِ الدَّجَّالِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، عِنْدَمَا يُرِيدُ أَنْ يَدْخُلَ مَدِينَةَ النَّبِيِّ ﷺ، وَهِيَ عَلَيْهِ حَرَامٌ.

الْمَلَائِكَةُ تَدْفَعُ فِي وَجْهِهِ وَفِي وُجُوهِ الْكَافِرِينَ، وَيَخْرُجُ إِلَيْهِ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَيَقُولُ لَهُ: ((أَنْتَ الدَّجَّالُ الَّذِي حَدَّثَنَا حَدِيثَهُ سَيِّدُنَا وَنَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ ﷺ )).

يَضْرِبُهُ ضَرْبَةً تَجْعَلُهُ شَطْرَيْنِ، وَبَيْنَ الشَّطْرَيْنِ -بَيْنَ النِّصْفَيْنِ- يَرُوحُ وَيَجِيءُ، ثُمَّ يُحْيِيهِ بِأَمْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فِتْنَةً وَمِحْنَةً، فَإِذَا قَامَ قَالَ: ((مَا كُنْتُ يَوْمًا بِأَجْلَى بَصِيرَةً مِنِّي فِيكَ الْيَوْمَ، أَنْتَ الدَّجَّالُ الَّذِي حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ )).

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((ثُمَّ لَا يُسَلَّطُ عَلَيْهِ)).

إِذَنِ؛ الَّذِي سَلَّطَهُ عَلَيْهِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى هُوَ اللهُ، وَالَّذِي مَنَعَ التَّسْلِيطَ عَلَيْهِ فِي الثَّانِيَةِ هُوَ اللهُ.

فَالَّذِي يُسَلِّطُ الْأُمَمَ عَلَى الْأُمَمِ بِمَا كَسَبَتِ الْأَيْدِي هُوَ اللهُ.

فَاللهم ارْفَعْ كَرْبَكَ وَغَضَبَكَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.

وَعَلَيْنَا أَنْ نَعْلَمَ أَنَّهُ لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَى مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ، وَانْظُرْ فِي قِصَّةِ الثَّلَاثَةِ الْمُخَلَّفِينَ: {وَظَنُّوا} يَعْنِي: عَلِمُوا يَقِينًا {وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} [التوبة: 118].

فَلَا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ، وَهِيَ جُمْلَةٌ خَالِدَةٌ جَعلَهَا النَّبِيُّ ﷺ فِي أَذْكَارِ النَّوْمِ، ((اللهم أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَوَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ؛ رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَى مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ)).

جُمْلَةٌ خَالِدَةٌ: ((لَا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ)).

وَعَلَيْنَا أَنْ نَعْلَمَ أَنَّ هُنَاكَ فَارِقًا عَظِيمًا بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّهُ لَا أَحَدَ عَلَى الْأَرْضِ فِي عَصْرٍ مِنَ الْأَعْصَارِ مُنْذُ جَاءَ الْمُخْتَارُ ﷺ يُمَثِّلُ الْإِسْلَامَ إِلَّا مُحَمَّدًا ﷺ.

الْكُلُّ مُسْلِمُونَ يَأْخُذُونَ وَيَدَعُونَ، وَيَتَّقُونَ وَيَفْسُقُونَ، وَيُطِيعُونَ وَيَعْصُونَ، وَلَيْسَ أَحَدٌ بِحُجَّةٍ عَلَى دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالثَّبَاتُ مِنْ عِنْدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَاللهم ثَبِّتِ الْأَقْدَامَ يَا أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ.

عَلَيْنَا أَنْ نَعْلَمَ أَنَّ الْحَلَّ كَامِنٌ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فِي كِتَابِ اللهِ، أَلَمْ أَقُلْ لَكَ: تَأَمَّلْ فِيهِ، تَدَبَّرْ فِي مَعَانِيَهُ؟!

فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، يَقُولُ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33].

هَذِهِ الْكَلِمَةُ هِيَ الْحَلُّ، وَانْظُرْ كَيْفَ جَعَلَهَا كَالْمَاءِ الْمُطْلَقِ؛ لَا تُقَيَّدُ بِقَيْدٍ، وَلَا تُوصَفُ بِوَصْفٍ؛ حَتَّى لَا تَكُونَ مُسْتَهْدَفَةً.

 الْيَوْمَ؛ الْوَاجِبُ الْأَكْبَرُ، وَالْبُعْدُ الِاسْتِرَاتِيجِيُّ فِي الْأُمَّةِ -كَمَا يَقُولُونَ-: أَنْ يَعْلَمَ الْمُسْلِمُ أَنَّهُ مُسْلِمٌ فَقَطْ؛ حَتَّى إِذَا مَا جَدَّ الْجِدُّ، وَوَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ عَلِمَ الْمَرْءُ فِي أَيِّ مُعَسْكَرٍ يَكُونُ، أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ، وَأَمَّا الْحَمَاقَةُ الْحَمْقَاءُ فَيَا لَلْحَسْرَةِ الَّتِي هِيَ انْصِدَاعُ الْقَلْبِ فِي الْحَقِيقَةِ؛ كَمْ ضَيَّعَ الْقَوْمُ مِنْ أَزْمَانٍ، وَكَمْ فَوَّتُوا مِنْ فُرَصٍ!!

حَتَّى لَا تَكُونَ الْأُمَّةُ مُسْتَهْدَفَةً فِي قِطَاعٍ يُمَثِّلُ الدِّينَ وَيَحْمِلُ الدِّينَ، بَلِ الْأُمَّةُ كُلُّهَا مُسْلِمَةٌ، عِنْدَمَا يَنْحَازُ مَنْ يَنْحَازُ جَانِبًا، وَيَتَسَمَّى مَنْ يَتَسَمَّى بِاسْمٍ وَرَسْمٍ جَانِبًا؛ مَاذَا يَكُونُ وَكَيْفَ يَكُونُ؟!

يُسْتَهْدَفُ، ثُمَّ يَأْتِي مَا يَأْتِي مِنْ ذَلِكَ النُّفُورِ، وَمِنْ ذَلِكَ التَّنْفِيرِ مِنْ دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

انْظُرْ إِلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ الْعَظِيمَةِ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ؛ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ: {مِنَ الْمُسْلِمِينَ}، لَا قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا، مُسْلِمٌ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، أَيْدٍ مُتَوَضِّئَةٌ نَظِيفَةٌ، وَأَجْسَادٌ مُصَلِّيَةٌ عَفِيفَةٌ، وَقُلُوبٌ طَاهِرَةٌ خَاشِعَةٌ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَاجِفَةٌ.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! تَمَاسَكُوا، تَسَانَدُوا، إِنْ هُنَّ إِلَّا الْغَمَرَاتُ ثُمَّ يَنْجَلِينَ، وَسَتَرَى -إِنْ شَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ-!

إِنْ هِيَ إِلَّا الْغَمَرَاتُ ثُمَّ يَنْجَلِينَ؛ لِأَنَّ الَّذِي يُدَافِعُ عَنِ الدِّينِ هُوَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، فَإِذَا تَخَلَّى الْمُسْلِمُونَ عَنْ دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ حَفِظَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَمَلِيًّا فِي دُنْيَاهُ، كَمَا حَفِظَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عِلْمِيًّا فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ ﷺ.

وَأَخِيرًا؛ الدُّعَاءَ الدُّعَاءَ!

الدُّعَاءُ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَرْفَعَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْكَرْبَ، وَأَنْ يُزِيلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْمِحْنَةَ، وَأَنْ يُجَنِّبَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْفِتَنَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَأَنْ يَجْعَلَنَا مِنَ الْمُتَآلِفِينَ، مِنَ الْمتَحَابِّينَ، مِنَ الثَّابِتِينَ، مِنَ الْمُتَمَاسِكِينَ.

فَاللهم ثَبِّتْ أَقْدَامَنَا، وَاهْدِ قُلُوبَنَا.

اللهم لَا تَجْعَلْ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا، لَا تَجْعَلْ لِلظَّالِمِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ سَبِيلًا.

اللهم أَحْصِهِمْ عَدَدًا، وَأَهْلِكْهُمْ بَدَدًا، وَلَا تُبْقِ مِنْهُمْ أَحَدًا.

اللهم احْفَظْ أَرْضَ الْمُسْلِمِينَ.

احْفَظْ بِلَادَ الْمُسْلِمِينَ.

صُنْ دِيَارَ الْمُسْلِمِينَ.

احْقِنْ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ.

احْفَظْ عَوَاصِمَ الْمُسْلِمِينَ.

اللهم احْفَظْ عَلَيْنَا تَارِيخَنَا، احْفَظْ عَلَيْنَا عَوَاصِمَنَا، احْفَظْ عَلَيْنَا عَوَاصِمَنَا، لَا تُمَكِّنْ مِنْ رِقَابِنَا الْكُفَّارَ الْمُجْرِمِينَ.

أَسْأَلُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْمُثْلَى أَنْ يُفَرِّجَ كَرْبَ أَهْلِ غَزَّةَ، اللهم فَرِّجْ كَرْبَهُمْ، اللهم فَرِّجْ كَرْبَ الْمَكْرُوبِينَ مِنَ الْفِلِسْطِينِيِّينَ فِي الْقِطَاعِ، وَفِي الضِّفَّةِ، وَفِي الشَّتَاتِ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.

اللهم ارْفَعْ عَنْهُمْ مَا نَزَلَ بِهِمْ مِنَ الْبَلَاءِ يَا أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ.

اللهم اجْعَلْ ثَأْرَهُمْ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُمْ، اللهم اجْعَلْ ثَأْرَهُمْ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُمْ، اللهم اجْعَلْ ثَأْرَهُمْ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُمْ.

اللهم احْفَظْهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ، وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ، وَمِنْ فَوْقِهِمْ، وَنَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ يُغْتَالُوا مِنْ تَحْتِهِمْ.

اللهم انْصُرْهُمْ عَلَى مَنْ عَادَاهُمْ، وَثَبِّتْ أَقْدَامَهُمْ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَيَا أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ وَيَا ذَا الْقُوَّةِ الْمَتِينِ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

المصدر

الدِّفَاعُ عَنِ الْأَوْطَانِ وَالْأَرْضِ وَالْعِرْضِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  سمات وسلوك الشخصية الوطنية في ضوء الشرع الحنيف
  الشيعة في مصر
  داء الخوارج ودواؤهم
  حَيَاةُ النَّبِيِّ ﷺ أُنْمُوذَجٌ تَطْبِيقِيٌّ لِصَحِيحِ الْإِسْلَامِ
  الطريق إلى محبة الله عز وجل
  رد الاعتداء على السنة النبوية
  عَلَى عَتَبَاتِ الشَّهْرِ الْمُبَارَكِ بَيْنَ الْأَمَلِ وَالرَّجَاءِ وَحُسْنِ الِاسْتِعْدَادِ
  مصر وخيانة الأمانة
  دُرُوسٌ مِنْ حَيَاةِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ وَدَوْرُهُ التَّجْدِيدِيُّ فِي عَصْرِهِ
  تَرْبِيَةُ الْأَوْلَادِ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّة وَحُقُوقُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان