تفريغ خطبة دعوة الإخوان للتوبة في رمضان

دعوة الإخوان للتوبة في رمضان

تفريغ خطبة دَعْوَةُ الإِخْوَانِ لِلتَّوْبَةِ فِي رَمَضَانَ

خطبة الجمعة 25 من شعبان 1436هـ الموافق 12-6-2015م

الْخُطْبَةُ الْأُولَى:

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ؛ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ؛ أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَة، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَة، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ. أَمَّا بَعْدُ:

فَقَدْ قَالَ اللهُ جَلَّ وَعَلَا: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)﴾ (البقرة: 183 - 185 ).

قَالَ العَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:

يُخْبِرُ تَعَالَى بمَا مَنَّ اللهُ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ؛ بِأَنَّهُ فَرَضَ عَلَيْهِم الصِّيَامَ كَمَا فَرَضَهُ عَلَى الأُمَمِ السَّابِقَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الشَّرَائِعِ وَالأَوَامِرِ الَّتِي هِيَ مَصْلَحَةٌ لِلخَلْقِ فِي كُلِّ زَمَانٍ .

وَفِيهِ تَنْشِيطٌ لِهَذِهِ الأُمَّةِ بِأَنَّهُ يَنْبَغِي لَكُمْ أَنْ تُنَافِسُوا غَيْرَكُمْ فِي تَكْمِيلِ الأَعْمَالِ، وَالمُسَارَعَةِ إِلَى صَالِحِ الخِصَالِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الأُمُورِ الثَّقِيلَةِ الَّتِي خُصِّصْتُمْ بِهَا.

ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى حِكْمَتَهُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الصِّيَامِ فَقَالَ: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}؛ فَإِنَّ الصِّيَامَ مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ التَّقْوَى؛ لِأَنَّ فِيهِ امْتِثَالَ أَمْرِ اللهِ وَاجْتِنَابَ نَهْيِهِ.

فَمِمَّا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ التَّقْوَى: أَنَّ الصَّائِمَ يَتْرُكُ مَا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ مِنَ الأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالجِمَاعِ وَنَحْوِهَا الَّتِي تَمِيلُ إِلَيْهَا نَفْسُهُ، مُتَقَرِّبًا بِذَلِكَ إِلَى اللهِ، رَاجِيًا بِتَرْكِهَا ثَوَابَهُ، فَهَذَا مِنَ التَّقْوى .

وَمِنْهَا: أَنَّ الصَّائِمَ يُدَرِّبُ نَفْسَهُ عَلَى مُرَاقَبَةِ اللهِ تَعَالَى، فَيَتْرُكُ مَا تَهْوَى نَفْسُهُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ؛ لِعِلْمِهِ بِاطِّلَاعِ اللهِ عَلَيْهِ .

وَمِنْهَا: أَنَّ الصِّيَامَ يُضَيِّقُ مَجَارِيَ الشَّيْطَانِ، فَإِنَّهُ يَجْرِي مِن ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ، فِبِالصِّيَامِ يَضْعُفُ نُفُوذُهُ، وَتَقِلُّ مِنْهُ المَعَاصِي .

وَمِنْهَا: أَنَّ الصَّائِمَ فِي الغَالِبِ تَكْثُرُ طَاعَتُهُ، وَالطَّاعَاتُ مِن خِصَالِ التَّقْوَى .

وَمِنْهَا: أَنَّ الغَنِيَّ إِذَا ذَاقَ أَلَمَ الجُوعِ؛ أَوْجَبَ لَهُ ذَلِكَ مُوَاسَاةَ الفُقَرَاءِ المُعْدِمِينَ، وَهَذَا مِنْ خِصَالِ التَّقْوَى .

وَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ فَرَضَ عَلَيْهِم الصِّيَام؛ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَيَّامٌ مَعْدُودَاتٌ، أَيْ: قَلِيلَةٌ فِي غَايَةِ السِّهُولَةِ .

ثُمَّ سَهَّلَ تَسْهِيلًا آخَرَ:

فَقَالَ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}؛ وَذَلِكَ لِلْمَشَقَّةِ فِي الغَالِبِ؛ رَخَّصَ اللهُ تَعَالَى لِلْمَرِيضِ وَالمُسَافِرِ فِي الفِطْرِ .

وَلَمَّا كَانَ لَا بُدَّ مِنْ حصُولِ مَصْلَحَةِ الصِّيَامِ لِكُلِّ مُؤمِنٍ؛ أَمَرَهُمَا أَنْ يَقْضِيَاهُ فِي أَيَّامٍ أُخَرَ, إِذَا زَالَ المَرَضُ وَانْقَضَى السَّفَرُ, وَحَصَلَتْ لَهُمَا الرَّاحَةُ .

وَفِي قَوْلِهِ: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَقْضِي عَدَدَ أَيَّامِ رَمَضَانَ كَامِلًا كَانَ أَوْ نَاقِصًا، وَعَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقْضِيَ أَيَّامًا قَصِيرَةً بَارِدَةً عَنْ أَيَّامٍ طَوِيلَةٍ حَارَّةٍ، وَبَالعَكْسِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} أَيْ: يُطِيقُونَ الصِّيَامَ {فِدْيَةٌ} عَنْ كُلِّ يَوْمٍ يُفْطِرُونَهُ {طَعَامُ مِسْكِينٍ}، وَهَذَا فِي ابْتِدَاءِ فَرْضِ الصِّيَامِ، لَمَّا كَانُوا غَيْرَ مُعْتَادِينَ لِلصِّيَامِ، وَكَانَ فَرْضُهُ حَتْمًا فِيهِ مَشَقَّةٌ عَلَيْهِمْ؛ فَدَرَّجَهُم الرَّبُّ الحَكِيمُ بِأَسْهَلِ الطُّرُقِ، وَخَيَّرَ المُطِيقَ لِلصَّوْمِ بَيْنَ أَنْ يَصُومَ، وَهُوَ أَفْضَلُ، أَوْ يُطْعِمَ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} .

ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ جَعَلَ الصِّيَامَ حَتْمًا عَلَى المُطِيقِ، وَغَيْرُ المُطِيقِ يُفْطِرُ ويَقْضِيهِ فِي أَيَّامٍ أُخَرَ .

وَقِيلَ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} أَيْ: يَتَكَلَّفُونَهُ وَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ مَشَقَّةً غَيْرَ مُحْتَمَلَةٍ؛ كَالشَّيْخِ الكَبِيرِ، فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ طَعَامُ مِسْكِينٍ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ .

وَقَدْ كَانَتْ فَرْضِيَّةُ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي شَعْبَانَ، فَأَعْلَمَهُم اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ فِي شَعْبَانَ مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الهِجْرَةِ بِأَنَّهُ قَدْ فُرِضَ عَلَيْهِم صِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ؛ وَلَكِنَّ لِلصَّوْمِ بَعْدَ نِزْولِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ثَلَاثَ مَرَاتِبَ:

المَرْتَبَةُ الأُولَى: إِيَجَابُهُ بِوَصْفِ التّخْيِيرِ، مَنْ شَاءَ صَامَ، وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ وَأَطْعَمَ، فرَخَّصَ اللهُ فِي البَدْءِ لِمُطِيقِي الصِّيَامِ الرَّاغِبِينَ فِي الفِطْرِ, أَنْ يُفْطِرُوا وَيُطْعِمُوا عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا .

عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: نَزَلَ رَمَضَانُ فَشَقَّ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ مَنْ أَطْعَمَ كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا تَرَكَ الصَّوْمَ مِمَّنْ يُطِيقُهُ، وَرُخِّصَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَنَسَخَتْهَا: ﴿ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ (البقرة: 184)، فَأُمِرُوا بِالصَّوْمِ .

ذَكَرَهُ البُخَارِيُّ مُعَلَّقًا مَجْزُومًا بِهِ، وَوَصَلَهُ أَبُو نُعَيْمٍ وَغَيْرُهُ .

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - فِيمَا رَوَاهُ البُخَارِيُّ – قَرَأَ: {فِدْيَةُ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قَالَ: «هِيَ مَنْسُوخَةٌ»، نَسَخَتْهَا:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} الآيَة .

وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ (البقرة: 184) « كَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفْطِرَ أَفْطَرَ وَافْتَدَي، حَتَّى نَزَلَتِ الآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا فَنَسَخَتْهَا » رَوَاهُ البُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ .

فَهَذِهِ هِيَ الرُّتْبَةُ الأُولَى، دَرَّجَهُم اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ فِي هَذِهِ الفَرِيضَةِ حِكْمَةً مِنْهُ وَرَحْمَةً، فَكَانَ مَنْ يُطِيقُ الصَّوْمَ وَلَا يُرِيدُ أَنْ يَصُومَ؛ يُفْطِرُ، ثُمَّ إِنَّهُ يَفْدِي عَنْ كُلِّ يَوْمٍ أَفْطَرَهُ بِإِطْعَامِ مِسْكِينٍ.

ثُمَّ نُسِخَتْ هَذِهِ الرُّتْبَةُ، وَجَاءَت الرُّتْبَةُ الثَّانِيَةُ، وَهِيَ: تَحَتُّمُ الصَّوْمِ؛ لَكِنْ كَانَ الصَّائِمُ إِذَا نَامَ قَبْلَ أَنْ يَطْعَمَ؛ حَرُمَ عَلَيْهِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ إِلَى اللَّيْلَةِ الْقَابِلَةِ، فَنُسِخَ ذَلِكَ بِالرُّتْبَةِ الثَّالِثَةِ .

عَنْ البَرَاءِ – فِيمَا رَوَاهُ البُخَارِيُّ – قَالَ: " كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ الرَّجُلُ صَائِمًا، فَحَضَرَ الإِفْطَارُ، فَنَامَ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ؛ لَمْ يَأْكُلْ لَيْلَتَهُ وَلَا يَوْمَهُ حَتَّى يُمْسِيَ ، وَأنَّ قَيْسَ بْنَ صِرْمَةَ الأَنْصَارِيَّ كَانَ صَائِمًا، فَلَمَّا حَضَرَ الإِفْطَارُ أَتَى امْرَأَتَهُ، فَقَالَ لَهَا: أَعِنْدَكِ طَعَامٌ ؟ قَالَتْ: لَا وَلَكِنْ أَنْطَلِقُ فَأَطْلُبُ لَكَ، وَكَانَ يَوْمَهُ يَعْمَلُ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَتُهُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ نَائِمًا قَالَتْ: خَيْبَةً لَكَ، فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ غُشِيَ عَلَيْهِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ﴾ (البقرة: 187)، فَفَرِحُوا بِهَا فَرَحًا شَدِيدًا، وَنَزَلَتْ: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ..﴾ الآيةَ (البقرة: 187).

وَأَمَّا الرُّتْبَةُ الثَّالِثَةُ؛ فَهِيَ الَّتِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهَا الشَّرْعُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ .

قَالَ اللهُ جَلَّ وَعَلَا: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾ أِيْ: الصَّوْمُ المَفْرُوضُ عَلَيْكُمْ هُوَ شَهْرُ رَمَضَانَ، الشَّهْرُ العَظِيم ُالَّذِي حَصَلَ لَكُم فِيهِ مِنَ اللهِ الفَضْلُ العَظْيمُ، وَهُوَ القُرْآنُ الكَرِيمُ المُشْتَمِلُ عَلَى الهِدَايَةِ لِمَصَالِحِكُم الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَتَبْيِينِ الحَقِّ بِأَوْضَحِ بَيَانٍ، وَفِيهِ الفُرْقَانُ بَيْنَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ، وَالهُدَى وَالضَّلَالِ، وَأَهْلِ السَّعَادَةِ وَأَهْلِ الشَّقَاوَةِ.

فَحَقِيقٌ بِشَهْرٍ هَذَا فَضْلُهُ, وَهَذَا إِحْسَانُ اللهِ عَلَيكُمْ فِيهِ, أَنْ يَكُونَ مَوْسِمًا لِلعِبَادِ مَفْرُوضًا فِيهِ الصِّيَامُ .

فَلَمَّا قَرَّرَهُ وَبَيَّنَ فَضِيلَتَهُ, وَحِكْمَةَ اللهِ تَعَالَى فِي تَخْصِيصِهِ قَالَ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}، وَهَذَا فِيهِ تَعْيِينُ الصِّيَامِ عَلَى القَّادِرِ الصَّحِيحِ الحَاضِرِ – أَيْ غَيْرِ المُسَافِرِ- .

وَلَمَّا كَانَ النَّسْخُ لِلتَّخْيِيرِ بَيْنَ الصِّيَامِ وَالفِدَاءِ خَاصَّة؛ أَعَادَ الرُّخْصَةَ لِلمَرِيضِ وَالمُسَافِرِ؛ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الرُّخْصَةَ بَيْنَ الصِّيَامِ وَالفِدَاءِ عَلَى مَا مَرَّ قَدْ نُسِخَتْ فِي حَقِّ المَرِيضِ وَالمُسَافِرِ فَقَالَ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} أَيْ: يُرِيدُ اللهُ تَعَالَى أَنْ يُيَسِّرَ عَلَيكُم الطُّرُقَ المُوصِلَةَ إِلَى رِضْوَانِهِ أَعْظَمَ تَيْسِيرٍ، وَأَنْ يُسَهِّلُهَا أَبْلَغَ تَسْهِيلٍ؛ وَلِهَذَا كَانَ جَمِيعُ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ عِبَادَهُ فِي غَايَةِ السُّهُولَةِ فِي أَصْلِهِ.

وَإِذَا حَصَلَتْ بَعْضُ العَوَارِضِ المُوجِبَةِ لِثِقَلِهِ؛ سَهَّلَهُ تَسْهِيلًا آخَرَ، إِمَّا بِإِسْقَاطِهِ، أَوْ تَخْفِيفِهِ بِأَنْوَاعِ التَّخْفِيفَاتِ.

وَهَذِهِ جُمْلَةٌ لَا يُمْكِنُ تَفْصِيلُهَا؛ لِأَنَّ تَفَاصِيلَهَا جَمِيعُ التَّشْرِيعَاتِ، وَيَدْخُلُ فِيهَا جَمِيعُ الرُّخَصِ وَالتَّخْفِيفَاتِ.

{وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} وَهَذَا - وَاللهُ أَعْلَمُ - لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ صِيَامَ رَمَضَان يَحْصُلُ المَقْصُودُ مِنْهُ بِبَعْضِهِ، دَفَعَ هَذَا التَّوَهُمَ بِالأَمْرِ بِتَكْمِيلِ عِدَّتِهِ، وَبِشُكْرِ اللهِ تَعَالَى عِنْدَ إِتْمَامِهِ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَتَسْهِيلِهِ وَتَبْيِينِهِ لِعِبَادِهِ، وَبِالتَّكْبِيرِ عِنْدَ انْقِضَائِهِ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ: التَّكْبِيرُ عِنْدَ رَؤْيَةِ هِلَالِ شَوَّالٍ إِلَى فَرَاغِ خُطْبَةِ العِيدِ.

إِذَا قَرَأْنَا قَوْلَ اللهِ جَلَّ وَعَلَا: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾؛ عَرَفْنَا مَا هِيَ الحِكْمَةُ مِنْ إِيجَابِ الصِّيَامِ، وَهِيَ التَّقْوَى، وَالتَّعَبُّدُ للهِ جَلَّ وَعَلَا .

وَالتَّقْوَى هِيَ: تَرْكُ المَحَارِمُ، وَهِيَ عِنْدَ الإِطْلَاقِ تَشْمَلُ فِعْلَ المَأْمُورِ بِهِ، وَتَرْكَ المَحْظُورِ المُحَرَّمِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ وَالجَهْلَ؛ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» . أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ .

وَعَلَى هَذَا يَتَأَكَّدُ عَلَى الصَّائِمِ القِّيَامُ بِالوَاجِبَاتِ، وَكَذَلِكَ اجْتِنَابُ المُحَرَّمَاتِ مِنَ الأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ، فَلَا يَغْتَابُ النَّاس، وَلَا يَكْذِبُ، وَلَا يَنِمُّ بَيْنَهُمْ، وَلَا يَبِيعُ بَيْعًا مُحَرَّمًا، يَجْتَنِبُ جَمِيعَ المُحَرَّمَاتِ، وَإِذَا فَعَلَ الإِنْسَانُ ذَلِكَ فِي شَهْرٍ كَامِلٍ؛ فَإِنَّ نَفْسُهُ سَوْفُ تَسْتَقِيمُ بَقِيَّةَ العَامِ .

وَلَكِنَّ المُؤسِف أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الصَّائِمِينَ لَا يُفَرِّقونَ بَيْنَ يَوْمِ صَوْمِهِم وَيَوْمِ فِطْرِهِمْ، فَهُم عَلَى العَادَةِ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا مِنْ تَرْكِ الوَاجِبَاتِ، وَفِعْلِ المُحَرَّمَاتِ، وَلَا تَشْعُرُ أَنَّ عَلَيْهِ وَقَارَ الصَّوْمِ، وَهَذِهِ الأَفْعَالُ لَا تُبْطِلُ الصَّوْمَ؛ وَلَكِنْ تَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ، وَرُبَّمَا عِنْدَ المُعَادَلَة تَرْجَحُ عَلَى أَجْرِ الصَّوْمِ فَيَضِيعُ ثَوَابُهُ.

هُنَاكَ مَنْ يُنَادِي بِرَبْطِ المَطَالِعِ كُلِّهَا بِمَطَالِعِ مَكَّةَ, حِرْصًا عَلَى وِحْدَةِ الأُمَّةِ فِي دِخُولِ شَهْرِ رَمَضَانَ المُبَارَكِ وَغَيْرِهُ؛ فَمَا الصَّوَابُ فِي ذَلِكَ ؟

الجَوَابُ: هَذَا مِنَ النَّاحيَةِ الفَلَكِيَّةِ مُسْتَحِيلٌ؛ لِأَنَّ مَطَالِعَ الهِلَالِ كَمَا قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللهُ - تَخْتَلِفُ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ المَعْرِفَةِ بِهَذَا العِلْم، إِذَا كَانَتْ تَخْتَلِفُ, فَإِنَّ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ الأَثَرِيِّ وَالنَّظَرِيِّ أَنْ يُجْعَلُ لِكُلِّ بَلَدٍ حُكْمُهُ.

أَمَّا الدَّلِيلُ الأَثَرِيُّ؛

فَقَالَ اللهُ جَلَّ وَعَلَا: ﴿ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ (البقرة: 185).

فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ أُنَاسًا فِي أَقْصَى الأَرْضِ مَا شَهِدُوا الشَّهْرَ - أَيْ الهِلَالَ-، وَأَهْلَ مَكَّةَ شَهِدُوا الهِلَالَ؛ فَكَيْفَ يَتَوَجَّهُ الخِطَابُ فِي هَذِهِ الآيَةِ إِلَى مَنْ لَمْ يَشْهَدُوا الشَّهْرَ ؟!

وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: « صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ » وَالحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ.

فَإِذَا رَآهُ أَهْلُ مَكَّةَ مَثَلًا؛ فَكَيْفَ نُلْزِمُ أَهْلَ بَاكِسْتَانَ وَمَنْ وَرَاءَهُم مِن الشَّرْقِيينَ بِأَنْ يَصُومُوا ؟! مَعَ أَنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ الهِلَالَ لَمْ يَطْلُعْ فِي أُفُقِهِم، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ عَلَّقَ ذَلِكَ بِالرُّؤْيَةِ.

أَمَّا الدَّلِيلُ النَّظَرِيُّ؛

فّهُوَ القِيَاسُ الصَّحِيحُ الَّذِي لَا تُمْكِّنُ مُعَارَضَتُهُ، فَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ الفَجْرَ يَطْلُعُ فِي الجِّهَةِ الشَّرْقِيَّةِ مِن الأَرْضِ قَبْلَ الجِّهَةِ الغَرْبِيَّةِ، فَإِذَا طَلَعَ الفَجْرُ عَلَى الجِّهَةِ الشَّرْقِيَّةِ؛ فَهَلْ يُلْزِمُنَا أَنْ نُمْسِكَ وَنَحْنُ فِي لَيْلٍ ؟

 الجَوَابُ: لَا.

وَإِذَا غَرُبَتِ الشَّمْسُ فيِ الجِّهَةِ الشَّرْقِيَّةِ وَلَكِنَّنَا نَحْنُ فِي النَّهَارِ؛ فَهَلْ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نُفْطِرَ ؟

الجَوَابُ: لَا .

إِذًا؛ الهِلَالُ كَالشَّمْسِ تَمَامًا، فَالهِلَالُ تَوْقِيتُهُ تَوْقِيتٌ شَهْرِيٌّ، وَالشَّمْسُ تَوْقِيتُهَا تَوْقِيتٌ يَوْمِيٌّ، وَالَّذِي قَالَ: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) ﴾ (البقرة:187)، الَّذِي قَالَ هَذَا سُبْحَانَهُ, هُوَ الَّذِي قَالَ: ﴿ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ .

 فَمُقْتَضَى الدَّلِيلِ الأَثَرِيِّ وَالنَّظَرِيِّ: أَنْ نَجْعَلَ لِكُلِّ مَكَانٍ حُكْمًا خَاصًّا بِهِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالصَّوْمِ وَالفِطْرِ، وَيُرْبَطُ ذَلِكَ بِالعَّلَامَةِ الحِسِّيَةِ, الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ فِي كِتَابِهِ، وَجَعَلَهَا نَبِيُّهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فِي سُنَّتِهِ، أَلَا وَهُوَ شُهُودُ القَمَر، وَشُهُودُ الشَّمْسِ أَوْ الفَجْرِ.

هَذِهِ إِجَابَةُ الشَّيْخِ الصَّالِحِ العَلَّامَةِ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحِ بْنِ عُثَيْمِينَ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ فِي اخْتَلَافِ المَطَالِعِ – رَحِمَهُ اللهُ رَحْمَةً وَاسِعَةً - .

إِذَا انْتَقَلَ الصَّائِمُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، وَأُعْلِنَ فِي البَلَدِ الأَوَّلِ رُؤْيَةُ هِلَالِ شَوَّالَ؛ فَهَلْ يُفْطِرُ تَبَعًا لَهُمْ عِلْمًا بِأَنَّ البَلَدَ الثَّانِيَ لَمْ يُرَ فِيهِ هِلَالُ شَوَّالٍ ؟

الجَوَابُ:

 إِذَا انْتَقَلَ الإِنْسَانُ مِنْ بَلَدٍ إِسْلَامِيٍ إِلَي بَلَدٍ إِسْلَامِيٍ، وَتَأَخَّرَ إِفْطَارُ البَلَدِ الَّذِي انْتَقَلَ إِلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ يَبْقَى مَعَهُمْ حَتَّى يُفْطِرُوا؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ يَوْمَ يَصُومُ النَّاسِ، وَالفِطْرَ يَوْمَ يُفْطِرُ النَّاس، وَالأَضْحَى يَوْمَ يُضَحِّي النَّاس، وَهَذَا وَإِنْ زَادَ عَلَيْهِ يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ؛ فَهُوَ كَمَا لَوْ سَافَرَ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ يَتَأَخَّرُ فِيهِ غُرُوبُ الشَّمْسَ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَزِيدُ عَلَى اليَوْمِ المُعْتَادِ سَاعَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا أَوْ أَكْثَرَ، وَلِأَنَّهُ إِذَا انْتَقَلَ إِلَى البَّلَدِ الثَّانِي؛ فَإِنَّ الهِلَالَ لَمْ يُرَ فِيهِ، وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أَلَّا نَصُومَ إِلَّا لِرُؤْيَتِهِ، وَكَذِلِكَ قَالَ: «وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ»، وَأَمَّا العَكْس ُكَأَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ بَلَدٍ تَأَخَّرَ ثُبُوتُ الشَّهْرِ عِنْدَهُ إِلَى بَلَدٍ تَقَدَّمَ فِيهِ ثُبُوتُ الشَّهْرِ؛ فَإِنَّهُ يُفْطِرُ مَعَهُم، وَيَقْضِي مَا فَاتَهُ مِنْ رَمَضَانَ، إِنْ فَاتَهُ يَوْمٌ قَضَى يَوْمًا، وَإِنْ فَاتَهُ يَوْمَانِ قَضَى يَوْمَيْنِ .

وَقُلْنَا: يَقْضِي فِي الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْقُصَ عَنْ تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا، أَوْ يَزِيدَ عَلَى الثَّلَاثِينَ يَوْمًا .

وَقُلْنَا لَهُ: أَفْطِرْ وَإِنْ لَمْ تُتِمَّ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا؛ لِأَنَّ الهِلَالَ رُؤِيَ، فَإِذَا رُؤِيَ فَلَا بُدَّ مِنَ الفِطْرِ، وَلَمَّا كُنْتَ نَاقِصًا عَنْ تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْقُصَ عَنْ تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا؛ لَزِمَكَ أَنْ تُتِمَّ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ بِخِلَافِ المَسْأَلَةِ الأُولَى، فَإِنَّكَ لَا تُفْطِرُ حَتَّى يُرَى الهِلَالُ، فَإِنْ لَمْ يرَ فَإِنَّكَ لَا تَزَالُ فِي رَمَضَانَ، فَكَيْفَ تُفْطِرُ ؟!  فَلَزِمَكَ الصِّيَامُ، وَإِنْ زَادَ عَلَيْكَ الشَّهْرُ؛ فَهُوَ كَزِيَادَةِ السَّاعَاتِ فِي اليَوْمِ عِنْدَ السَّفَرِ .

﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ...﴾ الآيات .

كَانَ فِي أَوَّلِ فَرْضِ الصِّيَامِ يَحْرُمُ عَلَى المُسْلِمِينَ الأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالجِمَاعُ فِي اللَّيْلِ بَعْدَ النَّوْمِ، فَحَصَلَتِ المَشَقَّةُ لِبَعْضِهِمْ، فَخَفَّفَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم ذَلِكَ، وَأَبَاحَ فِي لَيَالِي الصِّيَامِ كُلِّهَا الأَكْلَ وَالشُّرْبَ وَالجِمَاعَ؛ سَوَاءٌ نَامَ أَوْ لَمْ يَنَمْ؛ لِكَوْنِهِمْ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ بِتَرْكِ بَعْضِ مَا أُمِرُوا بِهِ.

{فَتَابَ} اللهُ {عَلَيْكُمْ} بِأَنْ وَسَّعَ لَكُمْ أَمْرًا لَوْلَا توسِعَتهُ؛ لَكَانَ ذَلِكَ مُوجِبًا لِلإِثْمِ  {وَعَفَا عَنكُمْ} مَا سَلَفَ مِنَ التَّخَوُّنِ.

{فَالْآنَ} بَعْدَ هَذِهِ الرُّخْصَةِ وَالسَّعَةِ مِنَ اللهِ {بَاشِرُوهُنَّ} وَطْئًا وَقُبْلَةً وَلَمْسًا وَغَيْرَ ذَلِكَ.

{وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} أَيْ: انْوُوا فِي مُبَاشَرَتِكُمْ لِزَوْجَاتِكُمْ التَّقَرُّبَ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَالمَقْصُودَ الأَعْظَمَ مِنَ الوَطْءِ، وَهُوَ حُصُولُ الذُّريَّةِ وَإِعْفَافُ نَفْسِهِ وَنَفْسِ زَوْجَتِهِ، وَحُصُولَ مَقَاصِدِ النِّكَاحِ .

وَمِمَّا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ: لَيْلَةَ القَدْرِ الَّتِي هِيَ مُوَافِقَةٌ لِلَيَالِي صِيَامِ رَمَضَانَ، فَلَا يَنْبَغِي لَكُم أَنْ تَشْتَغِلُوا بِهَذِهِ اللَّذَّةِ عَنْهَا فَتُضَيِّعُوهَا، وَاللَّذَّةُ مُدْرَكَةٌ، وَلَيْلَةُ القَدْرِ إِذَا فَاتَتْ لَمْ تُدْرَكْ.

{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}، هَذَا غَايَةٌ لِلأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالجِمَاعِ .

 وَفِيهِ: أَنَّهُ إِذَا أَكَلَ وَنَحْوَهُ شَاكًّا فِي طُلُوعِ الفَجْرِ فَلَا بَأْسَ عَلَيْهِ .

وَفِيهِ: دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ السُّحُورِ لِلأَمْرِ، وَأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهُ أَخْذًا مِنْ مَعْنَى رُخْصَةِ اللهِ وَتَسْهِيلِهِ عَلَى العِبَادِ .

وَفِيهِ أَيْضًا: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُدْرِكَهُ الفَجْرُ وَهُوَ جُنُبٌ مِنَ الجِمَاعِ قَبْلَ أَنْ يَغْتَسِلَ، وَيَصِحُّ صِيَامُهُ؛ لِأَنَّ لَازِمَ إِبَاحَةِ الجِمَاعِ إِلَى طُلُوعِ الفَجْرِ: أَنْ يُدْرِكَهُ الفَجْرُ وَهُوَ جُنُبٌ، وَلَازِمُ الحَقِّ حَقٌّ.

{ثُمَّ} إِذَا طَلَعَ الفَجْرُ {أَتِمُّوا الصِّيَامَ} أَي: الإِمْسَاكَ عَنِ المُفْطِرَاتِ {إِلَى اللَّيْلِ} وَهُوَ غُرُوبُ الشَّمْسِ، وَلَمَّا كَانَ إِبَاحَةَ الوَطْءِ فِي لَيَالِي الصِّيَامِ لَيْسَتْ إِبَاحَةً عَامَّةً لِكُلِّ أَحَدٍ؛ فَإِنَّ المُعْتَكِفَ لَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ، اسْتَثْنَاهُ بِقَوْلِهِ: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} أَي: وَأَنْتُمْ مُتَّصِفُونَ بِذَلِكَ .

 وَدَلَّتِ الآيَةُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الاِعْتِكَافِ، وَهُوَ: لِزُومُ المَسْجِدِ لِطَاعَةِ اللهِ تَعَالَى وَانْقِطَاعًا إِلَيْهِ، وَأَنَّ الاِعْتِكَافَ لَا يَصِحُّ إِلَّا فِي مَسْجدٍ .

وَيُسْتَفَادُ مِنْ تَعْرِيفِ المَسَاجِدِ: أَنَّهَا المَسَاجِدُ المَعْرُوفَةُ عِنْدَهُم، وَهِيَ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ .

وَفِيهِ: أَنَّ الوَطْءَ مِنْ مُفْسِدَاتِ الاِعْتِكَافِ .

{تِلْكَ} المَذْكُورَاتُ، وَهِيَ تَحْرِيمُ الأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالجِمَاعِ وَنَحْوُهَا, مِنَ المُفْطِرَاتِ فِي الصِّيَامِ، وَتَحْرِيمُ الفِطْرِ عَلَى غَيْرِ المَعْذُورِ، وَتَحْرِيمُ الوَطْءِ عَلَى المُعْتَكِفِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ المُحَرَّمَاتِ {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} الَّتِي حَدَّهَا لِعِبَادِهِ, وَنَهَاهُمْ عَنْهَا فَقَالَ: {فَلَا تَقْرَبُوهَا}، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِهِ: "فَلَا تَفعَلُوهَا "؛ لِأَنَّ القُرْبَانَ يَشْمَلُ النَّهْيَ عَنْ فِعْلِ المُحَرَّمِ بِنَفْسِهِ، وَالنَّهْيَ عَنْ وَسَائلِهِ المُوُصِلَةِ إِلَيْهِ .

وَالعَبْدُ مَأْمُورٌ بِتَرْكِ المُحَرَّمَاتِ، وَالبُعْدِ مِنْهَا غَايَةَ مَا يُمْكِنُهُ، وَتَرْكِ كُلِّ سَبَبٍ يَدْعُو إِلَيْهَا.

 وَأَمَّا الأَوَامِرُ؛ فَيَقُولُ اللهُ فِيهَا: ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا ﴾، فَيَنْهَى عَنْ مُجَاوَزَتِهَا.

{كَذَٰلِكَ} أَي: بَيَّنَ اللهُ لِعِبَادِهِ الأَحْكَامَ السَّابِقَةَ أَتَمَّ تَبْيِينٍ، وَأَوْضَحَهَا لَهُمْ أَكْمَلَ إِيضَاحٍ.

{يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}؛ فَإِنَّهُمْ إِذَا بَانَ لَهُمْ الحَقُّ اتَّبَعُوهُ، وَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُمْ البَاطِلُ اجْتَنَبُوهُ؛ فَإِنَّ الإِنْسَانَ قَدْ يَفْعَلُ المُحَرَّمَ عَلَى وَجْهِ الجَهْلِ بِأَنَّهُ مُحَرَّمٌ، وَلَوْ عَلِمَ تَحْرِيمَهُ لَمْ يَفْعَلْهُ، فَإِذَا بَيَّنَ اللهُ لِلنَّاسِ آيَاتِهِ، لَمْ يَبْقَ لَهُمْ عُذْرٌ وَلَا حُجَّةٌ، فَكَانَ ذَلِكَ تَحْصِيلًا لِلتَّقْوَى .

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ .

وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: « مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ » .

قَالَ الخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ اللهُ:

قَوْلُهُ: {إيمانًا واحْتِسَابًا} أَيْ: نِيَّةً وَعَزِيمَةً، وَهُوَ أَنْ يَصُومَهُ عَلَى التَّصْدِيقِ والرَّغْبَةِ فِي الثَّوَابِ، طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ، غيرَ كَارِهٍ لَهُ وَلَا مُسْتَثْقِلٍ لِصِيَامِهِ وَلَا مُسْتَطِيلٍ لِأَيَّامِهِ، لَكِنْ يَغْتَنِمُ طُولَ أَيَّامِه لِعِظَمِ الثَّوَابِ .

وَقَالَ البَغَوِيُّ:

قَوْلُهُ: {احْتِسَابًا} أَيْ طَلَبًا لِوَجْهِ اللهِ تَعَالَى وَثَوَابِهِ، يُقَالُ: فُلَانٌ مُحْتَسِبٌ لِلأَخْبَارِ وَيَتَحَسَّبُهَا، أي: يَتَطَلَّبُهَا .

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يُرَغِّبُ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ, مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِعَزِيمَةٍ، ثم يَقُولُ: « مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ .

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

« الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَت الْكَبَائِرَ » . رَوَاهُ مُسْلِمٌ .

وعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: «اُحْضُرُوا الْمِنْبَرَ»، فَحَضَرْنَا، فَلَمَّا ارْتَقَى دَرَجَةً قَالَ: «آمِينَ»، فَلَمَّا ارْتَقَى الدَّرَجَةَ الثَّانِيَةَ قَالَ: «آمِينَ»، فَلَمَّا ارْتَقَى الدَّرَجَةَ الثَّالِثَةَ قَالَ: «آمِينَ»، فَلَمَّا نَزَلَ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: لَقَدْ سَمِعْنَا مِنْكَ الْيَوْمَ شَيْئًا مَا كُنَّا نَسْمَعُهُ، قَالَ: «إِنَّ جِبْرِيلَ عَرَضَ لِي فَقَالَ: بَعٌدَ مَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ فَلَمْ يَغْفَرْ لَهُ، قُلْتُ: آمِينَ، فَلَمَّا رَقِيتُ الثَّانِيَةَ قَالَ: بَعُدَ مَنْ ذُكِرْتَ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ – صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيهِ –، فقُلْتُ: آمِينَ، فَلَمَّا رَقِيتُ الثَّالِثَةَ قَالَ: بَعُدَ مَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ الْكِبَرُ عِنْدَهُ أَوْ أَحَدَهُمَا فَلَمْ يُدْخِلَاهُ الْجَنَّةَ، قُلْتُ: آمِينَ» . رَوَاهُ الحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَهُوَ صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ .

وَعَنْ مَالِكِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ الْمِنْبَرَ، فَلَمَّا رَقِيَ عَتَبَةً قَالَ آمِينَ، ثُمَّ رَقِيَ أُخْرَى فَقَالَ آمِينَ، ثُمَّ رَقِيَ عَتَبَةً ثَالِثَةً فَقَالَ آمِينَ، ثُمَّ قَالَ: «أَتَانِي جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ، فقُلْتُ آمِينَ، قَالَ وَمَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ، فقُلْتُ آمِينَ، قَالَ وَمَنْ ذُكِرْتَ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ – صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: فَقُلْتُ آمين». رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي {صَحِيحِهِ}، وَهُوَ صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ .

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ: « إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ؛ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ » .رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ .

وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: « فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الرَّحْمَةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ، وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ » .

وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وابْنُ مَاجَهْ وابْنُ خُزَيْمَةَ وَالبَيْهَقِيُّ, كُلُّهُمْ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَفْظُهُمْ:

قَالَ: «إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهرِ رَمَضَانَ؛ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ – وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ خُزَيْمَةَ:"الشَّيَاطِينُ مَرَدَةُ الجِنِّ" (بِغَيْرِ وَاوٍ)-، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ» . قاَلَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالحَاكِمُ بِنَحْوِ هَذَا اللَّفْظِ، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ .

{وَصُفِّدَتْ} بِضَمِّ الصَّادِ وَتَشْدِيدِ الفَاءِ، أَيْ: شُدَّتْ بِالأَغْلَالِ .

وَعَنْهُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: «أَتَاكُمْ شَهْرُ رَمَضَانُ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ، فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفَتَّحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَتُغَلَّقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ». رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالبَيْهَقِيُّ، وَهُوَ صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ .

وَقَالَ الحَلِيمِيُّ رَحِمَهُ اللهُ:

وَتَصْفِيدُ الشَّيَاطِينِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ المُرَادُ بِهِ أَيَّامَهُ خَاصَّةً، وَأَرَادَ الشَّيَاطِينَ الَّتِي هِيَ مُسْتَرِقَةٌ لِلسَّمْعِ، أَلَا تَرَاهُ قَالَ: {مَرَدَةَ الشَّيَاطِينِ}؛ لِأَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ كَانَ وَقْتًا لِنُزُولِ القُرْآنِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَكَانَتِ الحِرَاسَةُ قَدْ وَقَعَتْ بِالشُّهُبِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ ﴾، فَزِيدَ التَّصْفِيدُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مُبَالَغَةً فِي الحِفْظِ، وَيَحَتَمِلُ أَنْ يَكُونَ المُرَادُ أَيَّامَهُ وَبَعْدَهُ.

وَالمَعْنَى: أَنَّ الشَّيَاطِينَ لَا يَخْلُصُونَ فِيهِ مِنْ إِفْسَادِ النَّاسِ إِلَى مَا كَانُوا يَخْلُصُونَ إِلَيْهِ فِي غَيْرِهِ؛ لِاشْتِغَالِ المُسْلِمِينَ بِالصِّيَامِ الَّذِي فِيهِ قَمْعُ الشَّهَوَاتِ، وَبِقِرَاءَةِ القُرْآنِ وَسَائِرِ العِبَادَاتِ .

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: دَخَلَ رَمَضَانُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ قَدْ حَضَرَكُمْ، وَفِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَهَا فَقَدْ حُرِمَ الْخَيْرَ كُلَّهُ، وَلَا يُحْرَمُ خَيْرَهَا إِلَّا مَحْرُومٌ » .  رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ:«لِلَّهِ عِنْدَ كُلِّ فِطْرٍ عُتَقَاءُ » رَوَاهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ لَا بَأْسَ بِهِ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَالبَيْهَقِيُّ، وَقَالَ الأَلْبَانِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ .

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ للهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عُتَقَاءَ فِي كُلِّ يَومٍ وَلَيْلَةٍ – يَعْنِي فِي رَمَضَانَ -، وَإِنَّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ دَعْوَةً مُسْتَجَابَةً». رَوَاهُ البَزَّارُ، وَهُوَ صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ .

شَهْرُ رَمَضَانَ هُوَ شَهْرُ القُرْآنِ، أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ كِتَابَهُ المَجِيدَ, هُدَىً لِلنَّاسِ، وَجَعَلَهُ شِفَاءً لِلمُؤْمِنِينَ، يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ، وَيُبَيِّنُ سَبِيلَ الرَّشَادِ، وَفِي لَيْلَةِ القَدْرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ قَالَ اللهُ جَلَّ وَعَلَا – وَقَدْ أَنْزَلَ فِيهَا القُرْآنَ -: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾.

وَصْفُ رَمَضَانَ بِأَنَّهُ أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ، وَبِنَاءُ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ بِحَرْفِ الفَاءِ الَّتِي تُفِيدُ التَّعْلِيلَ وَالسَّبَبِيَّة {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}، هَذَا يُفِيدُ بِطَرِيقِ الإِيمَاءِ إِلَى العِلَّةِ, أَنَّ سَبَبَ اخْتِيَارِ رَمَضَانَ لِيَكُونَ شَهْرَ الصَّوْمِ: هُوَ إِنْزَالُ القُرْآنِ فِيهِ .

فِي شَهْرِ رَمَضَانَ يَقِلُّ الشَّرُّ فِي الأَرْضِ، تُصَفَّدُ وَتُشَدُّ مَرَدَةُ الجِنِّ بِالسَّلَاسِلِ وَالأَغْلَالِ وَالأَصْفَادِ، فَلَا يَخْلُصُونَ إِلَى إِفسَادِ العِبَادِ كَمَا كَانُوا يَخْلُصُونَ إِلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ؛ لِاشْتِغَالِ المُسْلِمِينَ بِالصِّيَامِ الَّذِي فِيهِ قَمْعُ الشَّهَوَاتِ، وَبِقَرَاءَةِ القُرْآنِ وَسَائِرِ العِبَادَاتِ الَّتِي تُهَذِّبُ النِّفُوسَ وَتُزَكِّيهَا .

قَالَ جَلَّ وَعَلَا: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾؛ لِذَلِكَ تُغَلَّقُ أَبْوَابُ جَهَنَّمُ، وَتُفَتَّحُ أَبْوَابُ الجِنَانِ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَتِمُّ فِي أَوَّلِ لَيلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ؛ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ».

فِي رَمَضَانَ لَيْلَةُ القَدْرِ، وَهِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ .

عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أَتَانِي رَجُلَانِ، فَأَخَذَا بِضَبْعَيَّ، فَأَتَيَا بِي جَبَلًا وَعْرًا، فَقَالَا: اصْعَدْ، فَقُلْتُ: إِنِّي لَا أُطِيقُهُ، فَقَالَا: إِنَّا سَنُسَهِّلُهُ لَكَ، فَصَعِدْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي سَوَاءِ الْجَبَلِ إِذَا بِأَصْوَاتٍ شَدِيدَةٍ، قُلْتُ: مَا هَذِهِ الْأَصْوَاتُ ؟ قَالُوا: هَذَا عُوَاءُ أَهْلِ النَّارِ، ثُمَّ انْطَلَقَ بِي، فَإِذَا أَنَا بِقَوْمٍ مُعَلَّقِينَ بِعَرَاقِيبِهِمْ، مُشَقَّقَةٍ أَشْدَاقُهُمْ، تَسِيلُ أَشْدَاقُهُمْ دَمًا، قَالَ: قُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ قَالَ: الَّذِينَ يُفْطِرُونَ قَبْلَ تَحِلَّةِ صَوْمِهِمْ » الحَدِيثَ .

وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ خٌزَيْمَّةَ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ .

وَقَوْلُهُ {قَبْلَ تَحِلَّةِ صَوْمِهِمْ} مَعْنَاهُ: يُفْطِرُونَ قَبلَ وَقْتِ الإِفْطَارِ، هُمْ يَصُومُونَ؛ وَلَكِنَّهُمْ يُفْطِرُونَ مُتَعَجِّلِينَ قَبْلَ وَقْتِ الإِفْطَارِ.

فَإِذَا كَانَ هَذَا فِيمَنْ أَفْطَرَ قَدْرًا مِنَ اليَوْمِ قَبْلَ وَقْتِ الإِفْطَارِ؛ فَكَيْفَ بِمَنْ أَفْطَرَ اليَوْمَ كُلَّهُ ؟! فَكَيْفَ بِمَنْ أَفْطَرَ الشَّهْرَ كُلَّهُ ؟! نَسْأَلُ اللهَ أنْ يَهْدِيَنَا جَمِيعًا إِلَى الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ .

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: « تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً ». رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ .

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ: « فَصْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَكْلَةُ السَّحَرِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ .

وعَنْ سَلْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: « الْبَرَكَةُ فِي ثَلَاثَةٍ: فِي الْجَمَاعَةِ، وَالثَّرِيدِ، وَالسُّحُورِ » رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي {الكَبِيرِ}، ورُوَاتُهُ ثِقَاتٌ، وَهُوَ حَسَنٌ لِغَيْرِهِ .

وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: « إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الْمُتَسَحِّرِينَ » . رَوَاهُ الطَبَرَانِيُّ فِي {الأَوْسَطِ}، وَابْنُ حِبَّانَ فِي {صَحِيحِهِ}، وَقَالَ الأَلْبَانِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ .

وَعَنْ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: دَعَانِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ إِلَى السَّحُورِ فِي رَمَضَانَ – السَّحُورُ ( بِالفَتْحِ ): مَا يُتَسَحَّرُ بِهِ -، دَعَانِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ إِلَى السَّحُورِ فِي رَمَضَانَ فَقَالَ: « هَلُمَّ - أَيْ أَقْبِلْ - إِلَى الْغَدَاءِ الْمُبَارَكِ » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيَّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ، وَهُوَ صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ .

وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: « هُوَ – يَعْنِي: السَّحُورَ – هُوَ الْغَدَاءَ الْمُبَاركَ ». يَعْنِي: السَّحُورَ رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَهُوَ صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَتَسَحَّرُ، فَقَالَ: « إِنَّهَا بَرَكَةٌ أَعْطَاكُمُ اللهُ إِيَّاهَا فَلَا تَدَعُوهُ » . أَيْ: فَلَا تَتْرُكُوهُ . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ .

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: «السَّحُورُ كُلُّهُ بَرَكَةٌ فَلَا تَدَعُوهُ؛ وَلَوْ أَنْ يَجْرَعَ أَحَدُكُمْ جَرْعَةً مِنْ مَاءٍ؛ فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى المُتَسَحِّرِينَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَهُوَ حَسَنٌ لِغَيْرِهِ .

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: «تَسَحَّرُوا وَلَوْ بِجَرْعَةٍ مِنْ مَاءٍ» . رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَهُوَ حَسَنٌ صَحِيح ٌكَمَا قَالَ الأَلْبَانِيُّ .

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ: « نِعْمَ سَحُورُ الْمُؤْمِنِ التَّمْرُ » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ حِبَّانَ، وَهُوَ صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ .

عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعدٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ: « لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ ». رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ .

وَعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ: « لَا تَزَالُ أُمَّتِي عَلَى سُنَّتِي مَا لَمْ تَنْتَظِرْ بِفِطْرِهَا النُّجُومَ ». رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَهُوَ صَحِيحٌ .

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: « لَا يَزَالُ الدِّينُ ظَاهِرًا مَا عَجَّلَ النَّاسُ الفِّطْرَ؛ لِأنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يُؤَخِّرُونَ » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ، وَعِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ: « لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيرٍ ». وَالحَدِيثُ حَسَنٌ .

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: « مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَطُّ صَلَّى صَلَاةَ الْمَغْرِبِ حَتَّى يُفْطِرَ؛ وَلَوْ عَلَى شَرْبَةٍ مِنْ مَاءٍ ». رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ .

وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: « كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يُفْطِرُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَّ – أَيْ المَغْرِبَ - عَلَى رُطَبَاتٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ رُطَبَاتٌ فَتَمَرَاتٌ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَمْرَاتٌ حَسَا حَسَوَاتٍ مِنْ مَاءٍ ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ .وَهُوَ كَمَا قَالَ .

عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ: « مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ, غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْءٌ » . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ .

وَلَفظُ ابْنِ خُزَيْمَةَ وَالنَّسَائِيِّ: « مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا أَوْ جَهَّزَ حَاجًّا أَو خَلَفَهُ فِي أَهْلِهِ أَو فَطَّرَ صَائِمًا؛ كَانَ لَهُ مِثلُ أُجُورِهم مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ ». وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: « مَنْ لَمْ يَدَعْ – أَيْ: يَتْرُكَ - مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّوُر ِوَالْعَمَلَ بِهِ؛ فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ ». رَوَاهُ البُخَارِيُّ .

وَعِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ: « مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّوُرِ وَالْجَهْلَ وَالْعَمَلَ بِهِ ». وَهُوَ رِوَايَةٌ لِلنَّسَائِيِّ أَيْضًا، وَإسْنَادُهَا صَحِيحٌ .

وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ وَالأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَلَفْظُهُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: « مَنْ لَمْ يَدَعِ الْخَنَا وَالْكَذِبَ؛ فَلَا حَاجَةَ للهِ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ ». وَهُوَ حَسَنٌ لِغَيْرِهِ .

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَيْضًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: « قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامُ, فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أحَدِكُم؛ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ, إِنِّي صَائِمٌ ». رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا .

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: « لَيْسَ الصِّيامُ مِنْ الْأكْلِ وَالشُّرْبِ، إِنَّمَا الصِّيامُ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، فَإِنْ سَابَّكَ أَحَدٌ أَوْ جَهِلَ عَلَيْكَ فَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ, إِنِّي صَائِمٌ ». رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ خُزَيْمَةَ عَنهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ: « لَا تَسَابَّ وَأَنْتَ صَائِمٌ، فَإِنْ سَابَّكَ أَحَدٌ فَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ، وَإِنْ كُنْتَ قَائِمًا فَاجْلِسْ ». وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ.

وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: « رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ ». رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ، وَلَفْظُهُمَا:

« رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالعَطَشُ، وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِن قِيَامِهِ السَّهَرُ » . وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ .

وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَلَفْظُهُ:« رُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنَ الْقِيَامِ السَّهَرُ، وَرُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنَ الصِّيامِ الْجُوعُ والعَطَشُ » .

وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: « رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالعَطَشُ، وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ » . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ بإِسْنَادٍ لَا بَأْس بِهِ .

فَلنُحَقِّقْ بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ وَحَوْلِهِ تَعَالَى وَقُوَّتِهِ مَقْصُودَ الصِّيَامِ، وَهُوَ تَحْصِيلُ التَّقْوَى بِإِخْلَاصِ العِبَادَةِ للهِ جَلَّ وَعَلَا، بِصَرْفِ العِبَادَةِ للهِ وَحْدَهُ، بِفِعْلِ المَأْمُورَاتِ, وَتَرْكِ المَنْهِيَّاتِ وَالمَحْظُورَاتِ وَالمُحَرَّمَاتِ، فَهَذِهِ هِيَ التَّقْوَى، وَهَذَا مَقْصُودُ الصِّيَامِ الأَعْظَم؛ فَلْنُحَقِّقْ هَذَا .

أَلَا إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَنَا أَبَدًا, وَلَا يَجْمُلُ بِنَا أَنْ نَكُونَ كَالَّذِي وَصَفَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم:

لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ وَالعَطَشُ، ولَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا النَّصَبُ والسَّهَرُ .

لَيْسَ الصِّيَامُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، إِنَّمَا الصِّيَامُ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، إِنَّمَا الصِّيَامُ فِي البُعْدِ عَن المُحَرَّمَاتِ، وَفِي الإِقْبَالِ عَلَى مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَأَنْزَلَهُ وَحْيًا عَلَى سَيِّدِ الكَائِنَاتِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.

نَسْأَلُ اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ أَنْ يُبَلِّغَنَا رَمَضَان، فَإِذَا بَلَّغَنَاهُ؛ فَنَسْأَلُهُ تَعَالَى أَنْ يُعِينَنَا عَلَى صِيَامِهِ وَقِيَامِهِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي يُرْضِيهِ، وَهُوَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الجَوَادُ الكَرِيمُ، وَالبَرُّ الرَّحِيمُ .

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِين .

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أَمَّا بَعْدُ:

فَصِيَامُ رَمَضَانَ أَحَدُ أَرْكَانِ الإِسْلَامِ الخَمْسَةِ الَّتِي لَا يَقُومُ الإِسْلَامُ إِلَّا بِهَا:

« بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ ». رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ .

فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بَعَثَ اللهُ تَعَالَى الأَمِينَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ بِرِسَالَةِ الإِسْلَامِ إِلَى النَّاسِ كَافَّة .

فِي شَهْرِ رَمَضَانَ أَنْزَلَ اللهُ القُرْآنَ: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾ .

شَهْرُ رَمَضَانَ صِيَامُهُ مُكَفِّرٌ لِمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَمَضَانَ الآخَرَ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ: « الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِر » . رَوَاهُ مُسْلِمٌ .

الصَّوْمُ سَبَبٌ لِتَكْفِيرِ الذِّنُوبِ .

فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَجَارِهِ, تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ وَالصَّدَقَةُ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَالحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَينِ .

« الصَّوْمُ جُنًّةٌ ». الصَّوْمُ وِقَايَةٌ مِنْ النَّارِ .

« الصَّوْمُ جُنًّةٌ يَسْتَجِنُّ بِهَا العَبْدُ مِنَ النَّارِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ .

خُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِندَ اللهِ مِن رِيحِ المِسْكِ .

الصَّائِمُ تَسْتَغْفِرُ المَلَائِكَةُ لَهُ حَتَّى يُفْطِرَ .

يُوشِكُ عِبَادِي الصَّالِحُونَ أَنْ يُلْقُوا عَنْهُمْ المَؤُونَةَ، وَأَنْ يُلْقُوا عَنْهُم الأَذَى، ثُمَّ يَصِيرُوا إِلَيَّ .

إِنَّهُ شَهْرُ الصَّبْرِ، وَقَد قَالَ جَلَّ وَعَلَا: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾.

فِيهِ تُصَفَّدُ الشَّيَاطِينُ، تُفَتَّحُ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، تُغَلَّقُ أَبْوَابُ النَّارِ .

فِيهِ لَيْلَةُ القَدْرِ، هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ .

يُغْفَرُ لِلصَّائِمينَ فِي آخِرِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ .

للهِ فِيهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ .

وَلِلصَّائِمِ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ لَا تُرَدُ .

قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: « ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ لَا تُرَدُّ، دَعْوَةُ الْوَالِدِ، وَدَعْوَةُ الصَّائِمِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ ». أَخْرَجَهُ البَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

فَهَذِهِ بَعْضُ فَضَائِلِ وَفَوَاضِلِ وَخَصَائِصِ شَهْرِ رَمَضَانَ؛ فَهَلْ نَسْتَقْبِلُ هَذَا الشَّهْرَ بِاللَّهْوِ وَطُولِ السَّهَرِ فِي غَيْرِ طَائلٍ؛ بِالعُكُوفِ عَلَى المَعَاصِي وَالاسْتِمْرَارِ فِي الغَفْلَةِ؛ أَمْ يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَجْتَهِدَ فِي إِعْدَادِ العُدَّةِ لِاسْتِقْبَالِهِ ؟!

فَإِنَّهُ رُبَّمَا لَا نَبْلُغُه، وَرُبَّمَا لَوْ بَلَغْنَاهُ فَشَهِدْنَاهُ؛ أَلَّا نَبْلُغَ غَيْرَهُ مِمَّا يَأْتِي بَعْدُ؛

فَكَمْ مِنْ حَبِيبٍ ذَهَبَ كَانَ مَعَنَا قَبْلُ وَصَامَ مَعَنَا رَمَضَانَ الَّذِي مَرَّ ثُمَّ ذَهَبَ ؟ لَا يَشْهَدُ رَمَضَانَ هَذَا العَامَ .

كَمْ مِنْ حَبِيبٍ ذَهَبَ ؟ وَكَمْ مِنْ عَزِيزٍ وَلَّى فَغُيِّبَ تَحْتَ أَطْبَاقِ الثَّرَى ؟

وَهَذَا كَأْسٌ لَا بُدَّ أَنْ نَشْرَبَ مِنهُ جَمِيعًا .

عَلَينَا أَنْ نَجْتَهِدَ فِي إِتْقَانِ الصِّيَامِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي ذَكَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ احْتِسَابًا وَإِيمَانًا، وَيَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَحْرِصَ عَلَى القِيَامِ فِي رَمَضَانَ .

«مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ » .

يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَجْتَهِدَ فِي البَذْلِ وَالعَطَاءِ، يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَجْتَهِدَ فِي التَّصَدُّقِ بِمَا مَنَّ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ بِهِ عَلَيْنَا وَلَوْ قَلَّ.

اتَّقِ اللهِ، وَاتَّقِ النَّارِ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالخَيْرِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ.

كَانَ أَجْوَدَ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، كَمَا فِي حَدِيثِ البُخَارِيِّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا .

فَلِلصَّدَقَةِ فِي رَمَضَانَ خَصِيصَةُ تَتَعَلَّقُ بِهَا؛ فَبَادِرْ إِلَيهَا، وَاحْرِصْ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ يَتَجَلَّى فِي صِوَرٍ، مِنْهَا:

إِطْعَامُ الطَّعَامِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ: أَيُّ الإِسْلاَمِ خَيْرٌ ؟ قَالَ:

« تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .

وقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ:

أُحِبُّ لِلرَّجُلِ الزِّيَادَةَ بِالْجُودِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، وَلِحَاجَةِ النَّاسِ فِيهِ إلَى مَصَالِحِهِمْ، وَلِتَشَاغُلِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ بِالعِبَادَةِ عَنْ مَكَاسِبِهِمْ .

تَفْطِيرُ الصَّائِمِينَ: مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْءٌ .

عَلَيْنَا أَنْ نَجْتَهِدَ فِي تِلَاوَةِ القُرْآنِ فِي رَمَضَانَ؛ فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْزَلَ القُرْآنَ فِي رَمَضَانَ.

نَجْتَهِدُ طُولَ العَامِ فِي الجِلُوسِ فِي المَسْجِدِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ثُمَّ نُصَلِّي رَكْعَتَيِ الإِشْرَاقِ .

عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ « أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا صَلَّى الْفَجْرَ جَلَسَ فِي مُصَلَّاهُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ حَسَنًا »، أَيْ: طُلُوعًا حَسَنًا . رَوَاهُ مُسْلِمٌ .

وَأَخْرَجَ التِّرمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: « مَنْ صَلَّى الفَجْرَ فِي جَمَاعَةٍ، ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ؛ كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ » . وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ لِشَوَاهِدِهِ .

هَذَا فِي كُلِّ أَيَّامِ العَامِ؛ فَكَيْفَ فِي رَمَضَانَ ؟!

لِلعُمْرةِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ خَصِيصَةٌ لَيْسَتْ لِغَيْرِهَا فِي سَائِر ِالعَامِ: «العُمْرَةٌ إِلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا» كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ .

فِي رَمَضَانَ يَتَضَاعَفُ هَذَا الفَضْلُ وَهَذَا الأَجْر: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُما أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَجَعَ مِنْ حَجَّةِ الوَدَاعِ قَالَ لِامْرَأَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ اسْمُهَا أُمُّ سِنَانٍ: « مَا مَنَعَكِ أَنْ تَحُجِّيِ مَعَنَا ؟ » قَالَتْ: أَبُو فُلَانٍ – تَعْنِي زَوْجَهَا - لَهُ نَاضِحَانِ، حَجَّ عَلَى أَحَدِهِمَا وَالآخَرُ نَسْقِي عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: « فَإِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فَاعْتَمِرِيِ، فَإِنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَان تَعْدِلُ حَجَّةً »، أَوْ قَالَ: «حَجَّةً مَعِي» . وَالحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَينِ .

عَلَى أَهْلِ التَّكْفِيرِ وَالتَّفْجِيرِ، عَلَى المُنْحَرِفِينَ الَّذِينَ ضَلُّوا السَّبِيلَ أَنْ يَتُوبُوا إِلَى اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ، هَذِهِ فُرْصَةٌ رُبَّمَا لَمْ يَشْهَدُوهَا بَعْدُ؛ فَلْيَغْتَنِمُوهَا .

أَمَا وَاللهِ إِنَّا لَأَنْفَعُ لَهُمْ مِنْ آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، إِنَّنَا نَدْعُوهُمْ إِلَى المَتَابِ، إِلَى كَفِّ الأَيْدِيِ عَنْ أَبْشَارِ المُسْلِمِينَ، وَعَنْ الوُلُوغِ فِي دِمَاءِهِمْ، عَنِ التَّكْفِيرِ وَالتَّفْجِيرِ وَالتَّخْرِيبِ وَالتَّدْمِيرِ، عَنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ وَإِفْسَادِ البِلَادِ وَقَتْلِ العِبَادِ .

نَدْعُوهُم إِلَى المَتَابِ، وَنُحَذِّرُ النَّاسَ مَنْهُمْ فِي آَنٍ؛ لِتَقِلَّ خَطَايَاهُمْ، فَإِنَّ النَّاسَ إِذَا انْفَضُوا عَنْهُم قَلَّتْ خَطَايَاهُمْ؛ فَنَحْنُ أَنْفَعُ لَهُمْ مِنْ آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ؛ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ، قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ.

كَمَا فِي { فَتَاوَى العُلَمَاءِ الأَكَابِرِ }:

هَذَهِ نَصِيحَةٌ لِلتَّائِبِينَ مِنَ العَمَلِ المُسَلَّحِ:

 أَنْ يَخْلِصُوا للهِ فِي رُجُوعِهِمْ، وَهَذَا هُوَ وَصْفُ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ، وَمِنْهُ: رُجُوعُهُمْ إِلَى الاسْتِقَامَةِ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَعَدْمُ الرَّتْعِ فِي المَذَاهِبِ المُنْحَرِفَةِ عَنْهُ، وَتَرْكُ الرَّوَغَانِ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ﴾.

أَيُّهَا الإِخْوَانُ المُسْلِمُونَ،،،، أَيُّهَا القُطْبِيُّونَ،،،،

أَيُّهَا المُنْحَرِفُونَ فِي كُلِّ فَجٍّ وَبِكُلِّ سَبِيلٍ،،،، تُوبُوا إِلَى اللهِ .

قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: { ثُمَّ اسْتَقَامُوا }، قَالَ: لُزُومُ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ، وَلَئِنْ زَادُوا عَلَى هَذَا بَيَانَ فَسَادِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ؛ لَكَانَ ذَلِكَ أَدَلَّ عَلَى صِدْقِ التَّوْبَةِ .

تَفْصِيلُهُ يَكُونُ بِأَنْ يَعْرِفُوا خَطَأَهُمْ حَقَّ المَعْرِفَةِ، ثُمَّ يُصْلِحُوهُ ثَانِيًا مَا اسْتَطَاعُوا، ثُمَّ يُبَيِّنُوا لِغَيْرِهِمْ ثَالِثًا؛ حَتَّى يَعْلَمَ النَّاسُ حَقِيقَةِ هَذِهِ الدَّعَوَاتِ الدَّمَوِيَّةِ، وَيَتَجَنَّبُوا سَبِيلَهَا؛ لِأَنَّهَا شُؤْمٌ عَلَى الأُمَّةِ الإِسْلَامِيَّةِ، قَالَ اللهُ جَلَّ وَعَلَا: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ .

أَمَّا مَعْرِفَتُهُمْ خَطَأَهُمْ؛ فَهَذَا أَصْلُ تَوْبَتِهِم الصَّادِقَةِ .

تَجَرَّدُوا، دَعُوا الأَهْوَاءَ جَانِبًا، طَلِّقُوا الشَّهَوَاتِ طَلَاقًا بَائِنًا، أَعْمِلُوا عُقُولَكُم، أَفْسِحُوا لِلنُّورِ حَتَّى يَدْخُلَ غَيَاهِبَ قُلُوبِكُمْ؛ لِيُبَدِّدَ الظُّلُمَاتِ عَنْ أَفْئِدَتِكُمْ، تُوبُوا إِلَى اللهِ رَبِّ العَالَمْينَ، كُفُّوا أَيْدِيَكُم عَنْ أَجْسَادِ المُسْلِمِينَ وَأَبْشَارِهُمْ، لَا تُزْهِقُوا أَرْوَاحَهُمْ، لَا تَسْفِكُوا دِمَاءَهُمْ، لَا تُخَرِّبُوا أَوْطَانَهُمْ، اتَّقُوا اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ فِي الإِسْلَامِ، اتَّقُوا اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ فِي المُسْلِمِينَ، وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ فِي أَنْفُسِكُمْ .

قَدْ يَتُوبُونَ تَوْبَةً سِيَاسِيَّةً !

عَلَيْهِم أَنْ يَتُوبُوا عَلَى بَيِّنَاتٍ مِنَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لَا تَحْتَ إِرْهَابِ السُّجُورِ ودَقِّ الْأَسِنَّةِ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا بِالاتِّصَالِ بِأَهْلِ العِلْمِ, لِيُطْلِعُوهُمْ عَلَى الحَقِّ فِي هَذِهِ المَسَائِلِ؛ حَتَّى لَوْ هَاجَتْ فِتْنَةٌ – لَا قَدَّرَ اللهُ – لَمْ يَكُونُوا إِحْدَى أَدَوَاتِهَا، بَلْ ثَبَتُوا فِيهَا ثَبَاتَ الجِبَالِ الرَّوَاسِيَ، وَإِنْ تَمَالَأَ عَلَيْهَا الجِنُّ وَالأَنَاسِيُّ، وَلْيَحْذَرُوا مِنْ تَوْبَةِ مَنْ رَدَّهُ الجِدَارُ وَهُوَ حَرِيصٌ عَلَى خَرْقِهِ، فَإِنَّ مِنَ العِصْمَةِ أَلَّا تَجِدَ، وَلَكِنْ لِيَتُوبُوا تَوْبَةَ قَادِرٍ عَلَى الرِّجُوعِ إِلَى القَدِيمِ الفَاسِدِ، وَلَكِنْ يَتْرُكُهُ لِوَجْهِ اللهِ .

كُونُوا مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ، احْذَرُوا أَسْبَابَ الفِتَنِ؛ فَإِنَّ مِنْهَا: نَشْرَ مَسَاوِئِ الحُكَّامِ، وَالتَّحَزُّبَ ضِدَّهُمْ، وَانْتِهَازَ فُرَصِ ضَعْفِهِمْ؛ لِإِثَارَةِ العَامَّةِ عَلَيْهِمْ، لِلِانْقِلَابِ عَلَى أَنْظِمَتِهِمْ، لِلخُرُوجِ عَلَيْهِمْ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أسْبَابِ الشُّرُورِ؛ فَإِنَّ التَّنَزُّهَ عَنْ هَذَا كُلِّهِ دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِ التَّوْبَةِ وَصَفَاءِ السَّرِيرَةِ .

قَالَ عَبدُ اللهِ بْنُ عُكَيْمٍ رَحِمَهُ الله: لَا أُعِينُ عَلَى دَمِ خَلِيفَةٍ أَبَدًا بَعْدَ عُثْمَان، قِيلَ لَهُ: يَا أَبَا مَعْبَدٍ: أَوَ أَعَنْتَ عَلَيْهِ ؟! قَالَ: كُنْتُ أَعُدُّ ذِكْرَ مَسَاوِيِهِ عَوْنًا عَلَيْهِ . أَخْرَجَهُ ابنُ سَعْدٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ .

لِيَكُنْ هَمَّهُم الأَكْبَرَ أَنْ يَرْضَى اللهُ عَنْهُمْ، وَأَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ مَا سَلَفَ، فَإِنَّهُ تَعَالَى الوَاحِدُ القَهَّارُ، وَالعَزِيزُ الغَفَّارُ، الكَبِيرُ المُتَعَالُ، الَّذِي تُخْشَى سَطْوَتُهُ, وَغَضَبُهُ هُوَ الغَضَبُ الَّذِي مَا بَعْدَهُ غَضَبٌ يُبَالَى .

وَلْيَكْبُرْ طَمَعُهُمْ فِي عَفْوِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ .

أَلَا لَا يَضِرْكُمْ كَلَامُ النَّاسِ عَنْكُمْ .

ارْجِعُوا، وَلَا تُبَالُوا بِمَا يَقُولُهُ النَّاسُ عَنْكُمْ بَعْدَ رُجُوعِكُمْ وَتَوْبَتِكُمْ، كَمَا قَالَ خَلِيلُ الرَّحْمَن ِعَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ﴾.

كَانَ مُسْلِمُ بنُ يَسَارٍ رَحِمَهُ اللهُ مِمَّنْ خَرَجَ مَعَ ابْنِ الأَشْعَثِ زَمَنَ الحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ، ثُمَّ تَابَ مِنْ ذَلِكَ وَنَدِمَ نَدَامَةً شَدِيدَةً؛ مَعَ أَنَّ الحَجَّاجَ لَيْسَ بِالوَالِي الَّذِي تُحْمَدُ سِيرَتُهُ؛ فَقَدْ قَالَ مَكْحُولٌ: رَأَيْتُ سَيِّدًا مِنْ سَادَاتِكُمْ دَخَلَ الكَعْبَةَ، فَقُلْتُ: مَنْ هُوَ يَا أَبَا عَبدِ اللهِ ؟ قَالَ: مُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ دَخَلَ قُلْتُ: لَأَنْظُرَنَّ مَا يَصْنَعُ مُسْلِمٌ اليَوْمَ، فَلَمَّا دَخَلَ قَامَ فِي الزَّاوِيَةِ الَّتِي فِيهَا الحَجَرُ الأَسْوَدُ يَدْعُو قَدْرَ أَرْبَعِينَ آيَةً، ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَى الزَّاوِيَةِ الَّتِي فِيهَا الرُّكْنُ، فَقَامَ يَدْعُو قَدْرَ أَرْبَعِينَ آيَةً، ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَى الزَّاوِيَةِ الَّتِي فِيهَا الدَّرَجَةُ، فَقَامَ يَدْعُو قَدْرَ أَرْبَعِينَ آيَةً، ثُمَّ جَاءَ حَتَّى قَامَ بَيْنَ العَمُودَينِ عِندَ الرُّخَامَةِ الحَمْرَاءِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا سَجَدَ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذِنُوبِي وَمَا قَدَّمَتْ يَدَايَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَمَا قَدَّمَتْ يَدَايَ، ثُمَّ بَكَى حَتَّى بَلَّ المَرْمَرَ .

وَلِأَبِي نُعَيْمٍ زِيَادَةٌ قَالَ فِيهَا الرَّاوِي: فَيَرَوْنَ أَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ الْمَشْهَدَ الَّذِي شَهِدَهُ يَوْمَ دَيْرِ الْجَمَاجِمِ - يُرِيدُ خُرُوجَهُ -

تَأَمَّل هَذِهِ التَّوْبَةُ، مَا أَصْدَقَهَا ! مَعَ أَنَّهُ يَجِبُ التَّنْبِيهُ إِلَى أَنَّ مُسْلِمَ بْنَ يَسَارٍ أُخْرِجَ – أَيْ أُجْبِرَ عَلَى الخُرُوجِ – مَعَ ابْنِ الأَشْعَثِ، فَخَرَجَ مُكْرَهًا .

قَالَ أَيُّوبُ: قِيلَ لابْنِ الأَشْعَثِ: إِنْ سَرَّكَ أَنْ يُقْتَلُوا حَوْلَكَ كَمَا قُتِلُوا حَوْلَ جَمَلِ عَائِشَةَ؛ فأَخْرِجْ مُسْلِمَ بْنَ يَسَارٍ مَعَكَ، قَالَ: فَأَخْرَجَهُ مُكْرَهًا .

ذَكَرَهُ الفَسَوِيُّ فِي "المَعْرِفَةِ"، وَابنُ عَسَاكِرَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ .

مُسْلِمٌ هُوَ ابْنُ يَسَارٍ، فَزِعَ هَذَا الفَزَعَ العَظِيمَ،لِأَنَّهُ قِيلَ لَهُ - أُخْرِجَ مُجْبَرًا، وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ فَزِعٌ مُضْطَرِبٌ، لِمَ ؟- لِأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: رُبَّمَا رَآكَ بَعْضُ النَّاسِ فِي صَفِّ الخَوَارِجِ فَانْخَدَعَ بِكَ، وَخَرَجَ تَأَسِّيًا بِكَ حَتَّى قُتِلَ .

رَوَى أَبُو قِلَابَةَ أَنَّ مُسْلِمَ بْنَ يَسَارٍ صَحِبَهُ إِلَى مَكَّةَ، قَالَ: فَقَالَ لِي وَذَكَرَ الْفِتْنَةَ: إِنِّي أَحْمَدُ اللَّهَ إِلَيْكَ أَنِّيِ لَمْ أَرْمِ فِيهَا بِسَهْمٍ, وَلَمْ أَطْعَنْ فِيهَا بِرُمْحٍ, وَلَمْ أَضْرِبْ فِيهَا بِسَيْفٍ، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ فَكَيْفَ بِمَنْ رَآكَ وَاقِفًا فِي الصَّفِّ, فَقَالَ هَذَا مُسْلِمُ بنُ يَسَارٍ، وَاللهِ مَا وَقَفَ هَذَا الْمَوْقِفَ إِلَّا وَهُوَ عَلَى الْحَقِّ، فَتَقَدَّمَ حِينَئِذٍ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ . قَالَ: فَبَكَى وَبَكَى حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ قُلْتُ لَهُ شَيْئًا .

أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ فِي {التَّارِيخِ الكَبِيرِ}، وَابنُ سَعْدٍ فِي {الطَّبَقَاتِ} بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ .

وَفِي رِوَايَةٍ: فَبَكَى وَاللهِ حَتَّى وَدِدْتُ أَنَّ الأَرْضَ انْشَقَّتْ فَدَخَلْتَ فِيهَا .

مَنْ تَابَ؛ عَلَيْهِ أَلَّا يَلْتَفِتَ إِلَى مَا طَابَقَ فِيهِ الإِخْوَانُ المُجْرِمُونَ المَاسُونِيَّةَ الكَافِرَةَ المُشْرِكَةَ، فَمِنْ مَبْدَأِ المَاسُونِيَّةِ – وَهُوَ مَبْدَأُ الإِخْوَانِ المُسْلِمِينَ -: تَشْوِيِهُ الخُصُومِ بِأَسَالِيبَ غَيرِ كَرِيمَةٍ .

مِنْ مَبَادِئِ المَاسُونِيَّةِ الكَافِرَةِ: بَثُّ الأَخْبَارِ المُخْتَلَقَةِ، وَالأَبَاطِيلِ وَالدَسَائِسِ الكَاذِبَةِ حَتَّى تُصْبِحَ كَأَنَّهَا حَقَائِقُ؛ لِتَحْوِيلِ عُقُولِ الجَمَاهِيرِ، وَطَمْسِ الحَقَائِقِ أَمَامَهُمْ .

هَذَا مِنْ مَبَادِئِ المَاسُونِيَّةِ الكَافِرَةِ، وَالإِخْوَانُ المُفْلِسُونَ طَابَقُوا المَاسُونِيَّةَ الكَافِرَةَ فِي هَذَا المَبْدَأِ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ .

فَمِنْ مَبَادِئِ الإِخْوَانِ المُسْلِمِينَ: تَشْوِيِهُ كُلِّ مَنْ خَالَفَهُمْ فِي فِكْرِهِمُ المَرِيضِ المُبْتَدَعِ . فَمَنْ تَابَ مِنَ الإِخْوَانِ، وَرَجَعَ إِلَى الصَّوَابِ وَالحَقِّ؛ فَحَيَّ هَلًّا بِهِ، فَلْيَعُدْ إِلَى الحَقِّ وَإِلَى الرُّشْدِ، وَعَلَيْهِ أَلَّا يَلْتَفِتَ إِلَى دِعَايَاتِ الإِخْوَانِ الفَاجِرَةِ؛ فَقَدْ طَابَقُوا فِيهَا المَاسُونِيَّةَ الكَافِرَةَ .

هَذِهِ شَهَادَةُ القَرَضَاوِيُّ - قَرَضَ اللهُ لِسَانَهُ - يُبَيِنُ الطَّرِيقَةَ الَّتِي يَتَّخِذُهَا الإِخْوَانُ فِي تَشْوِيهِ النَّاسِ؛ سَواءً كَانُوا أَفْرَادًا أَمْ جَمَاعَاتٍ أَمْ دِوَلًا؛ وَلَوْ كَانَتْ إِسْلَامِيَّةً !! قَالَ:

الإِخْوَانُ المُسْلِمُونَ إِذَا أَحَبُّوا شَخْصًا؛ رَفَعُوهُ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، وَإِذَا كَرِهُوهُ؛ هَبَطُوا بِهِ إِلَى الأَرْضِ السُّفْلَى .

قَالَ ذَلِكَ فِي {سِيرَةٍ ومَسِيرَةٍ}، فِي الجُزْءِ الثَّانِيِ فِي الصَّفْحَةِ الثَّامِنَةِ وَالسَّبْعِينَ .

سَبَقَ الْقَرَضَاوِيَّ بِمِثْلِ هَذِه ِالشَّهَادَةِ مُؤَرِّخُ الإِخْوَانِ مَحْمُود عَبدِ الحَلِيم؛ حَيْثُ قَالَ:

يَبْدُو أَنَّ إِخْوَانَنَا قَد اسْتَبَاحُوا القَاعِدَةَ المِكْيَافِلِّيَّةَ الَّتِي تَقُولُ: "إِنَّ الغَايَةَ تُبَرِّرُ الوَسِيلَةَ"، فَأَمَامَ مَا اعْتَقَدُوا أَنَّهُمْ عَلَى الحَقِّ، وَأَنَّ طَرِيقَهُمْ هُوَ الطَّرِيقُ الأَمْثَلُ لِمَصْلَحَةِ الدَّعْوَةِ، وَعَلَى أَسَاسِ أَنَّ التَّيَّارَ المُضَادَّ صَارَ مِن القُوَّةِ بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُونَ التَّصَدِّيَ لَهُ بِالأَسَالِيبِ المَشْرُوعَةِ؛ لَجَأُوا إِلَى أُسلُوبٍ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ كَرِيمٍ؛ إِلَّا أَنَّهُ يَضْمَنُ لَهُم تَحْقِيقَ مَا يَأْمُلُونَ . {الإِخْوَانُ أَحْدَاثٌ صَنَعَتِ التَّارِيخَ} فِي الجُزْءِ الثَّالِثِ فِي الصَّفْحَةِ التَّاسِعَةِ عَشْرَةَ بَعْدَ الأَرْبَعِمَئَةٍ .

بَلْ إِنَّ التَّشْوِيهَ لَيَطَالُ بَعْضَ مَنْ كَانَ مَعَهُمْ فِي الجَمَاعَةِ إِذَا مَا فَارَقُوهَا وَتَرَكُوهُمْ .

قَالَ مُخْتَار نُوح فِي خِطَابِهِ لِمُحَمَّد مَهْدِي عَاكِف مُرْشِدِ الإِخْوَانِ السَّابِقِ، وَالقِيَادِيِّ البَارِزِ عَنْدَهُمْ:

إِنَّنَا أَضَعْنَا فِي سَنَوَاتِنَا الأَخِيرَةِ إِخْوَانًا لَنَا سَارُوا عَلَى دَرْبِنَا، وَحِينَ اخْتَلَفْنَا مَعَهُمْ قَطَّعْنَا جُلُودَهُم تَقْطِيعًا، وَمَزَّقْنَا سِيرَتَهُمْ تَمْزِيقًا، وَأَهَلْنَا عَلَيْهِمْ مِنْ نِقْمَتِنا وَغَضَبِنَا .

اخْتَلَفَ مَعَهُمْ فِي الطَّرِيقَةِ، عَارَضَهُمْ فِي بَعْضِ فِكْرِهِمْ وَهُوَ فِي جَمَاعَتِهِمْ، فَفَعَلُوا بِهِ مَا فَعَلُوا !!

فهَلَّا طَبَّقُوا عَلَيْهِ قَاعِدَتَهُم المَأفُونَة: وَيَعْذُرُ بَعْضُنَا بَعْضًا فِيمَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ ؟!!

أَبُو العِلَا مَاضِي الإِخْوَانِيُّ قَالَ مُتَحَدِثًا عَنْ تَيَّارِ الإِخْوَانِ الدِّكْتَاتُورِيِّ:

إِنَّ التَّيَّارَ الإِسْلَامِيَّ مَارَسَ النَّفْيَ وَالإِقْصَاءَ وَالقَتْلَ، وَلَا بُدَّ مِنْ نَقْدِ أَنْفُسِنَا قَبْلَ أَنْ نَنْقُدَ الآخَرِين .

مِمَّا يُؤَكِدُ ذَلِكَ: مَا ذَكَرَهُ مَمدُوح إِسمَاعِيل – هَؤلَاءِ كُلُّهُمْ مِنْ عُتَاةِ الخَوَارِجِ عَلَيْهِمْ مِنَ اللهِ مَا يَسْتَحِقُونَ -، قَالَ فِي مَقَالِهِ "الطَّرْدُ وَالإِقْصَاءُ":

إِنَّ مَنْهَجَ الطَّرْدِ الجَحِيمِيِّ يَنْدَفِعُ بِوُضُوحٍ إِلَى السَّطْحِ عِنْدَ التَّعَرُّضَ لِصَنَمِ الجَمَاعَةِ، فَيَنْدَفِعُ المُغَفَّلُونَ وَالجَهَلَةٌ وَالحَمْقَى وَالمُتَعَصِّبُونَ بوَعْيٍ أَوْ بِدُونِ وَعيٍ إِلَى التَّعَصُّبِ الأَعْمَى بِطَرْدِ الَّذِي مَسَّ الذَّاتَ العُلْيَا لِلجَمَاعَةِ، وَبِنَفْيِهِ وَصَبِّ اللَعَنَاتِ عَلَيهِ .

وَقَالَ سَعْدُ الدِّين صَالِح:

إِنَّ الإِخْوَانَ لَيْسُوا عَلَى اسْتِعْدَادٍ لِإِعْمَالِ عُقُولِهِمْ، وَلَا لِتَحْكِيمِ ضَمَائِرَهِمْ فِيمَا يُوَجَّهُ إِلَيْهِمْ مِنْ أَوَامِر .

جَمَاعَةُ الإِخوَانِ المُسْلِمِينَ تَنْظُرُ إِلَى كُلِّ مَنْ لَمْ يَنْضَوِ تَحْتَهَا بِأَنَّهُمْ صَابِئَةٌ كُفَّارٌ خَارِجِينَ عَنْ المِلَّةِ .

وَقَدْ أَكَّدَ السَّكَنْدَرِيُّ الإِخْوَانِيُّ أَنَّ الجَمَاعَةَ افْتَقَدَت الحُبَّ وَالإِخَاءَ، وَأَصْبَحَ يَتِمُّ التَّعَامُلُ مَعَ المُخَالِفِينَ كَالصَّابِئِينَ الَّذِينَ تَرَكُوا الدِّينَ وَالمِلَّةَ .

بَلْ إِنَّ القَرَضَاوِيَّ - قَرَضَ اللهُ لِسَانَهُ - يُحَدِّثُنَا عَنْ أَمْرٍ طَالَهُ هُوَ الآخَرُ؛ حَيْثُ أَصْدَرَ الإِخْوَانُ نَشْرَةً فِي حَقِّهِ وَحَقِّ آخَرِينَ مَعَهُ، فَقَالَ:

وَقَدْ أَذَاعَتْ هَذِهِ النَّشْرَةُ نَبَأً قَالَتْ فِيهِ: إِنَّ القَرَضَاوِيَّ وَالعَسَّالَ قَدْ مَرَقَا مِنَ الدَّعْوَةِ وَانْضَمَّا إِلَى رَكْبِ الخَوَنَةِ، وَقَدْ اسْتَجَابَ الإِخْوَانُ لِذَلِكَ، وَهَذَا أَمْرٌ شَائِعٌ فِي الإِخْوَانِ .

كَلَامُهُ الَّذِي ذَكَرَهُ فِيهِ مُغَالَطَةٌ وَقَعَتْ لَا مِنْهُ، وَإِنَّمَا وَقَعَتْ مِنَ الإِخْوَانِ أَنْفُسِهِمْ؛ فَقَدْ ذَكَرُوا فِي النَّشْرَةِ هَذَا النَّبَأَ: إِنَّ القَرَضَاوِيَّ وَالعَسَّالَ قَدْ مَرَقَا مِنَ الدَّعْوَةِ وَانْضَمَّا إِلَى رَكْبِ الخَوَنَةِ !

كَيْفَ يَخْرُجُونَ إِلَى رَكْبِ الخَوَنَةِ وَهُمْ أَصْلًا فِي رَكْبِ الخَوَنَةِ ؟!!

خَانُوا الأُمَّةَ - عَلَيْهِمْ مِنَ اللهِ تَعَالَى مَا يَسْتَحِقُّونَ -، خَانُوهَا وَدَمَّرُوهَا، أَشْعَلُوا الثَّوَرَاتِ فِي رُبُوعِ البِلَادِ بِلَا مُوجِبٍ .

كَانَ النَّاسُ فِي لِيبْيَا طَيِّبِينَ يَحْيَوْنَ الحَيَاةَ الكَرِيمَةَ، فَأَجَّجَتْ قَنَاةُ الجَزِيرَةِ شُعْلَةَ الثَّوْرَةِ المَلْعُونَةِ بِطَرِيقَةٍ شَيْطَانِيَّةٍ:

المُذِيعُ فِي حُجْرَةٍ، وَلِيبِيٌّ خَائِنٌ فِي حُجْرَةٍ مُجَاوِرَةٍ يَقُولُ لَهُ:

أَنَا الآنَ فِي مَيْدَانِ كَذَا بِطَرَابُلْس !!

النَّاسُ خَرَجُوا جَمِيعًا إِلَى الشَّوَارِعِ مُحْتَجِّينَ ثَائِرِينَ !!

وَالأَعْلَامُ تُرَفْرِفُ فِي كُلِّ مَكَانٍ !!

وَأَسْمَعُ دَوِيَّ طَلْقَاتِ الرَّصَاصِ بَلْ دَانَاتِ المَدَافِعِ !!...

لَمْ يَكُنْ شَيءٌ قَطٌ !!

 يَجْلِسُ فِي الحُجْرَةِ المُجَاوِرَةِ!! وَالآخَرُ يُهَيِّجُ الشَّعْبَ اللِّيبِيَّ الطَّيِّبَ، ويُحَرِّكُهُ مَعَ إِخْوَانِ الدَّاخِلِ مِنَ المُجْرِمِينَ الخَائِنِينَ حَتَّى وَقَعَتْ الوَاقِعَةُ، وَارْتَفَعَ الأَمْنُ، وَحَلَّتِ المَخَافَةُ، وَجَاءَ العَذَابُ، يَخَافُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ، وَعَلَى أَعْرَاضِهِمْ، وَعَلَى أَموَآلِهِمْ .

وَأَمَّا ثرْوَاتُ البِلَادِ؛ فَإِنَّهَا تَخْرُجُ إِلَى الأَعْدَاءِ، تَخْرُجُ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ إِلَى الأَعْدَاءِ، فَهَذَا هُوَ المُرَادُ مَعَ تَغْييرِ العُقُولِ وَالقُلُوبِ، ونَسْفِ العَقَائِدِ وَالأَدْيَانِ .

إِنَّهُم يُرِيدُونَ حَرْبَ الإِسْلَامِ بِأَبْنَائِهِ، هَذَا هُوَ الجِيلُ الرَّابِعُ مِنْ أَجْيَالِ الحُرُوبِ: أَنْ تُقُومُوا أَنْتُمْ بِالنِّيَابَةِ عَنْ أَعْدَائِكُمْ بِإِشْعَالِ نَارِ الحَرْبِ بَيْنَكُمْ !!

يَقْتُلُ الأَخُ أَخَاهُ، وَيَسْبِي الأَخُ أَخَاهُ، وَيَتْبَعُ الأَخُ أَخَاهُ فِي عَوْرَاتِهِ، فِي بَيْتِهِ، فِي ثَرْوَاتِهِ، فِي مُمْتَلَكَاتِهِ؛ لِيُدَمِّرَ عَلَيهِ ذَلِكَ كُلَّهُ !!

وَأَعْدَاؤكُمْ لَمْ يَتَكَلَّفُوا ثَمَنَ رَصَاصَةٍ وَاحِدَةٍ !!

أَنْتُمْ تُخَرِّبُونَ بِلَادَكُم بِأَيْدِيكُمْ !!

لِمَاذَا يُرِيدُ الخَوَنَةُ تَفْكِيكَ الجَيْشِ المِصْرِيِّ ؟!

لِمَاذَا يُرِيدُ الخَوَنَةُ إِسْقَاطَ الجَيْشِ المِصْرِيِّ ؟!

لَقَدْ أَبْقَى اللهُ لَنَا الجَيْشَ المِصْرِيَّ، فَحَفِظَ اللهُ بِهِ هَذِهِ الأُمَّةَ إِلَى يَوْمِ النَّاسِ هَذَا، وَنَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَحْفَظَهُ فِيمَا يَبْقَى، إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

أَيُّهَا المُسْلِمُونَ فِي كُلِّ مَكَانٍ:

 اتَّقُوا اللهَ فِي أَنْفُسِكُمْ، اتَّقُوا اللهَ فِي دِينِكُمْ، اتَّقُوا اللهَ فِي بِلَادِكُمْ، اتَّقُوا اللهَ فِي تُرَابِ الأَرْضِ المُسْلِمَةِ الَّتِي يُرْفَعُ فِيهَا الأَذَانُ، وَتُقَامُ فِيهَا الصَّلَوَاتُ، وَيُصْدَعُ فِيهَا بِالسُّنَنِ .

اتَّقُوا اللهَ .

لَا تُضَيِّعُوا المَوْجُودَ مِنْ أَجْلِ البَحْثِ عَنِ المَفْقُودِ؛ فَهَذِهِ كُلُّهَا مُغَامَرَاتٌ لَيْسَتْ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ .

أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَحْفَظَ بَلَدَنَا وَجَمِيعَ بُلْدَانِ المُسْلِمِينَ، إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِين .           

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  أَفْضَلُ أَيَّامِ الدُّنْيَا
  جريمة تكفير المجتمعات الإسلامية
  التَّرْشِيدُ فِي حَيَاتِنَا مَوْضُوعَا الْمِيَاهِ، وَالْإِنْفَاقِ فِي رَمَضَانَ أُنْمُوذَجًا
  نَصَائِحُ الْنَّبِيِّ الأَمِين لِتُجَّارِ المُسْلِمِين
  الرد على الملحدين:تحديد الصلة بين المدنية الحديثة والإسلام، وبيان أن العلم الحديث قرآني في موضوعه
  طَلَاقَةُ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ فِي الْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ
  الْجَوَانِبُ الْإِيمَانِيَّةُ وَالْأَخْلَاقِيَّةُ فِي الصَّوْمِ
  ((اغْتِنَامُ عَهْدِ الشَّبَابِ فِي بِنَاءِ الذَّاتِ)) -إِتْقَانُ الْعِبَادَةِ وَإِتْقَانُ الْعَمَلِ-
  الإِسْرَاءُ وَالمِعْرَاجُ وَدُرُوسٌ فِي المِنْحَةِ بَعْدَ المِحْنَةِ
  الإشاعات وهدم المجتمعات
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان