((اغْتِنَامُ الْأَوْقَاتِ وَمَخَاطِرُ إِضَاعَتِهَا))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((قَضِيَّةُ الْوَقْتِ غَفَلَ عَنْهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ))
فَإِنَّهُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْيَانِ -لِإِلْفِ الْعَادَةِ عِنْدَ الْإِنْسَانِ- تَكُونُ كَثِيرٌ مِنَ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي الْحَيَاةِ كَالْمَعْدُومَةِ بِالنِّسْبَةِ لَهُ فِي الْوُجُودِ.
وَمِنْ أَخْطَرِ مَا يَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ فِي حَيَاتِهِ: قَضِيَّةُ الزَّمَنِ.. قَضِيَّةُ الْوَقْتِ؛ فَكَثِيرٌ مِنَ الْخَلْقِ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي أَنْعَمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهَا عَلَيْهِ، فَيُبَدِّدُهَا تَبْدِيدًا، وَلَا يُرَاقِبُ فِيهَا رَبَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِشُكْرِ هَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَدْ مَنَّ بِهَا عَلَيْهِ، وَهُوَ -سُبْحَانَهُ- سَائِلُهُ عَنْهَا إِذَا قَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ؛ لِأَنَّهُ ((لَنْ تَزُولَ قَدَمَا عَبْدٍ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ))، عَنْ هَذَا الْوَقْتِ الَّذِي آتَاهُ اللهُ؛ مَاذَا صَنَعَ فِيهِ؟!!
كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ كَأَنَّمَا ثَقُلَتْ عَلَيْهِمْ هَذِهِ النِّعْمَةُ، وَهُمْ يُحَاوِلُونَ أَنْ يَتَخَلَّصُوا مِنْهَا بِأَيِّ صُورَةٍ مِنَ الصُّوَرِ، مَعَ أَنَّ الْعُمُرَ هُوَ رَأْسُ الْمَالِ، فَإِذَا بَدَّدَهُ الْإِنْسَانُ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ رَابِحًا بِحَالٍ.
إِنَّ الزَّمَنَ هُوَ أَجَلُّ وَأَشْرَفُ مَا يَحْرِصُ عَلَيْهِ الْعُقَلَاءُ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّ الزَّمَنَ هُوَ الْعُمُرُ الْإِنْسَانِيُّ، وَهُوَ الْحَيَاةُ الَّتِي تَبْدَأُ مِنْ لَحْظَةِ الْوَضْعِ، وَتَنْتَهِي بِأَنَّةِ النَّزْعِ.
وَوَقْتُ الْإِنْسَانِ هُوَ عُمُرُهُ فِي الْحَقِيقَةِ، وَهُوَ مَادَّةُ حَيَاتِهِ الْأَبَدِيَّةِ فِي النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَهُوَ مَادَّةُ مَعِيشَتِهِ الضَّنْكِ فِي الْعَذَابِ الْأَلِيمِ.
وَالْعُمُرُ يَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ، فَمَا كَانَ مِنْ وَقْتٍ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَبِاللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَهُوَ الْحَيَاةُ الْحَقِيقِيَّةُ، وَمَا كَانَ مِنْ وَقْتٍ فِي غَيْرِ ذَلِكَ فَلَيْسَ مَحْسُوبًا مِنْ حَقِيقَةِ الْحَيَاةِ؛ وَإِنْ عَاشَ الْإِنْسَانُ فِي ذَلِكَ عَيْشَ الْبَهَائِمِ، فَإِذَا قَطَعَ وَقْتَهُ فِي الْغَفْلَةِ وَالسَّهْوِ وَالْأَمَانِيِّ الْبَاطِلَةِ، وَكَانَ خَيْرَ مَا قَطَعَهُ بِهِ النَّوْمُ وَالْبَطَالَةُ؛ فَمَوْتُ هَذَا خَيْرٌ مِنْ حَيَاتِهِ!
يَا ابْنَ آدَمَ! إِنَّمَا أَنْتَ أَيَّامٌ، كُلَّمَا ذَهَبَ يَوْمٌ ذَهَبَ بَعْضُكَ.
وَلَعَلَّ فِي اخْتِيَارِ الْأَيَّامِ وَتَقْدِيمِهَا عَلَى السِّنِينَ مَا يُشِيرُ إِلَى قِصَرِ الْعُمُرِ، وَطُولِ السَّفَرِ، وَبُعْدِ الشُّقَّةِ، مِمَّا يَسْتَدْعِي أَنْ يَكُونَ الْمَرْءُ أَلْصَقَ بِعُمُرِهِ، ضَنِينًا بِاللَّحَظَاتِ مِنْهُ؛ فَضْلًا عَنِ السَّاعَاتِ وَالْأَيَّامِ.
يَا ابْنَ آدَمَ! إِنَّمَا أَنْتَ أَيَّامٌ، كُلَّمَا ذَهَبَ يَوْمٌ ذَهَبَ بَعْضُكَ، كُلَّمَا ازْدَادَ إِدْرَاكُ الْمَرْءِ لِلْغَايَةِ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا خُلِقَ؛ ازْدَادَ اغْتِنَامًا لِوَقْتِهِ، وَبِالتَّالِي كَانَ أَقْرَبَ لِتِلْكَ الْغَايَةِ، وَأَكْثَرَ تَحَقُّقًا بِهَا.
وَالزَّمَنُ يُسَاوِي عَطَاءَ الْإِنْسَانِ وَحَصَادَ عُمُرِهِ، يُسَاوِي الْيَدَ الَّتِي سَتَحْمِلُ كِتَابَهُ؛ يُمْنَى تَكُونُ أَوْ يُسْرَى؛ وَلِذَلِكَ يَقُولُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: ((أَدْرَكْتُ أَقْوَامًا كَانَ أَحَدُهُمْ أَشَحَّ عَلَى عُمُرِهِ مِنْكُمْ عَلَى دِينَارِهِ)).
كَانَ أَشَحَّ بِعُمُرِهِ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ الْعُمُرَ إِنْ ضَاعَ فَاتَ وَلَمْ يُعَوَّضْ، وَالدِّينَارَ إِنِ ارْتَحَلَ يَوْمًا حَلَّ فِي يَوْمٍ آخَرَ.
كَانَ أَشَحَّ بِعُمُرِهِ؛ لِأَنَّهُ أَدْرَكَ أَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ يَعْمَلَانِ فِيهِ، فَصَمَّمَ هُوَ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِمَا مُعَمِّرًا وَمُسْتَثْمِرًا.
وَالْعَاقِلُ الْمُوَفَّقُ مَنْ أَدْرَكَ حَقِيقَةَ ذَلِكَ، فَاغْتَنَمَ عُمُرَهُ فِي عِلْمٍ نَافِعٍ يَحْفَظُهُ، وَيَحْفَظُ الْأُمَّةَ بِهِ فِي نَفْسِهَا وَمِنْ عَدُوِّهَا؛ لِيَجْعَلَهَا أُمَّةً تَكُونُ يَدُهَا هِيَ الْعُلْيَا، وَلَيْسَتِ السُّفْلَى؛ فِي جِهَادٍ مُبَارَكٍ قَلَمًا وَلِسَانًا وَسِنَانًا، فِي أَمْرٍ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيٍ عَنِ الْمُنْكَرِ، فِي تَرْبِيَةٍ لِعُقُولٍ وَأَفْئِدَةٍ وَأَحَاسِيسَ لِكَيْ يَنْتَفِعَ بِذَلِكَ النَّاسُ، وَلِتَمْكُثَ فِي الْأَرْضِ لِتُؤْتِيَ أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا.
مَنْ أَمْضَى يَوْمَهُ فِي غَيْرِ حَقٍّ قَضَاهُ، أَوْ فَرْضٍ أَدَّاهُ، أَوْ مَجْدٍ أَثَّلَهُ، أَوْ حَمْدٍ حَصَّلَهُ، أَوْ خَيْرٍ أَسَّسَهُ، أَوْ عِلْمٍ اقْتَبَسَهُ؛ فَقَدْ عَقَّ يَوْمَهُ، وَظَلَمَ نَفْسَهُ، وَظُلْمُهُ هَذَا يَتَحَسَّسُهُ أَشَدَّ مَا يَكُونُ عِنْدَ سَاعَةِ احْتِضَارِهِ، عِنْدَمَا يَرَاهُ قَدْ أَوْدَى بِهِ إِلَى الْخُسْرَانِ الْمُبِينِ، فَيَتَمَنَّى عَلَى اللهِ أَنْ يُؤَخَّرَ حَتَّى يُصْلِحَ مَا أَفْسَدَ، وَيَتَدَارَكَ مَا فَاتَ، وَأَنَّى لَهُ أَنْ يُمْهَلَ وَقَدْ تَحَتَّمَ الْأَجَلُ، وَنَزَلَ الْمَوْتُ فِي سَاحَتِهِ، وَارْتَحَلَ الْأَمَلُ!
((قِيمَةُ الْوَقْتِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ))
اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ذَكَرَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ كَمَا ذَكَرَ نَبِيُّهُ ﷺ فِي سُنَّتِهِ الشَّرِيفَةِ الْمُطَهَّرَةِ الزَّمَنَ قِيمَةً، وَأَهَمِّيَّةً، وَأَوْجُهَ انْتِفَاعٍ، وَأَثَرًا.
وَبَيَّنَ الْكِتَابُ الْمَجِيدُ وَالسُّنَّةُ الْمُطَهَّرَةُ أَنَّ الْوَقْتَ مِنْ عَظِيمِ نِعَمِ اللهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا -سُبْحَانَهُ- عَلَى خَلْقِهِ.
وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هَذِهِ النِّعْمَةَ الْعَظِيمَةَ، وَهِيَ مِنْ أُصُولِ النِّعَمِ؛ لِأَنَّ النِّعَمَ أُصُولٌ وَفُرُوعٌ، وَالْوَقْتُ مِنْ أُصُولِ النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهَا عَلَى الْإِنْسَانِ.
قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ شَأْنُهُ-: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [النحل: 12].
((أَيْ: سَخَّرَ لَكُمْ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لِمَنَافِعِكُمْ وَأَنْوَاعِ مَصَالِحِكُمْ، بِحَيْثُ لَا تَسْتَغْنُونَ عَنْهَا أَبَدًا، فَبِاللَّيْلِ تَسْكُنُونَ وَتَنَامُونَ وَتَسْتَرِيحُونَ، وَبِالنَّهَارِ تَنْتَشِرُونَ فِي مَعَايِشِكُمْ وَمَنَافِعِ دِينِكُمْ وَدُنْيَاكُمْ، وَبِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ مِنَ الضِّيَاءِ وَالنُّورِ وَالْإِشْرَاقِ، وَإِصْلَاحِ الْأَشْجَارِ وَالثِّمَارِ وَالنَّبَاتِ، وَتَجْفِيفِ الرُّطُوبَاتِ، وَإِزَالَةِ الْبُرُودَةِ الضَّارَّةِ لِلْأَرْضِ وَلِلْأَبْدَانِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ وَالْحَاجِيَّاتِ التَّابِعَةِ لِوُجُودِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَفِيهِمَا وَفِي النُّجُومِ مِنَ الزِّينَةِ لِلسَّمَاءِ وَالْهِدَايَةِ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَمَعْرِفَةِ الْأَوْقَاتِ وَحِسَابِ الْأَزْمِنَةِ مَا تَتَنَوَّعُ دَلَالَاتُهَا، وَتَتَصَرَّفُ آيَاتُهَا.
وَلِهَذَا جَمَعَهَا فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أَيْ: لِمَنْ لَهُمْ عُقُولٌ يَسْتَعْمِلُونَهَا فِي التَّدَبُّرِ وَالتَّفَكُّرِ فِيمَا هِيَ مُهَيَّأَةٌ لَهُ مُسْتَعِدَّةٌ، تَعْقِلُ مَا تَرَاهُ وَتَسْمَعُهُ، لَا كَنَظَرِ الْغَافِلِينَ الَّذِينَ حَظُّهُمْ مِنَ النَّظَرِ حَظُّ الْبَهَائِمِ الَّتِي لَا عَقْلَ لَهَا)).
وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ ۖ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ۚ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} [الإسراء: 12].
((يَقُولُ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} أَيْ: دَالَّتَيْنِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ، وَسَعَةِ رَحْمَتِهِ، وَأَنَّهُ الَّذِي لَا تَنْبَغِي الْعِبَادَةُ إِلَّا لَهُ، {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ} أَيْ: جَعَلْنَاهُ مُظْلِمًا لِلسُّكُونِ فِيهِ وَالرَّاحَةِ، {وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} أَيْ: مُضِيئَةً؛ {لِتَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} فِي مَعَايِشِكُمْ، وَصَنَائِعِكُمْ، وَتِجَارَاتِكُمْ، وَأَسْفَارِكُمْ.
{وَلِتَعْلَمُوا} بِتَوَالِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَاخْتِلَافِ الْقَمَرِ {عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ}، فَتَبْنُونَ عَلَيْهَا مَا تَشَاءُونَ مِنْ مَصَالِحِكُمْ.
{وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلا} أَيْ: بَيِّنًا الْآيَاتِ، وَصَرَّفْنَاهُ لِتَتَمَيَّزَ الْأَشْيَاءُ، وَيَتَبَيَّنَ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ})).
وَامْتَنَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى الْإِنْسَانِ بِدَوَرَانِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62].
{خِلْفَةً} أَيْ: يَخْلُفُ كُلٌّ مِنْهُمَا الْآخَرَ بِأَنْ يَقُومَ مَقَامَهُ فِيمَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْمَلَ فِيهِ.
(({وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} أَيْ: يَذْهَبُ أَحَدُهُمَا فَيَخْلُفُهُ الْآخَرُ، هَكَذَا -أَبَدًا- لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ، {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} أَيْ: لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَذَكَّرَ بِهِمَا، وَيَعْتَبِرَ وَيَسْتَدِلَّ بِهِمَا عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمَطَالِبِ الْإِلَهِيَّةِ، وَيَشْكُرَ اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ، وَلِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ وَيَشْكُرَهُ، وَلَهُ وِرْدٌ مِنَ اللَّيْلِ أَوِ النَّهَارِ، فَمَنْ فَاتَهُ وِرْدُهُ مِنْ أَحَدِهِمَا أَدْرَكَهُ فِي الْآخَرِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْقُلُوبَ تَتَقَلَّبُ وَتَنْتَقِلُ فِي سَاعَاتِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَيَحْدُثُ لَهَا النَّشَاطُ وَالْكَسَلُ، وَالذِّكْرُ وَالْغَفْلَةُ، وَالْقَبْضُ وَالْبَسْطُ، وَالْإِقْبَالُ وَالْإِعْرَاضُ، فَجَعَلَ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ يَتَوَالَا عَلَى الْعِبَادِ وَيَتَكَرَّرَانِ؛ لِيَحْدُثَ لَهُمُ الذِّكْرُ وَالنَّشَاطُ وَالشُّكْرُ لِلَّهِ فِي وَقْتٍ آخَرَ، وَلِأَنَّ أَوْقَاتَ الْعِبَادَاتِ تَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَكُلَّمَا تَكَرَّرَتِ الْأَوْقَاتُ أَحْدَثَ لِلْعَبْدِ هِمَّةً غَيْرَ هِمَّتِهِ الَّتِي كَسَلَتْ فِي الْوَقْتِ الْمُتَقَدِّمِ فَزَادَ فِي تَذَكُّرِهَا وَشُكْرِهَا، فَوَظَائِفُ الطَّاعَاتِ بِمَنْزِلَةِ سَقْيِ الْإِيمَانِ الَّذِي يَمُدُّهُ، فَلَوْلَا ذَلِكَ لَذَوَى غَرْسُ الْإِيمَانِ وَيَبِسَ؛ فَلِلَّهِ أَتَمُّ حَمْدٍ وَأَكْمَلُهُ عَلَى ذَلِكَ)).
وَلِبَيَانِ مَزِيدِ أَهَمِّيَّةِ الزَّمَنِ، وَلِبَيَانِ عَظِيمِ أَثَرِهِ فِي الْكَائِنِ الْإِنْسَانِيِّ أَقْسَمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِأَجْزَاءٍ كَثِيرَةٍ مِنْ هَذَا الزَّمَنِ فِي مَطَالِعِ سُوَرٍ عَدِيدَةٍ، فَأَقْسَمَ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- بِالْفَجْرِ: {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1-2].
((أَقْسَمَ -تَعَالَى- بِالْفَجْرِ الَّذِي هُوَ آخِرُ اللَّيْلِ وَمُقَدِّمَةُ النَّهَارِ؛ لِمَا فِي إِدْبَارِ اللَّيْلِ وَإِقْبَالِ النَّهَارِ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَأَنَّهُ -تَعَالَى- هُوَ الْمُدَبِّرُ لِجَمِيعِ الْأُمُورِ، الَّذِي لَا تَنْبَغِي الْعِبَادَةُ إِلَّا لَهُ، وَتَقَعُ فِي الْفَجْرِ صَلَاةٌ فَاضِلَةٌ مُعَظَّمَةٌ يَحْسُنُ أَنْ يُقْسِمَ اللَّهُ بِهَا؛ وَلِهَذَا أَقْسَمَ بَعْدَهُ بِاللَّيَالِي الْعَشْرِ، وَهِيَ -عَلَى الصَّحِيحِ-: لَيَالِي عَشْرِ رَمَضَانَ، أَوْ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ؛ فَإِنَّهَا لَيَالٍ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَيَّامٍ فَاضِلَةٍ، وَيَقَعُ فِيهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْقُرُبَاتِ مَا لَا يَقَعُ فِي غَيْرِهَا.
وَفِي لَيَالِي عَشْرِ رَمَضَانَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ الَّتِي هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، وَفِي نَهَارِهَا صِيَامُ آخِرِ رَمَضَانَ الَّذِي هُوَ أَحَدُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ.
وَفِي أَيَّامِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ الَّذِي يَغْفِرُ اللَّهُ فِيهِ لِعِبَادِهِ مَغْفِرَةً يَحْزَنُ لَهَا الشَّيْطَانُ، فَمَا رُئِيَ الشَّيْطَانُ أَحْقَرَ وَلَا أَدْحَرَ مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ؛ لِمَا يَرَى مِنْ تَنَزُّلِ الْأَمْلَاكِ وَالرَّحْمَةِ مِنَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَيَقَعُ فِيهَا كَثِيرٌ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَهَذِهِ أَشْيَاءٌ مُعَظَّمَةٌ مُسْتَحِقَّةٌ لِأَنْ يُقْسِمَ اللَّهُ بِهَا)).
وَأَقْسَمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل: 1-2].
((هَذَا قَسَمٌ مِنَ اللَّهِ بِالزَّمَانِ الَّذِي تَقَعُ فِيهِ أَفْعَالُ الْعِبَادِ عَلَى تَفَاوُتِ أَحْوَالِهِمْ، فَقَالَ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} أَيْ: يَعُمُّ الْخَلْقَ بِظَلَامِهِ، فَيَسْكُنُ كُلٌّ إِلَى مَأْوَاهُ وَمَسْكَنِهِ، وَيَسْتَرِيحُ الْعِبَادُ مِنَ الْكَدِّ وَالتَّعَبِ.
{وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} لِلْخَلْقِ، فَاسْتَضَاءُوا بِنُورِهِ، وَانْتَشَرُوا فِي مَصَالِحِهِمْ)).
وَأَقْسَمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالضُّحَى: {وَالضُّحَىٰ (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ} [الضحى: 1-2].
((أَقْسَمَ -تَعَالَى- بِالنَّهَارِ إِذَا انْتَشَرَ ضِيَاؤُهُ بِالضُّحَى، وَبِاللَّيْلِ إِذَا سَجَى وَادْلَهَمَّتْ ظُلْمَتُهُ عَلَى اعْتِنَاءِ اللَّهِ بِرَسُولِهِ ﷺ )).
وَهَذَا الْقَسَمُ مِنَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ لَفْتِ النَّظَرِ لِهَذِهِ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي امْتَنَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهَا عَلَى خَلْقِهِ، وَلِعَظِيمِ دَلَالَتِهَا عَلَيْهِ -سُبْحَانَهُ-، وَلِجَلِيلِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ مَنَافِعَ وَآثَارٍ.
بَلْ إِنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- أَقْسَمَ بِالزَّمَنِ نَفْسِهِ، كَمَا قَالَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1-3].
((أَقْسَمَ -تَعَالَى- بِالْعَصْرِ الَّذِي هُوَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، مَحَلُّ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَأَعْمَالِهِمْ؛ أَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ خَاسِرٌ، وَالْخَاسِرُ ضِدُّ الرَّابِحِ.
وَالْخَسَارُ مَرَاتِبُ مُتَعَدِّدَةٌ مُتَفَاوِتَةٌ:
قَدْ يَكُونُ خَسَارًا مُطْلَقًا؛ كَحَالِ مَنْ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، وَفَاتَهُ النَّعِيمُ، وَاسْتَحَقَّ الْجَحِيمَ.
وَقَدْ يَكُونُ خَاسِرًا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ دُونَ بَعْضٍ؛ وَلِهَذَا عَمَّمَ اللَّهُ الْخَسَارَ لِكُلِّ إِنْسَانٍ إِلَّا مَنِ اتَّصَفَ بِأَرْبَعِ صِفَاتٍ:
الْإِيمَانُ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِالْإِيمَانِ بِهِ، وَلَا يَكُونُ الْإِيمَانُ بِدُونِ الْعِلْمِ، فَهُوَ فَرْعٌ عَنْهُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهِ.
وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَهَذَا شَامِلٌ لِأَفْعَالِ الْخَيْرِ كُلِّهَا؛ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، الْمُتَعَلِّقَةِ بِحُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ، الْوَاجِبَةِ وَالْمُسْتَحَبَّةِ.
وَالتَّوَاصِي بِالْحَقِّ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، أَيْ: يُوصِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِذَلِكَ، وَيَحُثُّهُ عَلَيْهِ، وَيُرَغِّبُهُ فِيهِ.
وَالتَّوَاصِي بِالصَّبْرِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَعَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَعَلَى أَقْدَارِ اللَّهِ الْمُؤْلِمَةِ.
فَبِالْأَمْرَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ يُكَمِّلُ الْعَبْدُ نَفْسَهُ، وَبِالْأَمْرَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ يُكَمِّلُ غَيْرَهُ، وَبِتَكْمِيلِ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ يَكُونُ الْعَبْدُ قَدْ سَلِمَ مِنَ الْخَسَارِ، وَفَازَ بِالرِّبْحِ الْعَظِيمِ)).
وَالْعَصْرُ: هُوَ الزَّمَنُ عَلَى قَوْلِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، وَهُوَ الرَّاجِحُ كَمَا قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-، وَأَضَافَ أَنَّ تَسْمِيَةَ الدَّهْرِ عَصْرًا أَمْرٌ مَعْرُوفٌ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ.
فَأَقْسَمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالزَّمَانِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْحَوَادِثِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ؛ وَذَلِكَ لِلَفْتِ الْأَنْظَارِ إِلَى أَهَمِّيَّةِ الْوَقْتِ، وَعَظِيمِ أَثَرِهِ فِي حَيَاةِ الْكَائِنِ الْإِنْسَانِيِّ.
وَهَذِهِ النِّعْمَةُ الْعَظِيمَةُ لَا يَعْرِفُ قَدْرَهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ؛ فَهُمْ يُبَدِّدُونَهَا تَبْدِيدًا، وَالنَّبِيُّ ﷺ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ هَذِهِ النِّعْمَةَ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي يُغْبَنُ -أَيْ: يُظْلَمُ- فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ الْخَلْقِ، فَيَظْلِمُ فِيهَا نَفْسَهُ؛ كَالَّذِي يَشْتَرِي بِأَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَحِقُّ مَا يَشْتَرِيهِ، وَكَالَّذِي يَبِيعُ بِأَقَلَّ مِمَّا يَسْتَحِقُّ مَا يَبِيعُهُ؛ فَهُوَ مَغْبُونٌ فِي الصَّفْقَةِ.
وَالْإِنْسَانُ ظَلُومٌ كَفَّارٌ، قَدْ عَدَّدَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِ نِعَمَهُ، وَأَخْبَرَ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا حَاوَلَ أَنْ يَعُدَّ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ لَهَا عَدًّا، وَلَا يُدْرِكُ لَهَا إِحْصَاءً {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34].
((وَقَدْ جَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِلنِّعَمِ أُصُولًا وَفُرُوعًا؛ فَمِنْ فُرُوعِ النِّعَمِ: الْبَسْطَةُ فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَالْمَالِ، فَهَذِهِ مِنْ فُرُوعِ النِّعَمِ، وَكَذَلِكَ الْمُحَافَظَةُ عَلَى نَوَافِلِ الْعِبَادَاتِ؛ كَقِيَامِ اللَّيْلِ، وَالْإِكْثَارِ مِنْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَكَذِكْرِ اللهِ -تَعَالَى-، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى سُنَنِ الْفِطْرَةِ فِي الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَالْأَطْرَافِ، وَكَسُنَنِ الْأَعْمَالِ؛ كَالتَّطَيُّبِ لِلرِّجَالِ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ، وَالْمُصَافَحَةِ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَدُخُولِ الْمَسْجِدِ بِالْيُمْنَى، وَالْخُرُوجِ مِنْهُ بِالْيُسْرَى، وَإِمَاطَةِ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآدَابِ وَالسُّنَنِ الْمُسْتَحَبَّاتِ، وَكَذَلِكَ مَا يَتَعَلَّقُ بِبَعْضِ الْوَاجِبَاتِ؛ فَكُلُّ أُولَئِكَ مِنْ فُرُوعِ النِّعَمِ، وَمَا أَجَلَّهَا مِنْ فُرُوعٍ عِنْدَ عَارِفِيهَا!
وَأَمَّا أُصُولُ النِّعَمِ فَهِيَ كَثِيرَةٌ -أَيْضًا- وَلَا تُحْصَى:
وَأَوَّلُ أُصُولِ النِّعَمِ: الْإِيمَانُ بِاللهِ -تَعَالَى- وَبِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَالْعَمَلُ بِمُقْتَضَى ذَلِكَ عَلَى مَا أَوْجَبَهُ اللهُ -تَعَالَى- وَأَمَرَ بِهِ.
وَمِنْ أُصُولِ النِّعَمِ: نِعْمَةُ الصِّحَّةِ وَالْعَافِيَةِ الَّتِي مِنْهَا: سَلَامَةُ السَّمْعِ، وَالْبَصَرِ، وَالْفُؤَادِ، وَالْجَوَارِحِ، وَهِيَ مِحْوَرُ حَرَكَةِ الْإِنْسَانِ، وَقِوَامُ اسْتِفَادَتِهِ مِنْ وُجُودِهِ، فَهَذِهِ مِنْ أُصُولِ النِّعَمِ، وَقَلَّ مَنْ يَشْكُرُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى هَذِهِ الْأُصُولِ الْعَظِيمَةِ.
وَمِنْ أُصُولِ النِّعَمِ -أَيْضًا-: نِعْمَةُ الْعِلْمِ، وَهِيَ نِعْمَةٌ كُبْرَى يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا رُقِيُّ الْإِنْسَانِ فِي حَيَاتِهِ فِي مَدَارِجِ كَمَالِهِ، فَالْعِلْمُ نِعْمَةٌ جُلَّى كَيْفَمَا كَانَ إِذَا كَانَ مِمَّا يَرْتَضِيهِ الرَّحِيمُ الرَّحْمَنُ، وَتَحْصِيلُهُ نِعْمَةٌ، وَالِانْتِفَاعُ بِهِ نِعْمَةٌ، وَالنَّفْعُ بِهِ لِلْآخَرِينَ نِعْمَةٌ، وَتَخْلِيدُهُ وَنَقْلُهُ لِلْأَجْيَالِ الْمُقْبِلَةِ نِعْمَةٌ، وَنَشْرُ الْعِلْمِ فِي النَّاسِ نِعْمَةٌ، وَهَكَذَا فَهَذِهِ كُلُّهَا مِنْ أُصُولِ النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهَا عَلَى مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ.
وَمِنْ أُصُولِ النِّعَمِ -أَيْضًا-؛ بَلْ وَمِنْ أَجَلِّ أُصُولِ النِّعَمِ وَمِنْ أَغْلَاهَا وَأَعْلَاهَا: نِعْمَةُ الزَّمَنِ الَّتِي جَمَعَتِ الْكَثِيرَ مِنَ الْفَوَائِدِ، وَالَّتِي هِيَ مَحَلُّ وُقُوعِ الْحَوَادِثِ، وَالَّتِي يَقَعُ فِيهَا التَّقَرُّبُ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِطَاعَتِهِ، وَالِالْتِزَامِ بِدِينِهِ، وَالِائْتِمَارِ بِأَمْرِهِ، وَالِانْتِهَاءِ عَنْ نَهْيِهِ، وَاتِّبَاعِ رَسُولِهِ ﷺ.
الزَّمَنُ هُوَ عُمُرُ الْحَيَاةِ، وَهُوَ مَيْدَانُ وُجُودِ الْإِنْسَانِ، وَهُوَ سَاحَةُ ظِلِّهِ وَبَقَائِهِ وَنَفْعِهِ وَانْتِفَاعِهِ.
وَقَدْ أَشَارَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ إِلَى عِظَمِ هَذَا الْأَصْلِ فِي أُصُولِ النِّعَمِ؛ وَهِيَ نِعْمَةُ الْوَقْتِ الَّتِي أَنْعَمَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَيْكَ بِهَا، قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي كِتَابِهِ الْمَجِيدِ: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ۚ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 32-34])).
((أَخْبَرَ -تَعَالَى- أَنَّهُ وَحْدَهُ {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} عَلَى اتِّسَاعِهِمَا وَعِظَمِهِمَا، {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً}: وَهُوَ الْمَطَرُ الَّذِي يُنْزِلُهُ اللَّهُ مِنَ السَّحَابِ، فَأَخْرَجَ بِذَلِكَ الْمَاءِ مِنَ الثَّمَرَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَنْوَاعِ {رِزْقًا لَكُمْ}، وَرِزْقًا لِأَنْعَامِكُمْ، {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ} أَيِ: السُّفُنَ وَالْمَرَاكِبَ {لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ}، فَهُوَ الَّذِي يَسَّرَ لَكُمْ صَنْعَتَهَا، وَأَقْدَرَكُمْ عَلَيْهَا، وَحَفِظَهَا عَلَى تَيَّارِ الْمَاءِ لِتَحْمِلَكُمْ وَتَحْمِلَ تِجَارَاتِكُمْ وَأَمْتِعَتَكُمْ إِلَى بَلَدٍ تَقْصِدُونَهُ.
{وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ} لِتَسْقِيَ حُرُوثَكُمْ وَأَشْجَارَكُمْ، وَتَشْرَبُوا مِنْهَا.
{وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ} لَا يَفْتُرَانِ، وَلَا يَنِيَانِ، يَسْعَيَانِ لِمَصَالِحِكُمْ مِنْ حِسَابِ أَزْمِنَتِكُمْ، وَمَصَالِحِ أَبْدَانِكُمْ، وَحَيَوَانَاتِكُمْ، وَزُرُوعِكُمْ، وَثِمَارِكُمْ، {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ} لِتَسْكُنُوا فِيهِ {وَالنَّهَارَ} مُبْصِرًا لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ.
{وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} أَيْ: أَعْطَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ أَمَانِيُّكُمْ وَحَاجَتُكُمْ مِمَّا تَسْأَلُونَهُ إِيَّاهُ بِلِسَانِ الْحَالِ، أَوْ بِلِسَانِ الْمَقَالِ؛ مِنْ أَنْعَامٍ، وَآلَاتٍ، وَصِنَاعَاتٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا}؛ فَضْلًا عَنْ قِيَامِكُمْ بِشُكْرِهَا، {إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} أَيْ: هَذِهِ طَبِيعَةُ الْإِنْسَانِ مِنْ حَيْثُ هُوَ ظَالِمٌ مُتَجَرِّئٌ عَلَى الْمَعَاصِي، مُقَصِّرٌ فِي حُقُوقِ رَبِّهِ، كَفَّارٌ لِنِعَمِ اللَّهِ، لَا يَشْكُرُهَا وَلَا يَعْتَرِفُ بِهَا إِلَّا مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ فَشَكَرَ نَعِمَهُ، وَعَرَفَ حَقَّ رَبِّهِ وَقَامَ بِهِ.
فَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ أَصْنَافِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ شَيْءٌ عَظِيمٌ؛ مُجْمَلٌ وَمُفَصَّلٌ، يَدْعُو اللَّهُ بِهِ الْعِبَادَ إِلَى الْقِيَامِ بِشُكْرِهِ وَذِكْرِهِ، وَيَحُثُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَيُرَغِّبُهُمْ فِي سُؤَالِهِ وَدُعَائِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ كَمَا أَنَّ نِعَمَهُ تَتَكَرَّرُ عَلَيْهِمْ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ)).
((فَامْتَنَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي جَلَائِلِ نِعَمِهِ بِنِعْمَةِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَهُمَا الزَّمَنُ الَّذِي آتَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْهُ مَا آتَى لِخَلْقِهِ فِي أَرْضِهِ بِدَايَةً وَنِهَايَةً بِحِسَابٍ دَقِيقٍ لَا يَتَخَلَّفُ، وَجَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْعِبَادَةَ وَاقِعَةً فِي ذَلِكَ، وَالْإِنْسَانُ مَسْؤُولٌ عَنْهُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
وَقَدْ أَكَّدَ اللهُ هَذِهِ الْمِنَّةَ الْعُلْيَا فِي آيَةٍ ثَانِيَةٍ فَقَالَ: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [النحل: 12].
وَقَدْ جَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ، وَذَكَرَ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- أَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ مِنْ آيَاتِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَى خَلْقِهِ فِي أَرْضِهِ، وَتَمَدَّحَ -سُبْحَانَهُ- بِأَنَّهُ مَالِكُ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَمَا يَحُلُّ فِيهِمَا مِنْ زَمَانِيَّاتٍ وَمَكَانِيَّاتٍ، قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ۚ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام: 13].
وَقَدْ خَاطَبَ اللهُ -تَعَالَى- الْكُفَّارَ وَأَنَّبَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَضَاعُوا أَعْمَارَهُمْ، وَاسْتَبْقَوْا أَنْفُسَهُمْ فِي تِلْكَ الْأَعْمَارِ عَلَى الْكُفْرِ، وَلَمْ يَخْرُجُوا مَعَ امْتِدَادِ الْعُمُرِ مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ، وَقَدْ آتَاهُمُ اللهُ الزَّمَانَ الْمَدِيدَ وَالْعُمُرَ الْعَرِيضَ، قَالَ سُبْحَانَهُ: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ ۖ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} [فاطر: 37].
فَجَعَلَ -سُبْحَانَهُ- التَّعْمِيرَ -وَهُوَ إِطَالَةُ الْعُمُرِ فِي الْأَرْضِ- مُوجِبًا لِلتَّذَكُّرِ وَالِاسْتِبْصَارِ، وَجَعَلَهُ مَيْدَانًا لِلْإِيمَانِ وَالِاسْتِذْكَارِ، وَأَقَامَ الْعُمُرَ الَّذِي هُوَ الزَّمَنُ بِحَيَاةِ الْإِنْسَانِ يَحْيَاهُ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ.. جَعَلَهُ حُجَّةً عَلَى الْإِنْسَانِ، كَمَا أَقَامَ وُجُودَ الرِّسَالَةِ وَالنِّذَارَةِ حُجَّةً عَلَيْهِ -أَيْضًا-.
وَالْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ يَذْكُرُ كَلَامَ قَتَادَةَ: ((اعْلَمُوا أَنَّ طُولَ الْعُمُرِ حُجَّةٌ، فَنَعُوذُ بِاللهِ أَنْ نُعَيَّرَ بِطُولِ الْعُمُرِ))، إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)).
إِنَّ الْإِنْسَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَلَّا يَظْلِمَ نَفْسَهُ، وَظُلْمُ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ يَتَجَلَّى فِي الْمَوْقِفِ الَّذِي ذَكَرَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- يَمُرُّ بِهِ الْإِنْسَانُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا ۚ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المؤمنون: 9-11].
فَهَذَا مَوْقِفٌ مِنْ مَوَاقِفِ ظُلْمِ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ، يَتَمَنَّى لَوْ أُخِّرَ، وَلَنْ يُؤَخَّرَ؛ فَإِنَّ تَأْخِيرَ الْمَوْتِ عَنْ وَقْتِهِ سَاعَتَئِذٍ مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ، وَهُوَ هَاجِرٌ ظَافِرٌ لَا مَحَالَةَ.
وَمَوْقِفٌ ثَانٍ لَيْسَ عَنْ هَذَا بِبَعِيدٍ؛ عِنْدَمَا يَرَى نَفْسَهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَقَدْ أَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ، فَيُنَادِي مَعَ أَقْرَانِهِ الْمُصَفَّدِينَ بِالْأَغْلَالِ: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ}.
فَيَأْتِي الْجَوَابُ مَصْحُوبًا بِالتَّقْرِيعِ الْمُجْهِزِ: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ ۖ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} [فاطر: 37].
كَانَتْ أَعْمَارُكُمُ الَّتِي وَهَبْنَاكُمْ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ تَكْفِي لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَذَكَّرَ وَيَتَفَكَّرَ، وَيَعْمَلَ صَالِحًا؛ وَلِذَلِكَ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَعْذَرَ اللهُ إِلَى امْرِئٍ أَخَّرَ أَجَلَهُ حَتَّى بَلَّغَهُ سِتِّينَ سَنَةً)) أَيْ: قَطَعَ عُذْرَهُ، فَلَا عُذْرَ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ.
((أَعْذَرَهُ)) أَيْ: أَزَالَ عُذْرَهُ؛ فَهَذِهِ (الْأَلِفُ) هِيَ (أَلِفُ) الْإِزَالَةِ.
وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ)) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: ((مَنْ عَمَّرَهُ اللهُ -تَعَالَى- سِتِّينَ سَنَةً فَقَدْ أَعْذَرَ إِلَيْهِ فِي الْعُمُرِ))؛ أَيْ: أَزَالَ عُذْرَهُ، وَلَمْ يُبْقِ لَهُ مَوْضِعًا لِلِاعْتِذَارِ؛ إِذْ أَمْهَلَهُ طُولَ هَذِهِ الْمُدَّةِ الْمَدِيدَةِ مِنَ الْعُمُرِ.
وَذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ السِّتِّينَ؛ لِأَنَّهُ الْعُمُرُ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَى أَعْمَارِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ سِتِّينَ إِلَى سَبْعِينَ، وَأَقَلُّهُمْ مَنْ يَجُوزُ ذَلِكَ)).
((النَّبِيُّ ﷺ -كَمَا رَوَى ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-- قَالَ: ((نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ؛ الصِّحَّةُ، وَالْفَرَاغُ)).
الزَّمَنُ نِعْمَةٌ جُلَّى، وَمِنَّةٌ عُظْمَى، وَمِنْحَةٌ كُبْرَى لَا يَدْرِيهَا وَلَا يَسْتَفِيدُ مِنْهَا كُلَّ الْفَائِدَةِ إِلَّا الْمُوَفَّقُونَ الْأَفْذَاذُ، كَمَا أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ حَدِيثُ رَسُولِ اللهِ ﷺ، قَالَ: ((مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ)).
فَالْأَقَلُّونَ الْمُوَفَّقُونَ هُمُ الْأَفْذَاذُ الَّذِينَ حَادُوا عَنْ هَذَا الْغَبْنِ، وَسَلَكُوا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، فَأَفَادَنَا لَفْظُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُسْتَفِيدِينَ مِنْ ذَلِكَ قِلَّةٌ، وَأَنَّ الْكَثِيرَ مُفَرِّطٌ مَغْبُونٌ)).
عِنْدَمَا يُنْعِمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى الْعَبْدِ بِنِعْمَةِ الصِّحَّةِ فَهُوَ لَا يَجْتَهِدُ فِي الْعِبَادَةِ، وَلَا فِي الطَّاعَةِ، وَلَا فِي أَدَاءِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ، وَإِنَّمَا تَتَبَدَّدُ صِحَّتُهُ فِيمَا لَا يُفِيدُ، فَإِذَا مَا سُلِبَتْ مِنْهُ نِعْمَةُ الصِّحَّةِ، وَأَرَادَ أَمْرًا؛ لَمْ يَقْوَ عَلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ إِذَا أَنْعَمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى الْإِنْسَانِ بِالْفَرَاغِ، وَلَمْ يَشْغَلْهُ بِشَيْءٍ مِنْ هُمُومِ الدُّنْيَا، وَفَرَّغَ قَلْبَهُ مِنَ الْهُمُومِ وَمِنَ الْأَحْزَانِ؛ فَهَذِهِ الْفَتْرَةُ مِنَ الْفَرَاغِ نِعْمَةٌ يَظْلِمُ الْعَبْدُ فِيهَا نَفْسَهُ؛ حَتَّى إِنَّكَ تَسْمَعُ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَقُولُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ: إِنَّ الْإِنْسَانَ مِنَ الْمَلَلِ لَا يَدْرِي كَيْفَ يُمَضِّي وَقْتَهُ، وَلَا كَيْفَ يُضَيِّعُ هَذَا الْوَقْتَ!!
وَكَثِيرًا مَا تَسْمَعُ مِنْ زَائِرٍ يَزُورُكَ أَنَّهُ إِنَّمَا زَارَكَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُضَيِّعَ بَعْضَ الْوَقْتِ، فَهُوَ جَاءَ لِيُضَيِّعَ وَقْتَ نَفْسِهِ!!
فَهَذِهِ نِعْمَةٌ هُوَ لَا يُحِسُّ بِهَا، وَلَا يَدْرِيهَا.
إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ يُخْبِرُنَا أَنَّهُ يَنْبَغِي لَنَا أَلَّا نَظْلِمَ أَنْفُسَنَا فِي حَالِ صِحَّتِنَا، وَلَا فِي حَالِ فَرَاغِنَا وَعَدَمِ شُغُلِنَا، وَلَا فِي حَالِ شَبَابِنَا، بَلْ عَلَيْنَا أَنْ نَأْخُذَ مِنَ الصِّحَّةِ لِلْمَرَضِ، وَأَنْ نَأْخُذَ مِنَ الْفَرَاغِ لِلشُّغُلِ، وَمِنَ الشَّبَابِ لِلْهَرَمِ؛ فَلْيَحْرِصِ الشَّابُّ الْمُسْلِمُ عَلَى أَوْقَاتِهِ وَسَاعَاتِهِ؛ حَتَّى لَا تَضِيعَ سُدًى، وَلْيَجْعَلْ لَهُ نَصِيبًا مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: حَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغُلِكَ، وَشَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ)).
وَلْيَحْرِصْ عَلَى أَنْ يَكُونَ مِنْ خِيَارِ النَّاسِ، كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللهِ ﷺ؛ فَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَجُلًا قَالَ: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟)).
قَالَ ﷺ: «مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ».
قَالَ: ((فَأَيُّ النَّاسِ شَرٌّ؟)).
قَالَ ﷺ: «مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ». أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
مِنَ الْمَعْلُومِ: أَنَّ الْإِنْسَانَ الْعَاقِلَ يَحْرِصُ عَلَى اغْتِنَامِ زَمَانِهِ إِلَى حَالِ النَّزْعِ وَالذَّمَاءِ؛ أَيْ: إِلَى النَّفَسِ الْأَخِيرِ مِنَ الْحَيَاةِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ -كَمَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الَّذِي أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ)) بِسَنَدٍ صَحِيحٍ: ((إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ -وَهِيَ: النَّخْلَةُ الصَّغِيرَةُ-؛ فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ)).
وَهَذَا إِدْرَاكٌ لِشَرَفِ الزَّمَانِ، وَتَقْدِيرٌ لِلْعَطَاءِ ذَاتِهِ، وَإِشْعَارٌ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ الْمُسْلِمَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَدَعَ عِمَارَةَ الْأَرْضِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتْرُكَ الْإِنْتَاجَ لِلْحَيَاةِ، وَلَا أَنْ يَكُفَّ عَنِ الْعَمَلِ وَالْعَطَاءِ مَا دَامَتِ الْحَيَاةُ قَائِمَةً، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعِيشَ بِغَيْرِ عَمَلٍ لَحْظَةً مِنَ الدَّهْرِ؛ وَإِنْ كَانَ إِسْرَافِيلُ قَدْ أَمْسَكَ بِالصُّورِ لِيَنْفُخَ فِيهِ، وَلِيَتَهَدَّمَ بَعْدَ النَّفْخِ سُرَادِقُ الْحَيَاةِ جَمِيعِهَا؛ فَغَرْسُ الْفَسِيلَةِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْقِفِ يُمَثِّلُ الْقِيَامَ بِحَقِّ الْوَقْتِ الْحَاضِرِ، يُمَثِّلُ الْقِيَامَ بِحَقِّ اللَّحْظَةِ الْوَاقِعَةِ، بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الْمَاضِي أَوِ الْمُسْتَقْبَلِ.
((إِذَا قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ -وَهِيَ: النَّخْلَةُ الصَّغِيرَةُ يُرِيدُ أَنْ يَغْرِسَهَا-؛ فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ)).
وَهَذَا الْإِشْعَارُ إِنَّمَا مَكَّنَ الْأَصْحَابَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- مِنَ اسْتِغْلَالِ أَعْمَارِهِمْ، فَكَانُوا قُدْوَةً فِي إِدْرَاكِ شَرَفِ الزَّمَانِ؛ عِمَارَةً لِلْأَرْضِ، وَتَحْقِيقًا لِلِاسْتِخْلَافِ فِيهَا، كَمَا بَيَّنَ بَعْضُهُمْ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَقُولُ لِأَبِي: ((مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَغْرِسَ أَرْضَكَ؟)).
فَقَالَ لَهُ أَبِي: ((أَنَا شَيْخٌ كَبِيرٌ أَمُوتُ غَدًا)).
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: ((أَعْزِمُ عَلَيْكَ لَتَغْرِسَنَّهَا))، فَلَقَدْ رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَغْرِسُهَا بِيَدِهِ مَعَ أَبِي)).
وَهَذَا الْمَوْقِفُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَدُلُّ عَلَى إِدْرَاكِهِ لِلْغَايَةِ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا خُلِقَ الْإِنْسَانُ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- خَلَقَ الْإِنْسَانَ لِعِبَادَتِهِ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا بِعِمَارَةِ الْحَيَاةِ، وَالْقِيَامِ عَلَى إِصْلَاحِهَا، وَالْمُسْلِمُونَ هُمُ الَّذِينَ رَقَّوُا الْحَيَاةَ، وَارْتَفَعُوا بِهَا عَنْ حَمْأَةِ الطِّينِ إِلَى قِمَمٍ شَامِخَةٍ مِنَ الْعَطَاءِ الْمُتَجَدِّدِ بِالْبَهَاءِ، كَمَا فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْقِفِ مِنْ عُمَرَ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَعْلُو عَلَى ذَاتِهِ، وَيَعِيشُ مِنْ أَجْلِ إِخْوَانِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؛ وَلَوْ كَانَ لَا يُدْرِكُ شَيْئًا مِنْ عَطَاءِ نَفْسِهِ.
قَالَ: ((إِنِّي شَيْخٌ كَبِيرٌ أَمُوتُ غَدًا)).
قَالَ: ((عَزَمْتُ عَلَيْكَ لَتَغْرِسَنَّهَا)).
وَهُوَ إِنْ غَرَسَهَا فَلَيْسَ يَغْرِسُهَا لِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يَغْرِسُهَا لِمَنْ بَعْدَهُ.
لَقَدْ خَرَجَ كِسْرَى يَوْمًا يَتَصَيَّدُ، فَوَجَدَ شَيْخًا كَبِيرًا يَغْرِسُ شَجَرَ الزَّيْتُونِ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ: ((يَا هَذَا! أَنْتَ شَيْخٌ قَدْ كَبِرْتَ، وَالزَّيْتُونُ لَا يُثْمِرُ إِلَّا بَعْدَ ثَلَاثِينَ سَنَةً؛ فَلِمَ تَغْرِسُهُ؟!!)).
فَقَالَ: ((أَيُّهَا الْمَلِكُ! زَرَعَ لَنَا مَنْ قَبْلَنَا فَأَكَلْنَا، وَنَحْنُ نَزْرَعُ لِمَنْ بَعْدَنَا لِيَأْكُلَ)).
هَذِهِ الْأُصُولُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي بَيَّنَهَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي كِتَابِهِ الْمَجِيدِ، وَبَيَّنَهَا النَّبِيُّ ﷺ فِي سُنَّتِهِ الْمُشَرَّفَةِ، وَأَخَذَ بِهَا سَلَفُنَا الصَّالِحُونَ جَعَلَتِ الْحَيَاةَ عَلَى صُورَةٍ جَدِيدَةٍ فِي جَمِيعِ مَنَاحِيهَا، وَصَارَ لِلْعِلْمِ فِيهَا قِيمَتُهُ الْحَقَّةُ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يَتَنَزَّلَ عَلَيْهَا هَذَا الْعِلْمُ الشَّرِيفُ.
وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ -رَحِمَهُ اللهُ- يَقُولُ: ((صِنَاعَتُنَا هَذِهِ مِنَ الْمَهْدِ إِلَى اللَّحْدِ، مَعَ الْمَحْبَرَةِ إِلَى الْمَقْبَرَةِ؛ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَدَعَ هَذَا الشَّأْنَ سَاعَةً فَلْيَدَعْهُ مِنَ السَّاعَةِ)).
((صِنَاعَتُنَا هَذِهِ)): يَقْصِدُ طَلَبَ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ حُكَّامٌ عَلَى الْمُلُوكِ، وَلَيْسَ يَحْكُمُ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ؛ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُبَيِّنُونَ أَحْكَامَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِخَلْقِهِ فِي أَرْضِهِ، وَهِيَ حَاكِمَةٌ عَلَى الْجَمِيعِ.
((صِنَاعَتُنَا هَذِهِ مِنَ الْمَهْدِ إِلَى اللَّحْدِ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ سَاعَةً فَلْيَدَعْهُ هَذِهِ السَّاعَةَ)).
وَلِذَلِكَ كَانُوا -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ- لَا يَدَعُونَ الطَّلَبَ؛ حَتَّى فِي حَالِ الِاحْتِضَارِ وَالْإِقْبَالِ عَلَى الْمَمَاتِ.
قَالَ ابْنُ مَنَاذِرَ: ((سَأَلْتُ أَبَا عَمْرِو بْنَ الْعَلَاءِ: حَتَّى مَتَى يَحْسُنُ بِالْمَرْءِ أَنْ يَتَعَلَّمَ؟)).
قَالَ: ((مَا دَامَ تَحْسُنُ بِهِ الْحَيَاةُ)).
وَقِيلَ لِابْنِ الْمُبَارَكِ: ((إِلَى مَتَى تَطْلُبُ الْعِلْمَ؟)).
قَالَ: ((إِلَى الْمَمَاتِ إِنْ شَاءَ اللهُ)).
((صِنَاعَتُنَا هَذِهِ مِنَ الْمَهْدِ إِلَى اللَّحْدِ))، حَتَّى وَالْإِنْسَانُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ وَقَدْ حَشْرَجَ نَفَسُهُ، وَضَاقَ بِهِ صَدْرُهُ؛ وَلَكِنَّهُ يُقْبِلُ عَلَى مَسْأَلَةٍ مِنْ مَسَائِلِ الْعِلْمِ.
يَقُولُ: ((لَعَلَّهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَعْدَنَا مُنْتَفِعٌ فَنَغْنَمَ))؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا تَرَكَ عِلْمًا يُنْتَفَعُ بِهِ فَقَدِ امْتَدَّتْ حَيَاتُهُ فِي عُمْقِ الْحَيَاةِ وَبَعْدَ أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى الْمَمَاتِ إِلَى قِمَّةٍ سَامِقَةٍ لَا تُدَانَى؛ وَلِذَلِكَ كَانُوا فِي عُمْقِ نَظْرَتِهِمْ إِلَى تَحْصِيلِ الْأَوْقَاتِ لَا يَشْتَغِلُونَ بِالنَّدَمِ عَلَى الْوَقْتِ الْفَائِتِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَضْيِيعٌ لِلْوَقْتِ الْحَاضِرِ.
((قِيمَةُ الْوَقْتِ فِي حَيَاةِ السَّلَفِ))
عِبَادَ اللهِ! لَقَدْ كَانَ سَلَفُنَا الصَّالِحُونَ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ- يَتَنَافَسُونَ فِي حِفْظِ الْأَوْقَاتِ أَشَدَّ مِمَّا يَتَنَافَسُ الْخَلْقُ الْحَاضِرُونَ فِي زَمَانِنَا فِي تَضْيِيعِهَا؛ ((فَهَذَا عَامِرُ بْنُ عَبْدِ قَيْسٍ، وَهُوَ أَحَدُ التَّابِعِينَ الزُّهَّادِ، قَالَ لَهُ رَجُلٌ يَوْمًا: ((كَلِّمْنِي!)).
فَقَالَ لَهُ عَامِرٌ: ((أَمْسِكِ الشَّمْسَ!!))؛ يَعْنِي: أَوْقِفْ لِيَ الشَّمْسَ، وَاحْبِسْهَا عَنِ الْمَسِيرِ حَتَّى أُكَلِّمَكَ؛ لِأَنَّ الزَّمَنَ مُتَحَرِّكٌ دَائِبُ الْمُضِيِّ، لَا يَعُودُ بَعْدَ مُرُورِهِ، فَخَسَارَتُهُ خَسَارَةٌ لَا يُمْكِنُ تَعْوِيضُهَا وَاسْتِدْرَاكُهَا؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَقْتٍ مَا يَمْلَأُهُ مِنَ الْعَمَلِ، فَإِذَا مَرَّ وَقْتٌ فَقَدْ مَرَّ بِمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُمْلَأَ بِهِ مِنَ الْعَمَلِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدْرَكَ؛ لِأَنَّكَ إِذَا اسْتَدْرَكْتَهُ بِوَقْتٍ جَدِيدٍ فَلِلْوَقْتِ الْجَدِيدِ مَا يَمْلَأُهُ مِنَ الْعَمَلِ؛ فَمَاذَا تَصْنَعُ يَا مِسْكِينُ وَأَنْتَ تُضَيِّعُ الْعُمُرَ هَبَاءً؟!!
قَالَ الصَّحَابِيُّ الْجَلِيلُ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((مَا نَدِمْتُ عَلَى شَيْءٍ نَدَمِي عَلَى يَوْمٍ غَرَبَتْ شَمْسُهُ نَقَصَ فِيهِ أَجَلِي وَلَمْ يَزِدْ فِيهِ عَمَلِي)).
وَكَانَ الْخَلِيفَةُ الصَّالِحُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ -رَحِمَهُ اللهُ- يَقُولُ: ((إِنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ يَعْمَلَانِ فِيكَ؛ فَاعْمَلْ فِيهِمَا)).
((إِنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ يَعْمَلَانِ فِيكَ)): يَنْحِتَانِ فِي صِحَّتِكَ، وَيُشِيبَانِ سَوَادَ شَعْرِكَ، وَيَحْنِيَانِ ظَهْرَكَ، وَيُنْقِصَانِ مِنْ قُدْرَتِكَ، وَيَسْتَنْفِذَانِ مِنْ قُوَّتِكَ، ((إِنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ يَعْمَلَانِ فِيكَ؛ فَاعْمَلْ فِيهِمَا)).
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((يَا ابْنَ آدَمَ! إِنَّمَا أَنْتَ أَيَّامٌ، فَإِذَا ذَهَبَ يَوْمٌ ذَهَبَ بَعْضُكَ)).
وَقَالَ -أَيْضًا-: ((أَدْرَكْتُ أَقْوَامًا كَانُوا عَلَى أَوْقَاتِهِمْ أَشَدَّ مِنْكُمْ حِرْصًا عَلَى دَرَاهِمِكُمْ وَدَنَانِيرِكُمْ)).
وَقَالَ الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي تَرْجَمَةِ الْإِمَامِ الْمُحَدِّثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ دِينَارٍ الْبَصْرِيِّ: وَهُوَ الْإِمَامُ الْمُحَدِّثُ النَّحْوِيُّ الْحَافِظُ الْقُدْوَةُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ، كَانَ بَارِعًا فِي الْعَرَبِيَّةِ، فَقِيهًا فَصِيحًا مُفَوَّهًا، صَاحِبَ سُنَّةٍ، وَكَانَ عَابِدًا مِنَ الْعُبَّادِ -رَحِمَهُ اللهُ-، قَالَ تِلْمِيذُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: ((لَوْ قِيلَ لِحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ: إِنَّكَ تَمُوتُ غَدًا؛ مَا قَدَرَ أَنْ يَزِيدَ فِي الْعَمَلِ شَيْئًا!!)).
هَذَا أَمْرٌ عَجِيبٌ جِدًّا، وَوَصْفٌ هُوَ أَعْجَبُ: ((لَوْ قِيلَ لَهُ: إِنَّكَ تَمُوتُ غَدًا؛ مَا قَدَرَ أَنْ يَزِيدَ فِي عَمَلِهِ شَيْئًا)).
وَقَالَ مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ التَّبُوذَكِيُّ: ((لَوْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي مَا رَأَيْتُ حَمَّادَ بْنَ سَلَمَةَ ضَاحِكًا لَصَدَقْتُ)).
كَانَ مَشْغُولًا؛ إِمَّا أَنْ يُحَدِّثَ، أَوْ يَقْرَأَ، أَوْ يُسَبِّحَ، أَوْ يُصَلِّيَ، وَقَدْ قَسَّمَ النَّهَارَ عَلَى ذَلِكَ.
قَالَ يُونُسُ الْمُؤَدِّبُ: ((مَاتَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ)) -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-.
كَانُوا يَغَارُونَ عَلَى الْوَقْتِ أَنْ يَمْضِيَ فِي غَيْرِ فَائِدَةٍ عَلَيْهِمْ تَعُودُ، وَعَائِدَةٍ بِهَا يَعُودُونَ؛ مِنْ خَيْرٍ يُحَصِّلُونَ، وَشَرٍّ عَنْهُ يَبْتَعِدُونَ؛ حَتَّى إِنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ كَأَبِي حَاتِمٍ -رَحِمَهُ اللهُ-، وَكَجَدِّ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُمُ اللهُ جَمِيعًا-؛ كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ إِذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ أَمَرَ وَلَدَهُ أَنْ يَقْرَأَ عَلَيْهِ لِيَسْمَعَ الْقِرَاءَةَ وَهُوَ فِي الْخَلَاءِ؛ حَتَّى لَا يُضَيِّعَ الْوَقْتَ فِي قَضَاءِ الْحَاجَةِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ وَعِلْمٍ، فَكَانَ يُمَاشِيهِ إِلَى بَيْتِ الْخَلَاءِ يَقْرَأُ عَلَيْهِ، فَإِذَا دَخَلَ اعْتَزَلَ نَاحِيَةً فَقَرَأَ رَافِعًا صَوْتَهُ وَهُوَ يَسْمَعُهُ، فَيَقْرَأُ عَلَيْهِ يُحَصِّلُ الْعِلْمَ وَهُوَ فِي بَيْتِ الْخَلَاءِ، لَا يَنْقَطِعُ عَنْهُ.
بَلْ إِنَّ بَعْضَهُمْ وَصَلَ إِلَى أَمْرٍ عَجِيبٍ لَا يَفْرُغُ مِنْهُ الْعَجَبُ؛ كَانَ يَنْظُرُ إِلَى مَا يَأْكُلُ، فَيَمْضُغُ وَيُعَالِجُ بِأَسْنَانِهِ تَكْسِيرًا وَطَحْنًا، فَأَخَذَ يَحْسِبُ فَرْقَ مَا بَيْنَ هَذَا وَأَنْ يُعَدَّ لَهُ فَتِيتًا حَتَّى يَسْتَفَّهُ اسْتِفَافًا، قَالَ: ((فَوَجَدْتُ بَيْنَهُمَا كَذَا تَسْبِيحَةٍ!!))، فَكَانَ بَعْدُ لَا يَأْكُلُ إِلَّا فَتِيتًا، فَيُفَتُّ لَهُ الطَّعَامُ وَالْخُبْزُ، وَهُوَ يَسْتَفُّهُ اسْتِفَافًا.
وَهَؤُلَاءِ لَا يُكْثِرُونَ، كَمَا قِيلَ لِلثَّوْرِيِّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْحَدِيثِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-، قِيلَ لَهُ: ((الرَّجُلُ يَأْكُلُ فِي النَّهَارِ -وَإِذَا أُطْلِقُ دَخَلَ فِيهِ اللَّيْلُ-، الرَّجُلُ يَأْكُلُ فِي النَّهَارِ أَكْلَةً وَاحِدَةً.
قَالَ: أَكْلُ الصَّالِحِينَ.
قَالَ: فَيَأْكُلُ أَكْلَتَيْنِ.
قَالَ: أَكْلُ الْمُؤْمِنِينَ.
قَالَ: يَأْكُلُ ثَلَاثَ أَكْلَاتٍ.
قَالَ: قُولُوا لِأَهْلِهِ يَتَّخِذُوا لَهُ فِي جَانِبِ الدَّارِ مِعْلَفًا!!))، هَذَا حَيَوانٌ! ((قُولُوا لِأَهْلِهِ يَتَّخِذُوا لَهُ فِي جَانِبِ الدَّارِ مِعْلَفًا!!))، الْوَقْتُ يَغَارُونَ عَلَى تَضْيِيعِهِ؛ حَتَّى فِي الطَّعَامِ، وَهُوَ قِوَامُ حَيَاةِ الْإِنْسَانِ.
فَاللهم سَلِّمْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.
أَبُو يُوسُفَ الْقَاضِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْأَنْصَارِيُّ الْكُوفِيُّ، ثُمَّ الْبَغْدَادِيُّ، الْمُتَوَفَّى سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ مِنْ هِجْرَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ (182هـ)، وَهُوَ صَاحِبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَتِلْمِيذُهُ، وَنَاشِرُ عِلْمِهِ وَمَذْهَبِهِ، وَهُوَ قَاضِي الْمُلُوكِ الْخُلَفَاءِ الْعَبَّاسِيِّينَ الثَّلَاثَةِ: الْمَهْدِيِّ، وَالْهَادِي، وَالرَّشِيدِ، وَقَدْ قَوَّمُوا الزَّمَنَ بِالْمَالِ، فَوَجَدُوا أَنَّ الْمَالَ لَا يُسَاوِي شَيْئًا.
هَذَا كَانَ قَاضِيَ قُضَاةِ الدُّنْيَا، كَانَ يُبَاحِثُ فِي مَسَائِلِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ وَهُوَ فِي النَّزْعِ وَالذَّمَاءِ؛ يَعْنِي: فِي النَّفَسِ الْأَخِيرِ مِنَ الْحَيَاةِ، فَكَانَ يُبَاحِثُ وَهُوَ فِي تِلْكَ الْحَالِ بَعْضَ عُوَّادِهِ -زُوَّارِهِ فِي مَرَضِهِ- فِي مَسْأَلَةٍ فِقْهِيَّةٍ؛ رَجَاءَ النَّفْعِ بِهَا لِمُسْتَفِيدٍ أَوْ مُتَعَلِّمٍ، وَلَا يُخْلِي اللَّحْظَةَ الْأَخِيرَةَ مِنَ اللَّحْظَاتِ فِي الْحَيَاةِ مِنْ كَسْبِهَا فِي مُذَاكَرَةِ عِلْمٍ، وَإِفَادَةٍ وَاسْتِفَادَةٍ!!
قَالَ تِلْمِيذُهُ الْقَاضِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْجَرَّاحِ الْكُوفِيُّ، ثُمَّ الْمِصْرِيُّ: ((مَرِضَ أَبُو يُوسُفَ، فَأَتَيْتُهُ أَعُودُهُ -وَالْعِيَادَةُ: الزِّيَارَةُ فِي الْمَرَضِ خَاصَّةً-، فَجِئْتُهُ -أَتَيْتُهُ- أَعُودُهُ، فَوَجَدْتُهُ مُغْمًى عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ لِي: يَا إِبْرَاهِيمُ! مَا تَقُولُ فِي مَسْأَلَةٍ؟!!
قُلْتُ: سُبْحَانَ اللهِ! فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ؟!!
قَالَ: وَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، نَدْرُسُ لَعَلَّهُ يَنْجُو بِهِ نَاجٍ.
ثُمَّ قَالَ: يَا إِبْرَاهِيمُ! أَيُّهُمَا أَفْضَلُ فِي رَمْيِ الْجِمَارِ -أَيْ: فِي مَنَاسِكِ الْحَجِّ-: أَنْ يَرْمِيَهَا مَاشِيًا، أَوْ رَاكِبًا؟
قُلْتُ: رَاكِبًا.
قَالَ: أَخْطَأْتَ.
قُلْتُ: مَاشِيًا.
قَالَ: أَخْطَأْتَ.
قُلْتُ: قُلْ فِيهَا يَرْضَى اللهُ عَنْكَ.
قَالَ: أَمَّا مَا كَانَ يُوقَفُ عِنْدَهُ لِلدُّعَاءِ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَرْمِيَهُ مَاشِيًا، وَأَمَّا مَا كَانَ لَا يُوقَفُ عِنْدَهُ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَرْمِيَهُ رَاكِبًا.
ثُمَّ قُمْتُ مِنْ عِنْدِهِ، فَمَا بَلَغْتُ بَابَ الدَّارِ وَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-)).
لَقَدْ عَاشَ سَلَفُنَا -رَحِمَهُمُ اللهُ- هَذَا الْهَدْيَ الْجَامِعَ، وَأَخَذَ مِنْهُمْ كُلَّ مَأْخَذٍ، فَكَانُوا مِنْ أَحْرَصِ النَّاسِ عَلَى عُمُرٍ، وَمِنْ أَكْثَرِهِمُ اغْتِنَامًا لِزَمَنٍ، وَكَانُوا مِنْ أَعْمَلِ النَّاسِ فِي الْأَوْقَاتِ، وَكَانَ حَصَادُهُمْ فُتُوحًا، وَعُلُومًا، وَمَعَارِفَ، وَمَدَنِيَّةً، وَحَضَارَةً، وَهَدْيًا، وَرَحْمَةً، وَعَدْلًا، وَتُقًى، وَزَهَادَةً ضَمَّتْهَا أَعْظَمُ حَضَارَةٍ فِي تَارِيخِ الْبَشَرِيَّةِ وَأَمْيَزُهَا.
وَتَأَمَّلْ فِي بَعْضِ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُونَ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ-، وَلْنَأْخُذْ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ هُوَ الْحَاكِمُ عَلَى الْمَمَالِكِ وَالسِّيَاسَاتِ، وَالْأَمْوَالِ، وَالْأَقْلَامِ؛ فَمَلِكٌ لَا يَتَأَيَّدُ بِعِلْمٍ لَا يَقُومُ، وَسَيْفٌ بِلَا عِلْمٍ مِخْرَاقُ لَاعِبٍ، وَقَلَمٌ بِلَا عِلْمٍ حَرَكَةُ عَابِثٍ، وَالْعِلْمُ مُسَلَّطٌ حَاكِمٌ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، وَلَا يَحْكُمُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الْعِلْمِ؛ فَهُوَ حَاكِمٌ لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ.
قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الْغَفَّارِ اللُّغَوِيَّ يَحْكِي أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ جَرِيرٍ الطَّبَرِيَّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ عَشْرٍ وَثَلَاثِ مِائَةٍ (310هـ) عَنْ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً مَكَثَ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَكْتُبُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْهَا أَرْبَعِينَ وَرَقَةً)).
أَيْ: إِنَّهُ -رَحِمَهُ اللهُ- كَتَبَ مَا يُقَارِبُ أَرْبَعَةً وَثَمَانِينَ وَخَمْسَ مِائَةِ أَلْفِ وَرَقَةً، فَيَقِفُ الْمَرْءُ مَشْدُوهًا حَائِرًا أَمَامَ هَذَا الرَّقْمِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ لِعَالِمٍ فِي تَارِيخِ الْبَشَرِيَّةِ، بَيْدَ أَنَّهُ إِذَا عَلِمَ مَا كَانَ عَلَيْهِ هَذَا الْإِمَامُ الْجَلِيلُ مِنْ هِمَّةٍ عَلِيَّةٍ، وَعَزِيمَةٍ مَاضِيَةٍ سَنِيَّةٍ، وَحِرْصٍ عَلَى لَحَظَاتِ الْعُمُرِ حَتَّى فِي سَاعَةِ الِاحْتِضَارِ، وَإِدْرَاكٍ لِشَرَفِ الرِّسَالَةِ الَّتِي يَحْمِلُ، مَعَ فُسْحَةٍ فِي الْعُمُرِ وَالْبَرَكَةِ فِيهِ، مَعَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِخْلَاصِ وَصِدْقِ النِّيَّةِ؛ إِذَا تَأَمَّلَ الْإِنْسَانُ فِي ذَلِكَ خَفَّتْ حَيْرَتُهُ، وَأَصْبَحَ أَقْرَبَ إِلَى فَهْمِ حَقِيقَةِ هَذِهِ الْغَزَارَةِ فِي الْإِنْتَاجِ الْعِلْمِيِّ.
مَا أُثِرَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- أَنَّهُ أَضَاعَ دَقِيقَةً مِنْ حَيَاتِهِ فِي غَيْرِ الْإِفَادَةِ وَالِاسْتِفَادَةِ.
رَوَى الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا عَنْ بَعْضِ الثِّقَاتِ أَنَّهُ كَانَ بِحَضْرَةِ أَبِي جَعْفَرٍ الطَّبَرِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ- قَبْلَ مَوْتِهِ، وَتُوُفِّيَ بَعْدَ سَاعَةٍ أَوْ أَقَلَّ مِنْهَا، فَذُكِرَ لَهُ هَذَا الدُّعَاءُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، فَاسْتَدْعَى مَحْبَرَةً وَصَحِيفَةً، فَكَتَبَهُ، فَقِيلَ لَهُ: ((أَوَفِي هَذِهِ الْحَالِ؟!)).
فَقَالَ: ((يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَلَّا يَدَعَ اقْتِبَاسَ الْعِلْمِ حَتَّى الْمَمَاتِ)).
وَمُصَنَّفَاتُ ابْنِ جَرِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي الذِّرْوَةِ؛ جِدَّةً، وَمَنْهَجًا، وَاتِّسَاعًا، وَعُمْقًا، وَنُضْجًا، وَإِحَاطَةً، مَعَ اخْتِلَافِ الْفُنُونِ الَّتِي تَنَاوَلَهَا عَلَى كَثْرَتِهَا؛ حَتَّى آلَتْ إِلَيْهِ إِمَامَةُ الْمُؤَرِّخِينَ وَالْمُفَسِّرِينَ، إِلَى جَانِبِ كَوْنِهِ صَاحِبَ مَذْهَبٍ فِقْهِيٍّ يَخْتَصُّ بِهِ.
وَلِإِدْرَاكِ الْمَنْزِلَةِ الَّتِي نَزَلَتْهَا مُصَنَّفَاتُهُ نَذْكُرُ مَا قَالَ أَبُو حَامِدٍ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي طَاهِرٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ، قَالَ: ((لَوْ سَافَرَ رَجُلٌ إِلَى الصِّينِ حَتَّى يَحْصُلَ لَهُ كِتَابُ تَفْسِيرِ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ؛ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كَثِيرًا)).
وَتَفْسِيرُهُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ مَطْبُوعٌ فِي ثَلَاثِينَ جُزْءًا، عَلَى ضَخَامَتِهِ وَنَفَاسَتِهِ وَرِيَادَتِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ وَمَعَ ضَخَامَتِهِ فَقَدْ أَتَى عَلَى غَيْرِ مَا كَانَ يُؤَمِّلُ هُوَ -رَحِمَهُ اللهُ- مِنَ السَّعَةِ وَالشُّمُولِ وَالْإِحَاطَةِ.
رَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: ((أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ الطَّبَرِيَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: أَتَنْشَطُونَ لِتَفْسِيرِ الْقُرْآنِ؟))
قَالُوا: ((كَمْ يَكُونُ قَدْرُهُ؟)).
قَالَ: ((ثَلَاثُونَ أَلْفَ وَرَقَةٍ)).
فَقَالُوا: ((هَذَا مِمَّا تَفْنَى الْأَعْمَارُ قَبْلَ تَمَامِهِ)).
فَاخْتَصَرَهُ فِي نَحْوِ ثَلَاثَةِ آلَافِ وَرَقَةٍ.
ثُمَّ قَالَ: ((هَلْ تَنْشَطُونَ لِتَارِيخِ الْعَالَمِ مِنْ آدَمَ إِلَى وَقْتِنَا هَذَا؟)).
قَالُوا: ((كَمْ قَدْرُهُ؟)).
فَذَكَرَ نَحْوًا مِمَّا ذَكَرَهُ فِي التَّفْسِيرِ.
فَأَجَابُوهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ.
فَقَالَ: ((إِنَّا للهِ! مَاتَتِ الْهِمَمُ، ثُمَّ أَمْلَاهُ عَلَى نَحْوِ قَدْرِ التَّفْسِيرِ)) -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-.
وَهَذَا أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ، الْمُتَوَفَّى سَنَةَ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ مِنْ هِجْرَةِ النَّبِيِّ ﷺ (277هـ)، قَالَ -أَعْنِي: أَبَا حَاتِمٍ-: قَالَ لِي أَبُو زُرْعَةَ -يَعْنِي: الرَّازِيَّ-: ((مَا رَأَيْتُ أَحْرَصَ عَلَى طَلَبِ الْحَدِيثِ مِنْكَ)).
فَقُلْتُ لَهُ: ((إِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ ابْنِي لَحَرِيصٌ، قَالَ: مَنْ أَشْبَهَ أَبَاهُ فَمَا ظَلَمَ)).
قال الرَّقَّامُ -وَهُوَ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ أَحَدُ رِجَالِ إِسْنَادِ الْخَبَرِ-: ((فَسَأَلْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ عَنِ اتِّفَاقِ كَثْرَةِ السَّمَاعِ لَهُ وَسُؤَالَاتِهِ لِأَبِيهِ، فَقَالَ: رُبَّمَا كَانَ أَبِي يَأْكُلُ وَأَقْرَأُ عَلَيْهِ، وَيَمْشِي وَأَقْرَأُ عَلَيْهِ، وَيَدْخُلُ الْخَلَاءَ وَأَقْرَأُ عَلَيْهِ، وَيَدْخُلُ الْبَيْتَ فِي طَلَبِ شَيْءٍ وَأَقْرَأُ عَلَيْهِ)).
فَكَانَتْ ثَمَرَةُ تِلْكَ الْمُحَافَظَةِ النَّادِرَةِ عَلَى الزَّمَنِ وَالْحِرْصِ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ نِتَاجًا عِلْمِيًّا كَبِيرًا، مِنْهُ: ((كِتَابُ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ)) فِي تِسْعَةِ مُجَلَّدَاتٍ، وَهُوَ مِنَ الْكُتُبِ النَّفِيسَةِ الْحَافِلَةِ الرَّائِدَةِ فِي هَذَا الْعِلْمِ، وَلَهُ ((كِتَابُ التَّفْسِيرِ)) فِي عِدَّةِ مُجَلَّدَاتٍ، وَ((كِتَابُ الْمُسْنَدِ)) فِي أَلْفِ جُزْءٍ.
وَهَذَا الْإِمَامُ سُلَيْمُ بْنُ أَيُّوبَ الرَّازِيُّ، هُوَ أَحَدُ كِبَارِ أَئِمَّةِ الْمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، الْمُتَوَفَّى سَنَةَ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِ مِائَةٍ (447هـ)، هَا هُوَ يُحَاسِبُ نَفْسَهُ عَلَى الْأَنْفَاسِ الَّتِي تَضِيعُ دُونَ إِفَادَةٍ أَوِ اسْتِفَادَةٍ.
فَيَذْكُرُ عَنْهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي ((تَبْيِينِ كَذِبِ الْمُفْتَرِيِّ)) مِمَّا وَجَدَهُ بِخَطِّ أَبِي الْفَرَجِ غَيْثِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ التَّنُّوخِيِّ الصُّورِيِّ، نِسْبَةً إِلَى مَدِينَةِ (صُورٍ))؛ مَا نَصُّهُ: ((وَحُدِّثْتُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُحَاسِبُ نَفْسَهُ عَلَى الْأَنْفَاسِ)).
لَا يَدَعُ وَقْتًا يَمْضِي عَلَيْهِ بِغَيْرِ فَائِدَةٍ؛ إِمَّا يَنْسَخُ، أَوْ يُدَرِّسُ، أَوْ يَقْرَأُ، وَيَنْسَخُ شَيْئًا كَثِيرًا.
وَلَقَدْ حَدَّثَنِي عَنْهُ شَيْخُنَا أَبُو الْفَرَجِ الْإِسْفَرَايِينِيُّ -وَهُوَ أَحَدُ تَلَامِذَتِهِ-: ((أَنَّهُ نَزَلَ يَوْمًا إِلَى دَارِهِ وَرَجَعَ فَقَالَ: قَدْ قَرَأْتُ جُزْءًا فِي طَرِيقِي)).
قَالَ: ((وَحَدَّثَنِي مُؤَمِّلُ بْنُ الْحَسَنِ أَنَّهُ رَأَى سُلَيْمًا حَفِيَ عَلَيْهِ الْقَلَمُ، فإلَى أَنْ قَطَّهُ وَبَرَاهُ جَعَلَ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ، فَعَلِمَ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ بِإِزَاءِ إِصْلَاحِهِ الْقَلَمَ؛ لِئَلَّا يَمْضِيَ عَلَيْهِ زَمَانٌ وَهُوَ فَارِغٌ)). أَوْ كَمَا قَالَ.
وَهَذَا الْإِمَامُ الْكَبِيرُ أَبُو الْوَفَاءِ عَلِيُّ بْنُ عَقِيلٍ الْحَنْبَلِيُّ الْبَغْدَادِيُّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَخَمْسِ مِائَةٍ (513هـ) يَقُولُ فِيهِ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّهُ مِنْ أَذْكِيَاءِ الْعَالَمِ، كَانَ فِي مُحَافَظَتِهِ عَلَى الزَّمَنِ أُعْجُوبَةً، وَقَدْ بَلَغَ مَبْلَغًا أَثْمَرَ أَكْبَرَ كِتَابٍ عُرِفَ فِي الدُّنْيَا لِعَالِمٍ، وَهُوَ ((كِتَابُ الْفُنُونِ)) فِي ثَمَانِي مِائَةِ مُجَلَّدَةٍ)).
وَهَذَا لَا يُعْرَفُ لِعَالِمٍ فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ؛ أَنَّ عَالِمًا صَنَّفَ كِتَابًا فِي ثَمَانِي مِائَةِ مُجَلَّدَةٍ، وَهُوَ ((كِتَابُ الْفُنُونِ)) لِأَبِي الْوَفَاءِ عَلِيِّ بْنِ عَقِيلٍ الْحَنْبَلِيِّ الْبَغْدَادِيِّ.
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ فِي تَرْجَمَتِهِ: ((وَأَكْبَرُ تَصَانِيفِهِ ((كِتَابُ الْفُنُونِ))، وَهُوَ كِتَابٌ كَبِيرٌ جِدًّا فِيهِ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ جَلِيلَةٌ فِي الْوَعْظِ، وَالتَّفْسِيرِ، وَالْفِقْهِ، وَالْأَصْلَيْنِ، وَالنَّحْوِ، وَاللُّغَةِ، وَالشِّعْرِ، وَالتَّارِيخِ، وَالْحِكَايَاتِ، وَفِيهِ مُنَاظَرَاتُهُ وَمَجَالِسُهُ الَّتِي وَقَعَتْ لَهُ، وَخَوَاطِرُهُ وَنَتَائِجُ فِكْرِهِ، قَيَّدَهَا فِيهِ)).
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: ((وَكَانَ لَهُ الْخَاطِرُ الْعَاطِرُ، وَالْبَحْثُ عَنِ الْغَوَامِضِ وَالدَّقَائِقِ، وَجَعَلَ كِتَابَهُ الْمُسَمَّى بِـ((الْفُنُونِ)) مَنَاطًا لِخَوَاطِرِهِ وَوَاقِعَاتِهِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ وَاقِعَاتِهِ فِيهِ عَرَفَ غَوْرَ الرَّجُلِ)).
قَالَ سِبْطُ ابْنِ الْجَوْزِيِّ: ((وَاخْتَصَرَ مِنْهُ جَدِّي -يَعْنِي: الْعَالِمَ الْكَبِيرَ ابْنَ الْجَوْزِيِّ- اخْتَصَرَ مِنْهُ عَشْرَ مُجَلَّدَاتٍ فَرَّقَهَا فِي تَصَانِيفِهِ، وَقَدْ طَالَعْتُ مِنْهُ فِي بَغْدَادَ فِي وَقْفِ الْمَأْمُونِيَّةِ نَحْوًا مِنْ سَبْعِينَ، وَفِيهِ حِكَايَاتٌ، وَمُنَاظَرَاتٌ، وَغَرَائِبُ وَعَجَائِبُ، وَأَشْعَارٌ)).
قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ الرُّسْعَنِيُّ فِي ((تَفْسِيرِهِ)): قَالَ لِي أَبُو الْبَقَاءِ اللُّغَوِيُّ: ((سَمِعْتُ الشَّيْخَ أَبَا حَكِيمٍ النَّهْرَوَانِيَّ يَقُولُ: وَقَفْتُ عَلَى السِّفْرِ الرَّابِعِ بَعْدَ الثَّلَاثِ مِائَةٍ مِنْ ((كِتَابِ الْفُنُونِ)) )).
وَقَالَ الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَعَلَّقَ ((كِتَابَ الْفُنُونِ)) وَهُوَ أَزْيَدُ مِنْ أَرْبَعِ مِائَةِ مُجَلَّدٍ، حَشَدَ فِيهِ كُلَّ مَا كَانَ يَجْرِي لَهُ مَعَ الْفُضَلَاءِ وَالتَّلَامِذَةِ، وَمَا يَسْنَحُ لَهُ مِنَ الدَّقَائِقِ وَالْغَوَامِضِ، وَمَا يَسْمَعُهُ مِنَ الْعَجَائِبِ وَالْحَوَادِثِ)).
وَقَالَ -أَيْضًا- فِي ((تَارِيخِهِ)): ((لَمْ يُصَنَّفْ فِي الدُّنْيَا أَكْبَرُ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ)).
قَالَ الذَّهَبِيُّ: ((حَدَّثَنِي مَنْ رَأَى مِنْهُ الْمُجَلَّدَ الْفُلَانِيَّ بَعْدَ الْأَرْبَعِ مِائَةٍ)).
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ: ((وَأَخْبَرَنِي أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ الْقَزْوِينِيُّ بِبَغْدَادَ قَالَ: سَمِعْتُ بَعْضَ مَشَايِخِنَا يَقُولُ: هُوَ ثَمَانِي مِائَةٍ مِنَ الْمُجَلَّدَاتِ)).
كَيْفَ كَانَ ذَلِكَ؟!!
فَلْنَدَعِ ابْنَ عَقِيلٍ نَفْسَهُ لِيُخْبِرَنَا، قَالَ: ((إِنِّي لَا يَحِلُّ لِي أَنْ أُضَيِّعَ سَاعَةً مِنْ عُمُرِي، حَتَّى إِذَا تَعَطَّلَ لِسَانِي عَنْ مُذَاكَرَةٍ وَمُنَاظَرَةٍ، وَبَصَرِي عَنْ مُطَالَعَةٍ؛ أَعْمَلْتُ فِكْرِي فِي حَالِ رَاحَتِي وَأَنَا مُسْتَطْرِحٌ، فَلَا أَنْهَضُ إِلَّا وَقَدْ خَطَرَ لِي مَا أَسْطُرُهُ، وَإِنِّي لَأَجِدُ مِنْ حِرْصِي عَلَى الْعِلْمِ وَأَنَا فِي عَشْرِ الثَّمَانِينَ أَشَدَّ مِمَّا كُنْتُ أَجِدُهُ وَأَنَا ابْنُ عِشْرِينَ)).
وَيَقُولُ: ((وَأَنَا أُقَصِّرُ بِغَايَةِ جُهْدِي أَوْقَاتَ أَكْلِي؛ حَتَّى أَخْتَارُ سَفَّ الْكَعْكِ وَتَحَسِّيَهُ بِالْمَاءِ عَلَى الْخُبْزِ؛ لِأَجْلِ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ تَفَاوُتِ الْمَضْغِ -يَعْنِي: مِنَ الزَّمَانِ-؛ تَوَفُّرًا عَلَى مُطَالَعَةٍ، أَوْ تَوَفُّرًا عَلَى تَسْطِيرِ فَائِدَةٍ لَمْ أُدْرِكْهَا)).
وَهَذَا هُوَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ أَبُو الْفَرَجِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الْجَوْزِيُّ، الْمُتَوَفَّى سَنَةَ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِ مِائَةٍ (597هـ)، وَهُوَ أَحَدُ أَعْلَامِ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ يُقْتَدَى بِهِمْ فِي حِرْصِهِمْ عَلَى الزَّمَنِ، وَبُعْدِهِمْ عَنْ كُلِّ مَا يُضَيِّعُهُ، مِمَّا أَثْمَرَ هَذَا الَّذِي يَقُولُ سِبْطُهُ أَبُو الْمُظَفَّرِ عَنْهُ: وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ -أَيْ: سَمِعَ جَدَّهُ أَبَا الْفَرَجِ بْنَ الْجَوْزِيِّ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي آخِرِ عُمُرِهِ يَقُولُ-: ((كَتَبْتُ بِإِصْبُعَيَّ هَاتَيْنِ أَلْفَيْ مُجَلَّدَةٍ، وَتَابَ عَلَى يَدَيَّ مِائَةُ أَلْفٍ، وَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيَّ عِشْرُونَ أَلْفَ يَهُودِيٍّ وَنَصْرَانِيٍّ)).
وَيَقُولُ هُوَ عَنْ نَفْسِهِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَإِنِّي أُخْبَرُ عَنْ حَالِي؛ مَا أَشْبَعُ مِنْ مُطَالَعَةِ الْكُتُبِ، وَإِذَا رَأَيْتُ كِتَابًا لَمْ أَرَهُ فَكَأَنِّي وَقَعْتُ عَلَى كَنْزٍ، وَلَقَدْ نَظَرْتُ فِي ثَبَتِ الْكُتُبِ الْمَوْقُوفَةِ فِي الْمَدْرَسَةِ النِّظَامِيَّةِ، فَإِذَا بِهِ يَحْتَوِي عَلَى نَحْوِ سِتَّةِ آلَافِ مُجَلَّدٍ، وَفِي ثَبَتِ كُتُبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكُتُبِ الْحُمَيْدِيِّ، وَكُتُبِ شَيْخِنَا عَبْدِ الْوَهَّابِ الْأَنْمَاطِيِّ، وَابْنِ نَاصِرٍ، وَكُتُبِ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ الْخَشَّابِ، وَكَانَتْ أَحْمَالًا، وَنَظَرْتُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ كِتَابٍ أَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَلَوْ قُلْتُ -يَقُولُ -رَحِمَهُ اللهُ-- وَلَوْ قُلْتُ إِنِّي قَدْ طَالَعْتُ عِشْرِينَ أَلْفَ مُجَلَّدٍ كَانَ أَكْثَرَ، وَأَنَا بَعْدُ فِي الطَّلَبِ، فَاسْتَفَدْتُ بِالنَّظَرِ فِيهَا مِنْ مُلَاحَظَةِ سِيَرِ الْقَوْمِ، وَعَرَفْتُ قَدْرَ هِمَمِهِمْ، وَعَرَفْتُ حِفْظَهُمْ وَعِبَادَاتِهِمْ وَغَرَائِبَ عُلُومِهِمْ، عَرَفْتُ مَا لَا يَعْرِفُهُ مَنْ لَمْ يُطَالِعْ، فَصِرْتُ أَسْتَزْرِي مَا النَّاسُ فِيهِ، وَأَحْتَقِرُ هِمَمَ الطُّلَّابِ -وَللهِ الْحَمْدُ-)).
فَإِذَا كَانَ قَدْرَ مَا قَرَأَ وَهُوَ فِي الطَّلَبِ عِشْرُونَ أَلْفَ مُجَلَّدَةٍ، وَحَسْبُنَا أَنَّ صَفْحَاتِ الْمُجَلَّدِ الْوَاحِدِ فِي الْمُتَوَسِّطِ تَبْلُغُ حَوَالَيْ ثَلَاثِ مِائَةِ صَفْحَةٍ؛ فَكَانَ -حِينَئِذٍ- مِقْدَارُ مَا قَرَأَ يَرْبُو عَلَى سِتَّةِ مَلَايِينَ صَفْحَةً، فَقَرَأَ مَا يَزِيدُ عَلَى سِتَّةِ مَلَايِينَ مِنَ الصَّفْحَاتِ.
وَإِذَا كَانَ مَا كَتَبَ بِإِصْبَعَيْهِ أَلْفَيْ مُجَلَّدَةٍ؛ كَانَ مِقْدَارُ مَا كَتَبَ سِتَّ مِائَةِ أَلْفِ صَفْحَةٍ.
هَذَا مَا قَرَأَ وَنَسَخَ؛ فَمَا مِقْدَارُ مَا كَتَبَ وَصَنَّفَ؟!!
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((أَجْوِبَتِهِ الْمِصْرِيَّةِ)): ((كَانَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ مُفْتِيًا كَثِيرَ التَّصْنِيفِ وَالتَّأْلِيفِ، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ؛ حَتَّى عَدَدْتُهَا فَرَأَيْتُهَا أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ مُصَنَّفٍ، وَرَأَيْتُ بَعْدَ ذَلِكَ لَهُ مَا لَمْ أَرَهُ قَبْلُ)).
وَقَالَ الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ: ((وَمَا عَلِمْتُ أَحَدًا مِنَ الْعُلَمَاءِ صَنَّفَ مَا صَنَّفَ هَذَا الرَّجُلُ؛ حَيْثُ لَمْ يَدَعْ فَنًّا مِنَ الْفُنُونِ إِلَّا وَصَنَّفَ فِيهِ، مِنْهَا مَا هُوَ عِشْرُونَ مُجَلَّدًا، وَمِنْهَا مَا هُوَ فِي رِسَالَةٍ صَغِيرَةٍ)).
كَيْفَ اجْتَمَعَ لَهُ كُلُّ هَذَا وَعُمُرُهُ كَأَعْمَارِنَا، وَهُوَ يَحْيَا فِي الْحَيَاةِ كَمَا نَحْيَا، وَكَانَ لَهُ زَوْجَةٌ وَوَلَدٌ وَحَفَدَةٌ، وَلَهُ أَحْوَالٌ، وَجَرَتْ عَلَيْهِ مِحْنَةٌ حَتَّى كَادَ يُقْتَلُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-؟!!
كَيْفَ اجْتَمَعَ لَهُ هَذَا كُلُّهُ؟!!
يَقُولُ الْمُوَفَّقُ عَبْدُ اللَّطِيفِ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الذَّهَبِيُّ: ((إِنَّهُ كَانَ لَا يُضِيعُ مِنْ زَمَانِهِ شَيْئًا)).
وَيَقُولُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ نَفْسُهُ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((لَقَدْ رَأَيْتُ خَلْقًا كَثِيرًا يَجْرُونَ مَعِي فِيمَا قَدِ اعْتَادَهُ النَّاسُ مِنْ كَثْرَةِ الزِّيَارَةِ، وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ التَّرَدُّدَ خِدْمَةً، وَيَطْلُبُونَ الْجُلُوسَ، وَيَجْرُونَ فِي أَحَادِيثِ النَّاسِ وَمَا لَا يَعْنِي، وَيَتَخَلَّلُهُ غِيبَةٌ، وَهَذَا شَيْءٌ يَفْعَلُهُ فِي زَمَانِنَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَرُبَّمَا طَلَبَهُ الْمَزُورُ وَتَشَوَّقَ إِلَيْهِ، وَاسْتَوْحَشَ مِنَ الْوَحْدَةِ؛ وَخُصُوصًا فِي أَيَّامِ التَّهَانِي وَالْأَعْيَادِ، فَتَرَاهُمْ يَمْشِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَلَا يَقْتَصِرُونَ عَلَى الْهَنَاءِ وَالسَّلَامِ، بَلْ يَمْزُجُونَ ذَلِكَ بِمَا ذَكَرْتُهُ مِنْ تَضْيِيعِ الزَّمَانِ.
قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْتُ أَنَّ الزَّمَانَ أَشْرَفُ شَيْءٍ..)).
هُوَ الْآنَ يُوَصِّفُ حَالَةً مِنَ الْحَالَاتِ تَعْرِضُ لِلْخَلْقِ فِي الْحَيَاةِ، هُوَ يَقُولُ: يَتَرَدَّدُ عَلِيَّ النَّاسُ لِلزِّيَارَةِ، وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ التَّرَدُّدَ خِدْمَةً، وَيَطْلُبُونَ الْجُلُوسَ، وَيُجْرُونَ فِيهِ أَحَادِيثَ النَّاسِ وَمَا لَا يَعْنِي، وَيَتَخَلَّلُ ذَلِكَ غِيبَةٌ، وَرُبَّمَا طَلَبَ الْمَزُورُ ذَلِكَ وَتَشَوَّقَ إِلَيْهِ، وَرُبَّمَا اسْتَوْحَشَ مِنَ الْوَحْدَةِ، وَإِذَا كُنْتَ تَسْتَوْحِشُ مِنَ الْوَحْدَةِ فَلْنُكَبِّرْ عَلَيْكَ أَرْبَعًا، وَلْنَغْسِلْ يَدَيْنَا مِنْكَ؛ فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي مِنْكَ فِي الْعِلْمِ شَيْءٌ.
مَنِ اسْتَوْحَشَ مِنَ الْوَحْدَةِ، وَلَمْ يَصْبِرْ عَلَى الْعُزْلَةِ؛ لَا يَأْتِي مِنْهُ فِي الْعِلْمِ شَيْءٌ)).
وَكَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ -رَحِمَهُ اللهُ- أَصْبَرَ الْخَلْقِ عَلَى الْوَحْدَةِ، وَأَبْعَدَ النَّاسِ عَنِ الْخُلْطَةِ إِلَّا بِحَقٍّ؛ إِمَّا أَنْ يُعَلِّمَ، وَإِمَّا أَنْ يَقْضِيَ حَقًّا، وَإِمَّا أَنْ يَسْعَى فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ فَهُوَ أَبْعَدُ النَّاسِ عَنِ الْخُلْطَةِ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ عُزْلَةً، وَلَا يَسْتَوْحِشُ مِنْ وَحْدَةٍ قَطُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-.
مَاذَا صَنَعَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ؟!! وَهِيَ وَصْفَةٌ لِكُلِّ مَنِ ابْتُلِيَ بِهَذَا الْأَمْرِ الْكَبِيرِ فِي تَرَدُّدِ النَّاسِ عَلَيْهِ فِي الزِّيَارَةِ، يَعُدُّونَ ذَلِكَ التَّرَدُّدَ خِدْمَةً، وَرُبَّمَا اسْتَوْحَشَ الْمَزُورُ وَلَمْ يَبْقَ وَحْدَهُ.
قَالَ: ((لَمَّا رَأَيْتُ أَنَّ الزَّمَنَ أَشْرَفُ شَيْءٍ، وَرَأَيْتُ أَنَّ الْوَاجِبَ أَنْ أَنْتَهِزَ تِلْكَ الْفُرْصَةَ بِفِعْلِ الْخَيْرِ؛ كَرِهْتُ ذَلِكَ، وَبَقِيتُ مَعَهُمْ -يَعْنِي: بَيْنَ هَؤُلَاءِ الزَّائِرِينَ الْمُتَرَدِّدِينَ- بَيْنَ أَمْرَيْنِ؛ إِنْ أَنْكَرْتُ عَلَيْهِمْ وَقَعَتْ وَحْشَةٌ لِمَوْضِعِ قَطْعِ الْمَأْلُوفِ، وَإِنْ تَقَبَّلْتُهُ مِنْهُمْ ضَاعَ الزَّمَانُ، فَصِرْتُ أُدَافِعُ اللِّقَاءَ بِجُهْدِي، فَإِذَا غُلِبْتُ قَصَّرْتُ فِي الْكَلَامِ لِأَتَعَجَّلَ الْفِرَاقَ، ثُمَّ أَعْدَدْتُ أَعْمَالًا لِهَؤُلَاءِ الزَّائِرِينَ الْمُتَرَدِّدِينَ لَا تَمْنَعُ مِنَ الْمُحَادَثَةِ لِأَوْقَاتِ لِقَائِهِمْ؛ لِئَلَّا يَمْضِيَ الزَّمَانُ فَارِغًا، فَجَعَلْتُ مِنَ الْمُسْتَعَدِّ لِلِقَائِهِمْ.. جَعَلْتُ قَطْعَ الْكَاغَدِ -أَيْ: قَطْعَ الْأَوْرَاقِ، وَكَانُوا يَكْتُبُونَ عَلَيْهَا كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ-، وَبَرْيَ الْأَقْلَامِ، وَحَزْمَ الدَّفَاتِرِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا بُدَّ مِنْهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ وَالْعِالِمِ، وَهِيَ لَا تَحْتَاجُ إِلَى فِكْرٍ وَحُضُورِ قَلْبٍ، فَأَرْصَدْتُهَا لِأَوْقَاتِ زِيَارَتِهِمْ؛ لِئَلَّا يَضِيعَ شَيْءٌ مِنْ وَقْتِي)).
وَعَلَى سَنَنِ مَنْ سَبَقَ سَارَ مَنْ لَحِقَ؛ فَكُلُّ هَؤُلَاءِ لَا يَأْتِي مِنَ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ شَيْءٌ إِلَّا إِذَا فَرَّغَ وَقْتَهُ لِلطَّلَبِ، وَلِلْعِبَادَةِ وَالذِّكْرِ، مَعَ الْإِخْلَاصِ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
احْفَظْ زَمَانَكَ، وَاشْغَلْ نَفْسَكَ بِمَا يَنْفَعُكَ، وَكُنْ مِنْ أَهْلِ زَمَانِكَ عَلَى حَذَرٍ؛ فَنَحْنُ فِي زَمَانٍ قَدْ مَرِجَتْ فِيهِ الْأَمَانَاتُ، وَخَفَّتْ فِيهِ الْعُهُودُ، وَاضْطَرَبَ فِيهِ أَمْرُ النَّاسِ؛ فَانْجُ بِنَفْسِكَ يَا مِسْكِينُ.
((الْغَيْرَةُ عَلَى الْوَقْتِ))
عِبَادَ اللهِ! مَا مِنْ يَوْمٍ يَنْشَقُّ فَجْرُهُ إِلَّا وَيُنَادِي مُنَادٍ: ((يَا ابْنَ آدَمَ! أَن أَنَا خَلْقٌ جَدِيدٌ، وَعَلَى عَمَلِكَ شَهِيدٌ؛ فَتَزَوَّدْ مِنِّي؛ فَإِنِّي إِذَا مَضَيْتُ لَا أَعُودُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)).
قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- وَهُوَ يَتَحَدَّثُ عَنْ مَنْزِلَةِ الْغَيْرَةِ، وَشُمُولِهَا لِكَثِيرٍ مِنَ الْأُمُورِ، فَذَكَرَ الْغَيْرَةَ عَلَى الْوَقْتِ، فَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الْغَيْرَةُ عَلَى وَقْتٍ فَاتَ، وَهِيَ غَيْرَةٌ قَاتِلَةٌ؛ فَإِنَّ الْوَقْتَ وَحِيُّ التَّقَضِّي -أَيْ: سَرِيعُ الِانْقِضَاءِ-، أَبِيُّ الْجَانِبِ، بَطِيءُ الرُّجُوعِ، وَالْوَقْتُ عِنْدَ الْعَابِدِ هُوَ وَقْتُ الْعِبَادَةِ وَالْأَوْرَادِ، وَعِنْدَ الْمُرِيدِ هُوَ وَقْتُ الْإِقْبَالِ عَلَى اللهِ، وَالْجَمْعِيَّةِ عَلَيْهِ وَالْعُكُوفِ عَلَيْهِ بِالْقَلْبِ كُلِّهِ، وَالْوَقْتُ أَعَزُّ شَيْءٍ عَلَيْهِ -الْوَقْتُ أَعَزُّ شَيْءٍ عَلَى الْمُسْلِمِ، عَلَى الْعَابِدِ الْفَاهِمِ الْمُوَفَّقِ-، الْوَقْتُ أَعَزُّ شَيْءٍ عَلَيْهِ، يَغَارُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْقَضِيَ بِدُونِ ذَلِكَ، فَإِنْ فَاتَهُ الْوَقْتُ لَا يُمْكِنُهُ اسْتِدْرَاكُهُ الْبَتَّةَ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ الثَّانِيَ قَدِ اسْتَحَقَّ وَاجِبَهُ الْخَاصَّ، فَإِذَا فَاتَهُ وَقْتٌ فَلَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى تَدَارُكِهِ، وَمَعْنَى أَنَّهَا غَيْرَةٌ قَاتِلَةٌ؛ أَيْ: إِنَّ أَثَرَهَا يُشْبِهُ الْقَتْلَ؛ لِأَنَّ حَسْرَةَ الْفَوْتِ قَاتِلَةٌ؛ وَلَاسِيَّمَا إِذَا عَلِمَ الْمُتَحَسِّرُ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى الِاسْتِدْرَاكِ؛ لِأَنَّ مَا فَاتَ مِنْ عُمُرِكَ فَإِنَّكَ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَسْتَدْرِكَهُ، فَالْغَيْرَةُ عَلَى فَوَاتِهِ غَيْرَةٌ قَاتِلَةٌ.
وَأَيْضًا فَالْغَيْرَةُ عَلَى التَّفْوِيتِ تَفْوِيتٌ آخَرُ، كَمَا يُقَالُ: الِاشْتِغَالُ بِالنَّدَمِ عَلَى الْوَقْتِ الْفَائِتِ تَضْيِيعٌ لِلْوَقْتِ الْحَاضِرِ؛ وَلِذَلِكَ يُقَالُ: ((الْوَقْتُ كَالسَّيْفِ؛ إِنْ لَمْ تَقْطَعْهُ قَطَعَكَ)).
فَالْوَقْتُ مُنْقَضٍ بِذَاتِهِ، مُنْصَرِمٌ بِنَفْسِهِ، فَمَنْ غَفَلَ عَنْ نَفْسِهِ تَصَرَّمَتْ أَوْقَاتُهُ، وَعَظُمَ فَوَاتُهُ، وَاشْتَدَّتْ حَسْرَتُهُ، وَعَظُمَتْ بَلْوَتُهُ؛ فَكَيْفَ حَالُهُ إِذَا عَلِمَ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْفَوْتِ مِقْدَارَ مَا أَضَاعَ، وَطَلَبَ الرُّجْعَى، فَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاسْتِرْجَاعِ، وَطَلَبَ تَنَاوُلَ الْفَائِتِ، وَكَيْفَ يُرَدُّ الْأَمْسُ فِي الْيَوْمِ الْجَدِيدِ، وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ، وَمُنِعَ مِمَّا يُحِبُّهُ وَيَرْتَضِيهِ، وَعَلِمَ أَنَّ مَا اقْتَنَاهُ لَيْسَ مِمَّا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَقْتَنِيَهُ، وَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهِيهِ؟!
فَيَا حَسَرَاتٍ مَا إِلَى رَدِّ مِثْلِهَا = سَبِيلٌ وَلَوْ رُدَّتْ لَهَانَ التَّحَسُّرُ
هِيَ الشَّهَوَاتُ اللَّائِي كَانَتْ = تَحَوَّلَتْ إِلَى حَسَرَاتٍ حِينَ عَزَّ التَّبَصُّرُ
فَلَوْ أَنَّهَا رُدَّتْ بِصَبْرٍ وَقُوَّةٍ تَحُولَنَّ = لَذَّاتٍ وَذُو السَّلْبِ يُبْصِرُ
فَإِذَا مَرَّ الْوَقْتُ فَلَنْ يَعُودَ، فَإِذَا انْشَغَلْتَ بِالْغَيْرَةِ عَلَيْهِ، وَالنَّدَمِ عَلَى مَا فَاتَ؛ ضَيَّعْتَ وَاجِبَ الْوَقْتِ الْحَاضِرِ، فَهَذِهِ خَسَارَةٌ حَاضِرَةٌ بِجِوَارِ الْخَسَارَةِ الْمَاضِيَةِ الْفَائِتَةِ، فَمَا يَزَالُ الْعَبْدُ فِي خَسَارَاتٍ مُتَتَالِيَاتٍ -نَسْأَلُ اللهَ الْعَافِيَةَ وَالسَّلَامَةَ-.
الْوَارِدَاتُ سَرِيعَةُ الزَّوَالِ، تَمُرُّ أَسْرَعَ مِنَ السَّحَابِ، وَيَنْقَضِي الْوَقْتُ بِمَا فِيهِ، فَلَا يَعُودُ عَلَيْكَ مِنْهُ إِلَّا أَثَرُهُ وَحُكْمُهُ؛ فَاخْتَرْ لِنَفْسِكَ مَا يَعُودُ عَلَيْكَ مِنْ وَقْتِكَ؛ فَإِنَّهُ عَائِدٌ عَلَيْكَ لَا مَحَالَةَ؛ لِهَذَا يُقَالُ لِلسُّعَدَاءِ فِي الْجَنَّةِ: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 24]، وَيُقَالُ لِلْأَشْقِيَاءِ الْمُعَذَّبِينَ فِي النَّارِ: {ذَٰلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ} [غافر: 75])).
فَلَا بُدَّ مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَيْهِ؛ فَاحْذَرْ أَنْ تَضِيعَ مِنْكَ ثَانِيَةٌ؛ فَإِنَّمَا هِيَ بَعْضُ عُمُرِكَ، وَإِنَّمَا أَنْتَ أَيَّامٌ، ((يَا ابْنَ آدَمَ! إِنَّمَا أَنْتَ أَيَّامٌ، فَكُلَّمَا مَرَّ يَوْمٌ مَرَّ بَعْضُكَ))، إِنَّمَا أَنْتَ أَيَّامٌ، فَإِذَا انْقَضَى يَوْمٌ انْقَضَى بَعْضُكَ حَتَّى تُقْبِلَ عَلَى رَبِّكَ.
مَا مِنْ جَوَادٍ إِلَّا وَلَهُ كَبْوَةٌ، وَهَذَا شَأْنُ النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَهَذَا مَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ الطَّبِيعَةُ الْبَشَرِيَّةُ؛ لِتَعْرِفَ قَدْرَهَا، وَتَرُومَ وَصْلَهَا بِمَا يُرْضِي الْمَوْلَى رَبَّهَا، فَالِاعْتِبَارُ عِنْدَ الْكَبْوَةِ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ الْعَاجِزِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ مِنَ اعْتِبَارِهِ إِلَّا الشَّكْوَى وَالتَّحَسُّرُ عَلَى تَفْوِيتِ حَقِّ الْوَقْتِ الْحَاضِرِ، وَلَيْسَ اعْتِبَارَ الْقَاصِرِ الَّذِي يَقْصُرُ بِهِ اعْتِبَارُهُ بِالْعَوْدَةِ إِلَى مَا كَانَ، وَإِنَّمَا هُوَ اعْتِبَارُ الْمُوَفَّقِ الْبَصِيرِ الَّذِي يُمْعِنُ فِي السَّبَبِ وَالْمَحَلِّ، ثُمَّ يَعْمَلُ عَلَى إِصْلَاحِهِ وَتَقْوِيمِهِ، ثُمَّ يَأْخُذُ بِكُلِّ مَا يَجْعَلُهُ أَقْعَدَ أَرْسَخَ وَأَمْضَى.
وَمَا الْمَرْءُ إِلَّا رَاكِبٌ ظَهْرَ عُمُرِهِ = عَلَى سَفَرٍ يُفْنِيهِ بِالْيَوْمِ وَالشَّهْرِ
يَبِيتُ وَيُضْحِي كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ = بَعِيدًا عَنِ الدُّنْيَا قَرِيبًا مِنَ الْقَبْرِ
((وَاجِبَاتُ الْوَقْتِ وَالْحِرْصُ عَلَى الثَّوَانِي قَبْلَ الدَّقَائِقِ))
عَلَى الْمُسْلِمِ وَاجِبَاتٌ نَحْوَ الْوَقْتِ، وَأَوَّلُ ذَلِكَ: أَنْ يَحْرِصَ عَلَى الثَّوَانِي قَبْلَ الدَّقَائِقِ، وَعَلَى الدَّقَائِقِ قَبْلَ السَّاعَاتِ.
وَلْيَعْلَمْ أَنَّ أَعْظَمَ سَارِقٍ يَسْرِقُهُ وَأَسْخَفَهُ مَنْ يَسْرِقُ عُمُرَهُ؛ لِأَنَّهُ إِنْ سَرَقَ مَالَكَ فَقَدْ سَرَقَ الْفَرْعَ، وَبَقِيَ لَكَ الْأَصْلُ، وَأَمَّا أَنْ يَسْرِقَ الْأَصْلَ.. لِأَنَّ الْوَقْتَ هُوَ أَصْلُ الْمَالِ، وَالْمَالُ فَرْعُ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ بَذْلُ مَجْهُودٍ يُحَصَّلُ بِهِ الْمَالُ فِي زَمَنٍ، فَالزَّمَنُ الْأَصْلُ، فَمَنْ سَرَقَ وَقْتَكَ فَقَدْ سَرَقَ أَصْلَكَ، وَلَمْ يُبْقِ عَلَيْكَ شَيْئًا، فَهُوَ قَدِ اعْتَدَى عَلَيْكَ بِأَشَدَّ مِمَّا يَعْتَدِي عَلَيْكَ مَنْ يَسْرِقُ مَالَكَ؛ فَإِنَّ الْمَالَ يُمْكِنُ أَنْ يُحَصَّلَ، وَأَمَّا الزَّمَانُ فَقَدْ مَضَى وَانْقَضَى، وَلَنْ يَعُودَ.
فَأَوَّلُ وَاجِبٍ عَلَيْكَ نَحْوَ وَقْتِكَ وَعُمُرِكَ وَرَأْسِ مَالِكَ: أَنْ تَحْرِصَ عَلَى الثَّوَانِي قَبْلَ الدَّقَائِقِ، وَعَلَى الدَّقَائِقِ قَبْلَ السَّاعَاتِ.
فَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُحَافِظَ عَلَى وَقْتِهِ، وَأَنْ يَغْتَنِمَ الدَّقَائِقَ قَبْلَ السَّاعَاتِ فِي كُلِّ مَا يَعُودُ بِالْخَيْرِ عَلَيْهِ وَعَلَى أُمَّتِهِ الْمُسْلِمَةِ.
وَكَانَ السَّلَفُ أَحْرَصَ مَا يَكُونُونَ عَلَى أَوْقَاتِهِمْ، وَقَدْ مَرَّ بَعْضُ شَيْءٍ مِنْ ذِكْرِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ-.
وَاحْذَرْ قَتَلَةَ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ هَذَا الَّذِي مَرَّ ذِكْرُهُ كَانَ مِنْ دَأْبِ سَلَفِنَا الصَّالِحِينَ، يُقَدِّرُونَ قِيمَةَ الْوَقْتِ وَخَطَرَهُ، وَكَانُوا يَأْتُونَ بِأُمُورٍ كَالْعَجَائِبِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا، وَأَمَّا نَحْنُ فَإِنَّنَا نَأْتِي بِمَا يُدَمِّي الْقُلُوبَ، وَيُمَزِّقُ الْأَكْبَادَ أَسًى وَأَسَفًا مِمَّا تَرَاهُ بَيْنَنَا نَحْنُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ إِضَاعَةٍ لِلْأَوْقَاتِ فَاقَتْ حَدَّ التَّبْذِيرِ إِلَى التَّبْدِيدِ، وَالْحَقُّ أَنَّ السَّفَهَ فِي إِنْفَاقِ الْأَوْقَاتِ أَشَدُّ خَطَرًا مِنَ السَّفَهِ فِي إِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا ثَبَتَتْ سَفَاهَتُهُ فِي إِنْفَاقِ مَالِهِ حُجِرَ عَلَيْهِ، وَأَخْطَرُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ سَفِيهًا فِي تَبْدِيدِ عُمُرِه؛ لِأَنَّهُ يُبَدِّدُ الْأَصْلَ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَنْ تَجِدَ أَحَدًا أَبَدًا قَدْ حُجِرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يُبَدِّدُ وَقْتَهُ، وَيُفْنِي عُمُرَهُ.
إِلَى هَؤُلَاءِ الْمُبَذِّرِينَ الْمُبَدِّدِينَ لِأَوْقَاتِهِمْ: اتَّقُوا اللهَ! وَلَأَنْتُمْ أَحَقُّ بِالْحَجْرِ عَلَيْكُمْ مِنَ الْمُبَذِّرِينَ لِأَمْوَالِهِمْ؛ لِأَنَّ الْمَالَ إِذَا ضَاعَ قَدْ يُعَوَّضُ، وَالْوَقْتُ إِذَا ضَاعَ لَا عِوَضَ لَهُ.
اتَّقِ اللهَ فِي عُمُرِكَ!
اتَّقِ اللهَ فِي أَيَّامِكَ وَلَيَالِيكَ!
اتَّقِ اللهَ فِي الثَّوَانِي قَبْلَ الدَّقَائِقِ، وَفِي الدَّقَائِقِ قَبْلَ السَّاعَاتِ؛ فَإِنَّ الْعُمُرَ يَرْحَلُ بِكَ، وَالْعَجْزَ آتِيكَ لَا مَحَالَةَ، وَإِنْ كَبُرْتَ فِي السِّنِّ أَدْرَكَتْكَ الشَّيْخُوخَةُ، وَعَلَاكَ الْمَشِيبُ، وَأَصَابَكَ الْعَجْزُ، فَتَتَمَنَّى لَوْ أَنَّكَ كُنْتَ ذَا صِحَّةٍ حَتَّى تَسْتَدْرِكَ، وَهَيْهَاتَ! لِذَلِكَ أَمَرَ الرَّسُولُ ﷺ بِاغْتِنَامِ الصِّحَّةِ قَبْلَ الْمَرَضِ، وَبِاغْتِنَامِ الشَّبَابِ قَبْلَ الشَّيْخُوخَةِ وَالشَّيْبِ، وَبِاغْتِنَامِ الْغِنَى قَبْلَ الْفَقْرِ.
النَّبِيُّ ﷺ أَمَرَنَا بِالْحِرْصِ عَلَى الْوَقْتِ، وَأَمَّا نَحْنُ فَلَا نَلْتَفِتُ إِلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا نُضَيِّعُهُ تَضْيِيعًا؛ حَتَّى صَدَقَ عَلَيْنَا أَنَّا مِنْ قَتَلَةِ الْوَقْتِ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ يَسْتَوْجِبُونَ الْحَجْرَ عَلَيْهِمْ.
فَنَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَهْدِيَنَا جَمِيعًا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.
الَّذِي يُبَدِّدُ وَقْتَهُ يَنْتَحِرُ انْتِحَارًا بَطِيئًا؛ لِأَنَّهُ يَنْتَحِرُ عَلَى مَرْأَى وَمَسْمَعٍ مِنَ النَّاسِ، وَبِطَرِيقَةٍ لَا يُعَاقِبُ عَلَيْهَا أَحَدٌ، وَكَيْفَ يُعَاقِبُ عَلَيْهَا مَنْ هُوَ مُتَلَبِّسٌ بِهَا وَوَاقِعٌ فِيهَا؟!!
كَيْفَ يُعَاقِبُ الْمُنْتَحِرَ الْبَطِيءَ بِقَتْلِ وَقْتِهِ مَنْ هُوَ -أَيْضًا- قَاتِلٌ لِوَقْتِهِ؟!!
فَهَذَا أَمْرٌ كَبِيرٌ قَلَّ مَنْ يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ، وَلَا سَعَادَةَ وَلَا وُصُولَ إِلَى مَبْغًى وَلَا تَحْصِيلَ لِغَايَةٍ إِلَّا بِتَحْصِيلِ هَذَا الْأَصْلِ أَوَّلًا؛ أَنْ تَعْرِفَ قَدْرَ الزَّمَانِ، وَأَنْ تَعْرِفَ شَرَفَ الْعُمُرِ، وَأَنْ تَحْرِصَ عَلَى أَنْفَاسِكَ؛ لِأَنَّ النَّفَسَ إِذَا خَرَجَ فَلَنْ يَعُودَ، وَهُوَ يُقَرِّبُكَ مِنَ النِّهَايَةِ نَفَسًا، وَالنَّاسُ لَا يَلْتَفِتُونَ، وَهَذَا أَمْرٌ -وَاللهِ- مِنْ أَعْجَبِ الْعَجَبِ تَمَامًا، كَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((لَمْ أَرَ حَقًّا لَا رَيْبَ فِيهِ أَشْبَهَ بِبَاطِلٍ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنَ الْمَوْتِ)).
فَكُلُّ النَّاسِ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّهُمْ سَيَمُوتُونَ، وَمَا تَرَى إِلَّا النَّزْرَ الْيَسِيرَ -إِنْ رَأَيْتَ- مَنْ يَعْمَلُ عَمَلَ مَنْ سَيَمُوتُ، فَكُلُّ إِنْسَانٍ عَلَى يَقِينٍ لَا يَتَخَلَّفُ، لَا مِرْيَةَ فِيهِ وَلَا شَكَّ يَعْتَرِيهِ؛ كُلُّ إِنْسَانٍ عَلَى يَقِينٍ أَنَّهُ سَيَمُوتُ.
وَلَكِنْ هَلْ يَجْمُلُ بِمَنْ كَانَ عَلَى يَقِينٍ أَنَّهُ سَيَمُوتُ أَنْ يَعْمَلَ عَمَلَ مَنْ لَنْ يَمُوتَ؟!!
هَذَا أَمْرٌ عَجِيبٌ!!
فَتَرَانَا وَنَحْنُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّنَا سَنَمُوتُ نَعْمَلُ عَمَلَ الْمُخَلَّدِينَ الَّذِينَ لَنْ يَمُوتُوا، وَهَذَا مِنَ الْعَجَبِ الْعَاجِبِ، وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ!!
أَكْثَرُ النَّاسِ لَا يَعْرِفُونَ قِيمَةَ الْوَقْتِ، وَلَا شَرَفَ الزَّمَانِ، وَتَرَى بَعْضَهُمْ يَقْضِي السَّاعَاتِ الطَّوِيلَةَ فِي أَمَاكِنِ اللَّهْوِ وَتَضْيِيعِ الْأَوْقَاتِ، فِي مَوَاطِنِ الْفُجُورِ، أَوْ أَمَامَ مَا لَا يَكُونُ لَهُ وَلَا عَلَيْهِ، لَا يَدْرِي أَنَّهُ بِذَلِكَ يَقْتُلُ نَفْسَهُ قَتْلًا بَطِيئًا.
لَوْ جَلَسَ يَقْرَأُ فِي كِتَابِ اللهِ -تَعَالَى- لَاسْتَطَاعَ أَنْ يَقْرَأَ ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ وَنِصْفًا فِي ثَلَاثِ سَاعَاتٍ -مَثَلًا-، فَيَتَحَصَّلُ عَلَى مَا يَقْرُبُ مِنْ مِلْيُونَ حَسَنَةً؛ لِأَنَّ الثَّمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ وَالنِّصْفَ تَحْتَوِي عَلَى مَا يَقْرُبُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ حَرْفٍ، وَالْحَرْفُ بِعَشْرِ حَسَنَاتٍ، فَيَكُونُ الْمَجْمُوعُ مِلْيُونًا مِنَ الْحَسَنَاتِ؛ وَلَكِنَّهُمْ يَعْكُفُونَ عَلَى: مَنْ سَيَرْبَحُ الْمِلْيُونَ!!
هَذَا (مَنْ سَيَرْبَحُ الْمِلْيُونَ) فِي أَنْ يُمَضِّيَ هَذَا الْوَقْتَ، هَذَا الْوَقْتُ فَقَطْ فِي تِلَاوَةِ كِتَابِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، فَإِنْ فَعَلَ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَرْبَحُ الْمِلْيُونَ.
الْقَلْبُ لَا يَصْلُحُ إِلَّا مَعَ اللهِ، وَلَا يَصْلُحُ إِلَّا بِاللهِ.
لَا يَصْلُحُ الْقَلْبُ إِلَّا بِسُنَّةِ الرَّسُولِ ﷺ.
عَلَيْنَا أَنْ نَتَّقِيَ اللهَ فِي أَوْقَاتِنَا، فَإِنْ لَمْ نَتَّقِ اللهَ فِي أَوْقَاتِنَا فَلْنَتَّقِ اللهَ فِي أَوْقَاتِ إِخْوَانِنَا.
مَنْ شَاءَ أَنْ يُضَيِّعَ عُمُرَهُ فَلْيُضَيِّعْهُ، فَلْيَفْعَلْ فِي عُمُرِهِ مَا يَشَاءُ؛ وَلَكِنْ فَلْيَتَّقِ اللهَ فِي عُمُرِ أَخِيهِ، لَا تُبَدِّدْ عَلَى أَخِيكَ عُمُرَهُ وَرَأْسَ مَالِهِ.
إِذَا كُنْتَ أَنْتَ تُضَيِّعُ عُمُرَكَ فَشَأْنُكَ، ضَيِّعْهُ مَا شِئْتَ، وَأَنْتَ مَسْؤُولٌ عَنْهُ؛ وَلَكِنِ اتَّقِ اللهَ فِي أَعْمَارِ إِخْوَانِكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
لَا تَتَكَلَّمْ إِلَّا بِخَيْرٍ، وَلَا تَسْعَ إِلَّا إِلَى فَضْلٍ؛ عَسَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْكَ نَظْرَةَ رَحْمَةٍ لَا يَسْخَطُ عَلَيْكَ مِنْ بَعْدِهَا أَبَدًا.
((كَيْفِيَّةُ اسْتِثْمَارِ الْوَقْتِ))
إِنَّ الْوَقْتَ ثَمِينٌ أَعَزُّ مِنَ الذَّهَبِ؛ فَيَنْبَغِي أَنْ يُشْغَلَ الْمَرْءُ بِمَا يَنْفَعُ؛ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَالذِّكْرِ، بِحُضُورِ مَجَالِسِ الْعِلْمِ وَحَلْقَاتِ الْعِلْمِ، بعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، بِالْإِكْثَارِ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، بِالْجُلُوسِ فِي بَيْتِهِ يَذْكُرُ اللهَ، وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَيَسْتَغْفِرُ وَيَدْعُو، يَعْنِي: يَسْتَغِلُّ الْوَقْتَ؛ حَتَّى لَا يَضِيعَ عَلَيْهِ.
وَمِنْ أَحْسَنِ مَا يَسْتَغِلُّهُ فِيهِ: قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، وَالْإِكْثَارُ مِنْ ذِكْرِ اللهِ، وَالصَّلَاةُ تَطَوُّعًا.
فَإِذَا تَيَسَّرَ لَهُ أَنْ يَعُودَ مَرِيضًا مِنْ إِخْوَانِهِ، أَوْ يَزُورَ صَدِيقًا لَهُ يُعِينُهُ عَلَى الْخَيْرِ، أَوْ يَذْهَبَ إِلَى حَلْقَةِ عِلْمٍ -إِنْ وُجِدَتْ- يَحْضُرُهَا، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ، يَعْنِي: هَذَا الْوَقْتُ يَحْفَظُهُ فِيمَا يَنْفَعُهُ فِي دِينِهِ أَوْ فِي دُنْيَاهُ، أَوْ فِي مَزْرَعَتِهِ لِسَقْيِهَا وَالْقِيَامِ بِحَاجَاتِهَا، أَوْ فِي السُّوقِ لِطَلَبِ الرِّزْقِ.. سُوقِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لِطَلَبِ الرِّزْقِ، وَيَتَحَرَّى الْحَلَالَ، وَيَحْذَرُ شَهَادَةَ الزُّورِ، وَيَحْذَرُ الْكَذِبَ، وَيَحْذَرُ الْغِشَّ.
فَاحْرِصْ -أَيُّهَا الْمُسْلِمُ- عَلَى أَوْقَاتِكَ وَسَاعَاتِكَ؛ حَتَّى لَا تَضِيعَ سُدًى، وَاجْعَلْ لَكَ نَصِيبًا مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ ﷺ: «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: حَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وشَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ». أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَاحْرِصْ أَنْ تَكُونَ مِنْ خِيَارِ النَّاسِ، كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللهِ ﷺ؛ فَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَجُلًا قَالَ: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟)).
قَالَ ﷺ: «مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ».
قَالَ: ((فَأَيُّ النَّاسِ شَرٌّ؟)).
قَالَ ﷺ: «مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ». أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
عَوِّدْ نَفْسَكَ عَلَى ذِكْرِ اللهِ فِي كُلِّ حِينٍ وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلْيَكُنْ لِسَانُكَ رَطْبًا بِذِكْرِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَحَافِظْ عَلَى الْأَدْعِيَةِ الْمَعْرُوفَةِ وَالْأَوْرَادِ الشَّرْعِيَّةِ.
قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب: 41-42].
وَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35].
قَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ورَوَى عن رَسُولِ اللهِ ﷺ أنه قال: «سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ».
قَالُوا: وَمَا الْمُفَرِّدُونَ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: «الذَّاكِرُونَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ».
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَنْ يَعْمَلَ أَحَدٌ لَكَ بَعْدَ مَوْتِكَ؛ مِنْ صَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَغَيْرِهَا؛ فَهُبَّ إِلَى الْإِكْثَارِ مِنْ ذِكْرِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَالتَّزَوُّدِ مِنَ الطَّاعَاتِ وَالْقُرُبَاتِ.
وَاحْرِصْ عَلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ كُلَّ يَوْمٍ، وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضْلِ الْقُرْآنِ مَا تَقَرُّ بِهِ النُّفُوسُ، وَتَهْنَأُ بِهِ الْقُلُوبُ؛ فَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ: {الم} حَرْفٌ، وَلَكِنْ: أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ». أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ؛ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَعْتَصِمَ بِاللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَأَنْ يَسْلُكَ سَبِيلَ الطَّلَبِ عَلَى نَهْجِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ؛ فَفِي هَذَا النَّجَاةُ، وَلَا نَجَاةَ إِلَّا فِيهِ؛ فَإِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- جَعَلَ النَّجَاةَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهُمَا مَعْدِنُ الْعِلْمِ وَأَصْلُهُ، فَمَهْمَا تَرَكَ الْإِنْسَانُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وَتَنَكَّبَهُمَا وَاسْتَدْبَرَهُمَا، وَجَعَلَهُمَا دَبْرَ أُذُنَيْهِ وَخَلْفَ ظَهْرِهِ؛ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا.
فَمَنْ أَرَادَ النَّجَاةَ حَقًّا وَصِدْقًا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا الَّتِي تَمُوجُ بِالْفِتَنِ مَوْجَ الْبَحْرِ، وَهِيَ تَتَلَاطَمُ بِأَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ وَقَدْ عَلَتْ أَصْوَاتُهُمْ، فَتَسَنَّمُوا كُلَّ ذِرْوَةٍ، وَعَلَوْا كُلَّ مِنْبَرٍ، وَصَارَ صَوْتُهُمْ عَالِيًا قَوِيًّا، وَإِنَّمَا هُمْ فِي النِّهَايَةِ غُثَاءٌ، مَنْ أَرَادَ النَّجَاةَ وَالْحَالَ هَذِهِ فَعَلَيْهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِفَهْمِ الصَّحَابَةِ سَلَفِ الأُمَّةِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ.
إِنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ خَيْرُ مَا بُذِلَتْ فِيهِ الْأَعْمَارُ، وَأُلْحِقَ فِيهِ اللَّيْلُ بِالنَّهَارِ.
الْعِلْمُ أَشْرَفُ مَطْلوبٍ وَطَالِبُهُ * * * للهِ أَكْـرَمُ مَنْ يَمْشِي عَلَى قَدَمِ
الْعِلْمُ نُورٌ مُبِينٌ يَسْتَضِيءُ بِهِ * * * أَهْـلُ السَّعَادَةِ وَالْجُهَّالُ فِي الظُّلَمِ
الْعِلْمُ أَعْلَى وَأَحْلَى مَا لَهُ اسْتَمَعَتْ * * * أُذْنٌ وَأَعْـرَبَ عَنْهُ نَاطِقٌ بِفَمِ
وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ كَمَا فِي حَدِيثِ ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ الْجَهْلَ وَالْجُهَّالَ سَبَبُ الضَّلَالِ وَالْإِضْلَالِ، قَالَ ﷺ: «إِنَّ اللهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ؛ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا».
وَمَفْهُومُ هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّ الْعِلْمَ وَالْعُلَمَاءَ سَبَبُ الْهِدَايَةِ وَالِاهْتِدَاءِ؛ لِذَا كَانَ مِنَ النِّيَّةِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ: الدِّفَاعُ عَنِ الشَّرِيعَةِ؛ لِأَنَّ الْكُتُبَ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُدَافِعَ عَنِ الشَّرِيعَةِ، إِنَّمَا يُدَافِعُ عَنِ الشَّرِيعَةِ حَامِلُهَا.
وَاحْرِصْ عَلَى أَنْ تُسَاهِمَ فِي أَمْرِ الدَّعْوَةِ؛ فَإِنَّ الدَّعْوَةَ مُهِمَّةُ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالدُّعَاةِ وَالْمُصْلِحِينَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ». أَخْرَجَاهُ.
قَالَ الْحَسَنُ -رَحِمَهُ اللهُ-: «فَمَقَامُ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ أَفْضَلُ مَقَامَاتِ الْعَبْدِ».
أَيُّهَا الْمُسْلِمُ! احْذَرْ أَنْ يَضِيعَ عُمُرُكَ فِي الْمَعَاصِي الْمُهْلِكَاتِ، قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: «وَبِالْجُمْلَةِ؛ فَإنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَعْرَضَ عَنِ اللَّهِ، وَاشْتَغَلَ بِالْمَعَاصِي؛ ضَاعَتْ عَلَيْهِ أَيَّامُ حَيَاتِهِ الْحَقِيقِيَّةِ الَّتِي يَجِدُ غِبَّ إِضَاعَتِهَا يَوْمَ يَقُولُ: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [سُورَةُ الْفَجْرِ: 24]».
فَاحْذَرْ مَجَالِسَ الْفَارِغِينَ، وَاحْفَظْ لِسَانَكَ مِنَ الْغِيبَةِ، وَالنَّمِيمَةِ، وَفَاحِشِ الْقَوْلِ، وَاحْبِسْ لِسَانَكَ عَنْ كُلِّ مَا يُغْضِبُ اللهَ، وَأَلْزِمْ نَفْسَكَ الْكَلَامَ الطَّيِّبَ الْجَمِيلَ، وَلْيَكُنْ لِسَانُكَ رَطْبًا بِذِكْرِ اللهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ يَوْمٍ يَعِيشُهُ الْمُؤْمِنُ فَهُوَ غَنِيمَةٌ.
عِبَادَ اللهِ! النَّبِيُّ ﷺ أَرْشَدَنَا أَنْ يَأْخُذَ الْوَاحِدُ مِنَّا مِنْ صِحَّتِهِ لِمَرَضِهِ، وَأَنْ يَأْخُذَ الْإِنْسَانُ مِنَّا مِنْ شَبَابِهِ لِشَيْبَتِهِ -لِكِبَرِهِ-.
((التَّحْذِيرُ مِنَ التَّسْوِيفِ وَطُولِ الْأَمَلِ))
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! إِنَّهُ لَا أَضَرَّ عَلَى الْعَبْدِ فِي حَيَاتِهِ مِنْ طُولِ أَمَلِهِ، وَنِسْيَانِ لِقَاءِ رَبِّهِ وَخَالِقِهِ؛ وَذَلِكَ لِمَا يُورِثُهُ طُولُ الْأَمَلِ مِنَ الْغَفْلَةِ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ، وَالتَّهَاوُنِ فِي ارْتِكَابِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَالتَّقْصِيرِ فِي الْوَاجِبَاتِ، وَمَا عَلِمَ هَذَا الْمِسْكِينُ أَنَّهُ إِلَى اللهِ رَاحِلٌ؛ فَاحْذَرِ التَّسْوِيفَ؛ فَإِنَّهُ عَجْزٌ وَكَسَلٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا أَضَرَّ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنَ (السِّينِ، وَسَوْفَ)، وَكُلُّ أُمَّةٍ تُرِيدُ أَنْ تَنْهَضَ فِي غَدِهَا لَا بُدَّ أَنْ تَعْمَلَ لِيَوْمِهَا كَأَحْسَنَ مَا يَكُونُ الْعَمَلُ؛ نَقَاءً وَانْتِقَاءً وَمَضَاءً.
الْأَمَلُ مِنْهُ مَا هُوَ مَذْمُومٌ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مَحْمُودٌ؛ أَمَّا الْأَمَلُ الْمَذْمُومُ: فَهُوَ أَنْ يَسْتَرْسِلَ الْإِنْسَانُ مَعَ الْأَمَلِ، وَلَا يَسْتَعِدَّ لِأَمْرِ الْآخِرَةِ.
فَمَنْ سَلِمَ مِنْ هَذِهِ الْآفَةِ، وَهِيَ عَدَمُ الِاسْتِعْدَادِ لِلْآخِرَةِ، وَعَدَمُ الِاسْتِعْدَادِ لِلْمَوْتِ، وَعَدَمُ تَرَقُّبِ الْمَوْتِ أَنَّهُ يَأْتِي بَغْتَةً، وَأَنَّهُ يَقَعُ فَجْأَةً، إِذَا سَلِمَ الْإِنْسَانُ مِنْ هَذِهِ الْآفَاتِ؛ فَإِنَّ الْأَمَلَ يَكُونُ مَحْمُودًا؛ لِأَنَّهُ لَوْلَا أَنَّ اللهَ جَعَلَ الْأَمَلَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ مَا اسْتَطَاعَ إِنْسَانٌ أَنْ يَعِيشَ فِيهَا لَحْظَةً وَاحِدَةً.
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْقَوَاطِعِ فِي طَرِيقِ سَيْرِ الْعَبْدِ إِلَى رَبِّهِ، وَمِنْ أَكْبَرِ الْعَوَائِقِ الَّتِي تُعَوِّقُ الْإِنْسَانَ وَتَمْنَعُهُ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى رِضْوَانِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْعَوَائِقِ: طُولَ الْأَمَلِ، وَعَدَمَ تَذَكُّرِ الْمَوْتِ.
فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا مَا وَقَعَ فِي هَذَا الْمَحْظُورِ، وَطَالَ أَمَلُهُ، وَلَمْ يَتَذَكَّرْ نِهَايَتَهُ وَأَجَلَهُ؛ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ كَثِيرُ خَيْرٍ، بَلْ يَأْتِي مِنْهُ تَخْلِيطٌ وَتَقْصِيرٌ وَتَسْوِيفٌ.
وَأَمَّا الَّذِينَ لَا يَطُولُ أَمَلُهُمْ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَيَنْتَظِرُونَ الْمَوْتَ بَيْنَ اللَّحْظَةِ وَالَّتِي تَلِيهَا؛ فَهَؤُلَاءِ يُحْسِنُونَ الْعَمَلَ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَوَقَّعُونَ النِّهَايَةَ وَالْقُدُومَ عَلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي كُلِّ لَحْظَةٍ وَكُلِّ حِينٍ.
وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَرَادَ لَنَا فِي دِينِهِ الْعَظِيمِ، وَبَيَّنَ لَنَا عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ الْكَرِيمِ ﷺ أَنَّ عَلَى الْإِنْسَانِ أَلَّا يَطُولَ فِي الْحَيَاةِ أَمَلُهُ، وَأَنْ يَكُونَ مُتَوَقِّعًا لِلْمَوْتِ يَأْتِيهِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ يَأْتِي بَغْتَةً، وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَدْرِي مَا سَيَكُونُ بَعْدَ اللَّحْظَةِ الَّتِي يَعِيشُ فِيهَا.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ دَائِمًا عَلَى التَّوْبَةِ، وَعَلَى تَرَقُّبِ الْعَوْدَةِ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، فَيَنْظُرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَى عَمَلِهِ، فَإِذَا أَحْسَنَ أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْهِ، وَإِذَا أَسَاءَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ.
مَا الَّذِي يَجْعَلُ الْإِنْسَانَ طَوِيلَ الْأَمَلِ؟!!
مَا الَّذِي يَجْعَلُ الْإِنْسَانَ مِمَّا يَطُولُ أَمَلُهُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَيَعِيشُ كَأَنَّهُ لَنْ يَمُوتَ، أَوْ كَأَنَّهُ سَيَعِيشُ عَشَرَاتِ السِّنِينَ؛ بَلْ سَيَعِيشُ قُرُونًا مُتَطَاوِلَةً؟!!
طُولُ الْأَمَلِ فِي الْحَيَاةِ لَهُ سَبَبَانِ: حُبُّ الدُّنْيَا، وَالْجَهْلُ.
*السَّبَبُ الْأَوَّلُ مِنْ أَسْبَابِ طُولِ الْأَمَلِ: حُبُّ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَنِسَ بِشَهَوَاتِ الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا، وَعَلَاقَاتِهَا وَعَلَائِقِهَا؛ يَثْقُلُ قَلْبُهُ عَنْ مُفَارَقَتِهَا.
يَعْنِي: الْإِنْسَانُ عِنْدَمَا يُعَمِّرُ الدُّنْيَا، وَيُخَرِّبُ الْآخِرَةَ -النَّاسُ دَائِمًا يَكْرَهُونَ الِانْتِقَالَ مِنَ الْعُمْرَانِ إِلَى الْخَرَابِ-، يَعْنِي: إِذَا لَمْ يَعْمَلِ الْإِنْسَانُ لِلْآخِرَةِ؛ لَمْ يَعْمَلْ لِلدَّارِ الْبَاقِيَةِ، لَمْ يَعْمَلْ لِلْقَبْرِ حِسَابًا.
الْقَبْرُ فِيهِ وَحْشَةٌ، فِيهِ ظُلْمَةٌ، فِيهِ وَحْدَةٌ، فِيهِ مَا فِيهِ مِنْ تِلْكَ الْآفَاتِ.
الْقَبْرُ لَيْسَ فِيهِ مُتَعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا عَلَى حَسَبِ الْحِسِّ الْإِنْسَانِيِّ.
الْإِنْسَانُ يُعَمِّرُ الدُّنْيَا، وَيُخَرِّبُ الْآخِرَةَ، فَيَكْرَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنَ الْعُمْرَانِ إِلَى الْخَرَابِ، وَهَذَا مَجْبُولٌ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ، هَذَا مِمَّا فَطَرَ اللهُ عَلَيْهِ الْخَلْقَ.
وَأَمَّا إِذَا عَمَّرَ الْإِنْسَانُ آخِرَتَهُ، وَأَمَّا إِذَا الْتَفَتَ الْإِنْسَانُ إِلَى حَيَاتِهِ الْبَاقِيَةِ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يُحِبُّ -حِينَئِذٍ- أَنْ يَنْتَقِلَ مِنَ الْخَرَابِ إِلَى الْعُمْرَانِ؛ لِأَنَّهُ سَيَرَى الدُّنْيَا خَرَابًا وَيَبَابًا، وَسَيَرَى الْآخِرَةَ عُمْرَانًا وَحَيَاةً بَاقِيَةً لَا تَزُولُ.
فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ مُحِبًّا لِلدُّنْيَا فَإِنَّهُ يَأْنَسُ بِشَهَوَاتِهَا، وَيَرْكَنُ إِلَى مَلَذَّاتِهَا، فَيَثْقُلُ عَلَى قَلْبِهِ أَنْ يُفَارِقَ الدُّنْيَا إِلَى غَيْرِهَا، وَيَمْتَنِعُ قَلْبُهُ مِنَ الْفِكْرِ فِي الْمَوْتِ الَّذِي هُوَ السَّبَبُ فِي مُفَارَقَةِ اللَّذَّاتِ، وَالْبُعْدِ عَنِ الشَّهَوَاتِ.
إِذَا أَنِسَ الْقَلْبُ حُبَّ الدُّنْيَا، وَانْغَمَسَ الْإِنْسَانُ فِي الشَّهَوَاتِ -والْمَوْتُ يَقْطَعُ هَذَا-؛ فَإِنَّهُ يَكْرَهُ الْمَوْتَ حِينَئِذٍ، يَكْرَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ مِمَّا هُوَ فِيهِ مِنَ الْمَلَذَّاتِ وَاللَّذَّاتِ، وَيُفَارِقَ هَذِهِ الْأُمُورَ الَّتِي تُحِبُّهَا النَّفْسُ؛ لِيَنْتَقِلَ إِلَى الْمَوْتِ.
وَحِينَئِذٍ يَمْتَنِعُ الْقَلْبُ مِنَ الْفِكْرِ فِي الْمَوْتِ، وَكُلُّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى طَبِيعَةِ الْإِنْسَانِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَرِهَ شَيْئًا دَفَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَدْفَعَ الشَّيْءَ عَنْ نَفْسِهِ فَهُوَ يَنْدَفِعُ عَنْهُ، يَعْنِي: إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُبْعِدَ الشَّيْءَ الْمَكْرُوهَ عَنْ نَفْسِهِ؛ فَهُوَ يُبْعِدُ نَفْسَهُ عَنِ الشَّيْءِ الْمَكْرُوهِ.
فَالْفِكْرُ فِي الْمَوْتِ مَكْرُوهٌ لِلْإِنْسَانِ عِنْدَمَا يَنْغَمِسُ فِي الشَّهَوَاتِ، وَيُحَصِّلُ الْمَلَذَّاتِ، وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى أَمْرِ الْآخِرَةِ؛ فَهَذَا شَيْءٌ مُحَبَّبٌ!!
الْمَوْتُ مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّهُ يَقْطَعُ الشَّيْءَ الْمُحَبَّبَ، وَالْإِنْسَانُ فَطَرَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ الشَّيْءَ الَّذِي يَكْرَهُهُ.
وَالْمَوْتُ مَكْرُوهٌ لِأَنَّهُ سَيَقْطَعُ الْمَلَذَّاتِ، وَإِذَنْ؛ فَهُوَ لَا يُفَكِّرُ فِي الْمَوْتِ، وَيَتَجَاهَلُهُ.
الْإِنْسَانُ مَشْغُوفٌ بِالْأَمَانِيِّ، يَتَمَنَّى دَائِمًا وَأَبَدًا مَا يُوَافِقُ مُرَادَهُ، وَمَا يُشَاكِلُ نَفْسَهُ، وَالَّذِي يُوَافِقُ مُرَادَ الْإِنْسَانِ هُوَ الْبَقَاءُ فِي الدُّنْيَا، فَلَا يَزَالُ يَتَوَهَّمُ، وَلَا يَزَالُ يَتَخَيَّلُ.
وَلَا يَزَالُ يُقَدِّرُ أَنَّهُ سَيَبْقَى فِي الدُّنْيَا طَوِيلًا، وَيُقَدِّرُ تَوَابِعَ هَذَا الْبَقَاءِ، مَا دُمْتُ سَأَظَلُّ زَمَنًا طَوِيلًا فِي الْحَيَاةِ، وَأُقَدِّرُ أَنْ أَبْقَى فِي الْحَيَاةِ بِلَا ذَهَابٍ وَلَا فَنَاءٍ؛ فَأَنَا لَا بُدَّ أَنْ أُقَدِّرَ حِينَئِذٍ الْأَسْبَابَ الَّتِي تُعِينُنِي عَلَى الْبَقَاءِ.
وَحِينَئِذٍ يَأْخُذُ فِي تَحْصِيلِ أَسْبَابِ الدُّنْيَا؛ اسْتِعْدَادًا لِلْبَقَاءِ الْمُتَوَهَّمِ الَّذِي يَتَوَهَّمُهُ، وَالَّذِي يُقَدِّرُهُ فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كُنْتُ سَأَبْقَى سَنَوَاتٍ غَيْرَ مَعْدُودَةٍ فَأَنَا أَحْتَاجُ إِلَى مَالٍ، وَأَحْتَاجُ إِلَى أَهْلٍ وَجَارٍ، وَأَصْدِقَاءٍ وَدَوَاءٍ، وَسَائِرِ أَسْبَابِ الدُّنْيَا.
فَمَا دُمْتُ أَنَا قَدْ أَخَذَنِي الْأَمَلُ بِطُولِهِ؛ فَحِينَئِذٍ أُقَدِّرُ طُولَ الْبَقَاءِ، وَإِذَا قَدَّرْتُ طُولَ الْبَقَاءِ فَإِنَّ طُولَ الْبَقَاءِ يَحْتَاجُ إِلَى أَسْبَابٍ، وَهَذِهِ الْأَسْبَابُ تَحْتَاجُ إِلَى تَحْصِيلٍ.
وَكُلُّ هَذَا إِبْعَادٌ عَنِ الطَّرِيقِ الصَّحِيحِ، وَإِبْعَادٌ عَنِ الْآخِرَةِ.
يَصِيرُ الْقَلْبُ حِينَئِذٍ عَاكِفًا عَلَى هَذَا الْفِكْرِ وَمَوْقُوفًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ تَحْصِيلُ الْأَسْبَابِ الَّتِي سَتُعِينُ عَلَى طُولِ الْبَقَاءِ فِي الدُّنْيَا مَعَ الْبُعْدِ عَنْ ذِكْرِ الْمَوْتِ.
وَإِذَا مَا كَبُرَ الْإِنْسَانُ، يَعْنِي: إِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ شَابًّا يَقُولُ: حَتَّى تَكْبُرَ، فَإِذَا كَبُرَ يَقُولُ: حَتَّى تَصِيرَ شَيْخًا، فَإِذَا صَارَ شَيْخًا يَقُولُ: حَتَّى نَفْرُغَ مِنْ بِنَاءِ هَذِهِ الدَّارِ، وَعِمَارَةِ هَذِهِ الْمَزْرَعَةِ، حَتَّى نَرْجِعَ مِنْ هَذَا السَّفَرِ، حَتَّى نَفْرُغَ مِنْ تَدْبِيرِ حَالِ هَذَا الْوَلَدِ وَتَجْهِيزِهِ، وَتَدْبِيرِ مَسْكَنٍ لَهُ، حَتَّى نَتَفَرَّغَ مِنْ قَهْرِ هَذَا الْعَدُوِّ الَّذِي يَشْمَتُ بِنَا!!
فَلَا يَزَالُ يُسَوِّفُ وَيُؤَخِّرُ، وَلَا يَخُوضُ فِي شُغُلٍ إِلَّا وَيَتَعَلَّقُ بِإِتْمَامِ ذَلِكَ الشُّغُلِ عَشْرَةُ أَشْغَالٍ أُخَرَ، لَا يَزَالُ كَذَلِكَ عَلَى التَّدْرِيجِ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، وَيَقْضِي أَيَّامَهُ وَلَيَالِيهِ فِي ذَلِكَ، وَيُفْضِي بِهِ شُغُلٌ إِلَى شُغُلٍ؛ بَلْ إِلَى أَشْغَالٍ إِلَى أَنْ تَقْتَطِفَهُ الْمَنِيَّةُ، وَيَأْتِيَهُ الْمَوْتُ فِي وَقْتٍ لَمْ يَحْسُبْ؛ فَمَا الْحَلُّ؟!!
تَطُولُ عِنْدَ ذَلِكَ الْحَسْرَةُ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ النَّارِ صِيَاحُهُمْ مِنْ (سَوْفَ)، يَقُولُونَ: وَاحُزْنَاهُ مِنْ (سَوْفَ)؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا يُسَوِّفُونَ: سَوْفَ أَتُوبُ بَعْدَ كَذَا، وَسَوْفَ أَعْمَلُ كَذَا إِذَا حَدَثَ كَذَا!!
فَمَا يَزَالُ الْإِنْسَانُ مُسَوِّفًا آخِذًا بِـ (سَوْفَ) حَتَّى يَأْتِيَ الْمَوْتُ!!
وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْفَزَعُ وَالْحُزْنُ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ- فِي النَّارِ.
أَكْثَرُ حُزْنِ أَهْلِ النَّارِ مِنْ (سَوْفَ)، يَقُولُونَ: وَاحُزْنَاهُ مِنْ (سَوْفَ)؛ لِأَنَّ الْأَيَّامَ مَرَّتْ وَانْقَضَتْ مَعَ طُولِ الْأَمَلِ حَتَّى جَاءَ الْمَوْتُ مِنْ غَيْرِ مَا اسْتِعْدَادٍ.
سَيَأْتِي، هُوَ آتٍ لَا مَحَالَةَ، وَكُلُّ آتٍ قَرِيبٌ.
مَا دَامَ الْمَوْتُ سَيَأْتِي فَاعْتَبِرْ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِعْلًا؛ لِأَنَّهُ مَا دَامَ سَيَأْتِي فَسَيَأْتِي، وَكُلُّ آتٍ قَرِيبٌ.
مَا الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ؟
عَشْرُ سَنَوَاتٍ؟! عِشْرُونَ سَنَةً؟! ثَلَاثُونَ؟! مَئِةٌ؟!
نَأْخُذُ بِقِيَاسِ الَّذِي مَضَى مِنَ السِّنِينَ عَلَى مَا هُوَ آتٍ مِنَ السِّنِينَ، مَرَّ خَمْسُونَ -نِصْفُ قَرْنٍ مِنَ الزَّمَانٍ- مَرَّتْ كَأَنَّهَا طَرْفَةُ الْعَيْنِ، كَأَنَّهَا خَطْفَةُ الْبَرْقِ، لَوْ بَقِيَ خَمْسُونَ -وَهَذَا مُسْتَبْعَدٌ- فَسَيَمُرُّ الَّذِي يَأْتِي أَيْضًا كَطَرْفَةِ الْعَيْنِ، ثُمَّ يَجِدُ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ أَمَامَ الْمَوْتِ.
إِذَنْ؛ فَلْنَعْتَبِرِ الْآنَ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ، وَأَنَّهُ بَيْنَ يَدَيْهِ؛ فَكَيْفَ الِاسْتِعْدَادُ؟! وَكَيْفَ اللِّقَاءُ؟!
الْمُسَوِّفُ الْمِسْكِينُ -الَّذِي يَقُولُ: سَوْفَ.. سَوْفَ..- لَا يَدْرِي أَنَّ الَّذِي يَدْعُوهُ إِلَى التَّسْوِيفِ الْيَوْمَ هُوَ مَعَهُ غَدًا.
يَعْنِي: طُولُ الْأَمَلِ الَّذِي عِنْدَ الْإِنْسَانِ الَّذِي يُسَوِّفُ أَعْمَالَ الْخَيْرِ؛ سَوْفَ أَفْعَلُ بَعْدَ إِتْمَامِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَبَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ، سَوْفَ أَفْعَلُ بَعْدَمَا نَصْنَعُ كَذَا، وَنُتِمُّ كَذَا، (سَوْفَ) هَذِهِ الَّتِي مَعِي الْيَوْمَ سَتَكُونُ مَعِي غَدًا؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ لَا يَنْقَطِعُ، وَلَا يَنْتَهِي.
وَإِنَّمَا يَزْدَادُ التَّسْوِيفُ بِطُولِ الْمُدَّةِ قُوَّةً وَرُسُوخًا؛ لِأَنَّ الْأَشْغَالَ لَا تَنْقَطِعُ، وَالشُّغُلُ يُفْضِي وَيُؤَدِّي إِلَى شُغُلٍ غَيْرِهِ؛ بَلْ إِلَى عَشْرَةِ أَشْغَالٍ مِنْ غَيْرِ مَا انْقِطَاعٍ.
فَيَظُنُّ الْإِنْسَانُ وَيَتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ لِلْخَائِضِ فِي الدُّنْيَا وَالْحَافِظِ لَهَا فَرَاغٌ؛ هَيْهَات!!
لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِلْإِنْسَانِ الَّذِي يَخُوضُ فِي الدُّنْيَا وَالَّذِي يَجْتَهِدُ فِي الْحِفَاظِ عَلَيْهَا فَرَاغٌ إِطْلَاقًا، لَنْ يَكُونَ لَهُ فَرَاغٌ أَبَدًا؛ لِأَنَّ الْهُمُومَ لَا تَنْقَطِعُ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَنْقَطِعَ إِلَّا إِذَا وُحِّدَتْ عَلَى هَمٍّ وَاحِدٍ، وَهُوَ هَمُّ الْآخِرَةِ؛ وَحِينَئِذٍ يَتَأَتَّى وَعْدُ اللهِ، فَسَيَكْفِيهِ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَا أَهَمَّهُ مِنْ أُمُورِ دُنْيَاهُ.
((مَنْ جَعَلَ الْهُمُومَ هَمًّا وَاحِدًا كَفَاهُ اللهُ مَا أَهَمَّهُ مِنْ أُمُورِ دُنْيَاهُ، وَمَنْ تَوَزَّعَتْهُ هُمُومُ أَحْوَالِ الدُّنْيَا لَمْ يُبَالِ اللهُ تَعَالَى بِأَيِّ وَادٍ مِنْ أَوْدِيَةِ اللهِ عَذَّبَهُ)).
الَّذِي يَجْعَلُ الْهُمُومَ هَمًّا وَاحِدًا يَجْعَلُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَيَجْمَعُ عَلَيْهِ شَمْلهُ، وَجَمْعُ الشَّمْلِ هَذَا هُوَ اتِّحَادُ تِلْكَ الْهُمُومِ الْمُخْتَلِفَةِ مِنْ هُمُومِ الدُّنْيَا بِشَيْءٍ وَاحِدٍ، يَجْمَعُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَتَأْتِيهِ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ.
وَالَّذِي يَجْعَلُ هَمَّهُ الدُّنْيَا، وَيَلْتَفِتُ عَنِ الْآخِرَةِ يُشَتِّتُ اللهُ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، فَتَجِدُ لَهُ فِي كُلِّ أَمْرٍ عِدَّةَ أَشْغَالٍ، وَيَتَفَرَّعُ مِنْ كُلِّ شُغُلٍ عِدَّةُ أُمُورٍ أُخْرَى، ثُمَّ يَتَفَرَّعُ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ مِنْ هَذِهِ عِدَّةُ أَشْغَالٍ، فَمَا يَزَالُ كَذَلِكَ مُشَتَّتَ الْهَمِّ، وَيَجْعَلُ اللهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، فَمَهْمَا الْتَفَتَ لَمْ يَرَ إِلَّا فَقْرَهُ، ((وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ)).
الْأَوَّلُ؛ ((جَعَلَ اللهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ)).
وَالْآخَرُ؛ ((شَتَّتَ اللهُ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ)).
فَعَلَامَ الْعَنَاءُ؟!!
وَعَلَامَ التَّعَبُ؟!!
فَالَّذِي يَظُنُّ أَنَّهُ بِخَوْضِهِ فِي الدُّنْيَا وَبِحِفَاظِهِ عَلَيْهَا أَنَّهُ سَيَكُونُ لَهُ فَرَاغٌ فِي يَوْمٍ فَهُوَ وَاهِمٌ، لَنْ يَكُونَ لَهُ فَرَاغٌ أَبَدًا، وَمَا يَفْرُغُ مِنْهُ الْيَوْمَ لَا بُدَّ أَنْ يَتَجَدَّدَ لَهُ مِنْهُ أَلْوَانٌ وَشُكُولٌ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَمَا قَضَى أحَدٌ مِنْهَا لُبَانَتَهُ = وَلا انْتَهَى أرَبٌ إلَّا إلى أرَبِ.
وَمَا قَضَى أَحَدٌ مِنَ الدُّنْيَا لُبَانَتَهُ –يَعْنِي: هَدَفَهُ-، وَمَا انْتَهَى أَرَبٌ إِلَّا إِلَى أَرَبِ، مَا انْتَهَى هَدَفٌ إِلَّا إِلَى هَدَفٍ، فِي الدُّنْيَا مَا يَنْتَهِي هَدَفٌ إِلَّا وَيَبْدَأُ هَدَفٌ آخَرُ.
وَقِسْ عَلَى ذَلِكَ أَحْوَالَ الْخَلْقِ، الْإِنْسَانُ إِذَا أَرَادَ –مَثَلًا- أَنْ يَقْتَنِيَ سَيَّارَةً، وَهَذَا أَمْرٌ لَيْسَ بِمَذْمُومٍ، لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ، وَلَكِنْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْتَنِيَ مَرْكَبًا يَرْكَبُهُ؛ مَا أَنْ يَتَحَصَّلَ عَلَيْهِ حَتَّى يَتَطَلَّعَ إِلَى غَيْرِهِ، وَمَا أَنْ يَحْصُلَ الثَّانِي حَتَّى يَتَطَلَّعَ إِلَى الثَّالِثِ، أَمْرٌ لَا يَنْقَضِي.
وَأَمَّا إِذَا نَظَرَ إِلَى الْأَمْرِ فِي حَقِيقَتِهِ، وَعَلِمَ أَنَّ أَمْثَالَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِنَّمَا تُؤَدِّي وَظِيفَةً، فَإِذَا أُدِّيَتِ الْوَظِيفَةُ فَلَا حَرَجَ؛ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مُوَظِّفًا لِلدُّنْيَا فِي خِدْمَةِ الْآخِرَةِ.
وَأَمَّا إِذَا انْفَتَحَ الْبَابُ بِهَذِهِ الصُّورَةِ، وَانْطَلَقَ الْإِنْسَانُ فِي عُبَابِ وَأَمْوَاجِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا؛ فَهَذَا أَمْرٌ لَنْ يَنْضَبِطَ أَبَدًا، وَلَنْ يَنْقَضِيَ الْفَرَاغُ مِنْهُ، وَمَا انْتَهَى أَرَبٌ إِلَّا إِلَى أَرَبٍ، وَالْأَرَبُ: الْغَايَةُ الَّتِي يُرِيدُ الْإِنْسَانُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهَا، الْهَدَفُ الَّذِي يُرِيدُ الْإِنْسَانُ أَنْ يَتَوَصَّلَ إِلَيْهِ.
مَا يَنْتَهِي هَدَفٌ إِلَّا وَرَاءَهُ هَدَفٌ آخَرُ، هُمُومٌ مَرْحَلِيَّةٌ، وَهَذِهِ الْهُمُومُ الْمَرْحَلِيَّةُ لَا تُؤَدِّي إِلَّا إِلَى هُمُومٍ أُخْرَى بَعْدَهَا.
وَأَمَّا الْهَدَفُ الْأَسَاسُ الرَّئِيسُ الْكَبِيرُ هَدَفُ الْآخِرَةِ؛ فَيَجْعَلُ الدُّنْيَا مُوَظَّفَةً لِخِدْمَةِ هَذَا الطَّرِيقِ؛ وَحِينَئِذٍ يَجْمَعُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَيَجْعَلُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، ثُمَّ تَأْتِيهِ الدُّنْيَا رَاغِمَةً.
وَالْآخَرُ يَتَشَتَّتُ عَلَيْهِ شَمْلُهُ، فَلَا يَدْرِي فِي أَيِّ طَرِيقٍ يَسِيرُ، وَكُلَّمَا مَرَّ فِي طَرِيقٍ وَقَطَعَ فِيهِ مَرْحَلَةً يَعُودُ إِلَى طَرِيقٍ آخَرَ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَقْطَعَ فِيهِ خُطُوَاتٍ، ثُمَّ إِلَى طَرِيقٍ ثَالِثٍ، وَهَكَذَا.. يَتَشَتَّتُ عَلَيْهِ شَمْلُهُ، وَفَقْرُهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، كُلَّمَا الْتَفَتَ لَمْ يَرَ إِلَّا فَقْرَهُ مَهْمَا أُوتِيَ مِنَ الْغِنَى؛ لِأَنَّ الشَّمْلَ قَدْ تَشَتَّتَ، ثُمَّ لَا يَأْتِيهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قَسَمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَهُ.
حُبُّ الدُّنْيَا هُوَ السَّبَبُ الْأَوَّلُ مِنْ سَبَبَيْ طُولِ الْأَمَلِ.
وَالسَّبَبُ الثَّانِي مِنْ أَسْبَابِ طُولِ الْأَمَلِ: الْجَهْلُ.
الْإِنْسَانُ قَدْ يُعَوِّلُ عَلَى شَبَابِهِ، فَيَسْتَبْعِدُ قُرْبَ وُقُوعِ الْمَوْتِ مَعَ الشَّبَابِ، وَهَلْ يَأْتِي الْمَوْتُ فِي الشَّبَابِ؟!!
فَهُوَ يَنْتَظِرُ أَنْ يَكْبُرَ، وَأَنْ يَشِيخَ، وَأَنْ يَهْرَمَ، وَلَا يَتَفَكَّرُ الْمِسْكِينُ الَّذِي يَجْهَلُ أَنَّ الْمَوْتَ يَأْتِي فِي جَمِيعِ الْأَعْمَارِ، وَلَا يُفَارِقُ أَحَدًا إِلَّا وَمَسَّهُ؛ يَجْهَلُ هَذَا الْمِسْكِينُ أَنَّ مَشَايِخَ بَلَدِهِ –يَعْنِي: كِبَارَ السِّنِّ فِي بَلَدِهِ- لَوْ عُدُّوا، لَوْ أَحْصَاهُمْ إِنْسَانٌ، وَعَمِلَ إِحْصَائِيَّةً لِكِبَارِ السِّنِّ فِي بَلَدِهِ لَكَانُوا أَقَلَّ مِنْ عُشْرِ رِجَالِ الْبَلَدِ، وَرُبَّمَا أَقَلّ.
يَعْنِي: إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَحْسُبَ كِبَارَ السِّنِّ فِي بَلَدٍ فَلَنْ يَصِلَ عَدَدُهُمْ إِلَى عُشْرِ سُكَّانِ الْبَلَدِ.
مَا الَّذِي جَعَلَهُمْ قِلَّةً إِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ سَيَظَلُّ حَتَّى يَصِلَ إِلَى السِّنِّ الْعَالِيَةِ وَيَكْبُرَ فِي السِّنِّ، وَيُتْرَكَ حَتَّى يَصِلَ إِلَى السِّنِّ الْعَالِيَةِ؟!!
فَلِمَاذَا لَمْ يُتْرَكِ الْجَمِيعُ؟!! لِمَاذَا قَلُّوا وَلَمْ يَبْلُغُوا إِلَّا عُشْرَ سُكَّانِ أَيِّ بَلَدٍ؟!!
لِأَنَّ الْمَوْتَ فِي الشَّبَابِ أَكْثَرُ، فَلَا يَصِلُ إِلَى كِبَرِ السِّنِّ إِلَّا الْقِلَّةُ، إِلَّا عُشْرُ سُكَّانِ الْبَلَدِ، هُمُ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى ذَلِكَ -عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيبِ-.
وَإِذَنْ؛ الْمَوْتُ فِي الشَّبَابِ أَكْثَرُ، فَإِلَى أَنْ يَمُوتَ شَيْخٌ يَمُوتُ أَلْفُ صَبِيٍّ وَشَابٍّ.
فَمَنِ الَّذِي يُؤَمِّنُ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ صَبِيًّا أَوْ كَانَ شَابًّا أَنَّهُ لَنْ يَدْخُلَ فِي الْأَلْفِ؟!!
فَإِلَى أَنْ يَمُوتَ شَيْخٌ يَمُوتُ أَلْفُ صَبِيٍّ وَشَابٍّ، وَلَوْ كَانَ الْجَمِيعُ يَصِلُونَ إِلَى كِبَرِ السِّنِّ لَضَاقَتِ الْأَرْضُ بِأَهْلِهَا.
فَلَوْ تَأَمَّلَ الْإِنْسَانُ فِي هَذَا لَعَلِمَ أَنَّهُ وَاهِمٌ، وَأَنَّهُ مُخْطِئٌ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ لَنْ يُتْرَكَ حَتَّى يَصِلَ إِلَى السِّنِّ الْعَالِيَةِ، وَلَا يَدْرِي أَنَّ وُصُولَهُ إِلَى ذَلِكَ بَعِيدٌ، وَأَنَّ مَوْتَهُ وَهُوَ فِي حَدَاثَةِ السِّنِّ وَفِي الشَّبَابِ غَيْرُ بَعِيدٍ، فَهَذَا يَحْدُثُ بِكَثْرَةٍ.
وَحَتَّى لَوْ كَانَ بَعِيدًا –يَعْنِي: حَتَّى لَوْ كَانَ وُقُوعُ الْمَوْتِ فِي الشَّبَابِ وَفِي الصِّبَا بَعِيدًا- فَالْمَرَضُ فَجْأَةً غَيْرُ بَعِيدٍ، يُمْكِنُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ تَطُولَ بِهِ الْحَيَاةُ وَيَمْرَضَ، وَكُلُّ مَرَضٍ إِنَّمَا يَقَعُ فَجْأَةً، وَإِذَا مَرِضَ لَمْ يَكُنِ الْمَوْتُ مِنَ الْمَرِيضِ بَعِيدًا.
لَوْ تَفَكَّرَ الْإِنْسَانُ الْغَافِلُ، وَعَلِمَ أَنَّ الْمَوْتَ لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مَخْصُوصٌ مِنْ شَبَابٍ وَشِيبٍ وَكُهُولَةٍ، وَلَا لَهُ زَمَانٌ مِنْ صَيْفٍ، وَشِتَاءٍ، وَخَرِيفٍ، وَرَبِيعٍ، وَلَا مِنْ لَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ؛ لَعَظُمَ اسْتِشْعَارُ الْإِنْسَانِ حِينَئِذٍ بِهَذَا الْمَوْتِ، وَاشْتَغَلَ اسْتِعْدَادًا لِوُقُوعِهِ إِذْ هُوَ مِنْهُ قَرِيبٌ؛ وَلَكِنَّ الْجَهْلَ بِأَمْثَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ وَحُبَّ الدُّنْيَا يَدْعُوَانِ الْإِنْسَانَ إِلَى طُولِ الْأَمَلِ، وَإِلَى الْغَفْلَةِ عَنْ تَقْدِيرِ الْمَوْتِ الْقَرِيبِ، وَهُوَ أَبَدًا يَظُنُّ أَنَّ الْمَوْتَ يَكُونُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَا يُقَدِّرُ نُزُولَهُ بِهِ وَوُقُوعَهُ فِيهِ.
الْإِنْسَانُ -دَائِمًا وَأَبَدًا- عِنْدَهُ يَقِينٌ بِأَنَّ الْمَوْتَ قَرِيبٌ؛ وَلَكِنْ هُوَ قَرِيبٌ لَا يَقَعُ، يَعْنِي: هُوَ قَرِيبٌ نَعَمْ؛ وَلَكِنَّهُ لَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ!!
كَمَا يَتَحَدَّثُ الْإِنْسَانُ –مَثَلًا- عَنِ الْمَوْتِ، فَهُوَ يَعِظُ النَّاسَ بِأَنَّ الْمَوْتَ قَرِيبٌ، وَلَا يَتَيَقَّنُ هُوَ مِنْ أَنَّهُ قَرِيبٌ مِنْهُ أَيْضًا، فَكَأَنَّهُ يُخْرِجُ نَفْسَهُ خَارِجَ الدَّائِرَةِ وَالْإِطَارِ، وَيَتَحَدَّثُ عَنْ شَيْءٍ لَنْ يَمَسَّهُ هُوَ!!
كَمَا يَعِظُ الْوَاعِظُ النَّاسَ بِالتَّقْوَى، هَذِهِ التَّقْوَى كَأَنَّهَا لِلْمَوْعُوظِينَ، وَلَيْسَتْ لَهُ هُوَ، فَهُوَ أَبْعَدُ مَا يَكُونُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَوْعُوظًا بِذَلِكَ!!
وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مِنَّا يُشَيِّعُ الْجَنَائِزَ، وَلَا يُقَدِّرُ أَنْ يُشَيَّعَ.
الْإِنْسَانُ مِنَّا مَا أَكْثَرَ مَا يُشَيِّعُ مِنَ الْجَنَائِزِ؛ وَلَكِنْ هَلْ عِنْدَ الْإِنْسَانِ يَقِينٌ أَنَّهُ سَيُشَيَّعُ وَسَتُشَيَّعُ جَنَازَتُهُ أَيْضًا؟!!
إِذَنْ؛ حُبُّ الدُّنْيَا وَالْجَهْلُ سَبَبُ طُولِ الْأَمَلِ فِي الْحَيَاةِ، وَهُوَ صَرْفٌ عَنْ سَبِيلِ الْآخِرَةِ.
عِلَاجُ طُولِ الْأَمَلِ؛ بِأَنْ يَقِيسَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ بِغَيْرِهِ، وَيَعْلَمَ أَنَّهُ كَمَا يَحْمِلُ جَنَازَةَ غَيْرِهِ لَا بُدَّ أَنْ تُحْمَلَ جَنَازَتُهُ، وَكَمَا يَدْفِنُ غَيْرَهُ فِي قَبْرِهِ لَا بُدَّ أَنْ يُدْفَنَ هُوَ فِي قَبْرِهِ.
وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ: لَعَلَّ اللَّبِنَ -يَعْنِي: ذَلِكَ الطُّوبَ النِّيءَ الَّذِي تُبْنَى بِهِ الْمَقَابِرُ، أَوْ يَنْبَغِي أَنْ تُبْنَى بِهِ الْمَقَابِرُ؛ لِأَنَّ مِنَ السُّنَّةِ: أَلَّا يَدْخُلَ فِي الْمَقَابِرِ شَيْءٌ مَسَّتْهُ النَّارُ- الْإِنْسَانُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَيَقَّنَ أَوْ حَتَّى يَظُنَّ ظَنَّا غَالِبًا أَنَّ الطُّوبَ الَّذِي يَدْخُلُ فِي قَبْرِهِ، أَوِ الَّذِي يُوضَعُ عِنْدَهُ فِي لَحْدِهِ لَعَلَّهُ قَدْ ضُرِبَ وَفُرِغَ مِنْهُ وَهُوَ لَا يَدْرِي.
فَإِذَنْ؛ التَّسْوِيفُ جَهْلٌ مَحْضٌ.
الْأَكْفَانُ الَّتِي يُكَفَّنُ فِيهَا الْإِنْسَانُ لَعَلَّهَا قَدْ نُسِجَتْ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ وَمُعَدَّةٌ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَدْرِي لَرُبَّمَا مَاتَ الْآنَ، أَوْ مَاتَ بَعْدَ حِينٍ قَرِيبٍ، فَأَكْفَانُهُ مَنْسُوجَةٌ وَمُعَدَّةٌ لَهُ وَهُوَ لَا يَدْرِي؛ وَلَكِنِ الْإِنْسَانُ لَا يُفَكِّرُ فِي هَذَا وَيَسْتَبْعِدُهُ، وَهَذَا مِنْ جَهْلِ الْإِنْسَانِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ.
إِذَا عَرَفْنَا أَنَّ سَبَبَ الْمَسْأَلَةِ هُوَ الْجَهْلُ وَحُبُّ الدُّنْيَا، فَالْعِلَاجُ هُوَ دَفْعُ السَّبَبِ، فَالْجَهْلُ نَدْفَعُهُ بِالْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ وَالْفِكْرِ الصَّافِي فِي الْمَآلِ، وَفِي الْمَعَادِ، وَفِي الْمَنْشَأِ، وَفِي الْمَصِيرِ، وَفِيمَا سَيَكُونُ مِنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ.
وَنَقِيسُ الشَّاهِدَ عَلَى الْغَائِبِ، وَالْغَائِبَ عَلَى الشَّاهِدِ، وَكَمَا يَكُونُ مَوْتُنَا، وَحَمْلُنَا، وَدَفْنُنَا، وَعِقَابُنَا، وَجَزَاؤُنَا بِالْخَيْرِ أَوْ بِالشَّرِّ؛ كَمَا يَكُونُ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لَنَا غَيْبًا فَنَحْنُ نَقِيسُهُ عَلَى مَا نُشَاهِدُهُ مِنْ مَوْتِ مَنْ نُحِبُّ، وَمِنْ غُسْلِهِمْ، وَمِنْ تَكْفِينِهِمْ، وَمِنَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ، وَمِنْ حَمْلِهِمْ، وَمِنْ وَضْعِهِمْ فِي قُبُورِهِمْ، وَمِنَ الِانْصِرَافِ عَنْهُمْ وَنَحْنُ نُحِبُّهُمْ، وَمِنْ عَدَمِ قُدْرَتِنَا عَلَى نَفْعِهِمْ بِشَيْءٍ إِلَّا بِالدُّعَاءِ الصَّالِحِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ثَبَتَ فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ.
وَحُبُّ الدُّنْيَا يُعَالِجُهُ الْإِنْسَانُ بِإِخْرَاجِ هَذِهِ الْمَحَبَّةِ لِلدُّنْيَا الزَّائِلَةِ مِنْ قَلْبِهِ؛ وَلَكِنْ هَذَا شَدِيدٌ؛ لِأَنَّ هَذَا هُوَ الدَّاءُ الْعُضَالُ الَّذِي أَعْيَا الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ عِلَاجُهُ.
لَا عِلَاجَ إِلَّا بِالْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَمَا فِيهِ مِنْ عَظِيمِ الْعُقُوبَةِ وَجَزِيلِ الثَّوَابِ، وَمَهْمَا حَصَلَ لِلْإِنْسَانِ الْيَقِينُ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ يَرْتَحِلُ عَنْ قَلْبِهِ حُبُّ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ حُبَّ الشَّيْءِ الْكَبِيرِ يُذْهِبُ حُبَّ الشَّيْءِ الْقَلِيلِ.
فَإِذَا أَحَبَّ الْإِنْسَانُ الْآخِرَةَ، وَأَحَسَّ حَقَارَةَ الدُّنْيَا، وَإِذَا أَحَسَّ الْإِنْسَانُ نَفَاسَةَ وَقِيمَةَ الْآخِرَةِ، وَأَحَسَّ بِقِلَّةِ شَأْنِ الدُّنْيَا؛ فَإِنَّ الْأَعْلَى يُذْهِبُ الْأَدْنَى؛ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَيَتَرَسَّخُ فِي الْقَلْبِ حُبُّ الْآخِرَةِ مَعَ الْإِيمَانِ بِهَا.
وَأَمَّا إِذَا مَا ظَلَّ الْإِنْسَانُ هَكَذَا فَإِنَّ حُبَّ الدُّنْيَا يَقْوَى فِي قَلْبِهِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَضْعُفَ حُبُّ الْآخِرَةِ تَبَعًا؛ لِأَنَّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ نَقِيضَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ.
النَّاسُ مَرَاتِبُ فِي طُولِ الْأَمَلِ وَقِصَرِهِ، النَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ يَأْمُلُ الْبَقَاءَ وَيَشْتَهِي ذَلِكَ أَبَدًا، يَتَمَنَّى الْخُلُودَ، وَيَأْمُلُ بِطُولِ الْأَمَلِ فِي الْبَقَاءِ السَّرْمَدِ، وَأَنَّهُ لَنْ يَمُوتَ أَبَدًا، قَالَ تَعَالَى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} [البقرة: 96].
وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْمُلُ الْبَقَاءَ إِلَى الْهَرَمِ -أَقْصَى الْعُمُرِ- الَّذِي شَاهَدَهُ هُوَ فِي النَّاسِ.
وَمِنْهُمْ كَمَا يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((قَلْبُ الشَّيْخِ شَابٌّ عَلَى حُبِّ اثْنَتَيْنِ: طُولِ الْحَيَاةِ، وَحُبِّ الْمَالِ)).
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَأْمُلُ إِلَى سَنَةٍ، فَلَا يَشْتَغِلُ بِتَدْبِيرِ مَا وَرَاءَهَا، فَلَا يُقَدِّرُ لِنَفْسِهِ وُجُودًا فِي عَامٍ قَابِلٍ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْمُلُ مُدَّةَ الصَّيْفِ أَوِ الشِّتَاءِ، فَلَا يَدَّخِرُ فِي الصَّيْفِ ثِيَابَ الشِّتَاءِ؛ لِأَنَّهُ يَأْمُلُ أَنْ يَعِيشَ الصَّيْفَ فَقَطْ، فَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى الشِّتَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْمُلُ الشِّتَاءَ فَقَطْ، فَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى الصَّيْفِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْجِعُ أَمَلُهُ إِلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَلَا يَسْتَعِدُّ إِلَّا لِنَهَارٍ، وَأَمَّا لِلْغَدِ فَلَا.
ذَكَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- طُولَ الْأَمَلِ، وَعَدَمَ تَذَكُّرِ الْمَوْتِ فِي بَعْضِ آيَاتِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ؛ فَقَالَ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ۚ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 96].
فَذَكَرَ أَقْوَامًا لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى الْمَوْتِ مُطْلَقًا، يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ -لَوْ يَعِيشُ أَلْفَ سَنَةٍ-.
وَيَقُولُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ ۖ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر: 3].
هَذَا هُوَ الْأَمَلُ الْمَذْمُومُ.
الرَّسُولُ ﷺ ضَرَبَ لَنَا الْمِثَالَ فِي أَجَلِ الْإِنْسَانِ وَأَمَلِ الْإِنْسَانِ، وَهَذَا الْأَجَلُ الَّذِي يُحِيطُ بِالْإِنْسَانِ مِنْ جَمِيعِ أَقْطَارِهِ؛ عَلَّ الْإِنْسَانَ أَنْ يَلْتَفِتَ، وَعَلَّ الْإِنْسَانَ أَنْ يَتُوبَ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي.
عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: أَخَذَ الرَّسُولُ ﷺ ثَلَاثَةَ أَعْوَادٍ، فَغَرَسَ إِلَى جَنْبِهِ وَاحِدًا، ثُمَّ مَشَى قَلِيلًا فَغَرَسَ آخَرَ، ثُمَّ مَشَى ﷺ قَلِيلًا فَغَرَسَ الْآخَرَ –يَعْنِي: الثَّالِثَ-.
ثُمَّ قَالَ: ((هَلْ تَدْرُونَ مَا هَذَا؟ هَذَا مَثَلُ ابْنِ آدَمَ، وَأَجَلِهِ، وَأَمَلِهِ، فَنَفْسُهُ تَتُوقُ إِلَى أَمَلِهِ، وَيَخْتَرِمُهُ أَجَلُهُ دُونَ أَمَلِهِ)) . هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ وَكِيعٌ فِي ((الزُّهْدِ))، وَهُوَ حَدِيثٌ مُرْسَلٌ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ فِي ((الزُّهْدِ))، وَمَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي ((الصَّحِيحِ)) .
ابْنُ آدَمَ يُرِيدُ الْأَمَلَ، وَالْأَمَلُ بَعْدَ الْأَجَلِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَصِلَ إِلَى هَذَا الْأَمَلِ اخْتَرَمَهُ الْأَجَلُ دُونَ الْأَمَلِ.
وَعَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((اللَّهُمَّ مَنْ آمَنَ بِكَ وَشَهِدَ أَنِّي رَسُولُكَ فَحَبِّبْ إِلَيْهِ لِقَاءَكَ، وَسَهِّلْ عَلَيْهِ قَضَاءَكَ، وَأَقْلِلْ لَهُ مِنَ الدُّنْيَا، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِكَ وَلَمْ يَشْهَدْ أَنِّي رَسُولُكَ فَلا تُحَبِّبْ إِلَيْهِ لِقَاءَكَ، وَلا تُسَهِّلْ عَلَيْهِ قَضَاءَكَ، وَأَكْثِرْ لَهُ مِنَ الدُّنْيَا)). أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْكَبِيرِ))، وَابْنُ حِبَّانَ فِي ((صَحِيحِهِ))، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ.
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((خَطَّ النَّبِيُّ ﷺ خَطًّا مُرَبَّعًا –يَعْنِي: رَسَمَ مُرَبَّعًا عَلَى الْأَرْضِ-، وَخَطَّ خَطًّا فِي الْوَسَطِ خَارِجًا مِنْهُ –يَعْنِي: مِنْ هَذَا الْمُرَبَّعِ-، وَخَطَّ خُطُوطًا صِغَارًا إِلَى هَذَا الَّذِي فِي الْوَسَطِ مِنْ جَانِبِهِ الَّذِي فِي الْوَسَطِ.
وَقَالَ: ((هَذَا الْإِنْسَانُ، وَأَجَلُهُ مُحِيطٌ بِهِ، وَقَدْ أَحَاطَ بِهِ، وَهَذَا الَّذِي هُوَ خَارِجٌ أَمَلُهُ -فَالْأَمَلُ خَارِجُ الْأَجْلِ؛ فَكَيْفَ يَتَحَقَّقُ؟!-، وَهَذِهِ الْخُطُوطُ الصِّغَارُ الْأَعْرَاضُ -أَعْرَاضُ الدُّنْيَا-، فَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا، وَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)).
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِمَنْكِبَيَّ، فَقَالَ: ((كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ))، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- يَقُولُ: ((إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
قَالَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ اثْنَتَيْنِ: طُولُ الأَمَلِ، وَاتِّبَاعُ الْهَوَى ، فَأَمَّا طُولُ الأَمَلِ فَيُنْسِي الآخِرَةَ، وَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ، أَلَا وَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ وَلَّتْ مُدْبِرَةً، وَالآخِرَةَ مُقْبِلَةٌ)) .
فَاعْمَلُوا لِلْبَاقِيَةِ، وَلَا تَلْتَفِتُوا كَذَلِكَ لِتِلْكَ الْمُدْبِرَةِ.
مَنْ ذَا الَّذِي يَبْنِي عَلَى مَوْجِ الْبَحْرِ دَارًا = تِلْكُمُ الدُّنْيَا فَلا تَتَّخِذُوهَا قَرَارًا
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((هَذَا الْمَرْءُ وَهَذِهِ الْحُتُوفُ حَوْلَهُ شَوَارِعُ إِلَيْهِ –يَعْنِي: كُلُّهَا تُؤَدِّي إِلَيْهِ-، وَالْهَرَمُ وَرَاءَ الْحُتُوفِ، وَالْأَمَلُ وَرَاءَ الْهَرَمِ، فَهُوَ يُؤَمِّلُ وَهَذِهِ الْحُتُوفُ شَوَارِعُ إِلَيْهِ، فَأَيُّهَا أُمِرَ بِهِ أَخَذَهُ، فَإِنْ أَخْطَأَتْهُ الْحُتُوفُ قَتَلَهُ الْهَرَمُ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى الْأَمَلِ)) .
لَا يَطُولَنَّ عَلَيْكَ الْأَمَدُ، وَلَا يُلْهِيَنَّكُمُ الْأَمَلُ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ، أَلَا وَإِنَّ الْبَعِيدَ مَا لَيْسَ آتِيًا.
مَا دَامَ الشَّيْءُ آتِيًا مَهْمَا ابْتَعَدَ فَهُوَ قَرِيبٌ، سَيَأْتِي مَعَ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي، وَأَمَّا الَّذِي الشَّيءُ البَعِيدُ حَقًّا فَهُوَ الَّذِي لَنْ يَأْتِيَ أَبَدًا.
عِبَادَ اللهِ! طُولُ الْأَمَلِ يُنْسِي الْآخِرَةَ وَمَا أَعَدَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي الْآخِرَةِ مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَيُقَلِّلُ مِنَ الصَّبْرِ عِنْدَ الشَّهْوَةِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ قَصِيرَ الْأَمَلِ فَإِنَّ صَبْرَهُ يَقْوَى عِنْدَ عُرُوضِ الشَّهْوَةِ؛ لِتذَكُّرِهِ لِقِصَرِ الْأَجَلِ، وَلِذَهَابِ طُولِ الْأَمَلِ عَنْهُ.
وَطُولُ الْأَمَلِ يَجْلِبُ سَعَادَةً ظَاهِرَةً فِي الْحَيَاةِ بِلَذَّةٍ فَانِيَةٍ، وَيُقَسِّي الْقَلْبَ، وَيُجِفُّ الدَّمْعَ، وَيَزِيدُ فِي شِدَّةِ الْحِرْصِ عَلَى الدُّنْيَا، ويَدْفَعُ إِلَى الْمَعَاصِي، وَيُبْعِدُ عَنِ الطَّاعَاتِ، وَيَتَعَدَّى الْإِنْسَانُ بِسَبَبِ طُولِ أَمَلِهِ عَلَى الْآخَرِينَ؛ لِأَنَّهُ يَظُنُّ أَنَّهُ سَيَبْقَى وَيَذْهَبُ الْآخَرُونَ، فَيَسْلُبُ حِينَئِذٍ الْحُقُوقَ، وَيَعْتَدِي عَلَى الْحُرُمَاتِ، وَيَنْتَهِكُ الْمُحَرَّمَاتِ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِسَبَبِ طُولِ الْأَمَلِ.
النَّاسُ يَتَنَازَعُونَ وَيَتَصَارَعُونَ فِي شِبْرٍ مِنْ أَرْضٍ فِي حَدٍّ بَيْنَ أَرْضَيْنِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ؛ لَا لِشَيْءٍ إِلَّا لِطُولِ الْأَمَلِ، وَأَمَّا هَذَا كُلُّهُ فَإِلَى زَوَالٍ، فَإِنْ لَمْ يَزُلْ عَنْكَ فَسَتَزُولُ عَنْهُ لَا مَحَالَةَ، وَالْمُوَفَّقُ مَنْ وَفَّقَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
وَمَا أَعْظَمَ وَصِيَّةَ ذَلِكَ الرَّجُلِ لَمَّا قِيلَ لَهُ: ((أَوْصِنَا)).
قَالَ: ((احْذَرُوا (سَوْفَ)؛ فَإِنَّ يَوْمَ الْعَاجِزِينَ غَدٌ، وَصَاحِبُ الْهِمَّةِ لَا يَعْرِفُ يَوْمَ الْعَاجِزِينَ؛ لِأَنَّ الْحُقُوقَ مُرْتَبِطَةٌ بِزَمَانِهَا، وَالْوَاجِبَاتُ أَكْثَرُ، وَالتَّسْوِيفُ تَفْوِيتٌ لِحَقٍّ لَزِمَهُ، وَتَضْيِيعٌ لِوَاجِبٍ عِنْدَهُ، فَإِذَا أَجَّلَهُ إِلَى غَدِهِ تَرَاكَمَتْ عَلَيْهِ الْوَاجِبَاتُ)).
قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِيَّاكَ وَالتَّسْوِيفَ؛ فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُضَيِّعُ عَلَيْكَ يَوْمَكَ، وَيُدَمِّرُ عَلَيْكَ غَدَكَ؛ فَإِنَّكَ بِيَوْمِكَ وَلَسْتَ بِغَدِكَ.
قَالَ: فَإِنْ يَكُنْ غَدٌ لَكَ فَكُنْ فِيهِ كَيِّسًا كَمَا أَنْتَ الْيَوْمَ كَيِّسٌ، وَإِلَّا يَكُنِ الْغَدُ لَكَ لَمْ تَنْدَمْ عَلَى مَا فَرَّطْتَ فِي الْيَوْمِ)).
وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَضْمَنُ مَا يَكُونُ فِي غَدٍ، فَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إِنَّمَا يُؤَجِّلُونَ وَيُسَوِّفُونَ؛ لِأَنَّهُمْ يُؤَمِّلُونَ فِي فَرَاغٍ يَحْصُلُ، أَوْ فِي صِحَّةٍ تَجِدُّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ رُبَّمَا لَمْ يَأْتِ مِنْ ذَلِكَ الَّذِي يُؤَمِّلُهُ مِنْ شَيْءٍ، وَقَدْ دَلَّهُ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى الصَّوَابِ فِي الْمَسْأَلَةِ: ((اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ؛ شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغُلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ)).
فَدَلَّكَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى أَنَّكَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ وَاعِيًا، وَأَلَّا تُفَرِّطَ فِي عُمُرِكَ وَرَأْسِ مَالِكَ؛ لِأَنَّكَ إِنِ اعْتَقَدْتَ التَّفَرُّغَ مِنَ الشَّوَاغِلِ فِي مُسْتَقْبَلِ الْأَيَّامِ فَهَذَا وَهْمٌ وَسَرَابٌ.
أَتَرْجُو أَنْ تَكُونَ وَأَنْتَ شَيْخٌ = كَمَا قَدْ كُنْتَ أَيَّامَ الشَّبَابِ
لَقَدْ كَذَبَتْكَ نَفْسُكَ لَيْسَ ثَوْبٌ = دَرِيسٌ كَالْجَدِيدِ مِنَ الثِّيَابِ
وَلَا يَنْتَظِرُ الْمَرْءُ فِي غَدٍ إِلَّا أَنْ تَعْلُوَ بِهِ السُّنُونُ، وَإِلَّا أَنْ تَنْحَطَّ بِهِ الْقُدْرَةُ، وَإِلَّا أَنْ يَصِيرَ إِلَى الْعَجْزِ؛ وَحِينَئِذٍ يَنْدَمُ، وَلَاتَ حِينَ مَنْدَمِ.
وَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَحْصِيلِ وَاجِبِ الْوَقْتِ الْحَاضِرِ، وَفِي الْقِيَامِ بِمَا كَلَّفَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهِ، لَا أَنْ يَنْشَغِلَ عَنْ ذَلِكَ بِتَسْوِيفٍ يُضَيِّعُ عَلَيْهِ حَاضِرَهُ، وَيُدَمِّرُ عَلَيْهِ غَدَهُ، وَلَا يُحَصِّلُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا قَبْضَةً مِنْ ذُبَابٍ، وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.
((التَّحْذِيرُ مِنْ مُضَيِّعَاتِ الْوَقْتِ))
عِبَادَ اللهِ! مَنْ تَتَبَّعَ أَخْبَارَ النَّاسِ، وَتَأَمَّلَ أَحْوَالَهُمْ، وَعَرَفَ كَيْفَ يَقْضُونَ أَوْقَاتَهُمْ، وَكَيْفَ يُمَضُّونَ أَعْمَارَهُمْ؛ عَلِمَ أَنَّ أَكْثَرَ الْخَلْقِ مُضَيِّعُونَ لِأَوْقَاتِهِمْ، مَحْرُومُونَ مِنْ نِعْمَةِ اسْتِغْلَالِ الْعُمُرِ وَاغْتِنَامِ الْوَقْتِ؛ وَلِذَا نَرَاهُمْ يُنْفِقُونَ أَوْقَاتَهُمْ وَيُهْدِرُونَ أَعْمَارَهُمْ فِيمَا لَا يَعُودُ عَلَيْهِمْ بِالنَّفْعِ؛ فَلْيَحْذَرِ الْإِنْسَانُ مِمَّا يُضَيِّعُ عَلَيْهِ وَقْتَهُ، وَمِمَّا يُدَمِّرُ عَلَى الْإِنْسَانِ وَقْتَهُ: تَضْيِيعُ الْوَقْتِ فِي الْمَنَامِ، النَّوْمُ نِعْمَةٌ مِنْ نِعَمِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَلَوْلَا النَّوْمُ لَعِشْنَا فِي شَقَاءٍ، وَالْإِنْسَانُ مَطْلُوبٌ مِنْهُ أَنْ يُعْطِيَ جَسَدَهُ حَقَّهُ، ((وَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا))، وَلَيْسَ مَعْنَى هَذَا أَنْ يَنَامَ الْإِنْسَانُ السَّاعَاتِ الطَّوِيلَةَ الْمُتَواصِلَةَ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُعْطِيَ جَسَدَهُ مَا يَحْتَاجُهُ الْجَسَدُ.
وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ثَمَانِي سَاعَاتٍ، وَهَذَا خَطَأٌ كَبِيرٌ، فَكَثِيرٌ مِنَ الصَّالِحِينَ إِنَّمَا يَكْتَفُونَ بِالْغَفْلَةِ السَّرِيعَةِ، وَالنَّوْمَةِ الَّتِي لَا تَسْتَغْرِقُ إِلَّا مِثْلَ الِانْتِبَاهَةِ عِنْدَ غَيْرِهِمْ، وَنَوْمُ الصَّالِحِينَ غَلَبَةٌ، وَقَدْ مَكَثَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- سِنِينَ عَدَدًا لَا يَضَعُ جَنْبَهُ عَلَى الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَنَامُ -رَحِمَهُ اللهُ- جَالِسًا، كَانَ يَنَامُ فِي حَالِ التَّحْصِيلِ، فَإِذَا غَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ نَامَ مَا شَاءَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَلَمْ يَضَعْ جَنْبَهُ عَلَى الْأَرْضِ سِنِينَ عَدَدًا -رَحِمَهُ اللهُ-.
فَالْإِنْسَانُ يُعْطِي جَسَدَهُ مَا يَصِحُّ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ وَلَا إِفْرَاطٍ، وَإِنَّمَا يَتَوَقَّفُ عِنْدَ حُدُودِ مَا يَحْتَاجُهُ الْجَسَدُ، وَأَمَّا تَضْيِيعُ الْوَقْتِ فِي الْمَنَامِ؛ فَهَذَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْأَكْيَاسِ الَّذِينَ يَحْرِصُونَ عَلَى أَعْمَارِهِمْ.
وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ وَأَرْشَدَ إِلَى أَمْرٍ يُضَيِّعُهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((قِيلُوا فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَا تَقِيلُ)).
فِي الْوَقْتِ الَّذِي هُوَ وَقْتُ الْقَيْلُولَةِ يَكُونُ الشَّيْطَانُ سَارِحًا يَمْرَحُ، وَالْمَفْرُوضُ أَنَّنَا نَكُونُ فِي نَوْمٍ، وَلَا نَتَأَخَّرُ فِي السَّهَرِ؛ فَالنَّبِيُّ ﷺ كَرِهَ السَّهَرَ بَعْدَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ إِلَّا لِلْعِلْمِ أَوِ الْأَشْيَاءِ الْمُهِمَّةِ، كَمَا إِذَا نَزَلَ بِكَ ضِيفَانٌ أَوْ مَا أَشْبَهَ، وَلَكِنِ النَّاسُ الْآنَ جَعَلُوا الْوَقْتَ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الشَّيْطَانُ فِي مَرَاحٍ جَعَلُوهُ لَهُمْ مَرَاحًا، ثُمَّ إِنَّهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ يُقَضُّونَ الْأَوْقَاتَ بِاللَّيْلِ فِي سَهَرٍ يَعُودُ عَلَيْهِمْ، وَلَا يَعُودُ لَهُمْ.
وَطَرِيقَةُ الْحَيَاةِ الْمُعَاصِرَةِ تُجْبِرُنَا عَلَى أَشْيَاءَ مِنَ الِاسْتِيقَاظِ، يَعْنِي: إِذَا نَظَرَ الْإِنْسَانُ إِلَى حَالِ الْخَلْقِ فِي هَذَا الْعَصْرِ وَجَدَ أَنَّ الْحَيَاةَ الْمُعَاصِرَةَ تُجْبِرُ الْمَرْءَ عَلَى أُمُورٍ تَضْطَرِبُ بِهَا أَحْوَالُهُ، وَلَكِنْ إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تُنَفِّذَ مَا أَمَرَكَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ؛ وَهُوَ أَنْ تَنَامَ وَقْتَ الْقَيْلُولَةِ فَافْعَلْ؛ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَا تَقِيلُ.
وَمِنَ الْأُمُورِ الْمُضَيِّعَةِ لِلْوَقْتِ كَذَلِكَ: مَا يَتَعَلَّقُ بِوَجْبَاتِ الطَّعَامِ؛ سَوَاءٌ كَانَتْ عَلَى الْمَائِدَةِ، كَمَا يَحْصُلُ عِنْدَمَا يَجْتَمِعُ أُنَاسٌ عَلَى الطَّعَامِ؛ فَإِنَّهُ يَطُولُ الْكَلَامُ فِي أَشْيَاءَ تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ.
الْأَكْلُ الَّذِي كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُلْتَهَمَ فِي عَشْرِ دَقَائِقَ لَا يُفْرَغُ مِنْهُ إِلَّا بَعْدَ نِصْفِ سَاعَةٍ، أَوْ بَعْدَ سَاعَةٍ عَلَى الْأَقَلِّ، وَقَدْ يَكُونُ تَضْيِيعُ هَذَا الْوَقْتِ فِي مِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ مُؤَثِّرًا عَلَى وَاجِبَاتٍ لَا يَسْتَطِيعُ الْمَرْءُ أَنْ يُحَصِّلَهَا بَعْدُ.
وَمِمَّا يُضَيِّعُ الْأَوْقَاتَ كَذَلِكَ وَيَسْتَهْلِكُهَا: مَا يَجْتَمِعُ النَّاسُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ شَرْعِيَّةٍ، وَالِاجْتِمَاعُ بِالْإِخْوَةِ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: اجْتِمَاعٌ عَلَى مُؤَانَسَةِ الطَّبْعِ، وَشُغُلِ الْوَقْتِ؛ فَهَذَا مَضَرَّتُهُ أَرْجَحُ مِنْ مَنْفَعَتِهِ، وَأَقَلُّ مَا فِيهِ أَنَّهُ يُفْسِدُ الْقَلْبَ، وَيُضَيِّعُ الْوَقْتَ.
لَقَدْ كَانَ السَّلَفُ -عَلَيْهِمُ الرَّحْمَةُ- إِذَا بَلَغَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَمْ يُعْرَفْ لَهُ فِي الْبَيْتِ فِرَاشٌ، يُطْوى فِرَاشُهُ، فَيَضَعُ جَنْبَهُ حَيْثُمَا اتَّفَقَ، وَكَذَلِكَ نَوْمُ الصَّالِحِينَ، فَنَوْمُ الصَّالِحِينَ غَلَبَةٌ، وَأَمَّا نَحْنُ فِي هَذَا الْعَصْرِ فَإِنَّنَا نَتَفَنَّنُ فِي إِضَاعَةِ الْعُمُرِ، وَنَأْخُذُ بِالْوَسَائِلِ الَّتِي تُضَيِّعُهُ عَلَيْنَا كَأَنَّمَا نَسْعَى فِي إِقَامَةِ حُجَّةِ رَبِّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْنَا!!
وَاعْتَبِرْ فِي أَحْوَالِ الْخَلْقِ مِنْ حَوْلِكَ؛ فَإِنَّهُمْ لَا يَكَادُونَ يَلْتَفِتُونَ إِلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ الْجَلِيلَةِ، وَإِنَّمَا يَتَفَنَّنُونَ فِي إِضَاعَةِ أَعْمَارِهِمْ، وَفِي تَبْدِيدِ أَوْقَاتِهِمْ، حَتَّى إِنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ لَرُبَّمَا زَارَكَ وَمَا لَهُ مِنْ هَمٍّ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَجِدُ شَيْئًا يَشْغَلُ وَقْتَهُ، فَرَأَى أَنْ يَزُورَكَ لَيُضَيِّعَ بَعْضَ الْوَقْتِ عَلَى نَفْسِهِ، وَمَا دَرَى الْمِسْكِينُ أَنَّهُ يُضَيِّعُ رَأْسَ مَالِهِ، وَأَنَّهُ إِذَا اسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى جَاءَهُ الْمَوْتُ فَقَدْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِي الْمَأْزِقِ الَّذِي لَا خُرُوجَ لَهُ مِنْهُ -نَسْأَلُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يُحْسِنَ خِتَامَنَا أَجْمَعِينَ-.
وَاعْتَبِرْ فِي هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِخَلْقِهِ فِي أَرْضِهِ نِعْمَةً، فَجَعَلُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ نِقْمَةً، وَهُوَ تِلْكَ الْهَوَاتِفُ الَّتِي يَتَفَنَّنُ النَّاسُ فِي إِضَاعَةِ الْأَوْقَاتِ بِسَبَبِهَا، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى إِلْفِ الْعَادَةِ.
وَأَنْتَ إِذَا نَظَرْتَ -مَثَلًا- فِي كَثِيرٍ مِنْ كَلَامِ الْخَلْقِ وَجَدْتَ أَنَّ أَكْثَرَ هَذَا الْكَلَامِ لَا قِيمَةَ لَهُ وَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى يُمْكِنُ أَنْ يُؤَدَّى فِي دَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَكِنَّ النَّاسَ يَسْتَكْثِرُونَ مِنَ الْكَلَامِ وَيُطَوِّلُونَ فِي أَذْيَالِهِ بِغَيْرِ مُوجِبٍ، بَلْ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ يَلْتَزِمُ لَوَازِمَ فِي الْكَلَامِ تَكُونُ مُضْحِكَةً -أَحْيَانًا-، بَلْ إِنَّهَا تُؤَدِّي فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحَايِينِ إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الشُّرُورِ.
فَكَثِيرٌ مِنَ الْخَلْقِ يَلْتَزِمُ أَنْ يَقُولَ كُلَّمَا أَتَى بِجُمْلَةٍ: (وَاخِد بَال حَضْرَتِكَ؟!!) فَيَقُولُهَا فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحد مِائَةَ مَرَّةً وَرُبَّمَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كُلَّمَا تَكَلَّمَ كَلِمَةً أَتَى بِهَذِهِ اللَّازِمَةِ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَأْتِي بِكَلِمَةِ (يَعْنِي)، فَكُلَّمَا قَالَ كَلِمَةً أَلْصَقَ بِهَا (يَعْنِي) مِنْ غَيْرِ مُوجِبٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُرَاقِبُ لِسَانَهُ، وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى مَنْطِقِهِ، وَلَا يَحْرِصُ عَلَى إِجَادَةِ لَفْظِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُتَكَلِّمٌ كَيْفَمَا اتَّفَقَ لَهُ الْكَلَامُ، وَكَأَنَّ الْكَلَامَ لَا يَمُرُّ عَلَى عَقْلِهِ، وَلَا يَأْتِي مِنْ وَرَاءِ قَلْبِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ يَنْدَفِعُ فِيهِ انْدِفَاعًا بِغَيْرِ عَقْلٍ وَلَا تَبَصُّرٍ.
حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ يَأْتِي بِلَازِمَةٍ تُوقِعُهُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْحَرَجِ؛ فَكَانَ كُلَّمَا تَكَلَّمَ أَوْ كُلِّمَ يَقُولُ: (عَمَل خَيْر)، فَلَقِيَ ابْنَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ عَلَى مُدَّةِ غِيَابٍ مِنْ صَاحِبِهِ، فَسَأَلَهُ عَنْ حَالِهِ وَعَنْ حَالِ الْأُسْرَةِ، ثُمَّ كُلَّمَا قَالَ لَهُ الْوَلَدُ له شَيْئًا، قَالَ: (عَمَل خَيْر!)، حَتَّى سَأَلَهُ عَنْ أَبِيهِ فَقَالَ: مَاتَ، قَالَ: عَمَل خَيْر!!
فَهَذِهِ أُمُورٌ يَتَنَزَّهُ عَنْهَا الْعُقَلَاءُ.
فَيَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَجْعَلَ أَوْقَاتَنَا حَيْثُ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ، وَإِنَّمَا خَلَقَنَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِعِبَادَتِهِ، وَعِبَادَةُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هِيَ كُلُّ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَالْبَرَاءَةُ مِنْ كُلِّ مَا يُنَافِي ذَلِكَ وَيُضَادُّهُ.
فَإِذَا تَكَلَّمْتَ بِالْكَلِمَةِ الصَّالِحَةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ.
إِذَا أَمَرْتَ بِمَعْرُوفٍ، وَنَهَيْتَ عَنْ مُنْكَرٍ، وَأَرْشَدْتَ ضَالًّا، وَأَخَذْتَ بِالصُّلْحِ بَيْنَ النَّاسِ، وَتَحَرَّكْتَ فِي هَذَا الْمُجْتَمَعِ الَّذِي ضَلَّ أَكْثَرُ خَلْقِهِ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَبَعُدَ عَنْ جَادَّةِ الطَّرِيقِ الْقَوِيمِ، فَأَخَذْتَ تُرْشِدُ إِلَى الْخَيْرِ وَتَحُضُّ عَلَيْهِ، وَتُحَذِّرُ مِنَ الشَّرِّ وَتُنَفِّرُ مِنْهُ، إِذَا ضَيَّعْتَ هَذِهِ الْأَوْقَاتَ وَجَدْتَهَا؛ يَعْنِي إِذَا ضَيَّعْتَ الْأَوْقَاتَ فِي هَذِهِ الْأَعْمَالِ فَقَدْ وَجَدْتَهَا وَاسْتَثْمَرْتَهَا، فَهِيَ تَضِيعُ عِنْدَ النَّاسِ ظَاهِرًا، وَلَكِنَّهَا مُبْقَّاةٌ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.
فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ..
وَقَدْ مَرَّ الْحَدِيثُ عَلَى الْعَلَّامَةِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ للهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ؛ غُرِسَتْ لَهُ فِي الْجَنَّةِ نَخْلَةٌ)).
قَالَ: ((سُبْحَانَ اللهِ! مَا أَكْثَرَ مَا ضَيَّعْنَا مِنَ النَّخْلِ!)).
لِأَنَّنَا نُضَيِّعُ الْأَوْقَاتَ.
لَا تُضَيِّعُوا أَوْقَاتَكُمْ!
إِذَا انْصَرَفْنَا -مَثَلًا- مِنَ الصَّلَاةِ؛ يَتَحَلَّقُ النَّاسُ يَتَكَلَّمُونِ، فِي أَيِّ شَيْءٍ يَتَكَلَّمُونَ؟!!
لَا تَدْرِي فِيمَا يَتَكَلَّمُونَ، وَلَعَلَّهُمْ يُبَدِّدُونَ مَا حَصَّلُوا مِنَ الْحَسَنَاتِ -إِنْ حَصَّلُوا شَيْئًا-؛ لِأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ فِي الْغِيبَةِ، وَرُبَّمَا تَوَرَّطُوا فِي الْكَذِبِ، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَهْضِبُ بِلِسَانِهِ، فَيُشْرِكُ بِاللهِ لَفْظًا وَلَا يَدْرِي!
وَكَثِيرٌ مِنَ الْخَلْقِ يُقْسِمُ بِغَيْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَلَا يَعْلَمُ ((أَنَّ الْقَسَمَ بِغَيْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ شِرْكٌ)) كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ.
وَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ مَا يُوقِعُ الْخَلْقَ فِي النَّارِ -نَسْأَلُ اللهَ الْعَافِيَةَ- حَصَائِدَ الْأَلْسُنِ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لَمَّا سَأَلَهُ مُعَاذٌ: ((أَوَمُؤَاخَذُونَ نَحْنُ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ يَا رَسُولَ اللهِ؟)).
قَالَ: ((ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ! وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟!!)).
مِنْ أَكْبَرِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُضَيِّعُ الْوَقْتَ: النِّقَاشَاتُ الَّتِي لَا تُفِيدُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَجَالِسِ، فَكُلٌّ مِنَ الْمُتَنَاقِشَيْنِ يَجْتَهِدُ وُسْعَهُ لِكَيْ يُثْبِتَ أَنَّهُ عَلَى صَوَابٍ، وَقَدْ يَكُونُونَ جَمِيعًا عَلَى خَطَأٍ مِنْ غَيْرِ أَدِلَّةٍ وَمِنْ غَيْرِ تَجَرُّدٍ.
وَهَذِهِ الِاجْتِمَاعَاتُ عَلَى غَيْرِ فَائِدَةٍ شَرْعِيَّةٍ يَنْبَغِي أَنْ يَنْتَبِهَ الْمُسْلِمُ إِلَى خَطَرِهَا جَيِّدًا، فَبَعْضُ طُلَّابِ الْعِلْمِ لَا يَرُدَّ أَحَدًا طَلَبَ مِنْهُ أَيَّ طَلَبٍ؛ وَإِنْ كَانَ تَافِهًا، أَيُّ شَخْصٍ يَطْلُبُ مِنْهُ أَمْرًا تَافِهًا يَخْرُجُ مَعَهُ، مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَضِّيَهُ غَيْرُهُ، وَالْحَلُّ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ أَنْ تَتَعَوَّدَ الِاعْتِذَارَ الْمُهَذَّبَ عَنْ كُلِّ عَمَلٍ يَصْرِفُكَ عَنِ الْغَايَةِ الَّتِي تَسْعَى إِلَيْهَا، وَلَا بُدَّ أَنْ تَعْتَذِرَ بِلَبَاقَةٍ عَنْ كُلِّ انْشِغَالٍ يَشْغَلُكَ بِهِ الْفَارِغُونَ، وَالْمَسْأَلَةُ قَدْ تَكُونُ مُحْرِجَةً، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا رَدَّ غَيْرُهُ إِذَا طَلَبَ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنَّهُ رُبَّمَا يَتَغَيَّرُ عَلَيْهِ صَدْرُهُ، وَلَكِنْ قَدْ يَطْلُبُكَ بَعْضُ الْفَارِغِينَ مَرَّاتٍ، وَالْفَوْضَوِيُّونَ يَتَّخِذُونَ الْقَرَارَاتِ لَحْظِيًّا، وَيَمُرُّونَ عَلَى مَنْ يَعْرِفُونَ، وَيَقُولُونَ لَهُمْ: تَعَالَوْا مَعَنَا وَهَكَذَا.
فَلْيَحْذَرِ الْعَاقِلُ هَؤُلَاءِ الْبَطَّالِينَ، فَمَا لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الرَّوْحَةُ مُهِمَّةٌ كَشَيْءٍ طَارِئٍ -مَثَلًا- كَوَفَاةِ إِنْسَانٍ يُدْفَنُ الْآنَ، وَأَخْبَرُوكَ فَتَذَهْبُ إِلَيْهِ، أَوْ لِعِيَادَةِ مَرِيضٍ، وَهَذَا وَقْتُ زِيَارَتِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الطَّاعَاتِ الَّتِي تُرْضِي اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.. إِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَتَلْبِيَةِ حَاجَةِ الْأَبَوَيْنِ، فَلَا يُرَى لَكَ إِلَّا أَنْ تَعْتَذِرَ؛ لِأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ يَضُرُّكَ فِي مُسْتَقْبَلِ حَيَاتِكَ كَمَا يَضُرُّكَ فِي حَاضِرِكَ.
النَّبِيُّ ﷺ لَمْ يَكُنْ يَرُدَّ سَائِلًا قَطُّ، وَكَانَتْ تَأْتِيهِ الْجَارِيَةُ تَأْخُذُ بِيَدِهِ ﷺ فِي أَيِّ طُرُقِ الْمَدِينَةِ شَاءَتْ، فَيَسِيرُ مَعَهَا الرَّسُولُ ﷺ؛ لِيَقْضِيَ لَهَا حَاجَتَهَا، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُجْتَمَعُ بِالرِّدَاءَةِ الَّتِي يَحْيَا عَلَيْهَا الْمُجْتَمَعُ الْآنَ، كَانَ مُجْتَمَعًا نَظِيفًا، وَكَانَتْ إِرَادَاتُ الْخَلْقِ فِي الْجُمْلَةِ مُنْضَبِطَةً، وَهُوَ أَشْرَفُ جِيلٍ عَرَفْتَهُ الْبَشَرِيَّةُ، هُوَ الْجِيلُ الَّذِي كَانَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ، فَلَمِ تَكُنِ الْحَيَاةُ -يَوْمَئِذٍ- كَالْحَيَاةِ الْآنَ، وَإِنَّمَا كَانُوا أَقْوَامًا يَرْقُبُونَ فِي الْمُؤْمِنِينَ الْإِلَّ وَالذِّمَّةَ، لَا كَحَالِ أَكْثَرِ النَّاسِ الْيَوْمَ لَا يَرْقُبُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً؛ فَكُنْ مِنْ أَهْلِ زَمَانِكَ عَلَى حَذَرٍ!
هَذِهِ الِاجْتِمَاعَاتُ الَّتِي تَكُونُ عَلَى غَيْرِ مَرْضَاةِ الرَّبِّ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- تَحْصُدُ فِيهَا الْأَلْسِنَةُ مَا تَحْصُدُ مِنَ الْآثَامِ وَالشُّرُورِ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ أَخْبَرَ أَنَّ أَكْثَرَ خَطَايَا ابْنِ آدَمَ فِي لِسَانِهِ، كَمَا صَحَّحَ ذَلِكَ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((الصَّحِيحَةِ))، وَهُوَ حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ: ((أَكْثَرُ خَطَايَا ابْنِ آدَمَ فِي لِسَانِهِ)).
وَعَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللهِ)).
وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَفْضَلُ الْجِهَادِ أَنْ تُجَاهِدَ نَفْسَكَ وَهَوَاكَ فِي ذَاتِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- )).
وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَفْضَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِسْلَامًا مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَأَفْضَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، وَأَفْضَلُ الْمُهَاجِرِينَ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللهُ -تَعَالَى- عَنْهُ، وَأَفْضَلُ الْجِهَادِ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي ذَاتِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- )). وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْكَبِيرِ)).
اللِّسَانُ مَجْمَعُ الْأَهْوَاءِ، وَجِهَادُهُ مِنْ أَشَقِّ الْأَشْيَاءِ، وَجِهَادُ النَّفْسِ أَصْعَبُ مِنْ جِهَادِ الْبَدَنِ؛ لِأَنَّ الْبَدَنَ مَأْمُورٌ، وَأَمَّا النَّفْسُ فَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ، الْبَدَنُ مَأْمُورٌ، وَأَمَّا النَّفْسُ فَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ لِمَالِكِ بْنِ دِينَارٍ: ((يَا أَبَا يَحْيَى! حِفْظُ اللِّسَانِ أَشَدُّ عَلَى النَّاسِ مِنْ حِفْظِ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ)).
وَالْإِنْسَانُ إِذَا رَاعَى وَقْتَهُ، وَحَفِظَ زَمَانَهُ وَعُمُرَهُ؛ فَإِنَّهُ يَجْتَهِدُ أَنْ يَكُونَ مُطَهِّرًا لِلِسَانِهِ مِنْ حَصَادِهِ وَآفَاتِهِ.
النَّبِيُّ ﷺ قَالَ: ((مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ)).
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: ((كَتَبَ إِلَيْنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ -رَحِمَهُ اللهُ-: أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ مَنْ أَكْثَرَ ذِكْرَ الْمَوْتِ رَضِيَ مِنَ الدُّنْيَا بِالْيَسِيرِ، وَمَنْ عَدَّ كَلَامَهُ مِنْ عَمَلِهِ قَلَّ كَلَامُهُ إِلَّا فِيمَا يَعْنِيهِ)).
فَلْيَتَكَلَّمِ الْإِنْسَانُ فِيمَا يَعُودُ عَلَيْهِ بِالنَّفْعِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلْيُمْسِكْ لِسَانَهُ عَنْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَنَحْنُ نَجْلِسُ مَعَ أَقْوَامٍ نَذْكُرُ مَا كَانَ فِي الْأَسْفَارِ وَمَا رَأَيْنَا مِنَ الْجِبَالِ وَالْأَنْهَارِ، وَمَا وَقَعَ لَنَا مِنَ الْوَقَائِعِ، وَمَا اسْتَحْسَنَّاهُ مِنَ الْأَطْعِمَةِ وَالثِّيَابِ، وَإِذَا بَالَغْنَا فِي ذَلِكَ فَإِنَّنَا نَمْزُجُ الْكَلَامَ بِزِيَادَةٍ وَنُقْصَانٍ، وَقَدْ يَقَعُ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ تَزْكِيَةٌ لِلنَّفْسِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَضْيَعَةٌ لِلزَّمَانِ، وَأَنَّى تَسْلَمُ مِنَ الْآفَاتِ وَأَنْتَ مُقِيمٌ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ؟!!
لَا يَجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تَسْأَلَ غَيْرَكَ عَمَّا لَا يَعْنِيكَ، فَأَنْتَ بِالسُّؤَالِ مُضَيِّعٌ لِوَقْتِكَ، وَأَلْجَأْتَ صَاحِبَكَ بِالْجَوَابِ إِلَى التَّضْيِيعِ، وَأَكْثَرُ الْأَسْئِلَةِ فِيهَا آفَاتٌ؛ فَإِنَّكَ تَسْأَلُ غَيْرَكَ عَنْ عِبَادَتِهِ -مَثَلًا-؛ تَقُولُ: هَلْ أَنْتَ صَائِمٌ؟ فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ؛ كَانَ مُظْهِرًا لِعِبَادَتِهِ، فَقَدْ يَدْخُلُ عَلَيْهِ الرِّيَاءُ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ سَقَطَتْ عِبَادَتُهُ إِنْ أَخْبَرَكَ مِنْ دِيوَانِ السِّرِّ، وَعِبَادَةُ السِّرِّ تَفْضُلُ عِبَادَةَ الْجَهْرِ بِدَرَجَاتٍ، وَإِنِ احْتَالَ لِمُدَافَعَةِ الْجَوَابِ افْتَقَرَ وَاحْتَاجَ إِلَى جُهْدٍ وَتَعَبٍ فِيهِ، وَقَدْ عَرَّضَهُ بِالسُّؤَالِ إِمَّا لِلرِّيَاءِ، أَوْ لِلْكَذِبِ، أَوْ لِلِاسْتِحْقَارِ، أَوْ لِلتَّعَبِ فِي حِيلَةِ الدَّفْعِ، وَكَذَلِكَ سُؤَالُكَ عَنْ سَائِرِ عِبَادَاتِ أَخِيكَ، وَلِمَاذَا تَسْأَلُ عَمَّا لَا يَعْنِيكَ؟!!
عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: ((سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: خَمْسٌ لَهُنَّ أَحْسَنُ مِنَ الدُّهْنِ الْمُوقَفَةِ: لَا تَتَكَلَّمْ فِيمَا لَا يَعْنِيكَ فَإِنَّهُ فَضْلٌ، وَلَا آمَنُ عَلَيْكَ الْوِزْرَ، وَلَا تَتَكَلَّمْ فِيمَا يَعْنِيكَ حَتَّى تَجِدَ لَهُ مَوْضِعًا؛ فَإِنَّهُ رُبَّ مُتَكَلِّمٍ فِي أَمْرٍ يَعْنِيهِ قَدْ وَضَعَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ؛ فَحِينَئِذٍ يُصِيبُهُ الْعَنَتُ.
وَلَا تُمَارِ حَلِيمًا وَلَا سَفِيهًا؛ فَإِنَّ الْحَلِيمَ يُقْلِيكَ، وَإِنَّ السَّفِيهَ يُؤْذِيكَ، وَاذْكُرْ أَخَاكَ إِذَا تَغَيَّبَ عَنْكَ بِمَا تُحِبُّ أَنْ يَذْكُرَكَ بِهِ، وَاعْفِهِ عَمَّا تُحِبُّ أَنْ يُعْفِيَكَ مِنْهُ، وَاعْمَلْ عَمَلَ رَجُلٍ يَرَى أَنَّهُ مَجَازًى بِالْإِحْسَانِ، مَأْخُوذٌ بِالْإِجْرَامِ)).
وَقَالَ مُوَرِّقٌ الْعِجْلِيُّ: ((أَمْرٌ أَنَا أَطْلُبُهُ مُنْذُ عَشْرِ سِنِينَ لَمْ أَقْدِرْ عَلَيْهِ، وَلَسْتُ بِتَارِكٍ طَلَبَهُ)).
قَالُوا: ((مَا هُوَ يَا أَبَا الْمُعْتَمِرِ؟)).
قَالَ: ((الصَّمْتُ عَمَّا لَا يَعْنِينِي)).
((الصَّمْتُ عَمَّا لَا يَعْنِينِي))، أَمْرٌ مِنْ أَشَقِّ مَا يَكُونُ؛ أَنْ تَسْكُتَ عَمَّا لَا يَعْنِيكَ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ: ((كَفَى عَيْبًا أَنْ يُبْصِرَ الْعَبْدُ مِنَ النَّاسِ مَا يَعْمَى عَنْهُ مِنْ نَفْسِهِ، وَأَنْ يُؤْذِيَ جَلِيسَهُ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ)).
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: ((دُخِلَ عَلَى أَبِي دُجَانَةَ وَهُوَ مَرِيضٌ وَوَجْهُهُ يَتَهَلَّلُ، فَقَالَ: مَا مِنْ عَمَلِي شَيْءٌ أَوْثَقُ فِي نَفْسِي مِنَ اثْنَتَيْنِ؛ لَمْ أَتَكَلَّمْ فِيمَا لَا يَعْنِينِي، وَكَانَ قَلْبِي لِلْمُسْلِمِينَ سَلِيمًا)).
وَأَعْظِمْ بِهِمَا مِنْ خَصْلَتَيْنِ؛ ((لَمْ أَتَكَلَّمْ فِيمَا لَا يَعْنِينِي، وَكَانَ قَلْبِي لِلْمُسْلِمِينَ سَلِيمًا)).
وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَدْ أَخْبَرَنَا أَنَّ كَثِيرًا مِنْ نَجْوَى النَّاسِ إِنَّمَا يَعُودُ عَلَيْهِمْ بِالضَّرَرِ، {لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114].
فُضُولُ الْكَلَامِ مَذْمُومٌ، وَهَذَا يَتَنَاوَلُ الْخَوْضَ فِيمَا لَا يَعْنِي، وَالزِّيَادَةَ فِيمَا يَعْنِي عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ؛ فَإِنَّ مَنْ يَعْنِيهِ أَمْرٌ يُمْكِنُهُ أَنْ يَذْكُرَهُ بِكَلَامٍ مُخْتَصَرٍ، وَمَهْمَا تَأَدَّى مَقْصُودُهُ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَذَكَرَ كَلِمَتَيْنِ فَالثَّانِيَةُ فُضُولٌ.
أَيُّ: فَضْلٌ عَنِ الْحَاجَةِ؛ فَكُلُّ ذَلِكَ يَكُونُ مَذْمُومًا، وَهُوَ مِنْ هَذِهِ الْبَابَةِ يُؤَدِّي إِلَى تَضْيِيعِ الْأَوْقَاتِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِثْمٌ وَلَا ضَرَرٌ.
قَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ لِمُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةِ وَجَمَاعَةٍ: ((يَا بَنِي أَخِي! إِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ فُضُولَ الْكَلَامِ، وَكَانُوا يَعُدُّونَ فُضُولَ الْكَلَامِ مَا عَدَا كِتَابُ اللهِ أَنْ تَقْرَأَهُ، أَوْ تَأْمَرَ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ تَنْهَى عَنْ مُنْكَرٍ، أَوْ تَنْطِقَ بِحَاجَتِكَ فِي مَعِيشَتِكَ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا، أَتُنْكِرُونَ: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الانفطار: 10-11]، وَقَالَ تَعَالَى: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 17-18]؟!!
أَمَا يَسْتَحْيِي أَحَدُكُمْ أَنَّهُ لَوْ نُشِرَتْ عَلَيْهِ صَحِيفَتُهُ الَّتِي أَمْلَى صَدْرَ نَهَارِهِ فَوَجَدَ أَكْثَرَ مَا فِيهَا لَيْسَ مِنْ أَمْرِ دِينِهِ وَلَا مِنْ أَمْرِ دُنْيَاهُ؟!!)).
هَذَا الْأَمْرُ الْكَبِيرُ يُفَرِّطُ فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَكَثِيرٌ مِنَ الْخَلْقِ يَقَعُ فِي مُخَالَفَةِ الرَّبِّ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَيَنْطِقُ فِي أُمُورٍ يُبْغِضُهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَلَا يَرْضَاهَا النَّبِيُّ ﷺ.
يَنْبَغِي عَلَيْنَا -عِبَادَ اللهِ- أَنْ نَتَأَمَّلَ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي، وَأَنْ نَجْتَهِدَ فِي طَاعَةِ رَبِّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَأَنْ نُوَظِّفَ اللِّسَانَ فِيمَا يَنْبَغِي أَنْ يُوَظَّفَ فِيهِ؛ مِنْ ذِكْرِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ، مِنْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، مِنْ تَعْلِيمِ الْعِلْمِ وَنَشْرِهِ وَبَثِّهِ وَإِذَاعَتِهِ، مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى الْخَيْرِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، مِنَ الْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ.
إِذَا وَجَدْتَ عِنْدَكَ وَقْتًا لَا تَدْرِي كَيْفَ تَقْضِيهِ أَنَا أَشْتَرِيهِ مِنْكَ؛ لِأَنَّنَا لَا نَجِدُ وَقْتًا لِلْوَاجِبَاتِ فَضْلًا عَنِ الْمُسْتَحَبَّاتِ -فَإِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ-.
وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ثَقُلَتْ عَلَيْهِمْ أَعْمَارُهُمْ، مَعَ أَنَّكَ لَا تَدْرِي مَا يَكُونُ بَعْدُ، فَالْمَرَضُ يَزْحَفُ، بَلْ يَعْدُو، بَلْ يَطِيرُ إِلَى الْإِنْسَانِ مِنْ حَيْثُ يَدْرِي وَلَا يَدْرِي، وَقَدْ يَقْطَعُكَ -أَسْأَلُ اللهَ لِي وَلَكَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ-، فَإِذَا كُنْتَ قَادِرًا الْيَوْمَ فَاغْتَنِمْ شَبَابَكَ قَبْلَ شَيْبِكَ، وَاغْتَنِمْ فَرَاغَكَ قَبْلَ شُغُلِكَ، وَلَا تُضَيِّعِ الْأَوْقَاتَ.
((اتَّقُوا اللهَ فِي أَعْمَارِكُمْ وَلَا تُضَيِّعُوهَا!))
عِبَادَ اللهِ! عَلَيْنَا أَنْ نَجْتَهِدَ فِي سَدِّ الْبَابِ عَلَى جَمِيعِ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤَدِّيَ إِلَى تَبْدِيدِ أَوْقَاتِنَا وَتَضْيِيعِ أَعْمَارِنَا، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إِذَا لَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ غَايَةٌ مَرْجُوَّةٌ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُحِسَّ بِطَعْمِ الْحَيَاةِ؛ لِأَنَّكَ إِذَا لَمْ تَجْعَلْ لِلْحَيَاةِ غَايَةً فَلَنْ تُحِسَّ بِطَعْمِ الْحَيَاةِ، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَجْعَلُ لِلْحَيَاةِ غَايَاتٍ ثَانَوِيَّةً، وَهَذِهِ إِذَا مَا حُصِّلَتْ فَكَأَنَّهُ لَمْ تَعُدْ لِحَيَاتِهِ قِيمَةٌ؛ لِذَلِكَ تَجِدُ أَكْثَرَ الَّذِينَ يُحَالُونَ إِلَى التَّقَاعُدِ تَصِيرُ حَيَاتُهُمْ إِلَى مَرَارٍ، وَإِلَى شَقَاءٍ، وَإِلَى عَنَتٍ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ يَدُورُ فِي دَائِرَةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَكَانَ يُرِيدُ أَنْ يُحَصِّلَ أَشْيَاءَ بِذَاتِهَا، فَلَمَّا حَصَّلَ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ؛ فَزَوَّجَ الْأَبْنَاءَ، ثُمَّ صَارَ كُلٌّ فِي طَرِيقٍ، وَحَصَّلَ مَا كَانَ يُرِيدُ مِنْ تِلْكَ الْأُمُورِ التَّافِهَاتِ؛ لَمَّا أَنْ صَنَعَ ذَلِكَ لَمْ تَعُدْ لِحَيَاتِهِ قِيمَةٌ، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيْسَ لَهُ مُسْتَرَاحٌ إِلَّا فِي جَنَّةِ رَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَهَذَا الْأَمْرُ يَكُونُ عَلَى قَدْرِ مَا يَتَأَلَّقُ فِي النَّفْسِ بِإِشْرَاقِهِ.
وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ بَلَغُوا الْمَبَالِغَ؛ كَسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَكَانَ صَغِيرًا فِي السِّنِّ، أَيْ: كَانَ فِي شَبَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَاهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ لِمَوْتِهِ.
وَكَثِيرٌ مِمَّنْ هُوَ فِي سِنِّ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ -الْآنَ- لَا يُسَاوِي وَزْنَهُ تُرَابًا؛ بَلْ إِنَّ وَزْنَهُ تُرَابًا يَكُونُ زَائِدًا بِكَثِيرٍ عَلَى قِيمَتِهِ.
كَثِيرٌ مِنْهُمْ مِمَّنْ هُوَ فِي سِنِّ سَعْدٍ أَوْ جَاوَزَهَا لَا يُسَاوِي وَزْنَهُ تُرَابًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لِنَفْسِهِ هَدَفًا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ؛ وَلِذَلِكَ يَمْضِي عُمُرُهُ سَبَهْلَلًا، كَمَا قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ: ((إِنِّي لَأَكْرَهُ الرَّجُلَ سَبَهْلَلًا))؛ يَعْنِي: لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَلَا مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مُقْبِلًا عَلَى شَأْنِكَ فِيمَا يَنْفَعُكَ فِي آخِرَتِكَ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مُقْبِلًا عَلَى مَا يَنْفَعُكَ فِي حَيَاتِكَ؛ شَرِيطَةَ أَلَّا يَتَعَارَضَ هَذَا الْأَمْرُ الدُّنْيَوِيُّ مَعَ دِينِكَ، وَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ضَاعَتْ عَلَيْكَ أَوْقَاتُكَ، وَتَسَرَّبَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْكِ عُمُرُكَ، وَهُوَ أَثْمَنُ مَا لَدَيْكَ؛ فَاحْرِصْ عَلَيْهِ، وَاتَّقِ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيهِ.
إِنَّمَا هُوَ عُمُرُكَ يُؤَدِّي بِكَ إِلَى إِحْدَى نَتِيجَتَيْنِ؛ إِمَّا إِلَى السَّعَادَةِ، وَإِمَّا إِلَى الشَّقَاوَةِ، احْرِصْ عَلَى وَقْتِكَ، وَاعْلَمْ أَنَّكَ إِنْ فَوَّتَّهُ فَأَنْتَ مَمْقُوتٌ؛ فَاتَّقِ اللهَ وَأَقْبِلْ عَلَى رَبِّكَ، وَاشْغَلْ وَقْتَكَ بِالْعِبَادَةِ، وَالطَّاعَةِ، وَالذِّكْرِ، وَبِالتَّعَلُّمِ، وَالْعَمَلِ، وَبِالتَّعْلِيمِ إِنْ كُنْتَ لَهُ أَهْلًا.
وَاتَّقِ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فِي نَفْسِكَ وَفِيمَنْ حَوْلَكَ، وَكُنْ كَمَا كَانَ سَلَفُكَ مِنَ الصَّالِحِينَ الْمُهْتَدِينَ الرَّبَّانِيِّينَ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُسَابِقُونَ السَّاعَاتِ، وَيُبَادِرُونَ اللَّحَظَاتِ ضَنًّا مِنْهُمْ بِالْوَقْتِ، وَحِرْصًا عَلَى أَلَّا يَذْهَبَ مِنْهُمُ الْوَقْتُ هَدَرًا.
أَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يُوَفِّقَنَا جَمِيعًا لِرِعَايَةِ الْأَوْقَاتِ، وَلِلْحِفَاظِ عَلَى الْأَعْمَارِ، وَلِجَعْلِ مَا مَنَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْنَا بِهِ مِنْ لَحَظَاتِ الْحَيَاةِ فِي مَرْضَاتِ اللهِ، وَفِي اتِّبَاعِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، إِنَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
المصدر: اغْتِنَامُ الْأَوْقَاتِ وَمَخَاطِرُ إِضَاعَتِهَا