احْتِرَامُ النِّظَامِ الْعَامِّ فِي ضَوْءِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ

احْتِرَامُ النِّظَامِ الْعَامِّ فِي ضَوْءِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ

((احْتِرَامُ النِّظَامِ الْعَامِّ فِي ضَوْءِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ))

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((الْإِسْلَامُ دِينُ نِظَامٍ وَالْتِزَامٍ))

فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَكْرَمَنَا بِدِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، وَهَذَا الدِّينُ الْعَظِيمُ دِينُ الْتِزَامٍ وَنِظَامٍ، لَا مَدْخَلَ لِلْفَوْضَى فِيهِ بِحَالٍ، بَلْ إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْزَلَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ؛ لِتَضْبِطَ حَرَكَةَ حَيَاةِ الْمُسْلِمِ مُنْذُ أَنْ يَسْتَيْقِظَ إِلَى أَنْ يَنَامَ، بِانْضِبَاطٍ كَامِلٍ لَا مُيُوعَةَ فِيهِ وَلَا فَوْضَى تَحْتَوِيهِ وَلَا تَعْتَرِيهِ.

الِانْفِلَاتُ مِنْ قَيْدِ النِّظَامِ الَّذِي وَضَعَهُ الْإِسْلَامُ فِي أُمُورِ الْعَقِيدَةِ يُؤَدِّي إِلَى الشِّرْكِ، وَفِي أُمُورِ الِاتِّبَاعِ يُلْقِي فِي الْبِدْعَةِ، لَيْسَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَخْرُجَ عَنِ النِّظَامِ الَّذِي شَرَعَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

وَهَذَا النِّظَامُ يَتَعَلَّقُ بِكُلِّ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِهِ مِنْ ظَاهِرٍ وَبَاطِنٍ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ضَبَطَ النِّيَّةَ كَمَا ضَبَطَ الْعَمَلَ، وَضَبَطَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْكَسْبَ كَمَا ضَبَطَ الْإِنْفَاقَ.

ضَبَطَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْحَرَكَةَ كَمَا ضَبَطَ السُّكُونَ، ضَبَطَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الضَّرْبَ فِي الْأَرْضِ، وَضَرَبَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَنَا الْأَمْثَالَ، وَجَعَلَ صَلَاتَنَا صُفُوفًا نَصُفُّ فِيهَا كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ، فَنَصُفُّ فِي الصَّلَوَاتِ كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، لَا نَدَعُ فُرَجًا لِلشَّيْطَانِ، وَلَا يَتَقَدَّمُ إِنْسَانٌ وَلَا يَتَأَخَّرُ إِنْسَانٌ، وَجَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- اعْوِجَاجَ الصَّفِّ مَنُوطًا بِمُصَلٍّ وَاحِدٍ يَتَقَدَّمُ خُطْوَةً أَوْ يَتَأَخَّرُ قَلِيلًا؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَا تَقُولُ: فُلَانٌ مُعْوَجٌّ، وَلَكِنْ يَقُولُونَ: صَفٌّ مُعْوَجٌّ.

فَمِنْ أَجْلِ أَنْ يَتَقَدَّمَ رَجُلٌ أَوْ يَتَأَخَّرَ رَجُلٌ وَلَوْ يَسِيرًا فِي الصَّفِّ فِي الصَّلَاةِ يَكُونُ مَدْعَاةً لِاعْوِجَاجِ الصَّفِّ كُلِّهِ، وَهَذَا مِمَّا نَهَى عَنْهُ الرَّسُولُ ﷺ، ((أَلَا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا)) ؛ يَعْنِي فِي الصَّلَوَاتِ، يُحَاذُونَ بَيْنَ الْمَنَاكِبِ وَيُحَاذُونَ بَيْنَ الْكُعُوبِ، فَيُحَاذُونَ فِي الصَّلَوَاتِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَكُونُوا كَالْمَلَائِكَةِ عِنْدَ رَبِّ الْأَرْبَابِ.

((مَظَاهِرُ النِّظَامِ فِي كَوْنِ الرَّحْمَنِ))

إِنَّ الْمُتَأَمِّلَ فِي هَذَا الْكَوْنِ الْوَاسِعِ يَرَى أَنَّ النِّظَامَ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ اللهِ الْكَوْنِيَّةِ فِي الْخَلْقِ؛ فَالْكَوْنُ كُلُّهُ يَسِيرُ وَفْقَ نِظَامٍ دَقِيقٍ، وَتَرْتِيبٍ بَدِيعٍ، وَتَنْسِيقٍ مُحْكَمٍ، وَإِتْقَانٍ يُبْهِرُ الْعُقُولَ، وَلَا عَجَبَ فِي ذَلِكَ فَتِلْكَ صَنْعَةُ بَدِيعِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ؛ قَالَ تَعَالَى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88].

وَتَرَى الْجِبَالَ -أَيُّهَا الرَّائِي- تَظُنُّهَا مُتَمَاسِكَةً لَا حَرَكَةَ لِذَرَّاتِهَا وَلَا سَيْرَ لَهَا فِي جُمْلَتِهَا، وَهِيَ فِي وَاقِعِ حَالِهَا تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ الَّذِي تَتَحَرَّكُ ذَرَّاتُهُ تَحَرُّكًا دَاخِلِيًّا، وَيَسِيرُ فِي جُمْلَتِهِ مِنْ مَوْقِعٍ إِلَى مَوْقِعٍ فِي السَّمَاءِ، وَكَذَلِكَ حَالُ الْجِبَالِ وَسَائِرِ مَا فِي الْأَرْضِ؛ إِذْ ذَرَّاتُ كُلِّ شَيْءٍ تَتَحَرَّكُ حَرَكَاتٍ فِي دَوَائِرَ وَأَقْفَالٍ مُقْفَلَةٍ.

وَجُمْلَةُ الْأَرْضِ مَعَ جِبَالِهَا تَمُرُّ سَائِرَةً فِي دَوْرَةٍ يَوْمِيَّةٍ حَوْلَ نَفْسِهَا، وَفِي دَوْرَةٍ سَنَوِيَّةٍ حَوْلَ الشَّمْسِ.

صَنَعَ اللهُ ذَلِكَ صُنْعًا، الَّذِي أَحْكَمَ صُنْعَهُ، وَجَعَلَهُ مُطَابِقًا لِلْمَقْصُودِ مِنْهُ.

وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}، وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}.

وَتَأَمَّلْ فِي كُلِّ مَا فِي الْكَوْنِ مِنْ ذَرَّاتٍ وَعَنَاصِرَ، وَنُظُمٍ وَقَوَانِينَ وَنَوَامِيسَ، وَنِسَبٍ وَرَوَابِطَ وَعَلَائِقَ، وَأَقْدَارٍ وَأَحْجَامٍ وَأَوْزَانٍ، وَمُدَدٍ وَأَوْقَاتٍ وَأَزْمَانٍ، وَصُوَرٍ وَأَشْكَالٍ وَأَلْوَانٍ، وَحَرَكَاتٍ وَسَكَنَاتٍ وَأَوْضَاعٍ، وَأَجْنَاسٍ وَأَصْنَافٍ وَأَنْوَاعٍ.

وَتَعَالَ نَتَصَوَّرُ عَدَدَ مَا فِي الْعَالَمِ -عَالَمِ الْخَلْقِ- مِنْ شَيْءٍ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنَ الذَّرَّةِ إِلَى الْمَجَرَّةِ، وَتَصَّوَرْ عَدَدَ مَا يَرْبِطُ بَيْنَهَا فِي عَالَمِ الْأَمْرِ مِنْ رَوَابِطَ وَعَلَائِقَ عَلَى اخْتِلَافِ النَّوَامِيسِ وَالْأَقْدَارِ وَالْمُدَدِ، وَالْأَشْكَالِ وَالْحَرَكَاتِ وَالْأَوْضَاعِ، ثُمَّ تَعَالَ نَدْرُسُ فِي ضَوْءِ الْعِلْمِ وَالْقُرْآنِ بَعْضَ مَا فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنْ تَقْدِيرٍ وَاتِّزَانٍ، وَتَنْظِيمٍ وَتَرْتِيبٍ وَإِحْكَامٍ وَإِتْقَانٍ.

مِنْ جُمْلَةِ الْآيَاتِ:

{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}.

{وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}.

{وَكُلُّ شَيْءٍ عَنْدَهُ بِمِقْدَارٍ}.

{وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ}.

{وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عَندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ}.

{وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ}.

{صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}.

{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ}.

{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}.

{مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ}.

{قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}.

{وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ}.

{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}.

هَذَا بَعْضُ كَلَامِ اللهِ الَّذِي نَزَلَ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ، النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ، سَلِيلِ الْقَبِيلَةِ الْأُمِّيَّةِ، وَرَبِيبِ الْبِيئَةِ الْأُمِّيَّةِ مُنْذُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَرْنًا مِنَ الزَّمَانِ.

وَدِينُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمُ يَأْمُرُنَا بِأَنْ نَعْبُدَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَأَنْ نَجْتَهِدَ فِي النَّظَرِ فِي الْآفَاقِ وَفِي الْأَنْفُسِ وَفِيمَا بَثَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي تَضَاعِيفِ هَذَا الْكَوْنِ مِنَ الْآيَاتِ؛ لِكَيْ نَضَعَ أَيْدِيَنَا عَلَى الْأَسْرَارِ الَّتِي تَرْتَقِي بِهَا الْحَيَاةُ.

وَمِنْ مَظَاهِرِ النِّظَامِ فِي كَوْنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ: الْآيَاتُ الْأُفُقِيَّةُ فِي كَمَالِ إِحْكَامِهَا وَنِظَامِهَا؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164].

إِنَّ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ لَدَلَائِلَ وَاضِحَاتٍ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ -تَعَالَى- وَإِلَهِيَّتِهِ؛ وَمِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ:

الْآيَةُ الْأُولَى: آيَةُ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ بِارْتِفَاعِهَا بِغَيْرِ عَمَدٍ، وَمَا فِيهَا مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ، وَفِي مَدِّ الْأَرْضِ وَبَسْطِهَا، وَمَا فِيهَا مِنَ الْجِبَالِ وَالْبِحَارِ وَالْأَنْهَارِ وَالْأَشْجَارِ.

وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ: تَعَاقُبُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ عَلَى مُحِيطِ الْأَرْضِ فِي الْمَجِيءِ وَالذَّهَابِ، وَالظُّلْمَةِ وَالنُّورِ، بِنِظَامٍ مُحْكَمٍ وَدَقِيقٍ.

وَالْآيَةُ الثَّالِثَةُ: السُّفُنُ الَّتِي تَجْرِي عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، مَاخِرَةً مُحَمَّلَةً بِالْأَثْقَالِ، وَتَنْقُلُهَا مِنْ بَلَدٍ إِلَى آخَرَ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ فِي تِجَارَاتِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ.

وَالْآيَةُ الرَّابِعَةُ: الدَّوْرَةُ الْمَائِيَّةُ وَنِظَامُ تَحْلِيَةِ الْمَاءِ بِالتَّبَخُّرِ وَالِاجْتِمَاعِ فِي السَّحَابِ، ثُمَّ هُطُولُهُ مَطَرًا عَلَى مَا يَشَاءُ اللهُ، وَلِمَنْ يَشَاءُ اللهُ، وَآيَةُ دَوْرَةِ الْحَيَاةِ النَّبَاتِيَّةِ.

وَالْآيَةُ الْخَامِسَةُ: مَا فَرَّقَ اللهُ فِي الْأَرْضِ مِنْ أَنْوَاعِ الدَّوَابِّ كُلِّهَا، عَلَى اخْتِلَافِ أَحْجَامِهَا، وَأَشْكَالِهَا، وَأَلْوَانِهَا، وَأَصْوَاتِهَا، وَمُدَدِ حَمْلِهَا، وَكَيْفِيَّةِ تَنَاسُلِهَا، وَوُجُوهِ الِانْتِفَاعِ بِهَا.

وَالْآيَةُ السَّادِسَةُ: تَقْلِيبُ اللهِ الرِّيَاحَ، وَتَنْوِيعُهَا فِي جِهَاتِهَا شَرْقًا وَغَرْبًا وَشَمَالًا وَجَنُوبًا، وَفِي أَحْوَالِهَا حَارَّةً وَبَارِدَةً، وَعَاصِفَةً وَلَيِّنَةً، وَمُلَقِّحَةً لِلنَّبَاتِ وَعَقِيمًا.

وَالْآيَةُ السَّابِعَةُ: الْغَيْمُ الْمُذَلَّلُ الْمُسَيَّرُ وَفْقَ مَقَادِيرِ اللهِ وَأَوَامِرِهِ الْحَكِيمَةِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.

فَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ السَّبْعِ دَلَائِلُ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ، وَعَجَائِبُ دَالَّةٌ عَلَى عَظَمَةِ قُدْرَتِهِ، وَإِبْدَاعِهِ لِمَخْلُوقَاتِهِ، وَكَمَالِ إِرَادَتِهِ، وَوَاسِعِ عِلْمِهِ، وَجَلِيلِ حِكْمَتِهِ وَإِتْقَانِهِ، مَعَ عِنَايَتِهِ بِعِبَادِهِ.

كُلُّهَا آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ عَقْلًا عِلْمِيًّا، فَيَعْلَمُونَ أَنَّ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ خَالِقًا وَمُدَبِّرًا، قَادِرًا عَلَى مَا يُرِيدُ.

وَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40].

لَا الشَّمْسُ يَصْلُحُ لَهَا وَلَا يَتَيَسَّرُ لَهَا أَنْ تَلْحَقَ وَتَبْلُغَ الْقَمَرَ فَتَبْتَلِعَهُ؛ لِأَنَّ ضَابِطَ الْعَدْلِ الْمُتْقَنِ بَيْنَ الْجَاذِبِيَّاتِ وَالْحَرَكَاتِ يَمْنَعُهَا مِنْ أَنْ تَطْغَى مُتَجَاوِزَةً حُدُودَهَا الَّتِي قَدَّرَهَا اللهُ وَقَضَاهَا.

وَلَا اللَّيْلُ يَسْبِقُ زَمَانَ حُدُوثِ النَّهَارِ وَلَا يَسْبِقُ مَكَانَ حُدُوثِهِ؛ إِذْ كُلَّمَا وُجِدَ النَّهَارُ فِي أَيِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ انْعَدَمَ اللَّيْلُ، فَلَا يَكُونُ لِلَّيْلِ سَبْقٌ لِلنَّهَارِ لَا فِي الزَّمَانِ وَلَا فِي الْمَكَانِ، كَمَا أَنَّ الظُّلْمَةَ بِطَبِيعَتِهَا لَا تَغْلِبُ الضَّوْءَ، وَلَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَتَفَوَّقَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ وُجُودَ اللَّيْلِ يَتَوَقَّفُ عَلَى غِيَابِ النَّهَارِ، بَيْنَمَا يَحْدُثُ النَّهَارُ بِمُجَرَّدِ إِشْرَاقِ الشَّمْسِ بِضَوْئِهَا.

وَلِكُلِّ نَجْمٍ أَوْ كَوْكَبٍ فَلَكٌ خَاصٌّ بِهِ يَسِيرُ عَلَى خَطِّهِ سَابِحًا لَا يَتَعَدَّى حُدُودَهُ، وَهُمْ جَمِيعًا يَسْبَحُونَ بِانْتِظَامٍ عَجِيبٍ دُونَ أَنْ تَتَعَارَضَ أَوْ تَتَصَادَمَ؛ {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}.

وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ} [الملك: 3].

هُوَ الَّذِي خَلَقَ فِي كَوْنِهِ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ، فَجَعَلَهَا مُتَطَابِقَةً بَعْضَهَا فَوْقَ بَعْضٍ؛ كُلُّ كُرَةٍ تُحِيطُ بِالْكُرَةِ الدَّاخِلَةِ فِيهَا إِلَى سَبْعِ كُرَاتٍ.

مَا تَرَى -أَيُّهَا النَّاظِرُ الْمُدَقِّقُ- فِي شَيْءٍ مِنْ خَلْقِ الرَّحْمَنِ اعْوِجَاجًا وَلَا اخْتِلَافًا وَلَا تَنَاقُضًا عَنْ قُصْوَى دَرَجَاتِ إِتْقَانِهِ لِمَا خُلِقَ لَهُ، وَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِنْ ذَلِكَ فَكَرِّرِ النَّظَرَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، هَلْ تَرَى فِيهَا مِنْ شُقُوقٍ وَصُدُوعٍ؟!!

* وَمِنْ أَعْظَمِ مَظَاهِرِ النِّظَامِ فِي الْكَوْنِ: الْإِحْكَامُ وَالنِّظَامُ الْكَامِلُ فِي تَعَاقُبِ الْأَزْمَانِ وَالْفُصُولِ؛ فَقَدْ جَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- تَعَاقُبَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ عَلَى مُحِيطِ الْأَرْضِ فِي الْمَجِيءِ وَالذَّهَابِ، وَالظُّلْمَةِ وَالنُّورِ، بِنِظَامٍ مُحْكَمٍ وَدَقِيقٍ مِنَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ الدَّالَّةِ بِوُضُوحٍ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ -تَعَالَى- وَإِلَهِيَّتِهِ، وَاللهُ -جَلَّ وَعَلَا- جَعَلَ هَذَا التَعَاقُبَ لِحِكَمٍ جَلِيلَةٍ عَظِيمَةٍ؛ فَقَدْ قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ} [النور: 44].

يُغَيِّرُ اللهُ أَحْوَالَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ بِالطُّولِ وَالْقِصَرِ، وَالِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ؛ بِسَبَبِ حَرَكَةِ الْأَرْضِ حَوْلَ نَفْسِهَا وَحَوْلَ الشَّمْسِ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَدَلَالَةً لِأَهْلِ الْعُقُولِ وَالْبَصَائِرِ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ.

وَمِنْ أَعْظَمِ حِكَمِ تَعَاقُبِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ: أَنَّ اللهَ جَعَلَ اللَّيْلَ لِرَاحَةِ الْبَشَرِ، وَالنَّهَارَ لِطَلَبِ الرِّزْقِ، وَتَحْصِيلِ أَسْبَابِ الْمَعَاشِ؛ قَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ: 10-11].

وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ سِتْرًا وَغِطَاءً، وَقَطْعًا لِلْحَرَكَةِ، وَتَحْصِيلًا لِلرَّاحَةِ، وَجَعَلْنَا النَّهَارَ وَقْتًا لِطَلَبِ الْعَيْشِ وَالرِّزْقِ، وَتَحْصِيلِ أَسْبَابِ الْمَعَاشِ وَالْحَيَاةِ.

وَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [النحل: 12]

وَذَلَّلَ اللهُ لَكُمُ اللَّيْلَ لِرَاحَتِكُمْ، وَالنَّهَارَ لِمَعَاشِكُمْ.

* وَمِنْ مَظَاهِرِ النِّظَامِ الْمُحْكَمِ فِي كَوْنِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: ((الْآيَاتُ النَّفْسِيَّةُ؛ قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21].

{أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} [يس: 77].

{فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ *  خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 5-6]، وَنَحْوَهَا مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي يُنَبِّهُ اللهُ فِيهَا الْإِنْسَانَ عَلَى التَّأَمُّلِ وَالنَّظَرِ فِي ابْتِدَاءِ خَلْقِهِ وَتَطَوُّرِهِ، وَكَيْفَ تَنَقَّلَتْ بِهِ الْأَحْوَالُ مِنَ النُّطْفَةِ إِلَى أَنْ صَارَ إِنْسَانًا كَامِلًا فِي بَدَنِهِ وَفِي عَقْلِهِ، وَكَيْفَ أَحْسَنَ اللهُ خَلْقَهُ وَنَظَمَهُ هَذَا النِّظَامَ الْعَجِيبَ، فَوَضَعَ فِيهِ كُلَّ عُضْوٍ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي مَنَافِعِهِ كُلِّهَا، وَوَضَعَ كُلَّ عُضْوٍ فِي مَحَلِّهِ اللَّائِقِ بِهِ الَّذِي لَا يَحْسُنُ وَلَا يَلِيقُ أَنْ يُوضَعَ إِلَّا فِي مَحَلِّهِ.

وَمِنْ آيَاتِهِ الْأُفُقِيَّةِ النَّفْسِيَّةِ إِخْبَارُهُ -تَعَالَى- أَنَّهُ سَخَّرَ لِلْإِنْسَانِ جَمِيعَ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَعَادِنَ الْكَوْنِ وَعَنَاصِرَهُ، ثُمَّ إِخْبَارُهُ بِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا، وَجَعَلَ لَهُ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ وَآلَاتِ الْعِلْمِ، وَعَلَّمَهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ)) .

وَمِنْ مَظَاهِرِ النِّظَامِ فِي كَوْنِ الرَّحْمَنِ: الْمَحْسُوسَاتُ؛ فَهِيَ تَنْقَسِمُ فِي أَخْصَرِ تَقْسِيمٍ إِلَى: حَيَاةٍ، وَمَادَّةٍ، وَطَاقَةٍ.

الْحَيَاةُ فِي مُخْتَلَفِ صُوَرِهَا تَنْتَفِعُ بِالْمَادَّةِ وَالطَّاقَةِ وَتَتَوَقَّفُ عَلَيْهِمَا.

الْمَادَّةُ وَالطَّاقَةُ مُتَلَازِمَتَانِ، فَالْمَادَّةُ لَا تَنْفَكُّ عَنِ الطَّاقَةِ؛ ظَاهِرَةٍ أَوْ بَاطِنَةٍ، وَالطَّاقَةُ لَا تَكَادُ تَنْفَكُّ عَنْ مَادَّةٍ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ خَالِقَ الْمَادَّةِ وَالطَّاقَةِ وَاحِدٌ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وَأَنَّهُ هُوَ خَالِقُ الْحَيَاةِ.

الطَّاقَةُ فِي الْأَرْضِ مَصْدَرُهَا الشَّمْسُ؛ فَكُلُّ نَارٍ تُوقَدُ وَكُلُّ طَعَامٍ يُؤْكَلُ مَصْدَرُ طَاقَتِهِ: الشَّمْسُ الَّتِي يَخْتَزِنُهَا النَّبَاتُ كِيمَاوِيًّا؛ لِيَكُونَ غِذَاءً وَوَقُودًا لِلْحَيَوَانِ، فَضْلًا عَنْ ضَرُورَةِ الشَّمْسِ لِلْحَيَاةِ بِالنَّهَارِ.

حَتَّى طَاقَةُ الْفَحْمِ وَزَيْتُ الْبِتْرُولِ أَصْلُهُمَا مِنَ الشَّمْسِ؛ لِأَنَّ الْفَحْمَ أَصْلُهُ نَبَاتِيٌّ، وَزَيْتُ الْبِتْرُولِ أَصْلُهُ نَبَاتِيٌّ أَوْ حَيَوَانِيٌّ، وَلَوْ كَانَ أَصْلُهُ مَعْدِنِيًّا لَكَانَ مَرْجِعُ طَاقَتِهِ -أَيْضًا- إِلَى الشَّمْسِ، حَتَّى حَرَارَةُ جَوْفِ الْأَرْضِ وَنَارِ الْبَرَاكِينِ أَصْلُهَا الشَّمْسُ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ كَانَتْ قِطْعَةً مِنَ الشَّمْسِ قَبْلَ أَنْ تَكُونَ أَرْضًا.

أَثْبَتَ ذَلِكَ الْعِلْمُ، وَدَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ.

فَخَالِقُ الْحَيَاةِ وَالْمَادَّةِ وَالطَّاقَةِ هُوَ خَالِقُ الْأَرْضِ وَالشَّمْسِ.

وَمِنْ أَعْظَمِ مَظَاهِرِ النِّظَامِ فِي كَوْنِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: جَرَيَانُ الشَّمْسِ، وَمَنَازِلُ الْقَمَرِ؛ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 38-39].

هَذِهِ الشَّمْسُ تَسِيرُ بِانْتِظَامٍ مُسْرِعَةً إِلَى مُسْتَقَرٍّ لَهَا قَدَّرَهُ اللهُ زَمَانًا وَمَكَانًا، ذَلِكَ الْجَرَيَانُ الْمُتْقَنُ الْعَجِيبُ الْمُسْتَمِرُّ لِبُلُوغِ مُسْتَقَرٍّ يَتَوَقَّفُ عِنْدَهُ جَرَيَانُ الشَّمْسِ فِي مَكَانٍ مُحَدَّدٍ مِنَ الْكَوْنِ وَزَمَانٍ مُحَدَّدٍ مِنَ الدَّهْرِ.

ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْقَوِيِّ الْغَالِبِ بِقُدْرَتِهِ، الْمُحِيطِ عِلْمًا بِكُلِّ شَيْءٍ، الَّذِي حَدَّدَ مَقَادِيرَ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ الَّتِي تَجْرِي فِيهَا الشَّمْسُ، وَمَقَادِيرَ حَجْمِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَجْمُوعَتِهَا، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى مَجْمُوعَاتِ النُّجُومِ الْأُخْرَى فِي السَّمَاوَاتِ.

وَقَدَّرْنَا لِلْقَمَرِ مَنَازِلَ يَنْزِلُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ فِي مَنْزِلٍ مِنْهَا لَا يَتَعَدَّاهُ، يَبْدَأُ هِلَالًا ضَئِيلًا حَتَّى يَكْمُلَ قَمَرًا مُسْتَدِيرًا، ثُمَّ يَرْجِعُ فِي آخِرِ مَنَازِلِهِ ضَئِيلًا مِثْلَ عُودِ النَّخْلَةِ الْمُتَقَوِّسِ الْيَابِسِ الْمُصْفَرِّ كَمَا كَانَ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ.

وَالْقَمَرُ مُرْتَبِطٌ بِالْأَرْضِ، يَدُورُ حَوْلَهَا وَيَنْفَعُ أَهْلَهَا، وَكَانَ مِنْ قَبْلُ قِطْعَةً مِنْهَا كَمَا كَانَتْ هِيَ قِطْعَةً مِنَ الشَّمْسِ، فَخَالِقُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْأَرْضِ وَمَا عَلَيْهَا وَاحِدٌ -سُبْحَانَهُ-.

الْأَرْضُ إِنْ هِيَ إِلَّا سَيَّارٌ مِنْ سَيَّارَاتِ الْمَجْمُوعَةِ الشَّمْسِيَّةِ؛ وَإِنِ امْتَازَتْ عَنْ سَائِرِهَا بِالْحَيَاةِ الدَّافِقَةِ.

بَقِيَّةُ السَّيَّارَاتِ وَأَقْمَارُهَا أَصْلُهَا -أَيْضًا- الشَّمْسُ، وَهِيَ مُرْتَبِطَةٌ بِهَا كَارْتِبَاطِ الْأَرْضِ وَقَمَرِهَا بِهَا؛ فَخَالِقُ الْمَجْمُوعَةِ الشَّمْسِيَّةِ وَمَا فِيهَا وَاحِدٌ -سُبْحَانَهُ-.

وَهَذِهِ مِنْ طُرُقِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ بِإِثْبَاتِ وَحْدَةِ النِّظَامِ الْحَاكِمِ لِلْكَوْنِ، فَيَدُلُّكَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَصْدَرَهُ وَاحِدٌ، وَهُوَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-.

وَمِنْ أَعْظَمِ مَظَاهِرِ النِّظَامِ فِي كَوْنِ الرَّحْمَنِ: دَوْرَةُ الْمَاءِ بَيْنَ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، دَوْرَةُ الْعَنَاصِرِ اللَّازِمَةِ كُلٌّ مِنْهَا لِاسْتِمْرَارِ الْحَيَاةِ عَلَى الْأَرْضِ؛ كُلُّ ذَلِكَ أَمْرٌ مَعْرُوفٌ، أَوْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا، فَالْأُكْسِجِينُ وَالْكَرْبُونُ -مَثَلًا- اللَّازِمَانِ لِتَنَفُّسِ وَتَغَذِّي الْأَحْيَاءِ وَلِلْوَقُودِ فِي حَيَاةِ الْإِنْسَانِ؛ يَتَحَوَّلَانِ تَدْرِيجِيًّا إِلَى ثَانِي أُكْسِيدِ الْكَرْبُونِ الَّذِي لَا يُنْتَفَعُ بِهِ، وَالَّذِي يَضُرُّ إِذَا زَادَتْ نِسْبَتُهُ فِي الْجَوِّ إِلَى نَحْوِ بِضْعَةِ أَجْزَاءٍ عَلَى الْعَشْرَةِ آلَافٍ، فَلَوْ زَادَ عَنْ هَذِهِ النِّسْبَةِ أَضَرَّ الْأَحْيَاءَ.

فَلَوْ لَمْ يَتَجَدَّدَا بِحَيَاةِ النَّبَاتِ الَّذِي يُحَلِّلُ ثَانِيَ أُكْسِيدِ الْكَرْبُونِ بِخُضْرَةِ وَرَقِهِ وَضَوْءِ الشَّمْسِ، فَيَتَغَذَّى بِالْكَرْبُونِ وَيَنْمُو وَيَنْفُثُ الْأُكْسِجِينَ، فَكَذَلِكَ يَصْنَعُ النَّبَاتُ، فَيَأْخُذُ ثَانِيَ أُكْسِيدِ الْكَرْبُونِ الَّذِي يَضُرُّ بِالْإِنْسَانِ، وَالَّذِي يَتَنَفَّسُهُ الْإِنْسَانُ، يَأْخُذُهُ النَّبَاتُ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَتَغَذَّى عَلَى الْكَرْبُونِ الَّذِي فِيهِ، وَيَنْفُثُ لَنَا نَحْنُ الْأُكْسِجِينَ فِي الْهَوَاءِ لِلْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ يَتَنَفَّسَانِهِ.

إِذَنْ؛ لَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَنَفِدَ الْأُكْسِجِينُ مِنَ الْهَوَاءِ، وَبَطَلَ الِانْتِفَاعُ بِمُرَكَّبَاتِ الْكَرْبُونِ فِي الْغِذَاءِ، وَأَيُّ هَذَيْنِ لَوْ حَدَثَ كَافٍ لِإِيقَافِ الْحَيَاةِ عَلَى الْأَرْضِ.

فَهَذِهِ الدَّوْرَةُ -كَمَا تَرَى- بِقَانُونٍ وَاحِدٍ تَدُلُّ عَلَى قُدْرَةِ الْخَالِقِ -جَلَّ وَعَلَا-، لَا عَلَى وُجُودِهِ فَحَسْبُ؛ بَلْ عَلَى قُدْرَتِهِ، وَعَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ.

وَمِنْ مَظَاهِرِ النِّظَامِ فِي كَوْنِ الرَّحْمَنِ: دَوْرَاتُ حَيَاةِ الْكَائِنَاتِ الْحَيَّةِ، لِنَعْلَمْ جَمِيعًا أَنَّ هَذَا الْكَوْنَ عَامِرٌ بِالْكَائِنَاتِ الَّتِي لَا يُحْصِيهَا إِلَّا اللهُ، وَكُلُّهَا مَرْزُوقٌ مِنْ رِزْقِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَهُوَ أَمْرٌ عِنْدَمَا يَتَأَمَّلُ الْمَرْءُ فِيهِ يَكَادُ عَقْلُهُ يَذْهَبُ مِنْهُ.

فَعَلَيْكَ أَنْ تَتَصَوَّرَ -مَثَلًا- وَأَنْ تَعْلَمَ أَنَّ الْكَائِنَاتِ الْبَحْرِيَّةَ الَّتِي تَحْيَا فِي الْبِحَارِ وَالْمُحِيطَاتِ هِيَ أَكْثَرُ عَدَدًا مِنَ الْكَائِنَاتِ الْبَرِّيَّةِ بِمَا لَا يُقَاسُ، وَكُلُّهَا مَرْزُوقَةٌ، وَلِكُلٍّ مِنْهَا دَوْرَةُ حَيَاةٍ، تُولَدُ بِالْمِيلَادِ الَّذِي قَدَّرَهُ اللهُ، ثُمَّ تَمْضِي فِي حَيَاتِهَا بِرِزْقٍ مِنْ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ أَوْ تَغْذِيَةٍ أَوْ نَفَسٍ أَوْ إِخْرَاجٍ، تَتَكَاثَرُ أَوْ لَا تَتَكَاثَرُ، ثُمَّ يَنْتَهِي أَجَلُهَا عِنْدَ حَدٍّ حَدَّدَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَمَسَارِبُهَا فِي الْحَيَاةِ مَحْسُوبَةٌ.

مِنْ أَعْظَمِ مَعَالِمِ النِّظَامِ الْمُحْكَمِ فِي كَوْنِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: ((الْإِبْدَاعُ الْإِلَهِيُّ فِي النَّحْلَةِ: هَذَا التَّكْوِينُ الَّذِي أَعْطَاهُ اللهُ إِيَّاهَا، فَقَدْ جَعَلَ لَهَا الْبَارِي -سُبْحَانَهُ- مَعِدَتَيْنِ، فَلِلنَّحْلَةِ مَعِدَتَانِ، إِحْدَاهُمَا تَسْتَعْمِلُهَا لِجَمْعِ الْمَوَادِّ الْأَوَّلِيَّةِ الَّتِي تَسْتَخْلِصُهَا مِنْ رَحِيقِ الْأَزْهَارِ، أَوْ تَحْمِلُ بِهَا الْمَاءَ وَتَنْقُلُهُ إِلَى الْخَلِيَّةِ، وَالْمَعِدَةُ الثَّانِيَةُ مُخَصَّصَةٌ لِلطَّعَامِ الَّذِي تَهْضِمُهُ وَتَتَغَذَّى بِهِ.

وَمِنَ الْعَجِيبِ: أَنَّ نَحْلَ كُلِّ خَلِيَّةٍ يَتَعَارَفُ عَلَى رَائِحَةِ تُمَيِّزُ نَحْلَهَا عَنْ غَيْرِهِ، وَتَسْتَطِيعُ النَّحْلَةُ أَنْ تَعُودَ إِلَى بَيْتِهَا مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ.

وَمِنْ عَجَائِبِ هِدَايَةِ النَّحْلِ: أَنَّهُ يَبْنِي جُدْرَانَ الْبُيُوتِ السُّدَاسِيَّةَ مِنَ الشَّمْعِ الْخَالِصِ الَّذِي لَا يَنْفُذُ مِنْهُ الْهَوَاءُ؛ وَلَكِنَّهُ عَنْدَمَا يُغْلِقُ أَبْوَابَ الْبُيُوتِ الَّتِي تَحْوِي يَرَقَاتِ النَّحْلِ يَخْلِطُ الشَّمْعَ بِحُبُوبِ اللِّقَاحِ، وَبِهَذَا يَتَسَرَّبُ الْهَوَاءُ مِنْ خِلَالِ حُبُوبِ اللِّقَاحِ، فَتَبْقَى الْيَرَقَاتُ حَيَّةً، وَلَوْ لَمْ يَهْدِهَا رَبُّهَا إِلَى ذَلِكَ لَمَاتَتِ الْيَرَقَاتُ، وَزَالَ النَّحْلُ مِنْ فَوْقِ ظَهْرِ الْبَسِيطَةِ.

وَقَدْ حَدَّثَنَا رَبُّنَا فِيمَا حَدَّثَنَا عَنْهُ مِنْ آيَاتِهِ الْبَاهِرَةِ الَّتِي تَسْتَدْعِي التَّأَمُّلَ وَالتَّفَكُّرَ إِلَى هِدَايَتِهِ الْعَجِيبَةِ لِلنَّحْلِ؛ {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 68-69])) .

* وَمِنْ مَعَالِمِ النِّظَامِ فِي كَوْنِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: النِّظَامُ الْمُحْكَمُ لِحَيَاةِ النَّمْلِ: هَذَا النَّمْلُ الَّذِي تَرَاهُ مِنْ كَبِيرٍ وَصَغِيرٍ كُلُّهُ مَخْلُوقٌ بِخَلْقِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- وَبِقُدْرَتِهِ، بَدَأَ بِبِدَايَةٍ مُعَيَّنَةٍ، بِدَايَةِ الْخَلْقِ لَهُ، بِكُلِّ نَمْلَةٍ نَمْلَةٍ، مِمَّا لَا يُحْصِيهِ إِلَّا اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-، ثُمَّ تَمْضِي فِي حَيَاتِهَا مَرْزُوقَةً بِرِزْقِهَا، فَتَنْمُو شَيْئًا فَشَيْئًا، تَتَكَاثَرُ أَوْ لَا تَتَكَاثَرُ، ثُمَّ إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا انْتَهَى عُمُرُهَا.

فِي دَوْرَةِ الْحَيَاةِ هَذِهِ حَرَكَةُ حَيَاةٍ وَحَرَكَةٌ فِي الْوُجُودِ، وَهَذِهِ الْحَرَكَةُ مَرْصُودَةٌ مَكْتُوبَةٌ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ.

 ((ذَكَرَ الْعَلَّامَةُ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي «شِفَاءِ الْعَلِيلِ» بَعْضَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِدَايَاتِ النَّمْلِ؛ فَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَهَذَا النَّمْلُ مِنْ أَهْدَى الْحَيَوَانَاتِ، وَهِدَايَتُهَا مِنْ أَعْجَبِ شَيْءٍ؛ فَإِنَّ النَّمْلَةَ الصَّغِيرَةَ تَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهَا، وَتَطْلُبُ قُوتَهَا وَإِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهَا الطَّرِيقُ.

فَإِذَا ظَفِرَتْ بِهِ؛ حَمَلَتْهُ وَسَاقَتْهُ فِي طُرُقٍ مُعْوَجَّةٍ بَعِيدَةٍ ذَاتِ صُعُودٍ وَهُبُوطٍ فِي غَايَةٍ مِنَ التَّوَعُّرِ، حَتَّى تَصِلَ إِلَى بُيُوتِهَا، فَتَخْزُنُ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي وَقْتِ الْإِمْكَانِ.

فَإِذَا خَزَنَتْهَا عَمَدَتْ إِلَى مَا يَنْبُتُ مِنْهَا فَفَلَقَتْهُ فِلْقَتَيْنِ لَئِلَّا يَنْبُتَ، فَإِنْ كَانَ يَنْبُتُ مَعَ فِلْقَةٍ وَاحِدَةً -أَيْ: بَعْدَ أَنْ يُفْلَقَ بِاثْنَتَيْنِ- فَإِنَّهَا تَفْلِقُهُ بِأَرْبَعَةٍ، فَإِذَا أَصَابَهُ بَلَلٌ وَخَافَتْ عَلَيْهِ الْعَفَنَ وَالْفَسَادَ انْتَظَرَتْ بِهِ يَوْمًا ذَا شَمْسٍ، فَخَرَجَتْ بِهِ فَنَشَرَتْهُ عَلَى أَبْوَابِ بُيُوتِهَا، ثُمَّ أَعَادَتْهُ إِلَى بُيُوتِهَا، وَلَا تَتَغَذَّى مِنْهَا نَمْلَةٌ مِمَّا جَمَعَهُ غَيْرُهَا.

وَيَكْفِي فِي هِدَايَةِ النَّمْلِ مَا حَكَاهُ اللهُ -سُبْحَانَهُ- فِي الْقُرْآنِ عَنِ النَّمْلَةِ الَّتِي سَمِعَ سُلَيْمَانُ كَلَامَهَا وَخِطَابَهَا لِأَصْحَابِهَا بِقَوْلِهَا: {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}، فَاسْتَفْتَحَتْ خِطَابَهَا بِالنِّدَاءِ الَّذِي يَسْمَعُهُ مَنْ خَاطَبَتْهُ، ثُمَّ أَتَتْ بِالِاسْمِ الْمُبْهَمِ، ثُمَّ أَتْبَعَتْهُ بِمَا يُثْبِتُهُ مِنَ اسْمِ الْجِنْسِ إِرَادَةً لِلْعُمُومِ، ثُمَّ أَمَرَتْهُمْ بِأَنْ يَدْخُلُوا مَسَاكِنَهُمْ فَيَتَحَصَّنُوا مِنَ الْعَسْكَرِ.

ثُمَّ أَخْبَرَتْ عَنْ سَبَبِ هَذَا الدُّخُولِ، وَهُوَ خَشْيَةُ أَنْ يُصِيبَهُمْ مَعَرَّةُ الْجَيْشِ فَيَحْطِمَهُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ، ثُمَّ اعْتَذَرَتْ عَنْ نَبِيِّ اللهِ وَجُنُودِهِ بِأَنَّهُمْ لَا يَشْعَرُونَ بذَلِكَ، وَهَذَا مِنْ أَعْجَبِ الْهِدَايَةِ.

وَتَأَمَّلْ كَيْفَ عَظَّمَ اللهُ -سُبْحَانَهُ- شَأْنَ النَّمْلِ بِقَوْلِهِ: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ}، ثُمَّ قَالَ: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ}.

فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ بِأَجْمَعِهِمْ مَرُّوا عَلَى ذَلِكَ الْوَادِي، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْوَادِيَ مَعْرُوفٌ بِالنَّمْلِ؛ كَوَادِي السِّبَاعِ وَنَحْوِهِ، ثُمَّ أَخْبَرَ بِمَا دَلَّ عَلَى شِدَّةِ فِطْنَةِ هَذِهِ النَّمْلَةِ وَدِقَّةِ مَعْرِفَتِهَا، حَيْثُ أَمَرَتْهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا مَسَاكِنَهُمُ الْمُخْتَصَّةَ بِهِمْ، فَقَدْ عَرَفَتْ هِيَ وَالنَّمْلُ أَنَّ لِكُلِّ طَائِفَةٍ مِنْهَا مَسْكَنًا لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ فِيهِ سِوَاهُمْ.

ثُمَّ قَالَتْ: {لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ}؛ فَجَمَعَتْ بَيْنَ اسْمِهِ وَعَيْنِهِ، وَعَرَّفَتْهُ بِهِمَا، وَعَرَّفَتْ جُنُودَهُ وَقَائِدَهَا، ثُمَّ قَالَتْ: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}، فَكَأَنَّهَا جَمَعَتْ بَيْنَ الِاعْتِذَارِ عَنْ مَضَرَّةِ الْجَيْشِ بِكَوْنِهِمْ لَا يَشْعُرُونَ، وَبَيْنَ لَوْمِ أُمَّةِ النَّمْلِ حَيْثُ لَمْ يَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَيَدْخُلُوا مَسَاكِنَهُمْ، لِذَلِكَ تَبَسَّمَ نَبِيُّ اللهِ سُلَيْمَانُ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا، وَإِنَّهُ لَمَوْضِعُ تَعَجُّبٍ وَتَبَسُّمٍ)) .

هَذَا كُلُّهُ إِنَّمَا كَانَ لِاسْتِجْلَاءِ بَعْضِ الْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ فِي هَذَا الْخَلْقِ الْإِنْسَانِيِّ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ عَنِ الْحِكْمَةِ، وَأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا إِلَّا لِحِكْمَةٍ، فَلَيْسَ فِي هَذَا الْكَوْنِ كُلِّهِ مِنْ شَيْءٍ مَخْلُوقٍ إِلَّا عَلَى مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ خُلِقَ، وَعَلَى مُقْتَضَى الْعِلْمِ وُجِدَ، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، وَهُوَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الْقَادِرُ الْقَدِيرُ الْمُقْتَدِرُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

فَإِذَا مَا تَنَزَّلْتَ إِلَى الْكَائِنَاتِ الدُّنْيَا، وَأَخَذْتَ الْفَيْرُوسَاتِ -مَثَلًا-، وَمِنَ الْفَيْرُوسَاتِ مَا لَا يُرَى بِالْعَيْنِ الْمُجَرَّدَةِ تَحْتَ الْمِجْهَرِ إِلَّا بِتَكْبِيرِهِ بِرُبُعِ مِلْيُونِ مَرَّةٍ -بِمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ أَلْفَ مَرَّةٍ- مِنْ أَجْلِ أَنْ يُرَى هَذَا الْفَيْرُوسُ الَّذِي يَفْعَلُ فِي النَّاسِ مَا تَعْلَمُونَ، كَـ (فَيْرُوس سِي) -مَثَلًا- فِي إِصَابَةِ الْكَبِدِ، فَهَذَا لَا يُرَى إِلَّا مُكَبَّرًا بِرُبُعِ مِلْيُونِ مَرَّةٍ.

وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَدَأَهُ وَبَدَأَ خَلْقَهُ فِي وَقْتٍ حَدَّدَهُ، وَجَعَلَ لَهُ دَوْرَةَ حَيَاةٍ، يُصِيبُ الْخَلِيَّةَ الْفُلَانِيَّةَ مِنَ الْكَبِدِ فِي وَقْتٍ يُحَدِّدُهُ اللهُ، وَبِطَرِيقَةٍ يَدْخُلُ بِهَا إِلَى الْجَسِدِ! وَلَهُ تَغْذِيَتُهُ، وَلَهُ إِخْرَاجُهُ، وَلَهُ دَوْرَةُ حَيَاتِهِ بِتَكَاثُرِهِ، وَبِإِصَابَتِهِ لِمَا يُصِيبُهُ مِنْ تِلْكَ الْخَلَايَا فِي الْكَبِدِ الْإِنْسَانِيِّ مُدَمِّرًا أَوْ غَيْرَ مُدَمِّرٍ، ثُمَّ يَمْضِي فِي حَيَاتِهِ إِلَى نِهَايَتِهَا بِأَعْدَادٍ لَا يَعْلَمُ عَدَدَهَا إِلَّا اللهُ!! وَكُلُّ ذَلِكَ بِعَيْنِ الرِّعَايَةِ مَرْصُودٌ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَصِلُ رِزْقُهُ، وَيَمْضِي عَلَيْهِ أَجَلُهُ، وَكَذَلِكَ الْكَائِنُ الْإِنْسَانِيُّ.

عِبَادَ اللهِ! ((هَذَا الْكَوْنُ الْهَائِلُ الضَّخْمُ الشَّاسِعُ الْوَاسِعُ، السَّائِرُ وَفْقَ نِظَامٍ دَقِيقٍ؛ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ صَانِعُهُ حَيًّا قَدِيرًا عَلِيمًا مُرِيدًا، وَاللهُ خَلَقَ الْخَلْقَ بِهَذَا التَّكْوِينِ الْهَائِلِ، وَهَذَا النِّظَامِ الْكَامِلِ؛ لِيُعَرِّفَنَا بِقُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ؛ {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12].

وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ الَّذِي يَحْكُمُ هَذَا الْكَوْنَ عِلْمًا شَامِلًا كَامِلًا؛ {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [الأنعام: 59].

فَالنَّظَرُ فِي هَذَا الْكَوْنِ يَشِي بِأَنَّهُ مُحْكَمٌ مُتْقَنٌ، قَدْ وُضِعَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْهُ فِي مَوْضِعِهِ الْمُنَاسِبِ، وَخُلِقَ بِالْمِقْدَارِ الْمُنَاسِبِ فِي غَايَةِ الْجَوْدَةِ وَالْإِتْقَانِ؛ {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88]، {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ} [السجدة: 7].

لِذَلِكَ فَإِنَّ النَّاظِرَ الْمُتَبَصِّرَ فِي خَلْقِ اللهِ لَا يَرَى إِلَّا الْكَمَالَ وَالْإِتْقَانَ، وَلَوْ بَحَثَ عَنْ عَيْبٍ فِي الْخَلْقِ مَا وَجَدَهُ؛ {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 3-4])) .

((مَظَاهِرُ النِّظَامِ فِي الْعِبَادَاتِ))

عِبَادَ اللهِ! كَمَا أَنَّ النِّظَامَ سُنَّةٌ كَوْنِيَّةٌ؛ فَهُوَ -أَيْضًا- مَبْدَأٌ أَصِيلٌ مِنْ مَبَادِئِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِنِظَامٍ دَقِيقٍ مُتَنَاسِقٍ مَعَ نِظَامِ هَذَا الْكَوْنِ الْمُنْضَبِطِ؛ لِيَدُلَّ دَلَالَةً قَاطِعَةً عَلَى أَنَّ خَالِقَ هَذَا الْكَوْنِ هُوَ مَنْ أَنْزَلَ هَذَا الشَّرْعَ الْحَنِيفَ.

الرَّسُولُ ﷺ كَانَ حَرِيصًا غَايَةَ الْحِرْصِ عَلَى جَمْعِ الشَّمْلِ، وَنَبْذِ الْفُرْقَةِ، وَتَرْسِيخِ الِائْتِلَافِ، وَنَبْذِ الْخِلَافِ، حَتَّى فِي الشَّكْلِ الظَّاهِرِ.

كَانَ يَحْرِصُ ﷺ غَايَةَ الْحِرْصِ عَلَى أَنْ تَكُونَ الْعِبَادَةُ عَلَى صُورَةٍ مُتَمَاثِلَةٍ، فَإِذَا قَامَ النَّاسُ عَلَى صُفُوفِهِمْ فِي صَلَاتِهِمْ، وَقَامَ أَمَامَهُمْ ﷺ إِمَامًا لَهُمْ؛ يَلْتَفِتُ إِلَيْهِمْ فَيَقُولُ ﷺ -مُحَذِّرًا وَمُبَشِّرًا، وَآمِرًا وَمُنْذِرًا-: ((اسْتَوُوا، وَلَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ)) .

وَجَعَلَ الرَّسُولُ ﷺ الِاخْتِلَافَ الظَّاهِرَ.. حَتَّى فِي الْوُقُوفِ فِي الصَّفِّ فِي الصَّلَاةِ بِأَنْ يَتَقَدَّمَ رَجُلٌ شَيْئًا، أَوْ يَتَأَخَّرَ رَجُلٌ شَيْئًا.. جَعَلَ هَذَا الِاخْتِلَافَ مَدْعَاةً لِاخْتِلَافِ الْقُلُوبِ، وَتَأْثِيرًا لِلظَّوَاهِرِ عَلَى الْبَوَاطِنِ بِانْعِكَاسَاتٍ غَيْرِ مَرْغُوبَةٍ، ((وَلَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ)).

وَجَاءَ النَّبِيُّ ﷺ بِعِبَادَاتِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمَةِ، وَهِيَ مَهْمَا نَظَرْتَ فِيهَا وَتَأَمَّلْتَ فِي مَطَاوِيهَا وَجَدْتَ أَنَّهَا تَدْعُو ظَاهِرًا وَبَاطِنًا إِلَى وَحْدَةِ الْأُمَّةِ، وَالِانْسِجَامِ الظَّاهِرِ بَيْنَ أَبْنَائِهَا.

حَتَّى إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَجْعَلُ ذَلِكَ عَلَى التَّدْرِيجِ شَيْئًا فَشَيْئًا، حَتَّى فِي الْعِبَادَةِ الْوَاحِدَةِ، فَيَجْعَلُ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ ﷺ النَّوَافِلَ فِي الْبُيُوتِ صَلَاةً وَقِيَامًا ؛ لِأَنَّهَا مَدْعَاةٌ لِاجْتِهَادَاتٍ عَلَى حَسَبِ الْقُدْرَةِ.

فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلْيَكُنْ كُلُّ إِنْسَانٍ فِيهَا بِحَيْثُ لَا يَرَاهُ أَخُوهُ، فَذَلِكَ أَبْعَدُ عَنِ الرِّيَاءِ، وَأَدْنَى إِلَى الْإِخْلَاصِ، ثُمَّ هُوَ أَبْعَدُ عَنْ الِاخْتِلَافِ الظَّاهِرِ مَهْمَا كَانَ الْأَمْرُ، ثُمَّ إِذَا جَاءَ وَقْتُ الصَّلَاةِ نَفَرَ الْجَمْعُ كُلُّهُمْ إِلَى بُيُوتِ رَبِّهِمْ؛ لِكَيْ يَقُومُوا وَرَاءَ إِمَامٍ وَاحِدٍ، يَقُومُونُ بِقِيَامِهِ، وَيَرْكَعُونَ بِرُكُوعِهِ، وَيَسْجُدُونَ بِسُجُودِهِ.

وَنَفَّرَ وَحَذَّرَ، وَرَغَّبَ وَرَهَّبَ فِي الْمُتَابَعَةِ لِلْإِمَامِ وَعَدَمِ مُسَابَقَتِهِ ، حَتَّى إِنَّهُ رَهَّبَ مِنْ ذَلِكَ: بِأَنَّ الَّذِي يَرْفَعُ قَبْلَ إِمَامِهِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ حَالِ رُكُوعِهِ، يُخْشَى عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَوَّلَ رَأْسُهُ إِلَى رَأْسِ حِمَارٍ ؛ لِكَيْ يَكُونَ الْأَمْرُ وَاحِدًا بِلَا مُسَابَقَةٍ، وَإِنَّمَا عَلَى اتِّبَاعٍ مُتَسَاوِقٍ بِغَيْرِ مَا سَبْقٍ وَلَا إِبْطَاءٍ.

ثُمَّ جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هَذَا الْجَمْعَ يَكُونُ فِي مَسَاجِدِ الْأَحْيَاءِ مَدْفُوعًا إِلَى مَسْجِدِ الْجُمُعَةِ الْجَامِعِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُصَلِّيَ جَمِيعُ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ -مَهْمَا قَدَرُوا عَلَى ذَلِكَ- فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ هُوَ الْمَسْجِدُ الْجَامِعُ، وَرَاءَ إِمَامٍ وَاحِدٍ، يَسْمَعُونَ كَلَامًا وَاحِدًا، وَيَلْقَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا.

فَإِذَا مَا مَرَّ مَرُّ الْعَامِ وَأَتَى الْعِيدَانِ، أَخْرَجَ اللهُ الْجَمْعَ إِلَى الْخَلَاءِ؛ لِكَيْ يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلِكَيْ يَبْدُوَ عِزُّ الْإِسْلَامِ بِتَكْبِيرٍ فِيهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

ثُمَّ إِذَا مَا مَرَّ مَرُّ الْأَيَّامِ نَفَرَ الْجَمْعُ -مِمَّنْ قَدَّرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ ذَلِكَ- فَذَهَبُوا إِلَى صَعِيدٍ وَاحِدٍ فِي عَرَفَاتٍ، عَلَى هَيْئَةٍ وَاحِدَةٍ، بِتَلْبِيَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِقْبَالٍ وَاحِدٍ، وَعَطَاءٍ يَخْتَلِفُ عَلَى حَسَبِ نِيَّاتِ الْقُلُوبِ.

مَهْمَا نَظَرْتَ فِي هَذَا الدِّينِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَجَدْتَ دَعْوَةَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لِلْوَحْدَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُمْ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى .

((مَظَاهِرُ النِّظَامِ فِي عِبَادَةِ الصَّلَاةِ))

إِنَّ مِنْ أَجْلَى مَظَاهِرِ النِّظَامِ الْمُحْكَمِ فِي الْعِبَادَاتِ: النِّظَامَ فِي الصَّلَاةِ؛ بِإِقَامَتِهَا فِي أَوْقَاتِهَا، حَيْثُ قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا} [النساء: 103].

إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَرْضًا مَكْتُوبًا مُقَدَّرًا فِي أَوْقَاتٍ مُحَدَّدَةٍ مَعْلُومَةٍ فِي الشَّرْعِ.

وَفِي هَيْئَتِهَا، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي)) .

وَكَمَالُ النِّظَامِ وَتَمَامُهُ يَتَجَلَّى -أَيْضًا- فِي تَسْوِيَةِ الصَّفِّ فِي الصَّلَاةِ؛ فَالنَّبِيُّ ﷺ فِي كُلِّ صَلَاةٍ يُصَلِّى فِيهَا بِالْمُسْلِمِينَ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِمْ مُحَذِّرًا وَمُنْذِرًا، وَهَادِيًا وَمُعَلِّمًا، يَأْمُرُهُمْ بِالِاسْتِوَاءِ فِي الصُّفُوفِ: ((أَلَا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهِمْ)) .

يَأْمُرُهُمْ بِالِاسْتِوَاءِ؛ حَتَّى يَكُونُ الصَّفُّ كَالْقِدْحِ اسْتِوَاءً وَاعْتِدَالًا، أَبْدَانٌ مُتَرَاصَّةٌ، وَقُلُوبٌ مُتَحَابَّةٌ، مُتَلَاحِمَةٌ مُتَدَاخِلَةٌ مُتَمَازِجَةٌ، كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ؛ يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ، وَيَهْبِطُ وَيَصْعَدُ، وَرَاءَ إِمَامِهِ بِغَيْرِ خِلَافٍ وَلَا اخْتِلَافٍ: ((لَا تَخْتَلِفُوا؛ فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ)) .

فَيُحَذِّرُ رَسُولُ اللهِ ﷺ مِنَ اخْتِلَافِ الْأَبْدَانِ فِي الصُّفُوفِ فِي الصَّلَاةِ، وَيُنَبِّهُ إِلَى أَمْرٍ جَلِيلٍ خَطِيرٍ فِي أَثَرِهِ عَلَى الْأُمَّةِ؛ أَنَّ هَذَا الِاخْتِلَالَ فِي الِاسْتِوَاءِ فِي الصُّفُوفِ -وَهُوَ أَمْرٌ مَادِّيٌّ مَحْضٌ- يُؤَدِّي إِلَى اخْتِلَافٍ بَاطِنِيٍّ يُؤَثِّرُ فِي الْقُلُوبِ؛ ((لَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ)).

وَيَتَجَلَّى النِّظَامُ الْمُحْكَمُ فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ؛ فَقَدْ ذَكَرَ الْأَلْبَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: أَنَّ صَلَاةَ الْعِيدِ إِنَّمَا تَكُونُ فِي الْمُصَلَّى.

وَقَالَ: ((هَذِهِ السُّنَّةُ -سُنَّةُ صَلَاةِ الْعِيدِ فِي الْمُصَلَّى- لَهَا حِكْمَةٌ عَظِيمَةٌ بَالِغَةٌ: أَنْ يَكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ يَوْمَانِ فِي السَّنَةِ يَجْتَمِعُ فِيهِمَا أَهْلُ كُلِّ بَلْدَةٍ رِجَالًا وَنِسَاءً وَصِبْيَانًا، يَتَوَجَّهُونَ إِلَى اللهِ بِقُلُوبِهِمْ، تَجْمَعُهُمْ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ، وَيُصَلُّونَ خَلْفَ إِمَامٍ وَاحِدٍ يُكَبِّرُونَ وَيُهَلِّلُونَ، وَيَدْعُونَ اللهَ مُخْلِصِينَ كَأَنَّهُمْ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَرِحِينَ مُسْتَبْشِرِينَ بِنِعْمَةِ اللهِ عَلَيْهِمْ، فَيَكُونُ الْعِيدُ عِنْدَهُمْ عِيدًا.

وَقَدْ أَمَرَ الرَّسُولُ ﷺ بِخُرُوجِ النِّسَاءِ لِصَلَاةِ الْعِيدِ مَعَ النَّاسِ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ مِنْهُنَّ وَاحِدَةً؛ حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يُرَخِّصْ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهَا مَا تَلْبَسُ فِي خُرُوجِهَا، بَلْ أَمَرَ أَنْ تَسْتَعِيرَ ثَوْبًا مِنْ غَيْرِهَا؛ حَتَّى إِنَّهُ أَمَرَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُنَّ عُذْرٌ يَمْنَعُهُنَّ مِنَ الصَّلَاةِ بِالْخُرُوجِ إِلَى الْمُصَلَّى؛ لِيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ)).

((مَظَاهِرُ النِّظَامِ فِي عِبَادَةِ الصَّوْمِ))

تَتَجَلَّى مَظَاهِرُ النِّظَامِ فِي عِبَادَةِ الصَّوْمِ؛ فَالصَّوْمُ يُعَوِّدُ الْأُمَّةَ النِّظَامَ وَالِاتِّحَادَ، وَحُبَّ الْعَدْلِ وَالْمُسَاوَاةِ.

وَمِنْ ذَلِكَ: اجْتِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى عِبَادَةٍ وَاحِدَةٍ، فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَصَبْرُهُمْ جَمِيعًا -قَوِيُّهُمْ وَضَعِيفُهُمْ، شَرِيفُهُمْ وَوَضِيعُهُمْ، غَنِيُّهُمْ وَفَقِيرُهُمْ- عَلَى مُعَانَاةِ تِلْكَ الْعِبَادَةِ وَعَلَى تَحَمُّلِهَا، يُسَبِّبُ رَبْطَ قُلُوبِهِمْ، وَتَآلُفَ الْأَرْوَاحِ، وَجَمْعَ كَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ.

وَمِنْ مَظَاهِرِ النِّظَامِ فِي عِبَادَةِ الصَّوْمِ: وَحْدَةُ وَقْتِ الْإِمْسَاكِ وَالْإِفْطَارِ؛ فَقَدْ جَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ أَرْكَانِ الصَّوْمِ: الزَّمَانَ؛ وَهُوَ نَهَارُ رَمَضَانَ، مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ.

((مَظَاهِرُ النِّظَامِ فِي عِبَادَةِ الْحَجِّ))

تَتَجَلَّى مَظَاهِرُ النِّظَامِ الْمُحْكَمِ فِي عِبَادَةِ الْحَجِّ؛ فَإِنَّ مِنْ أَجْلَى مَا يَكُونُ فِي فَرِيضَةِ الْحَجِّ: اجْتِمَاعَ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَخْرَجُوا مَنْدُوبِيهِمْ إِلَى الْحَجِّ لِيَشْهَدُوا الْمَوْسِمَ، فَمَا مِنْ شَارِعٍ، وَلَا مِنْ حَيٍّ، وَلَا مِنْ مَدِينَةٍ، وَلَا مِنْ قَرْيَةٍ، وَلَا دَوْلَةٍ، إِلَّا وَخَرَجَ مِنْهَا مَنْ شَاءَ اللهُ أَنْ يَخْرُجَ؛ حَتَّى يَشْهَدَ الْمَوْسِمَ.

فَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمَنْدُوبُونَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ فِي بِقَاعِ الْأَرْضِ وَمَشَارِقِهَا وَمَغَارِبِهَا؛ لِكَيْ يَشْهَدُوا هَذَا الْأَمْرَ الْعَظِيمَ بِوَحْدَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَبِتَوَاضُعِهِمْ لِرَبِّهِمْ وَمَذَلَّتِهِمْ بَيْنَ يَدْيَهِ، وَفِي خُشُوعِهِمْ وَانْكِسَارِهِمْ لَدَيْهِ، فَجَمِيعُهُمْ عَلَى هَيْئَةٍ وَاحِدَةٍ، لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَهُمْ مَظَاهِرُ الدُّنْيَا عَلَى مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْحَجُّ الصَّحِيحُ.

إِنَّ فِي الْحَجِّ إِعْلَانًا عَمَلِيًّا لِمَبْدَأِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ النَّاسِ، وَذَلِكَ حِينَمَا يَقِفُ النَّاسُ جَمِيعًا مَوْقِفًا وَاحِدًا فِي صَعِيدِ عَرَفَاتٍ، لَا تَفَاضُلَ بَيْنَهُمْ فِي أَيِّ عَرَضٍ مِنْ أَعْرَاضِ الدُّنْيَا.

إِنَّ الرَّسُولَ ﷺ يَدُلُّ أُمَّتَهُ عَلَى الْخَيْرِ، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي الشَّرْعِ الْأَغَرِّ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ يَجْعَلُ الْأُمَّةَ مُتَلَاحِمَةً كُلًّا وَجُزْءًا، يَجْعَلُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْأُمَّةَ مُتَمَاسِكَةً حَالِّينَ وَمُرْتَحِلِينَ، حَاجِّينَ وَغَيْرَ حَاجِّينَ، فَيَجْعَلُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْحَالَةَ النَّفْسِيَّةَ لِعُمُومِ الْأُمَّةِ قَائِمَةً عَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ بِالْمُسَاوَاةِ جَمِيعِهَا.

فَأَمَّا الْمُسَاوَاةُ الْكَامِلَةُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا..

وَأَمَّا الْمُسَاوَاةُ الْكَامِلَةُ زَمَانًا وَمَكَانًا..

أَمَّا الْمُسَاوَاةُ الْكَامِلَةُ بَدْءًا وَمُنْتَهًى..

أَمَّا الْمُسَاوَاةُ الْكَامِلَةُ تَلْبِيَةً وَدُعَاءً..

أَمَّا الْمُسَاوَاةُ الْكَامِلَةُ فَتَتَحَقَّقُ هُنَاكَ كَأَنَّهَا بَوْتَقَةٌ تَنْصَهِرُ فِيهَا الْأُمَّةُ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فَرَضَ الْحَجَّ عَلَى كُلِّ قَادِرٍ مُسْتَطِيعٍ، وَعَلَيْهِ.. فَمَا مِنْ مُسْتَطِيعٍ فِي الْأُمَّةِ إِلَّا وَهُوَ شَاهِدٌ يَوْمًا -بِفَضْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ- ذَلِكَ الْمَوْقِفَ، وَإِلَّا وَهُوَ دَاخِلٌ يَوْمًا -بِفَضْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ- فِي تِلْكَ الْحَالَةِ الْمُشْرِقَةِ مِنَ الْقُرْبِ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

((مَظَاهِرُ النِّظَامِ فِي الْجِهَادِ))

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ مَظَاهِرِ النِّظَامِ فِي الْعِبَادَاتِ: النِّظَامَ فِي الْجِهَادِ؛ قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل: 17].

وَجُمِعَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنْ نَوْعِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَأَصْنَافِ الطُّيُورِ مِنَ الْأَمَاكِنِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي مَسِيرٍ لَهُ، فَهُمْ لِكَثْرَتِهِمُ الْعَظِيمَةِ يُجْمَعُونَ فِي مَكَانٍ جَامِعٍ، وَيُرَتَّبُونَ صُفُوفًا وَيُسَوَّوْنَ لِلْقِيَامِ مُنْتَظِمِينَ بِمَا يُكَلَّفُونَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ، {فَهُمْ يُوزَعُونَ}؛ يُرَدُّ أَوَاخِرُهُمْ عَلَى أَوَائِلِهِمْ.

وَقَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيانٌ مَّرْصُوصٌ} [الصف: 4].

إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يَصُفُّونَ أَنْفُسَهُمْ عِنْدَ الْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ صَفًّا فِي خُطَّةٍ مَرْسُومَةٍ مُوَحَّدَةٍ جَامِعَةٍ لِلْقُوَى، وَيَثْبُتُونَ فِي الْجِهَادِ، وَيُنَفِّذُونَ أَوَامِرَ قِيَادَتِهِمُ الْحَرْبِيَّةِ الْوَاحِدَةِ كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مُحْكَمٌ مُتَنَاسِقٌ قَدْ رُصَّ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ، فَلَيْسَ فِيهِ فُرْجَةٌ وَلَا خَلَلٌ.

وَقَدْ تَقْضِي الْخُطَّةُ الْحَكِيمَةُ الَّتِي تَضَعُهَا الْقِيَادَةُ أَنْ يُقَاتِلَ بَعْضُ الْمُقَاتِلِينَ، وَيَتَرَبَّصَ بَعْضُهُمْ، وَيَكُونَ قِسْمٌ مِنْهُمْ فِي الْكَمَائِنِ، وَأَنْ يُدَاهِمُوا الْعَدُوَّ مِنْ عِدَّةِ جِهَاتٍ مُخْتَلِفَاتِ الشَّكْلِ مُتَنَوِّعَاتِ السِّلَاحِ.

وَلَيْسَ مَعْنَى وَحْدَةِ صَفِّ الْمُقَاتِلِينَ أَنْ يُوَاجِهُوا عَدُوَّهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ الصَّفِّ الْمُتَرَاصِّ كَتِفًا بِكَتِفٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يُمَكِّنُ الْعَدُوَّ مِنْ حَصْدِهِمْ بِالْأَسْلِحَةِ النَّارِيَّةِ الْحَدِيثَةِ بِسُرْعَةٍ خَاطِفَةٍ.

وَفِي الْآيَةِ: الْحَثُّ عَلَى الْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا، وَأَنْ يُوَاجِهَ جُنُودُ الْإِسْلَامِ أَعْدَاءَهُ صَفًّا سَوِيًّا رَاسِخًا كَالْبُنْيَانِ الَّذِي تَتَعَاوَنُ لَبِنَاتُهُ وَتَتَضَامُّ وَتَتَمَاسَكُ، وَتُؤَدِّي كُلُّ لَبِنَةٍ دَوْرَهَا، وَتَسُدُّ ثَغْرَتَهَا؛ لِأَنَّ الْبُنْيَانَ كُلَّهُ يَنْهَارُ إِذَا تَخَلَّتْ مِنْهُ لَبِنَةٌ عَنْ مَكَانِهَا؛ تَقَدَّمَتْ أَوْ تَأَخَّرَتْ، أَوْ تَخَلَّتْ عَنْ أَنْ تُمْسِكَ بِأُخْتِهَا تَحْتَهَا أَوْ فَوْقَهَا أَوْ عَلَى جَانِبَيْهَا سَوَاءً.

وَتَبَدَّتْ مَظَاهِرُ النِّظَامِ فِي جِهَادِ النَّبِيِّ ﷺ؛ ((فقَدْ كَانَ ﷺ يَسْتَحِبُّ الْقِتَالَ أَوَّلَ النَّهَارِ، كَمَا كَانَ يَسْتَحِبُّ الْخُرُوجَ لِلسَّفَرِ أَوَّلَهُ، فَإِنْ لَمْ يُقَاتِلْ أَوَّلَ النَّهَارِ أَخَّرَ الْقِتَالَ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ، وَتَهُبَّ الرِّيَاحُ، وَيَنْزِلَ النَّصْرُ.

وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُبَايِعُ أَصْحَابَهُ فِي الْحَرْبِ عَلَى أَلَّا يَفِرُّوا، وَكَانَ يُشَاوِرُ أَصْحَابَهُ فِي أَمْرِ الْجِهَادِ، وَأَمْرِ الْعَدُوِّ، وَتَخَيُّرِ الْمَنَازِلِ، وَكَانَ أَرْفَقَ النَّاسِ بِهِمْ فِي الْمَسِيرِ.

وَكَانَ إِذَا أَرَادَ غَزْوَةً فَرُبَّمَا وَرَّى بِغَيْرِهَا، فَيَقُولُ -مَثَلًا- إِذَا أَرَادَ غَزْوَةَ حُنَيْنٍ: كَيْفَ طَرِيقُ نَجْدٍ وَمِيَاهُهَا؟ وَمَنْ بِهَا مِنَ الْعَدُوِّ؟ وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَيَظُنُّ السَّامِعُ أَنَّهُ يُرِيدُ نَجْدًا وَهُوَ لَا يُرِيدُهَا، وَإِنَّمَا يَذْهَبُ إِلَى حُنَيْنٍ، وَكَانَ يَقُولُ: ((الْحَرْبُ خُدْعَةٌ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَكَانَ يَبْعَثُ الْعُيُونَ يَأْتُونَهُ بِخَبَرِ عَدُوِّهِ، وَيُطْلِعُ الطَّلَائِعَ، وَيُبَيِّتُ الْحَرَسَ.

وَكَانَ إِذَا لَقِيَ عَدُوَّهُ وَقَفَ وَدَعَا، وَاسْتَنْصَرَ بِاللهِ، وَأَكْثَرَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ مِنْ ذِكْرِ اللهِ، وَخَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ.

وَكَانَ يُرَتِّبُ الْجَيْشَ وَالْمُقَاتِلَةَ، وَكَانَ يُبَارَزُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِأَمْرِهِ، وَكَانَ يَلْبَسُ لِلْحَرْبِ عُدَّتَهُ، وَرُبَّمَا ظَاهَرَ بَيْنَ دِرْعَيْنِ، وَكَانَ لَهُ الْأَلْوِيَةُ وَالرَّايَاتُ.

وَكَانَ ﷺ يَأْمُرُ أَمِيرَ سَرِيَّتِهِ أَنْ يَدْعُوَ عَدُوَّهُ قَبْلَ الْقِتَالِ؛ إِمَّا إِلَى الْإِسْلَامِ وَالْهِجْرَةِ، أَوْ إِلَى الْإِسْلَامِ دُونَ الْهِجْرَةِ وَيَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْفَيْءِ نَصِيبٌ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوا إِلَيْهِ قَبِلَ مِنْهُمْ، وَإِلَّا اسْتَعَانَ بِاللهِ وَقَاتَلَهُمْ)) .

وَشَرَعَ اللهُ فِي الْجِهَادِ صَلَاةَ الْخَوْفِ؛ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ} [النساء: 102].

وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ يَا رَسُولَ اللهِ -أَيْ: فِي أَصْحَابِكَ-، وَشَهِدْتَ مَعَهُمُ الْقِتَالَ، وَحَانَ وَقْتُ الصَّلَاةِ، وَأَقَمْتَهَا؛ فَاجْعَلْ أَصْحَابَكَ فِرْقَتَيْنِ، فَلْتَقِفْ فِرْقَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ، فَتُصَلِّي بِهِمْ، وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمُ الْخَفِيفَةَ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى يَكُونُوا عَلَى أُهْبَةِ الْقِتَالِ دَائِمًا.

فَإِذَا سَجَدَ هَؤُلَاءِ فَلْتَكُنِ الْجَمَاعَةُ الْأُخْرَى مِنْ خَلْفِكُمْ فِي مُوَاجَهَةِ عَدُوِّكُمْ، وَتُتِمُّ الْجَمَاعَةُ الْأُولَى رَكْعَتَهُمُ الثَّانِيَةَ وَيُسَلِّمُونَ، وَلْيَنْصَرِفُوا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ فِي وَجْهِ الْعَدُوِّ لِلْحِرَاسَةِ.

وَلْتَأْتِ الْجَمَاعَةُ الْأُخْرَى الْحَارِسَةُ الَّتِي كَانَتْ فِي وَجْهِ الْعَدُوِّ فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ الَّتِي بَقِيَتْ عَلَيْكَ، وَيُتِمُّوا بَقِيَّةَ صَلَاتِهِمْ، وَلْيَتَيَقَّظُوا وَيَتَحَرَّزُوا مِنَ الْكُفَّارِ مَعَ أَخْذِ الْأَسْلِحَةِ.

((مَعَالِمُ عَمَلِيَّةٌ لِلنِّظَامِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ ﷺ))

إِنَّ مِنْ أَجْلَى مَظَاهِرِ النِّظَامِ الْعَمَلِيَّةِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ ﷺ: مَا كَانَ مِنْ أَحْدَاثِ الْهِجْرَةِ، وَالدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

لَمَّا أَذِنَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِلنَّبِيِّ بِالْهِجْرَةِ، وَكَانَتْ جَوْدَةُ الْإِعْدَادِ وَدِقَّةُ الِاسْتِعْدَادِ ظَاهِرَةً جَلِيَّةً، وَلَا نَقُولُ إِنَّ الرَّسُولَ ﷺ كَانَ يَسْتَعِدُّ لِهَذَا الْحَدَثِ الْعَظِيمِ اسْتِعْدَادَ بَشَرٍ، وَلَكِنَّمَا هُوَ اسْتِعْدَادُ بَشَرٍ يُوحَى إِلَيْهِ.

فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ مُؤَيَّدًا بِالْوَحْيِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَبِخَاصَّةٍ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَوَاقِفِ الْعَظِيمَةِ الْفَارِقَةِ، حَتَّى إِنَّ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَمْ يَدَعْ مُحَمَّدًا ﷺ فِي مَعْرِضِ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ إِلَّا وَقَدْ دَلَّنَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِذِكْرِ الْمِنَّةِ عَلَيْهِ: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التَّوْبَة: 40].

إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ مُؤَيَّدًا بِالْوَحْيِ ﷺ، وَلَكِنَّ دِقَّةَ الْإِعْدَادِ وَسَلَامَةَ الِاسْتِعْدَادِ مِنَ الرَّسُولِ ﷺ تَدُلُّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وُجُوبِ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ دَائِمًا وَأَبَدًا.

وَانْظُرْ فِيمَا كَانَ مِنْ تَفْصِيلِ أَمْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّ الرَّسُولَ ﷺ لَمَّا أَذِنَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ بِالْهِجْرَةِ وَحَدَّدَ لَهُ الْمَوْضِعَ الَّذِي يُهَاجِرُ إِلَيْهِ ﷺ، قَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْ هِجْرَتِهِ ﷺ كُلَّ أَصْحَابِهِ ﷺ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ قَبْلَ الْهِجْرَةِ الَّتِي وَقَعَتْ مِنْهُ ﷺ إِلَّا أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَإِلَّا مَنْ فُتِنَ فِي دِينِهِ مِمَّنْ حَجَزَتْهُ قُرَيْشٌ، وَحَالَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخُرُوجِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَرَسُولِهِ الْكَرِيمِ ﷺ.

وَأَمَّا الْأَمْرُ الثَّانِي: فَإِنَّ الرَّسُولَ ﷺ اخْتَارَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ فِي الْهِجْرَةِ صَاحِبًا وَهُوَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

وَمِنْ جَوْدَةِ الْإِعْدَادِ وَسَلَامَةِ الِاسْتِعْدَادِ أَنْ جَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَيْنًا عَلَى قُرَيْشٍ يَتَلَصَّصُ عَلَيْهِمْ فِي الْأَصْبَاحِ، فَإِذَا مَا كَانَ الْمَسَاءُ أَخَذَ مَا وَضَعَ عَلَيْهِ سَمْعَهُ وَيَدَهُ وَسَمْعَ قَلْبِهِ وَذَهَبَ إِلَى الرَّسُولِ ﷺ فَأَخْبَرَهُ، وَالنَّبِيُّ ﷺ مَعَ صَاحِبِهِ فِي الْغَارِ.

وَأَمَّا تَأْمِينُ أَمْرِ الْمَؤُونَةِ فَقَدْ جُعِلَ إِلَى أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُا وَعَنْ أَبِيهَا-.

كَذَلِكَ وَزَّعَ النَّبِيُّ ﷺ الْأَدْوَارَ، وَأَمْرٌ آخَرُ لَمْ يُغْفِلْهُ رَسُولُ اللَّهِ -وَحَاشَا لِلَّهِ أَنْ يَصْنَعَ.. ﷺ- وَهُوَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَأَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- إِذَا مَا سَارَا إِلَى الْغَارِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ كَانَ لِلْأَقْدَامِ آثَارٌ عَلَى الرِّمَالِ، فَرُبَّمَا أَتَى الْقَافَةُ مِنْ تُبَّاعِ الْأَثَرِ فَدَلُّوا قُرَيْشًا عَلَى مَوْضِعِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ اقْتِفَاءً لِلْآثَارِ عَلَى الرِّمَالِ!

فَكَانَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَلَى غَنَمٍ لَهُ، إِذَا مَا جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ وَجَاءَتْ أَسْمَاءُ وَلَدَا أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- جَاءَ بِغَنَمِهِ فَسَارَ عَلَى طَرِيقِهِمَا فَعَفَّ عَلَى الْآثَارِ، ثُمَّ يَبِيتُ بِأَغْنَامِهِ عِنْدَ الْغَارِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَيَحْلِبُ لَهُمْ فَيَشْرَبُونَ هَنِيئًا مَرِيئًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْ صَاحِبِهِ فِي الْغَارِ رِضْوَانًا كَبِيرًا-، فَإِذَا مَا كَانَ الصَّبَاحُ وَقَدْ لَاحَ بِتَبَاشِيرِهِ عَادَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ إِلَى قُرَيْشٍ كَأَنَّمَا أَصْبَحَ فِيهِمْ، وَكَذَلِكُمْ كَانَ اسْتِعْدَادُ النَّبِيِّ ﷺ.

وَأَمْرٌ آخَرُ لَمْ يَغِبْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -ﷺ، وَحَاشَا لِلَّهِ أَنْ يَغِيبَ-؛ ذَلِكَ أَنَّهُ اسْتَغَلَّ الْخِبْرَةَ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ اسْتَأْجَرَ ابْنَ أُرَيْقِطَ لِيَكُونَ دَلِيلًا هَادِيًا، وَكَانَ رَجُلًا مُشْرِكًا، وَلَكِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا بِمَجَاهِلِ الصَّحْرَاوَاتِ، فَأَتَاهُمْ عَلَى رَأْسِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ مَبِيتِهِمْ فِي الْغَارِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَرَضِيَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَنْ صَاحِبِهِ-، جَاءَهُمْ فَأَمْعَنَ بِالسَّيْرِ تِجَاهَ الْجَنُوبِ ثُمَّ اسْتَدَارَ غَرْبًا، حَتَّى إِذَا كَانَ قَرِيبًا مِنْ سَاحِلِ الْبَحْرِ الْأَحْمَرِ سَلَكَ طَرِيقًا غَيْرَ مَطْرُوقَةٍ أَبَدًا -هِيَ نَادِرَةٌ جِدًّا مَا يَطْرُقُهَا طَارِقٌ-، وَسَارَ مُصْعِدًا صَوْبَ الشَّمَالِ حَتَّى قَدِمَ مَدِينَةَ النَّبِيِّ ﷺ.

وَأَمَّا النِّظَامُ الَّذِي وَضَعَهُ النَّبِيُّ ﷺ لِلدَّعْوَةِ؛ فَنِظَامٌ مُحْكَمٌ عَادِلٌ، لَمَّا أَرْسَلَ النَّبِيُّ ﷺ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ رِوَايَةِ مُعَاذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- نَفْسِهِ، قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ ﷺ فَقَالَ: ((إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، فَإِنْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ خَمْسَ صَلَوَاتٍ؛ فَإِنْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُأْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، وَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ)).

النَّبِيُّ ﷺ أَمَرَهُ بِالْبَدْءِ بِالتَّوْحِيدِ تَحْقِيقًا وَدَعْوَةً؛ فَإِنْ أَجَابُوا فَمَظْهَرُ التَّوْحِيدِ فِي الِاسْتِسْلَامِ لِلَّهِ الْعَزِيزِ الْمَجِيدِ بِالْإِتْيَانِ بِمَا فَرَضَ بِأَنْ يَأْتُوا بِالصَّلَوَاتِ عَلَى وَجْهِهَا، وَأَنْ يُخْرِجُوا حَقَّ الْمَالِ، ثُمَّ أَخْرَجَ النَّبِيُّ ﷺ مَا أَخْرَجَ مِنْ أَصْلٍ عَظِيمٍ عَلَى سَبِيلِ التَّحْذِيرِ: ((وَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ)).

لِأَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- يَقْبَلُ وَيَسْتَجِيبُ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، وَلَوْ كَانَ كَافِرًا؛ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- حَرَّمَ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِهِ، وَجَعَلَهُ بَيْنَ الْعِبَادِ مُحَرَّمًا.

فَأَرْشَدَ الرَّسُولُ ﷺ مُعَاذًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَهُوَ يُؤَسِّسُ لِلْأَمْرِ الْأَوَّلِ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ فِي الْيَمَنِ، أَرْشَدَهُ إِلَى هَذَا الْأَصْلِ الْأَصِيلِ، وَحَذَّرَهُ النَّبِيُّ الْكَرِيمُ ﷺ مِنَ الظُّلْمِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.

وَإِنَّ الَّذِي يَنْخَرُ فِي جَمِيعِ بِنَايَاتِ الْأُمَّةِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهَا وَفِي جَمِيعِ مُدَدِهَا إِنَّمَا هُوَ الظُّلْمُ..

أَمَّا إِذَا أُسِّسَ الْأَمْرُ عَلَى الْعَدْلِ فَأَبْشِرْ بِأُمَّةٍ قَائِمَةٍ عَزِيزَةٍ مُسْتَبْشِرَةٍ بِنَصْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَا يُؤَيِّدُ ظَالِمًا، وَلَا يَنْصُرُهُ، وَإِنَّمَا يَخْذُلُهُ وَيَقْتَصُّ مِنْهُ، وَيُقِيمُ عَلَيْهِ الْأَمْرَ دُنْيَا وَآخِرَةً.

 ((مَبْنَى الْعَلَاقَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ فِي الْإِسْلَامِ عَلَى نِظَامٍ كَامِلٍ))

إِنَّ النِّظَامَ مَبْدَأٌ دَعَا إِلَيْهِ الْإِسْلَامُ الْعَظِيمُ، وَأَمَرَ أَتْبَاعَهُ بِأَنْ يَجْعَلُوهُ سُلُوكًا يُمَارِسُونَهُ فِي حَيَاتِهِمُ الْيَوْمِيَّةِ؛ حَتَّى يَكُونَ الْمُجْتَمَعُ الْمُسْلِمُ مُجْتَمَعًا مُنَظَّمًا يَتَحَمَّلُ كُلُّ فَرْدٍ فِيهِ مَسْئُولِيَّتَهُ حَتَّى تَتَحَقَّقَ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ الَّتِي يَحْصُدُ ثِمَارَهَا الْمُجْتَمَعُ كُلُّهُ.

إِنَّ الشَّرْعَ الْأَغَرَّ قَدْ حَدَّدَ الْعَلَاقَاتِ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَأَخِيهِ، وَحَدَّدَ الْعَلَاقَةَ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَمُجْتَمَعِهِ، فَإِذَا لَمْ يَعْرِفِ الْإِنْسَانُ دِينَ رَبِّهِ؛ فَإِنَّهُ -حِينَئِذٍ- لَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤَدِّيَ حَقَّهُ عَلَيْهِ، وَلا يُمْكِنُ أَنْ يَعْرِفَ وَاجِبَهُ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ جَاهِلًا مُتَخَبِّطًا.

إِنَّ الْمَنْظُومَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ فِي الْحُكْمِ -فِي جَمِيعِ الْمَجَالَاتِ- مَبْنِيَّةٌ عَلَى عِبَارَةٍ وَاحِدَةٍ: أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ كَبِيرٌ يُطَاعُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ، فَقَامَتْ أَحْزَابُ الشَّيْطَانِ فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ وَالدَّاخِلِ لِهَدْمِ هَذَا الْأَصْلِ، وَتَسْوِيَةِ النَّاسِ جَمِيعًا، وَالنَّاسُ سَوَاءٌ فِي الْخِلْقَةِ، كُلُّهُمْ عَبِيدٌ لِلهِ، كُلُّهُمْ عِنْدَ اللهِ سَوَاءٌ، وَلَكِنْ فَضَّلَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَمَا عَالِمٌ كَجَاهِلٍ! وَمَا كَرِيمٌ كَبَخِيلٍ! وَمَا شُجَاعٌ كَجَبَانٍ! رَفَعَ اللهُ بَعْضَنَا فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ.

الْمَبْدَأُ الْأَصْلُ: كَبِيرٌ يُطَاعُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ؛ أَبٌ فِي بَيْتِهِ يُطَاعُ, حَتَّى فِي الْمَدْرَسَةِ فِي حُجْرَةِ الدَّرْسِ كَبِيرٌ يُطَاعُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ، فِي الْكُتَّابِ كَبِيرٌ يُطَاعُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ، فِي الْمَسْجِدِ كَبِيرٌ يُطَاعُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ، إِمَامٌ مَنْ سَاوَاهُ لَمْ يَكُنْ مُحْسِنًا، وَمَنْ سَبَقَهُ كَانَ مُسِيئًا مُبْطِلًا.

كَبِيرٌ يُطَاعُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ، فَإِذَا عَصَى اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ، وَكَذَا نِظَامُ الْحُكْمِ فِي أَصْلِهِ: إِمَامٌ لَهُ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ، فَإِنْ أَمَرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ فِيمَا أَمَرَ بِهِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، وَلَهُ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ.

مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ تَقَابُلَ الْحُقُوقِ وَالْوَاجِبَاتِ أَمْرٌ مُسْتَقِرٌّ، فَمَا مِنْ حَقٍّ إِلَّا وَفِي مُقَابَلَتِهِ وَاجِبٌ، وَكَذَلِكَ الْوَاجِبُ يُقَابِلُهُ الْحَقُّ.

فَالْوَالِدَيْنِ لَهُمْ حَقٌّ؛ قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}.

فَأَمَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَعْدَ الْأَمْرِ بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَبِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا؛ فَهَذَا مِنْ آكَدِ الْحُقُوقِ وَمِنْ أَجَلِّهَا.

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَطِعْ وَالِدَيْكَ، وَإِنْ هُمَا أَمَرَاكَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ دُنْيَاكَ لَهُمَا فَاخْرُجْ)).

وَالْأَبْنَاءُ لَهُمْ حُقُوقٌ؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)) .

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا, إِنَّ لِبَدَنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا, إِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا, إِنَّ لِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا, إِنَّ لِزَوْرِكَ -أَيْ: لِضِيفَانِكَ وَزَائِرِيكَ- عَلَيْكَ حَقًّا, فَآتِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حقَّهُ)).

وَكَذَلِكَ ضَبَطَ الْإِسْلَامُ الْعَلَاقَةَ بَيْنَ الْحَاكِمِ وَالْمَحْكُومِ؛ فَالْحَاكِمُ لَهُ حُقُوقٌ وَاجِبَةٌ لَهُ؛ أَوْجَبَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ الْأَمِينِ ﷺ، وَاجِبَةٌ.. كَمَا تَجِبُ عَلَيْكَ الصَّلَاةُ، وَكَمَا تَجِبُ عَلَيْكَ الزَّكَاةُ؛ أَوْجَبَهَا اللهُ فِي عُلَاهُ.

وَمِنْ حُقُوقِهِ: الْبَيْعَةُ لَهُ؛ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

وَمِنْ حُقُوقِهِ: السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ لَهُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنكُمْ} [النساء: 59].

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ، إِلَّا أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةٍ؛ فَإِنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.

* وَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يَفِيَ لِرَعِيَّتِهِ بِمُوجَبِ الْعَهْدِ؛ فَيَنْظُرُ فِي مَصَالِحِهِمْ، وَيَدْفَعُ عَنْهُمُ الضَّرَرَ وَالظُّلْمَ، وَيَعْمَلُ لَهُمْ كُلَّ مَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِدِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ.. قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: ٥٨ - ٥٩].

قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «الْأَمَانَاتُ: كُلُّ مَا اؤْتُمِنَ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ وَأُمِرَ بِالْقِيَامِ بِهِ، فَأَمَرَ اللهُ عِبَادَهُ بِأَدَائِهَا؛ أَيْ: كَامِلَةً مُوَفَّرَةً، لَا مَنْقُوصَةً وَلَا مَبْخُوسَةً، وَلَا مَمْطُولًا بِهَا، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَمَانَاتُ الْوِلَايَاتِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَسْرَارِ، وَالْمَأْمُورَاتُ الَّتِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا إِلَّا اللهُ.

{وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}؛ وَهَذَا يَشْمَلُ الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ فِي الدِّمَاءِ, وَالْأَمْوَالِ، وَالْأَعْرَاضِ؛ الْقَلِيلِ مِنْ ذَلِكَ وَالْكَثِيرِ، عَلَى الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، وَالْوَلِيِّ وَالْعَدُوِّ.

وَالْمُرَادُ بِالْعَدْلِ الَّذِي أَمَرَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِالْحُكْمِ بِهِ, هُوَ مَا شَرَعَهُ اللهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مِنَ الْحُدُودِ وَالْأَحْكَامِ، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ مَعْرِفَةَ الْعَدْلِ لِيُحْكَمَ بِهِ)).

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيِّتِهِ)).

وَكَذَلِكَ حُقُوقُ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ؛ فَكَمَا أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ لِلرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ حَقًّا وَهُوَ حَقٌّ كَبِيرٌ، كَذَلِكَ جَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِلْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا حَقًّا.

عَلَى نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَعْلَمْنَ أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ أَزْوَاجَهُنَّ مِنْحَةً وَمِحْنَةً، قَالَ ﷺ: ((لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا لِعَظِيمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا)) .

وَأَقْسَمَ النَّبِيُّ ﷺ قَالَ: «..., وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ كَانَ مِنْ قَدَمِهِ إِلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ قُرْحَةٌ تَنْبَجِسُ بِالْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْهُ تَلْحَسُهُ مَا أَدَّتْ حَقَّهُ» .

وَالرَّسُولُ ﷺ عَلَّقَ دُخُولَ الْمَرْأَةِ الْجَنَّةَ عَلَى رِضَا زَوْجِهَا عَنْهَا، فَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِذَا صَلَّتِ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا، وَصَامَتْ شَهْرَهَا، وَحَفِظَتْ فَرْجَهَا، وَأَطَاعَتْ زَوْجَهَا؛ قِيلَ لَهَا: ادْخُلِي الْجَنَّةَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شِئْتِ)) .

وَفِي الْمُقَابِلِ جَعَلَ الْإِسْلَامُ لِلْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا حَقًّا، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ خَلَقَ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا أَزْوَاجًا نَسْكُنُ إِلَيْهَا، وَجَعَلَ الْمَوَدَّةَ وَالرَّحْمَةَ دَوْحَةً نَسْتَظِلُّ بِهَا.

وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ))  عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِهَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ)).

وَقَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].

وَالْمَرْأَةُ عِنْدَ الرَّجُلِ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، هَلْ أَدَّى إِلَيْهَا حَقَّهَا أَمْ فَرَّطَ وَضَيَّعَ؟

وَمِنْ مَظَاهِرِ النِّظَامِ الدَّقِيقِ الْمُحْكَمِ فِي الْعَلَاقَاتِ الْإِنْسَانِيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ: نِظَامُ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ؛ فَمِنْ مُقْتَضَى حُسْنِ الْخُلُقِ وَالرَّحْمَةِ أَنْ يُوَقِّرَ الصَّغِيرُ الْكَبِيرَ، لِوُجُودِ حُسْنِ الْخُلُقِ لَدَيْهِ، وَأَنْ يَرْحَمَ الْكَبِيرُ الصَّغِيرَ؛ لِأَنَّ الْكَبِيرَ قَدْ عَقَلَ مَا لَا يَعْقِلُ الصَّغِيرُ، وَعَلِمَ مَا لَا يَعْلَمُ الصَّغِيرُ، فَتَرَاهُ يَرْحَمُ الصَّغِير وَيُحْسِنُ إِلَيْهِ، سَوَاءٌ بِالتَّعْلِيمِ، أَوْ بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِفَكِّ كُرْبَتِهِ، وَعَدَمِ مُؤَاخَذَتِهِ إِنْ زَلَّ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

لَقَدْ أَعْطَى الْإِسْلَامُ الْكَبِيرَ حَقَّهُ مِنَ الشَّرَفِ وَالتَّقْدِيرِ وَالتَّوْقِيرِ؛ لِمَا خُصَّ بِهِ مِنَ السَّبْقِ فِي الْوُجُودِ وَتَجْرِبَةِ الْأُمُورِ.

وَإِجْلَالُ الْكَبِيرِ هُوَ حَقُّ سِنِّهِ؛ لِكَوْنِهِ تَقَلَّبَ فِي الْعُبُودِيَّةِ للهِ فِي أَمَدٍ طَوِيلٍ، وَرَحْمَةُ الصَّغِيرِ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى رفَعَ عَنْهُ التَّكْلِيفَ.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيَعْرِفْ حَقَّ كَبِيرِنَا، فَلَيْسَ مِنَّا». وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَالْحَاكِمُ فِي «الْمُسْتَدْرَكِ»، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

* وَمِنْ مَظَاهِرِ احْتِرَامِ الْكَبِيرِ فِي الْإِسْلَامِ: التَّوْسِعَةُ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ:

مِنْ إِجْلَالِ الْكَبِيرِ: التَّوْسِعَةُ لِلْقَادِمِ عَلَى أَهْلِ الْمَجْلِسِ إِذَا أَمْكَنَ التَّوْسِيعُ لَهُ، سِيَّمَا إِذَا كَانَ مِمَّنْ أُمِرَ بِإِكْرَامِهِ مِنَ الشُّيُوخِ سَوَاءٌ كَانَ ذَا شَيْبَةٍ، أَوْ ذَا عِلْمٍ، أَوْ لِكَوْنِهِ كَبِيرَ قَوْمٍ، كَمَا فِي حَدِيثِ جَرِيرٍ -وَالْحَدِيثُ حَسَنٌ بِمَجْمُوعِ طُرُقِهِ كَمَا فِي «السِّلْسلَةِ الصَّحِيحَةِ»-: «إِذَا أَتَاكُمْ كَرِيمٌ فَأَكْرِمُوهُ».

وَمِنْ حُقُوقِ كِبَارِ السِّنِّ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ: أَنْ نُقَدِّمَهُمْ عِنْدَ الْكَلَامِ؛ فَعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ: أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ رِجَالٍ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةَ خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ مِنْ جُهْدٍ أَصَابَهُمْ، فَأَتَى مُحَيِّصَةُ فَأَخْبَرَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ قَدْ قُتِلَ وَطُرِحَ فِي عَيْنٍ أَوْ فَقِيرٍ، فَأَتَى يَهُودَ، فَقَالَ: أَنْتُمْ وَاللَّهِ قَتَلْتُمُوهُ.

قَالُوا: وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ. ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ فَذَكَرَ لَهُمْ ذَلِكَ، ثُمَّ أَقْبَلَ هُوَ وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ -وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ- وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ، فَذَهَبَ مُحَيِّصَةُ لِيَتَكَلَّمَ، وَهُوَ الَّذِى كَانَ بِخَيْبَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِمُحَيِّصَةَ: «كَبِّرْ كَبِّرْ». يُرِيدُ السِّنَّ؛ فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ مُحَيِّصَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ وَإِمَّا أَنْ يُؤْذَنُوا بِحَرْبٍ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

فِي الْحَدِيثِ: الْبَدْءُ بِالْكَلَامِ لِلْأَكْبَرِ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْإِكْرَامِ إِلَّا إِذَا كَانَ الصَّغِيرُ أَعْلَمَ وَأَقْدَرَ مِنَ الْكَبِيرِ عَلَى الْبَيَانِ وَالتِّبْيِينِ.

«لَمَّا جَاءَ وَفْدٌ إِلَى عُمْرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَشَرَعَ أَصْغَرُ الْقَوْمِ يَتَكَلَّمُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ: عَلَى رِسْلِكَ فَلْيَتَكَلَّمْ أَكْبَرُكُمْ.

فَقَالَ لَهُ الْغُلَامُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! لَوْ كَانَ الْأَمْرُ بِالسِّنِّ لَكَانَ مِنْ رَعِيَّتِكَ مَنْ هُوَ أَوْلَى بِمَجْلِسِكَ مِنْكَ.

قَالَ: فَتَكَلَّمْ بَارَكَ اللهُ فِيكَ.

تَعَلَّمْ فَلَيْسَ الْمَرْءُ يُولَدُ عَالِمًا=وَلَيْسَ جَهُولُ الْقَوْمِ كَمَن هُوَ عَالِمٌ

فَإِنَّ كَبِيرَ الْقَوْمِ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ=صَغِيرٌ إِذَا الْتَفَّتْ عَلَيْهِ الْمَحَافِلُ»

فَبِرَحْمَةِ الْكَبِيرِ لِلصَّغِيرِ، وَتَوْقِيرِ الصَّغِيرِ لِلْكَبِيرِ يَحْصُلُ التَّآلُفُ بَيْنَ الْمُجْتَمَعَات، وَالـتَّآخِي بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي اللَّهِ وَمِنْ أَجْلِ اللَّهِ، لَا مِنْ أَجْلِ الْأَنْسَابِ وَالْأَحْسَابِ، وَلَا لِلْمَصَالِحِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَلَكِنَّهُ رَجَاءُ ثَوَابِ اللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

* وَكَذَلِكَ مَبْنَى الْمُعَامَلَاتِ التِّجَارِيَّةِ عَلَى نِظَامٍ مُحْكَمٍ عَادِلٍ؛ فَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((رَحِمَ اللهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ, وَإِذَا اشْتَرَى, وَإِذَا اقْتَضَى)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)) .

وَعَلَيْهِ أَنْ يَفِيَ بِالدَّيْنِ إِذَا حَلَّ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ, فَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَهِيَ الْحَوَالَةُ , ((فَإِنَّهُ إِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ -أَيْ: عَلَى غَنِيٍّ- فَلْيَتْبَعْ)). الْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَالْمَطْلُ: مَنْعُ قَضَاءِ مَا اسْتُحِقَّ أَدَاؤُهُ.

فَـ((مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ؛ فَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ)).

وَأَمَّا إِنْظَارُ الْمُعْسِرِ وَالتَّجَاوُزُ عَنْهُ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-, عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((كَانَ تَاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ, فَإِذَا رَأَى مُعْسِرًا قَالَ لِفِتْيَانِهِ: تَجَاوَزُوا عَنْهُ, لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا.. فَتَجَاوَزَ اللهُ عَنْهُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ.

وَأَمَّا عَدَمُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ؛ فَقَدْ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 9-10].

وَأَمَّا الْعَدْلُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ؛ فَقَدْ قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-:{ وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَٰئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 1-6].

وَلَا بُدَّ مِنْ رِعَايَةِ الْعَدْلِ فِي الْبَيْعِ وَفِي الشِّرَاءِ وَفِي كُلِّ الْأَحْوَالِ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَا يَقْبَلُ الظُّلْمَ, وَقَدْ حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَجَعَلَهُ بَيْنَ الْعِبَادِ مُحَرَّمًا.

وَيَنْبَغِي أَنْ يَجْتَنِبَ كَثْرَةَ الْحَلِفِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((الْحَلِفُ مَنْفَقَةٌ لِلسِّلْعَةِ, مَمْحَقَةٌ لِلرِّبْحِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

أَيْ: يُنَفِّقُ السِّلْعَةَ فَتُشْتَرَى بِأَيْسَرِ مَجْهُودٍ يُبْذَلُ، وَيَجْعَلُهَا مُتَاحَةً لِذَلِكَ, وَلَكِنْ: مَمْحَقَةٌ لِلرِّبْحِ؛ فَـ((الْحَلِفُ مَنْفَقَةٌ لِلسِّلْعَةِ, مَمْحَقَةٌ لِلرِّبْحِ)). وَالْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَيَنْبَغِي اجْتِنَابُ الْبُيُوعِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَالْأَشْيَاءِ الْمُحَرَّمَةِ وَالْخَبِيثَةِ؛ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275].

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157].

وَيَنْبَغِي أَنْ يَجْتَنِبَ الْغِشَّ وَالْكَذِبَ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ -وَهِيَ الْكَوْمَةُ الْمَجْمُوعَةُ مِنَ الطَّعَامِ-, فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا, فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا, فَقَالَ: ((مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟)).

قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللهِ -يَعْنِي: الْمَطَرَ-.

قَالَ: ((أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ حَتَّى يَرَاهُ النَّاسُ! مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) .

وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا أَوْ قَالَ: حَتَّى يَتَفَرَّقَا -وَهُوَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ-, فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا, وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَأَمَّا احْتِكَارُ السِّلَعِ فَهُوَ حَرَامٌ لَا يَجُوزُ, وَقَدْ نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ ﷺ؛ فَعَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- , عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: ((لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) .

لَوْ أَنَّ الْإِنْسَانَ الْتَزَمَ هَذِهِ الْآدَابَ لَآتَاهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَضْلًا عَظِيمًا, وَحَبَاهُ خَيْرًا كَثِيرًا؛ لِأَنَّ الْخَيْرَ كُلَّ الْخَيْرِ فِي اتِّبَاعِ هَدْيِ النَّبِيِّ ﷺ, وَأَمَّا مُخَالَفَتُهُ فَشُؤْمٌ لَا يَتَأَتَّى مِنْ وَرَائِهَا إِلَّا كُلُّ شَرٍّ, نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَرْزُقَنَا التَّوْحِيدَ وَالِاتِّبَاعَ, إِنَّهُ -تَعَالَى- هُوَ الْبَرُّ الْجَوَادُ الْكَرِيمُ.

 ((مَبْنَى حَرَكَةِ حَيَاةِ الْمُسْلِمِ عَلَى نِظَامٍ مُحْكَمٍ))

عِبَادَ اللهِ! النَّبِيُّ ﷺ ضَبَطَ لَنَا اللَّفْظَ، وَضَبَطَ لَنَا النَّظَرَ، وَضَبَطَ لَنَا السَّمْعَ، وَضَبَطَ لَنَا الْحَرَكَةَ فِي الْحَيَاةِ؛ مِنْ حَرَكَةِ الْيَدِ، وَمِنْ حَرَكَةِ الرِّجْلِ، وَمِنْ حَرَكَةِ الْجَسَدِ، وَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ الْمُخَالَفَةَ فِي ذَلِكَ مُؤَدِّيَةً إِلَى الْهَلَاكِ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ؛ فَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ، وَالْأُذُنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا الِاسْتِمَاعُ، وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا الْبَطْشُ، وَالرِّجْلَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا السَّعْيُ، وَالْقَلْبُ يَتَمَنَّى وَيَتَشَهَّى، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ)) .

وَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36].

وَلَا تَتَّبِعْ -أَيُّهَا الْإِنْسَانُ- فِي أَيِّ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ حَيَاتِكَ شَيْئًا لَا تَعْلَمُ أَنَّهُ حَقٌّ وَصَوَابٌ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ؛ فَإِنَّ لَدَيْكَ مِنْ أَدَوَاتِ الْمَعْرِفَةِ مَا تَسْتَطِيعُ بِهِ التَّبَصُّرَ فِي الْأُمُورِ.

فَإِذَا أَنْتَ اتَّبَعْتَ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ؛ فَقَدْ عَطَّلْتَ أَدَوَاتِ الْمَعْرِفَةِ الَّتِي لَدَيْكَ، إِنَّ الْإِنْسَانَ مَسْئُولٌ عَمَّا اسْتَعْمَلَ فِيهِ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَعُمْقَ قَلْبِهِ الَّذِي هُوَ أَدَاةُ الْإِدْرَاكِ فِي الْإِنْسَانِ، وَمَرْكَزُ اسْتِقْرَارِ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ، وَالَّذِي تَنْطَلِقُ مِنْهُ الْإِرَادَاتُ.

دِينُ الْإِسْلَامِ دِينُ الْتِزَامٍ وَنِظَامٍ، وَهُوَ دِينٌ صَارِمٌ جِدًّا، لَا كَمَا يَظُنُّ النَّاسُ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: دِينُ الرَّحْمَةِ.. نَعَمْ هُوَ دِينُ الرَّحْمَةِ، وَلَكِنَّهُ دِينُ النِّظَامِ وَدِينُ الِالْتِزَامِ، لَيْسَ لَكَ أَنْ تُؤَخِّرَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا، وَمَنْ أَخَّرَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا بِغَيْرِ عُذْرٍ فَعِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ هُوَ كَافِرٌ كُفْرًا أَكْبَرَ يَنْقُلُهُ مِنَ الْمِلَّةِ، وَعِنْدَ آخَرِينَ كَفَرَ كُفْرًا أَصْغَرَ؛ ((مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فَقَدْ كَفَرَ)) .

الْأَمْرُ لَيْسَ كَمَا يَظُنُّ النَّاسُ!! لِأَنَّ اللهَ خَلَقَكَ لِعِبَادَتِهِ وَأَنْتَ تَسْرَحُ فِي الْحَيَاةِ، تَخْبِطُ فِيهَا بِجَمِيعِ جَوَارِحِكَ؛ بِالنَّظَرِ، وَالِاسْتِمَاعِ، وَبِالْقَلْبِ، بَلْ وَبِالْفَرْجِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْيَانِ!!

وَالنَّاسُ يَبْطِشُونَ، تَمْتَدُّ الْأَيْدِي إِلَى كَثِيرٍ مِمَّا حَرَّمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، يُحَصِّلُونَ الْحَرَامَ، وَيَأْكُلُونَ الْحَرَامَ، وَيَكْنِزُونَ الْحَرَامَ، وَيُرَبُّونَ أَوْلَادَهُمْ مِنَ الْحَرَامِ، بَلْ تَتَخَلَّقُ النُّطَفُ فِي الْأَرْحَامِ مِنَ الْحَرَامِ، وَتُغْذَى مِنَ الْحَرَامِ فِي أَعْمَالٍ هِيَ حَرَامٌ، وَفِي كَسْبٍ هُوَ حَرَامٌ، وَفِي مَسَالِكَ هِيَ حَرَامٌ، وَبِطُرُقٍ هِيَ حَرَامٌ، وَلَا يُبَالِي أَحَدٌ بِشَيْءٍ!!

إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ إِلَى أَهْلِ النَّارِ وَاحِدٌ فِي كُلِّ أَلْفٍ، فَفِي النَّارِ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ فِي النَّارِ وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ كَمَا أَخْبَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ آدَمَ (سلم).

قَالَ: ((يَا آدَمُ! أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ)).

قَالَ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟

قال: ((مِنْ ذُرِّيَّتِكَ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ فِي النَّارِ، وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ)).

الْأَمْرُ لَيْسَ هَيِّنًا كَمَا تَظُنُّونَ!!

لَمَّا سَمِعَ الْأَصْحَابُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- هَذَا الْحَدِيثَ جَثَوْا عَلَى الرُّكَبِ وَبَكَوْا، وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! وَأَيُّنَا ذَلِكَ الْوَاحِدُ؟!!

وَبَشَّرَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ بِأَنَّهُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ نِصْفُ عَدَدِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ، مَعَ أَنَّنَا نُوفِي سَبْعِينَ أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ نَحْنُ أَكْرَمُهَا عَلَى اللهِ، وَنَحْنُ أَفْضَلُهَا فِي دِينِ اللهِ، أُمَّةُ مُحَمَّدٍ ﷺ .

ضَبَطَ لَنَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كُلَّ شَيْءٍ، وَالنَّاسُ يَخْبِطُونَ فِي الْحَيَاةِ!!

وَالرَّسُولُ ﷺ يَقُولُ: ((إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)) .

النَّاسُ لَا يَحْسَبُونَ أَنَّ دِينَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَضْبِطُهُمْ فِي شَيْءٍ، مَعَ أَنَّ الْقَانُونَ لَوْ نُفِّذَ لَضَبَطَهُمْ، وَهُوَ لَيْسَ مِمَّا أَنْزَلَ اللهُ، فَكَيْفَ بِدِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؟!!

لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَخْطُوَ خُطْوَةً إِلَّا بِأَمْرِ اللهِ، وَلَا أَنْ يَسْكُنَ إِلَّا بِأَمْرِ اللهِ، وَلَا أَنْ يُرِيدَ إِرَادَةً بِقَلْبِهِ إِلَّا بِأَمْرِ اللهِ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ تَنْضَبِطُ وَلَا بُدَّ مِنْ ضَبْطِهَا، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِذَا تَقَاتَلَ الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ)).

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! هَذَا الْقَاتِلُ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟!!

إِذَا تَوَاجَهَ مُسْلِمَانِ بَسَيْفَيْهِمَا، لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ بِسَيْفَيْهِمَا؛ بِخِنْجَرَيْهِمَا، بِسِكِّينَيْهِمَا، بِسِنْجَتَيْهِمَا، بِأَيِّ شَيْءٍ، بِعِصِيِّهِمَا.. فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ.

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! هَذَا الْقَاتِلُ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟!!

قَالَ: ((إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ)) .

فَنَزَّلَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَنْزِلَةَ الْقَاتِلِ.

إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْزَلَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ؛ لِتَضْبِطَ حَرَكَةَ حَيَاةِ الْمُسْلِمِ مُنْذُ أَنْ يَسْتَيْقِظَ إِلَى أَنْ يَنَامَ بِانْضِبَاطٍ كَامِلٍ.

لَيْسَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَخْرُجَ عَنِ النِّظَامِ الَّذِي شَرَعَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

لَقَدْ أَسَّسَ الْإِسْلَامُ نِظَامًا عَامًّا لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهِ؛ فَأَعَادَ صِيَاغَةَ مَنْهَجِ الْحَيَاةِ لِيَصِيرَ مَنْهَجًا مُتَوَازِنًا فِي كُلِّ مَنَاحِيهَا حَتَّى عِنْدَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَعِنْدَ اللِّبَاسِ وَالْإِنْفَاقِ؛ قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141].

وَلَا تُجَاوِزُوا الْحَدَّ بِإِنْفَاقِ الْمَالِ وَأَكْلِ الطَّعَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ إِنَّهُ -سُبْحَانَهُ- لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ الْمُتَجَاوِزِينَ الْحَدَّ فِي كُلِّ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْإِسْرَافَ يُوصِلُ إِلَى الْوُقُوعِ فِي الْمَضَارِّ وَالْمَهَالِكِ، أَوِ الظُّلْمِ وَالتَّحْرِيفِ فِي الدِّينِ.

فَمِنْ فَوَائِدِ هَذِهِ الْآيَةِ: التَّمَتُّعُ بِالطَّيِّبَاتِ مَعَ عَدَمِ الْإِسْرَافِ وَمُجَاوَزَةِ الْحَدِّ فِي الْأَكْلِ وَالْإِنْفَاقِ.

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((كُلْ وَاشْرَبْ، وَالْبَسْ وَتَصَدَّقْ، مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا مَخِيلَةٍ)) . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ الْجَامِعِ وَغَيْرِهِ)).

الْمُسْلِمُ يَأْكُلُ مِنْ رِزْقِ رَبِّهِ الْحَلَالِ الطَّيِّبِ, وَلَا يُكْثِرُ مِنَ الْأَكْلِ؛ فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-, عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((الْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ, وَالْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((طَعَامُ الْوَاحِدِ يَكْفِي الِاثْنَيْنِ, وَطَعَامُ الِاثْنَيْنِ يَكْفِي الْأَرْبَعَةَ, وَطَعَامُ الْأَرْبَعَةِ يَكْفِي الثَّمَانِيَةَ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

وَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَجَنَّبَ الشِّبَعَ الْمُفْرَطَ؛ لِقَوْلِ الرَّسُولِ: ((مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ, بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ, فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ؛ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ, وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ, وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ)) .

الْمُسْلِمُ يَنْظُرُ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ بِاعْتِبَارِهِمَا وَسِيلَةً إِلَى غَيْرِهِمَا, لَا غَايَةً مَقْصُودَةً لِذَاتِهَا, فَهُوَ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ مِنْ أَجْلِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى سَلَامَةِ بَدَنِهِ الَّذِي بِهِ يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ الْعِبَادَةَ الَّتِي تُؤَهِّلُهُ لِكَرَامَةِ الدَّارِ الْآخِرَةِ وَسَعَادَتِهَا.

فَلَيْسَ الْمُسْلِمُ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ لِذَاتِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَشَهْوَتِهِمَا؛ فَلِذَا هُوَ لَوْ لَمْ يَجُعْ لَمْ يَأْكُلْ, وَلَوْ لَمْ يَعْطَشْ لَمْ يَشْرَبْ.

((وُجُوبُ الْتِزَامِ النِّظَامِ الْعَامِّ

وَحُرْمَةُ الْخُرُوجِ عَلَيْهِ))

النَّبِيُّ ﷺ رَاعَى حُقُوقَ الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ -تَعَالَى-، وَعَلَّمَنَا النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ هَذَا الْمُجْتَمَعَ لَا يَصْلُحُ وَالنَّاسُ فِيهِ فَوْضَى لَا سَرَاةَ لَهُمْ.

لِذَلِكَ فَإِنَّ احْتِرَامَ النِّظَامِ الْعَامِّ مَطْلَبٌ دِينِيٌّ وَوَطَنِيٌّ؛ فَإِنَّ الْأَمْنَ وَالِاسْتِقْرَارَ نِعْمَةٌ عَظِيمٌ نَفْعُهَا، كَرِيمٌ مَآلُهَا، وَهِيَ مَظَلَّةٌ يَسْتَظِلُّ بِهَا الْجَمِيعُ مِنْ حَرِّ الْفِتَنِ وَنَارِ التَّهَارُجِ، هَذِهِ النِّعْمَةُ يَتَمَتَّعُ بِهَا الْحَاكِمُ وَالْمَحْكُومُ، وَالْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ، وَالرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، بَلْ إِنَّ الْبَهَائِمَ تَطْمَئِنُّ مَعَ الْأَمْنِ، وَتُذْعَرُ وَتُعَطَّلُ مَعَ الْخَوْفِ وَاضْطِرَابِ الْأَوْضَاعِ، تُعَطَّلُ وَتُذْعَرُ مَعَ تَهَارُجِ الْهَمَجِ الرَّعَاعِ.

فَنَعُوذُ بِاللَّـهِ مِنَ الْفِتَنِ الَّتِي تُعْمِي الْأَبْصَارَ وَتُصِمُّ الْأَسْمَاعَ.

وَبِاللَّـهِ ثُمَّ بِالْأَمْنِ يُحَجُّ الْبَيْتُ الْعَتِيقُ، وَتُعَمَّرُ الْمَسَاجِدُ، وَيُرْفَعُ الْأَذَانُ مِنْ فَوْقِ الْمَنَارَاتِ، وَيَأْمَنُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ، وَتَأْمَنُ السُّبُلُ، وَتُرَدُّ الْمَظَالِمُ لِأَهْلِهَا فَيُنْتَصَرُ لِلْمَظْلُومِ وَيُرْدَعُ الظَّالِمُ، وَتُقَامُ الشَّعَائِرُ، وَيَرْتَفِعُ شَأْنُ التَّوْحِيدِ مِنْ فَوْقِ الْمَنَابِرِ، وَيَجْلِسُ الْعُلَمَاءُ لِلْإِفَادَةِ، وَيَرْحَلُ الطُّلَّابُ لِلِاسْتِفَادَةِ، وَتُحَرَّرُ الْمَسَائِلُ، وَتُعْرَفُ الدَّلَائِلُ، وَيُزَارُ الْمَرْضَى، وَيُحْتَرَمُ الْمَوْتَى، وَيُرْحَمُ الصَّغِيرُ وَيُدَلَّلُ، وَيُحْتَرَمُ الْكَبِيرُ وَيُبَجَّلُ، وَتُوصَلُ الْأَرْحَامُ، وَتُعْرَفُ الْأَحْكَامُ، وَيُؤْمَرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيُنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيُكَرَّمُ الْكَرِيمُ وَيُعَاقَبُ اللَّئِيمُ.

وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَبِالْأَمْنِ اسْتِقَامَةُ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَبِالْأَمْنِ صَلَاحُ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ, وَالْحَالِ وَالْمَآلِ.

وَقَدْ حَذّرَنَا اللَّـهُ مِنَ الْفِتْنَةِ الَّتِي يَعُمُّ بَلَاؤُهَا؛ فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً} [الْأَنْفَال: 25]؛ فَنَسْأَلُ اللَّـهَ -عَزَّ وَجَلَّ- أَلَّا يُؤَاخِذَنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا، وَنَعُوذُ بِاللَّـهِ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنْ حُلُولِ نِقْمَتِهِ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِهِ، وَجَمِيعِ سَخَطِهِ, إِنَّهُ جَوَادٌ كَرِيمٌ بَرٌّ رَحِيمٌ.

وَمِنْ أَعْظَمِ سُبُلِ احْتِرَامِ النِّظامِ الْعَامِّ فِي الدَّوْلَةِ: لُزُومُ الْجَمَاعَةِ، وَعَدَمُ الْخُرُوجِ عَلَى الْحُكَّامِ؛ فَقَدْ دَلَّتِ النُّصُوصُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ أُصُولِ الدِّينِ: الِاجْتِمَاعَ عَلَى الْحَقِّ، وَالِاعْتِصَامَ بِحَبْلِ اللهِ -تَعَالَى-؛ فَقَدْ قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103].

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((عَلَيْكُمْ جَمِيعًا بِالطَّاعَةِ وَالْجَمَاعَةِ؛ فَإِنَّهَا حَبْلُ اللهِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ)) .

وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((ثَلَاثُ خِصَالٍ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ أَبَدًا: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلهِ، وَمُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْأَمْرِ، وَلُزُومُ الْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مَنْ وَرَاءَهُمْ)). أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((مَجْمُوعِ الْفَتَاوَى)): ((وَهَذِهِ الثَّلَاثُ -يَعْنِي الَّتِي مَرَّ ذِكْرُهَا فِي حَدِيثِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-- تَجْمَعُ أُصُولَ الدِّينِ وَقَوَاعِدَهُ، وَتَجْمَعُ الْحُقُوقَ الَّتِي لِلهِ وَلِعِبَادِهِ، وَتَنْتَظِمُ مَصَالِحَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)).

وَقَالَ الْإِمَامُ الْمُجَدِّدُ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((لَمْ يَقَعْ خَلَلٌ فِي دِينِ النَّاسِ وَدُنْيَاهُمْ إِلَّا بِسَبَبِ الْإِخْلَالِ بِهَذِهِ الثَّلَاثِ أَوْ بَعْضِهَا)).

وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ حُذَيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللهِ ﷺ عَنِ الْخَيْرِ وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ؛ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي.. فَكَانَ مِنْ نُصْحِهِ ﷺ لِحُذَيْفَةَ أَنْ قَالَ لَهُ: ((تَلْزَمَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ)) .

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- أَنَّهُمَا قَالَا: ((يَدُ اللهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ)) . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ، وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ)) . أَخْرَجَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي ((زَوَائِدِ الْمُسْنَدِ))، وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي ((السُّنَّةِ)) بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ كَمَا قَالَ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((تَحْقِيقِهِ عَلَى السُّنُّةِ)) لِابْنِ أَبِي عَاصِمٍ.

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((وَمَا تَكْرَهُونَ فِي الْجَمَاعَةِ خَيْرٌ مِمَّا تُحِبُّونَ فِي الْفُرْقَةِ)) .

وَقَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لِسُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ فِي وَصِيَّةٍ لَهُ: ((لَا تُفَارِقِ الْجَمَاعَةَ)) ؛ يَعْنِي: سَوَادَ الْمُسْلِمِينَ؛ لَا الْجَمَاعَةَ بِالْمَعْنَى الَّذِي ابْتَدَعَهُ أَهْلُ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ.

وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَلْيَصْبِرْ؛ فَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنَ السُّلْطَانِ شِبْرًا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً)).

قَالَ الْعُلَمَاءُ: ((مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً)) هِيَ بِكَسْرِ الْمِيمِ: ((مِيتَةً))؛ أَيْ: عَلَى صِفَةِ مَوْتِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ حَيْثُ هُمْ فَوْضَى لَا إِمَامَ لَهُمْ .

وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ))  عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ؛ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً)).

وَأَخْرَجَ -أَيْضًا- عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ لَقِيَ اللهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا حُجَّةَ لَهُ، وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً)) .

مُفَارَقَةُ الْجَمَاعَةِ، وَمُحَاوَلَةُ تَفْرِيقِهَا.. مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ.

وَالْجَمَاعَةُ: السَّوَادُ الْأَعْظَمُ؛ مَجْمُوعُ الْمُسْلِمِينَ، لَيْسَتِ الْجَمَاعَةُ مَا يُرِيدُهُ أُولَئِكَ الضُلَّالُّ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ، الَّذِينَ يُؤَمِّرُونَ وَاحِدًا مِنْهُمْ، وَيَنْعَزِلُونَ نَاحِيَةً عَنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ.

وَإِنَّمَا الْجَمَاعَةُ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَجْمُوعُ الْمُسْلِمِينَ وَسَوَادُهُمْ، فَمَنْ فَارَقَهُمْ وَحَاوَلَ تَفْرِيقَهُمْ فَإِنَّهُ أَتَى أَمْرًا مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! لَقَدْ رَأَيْنَا بَعْضَ الشُّعُوبِ الَّذِينَ سَقَطَ حُكَّامُهُمْ وَضَاعَتْ دُوَلُهُمْ -عَلَى عِوَجِهَا وَانْحِرَافِهَا- لَمْ يَعُدْ لَهُمْ كَرَامَةٌ -أَيْ: لِتِلْكَ الشُّعُوبِ- كَمَا كَانَتْ لَهُمْ مِنْ قَبْلُ، وَرَأَيْنَاهُمْ مُشَتَّتِينَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْبُلْدَانِ، وَتَفَرَّقُوا شَذَرَ مَذَرَ فِي الْبِلَادِ، أُهِينُ الْكَرِيمُ، وَتَنَكَّرَ لَهُمُ اللَّئِيمُ، وَاحْتُقِرَ الْعَزِيزُ الْمَنِيعُ، وَتَقَطَّعَتِ الْأَرْحَامُ، وَحِيلَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَوَالِدَيْهِ وَذَوِيهِ.

وَلِذَا يُقَالُ: شَعْبٌ بِلَا حُكُومَةٍ شَعْبٌ بِلَا كَرَامَةٍ، وَسُلْطَانٌ غَشُومٌ خَيْرٌ مِنْ فِتْنَةٍ تَدُومُ.

شَعْبٌ بِلَا حُكُومَةٍ شَعْبٌ بِلَا كَرَامَةٍ، سُلْطَانٌ غَشُومٌ خَيْرٌ مِنْ فِتْنَةٍ تَدُومُ.

فَهَلْ يُرِيدُ الشَّبَابُ الْيَوْمَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُونَ كَذَلِكَ فِي كُلِّ بِلَدٍ، بِإِثَارَةِ الْفِتَنِ، وَزَعْزَعَةِ الْأَمْنِ، مِمَّا يُفْضِي إِلَى سُقُوطِ الْحُكَّامِ -وَإِنْ كَانُوا جَائِرِينَ-؛ فَنَكُونُ كَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُطِبَّ زُكَامًا فَأَحْدَثَ جُذَامًا، أَوْ كَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُطِبَّ جُذَامًا فَأَهْلَكَ الْأَصِحَّاءَ شِيبًا وَشُبَّانًا؟!!

نَعُوذُ بِاللَّـهِ مِنْ كَيْدِ الْكَائِدِينَ وَعَبَثِ الْعَابِثِينَ.

أَلَا يَعْتَبِرُ الشَّبَابُ بِمَا جَرَى فِي عَدَدٍ مِنَ الدُّوَلِ عِنْدَمَا أَسْقَطُوا حُكَّامَهُمْ -وَهُمْ شَرٌّ مُسْتَطِيرٌ عَلَى رَعِيَّتِهِمْ- فَقَدِ انْتَشَرَتِ الْفِتْنَةُ فِي كُلِّ بَيْتٍ، وَزَادَ الْبَلَاءُ وَاسْتَفْحَلَ!!

وَإِنَّهُمُ الْيَوْمَ لَيَتَمَنَّوْنَ رُجُوعَ الْأَيَّامِ السَّابِقَةِ عَلَى مَا كَانَ فِيهَا مِنْ ظُلْمٍ وَجَوْرٍ بَعْدَ أَنْ جَرَّبُوا الْفَوْضَى, وَذَاقُوا حَرَّهَا, وَاكْتَوَوْا بِلَظَاهَا، وَلَكِنْ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ!!

وَقَدْ قُتِلَ وَجُرِحَ الْمَلَايِينُ مِنَ النَّاسِ، وَهُدِمَتِ الْبُيُوتُ وَالْمَسَاجِدُ، وَانْتُهِكَتِ الْحُرُمَاتُ، وَسُلِبَتِ الْأَمْوَالُ، وَقُطِعَتِ الطُّرُقُ.. وَاللَّـهُ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.

إِنَّ عُلَمَاءَ السُّنَّةِ لَا يُدَافِعُونَ بِذَلِكَ عَنِ الدُّوَلِ الْمُسْلِمَةِ الظَّالِمَةِ حُبًّا فِي الظُّلْمِ أَوْ رُكُونًا إِلَى دُنْيَا الْحُكَّامِ؛ فَعُلَمَاءُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَبْعَدُ النَّاسِ عَنْ ذَلِكَ، وَهُمْ أَقَلُّ النَّاسِ حَظًّا مِمَّا فِي أَيْدِي الْحُكَّامِ؛ وَلَكِنْ يُنْكِرُونَ الْفِتْنَةَ وَمَا تُفْضِي إِلَيْهِ الْفِتْنَةُ وَكُلَّ مَا يُفْضِي إِلَى الْفِتْنَةِ؛ اتِّبَاعًا لِمَنْهَجِ السَّلَفِ، اتِّبَاعًا لِكِتَابِ اللَّـهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّـهِ بِفَهْمِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَحِفَاظًا عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ خَيْرٍ، وَصِيَانَةً لِلدِّمَاءِ مِنَ السَّفْكِ، وَلِلْحُرُمَاتِ مِنَ الِانْتِهَاكِ.

وَإِنْ كَانُوا يَتَأَلَّمُونَ لِوُجُودِ الْمُنْكَرَاتِ وَلَا يُنْكِرُونَ وُجُودَهَا وَلَا يُبَالِغُونَ فِي الِاعْتِذَارِ عَنْ أَهْلِهَا، وَإِنَّمَا يَنْصَحُونَ مَا أَمْكَنَ بِالْحَذَرِ مِنْ مَغَبَّةِ الذُّنُوبِ، وَيَدْعُونَ اللَّـهَ -عَزَّ وَجَلَّ- بِاخْتِيَارِ الْأَصْلَحِ لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ.

وَمِنْ أَعْظَمِ سُبُلِ احْتِرَامِ النَّظَامِ الْعَامِّ: احْتِرَامُ قَوَاعِدِ الطَّرِيقِ وَآدَابِهِ، وَمَا أَحْوَجَ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْوَقْتِ مِنْ تَارِيخِهِمْ إِلَى مَعْرِفَةِ الْآدَابِ الَّتِي دَلَّهُمْ عَلَيْهَا دِينُهُمْ, وَأَرْشَدَتْهُمْ إِلَيْهَا سُنَّةُ نَبِيِّهِمْ ﷺ.

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ بِالطُّرُقَاتِ)).

فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! مَا لَنَا مِنْ مَجَالِسِنَا بُدٌّ نَتَحَدَّثُ فِيهَا.

فَقَالَ: ((فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا الْمَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ)).

قَالُوا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ يَا رَسُولَ اللهِ؟

قَالَ: ((غَضُّ الْبَصَرِ, وَكَفُّ الْأَذَى, وَرَدُّ السَّلَامِ, وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ, وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ فِي هَذَا الْحَدِيثِ حَقَّ الطَّرِيقِ.

وَأَمَّا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-, عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَتَقَلَّبُ فِي الْجَنَّةِ فِي شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِنْ ظَهْرِ الطَّرِيقِ كَانَتْ تُؤْذِي النَّاسَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ قَيَّدَ بِقَوْلِهِ: ((كَانَتْ تُؤْذِي النَّاسَ))؛ فَلَا يَذْهَبَنَّ أَحَدٌ إِلَى شَجَرَةٍ لَهَا ظِلٌّ يَفِيءُ إِلَيْهِ النَّاسُ, ثُمَّ يَقُولُ: لَئِنْ قَطَعْتُ هَذِهِ فَلَأَتَحَصَّلَنَّ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الرَّسُولُ, بَلْ إِنَّهُ يَكُونُ آثِمًا.

وَمِنْ مَظَاهِرِ مُرَاعَاةِ حُقُوقِ الطَّرِيقِ وَنِظَامِهِ الَّذِي أَقَرَّهُ الْإِسْلَامُ: الِالْتِزَامُ بِقَوَاعِدِ الْمُرُورِ وَضَوَابِطِهِ؛ وَذَلِكَ بِعَدَمِ السَّيْرِ عَكْسَ الِاتِّجَاهِ، أَوْ بِزِيَادَةِ السُّرْعَةِ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تُعْتَبَرُ تَعَدِّيًا عَلَى حُقُوقِ الطَّرِيقِ وَعَلَى حُقُوقِ النَّاسِ، وَالَّتِي قَدْ تَتَسَبَّبُ فِي إِزْهَاقِ رُوحِهِ أَوْ أَرْوَاحِ غَيْرِهِ أَوْ إِصَابَتِهِمْ وَتَرْوِيعِهِمْ.

فَلَمْ يَجْعَلِ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْإِنْسَانَ حُرًّا فِي تَصَرُّفَاتِهِ يَتَصَرَّفُ فِي نَفْسِهِ كَيْفَمَا يَشَاءُ، بَلْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْمِيَ نَفْسَهُ وَأَنْ يَصُونَهَا مِنْ كُلِّ أَوْجُهِ الْهَلَاكِ، وَأَنْ يَصْرِفَ عَنْهَا كُلَّ مَظَاهِرِ الْإِضْرَارِ؛ قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]، وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195].

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ آذَى الْمُسْلِمِينَ فِي طُرُقِهِمْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لَعْنَتُهُمْ)) .

وَقَالَ ﷺ: ((لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ)) .

إِنَّ صُوَرَ الْعَدَاءِ لِلْوَطَنِ -وَطَنِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ- كَثِيرَةٌ جِدًّا؛ مِنْهَا: عَدَمُ احْتِرَامِ الْمَالِ الْعَامِّ بِالِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِ وَالتَّضْيِيعِ لَهُ؛ كَإِفْسَادِ الشَّوَارِعِ، أَوْ قَطْعِ الْأَشْجَارِ الَّتِي غَرَسَهَا الْمُسْلِمُونَ لِلظِّلِّ وَالزِّينَةِ, وَهَذَا يَقَعُ فِي كُلِّ بَلَدٍ تُصَابُ بِالْفَوْضَى وَمَا يُسَمَّى بِالثَّوْرَةِ.

هَكَذَا عَدَمُ احْتِرَامِ الْمَالِ الْعَامِّ بِالِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِ وَالتَّضْيِيعِ لَهُ؛ كَإِفْسَادِ الشَّوَارِعِ، أَوْ قَطْعِ الْأَشْجَارِ الَّتِي غَرَسَهَا الْمُسْلِمُونَ لِلظِّلِّ وَالزِّينَةِ.

وَهَكَذَا نَجِدُ أَنَّ الْإِسْلَامَ رَاعَى حُقُوقَ الْوَطَنِ مَا دَامَ مَحَلًّا لِإِقَامَةِ الْمُسْلِمِينَ وَمَكَانًا لِقِيَامِ الشَّعَائِرِ الدِّينِيَّةِ, وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((مَنْ آذَى الْمُسْلِمِينَ فِي طُرُقِهِمْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لَعْنَتُهُمْ)). رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ, وَقَدْ حَكَمَ عَلَيْهِ الْأَلْبَانِيُّ بِالْحُسْنِ لِغَيْرِهِ.

الطَّرِيقُ جُزْءٌ مِنْ أَرْضِ الْوَطَنِ.. مِنْ تُرَابِهِ، وَهَكَذَا أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ كُلُّهَا لَهَا ارْتِبَاطٌ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَهِيَ كَثِيرَةٌ لَا تُسْتَقْصَى.

* مِنْ أَعْظَمِ وَسَائِلِ احْتِرَامِ النِّظَامِ الْعَامِّ: الْمُحَافَظَةُ عَلَى نَظَافَةِ الشَّوَارِعِ وَالْأَمَاكِنِ الْعَامَّةِ؛ فَالْأَمْرُ بِالنَّظَافَةِ لَمْ يَقِفْ عِنْدَ حَدِّ الْأَمْرِ بِالنَّظَافَةِ الشَّخْصِيَّةِ أَوْ نَظَافَةِ الْمَسَاجِدِ وَالْبُيُوتِ، بَلْ وَصَلَ الْأَمْرُ إِلَى التَّوْجِيهِ بِتَنْظِيفِ الْبِيئَةِ الَّتِي يَعِيشُ فِيهَا الْإِنْسَانُ وَيَتَفَاعَلُ مَعَهَا.

قَدْ تَكُونُ هَذِهِ الْبِيئَةُ طَرِيقَهُ الَّذِي يَسِيرُ فِيهِ، أَوْ مَدْرَسَتَهُ أَوْ جَامِعَتَهُ الَّتِي يَتَعَلَّمُ فِيهَا، أَوْ مَكَانًا عَامًّا يَقْضِي مِنْ خِلَالِهِ مَصَالِحَهُ أَوْ يَتَنَزَّهُ فِيهِ.

وَقَدْ عُنِيَ الْإِسْلَامُ عِنَايَةً خَاصَّةً بِتَنْظِيفِ الطُّرُقِ وَالْأَمَاكِنِ الْعَامَّةِ وَإِزَالَةِ الْأَذَى عَنْهَا، وَجَعَلَهَا بَابًا وَاسِعًا مِنْ أَبْوَابِ الْخَيْرِ؛ فَإِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ، وَإِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الْأَمَاكِنِ الْعَامَّةِ صَدَقَةٌ.

إِنَّ الدِّينَ يَطْلُبُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ النَّظَافَةِ، وَلَوْ قَامَ كُلُّ إِنْسَانٍ بِتَنْظِيفِ مَا أَمَامَ بَيْتِهِ مِنْ مَكَانٍ لَاسْتَقَامَتْ أُمُورُنَا.

* مِنْ سُبُلِ احْتِرَامِ النِّظَامِ الْعَامِّ: احْتِرَامُ الْقَوَاعِدِ وَالضَّوَابِطِ فِي مُؤَسَّسَاتِ الدَّوْلَةِ الْخِدْمِيَّةِ، فِي تَرْجَمَةِ الشَّاطِبِيِّ الْإِمَامِ صَاحِبِ الْقِرَاءَاتِ، لَا صَاحِبِ ((الِاعْتِصَامِ)) ؛ فَهُمَا اثْنَانِ عَلَمَانِ.. فِي تَرْجَمَةِ الشَّاطِبِيِّ صَاحِبِ الْقِرَاءَاتِ -رَحِمَهُ اللهُ رَحْمَةً وَاسِعَةً-، وَكَانَ أَكْمَهَ لَا يُبْصِرُ، وَكَانَ مِنْ عَادَتِهِ فِي الْإِقْرَاءِ أَنَّهُ يَجْلِسُ لِلْمُسْتَفِيدِينَ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، ثُمَّ يَقُولُ: مَنْ حَضَرَ أَوَّلًا فَلْيَقْرَأْ، فَإِذَا فَرَغَ قَالَ: مَنْ حَضَرَ ثَانِيًا فَلْيَقْرَأْ، وَهُوَ لَا يَرَاهُمْ، فَقَدْ يَأْتِي مُتَأَخِّرٌ لِيَجْلِسَ مُتَقَدِّمًا عَلَى سَابِقٍ، فَيَقُولُ الشَّيْخُ -رَحِمَهُ اللهُ-: مَنْ حَضَرَ أَوَّلًا فَلْيَقْرَأْ، ثُمَّ مَنْ حَضَرَ ثَانِيًا فَلْيَقْرَأْ.

قَالَ بَعْضُ الْمُسْتَفِيدِينَ: فَذَهَبْتُ إِلَى الْمَجْلِسِ مُبَكِّرًا بَعْدَمَا صَلَّيْتُ الصُّبْحَ جَلَسْتُ أَوَّلًا، وَجَاءَ ثَانٍ، فَلَمَّا أَرَادَ الْإِقْرَاءَ قَالَ: مَنْ حَضَرَ ثَانِيًا فَلْيَقْرَأْ.

قَالَ: فَتَعَجَّبْتُ، خَالَفَ الشَّيْخُ عَادَتَهُ! قَالَ: فَأَخَذْتُ أَنْظُرُ فِي حَالِي وَنَفْسِي لِأَرَى مِنْ أَيْنَ أُتِيتُ، فَإِذَا بِي قَدْ أَجْنَبْتُ وَلَمْ أَدْرِ، فَصَلَّيْتُ الصُّبْحَ مُتَوَضِّئًا لَا مُغْتَسِلًا، قَالَ: فَقُمْتُ إِلَى الْمِغْطَسِ فِي الْمَسْجِدِ -وَكَانَتْ فِي الْمَسَاجِدِ قَدِيمًا-، قَالَ: فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ رَكَعَ، ثُمَّ جَاءَ فَجَلَسَ فِي مَجْلِسِهِ، وَكَانَ الثَّانِي قَدِ انْتَهَى مِنْ قِرَاءَتِهِ، فَقَالَ الْإِمَامُ: مَنْ حَضَرَ أَوَّلًا فَلْيَقْرَأْ.

فَإِذَا قَدَّمْتَ -وَأَنْتَ مُوَظَّفٌ فِي مَكَانٍ- لَاحِقًا عَلَى سَابِقٍ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَلَا اسْتِسْمَاحٍ فَقَدْ أَسَاءَ الْأَبْعَدُ، وَلَمْ يَقُمْ بِالْأَمَانَةِ الَّتِي نِيطَتْ بِعُنُقِهِ فِي وَظِيفَتِهِ.

((عَوَاقِبُ التَّعَدِّي عَلَى النِّظَامِ الْعَامِّ))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ لِلْخُرُوجِ عَلَى الشَّرْعِ وَالتَّعَدِّي عَلَى النِّظَامِ الْعَامِّ عَوَاقِبَ وَخِيمَةً؛ فَيَجِبُ أَلَّا يُنْقَضَ نِظَامُ الْحُكْمِ لِيَتَهَاوَى الْمَجْتَمَعُ، وَلِتَذْهَبَ هَيْبَةُ الدَّوْلَةِ، وَلِيَصِيرَ النَّاسُ فَوْضَى، وَلِتُطْلَقَ أَيْدِي النَّاسِ فِي دِمَاءِ النَّاسِ، وَالْكَاسِبُ الْوَحِيدُ الشَّيْطَانُ وَجُنْدُهُ.. الشَّيْطَانُ وَحِزْبُهُ.

الْخُرُوجُ عَلَى ذِي سُلْطَانٍ، مَنْ بِيَدِهِ السُّلْطَانُ يَنْبَغِي أَنْ يُطَاعَ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ، هَذِهِ قَاعِدَةُ الْإِسْلَامِ الذَّهَبِيَّةُ، وَأَرَادُوا أَنْ يُزِيلُوهَا بِالثَّوْرَاتِ الْمَاسُونِيَّةِ، وَقَدْ بَلَغُوا مِنْ ذَلِكَ الْمَبَالِغَ، فَاللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- حَسِبيُهُمْ، وَهُوَ وَحْدَهُ يُعَامِلُهُمْ بِعَدْلِهِ، وَيُنَجِّي الْمُسْلِمِينَ الْمَسَاكِينَ مِنْ عُمُومِ الشَّعْبِ.

إِنَّ مِمَّا يَتَوَجَّبُ عَلَى الْمَرْءِ الْآنَ أَنْ يُرَاعِيَ الْمَصْلَحَةَ الْعُلْيَا لِهَذَا الْوَطَنِ, فَهَذَا وَطَنٌ مُسْلِمٌ, وَهَذِهِ أَرْضٌ يَحْيَا عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ مُنْذُ قُرُونٍ, وَيَنْبَغِي عَلَيْهِمْ أَنْ يُحَافِظُوا عَلَيْهَا وَأَلَّا يُضَيِّعُوهَا, وَلَكِنَّ طَائِفَةً مِنْ هَذَا الشَّعْبِ الْأَبِيِّ الْكَرِيمِ تَأْبَى إِلَّا أَنْ تَدْفَعَ سَفِينَةَ الْوَطَنِ إِلَى الصُّخُورِ الْوَعْرَةِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَرْتَطِمَ بِهَا, وَيُحَاوِلُونَ جَاهِدِينَ أَنْ يَخْرِقُوهَا لِيُغْرِقُوهَا!!

فَعَلَى كُلِّ مِصْرِيٍّ أَنْ يَنْتَبِهَ وَأَنْ يَأْخُذَ عَلَى أَيْدِي السُّفَهَاءِ؛ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ أَقْلَامَهُمْ أَوْ فُئُوسَهُمْ أَوْ يُهَرِّفُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ تَضْرِبُ بَيْنَ أَشْدَاقِهِمْ بِكُلِّ مَا يَضُرُّ الْوَطَنَ وَمَصْلَحَتَهُ, وَبِكُلِّ مَا يَعْبَثُ بِالْأَمْنِ الْقَوْمِيِّ لِهَذَا الْبَلَدِ.

وَالْبَلَدُ مُهَدَّدَةٌ مِنْ حُدُودِهَا الْغَرْبِيَّةِ بِالدَّوَاعِشِ وَالتَّكْفِيرِيِّينَ وَأَصْحَابِ التَّهْرِيبِ لِلْمُخَدِّرَاتِ وَلِلْأَسْلِحَةِ الْفَتَّاكَاتِ, وَمُهَدَّدَةٌ مِنْ جَنُوبِهَا بِسَدِّ النَّهْضَةِ وَبِمَا يَجْرِي فِي السُّودَانِ, وَمُهَدَّدَةٌ فِي شَمَالِهَا الشَّرْقِيِّ فِي سَيْنَاءَ وَمَا بَعْدَ سَيْنَاءَ مِنْ عِصَابَةِ صُهْيُونَ, وَمُهَدَّدَةٌ فِي دَاخِلِهَا بِالْخَوَنَةِ فِي كُلِّ مَكَانٍ, لَا يَتَّقُونَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ وَيُرِيدُونَ هَدْمَ هَذَا الْوَطَنِ, وَإِشَاعَةَ الْفَوْضَى فِيهِ, وَعَلَى كُلِّ مِصْرِيٍّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَا يَجْرِي فِي سُورِيَّا وَفِي لِيبيَا وَفِي الْيَمَنِ.

أَيْنَ يَذْهَبُ الْمِصْرِيُّونَ إِنْ وَقَعَتِ الْفَوْضَى فِي هَذَا الْوَطَنِ؟!!

إِنَّ النِّسَاءَ يُبَعْنَ فَاحْرِصُوا عَلَى أَعْرَاضِكُمْ, وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُشَارِكُوا -وَلَوْ بِكَلِمَةٍ- فِي إِحْدَاثِ الْفَوْضَى فِي وَطَنِكُمْ.. أَيْنَ تَذْهَبُونَ؟!!

النَّاسُ تَأْخُذُ الدِّينَ بِاسْتِخْفَافٍ!! مَعَ أَنَّ الْوَاحِدَ لَوْ نَزَلَ مَنْزِلًا مِنْ مَنَازِلِ أَهْلِ الدُّنْيَا لَكَانَ مُؤَدَّبًا فِيهِ الْأَدَبَ الَّذِي لَا أَدَبَ بَعْدَهُ، وَأَمَّا بَيْتُ اللهِ فَلَا حُرْمَةَ لَهُ!!

أَشْيَاءُ عَجِيبَةٌ جِدًّا لَا يَتَصَوَّرُ الْإِنْسَانُ كَيْفَ وَصَلَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى هَذَا الدَّرْكِ الْهَابِطِ!! وَلِذَلِكَ لَا تَعْجَبْ إِذَا صَارُوا فِي ذَيْلِ الْأُمَمِ، وَصَارُوا أَذَلَّ الْأُمَمِ، وَأَحَطَّ الْأُمَمِ، وَأَكْثَرَ الْأُمَمِ تَخَلُّفًا، مَعَ أَنَّهُمْ أَتْبَاعُ رَسُولِ اللهِ، وَخَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ.

لَوْ رَاقَبَ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنَّا رَبَّهُ فِي مَطْعَمِهِ وَمَشْرَبِهِ لَاسْتَقَامَتِ الْحَيَاةُ، لَا رِشْوَةَ، وَلَا سَرِقَةَ، وَلَا غَصْبَ، وَلَا اعْتِدَاءَ، وَإِنَّمَا خَلَّفُوا الدِّينَ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، وَقَدْ قَالَ لَنَا نَبِيُّنَا ﷺ: ((إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ؛ سَلَّطَ اللهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ عَنْكُمْ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ)) .

أُمَّةٌ تَنِيفُ عَلَى مِلْيَارٍ وَخَمْسِمِائَةٍ مِنَ الْمَلَايِينِ مِنَ الْبَشَرِ؛ هُمْ فِي جُمْلَتِهِمْ كُلٌّ مِنْهُمْ يَقُولُ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ))، وَعِدَّةُ مَلَايِينَ لَا تَتَجَاوَزُ أَصَابِعَ الْيَدِ الْوَاحِدَةِ مِنَ الْيَهُودِ الْمَلَاعِينِ الَّذِينَ غَضِبَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِمْ.. لَا تَسْتَطِيعُ أُمَّةٌ تُجَاوَزَتِ الْمِلْيَارَ وَتَمْتَلِكُ مِنَ الثَّرْوَاتِ مَا لَا تَمْتَلِكُهُ أُمَّةٌ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ، أَجْسَامٌ وَهَيْئَاتٌ، وَلَا حَقِيقَةَ.. ((غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ)) .

اخْرُجْ مِنَ الِاسْتِخْفَافِ!

اخْرُجْ مِنَ اللَّامُبَالَاةِ؛ فَإِنَّهَا هِيَ الَّتِي ضَيَّعَتِ الْأُمَّةَ، فَأَكْثَرُ أَهْلِ الْأُمَّةِ وَأَكْثَرُ أَبْنَائِهَا عِنْدَهُمُ اسْتِخْفَافٌ، يَأْخُذُونَ كُلَّ شَيْءٍ بِاسْتِخْفَافٍ، لَا جِدِّيَّةَ!! وَهَذَا أَمْرٌ لَيْسَ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، لَا تَضْحَكْ إِلَّا بِقَدَرٍ، لَا تَبْتَسِمْ إِلَّا بِقَدَرٍ، لَا تَتَكَلَّمْ إِلَّا بِقَدَرٍ، فَكَذَلِكَ كَانَ نَبِيُّكَ ﷺ.

وَأَمَّا هَذَا الِانْفِلَاتُ فَعَاقِبَتُهُ أَنْ يُسَلِّطَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَهْلَ الْكُفْرِ عَلَى دِيَارِ الْإِسْلَامِ كَمَا هُوَ وَاقِعٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ الدُّوَلِ الْمُسْلِمَةِ حَتَّى يَسُومُوا الْمُسْلِمِينَ سُوءَ الْعَذَابِ، لَا تَنْفَعُهُمْ كَثْرَةٌ، وَلَا تَنْفَعُهُمْ ثَرْوَةٌ، وَلَا يَنْفَعُهُمْ شَيْءٌ يَلُوذُونَ بِهِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَلُوذُونَ بِكَنَفِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ الْكَرِيمُ ﷺ: ((سَلَّطَ اللهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ عَنْكُمْ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ)).

لَمَّا وَقَعَ نَقْضٌ لِلْعَهْدِ مِنْ كَبِيرِ الرُّومِ وَعَظِيمِهَا؛ أَرْسَلَ إِلَيْهِ الرَّشِيدُ خِطَابًا فِي سَطْرَيْنِ: ((مِنْ عَبْدِ اللهِ هَارُونَ الرَّشِيدِ إِلَى نُقْفُورَ كَلْبِ الرُّومِ، إِذَا جَاءَكَ خِطَابِي هَذَا فَاعْلَمْ أَنِّي مُسَيِّرٌ إِلَيْكَ جُنْدًا أَوَّلُهُمْ عِنْدَكَ وَآخِرُهُمْ عِنْدِي، وَالْأَمْرُ مَا تَرَى لَا مَا تَسْمَعُ)) .

وَقَدْ كَانَ.. أَذَلَّهُ وَدَوَّخَهُ.

الْمُعْتَصِمُ وَفِي يَدِهِ كَأْسٌ مِنْ مَاءٍ.. لِأَنَّ عِنْدَهُ رِجَالًا، لَا يَسْتَطِيعُ حَاكِمٌ مَهْمَا بَلَغَ مِنْ قُوَّتِهِ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا إِلَّا بِرِجَالِهِ.. بِشَعْبِهِ.. بِأَفْرَادِ أُمَّتِهِ، فَإِذَا كَانُوا مُنْحَلِّينَ، وَلَا يَتَمَسَّكُونَ بِدِينِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَمَاذَا يُمْكِنُ أَنْ يَصْنَعَ هَذَا أَوْ هَذَا؟!!

لَمَّا كَانَ الْكَأْسُ فِي يَدِهِ وَجَاءَهُ مَا جَاءَهُ؛ أَقْسَمَ لَا يَشْرَبُ هَذَا الْكَأْسَ حَتَّى يَرُدَّ الْكَرَامَةَ الْمَسْلُوبَةَ، وَأَمَرَ بِأَنْ يُجْعَلَ فِي خِزَانَتِهِ حَتَّى رَدَّ الْكَرَامَةَ، وَأَعَادَ الْعِزَّةَ الْمَسْلُوبَةَ، ثُمَّ رَجَعَ فَشَرِبَ الْمَاءَ.

كَانُوا رِجَالًا، لَمْ يَكُونُوا يَمْلِكُونَ شَيْئًا، كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ لَا يَمْلِكُ ثَوْبًا وَاحِدًا، وَإِذَا مَلَكَهُ فَإِنَّهُ لَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ إِلَّا بِالْكَادِ، إِذَا سَجَدَ يُمْسِكُهُ عَلَيْهِ حَتَّى لَا تَبْدُوَ عَوْرَتُهُ، وَكَذَلِكَ إِذَا رَكَعَ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا رِجَالًا، وَكَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ بِأَلْفٍ بَلْ بِأَكْثَرَ مِنَ الرِّجَالِ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الطَّرَاوَةِ وَلَا مِنْ أَهْلِ اللَّامُبَالَاةِ، وَإِنَّمَا كَانُوا مُتَمَسِّكِينَ بِدِينِهِمْ فَأَعَزَّهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.

اخَرُجْ مِمَّا أَنْتَ فِيهِ وَاكْسِرِ الْحَلْقَةَ الَّتِي تَدُورُ فِيهَا؛ فَأَنْتَ تَدُورُ فِي حَلْقَةٍ تُكْسَرُ بِمَوْتِكَ!!

وَيْحَكَ أَلَا تَنْتَبِهْ؟!!

أَفِقْ فَإِنَّهُ يَأْتِيكَ مِنْ حَيْثُ لَا تَحْتَسِبُ، وَلَعَلَّ مَرَضًا يَرْتَعُ فِي بَدَنِكَ؛ فِي كَبِدِكَ أَوْ فِي كُلْيَتِكَ؛ سَرَطَانٌ زَاحِفٌ لَا تَدْرِي عَنْهُ شَيْئًا، حَتَّى إِذَا مَا أَمْسَكَ بِخِنَاقِكَ صَرَعَكَ، وَلَا تَمْلِكُ شَيْئًا حِينَئِذٍ، لَا يَنْفَعُكَ مَالٌ جَمَعْتَهُ مِنْ حَرَامٍ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ إِلَى مَنْ يَتَمَتَّعُ بِهِ وَعَلَيْكَ وِزْرُهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلَا يَنْفَعُكَ كَثْرَةُ وَلَدٍ وَلَا مُقْتَنَيَاتٌ.

اعْمَلْ لِآخِرَتِكَ، وَتَوَكَّلْ عَلَى رَبِّكَ، وَاكْسِرِ الْحَلْقَةَ!

اخْرُجْ مِنْ هَذَا الْإِلْفِ لِلْعَادَةِ، تَصْحُو وَتَنَامُ وَأنْتَ فِي دَائِرَةٍ، كَثِيرٌ مِنَ الْخَلْقِ كَالثَّوْرِ قَدْ عُصِبَتْ عَيْنَاهُ يَدُورُ فِي السَّاقِيَةِ لَا يَدْرِي أَيْنَ هُوَ!

أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ لِلْأَسَفِ كَالثَّوْرِ فِي السَّاقِيَةِ لَا يَدْرِي أَيْنَ هُوَ!!

أَرْحَامٌ تَدْفَعُ وَأَرْضٌ تَبْلَعُ، وَهُوَ بَيْنَ صَرْخَةِ الْوَضْعِ وَأَنَّةِ النَّزْعِ لَا يَكَادُ يُحِسُّ بِشَيْءٍ، مُغَيَّبٌ، وَإِذَا أَفَاقَ فَإِنَّمَا هِيَ لَحْظَةٌ!!

يَا أَخِي.. إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ أُرْسِلَ إِلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ، كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ، يُقَدِّسُونَ الْأَوْثَانَ، لَا يَعْرِفُونَ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُونَ مُنْكَرًا، فَصَارُوا سَادَةَ الدُّنْيَا وَقَادَتَهَا لَمَّا تَمَسَّكُوا بِكِتَابِ اللهِ وَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَكُونَ فَرَحُهُ لِلهِ، وَأَنْ يَكُونُ حُزْنُهُ لِلهِ، وَأَنْ يَكُونَ إِقْبَالُهُ لِلهِ، وَأَنْ يَكُونَ إِدْبَارُهُ لِلهِ، وَأَنْ يَكُونَ ضَحِكُهُ لِلهِ، وَأَنْ يَكُونَ بُكَاؤُهُ لِلهِ، وَأَنْ تَكُونَ حَرَكَتُهُ لِلهِ، وَسُكُونُهُ لِلهِ، هَذَا هُوَ الَّذِي يُنْجِينَا مِنْ هَذَا الذُّلِّ الَّذِي وَصَلْنَا إِلَيْهِ.

نَتَكَفَّفُ الْأُمَمَ مِنْ أَجْلِ رَغِيفِ الْعَيْشِ وَنَحْنُ أَكْثَرُ النَّاسِ ثَرْوَةً فِي الدُّنْيَا؛ لِأَنَّنَا فَرَّطْنَا فِي طَاعَةِ رَبِّنَا، لَوْ عُدْنَا إِلَيْهِ لَأَكَلْنَا مِنْ فَوْقِنَا وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِنَا، لَأَقَمْنَا دِينَهُ، وَحَفِظْنَا سُنَّةَ نَبِيِّهِ ﷺ، أَكْرَمَنَا وَأَعَزَّنَا، فَأَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَرُدَّنَا أَجْمَعِينَ إِلَى الْحَقِّ رَدًّا جَمِيلًا.

أَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَجْمَعَ الْأُمَّةَ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَأَنْ يُبَصِّرَنَا بِحَقِيقَةِ الدِّينِ، وَأَنْ يُخْرِجَنَا مِنْ ذُلِّ الْمَعْصِيَةِ إِلَّا عِزِّ الطَّاعَةِ.

اللَّهُمَّ أَخْرِجْنَا مِنْ ذُلِّ الْمَعْصِيَةِ إِلَى عِزِّ الطَّاعَةِ، وَاجْمَعْ قُلُوبَ الْمُسْلِمِينَ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا عَلَى طَاعَتِكَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ وَامْتِثَالِ أَمْرِكَ وَاتِّبَاعِ نَبِيِّكَ ﷺ.

وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

 

المصدر:احْتِرَامُ النِّظَامِ الْعَامِّ فِي ضَوْءِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  دَوْرُ الشَّبَابِ فِي بِنَاءِ الْأُمَّةِ الْمِصْرِيَّةِ وَالْإِسْلَامِيَّةِ
  كيف تعرف الخارجي؟
  الرد على الملحدين:تتمة أسباب انتشار الإلحاد في العصر الحديث، وبيان شرك الملحدين
  الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ وَمَنْهَجُهُ فِي عِمَارَةِ الْكَوْنِ
  الْإِسْرَاءُ وَالْمِعْرَاجُ وَآيَاتُ اللهِ الْكُبْرَى
  الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ
  الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ وَأَثَرُهُ فِي زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَتَرْسِيخِ الْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ
  ((دُرُوسٌ وَعِظَاتٌ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ)) ((الدَّرْسُ التَّاسِعُ: دُرُوسٌ قُرْآنِيَّةٌ فِي تَرْبِيَةِ الْأَبْنَاءِ))
  أحداث البطرسية
  تَقْدِيرُ الْمَصْلَحَةِ وَتَنْظِيمُ الْمُبَاحِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان