((الْإِيجَابِيَّةُ))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((الْمُسْلِمُ الْحَقُّ الْإِيجَابِيُّ))
فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَكُونَ إِيجَابِيًّا؛ وَأَعْلَى ذَلِكَ وَأَجَلُّهُ: أَنْ يَعْلَمَ مَعْنَى أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا؛ مَعْنَى أَنَّكَ مُسْلِمٌ: أَنْ تَكُونَ مُسْلِمًا فِي عَقِيدَتِكَ، هَذَا أَمْرٌ يَسِيرٌ جِدًّا؛ وَلَكِنْ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَجْهَلُهُ، أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا بِاللهِ؛ بِوُجُودِهِ، بِرُبُوبِيَّتِهِ، بِأُلُوهِيَّتِهِ، بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا بِاللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، لَا يَعْبُدُ غَيْرَهُ، وَلَا يَصْرِفُ لَوْنًا مِنْ أَلْوَانِ الْعِبَادَةِ لِسِوَاهُ، الْعِبَادَةُ كُلُّهَا مِنْ ظَاهِرٍ وَبَاطِنٍ يَنْبَغِي أَنْ تُصْرَفَ للهِ، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ كَانَ عَابِدًا مَعَ اللهِ سِوَاهُ، وَلَا أَحَدَ يَدْرِي هَذَا إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ.
أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، أَنْ تُحَصِّلَ أُمُورَ الْإِيمَانِ.
أَنْ تَكُونَ مُسْلِمًا فِي عَقِيدَتِكَ؛ فِي نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ ﷺ.
مَعْنَى أَنْ تَكُونَ مُسْلِمًا: أَنْ تَكُونَ مُسْلِمًا فِي عَقِيدَتِكَ، مُسْلِمًا فِي عِبَادَتِكَ، مُسْلِمًا فِي مُعَامَلَتِكَ، مُسْلِمًا فِي أَخْلَاقِكَ وَفِي سُلُوكِكَ؛ فَابْحَثْ عَنِ الْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ، وَالْعِبَادَةِ الصَّحِيحَةِ، وَالْمُعَامَلَةِ الصَّحِيحَةِ، وَالْأَخْلَاقِ وَالسُّلوكِ كَمَا جَاءَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللهِ ﷺ.
فحَقِيقَةُ الْمُسْلِمِ: الَّذِي اسْتَسْلَمَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالتَّوْحِيدِ، وَانْقَادَ لَهُ بِالطَّاعَةِ، مَعَ بَرَاءَتِهِ مِنَ الشِّرْكِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، هَذَا هُوَ الْمُسْلِمُ؛ فَالْإِسْلَامُ: الِاسْتِسْلَامُ للهِ بِالتَّوْحِيدِ، وَالِانْقِيَادُ لَهُ بِالطَّاعَةِ، وَالْبَرَاءَةُ مِنَ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ.
الْمُسْلِمُ الْفَائِقُ، الْمُسْلِمُ الْمُمْتَازُ الَّذِي يُرِيدُهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ كَيْفًا لَا كَمًّا؛ لِأَنَّ الْغُثَاءَ لَا قِيمَةَ لَهُ فِي الْمُنْتَهَى، وَإِنَّمَا هُمُ الَّذِينَ إِذَا رَفَعُوا الْأَكُفَّ إِلَى السَّمَاءِ فُتِحَتْ لَهُمْ أَبْوَابُهَا، وَإِذَا مَا اسْتَنْصَرُوا اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ نَصَرَهُمْ وَأَعْطَاهُمْ، وَإِذَا مَا طَلَبُوا مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَبَّاهُمْ، وَأَجْزَلَ لَهُمُ الْعَطَاءَ مِنَّةً وَفَضْلًا.
أُمَّةٌ تُرِيدُ الْفَائِقِينَ، تُرِيدُ مَنْ كَانَ فَائِقًا، آخِذًا بِمَنْهَجِ الْعِبَادَةِ عَلَى وَجْهِهِ.
((الْإِيجَابِيَّةُ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ))
إِنَّ الْإِيجَابِيَّةَ عَطَاءٌ وَجُهْدٌ وَعَمَلٌ، وَشُعُورٌ بِالْمَسْؤُولِيَّةِ تِجَاهَ الدِّينِ، وَالْوَطَنِ، وَالْمُجْتَمَعِ، وَقَدْ حَثَّ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ الْمُسْلِمَ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا إِيجَابِيًّا، قَالَ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].
(({وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} أَيْ: لِيُعِنْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا عَلَى الْبِرِّ، وَهُوَ: اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ؛ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ، وَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ.
وَالتَّقْوَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: اسْمٌ جَامِعٌ لِتَرْكِ كُلِّ مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَكُلُّ خَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ الْمَأْمُورِ بِفِعْلِهَا، أَوْ خَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِ الشَّرِّ الْمَأْمُورِ بِتَرْكِهَا؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ مَأْمُورٌ بِفِعْلِهَا بِنَفْسِهِ، وَبِمُعَاوَنَةِ غَيْرِهِ مِنْ إِخْوَانِهِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهَا بِكُلِّ قَوْلٍ يَبْعَثُ عَلَيْهَا وَيُنَشِّطُ لَهَا، وَبِكُلِّ فِعْلٍ كَذَلِكَ.
{وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ}: وَهُوَ التَّجَرِّي عَلَى الْمَعَاصِي الَّتِي يَأْثَمُ صَاحِبُهَا وَيُحْرَجُ، {وَالْعُدْوَانِ}: وَهُوَ التَّعَدِّي عَلَى الْخَلْقِ فِي دِمَائِهِمْ، وَأَمْوَالِهِمْ، وَأَعْرَاضِهِمْ؛ فَكُلُّ مَعْصِيَةٍ وَظُلْمٍ يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ كَفُّ نَفْسِهِ عَنْهُ، ثُمَّ إِعَانَةُ غَيْرِهِ عَلَى تَرْكِهِ)).
حَثَّ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ على الْإِيجَابِيَّةِ فِي الْمُجْتَمَعِ؛ بِمُسَاعَدَةِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَرِعَايَةِ الْيَتَامَى وَالْأَرَامِلِ، وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ، وَإِزَالَةِ الشَّحْنَاءِ وَالْبَغْضَاءِ مِنْ قُلُوبِ الْمُتَخَاصِمِينَ، قَالَ تَعَالَى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۚ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114].
((أَيْ: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِمَّا يَتَنَاجَى بِهِ النَّاسُ وَيَتَخَاطَبُونَ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ خَيْرٌ فَإِمَّا لَا فَائِدَةَ فِيهِ؛ كَفُضُولِ الْكَلَامِ الْمُبَاحِ، وَإِمَّا شَرٌّ وَمَضَرَّةٌ مَحْضَةٌ؛ كَالْكَلَامِ الْمُحَرَّمِ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهِ.
ثُمَّ اسْتَثْنَى -تَعَالَى- فَقَالَ: {إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ} مِنْ مَالٍ، أَوْ عِلْمٍ، أَوْ أَيِّ نَفْعٍ كَانَ؛ بَلْ لَعَلَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ الْعِبَادَاتُ الْقَاصِرَةُ؛ كَالتَّسْبِيحِ، وَالتَّحْمِيدِ، وَنَحْوِهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ...)). الْحَدِيثَ.
{أَوْ مَعْرُوفٍ}: وَهُوَ الْإِحْسَانُ وَالطَّاعَةُ، وَكُلُّ مَا عُرِفَ فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ حُسْنُهُ، وَإِذَا أُطْلِقَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقْرَنَ بِالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ؛ دَخَلَ فِيهِ النَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ تَرْكَ الْمَنْهِيَّاتِ مِنَ الْمَعْرُوفِ، وَأَيْضًا لَا يَتِمُّ فِعْلُ الْخَيْرِ إِلَّا بِتَرْكِ الشَّرِّ، وَأَمَّا عِنْدَ الِاقْتِرَانِ فَيُفَسَّرُ الْمَعْرُوفُ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ، وَالْمُنْكَرُ بِتَرْكِ الْمَنْهِيِّ.
{أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ}: وَالْإِصْلَاحُ لَا يَكُونُ إِلَّا بَيْنَ مُتَنَازِعِينَ مُتَخَاصِمِينَ، وَالنِّزَاعُ وَالْخِصَامُ وَالتَّغَاضُبُ يُوجِبُ مِنَ الشَّرِّ وَالْفُرْقَةِ مَا لَا يُمْكِنُ حَصْرُهُ؛ فَلِذَلِكَ حَثَّ الشَّارِعُ عَلَى الْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ فِي الدِّمَاءِ، وَالْأَمْوَالِ، وَالْأَعْرَاضِ؛ بَلْ وَفِي الْأَدْيَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ...} الْآيَةَ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}.
وَالسَّاعِي فِي الْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلُ مِنَ الْقَانِتِ بِالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ، وَالْمُصْلِحُ لَا بُدَّ أَنْ يُصْلِحَ اللَّهُ سَعْيَهُ وَعَمَلَهُ، كَمَا أَنَّ السَّاعِيَ فِي الْإِفْسَادِ لَا يُصْلِحُ اللَّهُ عَمَلَهُ، وَلَا يُتِمُّ لَهُ مَقْصُودَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ}، فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ حَيْثُمَا فُعِلَتْ فَهِيَ خَيْرٌ، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ.
وَلَكِنَّ كَمَالَ الْأَجْرِ وَتَمَامَهُ بِحَسَبِ النِّيَّةِ وَالْإِخْلَاصِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}؛ فَلِهَذَا يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَقْصِدَ وَجْهَ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَيُخْلِصَ الْعَمَلَ لِلَّهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَفِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْخَيْرِ؛ لِيَحْصُلَ لَهُ بِذَلِكَ الْأَجْرُ الْعَظِيمُ، وَلِيَتَعَوَّدَ الْإِخْلَاصَ فَيَكُونَ مِنَ الْمُخْلِصِينَ، وَلِيَتِمَّ لَهُ الْأَجْرُ؛ سَوَاءٌ تَمَّ مَقْصُودُهُ أَمْ لَا؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ حَصَلَتْ، وَاقْتَرَنَ بِهَا مَا يُمْكِنُ مِنَ الْعَمَلِ)).
وَمِنْ مَظَاهِرِ الْإِيجَابِيَّةِ فِي الْقُرْآنِ: أَنْ يَعْمَلَ الْمُسْلِمُ، وَلَا يَكُونَ كَلًّا عَلَى غَيْرِهِ؛ فَالْإِسْلَامُ يَدْعُونَا لِلنَّشَاطِ وَالْحَيَوِيَّةِ وَحُبِّ الْعَمَلِ؛ ((فَدِينُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمُ هُوَ دِينُ الْحَرَكَةِ النَّافِعَةِ، وَالنَّشَاطِ الْمُتَوَثِّبِ، وَالْعَمَلِ الدَّؤُوبِ، يَحُثُّ الْإِسْلَامُ عَلَى ذَلِكَ وَيَأْمُرُ بِهِ، وَيَجْعَلُهُ نَوْعًا مِنَ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَيَعُدُّهُ قِسْمًا مِنَ الْعِبَادَاتِ.
الْإِسْلَامُ يَكْرَهُ الْكَسَلَ وَالْخُمُولَ، وَيَكْرَهُ الِاتِّكَالَ عَلَى الْغَيْرِ، قَالَ تَعَالَى: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39].
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10])).
فَإِذَا فُرِغَ مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فَتَفَرَّقُوا فِي الْأَرْضِ لِلتِّجَارَةِ، وَالتَّصَرُّفِ فِي حَوَائِجِكُمْ، وَمَطَالِبِ حَيَاتِكُمْ، وَمَصَالِحِ دُنْيَاكُم، وَاطْلُبُوا رِزْقَ اللهِ بِأَنَاةٍ وَرِفْقٍ، مَعَ صَبْرٍ وَكَدْحٍ، وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا فِي جَمِيعِ أَحْوَالِكُمْ؛ رَغْبَةً فِي الْفَوْزِ بِخَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ} [المزمل: 20].
((مُسَافِرُونَ يُسَافِرُونَ لِلتِّجَارَةِ؛ لِيَسْتَغْنُوا عَنِ الْخَلْقِ، وَيَتَكَفَّفُوا عَنِ النَّاسِ)).
وَفِي هَذَا الْمَعْنَى الْكَرِيمِ يَقُولُ رَسُولُنَا ﷺ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتيَ رَجُلًا فَيَسْأَلَهُ؛ أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
لَقَدْ حَثَّ النَّبِيُّ ﷺ الْمُسْلِمَ عَلَى أَنْ يَكُونَ إِيجَابِيًّا بِالِاجْتِهَادِ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَرَتَّبَ ﷺ عَلَى هَذَا الِاجْتِهَادِ جَزِيلَ الثَّوَابِ؛ يَقُولُ ﷺ: ((عَلَى كُلِّ نَفْسٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ صَدَقَةٌ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ، مِنْ أَبْوَابِ الصَّدَقَةِ: التَّكْبِيرُ، وَسُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ للهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ، وَيَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيَعْزِلُ الشَّوْكَ عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ، وَالْعَظْمَ وَالْحَجَرَ، وَتَهْدِي الْأَعْمَى، وَتُسْمِعُ الْأَصَمَّ وَالْأَبْكَمَ حَتَّى يَفْقَهَ، وَتُدِلُّ الْمُسْتَدِلَّ عَلَى حَاجَةٍ لَهُ قَدْ عَلِمْتَ مَكَانَهَا، وَتَسْعَى بِشِدَّةِ سَاقَيْكَ إِلَى اللَّهْفَانِ الْمُسْتَغِيثِ، وَتَرْفَعُ بِشِدَّةِ ذِرَاعَيْكَ مَعَ الضَّعِيفِ؛ كُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَبْوَابِ الصَّدَقَةِ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ، وَلَكَ فِي جِمَاعِكَ زَوْجَتَكَ أَجْرٌ؛ أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ وَلَدٌ، فَأَدْرَكَ وَرَجَوْتَ أَجْرَهُ فَمَاتَ؛ أَكُنْتَ تَحْتَسِبُ بِهِ؟ فَأَنْتَ خَلَقْتَهُ؟! فَأَنْتَ هَدَيْتَهُ؟! فَأَنْتَ كُنْتَ تَرْزُقُهُ؟! فَكَذَلِكَ فَضَعْهُ فِي حَلَالِهِ، وَجَنِّبْهُ حَرَامَهُ، فَإِنْ شَاءَ اللهُ أَحْيَاهُ، وَإِنْ شَاءَ أَمَاتَهُ، وَلَكَ أَجْرٌ)). أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ، وَأَمْرُكَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيُكَ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَإِرْشَادُكَ الرَّجُلَ فِي أَرْضِ الضَّلَالِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَبَصَرُكَ لِلرَّجُلِ الرَّدِيءِ الْبَصَرِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَإِمَاطَتُكَ الْحَجَرَ وَالشَّوْكَ وَالْعَظْمَ عَنِ الطَّرِيقِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَإِفْرَاغُكَ مِنْ دَلْوِكَ فِي دَلْوِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((كُلُّ سُلَامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ، يَعْدِلُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَبِكُلِّ خُطْوَةٍ يَمْشِيهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ، وَيُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.
وَمِنْ أَجْلَى الدَّلَائِلِ عَلَى الْحَضِّ عَلَى الْإِيجَابِيَّةِ فِي السُّنَّةِ الْمُشَرَّفَةِ: حَثُّ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى الْعَمَلِ وَالْغَرْسِ إِلَى آخِرِ لَحْظَةٍ فِي الْحَيَاةِ؛ فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا». وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ.
وَ«فَسِيلَةٌ»: هِيَ النَّخْلَةُ الصَّغِيرَةُ.
هَذَا فِيهِ مُبَالَغَةٌ فِي الْحَثِّ عَلَى غَرْسِ الْأَشْجَارِ وَحَفْرِ الْأَنْهَارِ؛ لِتَبْقَى هَذِهِ الدَّارُ عَامِرَةً إِلَى آخِرِ أَمَدِهَا الْمَحْدُودِ الْمَعْلُومِ عِنْدَ خَالِقِهَا، فَكَمَا غَرَسَ لَكَ غَيْرُكَ فَانْتَفَعْتَ بِهِ فَاغْرِسْ أَنْتَ لِمَنْ يَجِيءُ بَعْدَكَ لِيَنْتَفِعَ بِهِ؛ وَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا صُبَابَةٌ، وَذَلِكَ بِهَذَا الْقَصْدِ لَا يُنَافِي الزُّهْدَ وَالتَّقَلُّلَ مِنَ الدُّنْيَا.
وَالنَّبِيُّ ﷺ ذَكَرَ أَحَادِيثَ فِي اسْتِثْمَارِ الْأَرْضِ وَزَرْعِهَا، وَالْحَثِّ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا أَدَلَّ عَلَى الْحَضِّ عَلَى الِاسْتِثْمَارِ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْكَرِيمَةِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي مَعَنَا؛ فَإِنَّ فِيهِ تَرْغِيبًا عَظِيمًا فِي اغْتِنَامِ آخِرِ فُرْصَةٍ مِنَ الْحَيَاةِ فِي سَبِيلِ زَرْعِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَيُجْرَى لَهُ أَجْرُهُ، وَتُكْتَبُ لَهُ صَدَقَتُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
قَوْلُهُ: «فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا»: وَهَذَا -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ- يَتَطَلَّبُ زَمَانًا مَمْدُودًا؛ لِكَيْ يَتَحَصَّلَ الْمَرْءُ عَلَى نَتِيجَتِهِ وعَائِدِهِ؛ لِأَنَّ النَّخْلَةَ يَسْتَمِرُّ نُمُوُّهَا حَتَّى إِثْمَارِهَا سَنَواتٍ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا».
مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا يَقِينًا حِينَئِذٍ؛ وَلَكِنَّهُ ﷺ يَحُثُّ عَلَى غَرْسِ الْأَشْجَارِ، وَحَفْرِ الْأَنْهَارِ، وَعَلى الْعَمَلِ الصَّالِحِ النَّافِعِ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ؛ وَإِنْ ظَهَرَتْ نَتَائِجُهُ وَعَوَاقِبُهُ عَلَى الْمَدَى الْبَعِيدِ، وَكَانَتْ نَتَائِجُهُ وَثِمَارُهُ بَطِيئَةً جِدًّا.
فِي هَذَا الْحَدِيثِ: التَّرْغِيبُ الْعَظِيمُ فِي اغْتِنَامِ آخِرِ فُرْصَةٍ مِنَ الْحَيَاةِ فِي سَبِيلِ زَرْعِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَيُجْرَى لَهُ أَجْرُهُ، وَتُكْتَبُ لَهُ صَدَقَتُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالْحَثُّ عَلَى الطَّاعَةِ إِلَى آخِرِ لَحْظَةٍ مِنَ الْحَيَاةِ.
((جُمْلَةٌ مِنْ مَظَاهِرِ الْإِيجَابِيَّةِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ ﷺ ))
عِبَادَ اللهِ! لَقَدْ تَمَيَّزَتْ حَيَاةُ نَبِيِّنَا ﷺ بِالْإِيجَابِيَّةِ فِي كُلِّ مَرَاحِلِهَا؛ فَقَدْ شَهِدَ ﷺ حِلْفَ الْفُضُولِ الَّذِي تَدَاعَتْ إِلَيْهِ قَبَائِلُ قُرَيْشٍ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَتَعَاهَدُوا بِمُوجَبِهِ أَلَّا يَجِدُوا بِمَكَّةَ مَظْلُومًا مِنْ أَهْلِهَا أَوْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا إِلَّا نَصَرُوهُ، فَلَمَّا بَلَغَ الرَّسُولُ ﷺ خَمْسَةَ عَشَرَ سَنَةً -وَقِيلَ: عِشْرُونَ-؛ هَاجَتْ (حَرْبُ الْفِجَارِ) -وَالْفِجَارُ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِوُقُوعِهَا فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ فِيهَا الْقِتَالَ-، وَكَانَتْ (حَرْبُ الْفِجَارِ) بَيْنَ قُرَيْشٍ وَمَنْ مَعَهَا مِنْ كِنَانَةَ، وَبَيْنَ قَيْسٍ وَأَحْلَافِهَا، وَكَانَ قَائِدُ قُرَيْشٍ وَكِنَانَةَ حَرْبَ بْنَ أُمَيَّةَ.
وَكَانَ الظَّفَرُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ لِقَيْسٍ عَلَى قُرَيْشٍ وَكِنَانَةَ، حَتَّى إِذَا كَانَ فِي وَسَطِ النَّهَارِ كَانَ الظَّفَرُ لِقُرَيْشٍ وَكِنَانَةَ عَلَى قَيْسٍ.
وَلَمْ يَأْتِ خَبَرٌ مُسْنَدٌ صَحِيحٌ بِاشْتِرَاكِ النَّبِيِّ ﷺ فِي (حَرْبِ الْفِجَارِ).
سُمِّيَتْ هَذِهِ الْحَرْبُ بِحَرْبِ الْفِجَارِ؛ لِأَنَّهُمُ انْتَهَكُوا فِيهَا حُرْمَةَ حَرَمِ مَكَّةَ وَالشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَالْفِجَارُ أَرْبَعَةٌ كُلٌّ فِي سَنَةٍ، وَهَذِهِ آخِرُهَا، وَانْتَهَتِ الثَّلَاثَةُ الْأُولَى بَعْدَ خِصَامٍ وَاشْتِجَارٍ طَفِيفٍ، وَلَمْ يَقَعِ الْقِتَالُ إِلَّا فِي الرَّابِعِ فَقَطْ.
فِي شَهْرِ ذِي الْقَعْدَةِ عَلَى إِثْرِ هَذِهِ الْحَرْبِ تَمَّ (حِلْفُ الْفُضُولِ) بَيْنَ خَمْسَةِ بُطُونٍ مِنْ قَبِيلَةِ قُرَيْشٍ، وَهُمْ: بَنُو هَاشِمٍ، وَبَنُو الْمُطَّلِبِ، وَبَنُو أَسَدٍ، وَبَنُو زُهْرَةَ، وَبَنُو تَيْمٍ، وَسَبَبُهُ أَنَّ رَجُلًا مِنْ (زُبَيْدٍ) جَاءَ بِسِلْعَةٍ إِلَى مَكَّةَ، فَاشْتَرَاهَا مِنْهُ الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ، وَحُبِسَ عَنْ حَقِّهِ، فَاسْتَعْدَى عَلَيْهِ الزُّبَيْدِيُّ بِبَنِي عَبْدِ الدَّارِ، وَبَنِي مَخْزُومٍ، وَبَنِي جُمَحٍ، وَبَنِي سَهْمٍ، وَبَنِي عَدِيٍّ، فَلَمْ يَكْتَرِثُوا لَهُ، فَعَلَا جَبَلَ أَبِي قُبَيْسٍ، وَذَكَرَ ظُلَامَتِهِ فِي أَبْيَاتٍ، وَنَادَى مَنْ يُعِينُهُ عَلَى حَقِّهِ، فَمَشَى فِي ذَلِكَ الزُّبَيْرُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، حَتَّى اجْتَمَعَ الَّذِي مَضَى ذِكْرُهُمْ فِي دَارِ عَبْدِ اللهِ بْنِ جُدْعَانَ رَئِيسِ بَنِي تَيْمٍ، وَتَحَالَفُوا وَتَعَاقَدُوا عَلَى أَلَّا يَجِدُوا بِمَكَّةَ مَظْلُومًا مِنْ أَهْلِهَا أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ إِلَّا قَامُوا مَعَهُ حَتَّى تُرَدَّ عَلَيْهِ مَظْلَمَتُهُ، ثُمَّ قَامُوا إِلَى الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ فَانْتَزَعُوا مِنْهُ حَقَّ الزُّبَيْدِيِّ، وَدَفَعُوهُ إِلَيْهِ.
وَقَدْ حَضَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ حِلْفَ الْفُضُولِ مَعَ أَعْمَامِهِ، وَقَالَ بَعْدَ أَنْ شَرَّفَهُ اللهُ -تَعَالَى- بِالرِّسَالَةِ: ((لَقَدْ شَهِدْتُ فِي دَارِ عَبْدِ اللهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ، وَلَوْ أُدْعَى بِهِ فِي الْإِسْلَامِ لَأَجَبْتُ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَهُوَ صَحِيحٌ.
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: ((كَانَ حِلْفُ الْفُضُولِ أَكْرَمَ حِلْفٍ سُمِعَ بِهِ، وَأَشْرَفَهُ فِي الْعَرَبِ)).
وَقِيلَ: ((سُمِّيَ حِلْفَ الْفُضُولِ؛ لِأَنَّ مَنْ دَعَا إِلَيْهِ ثَلَاثَةٌ كُلُّهُمْ اسْمُهُ الْفَضْلُ؛ وَهُمُ: الْفَضْلُ بْنُ فَضَالَةَ، وَالْفَضْلُ بْنُ وَدَاعَةَ، وَالْفَضْلُ بْنُ الْحَارِثِ)).
كَمَا شَاَرَكَ نَبِيُّنَا ﷺ فِي تَجْدِيدِ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ بِحَمْلِ الْحِجَارَةِ عَلَى كَتِفَيْهِ، وَقَضَى عَلَى بَوَادِرِ خِلَافٍ عَظِيمٍ كَادَ يَحْدُثُ بَيْنَ بُطُونِ قُرَيْشٍ آنَذَاكَ حِينَمَا تَنَازَعُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ؛ رَغْبَةً فِي أَنْ يَنَالَ كُلٌّ مِنْهُمْ شَرَفَ وَضْعِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ مَكَانَهُ؛ فَبَعْدَ بِنَاءِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمَا- لِلْكَعْبَةِ الْمُعَظَّمَةِ تَعَرَّضَتْ بَعْدَ أَنْ مَضَتْ قُرُونٌ مِنْ بِنَائِهَا لِلْعَوَادِي الَّتِي أَوْهَتْ بِنَاءَهَا، وَصَدَّعَتْ جُدْرَانَهَا، وَكَانَ مِنْ بَيْنِ هَذِهِ الْعَوَادِي سَيْلٌ عَرِمٌ جَرَفَ مَكَّةَ قَبْلَ الْبِعْثَةِ بِسَنَوَاتٍ قَلِيلَةٍ، فَزَادَ ذَلِكَ مِنْ تَصَدُّعِ جُدْرَانِ الْكَعْبَةِ، وَضَعْفِ بُنْيَانِهَا، فَلَمْ تَجِدْ قُرَيْشٌ بُدًّا مِنْ إِعَادَةِ تَشْيِيدِ الْكَعْبَةِ؛ حِرْصًا عَلَى مَا كَانَ لِهَذَا الْبِنَاءِ مِنْ حُرْمَةٍ وَقَدَاسَةٍ خَالِدَةٍ، وَلَقَدْ ظَلَّ احْتِرَامُ الْكَعْبَةِ وَتَعْظِيمُهَا بَقِيَّةً مِمَّا ظَلَّ مَحْفُوظًا مِنْ شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ ﷺ بَيْنَ الْعَرَبِ، وَقَدْ شَارَكَ ﷺ فِي بِنَاءِ الْكَعْبَةِ.
مِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ: حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((لَمَّا بُنِيَتِ الْكَعْبَةُ ذَهَبَ النَّبِيُّ ﷺ وَالْعَبَّاسُ يَنْقُلَانِ الْحِجَارَةَ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ لِلنَّبِيِّ ﷺ: ((اجْعَلْ إِزَارَكَ عَلَى رَقَبَتِكَ، فَخَرَّ بِالْأَرْضِ، وَطَمَحَتْ عَيْنَاهُ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ قَامَ فَقَالَ: ((أَرِنِي إِزَارِي))، فَشَدَّهُ عَلَيْهِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَذَكَرَ بِنَاءَ الْكَعْبَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، قَالَ: ((فَهَدَمَتْهَا قُرَيْشٌ، وَجَعَلُوا يَبْنُونَهَا بِحِجَارَةِ الْوَادِي، تَحْمِلُهَا قُرَيْشٌ عَلَى رِقَابِهَا، فَرَفَعُوهَا فِي السَّمَاءِ عِشْرِينَ ذِرَاعًا، فَبَيْنَا النَّبِيُّ ﷺ يَحْمِلُ حِجَارَةً مِنْ أَجْيَادٍ وَعَلَيْهِ نَمِرَةٌ -وَهِيَ كِسَاءٌ أَسْوَدُ-، فَضَاقَتْ عَلَيْهِ النَّمِرَةُ، فَذَهَبَ يَضَعُ النَّمِرَةَ عَلَى عَاتِقِهِ، فَتُرَى عَوْرَتُهُ مِنْ صِغَرِ النَّمِرَةِ، فَنُودِيَ: يَا مُحَمَّدُ! خَمِّرْ عَوْرَتَكَ.
وَفِي رِوَايَةٍ: ((لَا تَكْشِفْ عَوْرَتَكَ، فَلَمْ يُرَ عُرْيَانًا بَعْدَ ذَلِكَ ﷺ )). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((لَمَّا انْهَدَمَ الْبَيْتُ بَعْدَ جُرْهُمٍ بَنَتْهُ قُرَيْشٌ، فَلَمَّا أَرَادُوا وَضْعَ الْحَجَرِ تَشَاجَرُوا مَنْ يَضَعُهُ، فَاتَّفَقُوا أَنْ يَضَعَهُ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ مِنْ هَذَا الْبَابِ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مِنْ بَابِ بَنِي شَيْبَةَ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِثَوْبٍ، فَوَضَعَ الْحَجَرَ فِي وَسَطِهِ، وَأَمَرَ كُلَّ فَخِذٍ أَنْ يَأْخُذُوا بِطَائِفَةٍ مِنَ الثَّوْبِ فَرَفَعُوهُ، وَأَخَذَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَوَضَعَهُ)). أَخْرَجَهُ الطَّيَالِسِيُّ فِي ((الْمُسْنَدِ))، وَالْحَاكِمُ فِي ((الْمُسْتَدْرَكِ))، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَعَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ مَوْلَاهُ -وَهُوَ السَّائِبُ بْنُ عَبْدِ اللهِ- أَنَّهُ حَدَّثَهُ أَنَّهُ كَانَ فِيمَنْ يَبْنِي الْكَعْبَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، قَالَ: ((فَبَنَيْنَا حَتَّى بَلَغْنَا مَوْضِعَ الْحَجَرِ وَلَا يَرَى الْحَجَرَ أَحَدٌ، فَإِذَا هُوَ وَسْطُ أَحْجَارِنَا كَرَأْسِ الرَّجُلِ يَكَادُ يَتَرَاءَى مِنْهُ وَجْهُ الرَّجُلِ، فَقَالَ بَطْنٌ مِنْ قُرَيْشٍ: نَحْنُ نَضَعُهُ، وَقَالَ آخَرُونَ: نَحْنُ نَضَعُهُ.
فَقَالُوا: اجْعَلُوا بَيْنَكُمْ حَكَمًا، قَالُوا: أَوَّلُ رَجُلٍ يَطْلُعُ مِنَ الْفَجِّ، فَجَاءَ النَّبِيُّ ﷺ فَقَالُوا: أَتَاكُمُ الْأَمِينُ، فَقَالُوا لَهُ فَوَضَعَهُ فِي ثَوْبٍ، ثُمَّ دَعَا بُطُونَهُمْ فَأَخَذُوا بِنَوَاحِيهِ مَعَهُ، فَوَضَعَهُ هُوَ ﷺ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَهَكَذَا دَرَأَ رَسُولُ اللهِ ﷺ الْحَرْبَ عَنْ قُرَيْشٍ بِحِكْمَةٍ لَيْسَتْ فَوْقَهَا حِكْمَةٌ، كَانَتْ مُقَدِّمَةَ دَرْئِهِ لِلْحُرُوبِ وَالشُّرُورِ عَنِ الشُّعُوبِ وَالْأُمَمِ بَعْدَ النُّبُوَّةِ بِحِكْمَتِهِ وَتَعَالِيمِهِ، وَرِفْقِهِ وَحِلْمِهِ، وَتَلَطُّفِهِ فِي الْأُمُورِ، وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ، لِيَكُونَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، كَمَا كَانَ رَحْمَةً لِلْمُتَخَاصِمِينَ وَالْمُتَحَارِبِينَ فِي قَوْمٍ بُسَطَاءَ أُمِّيِّينَ.
وَمِنْ مَظَاهِرِ الْإِيجَابِيَّةِ: مُشَارَكَتُهُ ﷺ فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ؛ فَقَدْ شَرَعَ الْمُسْلِمُونَ فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ فِي جَوٍّ بَارِدٍ، وَرَسُولُ اللهِ ﷺ يَحْفُرُ مَعَهُمْ بِنَفْسِهِ الشَّرِيفَةِ، وَيَحْمِلُ التُّرَابَ بِنَفْسِهِ؛ تَرْغِيبًا لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْأَجْرِ، وَتَنْشِيطًا لَهُمْ.
أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: ((خَرَجَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِلَى الْخَنْدَقِ، فَإِذَا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ يَحْفِرُونَ فِي غَدَاةٍ بَارِدَةٍ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَبِيدٌ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ لَهُمْ، فَلَمَّا رَأَى مَا بِهِمْ مِنَ النَّصَبِ وَالْجُوعِ قَالَ: ((اللَّهُمَّ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَةِ؛ فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَةِ)).
فَقَالُوا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- مُجِيبِينَ لَهُمْ: ((نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدًا = عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدًا)).
وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي ((صَحِيحَيْهِمَا)) عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَحْزَابِ، وَخَنْدَقَ رَسُولُ اللهِ ﷺ؛ رَأَيْتُهُ يَنْقُلُ مِنْ تُرَابِ الْخَنْدَقِ حَتَّى وَارَى عَنِّي التُّرَابُ جِلْدَةَ بَطْنِهِ)).
وَيَوْمَ أَنْ سَمِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ جَلَبَةً، وَخَرَجُوا لِاسْتِطْلَاعِ وَمَعْرِفَةِ الْأَمْرِ، وَانْطَلَقُوا قِبَلَ الصَّوْتِ؛ اسْتَقْبَلَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ وَهُوَ يَقُولُ: ((لَمْ تُرَاعُوا، لَمْ تُرَاعُوا)).
وَكَانَ ﷺ يُشَارِكُهُمْ فِي سَائِرِ الْأَعْمَالِ وَالتَّكَالِيفِ، وَهُوَ الَّذِي عَلَّمَنَا الْمُشَارَكَةَ؛ حَتَّى لِمَنْ يَخْدُمُنَا؛ حَيْثُ يَقُولُ ﷺ: ((إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ؛ فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ)).
((أَعْظَمُ مَظَاهِرِ الْإِيجَابِيَّةِ: الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ))
إِنَّ أَعْظَمَ مَظَاهِرِ الْإِيجَابِيَّةِ وَأَجَلَّهَا الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ فَفِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ لَمَّا لَقِيَ النَّبِيُّ ﷺ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- سَلَّمَ عَلَيْهِ، ثُمَّ تَجَاوَزَهُ، فَلَمَّا تَجَاوَزَهُ النَّبِيُّ ﷺ بَكَى مُوسَى، فَقِيلَ لَهُ: ((مَا يُبْكِيكَ؟)).
قَالَ: ((أَبْكِي؛ لِأَنَّ غُلَامًا بُعِثَ بَعْدِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِهِ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَدْخُلُهَا مِنْ أُمَّتِي)).
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَالَ: ((لَمْ أظُنَّ أنْ يُرْفَعَ عَلَيَّ أحَدٌ)).
وَقَدْ رَاجَعَ مُوسَى رَبَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي أَمْرِ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى هَذَا النَّحْوِ، وَرَبُّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَحْتَمِلُ لَهُ؛ فَإِنَّهُ أَلْقَى الْأَلْوَاحَ الَّتِي فِيهَا كَلَامُ اللهِ، كَتَبَهُ لَهُ بِيَدِهِ فِيهَا، فَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ وَلِحْيَةِ نَبِيٍّ هُوَ أَخُوهُ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ.
وَرَاجَعَ رَبَّهُ فِي أَمْرِ النَّبِيِّ ﷺ فِي لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ، وَرَبُّهُ يَحْتَمِلُ لَهُ هَذَا كُلَّهُ، وَيُحِبُّهُ وَيُقَرِّبُهُ؛ لِأَنَّهُ قَامَ لِلَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْمَقَامَاتِ الْعَظِيمَةَ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ، وَاحْتَمَلَ فِي سَبِيلِ الدَّعْوَةِ إِلَى دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مَا احْتَمَلَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَكَانَ هَذَا الَّذِي جَاءَ مِنْهُ كَالْقَطْرَةِ فِي بَحْرِ إِحْسَانِهِ، فَاحْتَمَلَ لَهُ رَبُّهُ ذَلِكَ، وَأَحَبَّهُ وَقَرَّبَهُ.
وَتَأَمَّلْ فِي حَالِ يُونُسَ لَمَّا ذَهَبَ مُغَاضِبًا رَبَّهُ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَأَخَذَهُ رَبُّهُ، وَحَبَسَهُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ فِي ظُلُمَاتٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُمْ لِلَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي مَقَامَاتِ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ مَا قَامَ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَلَمْ يَحْتَمِلْ لَهُ رَبُّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَا احْتَمَلَ لِمُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَهَذَا وَهَذَا مِنْ أَنْبِيَاءِ اللهِ الْمُكْرَمِينَ -صَلَوَاتُ رَبِّي وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ-.
*الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ وَظِيفَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ:
فَالْقِيَامُ فِي مَقَامِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هُوَ الْمَقَامُ الْحَقُّ، وَالدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هِيَ وَظِيفَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، أَمَرَ بِهَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- نَبِيَّهُ الْكَرِيمَ ﷺ: {وَادْعُ إِلَىٰ رَبِّكَ ۖ إِنَّكَ لَعَلَىٰ هُدًى مُّسْتَقِيمٍ} [الحج: 67].
{وَادْعُ إِلَىٰ رَبِّكَ ۖ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [القصص: 87].
فَأَمَرَهُ رَبُّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَرْسَلَهُ، كَمَا أَرْسَلَ السَّابِقِينَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ يَدْعُونَ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ نَبَّأَهُ رَبُّهُ بِآيَاتٍ مِنْ صَدْرِ سُورَةِ الْعَلَقِ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1-5]؛ فَبِهَا صَارَ نَبِيًّا ﷺ.
وَأَرْسَلَهُ رَبُّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِآيَاتٍ مِنْ صَدْرِ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر: 1-7].
وَمُنْذُ أَمَرَهُ اللهُ -تَعَالَى- بِالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ، وَبِالْجَهْرِ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى سَبِيلِهِ وَهُوَ قَائِمٌ بِذَلِكَ ﷺ، بَاذِلٌ نَفْسَهُ فِي دَعْوَةِ النَّاسِ إِلَى رَبِّهِمْ؛ لِإِخْرَاجِهِمْ -بِفَضْلِ رَبِّهِمْ- مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ : {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ}.
فَأَمَرَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِإِنْذَارِ الْخَلْقِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَعُدْ هُنَالِكَ وَقْتٌ لِلْمَنَامِ، وَإِنَّمَا هُوَ بَذْلُ الْجَهْدِ فِي سَبِيلِ الدَّعْوَةِ إِلَى سَبِيلِ الْمَلِيكِ الْعَلَّامِ.
{قُمْ فَأَنذِرْ}: فَأَمَرَهُ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِالْآخَرِينَ، ثُمَّ حَنَا بَعْدُ عَاطِفًا -أُسْلُوبُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ- عَلَى أَمْرِهِ بِمَا يَلْزَمُهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ بَعْدَ أَنْ أَمَرَهُ بِمَا يَلْزَمُ الْآخَرِينَ بِالْإِنْذَارِ، وَالدَّعْوَةِ إِلَى سَبِيلِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَالْهِدَايَةِ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.
{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ}: أَمَرَهُ بِمَا يَخُصُّهُ فِي نَفْسِهِ ﷺ.
{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}: وَهِيَ مِنْ أَوْجَبِ الْمُوجِبَاتِ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى سَبِيلِ رَبِّ الْكَائِنَاتِ.
{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}؛ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى شَيْءٌ فِي نَفْسِكَ هُوَ أَكْبَرُ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَإِنَّهُ مَا مِنْ شَيْءٍ إِلَّا وَهُوَ صَغِيرٌ فِي نَفْسِهِ، حَقِيرٌ فِي ذَاتِهِ؛ إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَهُ اللهُ بِالرَّحْمَةِ مِنْهُ وَالْفَضْلِ؛ فَلَا تَسْتَعْظِمْ شَيْئًا، وَلَا تَسْتَكْبِرْهُ، وَلْيَكُنْ رَبُّكَ كَمَا هُوَ فِي قَلْبِكَ وَضَمِيرِكَ وَفُؤَادِكَ أَكْبَرَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.
{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}: وَهِيَ مِنْ أَوْجَبِ وَأَلْزَمِ مَا يَجِبُ وَيَلْزَمُ الدَّاعِيَ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ حَتَّى لَا يَسْتَرْهِبَ شَيْئًا، وَلَا يَسْتَعْظِمَ أَحَدًا، بَلْ يَدْعُو إِلَى الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ، لَا أَكْبَرَ مِنْهُ، وَلَا أَعْظَمَ مِنْهُ، فَإِذَا امْتَلَأَتِ النَّفْسُ بِذَلِكَ هَانَ كُلُّ شَيْءٍ، {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}.
وَدَعَاهُ رَبُّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَى مَا يَلْزَمُ الدَّاعِيَ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي دَعْوَتِهِ: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا مِنْ أَوْجَبِ مَا يَجِبُ عَلَى الدَّاعِي إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ لِأَنَّهُ يُلَابِسُ الْمُلَوَّثِينَ وَالْمُدَنَّسِينَ، فَإِذَا لَمْ تَكُنِ الطَّهَارَةُ كَامِلَةً شَامِلَةً ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً؛ فَإِنَّ الْمَرْءَ لَا يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ إِنْ لَابَسَ الْمُدَنَّسِينَ أَنْ يَتَدَنَّسَ، وَإِنْ خَالَطَ الْمُلَوَّثِينَ أَنْ يَتَلَوَّثَ.
وَلَكِنْ بِالطُّهْرِ كُلِّهِ وَبِالطَّهَارَةِ كُلِّهَا تَدْعُو إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَلَا يَضُرُّكَ وَأَنْتَ تُخَالِطُ النَّاسَ تَدْعُوهُمْ، تَنْتَشِلُهُمْ مِنَ الْوَهْدَةِ، وَتُخْرِجُهُمْ مِنَ الْحَمْأَةِ، وَتُقِيمُهُمْ عَلَى الصِّرَاطِ؛ لَا يَضُرُّكَ مَا دُمْتَ كَذَلِكَ أَنْ يَكُونُوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مُلَوَّثِينَ مُدَنَّسِينَ؛ فَلَا تُرَعْ.
{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} وَالرُّجْزُ: الْعَذَابُ، ثُمَّ غَلَبَ فِي اللُّغَةِ اسْتِعْمَالَهُ فِيمَا يُوجِبُ الْعَذَابَ، وَالنَّبِيُّ ﷺ كَانَ بَعِيدًا عَنْ أَسْبَابِهِ بُعْدًا مُطْلَقًا وَلَكِنَّمَا هُوَ الْأَمْرُ الْعُلْوِيُّ الْكَبِيرُ لِكُلِّ دَاعٍ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى هَدْيِ النَّبِيِّ الْبَشِيرِ النَّذِيرِ.
{وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ}، وَحَذَارِ مَهْمَا عَظُمَتْ قُوَّتُكَ فِي الْبَذْلِ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ تَسْتَكْثِرَ فِي جَنْبِ اللهِ شَيْئًا؛ فَإِنَّكَ مَهْمَا أَتَيْتَ بِمَا أَتَيْتَ، وَمَهْمَا بَذَلْتَ مَا بَذَلْتَ كُلُّ ذَلِكَ صَغِيرٌ فِي جَنْبِ حَقِّ اللهِ عَلَيْكَ، {وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ}.
ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنِ افْتَتَحَهُ بِالْإِنْذَارِ أَمْرًا إِلَى النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ ﷺ.. أَتْبَعَ ذَلِكَ خَاتِمًا بِالْأَمْرِ بِالصَّبْرِ، وَاللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَأْمُرُ بِهِ عِنْدَ كُلِّ تَكْلِيفٍ؛ لِأَنَّ الدِّينَ كُلَّهُ يَحْتَاجُ الصَّبْرَ فِي كُلِّ شَيْءٍ؛ يَحْتَاجُ الصَّبْرَ عَلَى الطَّاعَةِ، وَيَحْتَاجُ الصَّبْرَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَيَحْتَاجُ الصَّبْرَ عَلَى أَقْدَارِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ غَيْرِ الْمُوَاتِيَةِ.
الدِّينُ يَحْتَاجُ الصَّبْرَ فِي الْمَقَامَاتِ كُلِّهَا، وَفِي الْأَحْوَالِ جَمِيعِهَا، فَأَمَرَهُ رَبُّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالصَّبْرِ لَهُ وَحْدَهُ: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَقْدِيمَ مَا حَقُّهُ التَّأْخِيرُ يُفِيدُ الْحَصْرَ، فَصَبْرُكَ لِرَبِّكَ، لِرَبِّكَ وَحْدَهُ كَمَا أَنَّ تَكْبِيرَكَ لِلَّهِ وَحْدَهُ: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}، وَهَذَا -أَيْضًا- مِنْ تَقْدِيمِ مَا حَقُّهُ التَّأْخِيرُ مُفِيدًا لِلْحَصْرِ وَالْقَصْرِ، فَلَا تُكَبِّرْ إِلَّا رَبَّكَ، فَكُلُّ مَا فِي الْوُجُودِ إِنَّمَا هُوَ قَلِيلٌ ضَئِيلٌ بِجِوَارِ رَبِّكَ بِعَظَمَةِ رَبِّكَ وَقُدْرَةِ رَبِّكَ: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}، فَأُرْسِلَ بِهَا الرَّسُولُ ﷺ.
* النَّبِيُّ ﷺ يَدْعُو إِلَى رَبِّهِ فِي كُلِّ حِينٍ وَحَالٍ:
مُنْذُ أَمَرَهُ رَبُّهُ: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94].. مُنْذُ أَمَرَهُ رَبُّهُ بِذَلِكَ وَهُوَ يَدْعُو إِلَيْهِ؛ يَدْعُو إِلَيْهِ عَلَى الْجَبَلِ، وَفِي السَّهْلِ يَدْعُو إِلَيْهِ، وَهُوَ فِي الطَّرِيقِ، وَيَدْعُو إِلَيْهِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، يَدْعُو إِلَيْهِ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَيَدْعُو إِلَيْهِ وَهُوَ فِي حَلْقَاتِ التَّعْلِيمِ، يَدْعُو إِلَيْهِ وَهُوَ فِي الْحَرْبِ، وَيَدْعُو إِلَيْهِ وَهُوَ فِي السِّلْمِ.
يَدْعُو إِلَيْهِ وَهُوَ يَمُوتُ ﷺ؛ فَإِنَّهُ فِي سِيَاقَةِ الْمَوْتِ يَقُولُ: ((الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ))، فَيَدْعُو إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَهُوَ يَمُوتُ ﷺ.
لَمْ يُفَارِقِ الدَّعْوَةَ حَتَّى فَارَقَتْهُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ﷺ، مُنْذُ أَمَرَهُ رَبُّهُ صَدَعَ بِأَمْرِ رَبِّهِ كَمَا أَمَرَهُ رَبُّهُ: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}، وَأَتَى بِالْوَظِيفَةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا بُعِثَ، وَأَتَى بِالْوَظِيفَةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا أُرْسِلَ، وَأَتَى بِالْوَظِيفَةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا أَرْسَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْمُرْسَلِينَ، وَنَبَّأَ النَّبِيِّينَ، وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ.
كُلُّ ذَلِكَ لِهِدَايَةِ الْخَلْقِ إِلَى الْحَقِّ؛ لِإِقَامَةِ الْأَقْدَامِ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، لِلْخُرُوجِ مِنْ ضِيقِ الدُّنْيَا إِلَى سَعَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، لِلْخُرُوجِ مِنْ جَوْرِ الْأَدْيَانِ وَظُلْمِهَا إِلَى عَدَالَةِ وَسَمَاحَةِ دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَمَا جَاءَ إِلَّا بِمَا جَاءَ بِهِ إِخْوَانُهُ السَّابِقُونَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ بِالدِّينِ الْعَامِّ، وَكُلُّهُمْ جَاءَ بِهِ بِتَوْحِيدِ اللهِ، وَصَرْفِ الْعِبَادَةِ إِلَيْهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
كُلُّهُمْ جَاءَ بِالدِّينِ الْعَامِّ: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ} [هود: 84]، وَجَاءَ بِالدِّينِ الْخَاصِّ؛ فَنَسَخَ اللهُ بِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الشَّرَائِعِ، فَلَا يَقْبَلُ اللهُ دِينًا سِوَى دِينِهِ وَمَا جَاءَ بِهِ ﷺ.
يَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى الْجَبَلِ، وَيَدْعُو الْقَوْمَ إِلَيْهِ، وَيَحْتَمِلُ مَا يَحْتَمِلُ مِنْ سَفَاهَةِ السُّفَهَاءِ، وَجَهَالَةِ الْجُهَلَاءِ؛ ((تَبًّا لَكَ سَائِرَ هَذَا الْيَوْمِ!! أَلِهَذَا دَعَوْتَنَا؟!)).
وَهُوَ يَدْعُوهُمْ لِيُوَحِّدُوا رَبَّهُمْ، لَا يَسْأَلْهُمْ دِرْهَمًا وَلَا دِينَارًا، وَلَا دُنْيَا وَلَا عَتَادًا، وَإِنَّمَا يَدْعُوهُمْ لِيُنْقِذَهُمُ اللهُ بِهِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَلِيُخْرِجَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ مِنْ تَلَدُّدِهِمْ حَيَارَى فِي الظُّلُمَاتِ ظُلُمَاتِ الْفِكْرِ وَالْوَهْمِ وَخُزَعْبَلَاتِ التَّصَوُّرِ وَعِبَادَةِ الْأَحْجَارِ وَالْأَوْثَانِ وَالْأَشْجَارِ وَالْأَهْوَاءِ لِعِبَادَةِ اللهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ، لِيَسْتَنْقِذَهُمْ مِنَ النَّارِ، لِيَدُلَّهُمْ عَلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ، وَيُقِيمَهُمْ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.
يَدْعُو إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَيَحْتَمِلُ فِي سَبِيلِ الدَّعْوَةِ مَا يَحْتَمِلُ ﷺ، يَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى الْجَبَلِ وَفِي السَّهْلِ وَفِي الطَّرِيقِ، يَدْعُو إِلَى اللهِ وَهُوَ عَلَى الدَّابَّةِ، وَهُوَ مُتَرَجِّلٌ، وَهُوَ قَاعِدٌ ﷺ، وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَفِي حَلْقَاتِ التَّعْلِيمِ.
ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- كَمَا أَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ)) خَلْفَ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى الدَّابَّةِ: ((يَا غُلَامُ! إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ))، فَيَدْعُو إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى الدَّابَّةِ، كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ مُعَاذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((كُنْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى حِمَارٍ، فَقَالَ: ((يَا مُعَاذُ!)).
قُلْتُ: ((لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ)).
قَالَ: ((أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ، وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ؟)).
قُلْتُ: ((اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ)).
قَالَ: ((حَقُّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ أَلَّا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا)).
يَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى حِمَارٍ، وَهُوَ عَلَى الدَّابَّةِ ﷺ.
يَدْعُو إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي سَاحَةِ الْوَغَى عِنْدَ الْتِحَامِ الْجُنْدِ بِالْجُنْدِ، عِنْدَ اتِّسَاعِ الْحَدَقِ، عِنْدَ انْدِلَاعِ الشَّرَرِ، يَدْعُو إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَيُبَيِّنُ فَضْلَ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- بِأَبْلَغِ بَيَانٍ، وَأَتَمِّهِ، وَأَكْمَلِهِ، وَأَحْسَنِهِ، كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَعْطَى الرَّايَةَ عَلِيًّا يَوْمَ خَيْبَرَ، ثُمَّ قَالَ: ((انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ)).
فَبَيَّنَ لَهُ كَيْفَ يَدْعُو إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، ((وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فِيهِ)) أَيْ: فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، ((فَوَاللَّهِ! لَأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ)).
يَدْعُو إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي الْحَرْبِ كَمَا يَدْعُو إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي السِّلْمِ.
يَدْعُو إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي الْغَضَبِ كَمَا يَدْعُو إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي الرِّضَا.
يَدْعُو إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي كُلِّ حِينٍ وَحَالٍ، وَيُبَلِّغُ أَمْرَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَإِنْ جَاءَهُ رُؤْيَا صَادِقَةً فِي الْمَنَامِ، فَيُخْبِرُ النَّاسَ بِمَا أَوْحَى إِلَيْهِ رَبُّهُ مَنَامًا، ((وَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ)).. فَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ حَقٌّ.
فَيُخْبِرُ النَّاسَ بِمَا أَعْلَمَهُ رَبُّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَمَا أَوْحَاهُ إِلَيْهِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَيُرْشِدُ الْخَلْقَ إِلَيْهِ، وَيَصْبِرُ وَيَحْتَمِلُ ﷺ.
طَرِيقُ الْمُرْسَلِينَ الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَظِيفَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
*الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ سَبِيلُ صَلَاحِ الْمُجْتَمَعَاتِ:
لَا يُفْلِحُ الْمُجْتَمَعُ إِنْ قَصَّرَ أَهْلُهُ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّهِمْ وَخَالِقِهِمْ وَرَازِقِهِمْ وَمَعْبُودِهِمُ الَّذِي لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَوَجَّهُوا بِشَيْءٍ مِنْ أَلْوَانِ الْعِبَادَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ لِسِوَاهُ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ أَنْ يُخْلِصُوا الْعِبَادَةَ لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَوَظِيفَتُهُمْ.
نُوحٌ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- يَدْعُو إِلَى رَبِّهِ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا، يَدْعُو إِلَى اللهِ، يَدْعُو إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ سِرًّا وَإِعْلَانًا، لَيْلًا وَنَهَارًا، وَيَحْتَمِلُ الْأَذَى صَابِرًا.
يَدْعُو إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، إِلَى الْخُلُوصِ مِنَ الشِّرْكِ، إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ، لَا يَفْتُرُ وَلَا يَتَوَانَى أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا، يَدْعُو إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- فِي اللَّيْلِ وَفِي النَّهَارِ، فِي السِّرِّ وَفِي الْإِعْلَانِ، لَا يَتَوَانَى عَنِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ.
طَرِيقَةُ الْمُرْسَلِينَ.
يُوسُفُ فِي السِّجْنِ مَعَ ضِيقِ الْحَبْسِ وَقَسْوَةِ السِّجْنِ، وَمَعَ مَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْعَنَتِ وَالظُّلْمِ وَالِابْتِلَاءِ وَالْمِحْنَةِ؛ يَدْعُو إِلَى تَوْحِيدِ الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ، لَا يَثْنِيهِ عَنْ ذَلِكَ، وَلَا يَلْوِي عِنَانَ الدَّعْوَةِ فِي يَدِهِ عَنْ أَنْ تَكُونَ مُسْتَقِيمَةً عَلَى الْمَهْيَعِ الْأَرْشَدِ وَالطَّرِيقِ الْأَقْوَمِ، لَا يَصُدُّهُ عَنْ ذَلِكَ مَا هُوَ فِيهِ عَنِ الدَّعْوَةِ إِلَى رَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ، إِلَى الْبَرَاءَةِ مِنَ الشِّرْكِ وَالْمُشْرِكِينَ، وَإِلَى الْخُلُوصِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْكَافِرِينَ.
يَدْعُو إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي ظُلُمَاتِ السِّجْنِ مَعَ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ قَسْوَةِ الْحَبْسِ وَمَعَ مَا يُعَانِي مِنْ وَطْأَةِ السِّجْنِ بِقَسْوَةِ الظُّلْمِ يَدْعُو إِلَى اللهِ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ يَدْعُو إِلَى رَبِّهِ فِي كُلِّ حِينٍ وَحَالٍ.
نَعَمْ، طَرِيقَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَوَظِيفَتُهُمْ.
مُوسَى يُعَالِجُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَا يُعَالِجُ، وَيَجِدُ مِنَ الْعَنَتِ مَا يَجِدُ، وَمِنَ التَّكْذِيبِ وَقَسْوَةِ وَخُشُونَةِ النُّفُوسِ مَا يَجِدُ، وَهُوَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ، يَدْعُو إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ صَابِرًا إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَعِبَادَتِهِ وَالْبَرَاءَةِ مِنَ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ، مَعَ مَا وَجَدَهُ مِنْ أُمَّةِ الْقِبْطِ وَمِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَقُومُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الْمَقَامَاتِ الْعَظِيمَةَ؛ فَيَحْمَدُ لَهُ رَبُّهُ ذَلِكَ، وَيَحْتَمِلُ لَهُ مَا لَا يَحْتَمِلُ لِغَيْرِهِ.
وَنَبِيُّنَا ﷺ يَدْعُو إِلَى اللهِ فِي كُلِّ حِينٍ وَحَالٍ.
*الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، وَشَرَفُ مَقَامِ الدَّعْوَةِ:
إِنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، وَاللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَخْبَرَنَا فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ كَانَ وَاجِبًا عَلَى أُمَمٍ قَبْلَنَا: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78-79.
{كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ}: أُمِرُوا بِأَنْ يَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْ يَنْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، فَلَمْ يَفْعَلُوا، {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}؛ فَلُعِنُوا عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ، وَطُرِدُوا مِنَ الرَّحْمَةِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ يَلْقَى أَخَاهُ، فَيَرَاهُ عَلَى الْمُنْكَرِ، فَيَنْهَاهُ، ثُمَّ يَجِدُهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَجَلِيسَهُ، فَلُعِنُوا.
وَاللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ مِنْ خَيْرِيَّةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَنَّهَا تَدْعُو إِلَى اللهِ، تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].
مِنْ خَيْرِيَّةِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُمْ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَهِيَ الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ.
فَأَكْبَرُ الْمَعْرُوفِ التَّوْحِيدُ، وَأَكْبَرُ الْمُنْكَرِ وَأَنْكَرُهُ الشِّرْكُ وَالْكُفْرُ بِالْعَزِيزِ الْمَجِيدِ.
فَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الَّتِي قَالَ فِيهَا النَّبِيُّ ﷺ كَمَا أَخْرَجَ ذَلِكَ التِّرْمِذِيُّ فِي ((جَامِعِهِ)) عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ)).
((إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)) أَيْ: وَأَهْلَ الْأَرْضِ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ، ((حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ)).
وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ أَبُو عِيسَى -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- بِعَقِبِ الْحَدِيثِ بِسَنَدِهِ عَنِ الْفُضَيْلِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- قَالَ: ((رَجُلٌ عَالِمٌ عَامِلٌ مُعَلِّمٌ يُدْعَى كَبِيرًا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ)).
إِذَا عَمَّ الْمُنْكَرُ فِي النَّاسِ، وَفَشَا فِيهِمُ الْبُعْدُ عَنْ دِينِ رَبِّهِمْ، ثُمَّ لَمْ يُدْعَوْ إِلَى اللهِ وَإِلَى الْعَوْدَةِ إِلَى دِينِهِ؛ أَنْزَلَ اللهُ بِهِمْ سَخَطَهُ.
فَإِنَّ النَّاسَ إِذَا لَمْ يَغَارُوا عَلَى دِينِ رَبِّهِمْ فِي أَرْضِهِ غَارَ اللهُ عَلَى دِينِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَعُودُوا رَاشِدِينَ إِلَى دِينِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَإِمَّا أَنْ يَحْمِلَهُمْ عَلَى الْعَوْدَةِ إِلَيْهِ حَمْلًا وَيَأْطُرَهُمْ عَلَى الْمَعْرُوفِ أَطْرًا، فَعَوْدَةٌ حَمِيدَةٌ -وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ-.
النَّبِيُّ ﷺ يُخْبِرُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نُبَلِّغَ عَنْهُ، فَقَالَ كَمَا عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي ((الصَّحِيحِ)): ((بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً)).
وَدَعَا النَّبِيُّ ﷺ بِالنُّضْرَةِ فِي الْوَجْهِ لِمَنْ سَمِعَ حَدِيثًا فَأَدَّاهُ كَمَا سَمِعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْهُ شَيْئًا أَوْ يَزِيدَ فِيهِ شَيْئًا؛ فَدَعَا لَهُ بِالنُّضْرَةِ: ((نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَبَلَّغَهُ -فَأَدَّاهُ كَمَا سَمِعَهُ، فَبَلَّغَهُ كَمَا تَحَمَّلَهُ-؛ فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَحْفَظُ مِنْ سَامِعٍ)).
وَفِي رِوَايَةٍ: ((فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ))، فَيُؤَدِّي عَنِ اللهِ وَعَنْ رَسُولِ اللهِ، دَعْوَةً إِلَى اللهِ وَإِلَى صِرَاطِ اللهِ الْمُسْتَقِيمِ.
طَرِيقَةُ النَّبِيِّ ﷺ يُبَيِّنُهَا لَنَا نَبِيُّنَا ﷺ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ: ((بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً))، وَلَوْ آيَةً، تَأْمُرُ النَّاسَ بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي تَعْلَمُهُ، وَالَّذِي تَعْمَلُ بِهِ، تُبَلِّغُ النَّاسَ ذَلِكَ، وَتُرْشِدُهُمْ إِلَيْهِ، وَتَدُلُّهُمْ عَلَيْهِ، فَتُرْضِي رَبَّكَ، وَتَتَّبِعُ نَبِيَّكَ ﷺ، وَتَنْهَى النَّاسَ عَنْ مُنْكَرٍ وَاقَعُوهُ وَعَنْ ظُلْمٍ وَقَعُوا فِيهِ؛ لِكَيْ يَتَطَهَّرَ الْمُجْتَمَعُ مِنْ ظُلْمِهِ مِنْ إِثْمِهِ مِمَّا هُوَ فِيهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى نَهْجِ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ ﷺ.
{ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، فَكَانَ كَذَلِكَ ﷺ
إَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَشْرَفُ مَقَامَاتِ التَّعَبُّدِ.
أَشْرَفُ مَقَامَاتِ التَّعَبُّدِ لِلَّهِ الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ؛ وَظِيفَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ.
وَالدُّعَاةُ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هُمُ الْوَاسِطَةُ بَيْنَ النَّبِيِّ ﷺ وَالنَّاسِ يُبَلِّغُونَهُمْ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ مِنَ الْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [قصلت: 33].
وَهَذَا اسْتِفْهَامٌ الْغَرَضُ مِنْهُ النَّفْيُ: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ}: لَا أَحَدَ هُوَ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّن دَعَا إِلَى اللهِ، {إِلَى اللهِ} لَا إِلَى نَفْسِهِ وَلَا إِلَى مَنْهَجِهِ وَلَا إِلَى طَرِيقَتِهِ، وَلَكِنْ إِلَى اللهِ.
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ}؟
لَا أَحَدَ.
فَهَذَا تَقْرِيرٌ لِلنَّفْيِ يَنْطِقُ بِهِ الْمُخَالِفُ بِلِسَانِهِ مُسْتَنْطَقًا، يُقَالُ لَهُ: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا}، فَالْتَزَمَ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ وَعَمِلَ بِهِ، {وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}: فَأَسْلَمَ الزِّمَامَ لِلَّهِ وَحْدَهُ لِلشَّرْعِ الْأَغَرِّ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لَا يَبْتَدِعُ وَلَا يَتَزَيَّدُ، وَلَا يَجِدُ حَظَّ نَفْسِهِ، بَلْ يَجْعَلُ ذَلِكَ تَحْتَ مَوَاطِئِ أَقْدَامِهِ، يَدْعُو إِلَى اللهِ مُخْلِصًا، إِلَى اللهِ خَالِصًا، لِلَّهِ وَحْدَهُ، فَلَا أَحَدَ هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ قَوْلًا، وَلَا أَكْرَمُ عَلَى اللهِ مِنْهُ فِعْلًا، وَلَا أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ مِنْهُ دَعْوَةً.
الدَّاعِي إِلَى اللهِ!
وَكُلٌّ مُكَلَّفٌ وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ: {قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108]، فَمَنِ اتَّبَعَ رَسُولَ اللهِ دَعَا إِلَى اللهِ.
وَأَتْبَاعُ النَّبِيِّ ﷺ دُعَاةٌ إِلَى اللهِ كُلٌّ بِحَسَبِهِ عَلَى حَسَبِ عِلْمِهِ لَا يَتَزَيَّدُ، وَإِلَّا كَانَ دَاعِيًا إِلَى غَيْرِ رَبِّهِ، وَإِلَى غَيْرِ صِرَاطِهِ، وَإِلَى غَيْرِ دِينِهِ، قَائِلًا عَلَى اللهِ بِلَا عِلْمٍ، وَإِنَّمَا يَدْعُو إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى قَدْرِ عِلْمِهِ وَعَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَفِي كُلِّ مَجَالٍ؛ لِأَنَّكَ إِنْ لَمْ تَكُنْ دَاعِيًا إِلَى اللهِ كُنْتَ مَدْعُوًّا إِلَى سِوَاهُ.
إِنْ لَمْ تَكُنْ دَاعِيًا إِلَى اللهِ كُنْتَ مَدْعُوًّا إِلَى سِوَاهُ.
حَتْمٌ لَازِمٌ؛ لِأَنَّكَ إِنْ لَمْ تَكُنْ دَاعِيًا كُنْتَ مَدْعُوًّا وَلَا ثَالِثَ.
فَإِنْ لَمْ تَدْعُ إِلَى الْهُدَى وَالْخَيْرِ وَالرَّشَادِ دَعَاكَ الْمُبْطِلُونَ إِلَى الْغَيِّ وَالْعِنَادِ وَالْفَسَادِ؛ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ دَاعِيًا كُنْتَ مَدْعُوًّا.
إِنْ لَمْ تَكُنْ دَاعِيًا إِلَى اللهِ كُنْتَ مَدْعُوًّا إِلَى سِوَاهُ، وَأَقْدِحْ بِهَا مِنْ خَصْلَةٍ أَلَّا يَكُونَ الْمَرْءُ دَاعِيًا إِلَى رَبِّهِ حَتَّى يَكُونَ مَدْعُوًّا إِلَى غَيْرِ رَبِّهِ، وَإِلَى غَيْرِ مَنْهَجِ نَبِيِّهِ ﷺ.
فَالدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَشْرَفُ وَأَكْرَمُ مَقَامَاتِ التَّعَبُّدِ لِلَّهِ، أَكْرَمُ مَقَامٍ يَقُومُهُ عَبْدٌ لِرَبِّهِ أَنْ يَكُونَ دَاعِيًا إِلَيْهِ، دَالًّا عَلَيْهِ، مُرْشِدًا إِلَى صِرَاطِهِ، مُتَّبِعًا لِسَبِيلِ نَبِيِّهِ، مُقِيمًا عَلَى ذَلِكَ، مُخْلِصًا فِيهِ، آتِيًا بِهِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي يُرْضِيهِ.
*الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ:
لَقَدْ أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ نَبِيَّهُ ﷺ أَنْ يَقُولَ: {هَٰذِهِ سَبِيلِي} يَعْنِي: مَا جَاءَ بِهِ ﷺ مِنَ الْهُدَى وَالْحَقِّ: {هَذِهِ}: فَالْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ مَا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيْهِ وَمَا أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ، {قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي}: هَذِهِ طَرِيقَتِي وَهَذَا مَنْهَجِي.
{قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ}: أَدْعُو إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ: {إِلَى اللهِ}؛ لِأَنَّ الدُّعَاةَ عَلَى قِسْمَيْنِ:
-قَسْمٌ يَدْعُو إِلَى اللهِ.
-وَقِسْمٌ يَدْعُو إِلَى غَيْرِ اللهِ.
الَّذِي يَدْعُو إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَكُونُ مُتَجَرِّدًا مُخْلِصًا فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ.
وَقِسْمٌ آخَرُ يَدْعُو إِلَى غَيْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، يَدْعُو إِلَى حَظِّ نَفْسِهِ إِلَى ذَاتِهِ؛ لِيُقَدِّرَهُ النَّاسُ وَيَحْتَرِمُوهُ وَيَرْفَعُوهُ وَيُبَجِّلُوهُ؛ وَلِذَلِكَ إِذَا دَعَا إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي أَمْرٍ فَخُولِفَ فِيهِ يَغْضَبُ لِمُخَالَفَةِ النَّاسِ أَمْرَهُ وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ، لَا لِمُخَالَفَتِهِمْ أَمْرَ اللهِ، وَإِذَا دَلَّ غَيْرُهُ عَلَى خَيْرٍ لَمْ يَهْدَأْ لَهُ بَالٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُرِيدُ أَنْ يَصِلَ الْخَيْرُ إِلَى النَّاسِ إِلَّا عَنْ طَرِيقِهِ، وَلَا يَتَرَشَّحُ إِلَّا مِنْهُ، وَهَيْهَاتَ؛ فَإِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ.
دَاعٍ إِلَى اللهِ، وَدَاعٍ إِلَى غَيْرِ اللهِ!
الدُّعَاةُ قِسْمَانِ!
وَالنَّبِيُّ ﷺ وَمَنِ اتَّبَعَهُ يَدْعُونَ إِلَى اللهِ: {قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ}: إِلَى اللهِ خَالِصًا، إِلَى اللهِ وَحْدَهُ لَا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا.
{أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي}، وَ {أَنَا} إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُبْتَدَأً: أنا ومن اتبعني على بصيرة، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ تَأْكِيدًا لِلضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: {أَدْعُو}: أَدْعُو أَنَا، وَمَنِ اتَّبَعَنِي يَدْعُو، {عَلَى بَصِيرَةٍ}: وَالْبَصِيرَةُ شَيْءٌ فَوْقَ الْعِلْمِ.
فَكَثِيرٌ مِنَ الْخَلْقِ يَمْتَلِئُ عِلْمًا وَيُفْسِدُ بِدَعْوَتِهِ أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ دَلَّ عَلَى أُمُورٍ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) لَمَّا أَرْسَلَ النَّبِيُّ ﷺ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ فَوَصَّاهُ، فَقَالَ: ((إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ أَنْ يُوَحِّدُوا اللهَ)). فِي رِوَايَةٍ.
((فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ)).
فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ مَا أُجْمِلَ فِي الْبَصِيرَةِ، فَالْبَصِيرَةُ فِي الْعِلْمِ، وَفِي كَيْفِيَّةِ الدَّعْوَةِ، وَفِي الْمَعْرِفَةِ بِحَالِ الْمَدْعُوِّ، وَلَيْسَتْ عِلْمًا فَقَطْ، وَإِنَّمَا بَصِيرَةٌ فِي الْعِلْمِ فَلَا يَدْعُو الدَّاعِي بِجَهْلٍ؛ لِأَنَّهُ إِنْ دَعَا بِجَهْلٍ كَانَ دَاعِيًا إِلَى غَيْرِ اللهِ، كَانَ دَاعِيًا إِلَى غَيْرِ مَا شَرَعَهُ اللهُ، كَانَ دَاعِيًا إِلَى غَيْرِ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَلَا يُدْعَى إِلَّا بِعِلْمٍ.
كَمَا لَا يُدْعَى إِلَّا بِإِخْلَاصٍ: {أَدْعُو إِلَى اللهِ}؛ فَهَذَا شَرْطٌ كَبِيرٌ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُتَوَفِّرًا، وَهُوَ أَوَّلُ مَا يُعْقَدُ عَلَيْهِ الْخُنْصُرُ، أَوَّلُ شَيْءٍ الْإِخْلَاصُ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِتَعْبِيدِ الْخَلْقِ لِرَبِّهِمُ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ، لَا لِحَظِّ النَّفْسِ.
بَلْ إِنَّهُ لَا يَذُوقُ لِنَفْسِهِ طَعْمًا أَصْلًا، وَإِنَّمَا يَدْعُو إِلَى اللهِ مُتَجَرِّدًا؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ بِتَوْحِيدِ رَبِّهِ أَنَّ اللهَ مُطَّلِعٌ عَلَى سِرِّهِ وَنَجْوَاهُ، وَأَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- سَيُحَاسِبُهُ عَلَى نِيَّتِهِ فَيُمَحِّصُهَا لِرَبِّهِ.
وَالدُّعَاةُ إِلَى اللهِ عَلَى الْمِحَكِّ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْكَبِيرِ وَهُوَ الْإِخْلَاصُ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ عَلَى مِنْهَاجِ الْبَشِيرِ النَّذِيرِ ﷺ.
فَأَتَى النَّبِيُّ ﷺ بِمَا أُجْمِلَ هُنَاكَ: {قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ}.
الْبَصِيرَةُ فِي الْعِلْمِ؛ بِمَعْرِفَةِ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ؛ بِأَنْ تَكُونَ عَالِمًا بِالْمَسْأَلَةِ الَّتِي تُرْشِدُ إِلَيْهَا وَتَدُلُّ عَلَيْهَا، لَا بِخَبْطٍ فِي ظُلُمَاتٍ، وَلَا بِخَبْطِ عَشْوَاءَ فِي بَيْدَاءَ، وَإِنَّمَا بِعِلْمٍ.
الْعِلْمُ: قَالَ اللهُ، قَالَ رَسُولُهُ = قَالَ الصَّحَابَةُ لَيْسَ بِالتَّمْوِيهِ
مَا الْعِلْمُ نَصْبَكَ لِلْخِلَافِ سَفَاهَةً = بَيْنَ الرَّسُولِ وَبَيْنَ قَوْلِ فَقِيهِ
تَدُلُّ عَلَى قَالَ اللهُ، قَالَ الرَّسُولُ، قَالَ الصَّحَابَةُ، عَلَى الْعِلْمِ الَّذِي جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ، تَدُلُّ عَلَى الْعِلْمِ الْمَوْرُوثِ، عَلَى عِلْمِ الْوَحْيَيْنِ؛ عَلَى عِلْمِ الْكِتَابِ وَعِلْمِ السُّنَّةِ، وَهُوَ الْعِلْمُ الْمَحْفُوظُ الْمَعْصُومُ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ وَلَا الزَّيْغُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ.
فَهَذَا أَوَّلًا أَنْ تَكُونَ الْبَصِيرَةُ فِي الْعِلْمِ، وَأَنْ تَكُونَ الْبَصِيرَةُ فِي كَيْفِيَّةِ الدَّعْوَةِ.
تَأَمَّلْ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ فِي هَذَا التَّدْرِيجِ وَهَذَا التَّرْتِيبِ: ((فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ أَنْ يُوَحِّدُوا اللهَ))، فَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْمُرْسَلِينَ.
وَكُلُّ دَعْوَةٍ لِلْإِصْلَاحِ زَاعِمَةً لَا تَصِلُ إِلَى شَيْءٍ، وَإِنَّمَا هُوَ الْإِفْسَادُ فِي الْأَرْضِ، وَالْخَبْطُ بَيْنَ النَّاسِ بِخَلْطِ الْأَوْرَاقِ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَآسِي الَّتِي تَنْزِلُ بِالْمُسْلِمِينَ.
كُلُّ دَعْوَةٍ لَا تَبْدَأُ بِهَذَا الْأَصْلِ، وَلَا تَرْتَكِزُ عَلَيْهِ، وَلَا تُؤَسَّسُ عَلَى قَاعِدَتِهِ لَنْ تُؤْتِيَ يَوْمًا أُكُلًا، وَلَكِنْ قَدْ تُؤْتِي ثِمَارًا مُرَّةً مِنْ حَنْظَلٍ وَمُرٍّ.
وَأَمَّا ثِمَارُ الدَّعْوَةِ الْحَقَّةِ الَّتِي تَرْتَكِزُ عَلَى تَوْحِيدِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- عَلَى طَرِيقَةِ الْمُرْسَلِينَ وَسَبِيلِ النَّبِيِّينَ، وَمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ الْأَمِينُ، فَهَيْهَاتَ؛ ذَلِكَ بِمَبْعَدٍ.
تَأَمَّلْ! ((فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ))؛ أَنْ تُصْلِحَ عَقِيدَتَهُمْ، أَنْ يُوَحِّدُوا رَبَّهُمْ، أَنْ يَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، أَنْ يُخْلِصُوا الْقُلُوبَ وَالْأَرْوَاحَ لِرَبِّهِمُ الَّذِي خَلَقَهُمْ، أَنْ يَصْرِفُوا الْخَوْفَ وَالرَّجَاءَ وَالْخَشْيَةَ وَالْإِنَابَةَ وَالْمَحَبَّةَ وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَأَنْ يُوَحِّدُوا اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَأَنْ يَسْتَعْلِنُوا بِذَلِكَ فِي حَيَاتِهِمْ، وَأَنْ يَجْعَلُوا ذَلِكَ مِنْهَاجَهُمْ، وَأَنْ يُوَحِّدُوا اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِجَوَارِحِهِمْ، فَلَا يَسْجُدُوا لِلْأَصْنَامِ، وَلَا يُطِيفُوا بِالْقُبُورِ، وَلَا يَسْأَلُوا أَحَدًا سِوَى اللهِ مَا لَا يُسْأَلُهُ إِلَّا اللهُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ، ((أَنْ يُوَحِّدُوا اللهَ)).
تَأَمَّلْ فِي التَّدَرُّجِ فِي كَيْفِيَّةِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ، ثُمَّ ((فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ))، فَانْقُلْهُمْ إِلَى مَا بَعْدَهُ، وَإِلَّا فَإِنْ بَدَأْتَهُمْ بِشَيْءٍ قَبْلَ هَذَا فَأَنْتَ تُنْشِئُ الْقُصُورَ عَلَى الرِّمَالِ، وَأَنْتَ تَخُطُّ عَلَى الْمَاءِ خَطًّا، وَتَكْتُبُ أَلْوَاحًا مُسَطَّرَةً عَلَى صَفْحَاتِ الْمِيَاهِ الْجَارِيَةِ، وَذَلِكَ لَا يَسْتَقِيمُ فِي عَقْلِ عَاقِلٍ، وَلَا يَسْتَقِيمُ فِي حِسِّ حَيٍّ مَوْجُودٍ.
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ هَذَا الْأَمْرَ الْكَبِيرَ مُبَيِّنًا كَيْفِيَّةَ الدَّعْوَةِ.
فَلَا بُدَّ مِنَ الْبَصِيرَةِ بِكَيْفِيَّةِ الدَّعْوَةِ، وَلَا بُدَّ مِنَ الْبَصِيرَةِ بِمَعْرِفَةِ حَالِ الْمَدْعُوِّ: ((إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ))، فَأَعْلَمَهُ ﷺ أَنَّهُ يَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، لَا مِنَ الْكُفَّارِ الْأَصْلِيِّينَ، فَهَذَا يَسْتَوْجِبُ نَظَرًا فِي اسْتِعْمَالِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِإِجْرَاءِ النُّصُوصِ كِتَابًا وَسُنَّةً عَلَى مَا يَنْبَغِي أَنْ تُجْرَى عَلَيْهِ، وَأَنْ تُوضَعَ فِي مَوَاضِعِهَا، وَأَنْ تُنَزَّلَ فِي مَنَازِلِهَا؛ حَتَّى يُمْكِنَ أَنْ تَأْتِيَ بِالثَّمَرَةِ.
فَدَلَّهُ ﷺ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ، دَلَّهُ عَلَى الْبَصِيرَةِ فِي الْعِلْمِ وَعَلَى الْبَصِيرَةِ فِي كَيْفِيَّةِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ، وَعَلَى الْبَصِيرَةِ فِي الْمَعْرِفَةِ بِحَالِ الْمَدْعُوِّ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا تَشْمَلُهُ هَذِهِ اللَّفْظَةُ الْجَلِيلَةُ الْفَخْمَةُ الْعَظِيمَةُ الْمُنِيرَةُ النَّيِّرَةُ: {عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.
*الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ بِالْعَمَلِ وَالسُّلُوكِ:
النَّبِيُّ ﷺ دَلَّ عَلَى عَظِيمِ قَدْرِ الدَّاعِي إِلَى اللهِ، وَعَلَى جَلِيلِ مَا يُحَصِّلُهُ مِنَ الْمَقَامَاتِ وَالْحَسَنَاتِ مِمَّا يُؤْتِيهِ إِيَّاهُ رَبُّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ.
الْمُسْلِمُ الْحَقُّ دَاعٍ إِلَى اللهِ فِي كُلِّ حِينٍ وَحَالٍ؛ بِسَمْتِهِ، بِدَلِّهِ، بِمَنْطِقِهِ، بِسُكُونِهِ، وَحَرَكَتِهِ، بِتَعَامُلِهِ، بِصَبْرِهِ، بِحِلْمِهِ، وَهَذَا هُوَ مَا يُجْدِي حَقًّا؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يُخْدَعُونَ، النَّاسُ يَقْبَلُونَ مَا يَقْبَلُونَ لَا بِأَسْمَاعِهِمْ، وَإِنَّمَا بِأَسْمَاعِ قُلُوبِهِمْ.
النَّاسُ يُصِيخُونَ سَمْعَ الْقُلُوبِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَتَحَرَّكَ فِيهَا وَتَرٌ لَا يُحَرِّكُهُ إِلّا كَلَامٌ خَرَجَ مِنَ الْقَلْبِ.
فَالْكَلَامُ إِذَا خَرَجَ مِنَ الْقَلْبِ وَقَعَ فِي الْقَلْبِ، وَإِذَا خَرَجَ مِنَ اللِّسَانِ لَمْ يُجَاوِزِ الْآذَانَ.
وَسُلُوكُ رَجُلٍ أَجْدَى وَأَنْفَعُ لِأَلْفِ رَجُلٍ مِنْ قَوْلِ أَلْفِ رَجُلٍ لِرَجُلٍ؛ وَلِذَلِكَ دَعَا النَّبِيُّ ﷺ بِالسُّلُوكِ الْمُسْتَقِيمِ الْحَسَنِ الْأَحْسَنِ الَّذِي لَا أَحْسَنَ مِنْهُ، دَعَا إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِحِلْمِهِ، وَبِصَبْرِهِ، بِسُلُوكِهِ، بِحَرَكَةِ حَيَاتِهِ، بِإِغْضَائِهِ، وَصَفْحِهِ، وَحِلْمِهِ ﷺ.
{فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان: 52]: هَذِهِ الْآيَةُ مَكِّيَّةٌ، وَلَمْ يَكُونُوا مَأْذُونًا لَهُمْ فِي مَكَّةَ بِالْقِتَالِ وَالْجِهَادِ بِالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ، فَأَيُّ شَيْءٍ هَذَا؟!
{وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا}: جِهَادُ الْحُجَّةِ، جِهَادُ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَهُوَ الْأَصْلُ.
السَّيْفُ إِنَّمَا يُزِيلُ الْعَوَائِقَ أَمَامَ اللِّسَانِ وَالْبَنَانِ أَمَامَ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ، فَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ، لَيْسَ السَّيْفُ أَصْلًا.
الْقِتَالُ لِإِزَالَةِ الْعَوَائِقِ مِنَ النُّظُمِ الْفَاسِدَةِ وَالْقَوَاعِدِ الْمُجْرِمَةِ الْكَافِرَةِ الْبَاطِلَةِ لِلتَّخْلِيَةِ بَيْنَ الدَّاعِي إِلَى اللهِ وَالشُّعُوبِ؛ لِتُدْعَى الشُّعُوبُ وَالنَّاسُ إِلَى رَبِّهِمْ -جَلَّ وَعَلَا-، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ.
فَإِذَا مَا أُزِيلَ ذَلِكَ وَزَالَ ذَاهِبًا وَانْمَاعَ كَمَا يَنْمَاثُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ تَكُونُ الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَالسَّيْفُ مُغْمَدًا.
دَعْوَةٌ إِلَى اللهِ؛ بِنَشْرِ الْعِلْمِ، وَالْهُدَى، وَالْعَفَافِ وَالتُّقَى، وَالْمَنْهَجِ الْأَحْمَدِ الَّذِي جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ الْمُكَرَّمُ أَحْمَدُ ﷺ.
وَالْعَطَاءُ لَا حَدَّ لَهُ لِكُلِّ مَنْ دَعَا مُخْلِصًا، وَاسْتَقَامَ عَلَى الْمَنْهَجِ الْأَرْشَدِ يَدْعُو إِلَى رَبِّهِ، فَمَا مِنْ كَلِمَةٍ إِلَّا وَيُرَادُ بِهَا الدَّعْوَةُ حَتَّى كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَمْزَحُ وَلَا يَقُولُ إِلَّا حَقًّا ﷺ.
يُعَلِّمُ حَتَّى بِمُزَاحِهِ ﷺ.
أَتَتْ عَجُوزٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَتْ: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُدْخِلَنِي الْجَنَّةَ)).
فَقَالَ: «يَا أُمَّ فُلَانٍ! إِنَّ الْجَنَّةَ لَا تَدْخُلُهَا عَجُوزٌ».
قَالَ: ((فَوَلَّتْ تَبْكِي)).
فَقَالَ: «أَخْبِرُوهَا أَنَّهَا لَا تَدْخُلُهَا وَهِيَ عَجُوزٌ، إِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- يَقُولُ: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة: 36])).
سَتُعَادُ الصِّيَاغَةُ يَا هَذِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْكِ، فَلَا تَبْتَئِسِي.
فَعَلَّمَهَا مَا يَكُونُ وَهُوَ أَمْرُ غَيْبٍ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِأَصْلِ الِاعْتِقَادِ فِي النُّفُوسِ.
فَتَأَمَّلْ كَيْفَ جَاءَ بِهِ ﷺ حَتَّى فِي مُزَاحِهِ يَمْزَحُ وَلَا يَقُولُ إِلَّا حَقًّا.
*عِظَمُ مَقَامِ الدَّاعِي وَثَمَرَاتُ الدَّعْوَةِ:
فَادْعُ إِلَى اللهِ؛ لِكَيْ يُعْطِيَكَ رَبُّكَ، ((لَأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ)) -بِإِسْكَانِ الْمِيمِ، جَمْعُ أَحْمَرَ، وَأَمَّا بِضَمِّهَا فَجَمْعُ حِمَارٍ، وَلَيْسَ مُرَادًا هُنَا-.
فَخَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ، وَهِيَ الْإِبِلُ الْحَمْرَاءُ، وَكَانَتْ أَنْفَسَ وَأَغْلَى وَأَثْمَنَ مَا يَقْتَنِيهِ الْعَرَبُ ((لَأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا)).
هَلْ يَقُولُ أَحَدٌ: الْقَرِينَةُ الْحَالِّيَّةُ هُنَا، وَالْحَالِيَّةُ -أَيْضًا- تَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لِمَنْ كَانَ كَافِرًا فَأَسْلَمَ، فَإِنَّ الدَّعْوَةَ كَانَتْ لِيَهُودَ؟! ((انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ))، وَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ أَنْ تَدْعُوَهُمْ إِلَى هَذَا الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، ((انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فِيهِ))؛ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي شَرِيعَتِهِ الَّتِي جَاءَ بِهَا نَبِيُّهُ ﷺ.
((فَوَاللَّهِ! لَأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا)).. وَاحِدًا، وَلَوْ قَالَ: رَجُلًا لَأَدَّى، وَلَكِنْ تَأَمَّلْ فِي هَذَا التَّأْكِيدِ: ((رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ)).
فَأَعْظِمْ بِهِ مِنْ مَقَامٍ!
هَلْ يَقُولُ قَائِلٌ: نَعَمْ، وَكَذَلِكَ يَقُولُ مَنْ يَقُولُ إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا)).
مَقَامُ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ مَقَامٌ مُتَعَدٍّ، لَيْسَ بِمَقَامٍ لَازِمٍ، يَشْمَلُ الْمَرْءَ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ؛ يُصَلِّي، وَيَعْتَكِفُ، وَيَعْتَزِلُ الْخَلْقَ، يَكُفُّ عَنْهُمُ الشَّرَّ، وَلَا يُوَصِّلُ إِلَيْهِمُ الْخَيْرَ.
مَقَامُ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ مَقَامٌ مُتَعَدٍّ بِالْخَيْرِ إِلَى خَلْقِ اللهِ فِي أَرْضِ اللهِ.
وَظِيفَةُ الْمُرْسَلِينَ وَظِيفَةُ النَّبِيِّينَ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ الْأَمِينُ ﷺ.
أَفَبَعْدَ هَذَا تُفَرِّطُ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى رَبِّكَ؟!
فَادْعُ إِلَى اللهِ بِمَا تَعْلَمُهُ وَمَا أَنْتَ مِنْهُ عَلَى يَقِينٍ.
فَلَيْسَ الْعِلْمُ بِأَقْطَارِهِ مُحَصَّلًا عِنْدَ أَحَدٍ سِوَى مَا آتَى اللهُ نَبِيَّهُ ﷺ، وَإِنَّمَا مَا عَلِمْتَ يَقِينًا مِنْ غَيْرِ زَيْغٍ، مِنْ غَيْرِ وَهْمٍ، مِنْ غَيْرِ شَكٍّ، مِنْ غَيْرِ ظَنٍّ، مَا عَلِمْتَهُ مَا تَيَقَّنْتَ مِنْهُ فَبَلِّغْهُ: ((بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً))، كَمَا أَمَرَكُمْ نَبِيُّكُمْ ﷺ.
تَدْعُو إِلَى التَّوْحِيدِ وَنَبْذِ الشِّرْكِ، وَمُجَانَبَةِ الْمُشْرِكِينَ.
تَدْعُو إِلَى الصَّلَاةِ وَإِلَى إِتْمَامِهَا، وَإِقَامَتِهَا، وَعَدَمِ التَّخَلُّفِ عَنْهَا.
تَدْعُو إِلَى إِيتَاءِ الزَّكَاةِ.
تَدْعُو إِلَى الصِّيَامِ؛ صِيَامِ الْفَرْضِ، وَتَدُلُّ عَلَى النَّفْلِ.
تَدْعُو إِلَى الْحَجِّ وَإِلَى الْعُمْرَةِ.
تَدْعُو إِلَى الْبِرِّ، وَتَدْعُو إِلَى صِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَالْعَطْفِ عَلَى الْأَيْتَامِ.
تَدْعُو إِلَى اللهِ، فَمَا جَاءَ النَّبِيُّ إِلَّا بِالْخَيْرِ، وَمَا نَهَى إِلَّا عَنِ الشَّرِّ.
{وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا}، وَكُلُّ ذَلِكَ إِنَّمَا أُمِرَ بِهِ فِي مَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَلَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا لَهُ بِبَسْطِ الْيَدِ فِي قِتَالٍ، فَأَيُّ جِهَادٍ؟!
جِهَادُ الْحُجَّةِ، جِهَادُ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ يُخْبِرُ أَنَّكَ تُحَصِّلُ مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ مِثْلَ مَا أُعْطِيَ كُلُّ مَنْ تَبِعَ أَمْرَ اللهِ الَّذِي بَلَّغْتَهُ، وَأَمْرَ النَّبِيِّ الَّذِي وَصَّلْتَهُ ﷺ.
*الصَّبْرُ عَلَى الْأَذَى فِي سَبِيلِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ:
{أَدْعُو إِلَى اللهِ}: إِلَى كِتَابِهِ، سُنَّةِ نَبِيِّهِ، إِلَى قَالَ اللهُ، قَالَ الرَّسُولُ بِإِخْلَاصٍ وَرِفْقٍ وَصَبْرٍ وَحِلْمٍ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَفْعَلُ.
وَمَا أَكْثَرَ مَا أُوذِيَ ﷺ!
وَالدَّاعِي إِلَى اللهِ لَابُدَّ أَنْ يُؤْذَى كَمَا بَيَّنَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ الْمَجِيدِ: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1-3].
( أَلْ ) فِي (الْإِنْسَانِ) لِلِاسْتِغْرَاقِ، أَوْ لِلْجِنْسِ، وَالْمُؤَدَّى وَاحِدٌ، وَالْمُهِمُّ أَنَّ مَجْمُوعَ الْإِنْسَانِ بِجِنْسِهِ مُسْتَغْرِقًا فِي ذَلِكَ فِي خُسْرَانٍ، فِي هَلَكَةٍ وَبَوَارٍ وَحِطَّةٍ وَاتِّضَاعٍ، {إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ}، {إِلَّا}: وَاسْتَثْنَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَوْمًا لَهُمْ صِفَاتٌ: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا}: وَهُمُ الَّذِينَ عَلِمُوا الْحَقَّ بِدَلِيلِهِ، فَاتَّبَعُوهُ وَعَمِلُوا بِهِ، {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ}: وَدَعَوْا إِلَى ذَلِكَ، دَعَوُا النَّاسَ، وَاسْتَنْقَذُوهُمْ مِنَ الضَّلَالِ إِلَى الْهُدَى وَالرَّشَادِ، مِنَ الْفَسَادِ إِلَى الْهِدَايَةِ وَالسَّدَادِ، دَعَوُا النَّاسَ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، تَوَاصَوْا بِالْحَقِّ.
فَإِذَا فَعَلُوا وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ} [لقمان: 17]؛ فَلَابُدَّ إِذَا أَمَرَ وَنَهَى أَنْ يُصِيبَهُ مَا يُصِيبُهُ، فَوَصَّاهُ بِالصَّبْرِ كَمَا وَصَّى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَأَمَرَ نَبِيَّه ﷺ: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر: 7]، بَعْدَ أَنْ أَمَرَهُ بِالْإِنْذَارِ فِي مَطْلَعِ الْآيَاتِ: {قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر: 2].
ثُمَّ خَتَمَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}؛ لِأَنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ وَأَمَرْتَ النَّاسَ وَنَهَيْتَهُمْ فَسَيَقُولُونَ عَنْكَ: مَجْنُونٌ، وَكَاهِنٌ، وَسَاحِرٌ، وَمُخَرِّفٌ، وَتَأْتِي بِأُمُورٍ لَمْ يَأْتِ بِهَا مَنْ سَبَقَكَ، وَأَنْتَ بِدْعٌ فِي الْخَلْقِ، وَهَذَا الَّذِي جِئْتَ بِهِ لَا نَعْرِفُهُ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ آبَاؤُنَا الْأَقْدَمُونَ السَّابِقُونَ؛ يَعْنِي مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُهُمْ مِنَ الضَّلَالِ الْمُبِينِ وَالصِّرَاطِ غَيْرِ الْمُسْتَقِيمِ.
إِنْ دَعَوْتَ إِلَى اللهِ ضُرِبْتَ وَشُرِّدْتَ وَحُبِسْتَ، وَقَدْ كَانَ؛ فَأُدْخِلَ الشِّعْبَ ﷺ وَجَاعَ، وَجَاعَ مَعَهُ مَنْ جَاعَ، وَشُرِّدُوا، فَذَهَبُوا مُهَاجِرِينَ مَرَّةً وَمَرَّةً وَمَرَّةً، وَتَرَكَ دَارَهُ وَدَارَ أَبِيهِ، فَلَمَّا عَادَ قِيلَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! انْزِلْ فِي دَارِكَ بِمَكَّةَ)).
قَالَ: ((وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ أَوْ دُورٍ؟!)).
قَالَ: وَهَلْ بَقِيَ لَنَا مِنْ دَارٍ؟! ذَهَبَتْ أَدْرَاجَ الرِّيَاحِ.. ﷺ.
*الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ:
يَدْعُو إِلَى اللهِ بِمَا يَسْتَطِيعُ، وَبِالْحُسْنَى الَّتِي لَا أَحْسَنَ مِنْهَا: {وَجَادِلْهُم}: وَهَذَا هُوَ فِي الْمَقَامِ الْأَخِيرِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُجَادَلُ إِنْ كَانَ فِيهِ خَيْرٌ فَهُوَ يُوعَظُ، كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} الْحِكْمَةُ: الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَهِيَ السُّنَّةُ كَمَا فِي كِتَابِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَبِالطَّرِيقَةِ الْمُسْتَقِيمَةِ، وَوَضْعِ الشَّيْءِ فِي مَوْضِعِهِ، {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ}.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُجْدِيًا مُتَقَبَّلًا لِلْوَهْلَةِ الْأُولَى بَادِيَ الرَّأْيِ، وَوَجَدْتَ الْخَيْرَ هُنَالِكَ، وَهَذَا مِنْ كَيْفِيَّةِ الدَّعْوَةِ، وَمِنْ مَعْرِفَةِ حَالِ الْمَدْعُوِّ -أَيْضًا-؛ فَسَتَجِدُ هُنَالِكَ عَلَائِمَ الْخَيْرِ، وَتَجِدُ هُنَالِكَ مُنْتَفِيًا مُنْتَبِذًا مَقَاذِيرَ الشَّرِّ، وَحِينَئِذٍ تُقْبِلُ بِالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ تَرْغِيبًا وَتَرْهِيبًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ؛ أَصَرَّ الْمُعَانِدُ عَلَى الْجِدَالِ؛ فَلْيَكُنِ الْجِدَالُ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
{وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}: وَحَذَفَ الْمُفَضَّلَ عَلَيْهِ لِلتَّعْمِيمِ، يَعْنِي: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، لَا أَحْسَنَ مِنْهَا قَطُّ.
فَذَلِكَ سَبِيلُ نَبِيِّنَا ﷺ.
*الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ سَبِيلُ نَجَاةِ الْعَالَمِ:
فَادْعُوا إِلَى اللهِ -عِبَادَ اللهِ-، وَبَلِّغُوا دِينَ اللهِ كَمَا قَالَ نَبِيُّكُمْ ﷺ؛ حَتَّى يَخْرُجَ مُجْتَمَعُ الْإِنْسَانِ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ مِمَّا تَرَدَّى فِيهِ مِنَ الْهُوَّةِ الْهَابِطَةِ مِنْ هَذِهِ الْغَرَائِزِ الْمُنْفَلِتَةِ، وَالِانْهِيَارِ الْأَخْلَاقِيِّ الَّذِي أَشْفَى مِنْهُ الْعَالَمُ عَلَى خَرَابٍ مَاحِقٍ إِنْ لَمْ يَتَدَارَكْهُ رَبُّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهَذَا الدِّينِ الْحَقِّ يَحْمِلُهُ ثُلَّةٌ مُؤْمِنَةٌ وَعُصْبَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ وَالصِّدْقِ تُبَلِّغُهُ لِلنَّاسِ فِي الْأَرْضِ.
إِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ، فَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.
وَمَسْؤُولِيَّةِ الْمُسْلِمِ عَظِيمَةٌ، فَمَعَكَ طَوْقُ النَّجَاةِ، وَالنَّاسُ يَغْرَقُونَ تَحْتَ عَيْنِكَ وَأَنْتَ تَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَا تَمُدُّ لَهُمْ يَدًا بِعَوْنِ؟!!
دِينِ اللهِ يَسْتَنْقِذُ الْبَشَرِيَّةَ مِمَّا تَرَدَّتْ فِيهِ.
دِينُ اللهِ وَحْدَهُ يُنْقِذُ النَّاسَ فِي الْأَرْضِ مِمَّا بَلَغُوهُ مِنْ هَذَا الِانْحِطَاطِ الْهَابِطِ حَتَّى صَارُوا أَحَطَّ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَقْطَارِ، لَا يَعْرِفُونَ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُونَ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبُوهُ مِنْ هَوَاهُمْ.
دِينُ اللهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُبَلِّغُوهُ خَلْقَ اللهِ فِي أَرْضِ اللهِ عَلَى مِنْهَاجِ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ لِإِنْقَاذِ الْبَشَرِيَّةِ مِنْ دَمَارٍ تَبْدُو عَلَائِمُهُ، وَخَرَابٍ تَتَّضِحُ مَعَالِمُهُ.
((مِنْ مَعَالِمِ الْإِيجَابِيَّةِ:
التَّحْذِيرُ مِنَ الشِّرْكِ وَدَعْوَةُ النَّاسِ إِلَى التَّوْحِيدِ))
إِنَّ أَجَلَّ مَعَالِمِ الْإِيجَابِيَّةِ وَأَعْظَمَهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ: التَّحْذِيرُ مِنَ الشِّرْكِ وَدَعْوَةُ النَّاسِ إِلَى التَّوْحِيدِ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَيَّنَ لَنَا فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ الْكَرِيمِ ﷺ حَقَّهُ عَلَيْنَا؛ فَقَالَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23].
وَبَيَّنَ لَنَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هَذَا الْأَمْرَ الْعَظِيمَ فِي قَوْلِهِ -سُبْحَانَهُ-: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36].
فَهَذِهِ الْآيَاتُ وَكَثِيرٌ غَيْرُهَا بَيَّنَ فِيهَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هَذَا الْحَقَّ الْعَظِيمَ عَلَيْنَا.
وَأَمَّا النَّبِيُّ ﷺ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَوْحَى إِلَيْهِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وَنَطَقَ النَّبِيُّ ﷺ بِالْحَقِّ، وَأَقَامَ الْحُجَّةَ، وَبَلَّغَنَا نَبِيُّنَا ﷺ مُرَادَ رَبِّنَا مِنَّا، وَحَقَّهُ عَلَيْنَا، فَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {لَّا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولًا} [الإسراء: 22].
وَبَيَّنَ لَنَا النَّبِيُّ ﷺ كَمَا فِي حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الَّذِي أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي ((صَحِيحَيْهِمَا)) قَالَ: ((كُنْتُ رَدِيفَ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى حِمَارٍ فَقَالَ لِي: ((يَا مُعَاذُ! أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ، وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ؟)).
قُلْتُ: ((اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ)).
قَالَ: ((حَقُّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقَّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ أَلَّا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا)).
قُلْتُ: ((أَفَلَا أُبَشِّرُ النَّاسَ)).
قَالَ: ((لَا تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا)).
فَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عِنْدَ الْمَوْتِ؛ خَشْيَةَ كَتْمِ الْعِلْمِ.
*مَنْ حَقَّقَ التَّوْحِيدَ دَخَلَ الْجَنَّةَ:
وَلَمَّا بَيَّنَ لَنَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ الْكَرِيمِ ﷺ حَقَّهُ عَلَيْنَا وَالْغَايَةَ الَّتِي لِأَجْلِهَا خَلَقَنَا؛ بَيَّنَ لَنَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَضْلَ الْآتِي بِذَلِكَ الْأَمْرِ الَّذِي كُلِّفَ بِهِ، والَّذِي يُحَقِّقُ ذَلِكَ الْحَقَّ الَّذِي أَحَقَّهُ اللهُ عَلَيْنَا، فَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 82].
وَلَمَّا نَزَلَتْ شَقَّ ذَلِكَ وَصَعُبَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَجَاءُوا إِلَيْهِ فَقَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟)).
وَظَنُّوا أَنَّهُ أَرَادَ جِنْسَ الْمَعَاصِي.
فَقَالَ: ((أَلَمْ تَسْمَعُوا قَوْلَ الْعَبْدِ الصَّالِحِ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13])).
فَالَّذِينَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِشِرْكٍ أُولَئِكَ يُؤْتِيهِمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْأَمْنَ، وَهُمْ مُهْتَدُونَ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ يُخْبِرُنَا أَنَّ مَنْ شَهِدَ بِذَلِكَ وَحَقَّقَهُ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَمَلِ.
((مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَالْجَنَّةَ حَقٌّ، وَالنَّارَ حَقٌّ؛ أَدْخَلَهُ اللهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَمَلِ)).
وَبَيَّنَ لَنَا نَبِيُّنَا ﷺ: ((أَنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ يَبْتَغْي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ)).
وَأَخْبَرَنَا الرَّسُولُ ﷺ عَنْ رَبِّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((يَقُولُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: يَا ابْنَ آدَمَ! لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً)).
فَمَعَ التَّوْحِيدِ لَيْسَ هُنَالِكَ مِنْ ذَنْبٍ يَقُومُ، وَلَكِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يُقِيمُ الْمَوَازِينَ الْحَقَّ وَيَنْصِبُهَا لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَيُوَفِّي اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْمَظْلُومِينَ حُقُوقَهُمْ لَا مَحَالَةَ.
مَنْ حَقَّقَ التَّوْحِيدَ دَخَلَ الْجَنَّةَ.
وَبَيَّنَ لَنَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَقَامِ الْعَظِيمِ كَانَ قَانِتًا للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، مَائِلًا عَنِ الشِّرْكِ، مَائِلًا إِلَى التَّوْحِيدِ الْحَقِّ، وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 120].
وَبَيَّنَ لَنَا نَبِيُّنَا ﷺ: ((أَنَّ السَّبْعِينَ أَلْفًا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ هُمُ الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ، وَلَا يَكْتَوُونَ، وَلَا يَتَطَيَّرُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)).
*التَّحْذِيرُ مِنَ الشِّرْكِ وَخُطُورَتُهُ وَالْخَوْفُ مِنْهُ:
فَلَمَّا بَيَّنَ لَنَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّ مَنْ حَقَّقَ التَّوْحِيدَ، وَأَتَى بِهِ عَلَى النَّحْوِ الْمَرْضِيِّ عِنْدَ الْحَمِيدِ الْمَجِيدِ دَخَلَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا سَابِقَةِ عَذَابٍ؛ أَخْبَرَنَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ.
وَبَيَّنَتِ الشَّرِيعَةُ وُجُوبَ التَّوْحِيدِ وَفَضْلَهُ، وَالْحَثَّ عَلَيْهِ وَعَلَى تَكْمِيلِهِ، وَعَلَى التَّحَقُّقِ بِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَبَيَّنَتِ الْخَوْفَ مِنْ ضِدِّهِ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ الشِّرْكَ غَيْرَ مَغْفُورٍ أَبَدًا، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: 48].
وَأَخْبَرَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنَّ الْعِبَادَ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ يُحَقِّقُونَ التَّوْحِيدَ يَخَافُونَ مِنَ الشِّرْكِ.
وَهَذَا الْخَلِيلُ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- يَقُولُ: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35].
وَفِيهِ: بَيَانُ خُطُورَةِ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ، حَتَّى إِنَّ سَيِّدَ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ كَانَ يَخَافُ مِنَ الشِّرْكِ؛ فَوَجَبَ التَّأَسِّي بِهَؤُلَاءِ السَّادَةِ، وَنَحْنُ أَوْلَى بِالْخَوْفِ مِنْهُمْ.
يَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ}.
وَ(الْأَصْنَامُ): مَا نُحِتَ عَلَى صُورَةٍ؛ كَصُورَةِ إِنْسَانٍ أَوْ حَيَوَانٍ.
وَالْمُشْرِكُونَ كَانُوا أَقْسَامًا: مِنْهُمْ مَنْ يَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْبُدُ غَيْرَ الْأَصْنَامِ؛ كَالْحَجَرِ وَالْبَحْرِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَكُلُّهُمْ يَجْمَعُهُمْ صَرْفُ الْعِبَادَةِ لِغَيْرِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.
وَيُطْلَقُ عَلَى الصَّنَمِ: وَثَنٌ -أَيْضًا-.
وَبَيَّنَ لَنَا نَبِيُّنَا ﷺ أَنَّ أَخْوَفَ مَا يَخَافُ عَلَيْنَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ، فَقَالَ ﷺ: ((أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ)).
فَسُئِلَ عَنْهُ، قَالَ: ((الرِّيَاءُ)). أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ.
فَيَخْشَى عَلَيْنَا نَبِيُّنَا ﷺ وَيَخَافُ مِنَ الشِّرْكِ الْأَصْغَرِ وَهُوَ الرِّيَاءُ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ يُعَامِلُ النَّاسَ عَلَى حَسَبِ نِيَّاتِهِمْ، فَـ((مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللهُ -تَعَالَى- بِهِ)).
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِيمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ نِدًّا دَخَلَ النَّارَ)).
فَالشِّرْكُ يُنَافِي التَّوْحِيدَ؛ قَدْ يُنَافِي أَصْلَهُ فَيَكُونُ شِرْكًا أَكْبَرَ، وَقَدْ يُنَافِي كَمَالَهُ فَيَكُونُ -حِينَئِذٍ- شِرْكًا أَصْغَرَ يَخْدِشُ سَوَادَ حَدَقَةِ عَيْنِ التَّوْحِيدِ، وَلَا يَنْقُضُهُ، وَلَا يُنَافِي أَصْلَهُ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((مَنْ لَقِيَ اللهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَقِيَهُ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ)).
وَبَيَّنَ لَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي مَسْلَكِهِ مَعَ صَاحِبِ السِّرِّ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَهُوَ صَاحِبُ سِرِّ رَسُولِ اللهِ ﷺ، كَانَ النَّبِيُّ ﷺ قَدْ أَسَرَّ إِلَى حُذَيْفَةَ بِأَسْمَاءِ الْمُنَافِقِينَ، وَلَمْ يُعْلِمْ بِهِمْ أَحَدًا غَيْرَهُ، فَكَانَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إِذَا مَاتَ مَيِّتٌ نَظَرَ؛ فَإِنْ شَهِدَهُ حُذَيْفَةُ شَهِدَهُ -أَيْضًا-، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْهُ حُذَيْفَةُ لَمْ يَشْهَدْهُ عُمَرُ.
وَذَهَبَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إِلَى حُذَيْفَةَ صَاحِبِ السِّرِّ فَقَالَ: ((أَنْشُدُكَ اللهَ! هَلْ سَمَّانِي لَكَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مَعَ مَنْ سَمَّى مِنَ الْمُنَافِقِينَ؟)).
قَالَ حُذَيْفَةُ: ((اللهم لَا، وَلَا أُزَكِّي بَعْدَكَ أَحَدًا)).
فَعُمَرُ مَشْهُودٌ لَهُ بِالْجَنَّةِ، مَشْهُودٌ لَهُ بِالشَّهَادَةِ، وَهُوَ مَنْ هُوَ فِي دِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- وَيَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ النِّفَاقَ، وَأَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ ﷺ قَدْ ذَكَرَهُ لِحُذَيْفَةَ فِيمَنْ ذَكَرَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، فَيَأْتِي يُقْسِمُ عَلَيْهِ بِاللهِ: ((أَنْشُدُكَ اللهَ! هَلْ سَمَّانِي لَكَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مَعَ مَنْ سَمَّى مِنَ الْمُنَافِقِينَ؟)).
قَالَ حُذَيْفَةُ: ((لَا، وَلَا أُزَكِّي بَعْدَكَ أَحَدًا)).
وَعَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- قَالَ: ((أَدْرَكْتُ ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ، مَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ يَقُولُ إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ)).
ثَلَاثُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ أَدْرَكَهُمْ هَذَا التَّابِعِيُّ الْجَلِيلُ مَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَيَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ، وَمَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ يَقُولُ إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ.
*أَهَمِّيَّةُ دَعْوَةِ النَّاسِ إِلَى التَّوْحِيدِ:
فَمَنْ حَقَّقَ التَّوْحِيدَ حَقًّا وَصِدْقًا، وَخَافَ مِنَ الشِّرْكِ حَقًّا؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ دَاعِيًا إِلَى التَّوْحِيدِ، دَاعِيًا إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ.
{قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108].
فَبَيَّنَ لَنَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّ نَبِيَّنَا ﷺ دَاعٍ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى بَصِيرَةٍ، وَأَنَّ أَتْبَاعَهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَأَنَّ الَّذِينَ يَسِيرُونَ عَلَى نَهْجِهِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَالْأَصْفِيَاءِ كُلُّهُمْ يَدْعُونَ إِلَى دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَيُبَيِّنُونَ التَّوْحِيدَ لِخَلْقِ اللهِ أَجْمَعِينَ، وَيُحَذِّرُونَ النَّاسَ مِنَ الشِّرْكِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَمَّلَ نَفْسَهُ؛ بِأَنْ عَلِمَ وُجُوبَ التَّوْحِيدِ وَفَضْلَهُ، وَالْحَثَّ عَلَيْهِ وَعَلَى تَكْمِيلِهِ، وَتَحَقَّقَ بِالتَّوْحِيدِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَخَافَ مِنْ ضِدِّهِ وَهُوَ الشِّرْكُ؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَسْعَى فِي تَكْمِيلِ غَيْرِهِ بِالدَّعْوَةِ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ التَّوْحِيدُ حَتَّى يُكَمِّلَ الْعَبْدُ جَمِيعَ مَرَاتِبِهِ، ثُمَّ يَسْعَى فِي تَكْمِيلِ غَيْرِهِ.
وَهَذَا هُوَ طَرِيقُ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ؛ فَجَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ إِنَّمَا نَهَجُوا هَذَا النَّهْجَ، وَالَّذِينَ يَسْلُكُونَ طَرِيقَ الْأَنْبِيَاءِ، وَالَّذِينَ يَسِيرُونَ فِي طَرِيقِ الْأَنْبِيَاءِ، وَالَّذِينَ يَتْبَعُونَ سَيِّدَ الْأَنْبِيَاءِ ﷺ كُلُّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذِهِ الْوَظِيفَةَ إِنَّمَا نَاطَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِرِقَابِهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدَ نَبِيِّهِمْ ﷺ.
وَنَبِيُّنَا ﷺ لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ قَالَ لَهُ: ((إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ -وَفِي رِوَايَةٍ: إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللهَ-، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ)). هذا حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ.
وَفِيهِ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَيَّنَ أَنَّ أَوَّلَ مَا يُدْعَى إِلَيْهِ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، التَّوْحِيدُ الْحَقُّ، وَأَمَّا الَّذِينَ يَخْدَعُونَ النَّاسَ، وَيُهَوِّمُونَ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَخْبِطُونَ خَبْطَ الْعَشْوَاءِ هَاهُنَا وَهُنَاكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْعُوا النَّاسَ إِلَى هَذَا الْأَصْلِ الْأَصِيلِ الَّذِي لَا يُقْبَلُ لَهُمْ عَمَلٌ مِنْ دُونِهِ، وَالَّذِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقْبَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُمْ مِنْ عَمَلٍ يَتَقَرَّبُونَ إِلَى رَبِّهِمْ -جَلَّ وَعَلَا- بِهِ مَا لَمْ يَكُونُوا مُحَقِّقِينَ لَهُ.
هَذَا الْأَصْلُ الْأَصِيلُ -كَمَا تَرَى- فِي كَلَامِ النَّبِيِّ الْجَلِيلِ ﷺ هُوَ أَوَّلُ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُدْعَى إِلَيْهِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُحَقِّقَهُ الْمُسْلِمُ، وَأَنْ يَحْرِصَ عَلَيْهِ -كَمَا رَأَيْتَ- قَبْلَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَمَا هُنَالِكَ مِنْ فَرَائِضِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ -وَفِي رِوَايَةٍ: إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللهَ-، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ)).
فَقَدَّمَ النَّبِيُّ ﷺ مَا قَدَّمَهُ اللهُ، وَبَدَأَ النَّبِيُّ ﷺ بِمَا بَدَأَ بِهِ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-، {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36].
فَهَذَا الْأَمْرُ الْعَظِيمُ يَنْبَغِي أَنْ يَحْرِصَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُ، وَلَا يَكُونُ مُسْلِمًا حَقًّا وَصِدْقًا إِلَّا بِتَحْقِيقِهِ فِي نَفْسِهِ، وَإِلَّا بِتَحْقِيقِهِ فِي ذَاتِهِ، وَإِلَّا بِتَحْقِيقِهِ فِي ضَمِيرِهِ، وَإِلَّا بِتَحْقِيقِهِ فِي فُؤَادِهِ، وَإِلَّا بِتَحْقِيقِهِ فِي حَيَاتِهِ، وَإِلَّا بِتَحْقِيقِهِ فِي سُلُوكِهِ، وَإِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْهَاجَهُ فِي الْحَيَاةِ، عَلَيْهِ يَحْيَا وَعَلَيْهِ يَمُوتُ، وَعَلَيْهِ يُبْعَثُ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
مَنْ حَقَّقَ التَّوْحِيدَ فِي نَفْسِهِ حَقًّا وَصِدْقًا، فَكَمَّلَ بِذَلِكَ نَفْسَهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ سَاعِيًا فِي تَكْمِيلِ غَيْرِهِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَبْذُلَ الْمَجْهُودَ الْأَوْفَى مِنْ أَجْلِ أَنْ يُعَلِّمَ الْخَلْقَ التَّوْحِيدَ الَّذِي لِأَجْلِهِ خَلَقَهُمُ الْخَلَّاقُ الْعَظِيمُ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ بَيَّنَ لَنَا فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ أَنَّ أَوَّلَ مَا يُدْعَى إِلَيْهِ التَّوْحِيدُ، فَالَّذِينَ يَبْدَءُونَ الطَّرِيقَ مِنْ مُنْتَصَفِهِ، أَوْ يَنْظُرُونَ إِلَى الْحَقِّ مِنْ قَفَاهُ لَا يَتَوَصَّلُونَ إِلَى شَيْءٍ، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّوْحِيدِ قَبْلَ تَوْحِيدِ الْكَلِمَةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَوْحِيدِ الْكَلِمَةِ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَلَا تَكُونُ الْأُمَّةُ أُمَّةً لَهَا مُشَخِّصَاتُهَا وَلَهَا آلِيَّاتُ عَمَلِهَا بِسَعْيِهَا فِي أَرْضِ رَبِّهَا إِلَّا إِذَا حَقَّقَتِ التَّوْحِيدَ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ يَمْكُثُ هُنَالِكَ مَعَ الْجِيلِ الْمِثَالِيِّ مِنْ أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- عَشْرَ سَنَوَاتٍ يُعَلِّمُهُمْ هَذَا الْأَصْلَ الْأَصِيلَ، يُحَقِّقُونَهُ فِي الْحَيَاةِ، وَيُلَاطِمُونَ بِهِ أَمْوَاجَ الْكُفْرِ كَالصَّخْرَةِ الْعَاتِيَةِ الَّتِي يَنْحَطُّ عَنْهَا السَّيْلُ، وَمَا فُرِضَتِ الصَّلَاةُ عَلَى النَّحْوِ الْمَعْرُوفِ إِلَّا فِي لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ وَهِيَ السَّنَةُ الْعَاشِرَةُ مِنْ بَعْثَةِ الْمُخْتَارِ ﷺ، وَلَمْ يُفْرَضْ فِي مَكَّةَ قِتَالٌ، وَلَمْ يُفْرَضْ فِي مَكَّةَ زَكَاةٌ، وَلَمْ يُفْرَضْ فِي مَكَّةَ حَجٌّ، وَلَمْ يُفْرَضْ فِي مَكَّةَ صِيَامٌ، وَإِنَّمَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ مُؤَسِّسًا لِهَذَا الْجِيلِ؛ لِأَنَّهُ قَاعِدَةُ الْإِسْلَامِ الْعُظْمَى، وَهُوَ الْقُدْوَةُ الَّتِي تُحْتَذَى، وَهُوَ الْجِيلُ الْمِثَالِيُّ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ نُصْبَ الْأَعْيُنِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُحَقِّقَ النَّاسُ مَا حَقَّقَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَمَا حَقَّقُوا مَا حَقَّقُوهُ إِلَّا بِتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ فِي الْأَنْفُسِ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ يَبْعَثُهُمْ إِلَى الْآفَاقِ دُعَاةً إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَيُعَلِّمُهُمْ، ((فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَفِي رِوَايَةٍ: إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللهَ))، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ لِذَلِكَ فَابْنِ عَلَى هَذَا الْأَسَاسِ مَا هُنَالِكَ مِنَ الْبُنْيَانِ الشَّامِخِ الْعَالِي، وَإِلَّا فَيَنْبَغِي أَنْ تَتَوَقَّفَ عِنْدَ هَذَا الْحَدِّ حَتَّى يُطِيعُوكَ، أَوْ فَالسَّيْفُ يَفْصِلُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ كَمَا فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ خَيْبَرَ: ((لَأُعْطِيَنَّ هَذِهِ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ، يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ،))، فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ لَيْلَتَهُمْ -كُلَّهَا- أَيُّهُمْ يُعْطَاهَا)).
حَتَّى إِنَّ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((مَا أَحْبَبْتُ الْإِمَارَةَ إِلَّا يَوْمَئِذٍ)).
يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: إِذَا انْقَضَى سَوَادُ اللَّيْلِ، وَبَزَغَ بَيَاضُ النَّهَارِ أَعْطَيْتُ الرَّايَةَ فَجَعَلْتُهَا فِي يَدِ رَجُلٍ يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ.
فَهَذَا يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ الْآخِرَةِ فِي أَجْلَى مَجَالِي صُورَةِ الْإِيمَانِ الْحَقِّ، ثُمَّ يَفْتَحُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى يَدَيْهِ؛ فَهَذَا عِزٌّ بَاذِخٌ وَشَرَفٌ سَامٍ لَا يَطُولُهُ أَحَدٌ أَبَدًا، ((فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ أَيُّهُمْ يُعْطَاهَا)).
فَلَمَّا أَصْبَحُوا غَدَوْا عَلَى النَّبِيِّ ﷺ كُلُّهُمْ يَرْجُو أَنْ يُعْطَاهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَيْنَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ؟)).
قِيلَ: ((هُوَ -يَا رَسُولَ اللَّهِ- يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ)).
قَالَ: فَأَرْسَلُوا إلَيْهِ، فَأُتِيَ بِهِ، فَبَصَقَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ في عَيْنَيْهِ وَدَعَا لَهُ، فَبَرِأَ حَتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ، فَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ، فَقالَ عَلِيٌّ: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! أُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا؟)).
فَقَالَ: ((انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإسْلَامِ)).
فَهَذَا أَوَّلُ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُدْعَى إِلَيْهِ، وَهَذَا أَوَّلُ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُؤَسَّسَ فِي طَرِيقِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، ((وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فِيهِ -يَعْنِي: فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ- فَوَاللَّهِ! لَأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ)).
فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ شَرَفَ الدَّعْوَةِ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَفَضْلَ الدَّعْوَةِ إِلَى تَوْحِيدِ رَبِّ الْعَالَمِينَ -سُبْحَانَهُ-، وَأَنَّ الَّذِي آتَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ التَّوْحِيدَ وَعَرَفَ قَدْرَهُ، وَتَحَقَّقَ بِهِ فِي ذَاتِهِ وَنَفْسِهِ وَسُلُوكِهِ وَمِنْهَاجِهِ؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ حَتْمًا سَاعِيًا إِلَى تَكْمِيلِ غَيْرِهِ بِهَذَا التَّوْحِيدِ الصَّحِيحِ الَّذِي آتَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِيَّاهُ.
وَأَمَّا أَنْ يَظَلَّ الْمَرْءُ خَابِطًا فِي أَوْدِيَةِ الشِّرْكِ يَنْضَحُ بِهَا لِسَانُهُ مِنْ قَلْبِهِ، ثُمَّ تَنْسَرِحُ عَلَى جَوَارِحِهِ، فَلَا يَبِينُ لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْهَاجٌ يَسِيرُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُتَخَبِّطٌ سَائِرٌ بِغَيْرِ هَدَفٍ كَالنَّبَاتِ الطَّافِي، الْحَيَاةُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَسْتَقِيمَ هَكَذَا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ لَهَا قِيمَةٌ عَلَى هَذَا النَّحْوِ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَعْرِفَ الْإِنْسَانُ قِيمَةَ الْحَيَاةِ حَتَّى يَعْرِفَ قِيمَةَ هَذَا التَّوْحِيدِ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ سَبَبَ الْحَيَاةِ، وَالَّذِي جَعَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هَدَفَ الْحَيَاةِ، وَالَّذِي جَعَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ دِينَ الْأَنْبِيَاءِ جَمِيعًا، كُلُّهُمْ يَقُولُ لِقَوْمِهِ: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ} [هود: 84].
فَمَا مِنْ نَبِيٍّ أَرْسَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَلَا مِنْ رَسُولٍ نَبَّأَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَتَى قَوْمَهُ مَبْعُوثًا إِلَيْهِمْ إِلَّا وَيَبْدَأُ الطَّرِيقَ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِهَذَا الْأَمْرِ الْمِفْصَلِيِّ؛ لِأَنَّهُ عَلَى رَأْسِ الطَّرِيقِ لَا بُدَّ أَنْ تَبِينَ الْغَايَةُ وَلَا بُدَّ أَنْ تَتَّضِحَ السُّبُلُ، فَيَقُولُ كُلُّ نَبِيٍّ لِقَوْمِهِ: قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ ﷺ.
*الْكِفَايَةُ مِنَ اللهِ عَلَى قَدْرِ تَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ وَالْعُبُودِيَّةِ:
وَالْمَسَاكِينُ الَّذِينَ لَمْ يُحَقِّقُوا التَّوْحِيدَ -نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْنَا وَعَلَى الْعَالَمِ كُلِّهِ بِتَوْحِيدِ رَبِّ الْعَبِيدِ- الْمَسَاكِينُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّذِينَ لَمْ يُحَقِّقُوا التَّوْحِيدَ تَنُوشُ قُلُوبَهُمْ سِهَامُ الشِّرْكِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَلَا يَسْتَقِرُّونَ عَلَى قَرَارٍ، فَيَا للهِ كَمْ مِنْ حَجْمِ الِاضْطِرَابِ الَّذِي يُعَانُونَ مِنْهُ!
وَكَمْ مِنْ حَجْمِ الْقَلَقِ الَّذِي يَطْحَنُهُمْ بِرَحَاهُ فِي الصَّبَاحِ وَفِي الْمَسَاءِ وَبَيْنَ ذَلِكَ!
وَأَمَّا الْمُوَحِّدُونَ فَمُسْتَقِرُّونَ عَلَى مَنْهَجِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصِرَاطِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ ﷺ؛ لِأَنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- جَعَلَ تَحْقِيقَ الْعُبُودِيَّةِ لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ سَبَبًا لِلْكِفَايَةِ، فَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36].
بَلَى كَافٍ.
وَيَقُولُ الْعُلَمَاءُ -عَلَيْهِمُ الرَّحْمَةُ-: عَلَى قَدْرِ تَحْقِيقِ الْعُبُودِيَّةِ تَأْتِي الْكِفَايَةُ لِلْعَابِدِ الْحَقِّ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
فَإِنْ أَتَى بِالْعُبُودِيَّةِ الْكَامِلَةِ آتَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ كِفَايَةً كَامِلَةً، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَنَالَهُ بَطْشُ بَاطِشٍ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُصِيبَهُ سَهْمُ زَائِغٍ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَحُطَّ عَلَى قَلْبِهِ وَلَا بِسَاحَتِهِ مَكْرُ مَاكِرٍ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي حِيَاطَةٍ وَحِفْظٍ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَمَنْ كَانَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَعَهُ فَمَنْ يَكُونُ عَلَيْهِ؟!!
{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}.
بَلَى كَافٍ.
وَلِذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ -وَهُوَ سَيِّدُ الْمُوَحِّدِينَ- مُحَقِّقًا لِهَذَا الْأَمْرِ عَلَى النَّحْوِ الْمَعْرُوفِ لِلنَّاسِ أَجْمَعِينَ، وَلَمَّا جَاءَتِ الدَّفْعَةُ الْحَيَوَانِيَّةُ الْأُولَى، وَانْفَعَلَتِ الْغَرِيزَةُ بِحُبِّ الْبَقَاءِ فَانْكَشَفَ الْأَصْحَابُ عَنْ رَسُولِ اللهِ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ؛ إِذْ خَرَجُوا مِنَ الْمَضِيقِ، وَكَانَتْ هَوَازِنُ قَدْ أَعَدَّتِ الْكَمِينَ هُنَالِكَ، فَلَمَّا أَنْ جَاءَتِ الدَّفْعَةُ الْحَيَوَانِيَّةُ الْأُولَى، وَعَمِلَتْ غَرِيزَةُ حُبِّ الْبَقَاءِ فِي النَّفْسِ عَمَلَهَا؛ وَلَّى الصَّحَابَةُ مُدْبِرِينَ، إِلَّا كَوْكَبَةً وَقَفَتْ حَوْلَ النَّبِيِّ ﷺ، وَأَمَّا هُوَ فَرَجُلٌ فِي مُوَاجَهَةِ الْعَالَمِ جَمِيعِهِ، يَقُولُ وَهُوَ ثَابِتٌ لَا يَتَحَلْحَلُ: ((أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ.. أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ)) ﷺ.
مَنْ كَانَ اللهُ مَعَهُ فَمَنْ يَكُونُ عَلَيْهِ؟!!
*تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ سَبِيلُ السَّعَادَةِ فِي الْحَيَاةِ:
حَقِّقِ التَّوْحِيدَ تَجِدْ مَعْنَى الْحَيَاةِ.
وَأَغْفِلِ التَّوْحِيدَ يَسِرِ الْأَبْعَدُ كَالْحِمَارِ.. لَيْسَ لَهُ مِنْ هَدَفٍ، وَلَيْسَ لَهُ مِنْ غَايَةٍ.
وَأَزِيدُكَ: إِنَّ مَنْ لَمْ يُحَقِّقِ التَّوْحِيدَ لَا يَجِدُ لَذَّةً لِشَيْءٍ فِي الْحَيَاةِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا خُلِقَ لِغَايَةٍ، وَالْحَيَوَانَاتُ خُلِقَتْ لِغَايَةٍ، فَالْحَيَوَانَاتُ تَأْكُلُ وَتَخْدُمُ الْإِنْسَانَ، وَتَتَمَتَّعُ، وَلَكِنَّهَا تُحَقِّقُ الْغَايَةَ مِنْ خَلْقِهَا، فَلَا شَكَّ أَنَّ لَهَا شَأْنَهَا.
وَأَمَّا الْإِنْسَانُ فَلِأَجْلِ أَيِّ شَيْءٍ خُلِقَ؟ إِنْ تَرَدَّى فَنَزَلَ عَنِ الْمَنْزِلَةِ الَّتِي أَنْزَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهَا، وَأَكْرَمَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَا، وَنَزَلَ إِلَى مَصَافِّ الْحَيَوَانَاتِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُشَارِكَ الْحَيَوَانَاتِ أُنْسَهَا لِتَحْقِيقِ مَا خَلَقَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهَا مِنْ هَذِهِ الْوَظِيفَةِ الَّتِي تُحَقِّقُهَا فِي دُنْيَا رَبِّهَا، وَأَمَّا هَذَا الْإِنْسَانُ فَأَيَّ شَيْءٍ يَعْمَلُ هُنَاكَ فِي مَصَافِّ الْحَيَوَانَاتِ، بَاحِثًا عَنِ اللَّذَّاتِ، وَمُقْتَنِصًا لِلشَّهَوَاتِ، أَيَّ شَيْءٍ يَفْعَلُ هَذَا الْإِنْسَانُ الَّذِي انْحَطَّ، وَالَّذِي تَرَدَّى، وَالَّذِي هَوَى إِلَى الْحَضِيضِ، وَمَكَانُهُ هُنَالِكَ يَعْبُدُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَيَسُوسُ الدُّنْيَا بِالدِّينِ، مِنْ أَجْلِ أَنْ يُحَقِّقَ التَّوْحِيدَ فِي أَرْضِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
*الدَّعْوَةُ إِلَى التَّوْحِيدِ سَبِيلُ اسْتِقْرَارِ الْعَالَمِ:
وَأَنْ تَكُونَ الدَّعْوَةُ إِلَى دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قَائِمَةً عَلَى مَا أَرَادَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْ تَقُومَ عَلَيْهِ، فَنَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ بِهِ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، نَبْدَأُ بِالْأَمْرِ الْأَجَلِّ، بِالْأَمْرِ الْأَعْظَمِ، بِمَا خَلَقَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ، نَعْرِفُهُ، وَنَحْذِقُهُ مَعْرِفَةً، وَنَتَفَاعَلُ بِهِ وِجْدَانًا، وَتَنْطَبِقُ عَلَيْهِ الْقُلُوبُ، وَتَسِيرُ بِهِ الدِّمَاءُ فِي الْعُرُوقِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُخَالِطَ الْخَلَايَا حَتَّى تَنْبِضَ بِهِ الْأَعْضَاءُ، وَتَنْبِضَ بِهِ الْقُلُوبُ فِي الْحَنَايَا.
فَهَذَا التَّوْحِيدُ نُحَقِّقُهُ، ثُمَّ تَتَفَاعَلُ بِهِ فِي أَرْضِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَنَدْعُو إِلَيْهِ؛ تَسْتَقِيمُ الْحَيَاةُ، وَعَلَى قَدْرِ طَاعَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَكُونُ الْأُنْسُ بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَحِينَئِذٍ تَنْزِلُ السَّكِينَةُ عَلَى هَذَا الْمُجْتَمَعِ الْإِنْسَانِيِّ الْعَالَمِيِّ الْبَائِسِ عِنْدَمَا يَسِيرُ فِي طَرِيقِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى نَهْجِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ ﷺ.
أَسْأَلُ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ- أَنْ يُحَقِّقَنَا بِالتَّوْحِيدِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَأَنْ يَجْعَلَنَا مِمَّنْ يَدْعُونَ إِلَيْهِ عَلَى بَصِيرَةٍ عَلَى قَدَمِ نَبِيِّهِمْ مُحَمَّدٍ ﷺ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
المصدر: الْإِيجَابِيَّةُ