الْقُوَّةُ وَالثَّبَاتُ فِي مُوَاجَهَةِ التَّحَدِّيَاتِ

الْقُوَّةُ وَالثَّبَاتُ فِي مُوَاجَهَةِ التَّحَدِّيَاتِ

((الْقُوَّةُ وَالثَّبَاتُ فِي مُوَاجَهَةِ التَّحَدِّيَاتِ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((دِينُ اللهِ مُحَارَبٌ، وَلَكِنَّهُ دِينٌ مَنْصُورٌ عَزِيزٌ))

فَإِنَّ الْإِسْلَامَ -الَّذِي ارْتَضَاهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِخَلْقِهِ دِينًا- مَنْصُورٌ عَزِيزٌ غَالِبٌ، حَفِظَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَلَا يَلْحَقُهُ زِيَادَةٌ وَلَا نُقْصَانٌ، وَلَا يُدْرِكُهُ تَبْدِيلٌ وَلَا تَحْرِيفٌ؛ {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].

وَلَا يُخْشَى عَلَيْهِ أَنْ تَلْحَقَهُ هَزِيمَةٌ أَوْ يَحُطَّ بِسَاحَتِهِ انْكِسَارٌ، وَإِنَّمَا يُخْشَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَقُومُوا بِحَقِّ اللهِ فِيهِ.

وَدِينُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَزِيزٌ غَالِبٌ مَنْصُورٌ، وَأَهْلُهُ مُمْتَحَنُونَ، وَالْحَقُّ مَنْصُورٌ وَمُمْتَحَنٌ، فَلَا تَعْجَبْ فَهَذِهِ سُنَّةُ الرَّحْمَنِ.

فَدِينُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الَّذِي هُوَ دِينُهُ، هُوَ -جَلَّ وَعَلَا- حَافِظُهُ، وَهُوَ نَاصِرُهُ، وَهُوَ مَنْصُورٌ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، وَبِالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ، لَا يُمْكِنُ أَنْ تُدْرِكَهُ هَزِيمَةٌ، وَلَا أَنْ يَلْحَقَهُ نُقْصَانٌ، وَإِنَّمَا يُخْشَى عَلَى مَنِ انْتَمَى إِلَيْهِ، وَانْتَسَبَ إِلَى حَقِيقَتِهِ إِذَا لَمْ يَقُمْ بِذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَرْجُوِّ مِنْهُ أَنْ يَأْتِيَهُ مَا يَأْتِي مِمَّا يَلْحَقُهُ مِنْ سُنَّةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي خَلْقِهِ {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38].

وقد بَيَّنَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّ هَذَا الدِّينَ مُحَارَبٌ مِنَ اليَومِ الأَوَّلِ {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة: 105].

وَقَدْ كَانُوا مُشْفِقِينَ مِنْ نُزُولِ الْخَيْرِ وَحْيًا عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَكَانُوا فِي مَا كَانُوا فِيهِ مِنْ ضِيقٍ وَضَنْكٍ وَعَنَتٍ يقولون: هَلْ أَرْسَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- نَبِيَّ الْأُمِّيِّينَ، وَبَعَثَ مُحَمَّدًا الْأَمِينَ ﷺ فِي الْأُمَّةِ الْأُمِّيَّةِ الَّتِي لَا تَكْتُبُ وَلَا تَحْسِبُ؟!

وَحَارَبُوا دِينَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِكُلِّ مَا أُوتُوا مِنْ مَكْرٍ وَخِدَاعٍ، وَبِكُلِّ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ تَكْذِيبٍ، وَتَرْهِيبٍ وَتَرْغِيبٍ، وَتَحْرِيفٍ وَتَزْيِيفٍ، وَلَمْ يَبْلُغُوا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا؛ فَدِينُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَزِيزٌ غَالِبٌ مَنْصُورٌ.

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال: 36].

فَبَيَّنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- حَالَ الْكَافِرِينَ، وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ سَيَكُونُ هَذَا دَأْبَهُمْ أَبَدًا، يَجْمَعُونَ مَا يَجْمَعُونَ مِنْ عُدَّتِهِمْ وَعَتَادِهِمْ لِحَرْبِ الدِّينِ وَمُحَارَبَةِ الْمُسْلِمِينَ.

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}: لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ حَالًا وَمَقَالًا، لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِتَأْلِيفِ الْكُتُبِ، وَإِشَاعَةِ الدِّعَايَاتِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلِفِتْنَةِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ دِينِهِمْ، وَلِبَثِّ الْفَاحِشَةِ بَيْنَ أَبْنَاءِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، وَمُحَارَبَةِ دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالْعُدَّةِ وَالْعَتَادِ وَالسِّلَاحِ، وَبِالدِّعَايَةِ الْمُغْرِضَةِ، وَالْوِشَايَةِ الْكَاذِبَةِ، يَبْذُلُونَ مَا يَبْذُلُونَ مِنْ طَاقَاتِهِمْ لِحَرْبِ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}: وَبَشَّرَهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالسُّوأَى دُنْيَا وَآخِرَةً {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً}: لِمَنْ عَاشَ مِنْهُمْ وَرَأَى خَيْبَةَ الْمَسْعَى، وَلِمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ سَيُدْخِلُهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- النَّارَ تَلَظَّى.

{فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ}: وَهَاهُنَا نَلْحَظُ -وَيَجِبُ أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَيْهِ أَهْلُ الْإِيمَانِ- الْعَطْفَ بِـ(ثُمَّ)؛ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَجْرَى هَذَا الْقَوْلَ عَلَى سُنَنٍ قَدَّرَهَا، وَسُنَنُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْكَوْنِيَّةُ لَا تَتَخَلَّفُ أَبَدًا.

{فَسَيُنْفِقُونَهَا}: فَعَقَّبَ بِـ(الْفَاءِ)؛ لِبَيَانِ حِرْصِهِمْ عَلَى سِعَايَتِهِمْ مِنْ أَجْلِ حَرْبِ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.

وَقَدْ بَيَّنَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ بِأَمْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَمَا جَاءَ بِذَلِكَ نَبِيُّهُ ﷺ، وَأَنْذَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مُتَوَعِّدًا مُتَهَدِّدًا الْمُفَرِّطِينَ الَّذِينَ لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى السُّنَنِ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي كَوْنِهِ، وَالَّذِينَ لَا يَفْصِلُونَ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَيَجْعَلُونَ مَا لِلْإِسْلَامِ مِنْ نَصْرٍ فِي ذَاتِهِ نَصْرًا لِلْمُسْلِمِينَ وَلَوْ لَمْ يَتَمَسَّكُوا بِالدِّينِ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِسُنَنِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَلِطَبَائِعِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي كَوْنِهِ.

{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38].

فَبَيَّنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- حَالَ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ التَّوَلِّي عَنْ دِينِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، عَنْ تَوْحِيدِ رَبِّهِمْ، وَعَنِ اتِّبَاعِ سُنَّةِ نَبِيِّهِمْ ﷺ.

وَأَخْبَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- -وَهُوَ الْغَنِيُّ عَنِ الْعَالَمِينَ- أَنَّهُ فِي حَالِ التَّوَلِّي عَنِ الدِّينِ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- -وَهُوَ الْعَزِيزُ الَّذِي لَا يُغْلَبُ، وَهُوَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الْقَهَّارُ الَّذِي لَا يُغَالَبُ- أَنَّهُ يَسْتَبْدِلُ قَوْمًا غَيْرَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَوَلَّوْا، ثُمَّ لَا يَجْعَلُهُمْ أَمْثَالَهُمْ، بَلْ يَتَمَسَّكُونَ بِدِينِ رَبِّهِمْ، وَيَرْفَعُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الذُّلَّ عَنْهُمْ، وَيَرْفَعُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْمَذَلَّةَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَعَنْ دِيَارِهِمْ، وَيَنْصُرُهُمُ اللهُ نَصْرًا عَزِيزًا.

وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّ الْكَافِرِينَ يَمْكُرُونَ لِهَدْمِ هَذَا الدِّينِ مَكْرَهُمْ، وَبَيَّنَ أَنَّ عَاقِبَةَ أَمْرِهِمْ إِلَى الْبَوَارِ، وَأَنَّهُمْ لَا يُحَصِّلُونَ مِمَّا أَرَادُوهُ شَيْئًا، وَإِنَّمَا يَعُودُونَ بِمِلْءِ قَبْضَةٍ مِنْ ذُبَابٍ؛ بَلْ وَلَا قَبْضَةٍ مِنْ تُرَابٍ، فَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30].

وَقَدْ حَاوَلُوا مُنْذُ جَاءَ النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يَهْدِمُوا مَبَادِئَ هَذَا الدِّينِ، وَسَعَوْا فِي ذَلِكَ سَعْيَهُمْ، وَجَعَلُوا ذَلِكَ مَبْنِيًّا عَلَى أَمْرَيْنِ: فَحَارَبُوا الدَّاعِيَ، وَحَارَبُوا الدَّعْوَةَ.

حَارَبُوا النَّبِيَّ ﷺ وَآذَوْهُ، وَنَعَتُوهُ بِكُلِّ نَعْتٍ لَا يَلِيقُ بِهِ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ بَرٌّ رَاشِدٌ ﷺ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ -وَلَنْ يَكُونَ- فِي مِثْلِ عَقْلِ النَّبِيِّ الْمَأْمُونِ ﷺ، وَمَعَ ذَلِكَ فَجَرَ الْكُفَّارُ فِي الْخُصُومَةِ مَعَهُ، فَوَصَفُوهُ بِالْجُنُونِ وَهُوَ سَيِّدُ الْعُقَلَاءِ ﷺ.

وَحَاوَلُوا أَنْ يَقْتُلُوا النَّبِيَّ ﷺ بَعْدَمَا آذَوْهُ مَا آذَوْهُ، وَأُوذِيَ أَتْبَاعُهُ، وَأَشَاعَ الْمُشْرِكُونَ الْإِشَاعَاتِ، وَحَارَبُوا النَّبِيَّ ﷺ، وَمَنْ أَسْلَمَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قَلْبَهُ وَرُوحَهُ وَجَسَدَهُ.

وَوَقَعَ التَّجْوِيعُ وَالِاضْطِهَادُ، وَوَقَعَ التَّعْذِيبُ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّ بِدِينِهِ فِي أَرْضِ اللهِ الْوَاسِعَةِ، وَيُتَتَبَّعُ الَّذِينَ فَرُّوا بِدِينِهِمْ مُهَاجِرِينَ، وَتَذْهَبُ الْوُفُودُ إِلَى مَنْ هُنَالِكَ مِنَ الْمُلُوكِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُرَدُّوا أَوْ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُقَتَّلُوا.

وَلَكِنْ يَنْصُرُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ دِينَهُ، وَيُعْلِي اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَدْرَ مَنْ تَمَسَّكَ بِهِ، وَالدِّينُ مَنْصُورٌ، وَمُمْتَحَنٌ فَلَا تَعْجَبْ فَهَذِهِ سُنَّةُ الرَّحْمَنِ، أَلَمْ أَقُلْ لَكَ؟!

((الْقُوَّةُ وَالثَّبَاتُ فِي مُوَاجَهَةِ التَّحَدِّيَاتِ))

مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ: أَنَّ أُمَّتَنَا الْإِسْلَامِيَّةَ تُوَاجِهُ هَذِهِ الْأَيَّامَ تَحَدِّيَاتٍ قَوِيَّةً تُحَاوِلُ النَّيْلَ مِنْ دِينِهَا وَعَقِيدَتِهَا، وَهُوِيَّتِهَا، وَأَمْنِهَا وَاسْتِقْرَارِهَا، مِمَّا يَتَطَلَّبُ تَوْحِيدَ صَفِّهَا فِي مُوَاجَهَةِ تِلْكَ التَّحَدِّيَاتِ.

وَالْمُؤْمِنُ الْحَقِيقِيُّ يُوَاجِهُ التَّحَدِّيَاتِ بِعَقِيدَةٍ مُسْتَقِيمَةٍ رَاسِخَةٍ، وَبِقَلْبٍ قَوِيٍّ ثَابِتٍ لَا تُزَعْزِعُهُ الْمِحَنُ؛ حَيْثُ يَقُولُ الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200].

((حَضَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا يُوصِلُهُمْ إِلَى الْفَلَاحِ، وَهُوَ: الْفَوْزُ بِالسَّعَادَةِ وَالنَّجَاحِ، وَأَنَّ الطَّرِيقَ الْمُوصِلَ إِلَى ذَلِكَ لُزُومُ الصَّبْرِ الَّذِي هُوَ: حَبْسُ النَّفْسِ عَلَى مَا تَكْرَهُهُ؛ مِنْ تَرْكِ الْمَعَاصِي، وَمِنَ الصَّبْرِ عَلَى الْمَصَائِبِ، وَعَلَى الْأَوَامِرِ الثَّقِيلَةِ عَلَى النُّفُوسِ، فَأَمَرَهُمْ بِالصَّبْرِ عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ.

وَالْمُصَابَرَةُ: هِيَ الْمُلَازَمَةُ وَالِاسْتِمْرَارُ عَلَى ذَلِكَ عَلَى الدَّوَامِ، وَمُقَاوَمَةُ الْأَعْدَاءِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ.

وَالْمُرَابَطَةُ: وَهِيَ لُزُومُ الْمَحَلِّ الَّذِي يُخَافُ مِنْ وُصُولِ الْعَدُوِّ مِنْهُ، وَأَنْ يُرَاقِبُوا أَعْدَاءَهُمْ، وَيَمْنَعُوهُمْ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى مَقَاصِدِهِمْ.

{لَعَلَّهُمْ يُفْلِحُونَ}: يَفُوزُونَ بِالْمَحْبُوبِ الدِّينِيِّ وَالدُّنْيَوِيِّ وَالْأُخْرَوِيِّ، وَيَنْجُونَ مِنَ الْمَكْرُوهِ كَذَلِكَ.

فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى الْفَلَاحِ بِدُونِ الصَّبْرِ وَالْمُصَابَرَةِ وَالْمُرَابَطَةِ الْمَذْكُورَاتِ، فَلَمْ يُفْلِحْ مَنْ أَفْلَحَ إِلَّا بِهَا، وَلَمْ يَفُتْ أَحَدًا الْفَلَاحُ إِلَّا بِالْإِخْلَالِ بِهَا أَوْ بِبَعْضِهَا)).

 وَالنَّبِيُّ ﷺ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ))، وَالْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي ((الصَّحِيحِ))، وَالْإِمَامُ ابْنُ مَاجَهْ فِي ((سُنَنِهِ)) بِسَنَدِهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النِّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ كَانَ كَذَا وَكَذَا -يَعْنِي: لَوْ كَانَ كَذَا لَكَانَ كَذَا وَكَذَا- وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ)).

وَالْعُلَمَاءُ -عَلَيْهِمُ الرَّحْمَةُ- وَمِنْهُمُ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- عِنْدَ تَعَرُّضِهِ لِشَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ، ذَكَرَ أَنَّ الْقُوَّةَ الَّتِي ذَكَرَهَا النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ إِنَّمَا هِيَ قُوَّةُ الْقَلْبِ، وَقُوَّةُ الرُّوحِ، وَعَزِيمَةُ النَّفْسِ، فَهِيَ الَّتِي تَدْفَعُ الْمَرْءَ فِي الْجِلَادِ عِنْدَ الْجِهَادِ لِأَنْ يَكُونَ سَابِقًا فِي مَوْطِنِ الْمَوْتِ، تَنُوشُهُ الرِّمَاحُ، وَتُمَزِّقُهُ السُّيُوفُ، وَلَا يَتَأَخَّرُ، وَلَا يَنْكُصُ عَلَى عَقِبَيْهِ.

وَلَكِنَّ جَمْهَرَةً غَالِبَةً مِنْ عُلَمَائِنَا -عَلَيْهِمُ الرَّحْمَةُ- أَخَذُوا بِالْإِطْلَاقِ: ((الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ)): قَوِيٌّ فِي بَدَنِهِ، قَوِيٌّ فِي إِيمَانِهِ، قَوِيٌّ فِي صِحَّتِهِ، قَوِيٌّ فِي يَقِينِهِ.

فَالْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ ثِقَتُهُ فِي اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- ثُمَّ فِي نَفْسِهِ كَبِيرَةٌ؛ لِأَنَّ لَهُ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا: إِمَّا تَحْقِيقُ مَا يَصْبُو إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، وَإِمَّا تَحْقِيقُ مَا يُرِيدُهُ مُدَّخَرًا عِنْدَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَوِ الْأَمْرَيْنِ كِلَيْهِمَا؛ حَيْثُ يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة: 52].

((أَيْ: قُلْ لِلْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمُ الدَّوَائِرَ: أَيُّ شَيْءٍ تَرَبَّصُونَ بِنَا؟! فَإِنَّكُمْ لَا تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا أَمْرًا فِيهِ غَايَةُ نَفْعِنَا، وَهُوَ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ؛ إِمَّا الظَّفَرُ بِالْأَعْدَاءِ وَالنَّصْرُ عَلَيْهِمْ، وَنَيْلُ الثَّوَابِ الْأُخْرَوِيِّ وَالدُّنْيَوِيِّ، وَإِمَّا الشَّهَادَةُ الَّتِي هِيَ مِنْ أَعْلَى دَرَجَاتِ الْخَلْقِ، وَأَرْفَعِ الْمَنَازِلِ عِنْدَ اللَّهِ)).

كَمَا أَنَّهُ يُدْرِكُ أَنَّ الْحَيَاةَ قَائِمَةٌ عَلَى الِامْتِحَانِ وَالِابْتِلَاءِ؛ حَيْثُ يَقُولُ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ-: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31].

وَلَنُعَامِلَنَّكُمْ -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ مُعَامَلَةَ الْمُخْتَبِرِ لَكُمْ، وَنَأْمُرَكُمْ بِالْجِهَادِ حَتَّى يَتَمَيَّزَ الْمُجَاهِدُونَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ بِحَسَبِ دَرَجَاتِهِمْ وَمَرَاتِبِهِمْ مِنْ غَيْرِ الْمُجَاهِدِينَ، وَيَتَبَيَّنَ الصَّابِرُونَ عَلَى اخْتِلَافِ دَرَجَاتِهِمْ وَمَرَاتِبِهِمْ مِنْ غَيْرِ الصَّابِرِينَ ذَوِي الْهَلَعِ وَالْجَزَعِ.

وَنُظْهِرَ أَخْبَارَكُمْ وَنَكْشِفَهَا؛ لِيَتَبَيَّنَ مَنْ يَأْبَى الْقِتَالَ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى الْجِهَادِ.

{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا ۚ وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186].

وَاللهِ لَتُخْتَبَرُنَّ -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- فَتَقَعَ عَلَيْكُمُ الْمِحَنُ فِي الْأَمْوَالِ بِالنُّقْصَانِ مِنْهَا، وَبِالْجَوَائِحِ تَنْزِلُ بِهَا، وَفِي الْأُنْفُسِ بِالْمَصَائِبِ وَالْأَمْرَاضِ وَالْقَتْلِ وَفَقْدِ الْأَقَارِبِ وَالْأَحِبَّةِ، وَذَلِكَ حَتَّى يَتَمَيَّزَ الصَّادِقُ مِنْ غَيْرِهِ.

وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ مَا يُؤْذِي أَسْمَاعَكُمْ مِنْ أَلْفَاظِ الشِّرْكِ، وَالِافْتِرَاءِ، وَالتَّهَكُّمِ، وَالطَّعْنِ فِي دِينِكُمْ.

وَإِنْ تَصْبِرُوا -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- عَلَى أَذَاهُمْ، وَتَضْبِطُوا أَنْفُسَكُمْ وَتَحْبِسُوهَا عَنِ الْجَزَعِ، وَتَحْبِسُوهَا -أَيْضًا- مَعَ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَتَتَّخِذُوا الْوِقَايَةَ لِطَلَبِ رِضَا اللهِ، وَامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ، وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ، وَتَدْفَعُوا الِاعْتِدَاءَ بِالْحَقِّ، وَتَعْمَلُوا عَلَى الْخُرُوجِ مِنَ الْمِحْنَةِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ الصَّبْرَ وَالتَّقْوَى مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى إِرَادَةٍ جَازِمَةٍ جَادَّةٍ قَوِيَّةٍ قَادِرَةٍ عَلَى مُتَابَعَةِ الْأُمُورِ الشَّدِيدَةِ الصَّعْبَةِ عَلَى النُّفُوسِ بِالتَّنْفِيذِ.

((وَقَالَ -جَلَّ شَأْنُهُ-: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ}.

وَقَدْ يُرَادُ بِالِابْتِلَاءِ بِالضَّرَّاءِ وَالشَّرِّ التَّمْهِيدُ وَالتَّدْرِيبُ عَلَى التَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ؛ لِمَا يَعْقُبُ هَذَا الِابْتِلَاءَ مِنَ الصَّبْرِ فِي الشَّدَائِدِ وَتَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ، وَالْيَقِينِ بِأَنَّ للهِ -تَعَالَى- حِكْمَةً فِي كُلِّ مَا يُصِيبُ الْإِنْسَانَ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ؛ {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}.

{لَمَّا صَبَرُوا} عَلَى الِابْتِلَاءِ، فَلَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا الِابْتِلَاءُ وَصَبَرُوا عَلَيْهِ مَكَّنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَهُمْ فِي الْأَرْضِ.

وَلِذَلِكَ يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ إِنَّ جَزَاءَ الصَّابِرِينَ عَلَى الِابْتِلَاءِ بِالضَّرَّاءِ هُوَ الْجَنَّةُ؛ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «يَقُولُ الْمَوْلَى -عَزَّ وَجَلَّ-: إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بِحَبِيبَتَيْهِ -يَعْنِي بِعَيْنَيْهِ- فَصَبَرَ عَوَّضْتُهُ عَنْهُمَا الْجَنَّةَ»؛ يَعْنِي يُرِيدُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يُعَوِّضَهُ عَلَى صَبْرِهِ بِفَقْدِ بَصَرِهِ.. بِفَقْدِ عَيْنَيْهِ؛ فَلَا يُعَوِّضُهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَّا بِالْجَنَّةِ.

هَذَا الْمَظْهَرُ مِنْ مَظَاهِرِ الِابْتِلَاءِ أَشَارَتْ إِلَيْهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}.

فَهَذَا كُلُّهُ ابْتِلَاءٌ بَيَّنَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالضَّرَّاءِ يَقَعُ عَلَى الْإِنْسَانِ وَبِمَا يَسُوءُهُ وَمَا يَكْرَهُهُ)).

وَيَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142].

((هَذَا اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ؛ أَيْ: لَا تَظُنُّوا وَلَا يَخْطُرْ بِبَالِكُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ مِنْ دُونِ مَشَقَّةٍ وَاحْتِمَالِ الْمَكَارِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ؛ فَإِنَّ الْجَنَّةَ أَعْلَى الْمَطَالِبِ، وَأَفْضَلُ مَا بِهِ يَتَنَافَسُ الْمُتَنَافِسُونَ، وَكُلَّمَا عَظُمَ الْمَطْلُوبُ عَظُمَتْ وَسِيلَتُهُ، وَالْعَمَلُ الْمُوَصِّلُ إِلَيْهِ، فَلَا يُوصَلُ إِلَى الرَّاحَةِ إِلَّا بِتَرْكِ الرَّاحَةِ، وَلَا يُدْرَكُ النَّعِيمُ إِلَّا بِتَرْكِ النَّعِيمِ، وَلَكِنَّ مَكَارِهَ الدُّنْيَا الَّتِي تُصِيبُ الْعَبْدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عِنْدَ تَوْطِينِ النَّفْسِ لَهَا، وَتَمْرِينِهَا عَلَيْهَا وَمَعْرِفَةِ مَا تَؤُولُ إِلَيْهِ، تَنْقَلِبُ عِنْدَ أَرْبَابِ الْبَصَائِرِ مِنَحًا يُسَرُّونَ بِهَا، وَلَا يُبَالُونَ بِهَا، وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ)).

وَيَقُولُ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].

((يُخْبِرُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَمْتَحِنَ عِبَادَهُ بِالسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْمَشَقَّةِ كَمَا فَعَلَ بِمَنْ قَبْلَهُمْ؛ فَهِيَ سُنَّتُهُ الْجَارِيَةُ الَّتِي لَا تَتَغَيَّرُ وَلَا تَتَبَدَّلُ، أَنَّ مَنْ قَامَ بِدِينِهِ وَشَرْعِهِ لَا بُدَّ أَنْ يَبْتَلِيَهُ، فَإِنْ صَبَرَ عَلَى أَمَرَ اللَّهُ وَلَمْ يُبَالِ بِالْمَكَارِهِ الْوَاقِفَةِ فِي سَبِيلِهِ فَهُوَ الصَّادِقُ الَّذِي قَدْ نَالَ مِنَ السَّعَادَةِ كَمَالَهَا وَمِنَ السِّيَادَةِ آلَتَهَا.

وَمَنْ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ بِأَنْ صَدَّتْهُ الْمَكَارِهُ عَمَّا هُوَ بِصَدَدِهِ، وَثَنَتْهُ الْمِحَنُ عَنْ مَقْصِدِهِ؛ فَهُوَ الْكَاذِبُ فِي دَعْوَى الْإِيمَانِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّحَلِّي وَالتَّمَنِّي وَمُجَرَّدِ الدَّعَاوَى، حَتَّى تُصَدِّقَهُ الْأَعْمَالُ أَوْ تُكَذِّبَهُ.

فَقَدْ جَرَى عَلَى الْأُمَمِ الْأَقْدَمِينَ مَا ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ} أَيِ: الْفَقْرُ، {وَالضَّرَّاءُ} أَيِ: الْأَمْرَاضُ فِي أَبْدَانِهِمْ، {وَزُلْزِلُوا} بِأَنْوَاعِ الْمَخَاوِفِ؛ مِنَ التَّهْدِيدِ بِالْقَتْلِ، وَالنَّفْيِ، وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ، وَقَتْلِ الْأَحِبَّةِ، وَأَنْوَاعِ الْمَضَارِّ، حَتَّى وَصَلَتْ بِهِمُ الْحَالُ وَآلَ بِهِمُ الزِّلْزَالُ إِلَى أَنِ اسْتَبْطَؤُوا نَصْرَ اللَّهِ مَعَ يَقِينِهِمْ بِهِ، وَلَكِنْ لِشِدَّةِ الْأَمْرِ وَضِيقِهِ قَالَ: الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ}، فَلَمَّا كَانَ الْفَرَجُ عِنْدَ الشِّدَّةِ، وَكُلَّمَا ضَاقَ الْأَمْرُ اتَّسَعَ، قَالَ تَعَالَى: {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}.

فَهَكَذَا كُلُّ مَنْ قَامَ بِالْحَقِّ فَإِنَّهُ يُمْتَحَنُ، فَكُلَمَّا اشْتَدَّتْ عَلَيْهِ وَصَعُبَتْ، إِذَا صَابَرَ وَثَابَرَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ انْقَلَبَتِ الْمِحْنَةُ فِي حَقِّهِ مِنْحَةً، وَالْمَشَقَّاتُ رَاحَاتٍ، وَأَعْقَبَهُ ذَلِكَ الِانْتِصَارُ عَلَى الْأَعْدَاءِ وَشِفَاءٌ مَا فِي قَلْبِهِ مِنَ الدَّاءِ.

وَهَذِهِ الْآيَةُ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}، فَعِنْدَ الِامْتِحَانِ يُكْرَمُ الْمَرْءُ أَوْ يُهَانُ)).

وَيَقُولُ تَعَالَى: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 173-174].

((لَمَّا رَجَعَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ (أُحُدٍ) إِلَى الْمَدِينَةِ، وَسَمِعَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ هَمُّوا بِالرُّجُوعِ إِلَى الْمَدِينَةِ؛ نَدَبَ أَصْحَابَهُ إِلَى الْخُرُوجِ، فَخَرَجُوا -عَلَى مَا بِهِمْ مِنَ الْجِرَاحِ-؛ اسْتِجَابَةً لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَطَاعَةً لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، فَوَصَلُوا إِلَى (حَمْرَاءِ الْأَسَدِ)، وَجَاءَهُمْ مَنْ جَاءَهُمْ وَقَالَ لَهُمْ: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} وَهَمُّوا بِاسْتِئْصَالِكُمْ؛ تَخْوِيفًا لَهُمْ وَتَرْهِيبًا، فَلَمْ يَزِدْهُمْ ذَلِكَ إِلَّا إِيمَانًا بِاللَّهِ وَاتِّكَالًا عَلَيْهِ.

{وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} أَيْ: كَافِينَا كُلَّ مَا أَهَمَّنَا {وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} الْمُفَوَّضُ إِلَيْهِ تَدْبِيرُ عِبَادِهِ، وَالْقَائِمُ بِمَصَالِحِهِمْ.

{فَانْقَلَبُوا} أَيْ: رَجَعُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ {وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ}.

وَجَاءَ الْخَبَرُ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ الرَّسُولَ وَأَصْحَابَهُ قَدْ خَرَجُوا إِلَيْكُمْ، وَنَدِمَ مَنْ تَخَلَّفَ مِنْهُمْ، فَأَلْقَى اللَّهُ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ، وَاسْتَمَرُّوا رَاجِعِينَ إِلَى مَكَّةَ، وَرَجَعَ الْمُؤْمِنُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ، حَيْثُ مَنَّ عَلَيْهِمْ بِالتَّوْفِيقِ لِلْخُرُوجِ بِهَذِهِ الْحَالَةِ وَالِاتِّكَالِ عَلَى رَبِّهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُ قَدْ كَتَبَ لَهُمْ أَجْرَ غَزَاةٍ تَامَّةٍ، فَبِسَبَبِ إِحْسَانِهِمْ بِطَاعَةِ رَبِّهِمْ، وَتَقْوَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ، لَهُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ، وَهَذَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ)).

وَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الصَّالِحُونَ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ -أَيِ: الْأَفْضَلُ- فَالْأَمْثَلُ، يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى قَدْرِ دِينِهِ، فَإِذَا كَانَ فِي دِينِهِ صَلَابَةٌ زِيدَ فِي ابْتِلَائِهِ)).

وَيَقُولُ ﷺ: ((مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)).

قَاعِدَةُ الْحَيَاةِ الَّتِي بُنِيَتْ عَلَيْهَا الْحَيَاةُ الْمِحْنَةُ وَالِابْتِلَاءُ، لَا السَّعَادَةُ وَالرَّخَاءُ، غَيْرَ أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْفَوَائِدِ الَّتِي يُهَوِّنُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَا الْمُصِيبَةَ عَلَى الْمُصَابِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَيْسَ هُوَ الذِّرْوَةَ فِيمَا يُمْكِنُ أَنْ يُصِيبَ الْخَلْقَ، وَأَنَّهُ مهمَا يُصَبْ بِهِ مِنْ بَلَاءٍ فَإِنَّ فَوْقَهُ مِنَ الْبَلَاءِ مَا لَا يَدْفَعُهُ إِلَّا رَبُّ الْخَلْقِ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى.

فَعَلَيْنَا دَائِمًا أَنْ نُوَطِّنَ أَنْفُسَنَا عَلَى الْقُوَّةِ وَالثَّبَاتِ، وَالْعَطَاءِ لِدِينِنَا وَوَطَنِنَا، وَاثِقِينَ فِي فَضْلِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَنَصْرِهِ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ؛ حَيْثُ يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171-173]، شَرِيطَةَ أَنْ نَعْمَلَ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنْ نَأْخُذَ بِأَسْبَابِ الْقُوَّةِ وَالثَّبَاتِ عَلَى الْعَقِيدَةِ وَالْحَقِّ وَالْمَبْدَأِ؛ حَيْثُ يَقُولُ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ-: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60].

((أَيْ: وَأَعِدُّوا لِأَعْدَائِكُمُ الْكُفَّارِ السَّاعِينَ فِي هَلَاكِكُمْ وَإِبْطَالِ دِينِكُمْ {مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} أَيْ: كُلَّ مَا تَقْدِرُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ وَأَنْوَاعِ الْأَسْلِحَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُعِينُ عَلَى قِتَالِهِمْ؛ فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ أَنْوَاعُ الصِّنَاعَاتِ الَّتِي تُعْمَلُ فِيهَا أَصْنَافُ الْأَسْلِحَةِ وَالْآلَاتُ مِنَ الْمَدَافِعِ وَالرَّشَّاشَاتِ، وَالْبَنَادِقِ، وَالطَّيَّارَاتِ الْجَوِّيَّةِ، وَالْمَرَاكِبِ الْبَرِّيَّةِ وَالْبَحْرِيَّةِ، وَالْحُصُونِ، وَالْقِلَاعِ، وَالْخَنَادِقِ، وَآلَاتِ الدِّفَاعِ، وَالرَّأْيُ وَالسِّيَاسَةُ الَّتِي بِهَا يَتَقَدَّمُ الْمُسْلِمُونَ، وَيَنْدَفِعُ عَنْهُمْ بِهِ شَرُّ أَعْدَائِهِمْ، وَتَعَلُّمُ الرَّمْيِ، وَالشَّجَاعَةُ وَالتَّدْبِيرُ.

وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ))، وَمِنْ ذَلِكَ: الِاسْتِعْدَادُ بِالْمَرَاكِبِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا عِنْدَ الْقِتَالِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}: وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مَوْجُودَةٌ فِيهَا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَهِيَ إِرْهَابُ الْأَعْدَاءِ، وَالْحُكْمُ يَدُورُ مَعَ عِلَّتِهِ، فَإِذَا كَانَ مَوْجُودًا شَيْءٌ أَكْثَرُ إِرْهَابًا مِنْهَا؛ كَالسَّيَّارَاتِ الْبَرِّيَّةِ وَالْهَوَائِيَّةِ الْمُعَدَّةِ لِلْقِتَالِ الَّتِي تَكُونُ النِّكَايَةُ فِيهَا أَشَدَّ؛ كَانَتْ مَأْمُورًا بِالِاسْتِعْدَادِ بِهَا، وَالسَّعْيِ لِتَحْصِيلِهَا، حَتَّى إِنَّهَا إِذَا لَمْ تُوجَدْ إِلَّا بِتَعَلُّمِ الصِّنَاعَةِ؛ وَجَبَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ.

وَقَوْلُهُ: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} مِمَّنْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ أَعْدَاؤُكُمْ)).

وَحِينَ يَتَرَسَّخُ الْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ يَمْتَلِئُ ثِقَةً فِيمَا عِنْدَ اللهِ -سُبْحَانَهُ-، فَيَرْكَنُ إِلَيْهِ وَيَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ، وَيَطْلُبُ مِنْهُ -سُبْحَانَهُ- الْمَدَدَ وَالتَّوْفِيقَ، وَالنَّصْرَ وَالتَّمْكِينَ؛ حَيْثُ يَقُولُ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ-: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 126].

((فَإِنَّمَا النَّصْرُ مِنْ عِنْدِ اللهِ الَّذِي لَوْ شَاءَ لَانْتَصَرَ مِنْ أَعْدَائِهِ بِدُونِكُمْ، وَمِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى قِتَالِكُمْ لَهُمْ، كَمَا قَالَ -تَعَالَى- بَعْدَ أَمْرِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْقِتَالِ: {ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ ۗ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [ محمد: 4-6]، وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ ۗ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} أَيْ: هُوَ ذُو الْعِزَّةِ الَّتِي لَا تَرُامُ، وَالْحِكْمَةِ فِي قَدَرِهِ وَالْإِحْكَامِ)).

((فِي هَذَا أَنَّ الْأَسْبَابَ لَا يَعْتَمِدُ عَلَيْهَا الْعَبْدُ، بَلْ يَعْتَمِدُ عَلَى اللَّهِ، وَإِنَّمَا الْأَسْبَابُ وَتَوَفُّرُهَا فِيهَا طُمَأْنِينَةٌ لِلْقُلُوبِ، وَثَبَاتٌ عَلَى الْخَيْرِ)).

وَقَدْ كَانَ مِنْ دُعَاءِ نَبِيِّنَا ﷺ: ((رَبِّ أَعَنِّي وَلَا تُعِنْ عَلَيَّ، وَانْصُرْنِي وَلَا تَنْصُرْ عَلَيَّ، وَامْكُرْ لِي وَلَا تَمْكُرْ عَلَيَّ، وَاهْدِنِي وَيَسِّرِ الْهُدَى لِي، وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيَّ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَه، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

((وَحْدَةُ الصَّفِّ لِمُوَاجَهَةِ الِاجْتِمَاعِ عَلَى إِبَادَةِ الْأُمَّةِ))

لَا شَكَّ أَنَّ التَّحَدِّيَاتِ الْجِسَامَ الَّتِي تُوَاجِهُ الْأُمَّةَ تَسْتَوْجِبُ وَحْدَةَ صَفِّنَا الْعَرَبِيِّ وَالْإِسْلَامِيِّ؛ حَيْثُ يَقُولُ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ-: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}.

وَيَقَولُ نَبِيُّنَا ﷺ: ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)).

وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ ((أَنَّ الْمُسْلِمَ لِلْمُسْلِمِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا -وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ ﷺ-)).

إِنَّ اجْتِمَاعَ أُمَمِ الْكُفْرِ الْيَوْمَ عَلَى أُمَّتِنَا الْإِسْلَامِيَّةِ لَيْسَ بِجَدِيدٍ، أَخْبَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْهُ فِي كِتَابِهِ، وَالنَّبِيُّ ﷺ فِي سُنَّتِهِ، وَقَدْ كَانَ اجْتِمَاعُ كُلِّ مِلَلِ الْكُفْرِ لِاسْتِئْصَالِ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ مُنْذُ بُزُوغِ فَجْرِ هَذَا الدِّينِ.

قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ۗ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال: 36].

((لَقَدْ أَخْبَرَ -تَعَالَى- أَنَّ الْكُفَّارَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ؛ لِيَصُدُّوا عَنِ اتِّبَاعِ طَرِيقِ الْحَقِّ، فَسَيْفَعَلُونَ ذَلِكَ، ثُمَّ تَذْهَبُ أَمْوَالُهُمْ، {ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} أَيْ: نَدَامَةً؛ حَيْثُ لَمْ تَجِدْ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا إِطْفَاءَ نُورِ اللهِ وَظُهُورِ كَلِمَتِهِمْ عَلَى كَلِمَةِ الْحَقِّ، وَاللهُ مُتِمٌّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ، وَنَاصِرٌ دِينَهُ، وَمُعْلِنٌ كَلِمَتَهُ، وَمُظْهِرٌ دِينَهُ عَلَى كُلِّ دِينٍ، فَهَذَا الْخِزْيُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ، فَمَنْ عَاشَ مِنْهُمْ رَأَى بِعَيْنِهِ وَسَمِعَ بِأُذُنِهِ مَا يَسُوءُهُ، وَمَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ أَوْ مَاتَ فَإِلَى الْخِزْيِ الْأَبَدِيِّ وَالْعَذَابِ السَّرْمَدِيِّ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ۗ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ})).

وَعَنْ ثَوْبَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الْأُمَمُ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا)).

فَقَالَ قَائِلٌ: ((وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟)).

قَالَ: ((بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزِعَنَّ اللهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللهُ فِي قُلُوبِكُمُ الوَهْنَ)).

قَالَ قَائِلٌ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! وَمَا الوَهْنُ؟)).

قَالَ: ((حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ المَوْتِ)). أَخْرَجَهُ أَحمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالبَغَوِيُّ فِي ((شَرْحِ السُّنَّةِ))، وَجَوَّدَ إِسْنَادَهُ الأَلْبَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- كَمَا فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحَيِحَةِ)) وَغَيْرِهَا.

يُخْبِرُنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّ الْأُمَمَ سَتَتَدَاعَى عَلَى أُمَّتِهِ، وَيُبَيِّنُ سَبَبَ ذَلِكَ، وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الظَّاهِرَةِ الْبَاهِرَةِ لِلنَّبِيِّ الْخَاتَمِ مُحَمَّدٍ ﷺ؛ فَقَدْ وَقَعَ مَا أَخْبَرَ بِهِ.

قَوْلُهُ ﷺ: ((يُوشِكُ)) أَيْ: يُسْرِعُ وَيَقْرُبُ، وَقَوْلُهُ: ((أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الأُمَمُ)) أَيْ: يَدْعُو بَعْضُهَا بَعْضًا، فَتُلَبِّي وَتَسْتَجِيبُ، وَشَبَّهَ هَذَا التَّدَاعِيَ بِتَدَاعِي الْأَكَلَةِ إِلَى طَعَامِهِمْ، فَقَالَ: ((كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا)) أَيْ: كَمَا تَتَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا مَعَ حَذْفِ إِحْدَى التَّائَيْنِ، فَيَدْعُو بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَى الْقَصْعَةِ، إِلَى الطَّعَامِ الَّذِي لَا مَشَقَّةَ فِيهِ، الَّذِي أَتَى سَهْلًا، رَهْوًا، بِلَا عَنَاءٍ، وَلَا كَدٍّ وَلَا تَعَبٍ.

((كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا)) وَالأَكَلَةُ: جَمْعُ آكَلَ، وَالقَصْعَةُ: وِعَاءٌ كَبِيرٌ يَؤْكَلُ فِيهِ وَيُثْرَدُ، فَكَأَنَّهُم يَتَدَاعَوْنَ لِمَا هُيِّءَ وَنَضِجَ مِنْ طَعَامٍ، وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ تَنَاوُلِهِ مَانِعٌ، وَتَشْبِيهُ تَدَاعَي الأُمَمِ عَلَى أَمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ بِتَدَاعِي الْأَكَلَةِ إِلَى قَصْعَتِهَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مِنْ أَسْبَابِ تَدَاعِي الْأُمَمِ عَلَى أُمَّةِ الإِسْلَامِ وَأَرَاضِيهَا أَنَّ بِلَادَ الإِسْلَامِ سَتَكُونُ مَنْبَعًا لِلْخَيْرَاتِ وَالبَرَكَاتِ، مِمَّا يُسِيلُ لُعَابَ الْأُمَمِ، وَقَدْ وُجِدَ فِي الْأُمَّةِ مِنَ الْمَعَادِنِ وَالنِّفْطِ مَا تَقُومُ عَلَيْهِ رُوحُ الصِّنَاعُةِ الْغَرْبِيَّةِ وَالشَّرْقِيَّةِ، بَلْ رُوحُ الْحَيَاةِ الْبَشَرِيَّةِ فِي هَذَا الزَّمَانِ.

وَالسَّبَبُ الْكَبِيرُ الَّذِي جَرَّأَ الْأُمَمَّ الْكَافِرَةَ عَلَى الْقُدُومِ وَالتَّدَاعِي لِاحْتِلَالِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَأَكْلِ خَيْرَاتِهَا لَيْسَ قِلَّةَ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَهُمْ كَثِيرُونَ يَوْمَئِذٍ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَقَالَ قَائِلٌ مِنَ الصَّحَابَةِ: ((وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟))؛ لِأَنَّ الْقِلَّةَ تُجَرِّئُ الْأَعْدَاءَ وَتُطْمِعُهُمْ فِي الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ، وَقَدِيمًا قَالُوا: ((الذِّلَةُ مَعَ القِلَّةُ)).

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ)).

أَمَّا عَنْ كَثْرَةِ عَدَدِ المُسْلِمِينَ فَهَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ فِي هَذَا الزَّمَانِ، لَا يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ وَلَا بُرْهَانٍ، سَعَةُ بِلَادِ المُسْلِمِينَ شَرْقًا وَغَرْبًا وَشَمَالًا وَجَنُوبًا ظَاهِرَةٌ لِكُلِّ ذِي عَيْنَيْنِ.

وَالغُثَاءُ الَّذِي هُوَ كَغُثَاءِ السَّيْلِ: هُوَ مَا يَظْهَرُ فَوْقَ السَّيْلِ مِمَّا يَحْمِلُهُ الزَّبَدُ مِنَ الْأَوْسَاخِ وَبَقَايَا الأَشْيَاءِ المُلْقَاةِ عَلَى الْأَرْضِ، فَالمُشْكِلَةُ -إِذَنْ- لَيْسَتْ فِي قِلَّةِ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ، فَهُمْ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّ المُشْكِلَةَ فِي صِفَةِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ، لَيْسَتْ فِي الْكَمِّ، وَإِنَّمَا فِي الْكَيْفِ، وَهِيَ كَوْنُهُمْ غُثَاءً، عَقَائِدُهُمْ خَرَابٌ، أَخْلَاقُهُمْ فَسَادٌ، مَنَاهِجَهُمْ تَعَلُّقٌ بِالسَّرَابِ.

قَوْلُ النَّبِي ﷺ: ((وَلَيَنْزِعَنَّ اللهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ المَهَابَةَ مِنْكُمْ)) أَيْ: يُخْرِجُ اللهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِكُمُ الْمَهَابَةَ، وَالْإِجْلَالَ، وَالْخَوْفَ، وَالرُّعْبَ مِنْكُمْ؛ لِأَنَّكُمْ لَنْ تَتَّبِعُوا النَّبِيَّ -حِينَئِذٍ-، لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ ذَكَرَ مِنْ خَصَائِصِهِ: ((وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ)).

كَانَ الْجَيْشُ قَدِيمًا يُقَسَّمُ إِلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ؛ إِلَى مُقَدِّمَةٍ، وَمُؤَخَّرَةٍ، وَإِلَى مَيْمَنَةٍ، وَمَيْسَرَةٍ، وَإِلَى قَلْبٍ؛ فَهُوَ الْخَمِيسُ، لَمَّا ذَهَبَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى يَهُودِ خَيْبَرَ، وَكَانُوا خَارِجَ حُصُونِهِمْ مَعَ نِسَائِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ وَمَوَاشِيهِمْ، فَصَبَّحَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ، فَلَمَّا رَأَوْهُ، قَالُوا: ((مُحَمَّدٌ وَالخَمِيسُ))، وَأَسْرَعُوا إِلَى حُصُونِهِمْ، مَنْ نَجَا نَجَا، وَمَنْ تَخَلَّفَ هَلَكْ.

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ؛ {فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ})).

((نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ)).

وَلِلأُمَّةِ حَظٌّ مِمَّا أُوتِيَ نَبِيُّهَا ﷺ؛ بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ عَلَى مِنْهَاجِهِ، فَهَلْ هِيَ اليَوْمَ عَلَى مِنْهَاجِهِ؟!!

أَبْنَاؤُهَا يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَهَا، ((وَسَأَلْتُهُ أَلَّا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمَنَعَنِيهَا، حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا، وَيَسْبِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا)).

وَالْكُلُّ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله، وَيَدَّعِي أَنَّهُ وَحْدَهُ يَحْتَكِرُ الصَّوَابَ المُطْلَقَ، وَلَا يَعُودُ إِلَى الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَا يَأْتِيهُمَا ضَلَالٌ مِنْ بَيْنَ أَيْدِيهِمَا وَلَا مِنْ خَلْفِهِمَا، ((تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي أَبَدًا؛ كِتَابَ اللهِ وَسُنَّتِي)).

فَالعِصْمَةُ مِنْ الضَّلَالِ فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

الْكِتَابُ لَيْسَ لَهُ لِسَانٌ يَنْطِقُ وَلَا السُّنَّةُ، فَمِنْ أَيْنَ نَعْلَمُ مُرَادَ اللهِ وَمُرَادَ رَسُولِ اللهِ؟

مِنْ أَصْحَابِهِ ﷺ؛ فَنَأْخُذُ الكِتَابَ وَالسُّنَّةَ بِفَهْمِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ، لَا نَأْخُذُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ بِفَهْمِ مَكْتَبِ الْإِرْشَادِ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ وَالْإِبْعَادِ، وَلَا نَأْخُذُهُ مِنْ حَلْقَاتٍ مُتْجَمِّعَةٍ فِي الْكُهُوفِ فِي الظَّلَامِ مِنَ الْأُمَرَاءِ المَخْفِيِّينَ الَّذِينَ أَضَلُّوا الأُمَّةَ، وَأَعْطُوا الْأَوَامِرَ لِإِرَاقَةِ الدِّمَاءِ، وَتَخْرِيبِ الْبِلَادِ، وَإِفْسَادِ الْعِبَادِ.

يَقْولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((وَلَيَنْزِعَنَّ اللهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ))، اجْتَرَأَ عَلَيْكُمْ شُذَّاذُ الْآفَاقِ، قُطَّاعُ الطُّرُقِ مِنْ يَهُودٍ، وَهُمْ شِرْذِمَةٌ فَاسِدَةٌ، حَاقِدَةٌ، ضَالَةٌ مُضِلَّة، لَوْ تَجَمَّعَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ فَبَصَقَ كُلُّ فَرْدٍ مِنْهُمْ عَلَيْهَا -أَيْ: عَلَى الشِّرْذِمَةِ الضَّالَّةِ مِنْ يَهُودَ- فَبَصَقَ كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ أُمَّةِ مُحَمًّدٍ عَلَى تِلْكَ الشِّرْذِمَةِ بَصْقَةً وَاحِدَةً لَأَغْرَقُوهُمْ فِي بَحْرٍ مِنَ الْبُصَاقِ!

وَلَكِنْ يَفْعَلُونَ بِكُمُ الْأَفَاعِيلَ، وَيَسْتَحْوِذُونَ عَلَى مَقَالِيدِ الْأُمُورِ فِي الدُّنْيَا كُلِّهَا، يُسَيِّرُونَ الْأُمَمَ؛ لِأَنَّكُمْ تَفَرَّقْتُمْ، وَهُمْ عَرَفُوا سَبِيلَهُمْ، وَرَكَّزُوا عَلَى هَدَفِهِمْ، وَرَجَعُوا إِلَى كِتَابٍ حُرِّفَ، إِلَى كِتَابٍ بُدِّلَ، إِلَى كِتَابٍ زِيدَ فِيهِ وَنُقِصَ مِنْهُ، وَكِتَابُكُمُ الْمَحْفُوظُ جَعَلْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا، وَتَنَازَعَتْهُ الْفِرَقُ الضَّالَّةُ، وَالْجَمَاعَاتُ المُضِلَّةُ -عَلَيْهِمْ مِنَ اللهِ مَا يَسْتَحِقُونَ-، فَصَارَ بَأْسُكُمْ بَيْنَكُمْ.

يُخْرِجُ اللهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ المَهَابَةَ، وَالْإِجْلَالَ، وَالْخَوْفَ، وَالرُّعْبَ مَنْكُمْ، ((وَلَيَقْذِفَنَّ اللهُ فِي قُلُوبِكُمُ الوَهْنَ)).

قَالَ قَائِلٌ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! وَمَا الوَهْنُ؟)).

قَالَ: ((حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ المَوْتِ)).

مَنْ أَحَبَّ الدُّنْيَا، وَكَرِهَ المَوْتَ ضَعُفَ عَمَلُهُ لِلدِّينِ وَلِلآخِرَةِ، وَرُبَّمَا زَالَ عَمَلُهُ لِلدِّينِ وَلِلآخِرَةِ بِالكُلِّيَةِ، فَهُمْ لِلدُّنْيَا يَتَعَلَّمُونَ وَيَتَفَقَّهُونَ، وَيُوَالُونَ وَيُعَادُونَ، وَيَتَنَاحَرُونَ وَيَتَنَافَسُونَ، وَبِهَا رَاضُونَ، وَعَنِ الدِّينِ وَالْمَوْتِ وَالْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونِ، فَلَا يُبْصِرُونَ، وَلَا يَسْمَعُونَ، وَلَا يُوقِنُونَ، وَلَا يَتَفَقَّهُونَ، وَلَا يُجَاهِدُونَ، فَأَضَاعُوا الدِّينَ وَالدُّنْيَا، فَلَبِسَتْهُمُ الْفِتْنَةُ -أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُحْسِنَ خِتَامَنَا أَجْمَعِينَ-.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

 المصدر: الْقُوَّةُ وَالثَّبَاتُ فِي مُوَاجَهَةِ التَّحَدِّيَاتِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  المصريون والذئاب المنفردة
  الْبِرُّ بِالْأَوْطَانِ مِنْ شَمَائِلِ الْإِيمَانِ
  باب الفتح الأعظم
  تَقْدِيرُ الْمَصْلَحَةِ وَتَنْظِيمُ الْمُبَاحِ
  الرد على الملحدين:مقدمة عن الإلحاد والأسباب التي دعت إلى انتشاره في العصر الحديث
  مختصر الرد على أهل الإلحاد
  [ طليعة الرد على الحلبي [ الجزء الأول
  ثورة الحرائر وإهانة المصاحف !!
  حِمَايَةُ الْأَوْطَانِ بَيْنَ فَرْضِ الْعَيْنِ وَفَرْضِ الْكِفَايَةِ
  جماعات التكفير والحكم بغير ما أنزل الله
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان