((مَاذَا عَنْ شَوَّالٍ؟))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((الْحَيَاةُ الْحَقِيقِيَّةُ فِي الِاسْتِجَابَةِ للهِ وَرَسُولِهِ))
((فَقَدْ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24].
فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أُمُورًا؛ أَحَدُهَا: أَنَّ الْحَيَاةَ النَّافِعَةَ إِنَّمَا تَحْصُلُ بِالِاسْتِجَابَةِ للهِ وَلِلرَّسُولِ، فَمَنْ لَمْ تَحْصُلْ لَهُ هَذِهِ الِاسْتِجَابَةُ فَلَا حَيَاةَ لَهُ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ حَيَاةٌ بَهِيمِيَّةٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَرْذَلِ الْحَيَوَانَاتِ.
فَالْحَيَاةُ الْحَقِيقِيَّةُ الطَّيِّبَةُ هِيَ حَيَاةُ مَنِ اسْتَجَابَ للهِ وَالرَّسُولِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، فَهَؤُلَاءِ هُمُ الْأَحْيَاءُ وَإِنْ مَاتُوا، وَغَيْرُهُمْ أَمْوَاتٌ وَإِنْ كَانُوا أَحْيَاءَ الْأَبْدَانِ، وَلِهَذَا كَانَ أَكْمَلُ النَّاسِ حَيَاةً أَكْمَلَهُمُ اسْتِجَابَةً لِدَعْوَةِ الرَّسُولِ، فَإِنَّ كُلَّ مَا دَعَا إِلَيْهِ فَفِيهِ الْحَيَاةُ، فَمَنْ فَاتَهُ جُزْءٌ مِنْهُ فَاتَهُ جُزْءٌ مِنَ الْحَيَاةِ، وَفِيهِ مِنَ الْحَيَاةِ بِحَسَبِ مَا اسْتَجَابَ لِلرَّسُولِ ﷺ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: (({لِمَا يُحْيِيكُمْ}؛ يَعْنِي: لِلْحَقِّ)).
وَقَالَ قَتَادَةُ: ((هُوَ هَذَا الْقُرْآنُ، فِيهِ الْحَيَاةُ وَالثِّقَةُ وَالنَّجَاةُ وَالْعِصْمَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)).
وَقَالَ السُّدِّيُّ: ((هُوَ الْإِسْلَامُ؛ أَحْيَاهُمْ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِمْ بِالْكُفْرِ)).
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ -وَاللَّفْظُ لَهُ-: (({لِمَا يُحْيِيكُمْ}؛ يَعْنِي: لِلْحَرْبِ الَّتِي أَعَزَّكُمُ اللهُ بِهَا بَعْدَ الذُّلِّ، وَقَوَّاكُمْ بَعْدَ الضَّعْفِ، وَمَنَعَكُمْ بِهَا مِنْ عَدُوِّكُمْ بَعْدَ الْقَهْرِ مِنْهُمْ لَكُمْ، وَكُلُّ هَذِهِ عِبَارَاتٌ عَنْ حَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ الْقِيَامُ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا)))).
((مُحَاسَبَةُ النَّفْسِ بَعْدَ انْقِضَاءِ رَمَضَانَ))
عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَّقِيَ اللهَ رَبَّهُ، وَأَنْ يُحَافِظَ عَلَى قَلْبِهِ، وَأَنْ يَتَعَاهَدَهُ بِالنَّظَرِ فِي أَحْنَائِهِ بِمُرَاعَاةِ الْخَوَاطِرِ وَالْإِرَادَاتِ، وَبِالتَّفْتِيشِ فِي حَقِيقَةِ النِّيَّاتِ، وَأَلَّا يَسِيرَ مَعَ النَّاسِ سَيْرَ الطَّائِفَةِ الَّذِينَ لَا يَفْقَهُونَ وَلَا يَعُونَ وَلَا يُدْرِكُونَ، وَإِنَّمَا هُمْ قَطِيعٌ يُوَجَّهُ حَيْثُ وُجِّهَ، وَيَسِيرُ حَيْثُ أُمِرَ!!
بَلْ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ وَقَّافًا مَعَ كِتَابِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَأَنْ يُرَاعِيَ خَوَاطِرَهُ، وَأَنْ يُرَاعِيَ خَطَرَاتِهِ، وَأَنْ يَنْظُرَ فِي نِيَّاتِهِ وَإِرَادَاتِهِ؛ لِكَيْ يُنْشَأَ خَلْقًا جَدِيدًا كَمَا يُحِبُّ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- وَيَرْضَى، وَلِكَيْ يَخْرُجَ الْوَاحِدُ مِنَّا مِمَّا هُوَ مُتَوَرِّطٌ فِيهِ مِنْ مَحَبَّةٍ لِهَذِهِ الدُّنْيَا قَدِ اسْتَقَرَّتْ فِي الْقَلْبِ وَتَشَعَّبَتْ فِي الْعُرُوقِ، حَتَّى إِنَّهُ لَا يَكَادُ يُدْرِكُهَا وَلَا يَكَادُ يَعْرِفُهَا، وَهِيَ كَالْحَقِيقَةِ الَّتِي لَا يَخْتَلِفُ فِيهَا اثْنَانِ!!
وَإِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- قَدْ جَعَلَ لَنَا بِمَنِّهِ وَجُودِهِ وَعَطَائِهِ وَكَرَمِهِ زَمَنًا فَاضِلًا، تُضَاعَفُ فِيهِ الْحَسَنَاتُ، وَتُغْفَرُ فِيهِ السَّيِّئَاتُ، وَتُرْفَعُ فِيهِ الدَّرَجَاتُ، وَاللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- مَتَّعَنَا بِالْحَيَاةِ حَتَّى كُنَّا فِي هَذَا الزَّمَانِ الْفَاضِلِ، فَيَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَقِفَ مُتَأَمِّلِينَ فِيمَا كَانَ، هَلْ أَدَّيْنَا الَّذِي عَلَيْنَا؟!!
هَلْ قُمْنَا بِمَا أَوْجَبَ رَبُّنَا عَلَيْنَا؟!!
هَلِ اتَّبَعْنَا فِي ذَلِكَ سُنَّةَ نَبِيِّنَا؟!!
أَمْ أَنَّ الْعَكْسَ هُوَ الَّذِي كَانَ؟!!
قَدْ مَضَى رَمَضَانُ؛ فَمَاذَا كَانَ؟!!
لَا شَيْءَ، الَّذِي كَانَ عَاصِيًا ازْدَادَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ عِصْيَانًا، وَالَّذِي كَانَ طَائِعًا لَمْ يَتَقَدَّمْ بِالطَّاعَةِ لَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا، خُنُوعٌ وَخُضُوعٌ، وَكَسَلٌ وَإِحْبَاطٌ!!
يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: «فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّتِي؛ فَقَدِ اهْتَدَى».
وَتَأَمَّلْ فِي ذَاتِكَ، وَدَعْ عَنْكَ بُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ، وَلَا تَلْتَفِتْ لِأَحَدٍ؛ فَإِنَّكَ مَسْئُولٌ عَنْ نَفْسِكَ بِنَفْسِكَ أَمَامَ رَبِّكَ -جَلَّ وَعَلَا- قَبْلَ أَنْ تُسْأَلَ عَمَّنْ تَعُولُ، أَنْتَ أَوَّلًا، أَنْتَ بِذَاتِكَ قَبْلُ، أَنْتَ قَبْلَ كُلِّ أَحَدٍ مَسْئُولٌ عَنْ ذَاتِكَ؛ فَفَتِّشْ عَنْ ضَمِيرِكَ!!
أَتَغَيَّرَ فِيكَ شَيْءٌ؟!!
أَنْكَسَرَتْ حِدَّتُكَ بِلَفْظِكَ، وَحَرَكَةِ حَيَاتِكَ؟!!
أَوَ عَادَ الصَّخَبُ عِنْدَكَ هُدُوءًا؟!!
أَوَ صَارَ السَّفَهُ لَدَيْكَ حِلْمًا؟!!
أَوَ تَحَوَّلَ الْبُخْلُ لَدَيْكَ إِلَى سَخَاءٍ وَعَطَاءٍ؟!!
أَعَادَ النَّظَرُ إِلَى الْمُحَرَّمَاتِ عِنْدَكَ إِمْسَاكًا عَنِ الشَّهَوَاتِ؟!!
قُلْ لِنَفْسِكَ: هَلْ كَانَ أَكْلُ الْحَرَامِ الَّذِي ظَلَّ مَاضِيًا -حَتَّى فِي الشَّهْرِ-، هَلْ هَذَا الَّذِي كَانَ مِنْ أَكْلِ الْحَرَامِ جَاءَتْهُ وَقْفَةٌ بِتُؤَدَةٍ مِنْ أَجْلِ النَّظَرِ فِيهِ وَالتَّفْتِيشِ فِي أَطْوَائِهِ؛ لِيَضَعَ الرَّجُلُ اللُّقْمَةَ الْحَلَالَ فِي فَمِهِ وَفِي فَمِ امْرَأَتِهِ؟!!
هَلْ رَاجَعْتَ فِي هَذَا الشَّهْرِ -وَقَدِ انْقَضَى- هَلْ رَاجَعْتَ فِيهِ سُبُلَ الْعَيْشِ، وَتَحْصِيلَ الْكَسْبِ؟!!
هَلْ رَاجَعْتَ فِيهِ عَدَاوَاتِكَ، وَرَاجَعْتَ فِيهِ مَوَدَّاتِكَ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَفْحَصَهَا بَدْءًا عَلَى ضَوْءٍ جَدِيدٍ وَفِي ضَوْئِه؟!!
هَلْ رَاجَعْتَ صِلَاتِكَ الَّتِي تَصِلُهَا، وَصِلَاتِكَ الَّتِي قَطَعْتَهَا؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَقُولَ: هَلِ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَرَاءَهَا؟!!
وَهَلِ الدَّافِعُ مِمَّا آتِي وَأَتْرُكُ هُوَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِمَرْضَاتِهِ؛ أَمْ أَنَّ الْأَمْرَ مَا زَالَ مَبْنِيًّا عَلَى عِبَادَةِ الْهَوَى؟!!
أَلَا إِنَّهُ مَا زَالَ مَبْنِيًّا عَلَى عِبَادَةِ الْهَوَى، وَقَلَّ مَنِ انْتَفَعَ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ، وَلَا جَرَمَ؛ فَإِنَّ رَبَّكَ ذُو رَحَمَاتٍ غَامِرَةٍ، وَذُو فُيُوضَاتٍ بَاهِرَةٍ، يُعْطِي مَنْ يَشَاءُ مَا يَشَاءُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَعَسَى رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- أَنْ يَغْفِرَ لَنَا أَجْمَعِينَ وَلَا يُبَالِي، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
((إِنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ شَاهِدٌ لَكُمْ أَوْ عَلَيْكُمْ بِمَا أَوْدَعْتُمُوهُ مِنَ الْأَعْمَالِ، فَمَنْ أَوْدَعَهُ عَمَلًا صَالِحًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ عَلَى ذَلِكَ، وَلْيُبْشِرْ بِحُسْنِ الثَّوَابِ؛ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا، وَمَنْ أَوْدَعَهُ عَمَلًا سَيِّئًا فَلْيَتُبْ إِلَى رَبِّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا؛ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَى مَنْ تَابَ)).
((وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى))
إِنَّ الْمُتَأَمِّلَ وَالْمُتَدَبِّرَ لِسُنَنِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- الْكَوْنِيَّةِ فِي خَلْقِهِ يَرَى سُرْعَةَ انْقِضَاءِ الْأَيَّامِ وَالشُّهُورِ وَالسِّنِينَ، فَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا أَنْفَاسٌ مَعْدُودَةٌ، وَآجَالٌ مَضْرُوبَةٌ، وَفِي ذَلِكَ عِبَرٌ لِمَنْ تَفَكَّرَ وَتَدَبَّرَ، يَقُولُ اللهُ -سُبْحَانَهُ-: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62].
وَيَقُولُ -جَلَّ شَأْنُهُ-: {فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم: 84].
وَلَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ فِي الدُّنْيَا مَرْهُونًا بِعَمَلِهِ؛ حَيْثُ يَقُولُ اللهُ -سُبْحَانَهُ-: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} [النجم: 39-41].
كُلُّ عَامِلٍ لَهُ عَمَلُهُ الْحَسَنُ وَالسَّيِّئُ، فَلَيْسَ لَهُ مِنْ عَمَلِ غَيْرِهِ وَسَعْيِهِمْ شَيْءٌ، وَلَا يَتَحَمَّلُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ ذَنْبًا.
{وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} فِي الْآخِرَةِ فَيُمَيَّزُ حَسَنُهُ مِنْ سَيِّئِهِ، {ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى}؛ أَيِ: الْمُسْتَكْمِلَ لِجَمِيعِ الْعَمَلِ الْحَسَنِ الْخَالِصِ الْحُسْنِ بِالْحُسْنَى، وَالسَّيِّئِ الْخَالِصِ بِالسَّوْأَى، وَالْمَشُوبِ بِحَسَبِهِ، جَزَاءٌ تُقِرُّ بِعَدْلِهِ وَإِحْسَانِهِ الْخَلِيقَةُ كُلُّهَا، وَتَحْمَدُ اللَّهَ عَلَيْهِ؛ حَتَّى إِنَّ أَهْلَ النَّارِ لَيَدْخُلُونَ النَّارَ وَإِنَّ قُلُوبَهُمْ مَمْلُوءَةٌ مِنْ حَمْدِ رَبِّهِمْ، وَالْإِقْرَارِ لَهُ بِكَمَالِ الْحِكْمَةِ وَمَقْتِ أَنْفُسِهِمْ، وَأَنَّهُمُ الَّذِينَ أَوْصَلُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَوْرَدُوهَا شَرَّ الْمَوَارِدِ.
لَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ فِي الدُّنْيَا مَرْهُونًا بِعَمَلِهِ؛ كَانَ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَحْرِصَ عَلَى الطَّاعَةِ، وَأَنْ يُدَاوِمَ عَلَيْهَا؛ حَتَّى يُبَلِّغَهُ اللهُ حُسْنَ الْخَاتِمَةِ، فَيَلْقَى رَبَّهُ وَهُوَ رَاضٍ عَنْهُ، فَالْإِنْسَانُ لَا يَدْرِي بِأَيِّ طَاعَةٍ تُفْتَحُ لَهُ أَبْوَابُ الْقَبُولِ، فَإِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَدْ أَخْفَى رَحْمَتَهُ فِي طَاعَتِهِ، أَلَمْ يَقُلْ نَبِيُّنَا ﷺ كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَرُّ, فَوَجَدَ بِئْرًا, فَنَزَلَ فِيهَا, فَشَرِبَ ثُمَّ خَرَجَ، فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ، يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنَ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِي كَانَ بَلَغَ مِنِّي، فَنَزَلَ الْبِئرَ، فَمَلَأَ خُفَّهُ، ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ حَتَّى رَقِيَ -أَيْ: صَعِدَ- فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ اللهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ)).
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا؟
قَالَ: ((فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ)).
((فَشَكَرَ اللهُ لَهُ؛ فَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ)). فِي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ، إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَنَزَعَتْ مُوقَهَا -أَيْ: خُفَّهَا- فَاسْتَقَتْ لَهُ بِهِ -أَيْ: بِالْخُفِّ-، فَسَقَتْهُ -أَيْ: فَسَقَتِ الْكَلْبَ- فَسَقَتْهُ إِيَّاهُ؛ فَغُفِرَ لَهَا بِهِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
دِينٌ يَرْحَمُ رَبُّهُ مَنْ رَحِمَتْ كَلْبًا، وَهِيَ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ!!
كَمَا أَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَدْ أَخْفَى غَضَبَهُ فِي مَعَاصِيهِ؛ فَلَا يَدْرِي الْإِنْسَانُ بِأَيِّ مَعْصِيَةٍ يُؤْخَذُ أَوْ يُعَاقَبُ، أَلَمْ يَقُلْ نَبِيُّنَا ﷺ: ((دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا، فَلَمْ تُطْعِمْهَا، وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ))؛ أَيْ: مِنْ هَوَامِّهَا.
هَذِهِ امْرَأَةٌ يُعذِّبُهَا اللهُ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَرْحَمْ هَذَا الْحَيَوَانَ.
إِنَّ الْأَعْمَالَ بِالْخَوَاتِيمِ كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ، قَالَ ﷺ: ((إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ)). وَهُوَ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ رِوَايَةِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا)).
وَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَثَلُ الْأَعْمَالِ كَمَثَلِ الْإِنَاءِ؛ إِذَا طَابَ أَعْلَاهُ طَابَ أَسْفَلُهُ، وَإِذَا خَبُثَ أَعْلَاهُ خَبُثَ أَسْفَلُهُ)).
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، ثُمَّ يَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَدْخُلُ النَّارَ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، ثُمَّ يَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ)).
وَالرَّسُولُ ﷺ كَانَ يُكْثِرُ أَنْ يَدْعُوَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ بِهَذَا الدُّعَاءِ: ((اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ)).
يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ فِي أَكْثَرِ مَا يَدْعُو بِهِ رَبَّهُ -جَلَّ وَعَلَا-: ((اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ! ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ)).
يَقُولُ أَنَسٌ: فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّا قَدْ آمَنَّا بِكَ، وَصَدَّقْنَا بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالنُّورِ مِنْ عِنْدِ رَبِّكَ؛ أَفَتَخْشَى عَلَيْنَا؟)).
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّمَا قُلُوبُ الْخَلْقِ جَمِيعًا بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ)).
فَالنَّبِيُّ ﷺ يَدْعُو رَبَّهُ بِهَذَا الدُّعَاءِ، وَالنَّبِيُّ هُوَ النَّبِيُّ ﷺ.
((اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ! ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ)).
وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((اللَّهُمَّ يَا مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ! صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ)).
فَالنَّبِيُّ ﷺ يُبَيِّنُ لَنَا أَنَّ قُلُوبَ الْخَلْقِ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، وَأَنَّكَ لَا تَدْرِي بِمَا سَبَقَ الْكِتَابُ عَلَيْكَ؛ أَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ؟
نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ.
وَلِذَلِكَ كَانَ سُفْيَانُ -رَحِمَهُ اللهُ- يَسْأَلُ النَّاسَ كَثِيرًا، يَقُولُ: هَلْ بَكَيْتَ عَلَى سَابِقِ عِلْمِ اللهِ فِيكَ؟
فَيَقُولُ لَهُ الْقَائِلُ: تَرَكْتَنِي لَا أَفْرَحُ مِنْ بَعْدِهَا أَبَدًا.
وَكَانَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ -رَحِمَهُ اللهُ- يَقُومُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا- بَاكِيًا، وَيَقُولُ: ((يَا رَبِّ! قَدْ عَلِمْتَ أَهْلَ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَفِي أَيِّ الْفَرِيقَيْنِ كُتِبَ مَالِكٌ؟
وَيَبْكِي بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا- عَلَى سَابِقِ عِلْمِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِيهِ)).
((الْعِبَادَةُ بَعْدَ رَمَضَانَ))
لَا شَكَّ أَنَّ أَرْبَابَ الْبَصَائِرِ يُدْرِكُونَ أَنَّ رَبَّ رَمَضَانَ هُوَ رَبُّ شَوَّالٍ وَرَبُّ سَائِرِ الشُّهُورِ وَالْأَيَّامِ وَالْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ ، فَإِذَا كَانَ رَمَضَانُ قَدِ انْقَضَى بِمَا فِيهِ مِنَ الْخَيْرَاتِ وَالْبَرَكَاتِ وَالنَّفَحَاتِ؛ فَمَاذَا عَنْ شَوَّالٍ؟
إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ جَعَلَ أَجْنَاسَ الْعِبَادَاتِ دَائِرَةً فِي جَمِيعِ أَيَّامِ الْعَامِ، صَحِيحٌ أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَرَضَ الْفَرَائِضَ، وَحَدَّ الْحُدُودَ، وَأَوْضَحَ الْمَعَالِمَ، وَلَكِنَّ النَّبِيَّ ﷺ مِنْ سُنَّتِهِ أَنْ يَنْشَعِبَ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ أَيَّامِ الْعَامِ؛ فَالصَّلَوَاتُ الْمَفْرُوضَاتُ خَمْسٌ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ- وَلَكِنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَرْشَدَ أَنَّ ((مَنْ وَاظَبَ عَلَى ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي الْيَوْمِ؛ بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ))، وَهِيَ مَا يُعْرَفُ بِـ (الصَّلَوَاتِ الرَّوَاتِبِ)، وَهِيَ: ((أَرْبَعٌ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَاثْنَتَانِ بَعْدَهُ، وَاثْنَتَانِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَاثْنَتَانِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَرَكْعَتَانِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ)).
فَمَنْ وَاظَبَ عَلَيْهِنَّ بَنَى اللهُ -تَعَالَى- لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ، وَدُونَ ذَلِكَ مَا يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِ الرَّوَاتِبِ مِنَ النَّوَافِلِ، كَأَرْبَعِ رَكْعَاتٍ قَبْلَ صَلَاةِ الْعَصْرِ، ((رَحِمَ اللهُ امْرَأً صَلَّى قَبْلَ الْعَصْرِ أَرْبَعًا)).
وَكَذَلِكَ يُصَلِّي الْمُسْلِمُ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ -إِنْ شَاءَ- كَمَا فِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)) عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ((صَلُّوا قَبْلَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ، صَلُّوا قَبْلَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ، صَلُّوا قَبْلَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ.. قَالَ بَعْدَ الثَّالِثَةِ: لِمَنْ شَاءَ)).
فَالنَّبِيُّ ﷺ جَعَلَ الصَّلَاةَ عَلَى هَذَا النَّحْوِ، وَهِيَ مُرْتَبِطَةٌ فِيمَا ذُكِرَ بِالصَّلَوَاتِ، وَأَمَّا مَا دُونَ ذَلِكَ فَهُوَ النَّفْلُ الْمُطْلَقُ، كَمَا يَأْتِي الْمُسْلِمُ بِقِيَامِ اللَّيْلِ، وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُوَاظِبُ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ أَيَّامِ الْعَامِ، فِي اللَّيَالِي يُصَلِّي النَّبِيُّ ﷺ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً كَمَا أَخْبَرَتْ بِذَلِكَ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، وَهُوَ فِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)).
وَقَدْ يَقِلُّ ذَلِكَ، حَتَّى لَوِ اقْتَصَرَ الْمَرْءُ فِي الْوَتْرِ عَلَى رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَكِنَّ النَّبِيَّ ﷺ ((كَانَ يُصَلِّي حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ))؛ أَيْ تَتَشَقَّقُ، ((وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي حَتَّى تَتَوَرَّمَ قَدَمَاهُ))، فَإِذَا رُوجِعَ فِي ذَلِكَ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ! تَفْعَلُ ذَلِكَ وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟!!
قَالَ: ((أَفَلَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا؟)).
فَالنَّبِيُّ ﷺ عَلَّمَنَا قِيَامَ اللَّيْلِ فِي جَمِيعِ لَيَالِي السَّنَةِ، وَأَمَّا فِي رَمَضَانَ فَيَجْتَمِعُ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ فِي الْمَسَاجِدِ يُصَلُّونَ للهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَيَسْمَعُونَ آيَاتِ الْكِتَابِ الْمَجِيدِ، وَأَمَّا فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ اللَّيَالِي؛ فَالْأَمْرُ عَلَى حَالِهِ كَمَا كَانَتِ التَّرَاوِيحُ، غَيْرَ أَنَّهُ يَكُونُ عَلَى سَبِيلِ الِانْفِرَادِ، وَلَا بَأْسَ مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ جَمَاعَةً لَا عَلَى وَجْهِ تَرْتِيبٍ، كَمَا وَقَعَ مِنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- مَعَ النَّبِيِّ ﷺ، وَكَذَا وَقَعَ مِنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
فَيَحْرِصُ الْمُسْلِمُ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا حُوسِبَ عَلَى الْفَرِيضَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَوُجِدَ تَقْصِيرٌ مَا؛ نُظِرَ فِي النَّوَافِلِ، فَإِنْ جَبَرَتِ الْكَسْرَ فَذَلِكَ، وَإِلَّا فَهِيَ الْمُؤَاخَذَةُ وَالْعِقَابُ.
وَأَمَّا الصِّيَامُ؛ فَإِنَّ اللهَ فَرَضَ عَلَيْنَا صِيَامَ رَمَضَانَ، وَبَيَّنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَنَا أَنَّ الصِّيَامَ لَهُ غَايَةٌ جَلِيلَةٌ وَغَايَةٌ سَامِيَةٌ لَا أَسْمَى مِنْهَا، وَهِيَ تَحْصِيلُ التَّقْوَى، وَالتَّقْوَى: فِعْلُ الْمَأْمُورِ وَتَرْكُ الْمَحْظُورِ، فَمَنْ فَعَلَ الْمَأْمُورَاتِ، وَاجْتَنَبَ الْمَنْهِيَّاتِ؛ فَهُوَ التَّقِيُّ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- حَقًّا.
تَحْصِيلُ هَذِهِ التَّقْوَى يَكُونُ بِالصِّيَامِ، فَفَرَضَ اللهُ الصِّيَامَ عَلَيْنَا: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، فَهَذِهِ غَايَةٌ مِنَ الْغَايَاتِ بَيَّنَهَا لَنَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي كِتَابِهِ الْمَجِيدِ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ بَيَّنَ لَنَا كَيْفِيَّةَ الصِّيَامِ بَدْءًا وَمُنْتَهًى وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ، وَمَا يَنْبَغِي عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَتْرُكَهُ، وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَلَّا يَقْرَبَهُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَخْبَرَنَا أَنَّهُ: ((كَمْ مِنْ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنَ الصِّيَامِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، وَكَمْ مِنْ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنَ الْقِيَامِ السَّهَرُ))، ((وَمَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ؛ فَلَا حَاجَةَ للهِ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ))؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا صَامَ عَنِ الْحَلَالِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالشَّهْوَةِ الَّتِي أَحَلَّهَا اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- وَهُوَ مُفْطِرٌ فِي الْوَقْتِ عَيْنِهِ عَلَى مَا حَرَّمَ اللهُ مِنَ الْآفَاتِ الظَّاهِرَةِ؛ مِنَ الْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَمَا أَشْبَهَ مِنْهُ، الِاغْتِصَابُ لِأَمْوَالِ النَّاسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَالِاعْتِدَاءُ عَلَى أَبْشَارِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ بِالْأَيْدِي وَالْأَلْسُنِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مَعَ مَا يَلْحَقُ بِهَذِهِ الْآفَاتِ الظَّاهِرَةِ مِنَ الْآفَاتِ الْبَاطِنَةِ؛ مِنَ الْحِقْدِ، وَالْغِلِّ، وَالْغِشِّ، وَالْحَسَدِ وَمَا أَشْبَهَ مِنْ آفَاتِ الْقُلُوبِ؛ فَهَذَا لَيْسَ بِتَطْهِيرٍ لَا لِلْقَلْبِ وَلَا لِلْجَسَدِ.
وَيَنْبَغِي عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَحْرِصَ عَلَى سَلَامَةِ قَلْبِهِ؛ فَإِنَّ الْعِبْرَةَ بِسَلَامَةِ الْقَلْبِ مِنَ الضَّغَائِنِ وَالْأَحْقَادِ وَالْآفَاتِ، وَالَّذِي يَأْتِي رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ فَهَذَا الْفَائِزُ حَقًّا وَصِدْقًا، وَأَمَّا الَّذِي يَأْتِي رَبَّهُ وَفِي قَلْبِهِ الدَّغَلُ وَالزَّيْغُ وَالِانْحِرَافُ فَهَذَا هُوَ الْمُؤَاخَذُ حَقًّا وَصِدْقًا، نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَنَا أَجْمَعِينَ.
وَبَيَّنَ لَنَا النَّبِيُّ ﷺ صَوْمَ النَّفْلِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ مُبَاشَرَةً -أَيْ بَعْدَ يَوْمِ عِيدِ الْفِطْرِ-، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ)).
وَالْعُلَمَاءُ يَأْخُذُونَ الدَّلَالَاتِ اللُّغَوَيَّةَ وَيَسْتَعْمِلُونَهَا مِنْ أَجْلِ الِاسْتِنْبَاطِ لِلْأَحْكَامِ، فَـ (ثُمَّ) لِلتَّرْتِيبِ مَعَ التَّرَاخِي، فَفَرِيقٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ قَالُوا: لَيْسَ شَرْطًا أَنْ يَأْتِيَ بِهَا بِعَقِبِ عِيدِ الْفِطْرِ، وَإِنَّمَا يَأْتِي بِهَا فِي خِلَالِ الشَّهْرِ -شَهْرِ شَوَّالٍ-، حَتَّى إِنَّهُمْ قَالُوا: لَوْ أَنَّهُ وَاطَئَ هَذِهِ الْأَيَّامَ السِّتَّةَ مَعَ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ مِنْ كُلِّ أُسْبُوعٍ لَأَصَابَ الْخَيْرَ مُضَاعَفًا.
وَمِنْهُمْ مَنْ تَمَسَّكَ بِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يُؤْتَى بِهِ بَعْدَ عِيدِ الْفِطْرِ مُبَاشَرَةً؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَجْدَرَ بِأَنْ يَأْتِيَ الْإِنْسَانُ بِالْعِبَادَةِ بِعَقِبِ مَا اعْتَادَهُ مِنْ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَلِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَصُومُ تِلْكَ الْأَيَّامَ، وَالْإِنْسَانُ إِذَا شَارَكَهُ غَيْرُهُ فِي لَوْنٍ مِنْ أَلْوَانِ الْعِبَادَةِ؛ خَفَّتِ الْعِبَادَةُ عَلَى قَلْبِهِ، وَتَيَسَّرَتْ عَلَى جَوَارِحِهِ.
سَوَاءٌ كَانَ هَذَا أَوْ هَذَا -وَهُمَا قَوْلَانِ مُعْتَبَرَانِ-؛ فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي الْإِتْيَانِ بِهَذِهِ الْأَيَّامِ، فَهَذِهِ الْأَيَّامُ السِّتَّةُ بِشَهْرَيْنِ، وَشَهْرُ رَمَضَانَ -كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِعَشَرَةِ أَشْهُرٍ فَهَذَا تَمَامُ السَّنَةِ، اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا كَمَا بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ.
بَيَّنَ لَنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ أَنَّ ((صَوْمَ رَمَضَانَ وَأَنَّ صِيَامَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ يُذْهِبْنَ وَحَرَ الصَّدْرِ)).
وَ((وَحَرُ الصَّدْرِ)): غِشُّهُ وَدَغَلُهُ وَوَسَاوِسُهُ.
فَهَذِهِ وَصْفَةٌ نَبَوِيَّةٌ مُعْتَبَرَةٌ؛ لِإِزَالَةِ الْوَسَاوِسِ مِنَ الصُّدُورِ، وِلِتَخْلِيصِ النُّفُوسِ مِنْ شَوَائِبِهَا وَآفَاتِهَا، صَوْمُ رَمَضَانَ وَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ يُذْهِبْنَ وَحَرَ الصَّدْرِ.
وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ صِيَامَ الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ مَا يُسَمَّى بِـ (الْأَيَّامِ الْبِيضِ)، وَذَلِكَ فِي يَوْمِ الثَّالِثَ عَشَرَ وَالرَّابِعَ عَشَرَ وَالْخَامِسَ عَشَرَ مِنَ الشَّهْرِ الْقَمَرِيِّ.
وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَصُومُ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسَ، وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ الْعِلَّةَ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ فِي الِاثْنَيْنِ: ((هَذَا يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ وَبُعِثْتُ فِيهِ)).. فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَصُومَهُ ﷺ.
وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِمَجْمُوعِهِمَا -أَعْنِي يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ-؛ فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ ((اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَطَّلِعُ عَلَى أَعْمَالِ الْعِبَادِ كُلَّ يَوْمِ اثْنَيْنِ وَخَمِيسٍ، فَيَغْفِرُ لِكُلِّ مَنْ لَمْ يُشْرِكْ بِاللهِ شَيْئًا إِلَّا لِمُتَخَاصِمَيْنِ.. إِلَّا لِمُهْتَجِرَيْنِ، فَيَقُولُ: أَجِّلَا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا)).
فَهَذَا شُؤْمُ الْخِصَامِ وَالْخِلَافِ!! وَقَدْ ظَهَرَ -أَيْضًا- فِي تَحْدِيدِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ عَلَى وَجْهِ الْقَطْعِ مِنْ كُلِّ عَامٍ، حَتَّى ((إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا خَرَجَ لِيُخْبِرَهُمْ بِتَحْدِيدِ عَيْنِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ بِحَيْثُ لَا تَشْتَبِهُ، لَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ.. خَرَجَ، فَتَلَاحَا رَجُلَانِ -كُلٌّ يُمْسِكُ بِلِحْيَةِ أَخِيهِ-، وَفِي رِوَايَةٍ: فَوَجَدَ رَجُلَيْنِ يَحْتَقَّانِ، فَغَضِبَ النَّبِيُّ ﷺ وَقَالَ: ((كُنْتُ خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَتَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ، فَرُفِعَتْ)).
لَمْ تُرْفَعْ عَيْنًا، فَهِيَ بَاقِيَةٌ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ وَفِي الْأَوْتَارِ خَاصَّةً إِلَى أَنْ يَرِثَ اللهُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا، وَلَكِنْ هُوَ التَّحْدِيدُ.
قَالَ: ((وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ))؛ لِأَنَّ اللهَ أَخْفَى رِضَاهُ فِي طَاعَتِهِ كَمَا أَخْفَى سَخَطَهُ فِي مَعْصِيَتِهِ، فَلَا تَدْرِي مَتَى يُسْخَطُ عَلَيْكَ!! وَرُبَّمَا أَتَى الْعَبْدُ بِذَنْبٍ فَسَقَطَ بِهِ مِنْ عَيْنِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، فَلَمْ يَقُمْ لَهُ اعْتِبَارٌ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَعْدُ، ((وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَكْتُبُ اللهُ عَلَيْهِ بِهَا سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ)).
وَفِي رِوَايَةٍ: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ مَا فِيهَا؛ يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ».
وَكَذَلِكَ الطَّاعَةُ؛ ((وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَكْتُبُ اللهُ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ)).
فَعَلَى الْمُسْلِمِ الْحَرِيصِ عَلَى آخِرَتِهِ الشَّحِيحِ بِدِينِهِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي مَعْرِفَةِ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَأَنْ يَرْبِطَ الْعِلْمَ بِالْعَمَلِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ فِي الْإِسْلَامِ لَيْسَ مَتَاعًا عَقْلِيًّا، وَلَا تَرَفًا فِكْرِيًّا، وَإِنَّمَا هُوَ مَا بُنِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ، وَإِلَّا فَمَنْ تَعَلَّمَ وَلَمْ يَعْمَلْ فَإِنَّهُ مُؤَاخَذٌ بِذَلِكَ، وَهُوَ مِنَ الْأَسْئِلَةِ الَّتِي يُسْأَلُهَا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: ((وَعَنْ عِلْمِهِ مَا عَمِلَ فِيهِ؟!!)).
وَقَدْ بَيَّنَ لَنَا أَصْحَابُ نَبِيِّنَا كَمَا رَوَى أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- قَالَ: ((أَخْبَرَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَنَّهُمْ تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ عَشْرَ آيَاتٍ عَشْرَ آيَاتٍ، لَا يُجَاوِزُوهُنَّ حَتَّى يَفْقَهُووهُنَّ -أَيْ يَفْهَمُوهُنَّ- وَيَعْمَلُوا بِهِنَّ، قَالُوا: فَتَعَلَّمْنَا الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا)).
وَهَذَا مِنْ أَكْبَرِ الْأَسْبَابِ الَّتِي سَبَقَ بِهَا الْأَصْحَابُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ-، فَلَمَّا خَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ جَعَلُوا الْحِفْظَ نِهَايَةَ الْأَمْرِ، وَالِاسْتِظْهَارَ غَايَةَ الْأَمْرِ، وَلَمْ يُحَوِّلُوا هَذَا الْمَعْلُومَ إِلَى وَاقِعٍ مَنْظُورٍ يَتَحَرَّكُونَ بِهِ عَلَى الْأَرْضِ، وَيَدْخُلُ فِي حَيَوَاتِهِمْ حَتَّى يَصِيرَ دَائِرًا فِي دِمَائِهِمْ، وَحَتَّى يَكُونَ كَالْفِكْرَةِ الْمُلَازِمَةِ فِي عُقُولِهِمْ؛ تَخَلَّفَتِ الْأُمَّةُ.
فَنَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُعِيدَ إِلَيْهَا عِزَّهَا وَمَجْدَهَا، وَهُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.
((الِاسْتِقَامَةُ وَالْمُدَاوَمَةُ عَلَى الطَّاعَاتِ وَثَمَرَاتُهَا))
إِنَّ الصَّائِمَ الْحَقَّ هُوَ الَّذِي أَوْرَثَهُ صِيَامُهُ تَقْوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَحِينَمَا تَكَلَّمَ اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَنْ وَصْفِ الْمُتَّقِينَ وَجَزَائِهِمْ قَالَ: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 15-18]، فَلَمْ يَخُصَّ -سُبْحَانَهُ- ذَلِكَ بِلَيْلِ رَمَضَانَ.
وَعِنْدَمَا قَالَ -سُبْحَانَهُ- فِي وَصْفِ مُقِيمِي اللَّيْلِ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 16-17]، لَمْ يَقْصِرْ ذَلِكَ عَلَى رَمَضَانَ دُونَ سِوَاهُ، إِنَّمَا جَعَلَهُ فَضْلًا عَامًّا فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ وَالشُّهُورِ.
وَمِنْ هُنَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَسْتَمِرَّ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَأَنْ يَسْتَقِيمَ عَلَى طَاعَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَدَوَامِ مُرَاقَبَتِهِ، يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود: 112].
فَالْزَمْ يَا رَسُولَ اللهِ النَّهْجَ الْمُسْتَقِيمَ الْمُتَوَسِّطَ بَيْنَ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، وَاثْبُتْ عَلَى دِينِ رَبِّكَ وَالْعَمَلِ بِهِ وَالدُّعَاءِ إِلَيْهِ أَنْتَ وَمَنْ آمَنَ مَعَكَ مِنْ أُمَّتِكَ.
وَلَا تُجَاوِزُوا مَا حُدِّدَ لَكُمْ بِإِفْرَاطٍ أَوْ تَفْرِيطٍ، إِنَّهُ -سُبْحَانَهُ- بَصِيرٌ -دَوَامًا- بِكُلِّ مَا تَعْمَلُونَ فِي حَيَاتِكُمْ، وَسَيُعَاقِبُ الْمُتَجَاوِزِينَ حُدُودَهُ بِعَدْلِهِ.
وَيَقُولُ -جَلَّ شَأْنُهُ-: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۖ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ۖ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7].
مَا مِنِ اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ يَتَنَاجَيَانِ بِأَيِّ مَكَانٍ مِنَ الْأَرْضِ؛ إِلَّا وَاللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- مَعَهُمْ.
وَهَذِهِ الْمَعِيَّةُ عَامَّةٌ؛ لِأَنَّهَا تَشْمَلُ كُلَّ أَحَدٍ: الْمُؤْمِنَ، وَالْكَافِرَ، وَالْبَرَّ، وَالْفَاجِرَ.. وَمُقْتَضَاهَا: الْإِحَاطَةُ بِهِمْ عِلْمًا، وَقُدْرَةً، وَسَمْعًا، وَبَصَرًا، وَسُلْطَانًا، وَتَدْبِيرًا، وَغَيْرَ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ}؛ يَعْنِي: أَنَّ هَذِهِ الْمَعِيَّةَ تَقْتَضِي إِحْصَاءَ مَا عَمِلُوهُ؛ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَبَّأَهُمْ بِمَا عَمِلُوا؛ يَعْنِي: أَخْبَرَهُمْ بِهِ وَحَاسَبَهُمْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِنْبَاءِ لَازِمُهُ، وَهُوَ الْمُحَاسَبَةُ، لَكِنْ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَعَالَى- يُحْصِي أَعْمَالَهُمْ، ثُمَّ يَقُولُ: ((سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ)).
{إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}؛ بكُلِّ شَيْءٍ مَوْجُودٍ أَوْ مَعْدُومٍ.
{إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}؛ {كُلِّ شَيْءٍ} مَوْجُودٍ أَوْ مَعْدُومٍ.
وَعَنْ أَبِي عَمْرٍو -وَقِيلَ: أَبِي عَمْرَةَ- سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا غَيْرَكَ.
قَالَ ﷺ: «قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ، ثُمَّ اسْتَقِمْ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
((((ثُمَّ اسْتَقِمْ))؛ مَعْنَاهُ: أَيِ اسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ مُمْتَثِلًا أَمْرَ اللهِ، مُجْتَنِبًا نَهْيَهُ)).
إِنَّ مِنْ عُقُوبَةِ السَّيِّئَةِ: السَّيِّئَةُ بَعْدَهَا، وَمِنْ ثَوَابِ الْحَسَنَةِ: الْحَسَنَةُ بَعْدَهَا.
إِنَّ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ يَعْبُدُ رَبَّهُ إِلَى آخِرِ نَفَسٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ ((مَنْ كَانَ آخِرَ كَلَامِهِ مِنَ الدُّنْيَا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ دَخَلَ الْجَنَّةَ)).
إِلَى آخِرِ لَحْظَةٍ -إِلَى الْغَرْغَرَةِ- عِبَادَةٌ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}؛ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْمَوْتُ.
فَالْعِبَادَةُ لَا تَنْقَطِعُ أَبَدًا..
وَالنَّبِيُّ ﷺ كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً، كَانَ عَمَلُهُ دَائِمًا لَا يَنْقَطِعُ، وَأَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ.
إِنَّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى طَاعَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَحُسْنَ مُرَاقَبَتِهِ مِنْ أَسْبَابِ حُسْنِ الْخَاتِمَةِ؛ حَيْثُ إِنَّ الْمُقَدِّمَاتِ الصَّحِيحَةَ تَصِلُ بِصَاحِبِهَا إِلَى النَّتَائِجِ الصَّحِيحَةِ الْمَرْجُوَّةِ؛ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} [فصلت: 30-32].
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأحقاف: 13].
وَعَدَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَنْ آمَنَ بِهِ، وَاسْتَقَامَ عَلَى الطَّرِيقَةِ.. وَعَدَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هَذَا الْوَعْدَ الْحَقَّ الَّذِي لَا يَتَخَلَّفُ؛ بِتَثْبِيتٍ فِي الْحَيَاةِ، وَثَوَابٍ بَعْدَ الْمَمَاتِ.
{تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا}: عِنْدَ قَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ؛ لَا تَخَافُوا مِمَّا أَنْتُمْ مُقْدِمُونَ مُقْبِلُونَ عَلَيْهِ، وَلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا خَلَّفْتُمْ وَرَاءَكُمْ مِنَ الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ، سَيَحْفَظُكُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهِ؛ {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ}.
كَمَا أَنَّ مِنْ أَسْبَابِ حُسْنِ الْخَاتِمَةِ: صِدْقُ الْعَبْدِ مَعَ رَبِّهِ؛ لِأَنَّ صِدْقَ النِّيَّاتِ يَبْلُغُ الْمَقَاصِدَ، وَلَا أَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ هَذَا الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَآمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ، ثُمَّ قَالَ: أُهَاجِرُ مَعَكَ.
فَأَوْصَى بِهِ النَّبِيُّ ﷺ بَعْضَ أَصْحَابِهِ, فَلَمَّا كَانَتْ غَزْوَةٌ، غَنِمَ النَّبِيُّ ﷺ سَبْيًا، فَقَسَمَهُ وَقَسَمَ لَهُ، فَأَعْطَى أَصْحَابَهُ مَا قَسَمَ لَهُ, وَكَانَ يَرْعَى ظَهْرَهُمْ -كَانَ فِي إِبِلِهِمْ يَرْعَاهَا, فَلَمْ يَكُنْ حَاضِرًا-، فَأَعْطَى أَصْحَابَهُ مَا قَسَمَ لَهُ، فَلَمَّا جَاءَ دَفَعُوهُ إِلَيْهِ, فَقَالَ: مَا هَذَا؟!!
قَالُوا: قَسْمٌ قَسَمَهُ لَكَ النَّبِيُّ ﷺ، فَأَخَذَهُ، فَجَاءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟!
قَالَ: ((قَسَمْتُهُ لَكَ)).
قَالَ: مَا عَلَى هَذَا اتَّبَعْتُكَ! وَلَكِنِّي اتَّبَعْتُكَ عَلَى أَنْ أُرْمَى إِلَى هَاهُنَا -وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ- بِسَهْمٍ؛ فَأَمُوتَ فَأَدْخُلَ الجَنَّةَ.
فَقَالَ: ((إِنْ تَصْدُقِ اللَّهَ يَصْدُقْكَ)).
فَلَبِثُوا قَلِيلًا، ثُمَّ نَهَضُوا فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ، فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ يُحْمَلُ, قَدْ أَصَابَهُ سَهْمٌ حَيْثُ أَشَارَ, فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَهُوَ هُوَ؟!!)).
قَالُوا: نَعَمْ.
قَالَ: ((صَدَقَ اللَّهَ، فَصَدَقَهُ اللَّهُ)).
ثُمَّ كَفَّنَهُ النَّبِيُّ ﷺ فِي جُبَّتِهِ، ثُمَّ قَدَّمَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ, فَكَانَ فِيمَا ظَهَرَ مِنْ صَلَاتِهِ -أَيْ مِنْ دُعَائِهِ-: ((اللَّهُمَّ إِنَّ هَذَا عَبْدُكَ خَرَجَ مُهَاجِرًا فِي سَبِيلِكَ، فَقُتِلَ شَهِيدًا, أَنَا شَهِيدٌ عَلَى ذَلِكَ)).
خُذْ هَذَا السَّبْيَ! فَقَالَ: مَا عَلَى هَذَا اتَّبَعْتُكَ! لَمْ أَتَّبِعْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى أَنْ أُحَصِّلَ فِي الدُّنْيَا مَغْنَمًا, وَلَا أَنْ أُفِيدَ فِيهَا فَائِدَةً؛ وَإِنَّمَا اتَّبَعْتُكَ عَلَى أَنْ أُرْمَى بِسَهْمٍ هَاهُنَا, يَخْتَارُ مِيتَةً يُؤتِيهِ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِيَّاهَا كَمَا اخْتَارَهَا، وَيُشِيرُ بِأُصْبُعِهِ إِلَى حَلْقِهِ، أَنْ أُرْمَى بِسَهْمٍ هَاهُنَا -وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ-؛ فَأَمُوتَ فَأَدْخُلَ الجَنَّةَ، فَوَكَلَهُ الرَّسُولُ إِلَى صِدْقِهِ مَعَ رَبِّهِ؛ قَالَ: ((إِنْ تَصْدُقِ اللَّهَ يَصْدُقْكَ)).
فَجِيءَ بِهِ مَحْمُولًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَتَأَكَّدَ مِنْهُ: ((أَهُوَ هُوَ؟!!))
قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
السَّهْمُ فِي حَلْقِهِ، فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ بِأُصْبُعِهِ، فَقَالَ: ((صَدَقَ اللَّهَ، فَصَدَقَهُ اللَّهُ))، ثُمَّ شَهِدَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ بَمَا كَانَ مِنْهُ.
((الِاجْتِهَادُ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ وَسَلَامَةِ الْقَلْبِ))
((اجْتَهِدُوا إِخْوَانِي فِي فِعْلِ الطَّاعَاتِ، وَاجْتَنِبُوا الْخَطَايَا وَالسَّيِّئَاتِ؛ لِتَفُوزُوا بِالْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ فِي الدُّنْيَا، وَالْأَجْرِ الْكَثِيرِ بَعْدَ الْمَمَاتِ، قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97])).
فَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَإِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- يُحْيِيهِ الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ، وَهِيَ الْحَيَاةُ الْحَقِيقِيَّةُ، لَيْسَتْ بِالْحَيَاةِ الَّتِي يُشَارِكُ فِيهَا أَحَطَّ الْبَهَائِمِ وَأَرْذَلَهَا، فَإِنَّ لِلْمَرْءِ حَيَاتَيْنِ:
حَيَاةٌ يُشَارِكُ فِيهَا كُلَّ الْأَحْيَاءِ مِنَ الدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ وَمَنْ فَوْقَهُمْ.
وَحَيَاةٌ مُتَفَرِّدَةٌ هِيَ حَيَاةُ قَلْبِهِ وَرُوحِهِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ.
فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ يَقِظًا مُنْتَبِهًا، وَأَنْ يَكُونَ شَحِيحًا بِدِينِهِ، حَرِيصًا عَلَى حَيَاتِهِ الْبَاقِيَةِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ مَا قَالَ وَفَعَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَيَتَمَسَّكَ بِهِ.
وَعَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي أَنْ يَقُصَّ عَلَى أَثَرِ نَبِيِّهِ ﷺ، وَأَنْ يَلْزَمَ غَرْزَهُ، فَفِي ذَلِكَ السَّعَادَةُ وَالْفَلَاحُ، وَأَمَّا مَنْ شَذَّ؛ فَإِنَّهُ يَشِذُّ فِي النَّارِ وَبِئْسَ الْقَرَارُ.
نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُحْسِنَ لَنَا جَمِيعًا الْخِتَامَ.
يَنْبَغِي عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي أَنْ يُكْثِرَ مِنَ الصَّدَقَةِ فِي رَمَضَانَ وَفِي غَيْرِ رَمَضَانَ، وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ، وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَفِي صِيَامِ النَّوَافِلِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا رَسُولُ اللهِ.
وَفَوْقَ ذَلِكَ وَهُوَ الْبَاعِثُ عَلَيْهِ، وَهُوَ شَرْطُ صِحَّةٍ فِي قَبُولِهِ: أَنْ يُطَهِّرَ قَلْبَهُ، وَأَنْ يَكُونَ سَلِيمَ النِّيَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ يَنْزِعَ عَنْ فُؤَادِهِ الْغِلَّ وَالْغِشَّ وَالزَّغَلَ وَالْحِقْدَ وَالْحَسَدَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ يُحِبَّ لَهُمْ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، وَأَنْ يَكُونَ لَهُمْ بِمَثَابَةِ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ، أَنْ يَكُونَ بِهِمْ رَحِيمًا رَؤُوفًا شَفِيقًا.
وَأَنْ يَتَّقِيَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فِيهِمْ؛ فَيَسُدَّ خَلَّتَهُمْ، وَيُطْعِمَ جَوْعَتَهُمْ، وَيَسْتُرَ عَوْرَتَهُمْ، لَا أَنْ يَتَتَبَّعَ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ لِيَفْضَحَهُمْ، ((يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ! لَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ، تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ؛ فَضَحَهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ بَيْتِهِ)).
كُنْ رَبَّانِيًّا وَلَا تَكُنْ رَمَضَانِيًّا، كُنْ رَبَّانِيًّا وَلَا تَكُنْ رَمَضَانِيًّا!!
كُنْ رَبَّانِيًّا؛ تُرَاقِبُ رَبَّكَ، وَتَرْعَى سَيِّدَكَ فِيمَا أَوْجَبَهُ عَلَيْكَ، وَفِيمَا نَهَاكَ عَنْهُ، فَتُقْبِلُ عَلَى الْأَوَّلِ، وَتُمْسِكُ عَنِ الثَّانِي وَتُبَاعِدُهُ.
اللهم تُبْ عَلَيْنَا لِنَتُوب، تُبْ عَلَيْنَا لِنَتُوب، تُبْ عَلَيْنَا لِنَتُوب.
اللهم اغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا، وَعَافِنَا وَاعْفُ عَنَّا.
اللهم تَقَبَّلْ مِنَّا.
اللهم خُذْ بِأَيْدِينَا إِلَيْكَ، وَأَقْبِلْ بِقُلُوبِنَا عَلَيْكَ.
اللهم إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، نَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، نَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجمَعِينَ.
المصدر:مَاذَا عَنْ شَوَّالٍ؟