((حُسْنُ الْخَاتِمَةِ))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((مَنْ أَحْسَنَ وَأَخْلَصَ وَمَنْ أَسَاءَ وَرَاءَى؟!!))
فَقَدْ ذَكَرَ الذَّهَبِيُّ فِي ((السِّيَرِ)) عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: ((مَنْ أَحْسَنَ فَلْيَرْجُ الثَّوَابَ، وَمَنْ أَسَاءَ فَلَا يَسْتَنْكِرِ الْجَزَاءَ، وَمَنْ أَخَذَ عِزًّا بِغَيْرِ حَقٍّ أَوْرَثَهُ اللهُ ذُلًّا بِحَقٍّ، وَمَنْ جَمَعَ مَالًا بِظُلْمٍ أَوْرَثَهُ اللهُ فَقْرًا بِغَيْرِ ظُلْمٍ)).
مَنْ أَحْسَنَ فَلْيَرْجُ الثَّوَابَ؛ فَلَيْتَ شِعْرِي مَنْ أَحْسَنَ مِمَّنْ أَسَاءَ؟!! وَمَنْ أَسَاءَ فَلَا يَسْتَنْكِرِ الْجَزَاءَ!!
((إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَجْسَامِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ)).
إِنَّ اللهَ لَا يُرِيدُ أَشْبَاحًا بَيْنَ يَدَيْهِ مَنْصُوبَةً، وَإِنَّمَا يُرِيدُ قُلُوبًا إِلَيْهِ بِحَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ مَصْبُوبَةً.
فَلَيْتَ شِعْرِي مَنْ أَحْسَنَ وَمَنْ أَسَاءَ؟!!
((مَنْ أَخَذَ عِزًّا بِغَيْرِ حَقٍّ أَوْرَثَهُ اللهُ ذُلًّا بِحَقٍّ، وَمَنْ جَمَعَ مَالًا بِظُلْمٍ أَوْرَثَهُ اللهُ فَقْرًا بِغَيْرِ ظُلْمٍ)).
إِنَّ الزَّيْفَ لَا يَرُوجُ، وَإِنَّ الْبَهْرَجَ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَالْعِبْرَةُ بِالْإِخْلَاصِ؛ فَلَيْتَ شِعْرِي مَنْ أَخْلَصَ مِمَّنْ رَاءَى وَنَافَقَ؟!!
لَيْتَ شِعْرِي مَنِ اسْتَقَامَ مِمَّنِ اعْوَجَّ؟!!
قَالَ بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ: ((لَا تَعْمَلْ لِتُذْكَرَ، اكْتُمِ الْحَسَنَةَ كَمَا تَكْتُمُ السَّيِّئَةَ)).
لَا تَعْمَلْ لِتُذْكَرَ؛ فَإِنَّ اللهَ أَعْلَمُ.
وَاللهُ -جَلَّ وَعَلَا- مُطَّلِعٌ عَلَى خَفَايَا الْقُلُوبِ وَمَا فِي حَنَايَا الصُّدُورِ، وَهُوَ بَعْدُ يُجَازِي الْخَلْقَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ، عَلَى إِرَادَاتِهِمْ، عَلَى بَوَاعِثِهِمْ، عَلَى مَا أَكَنَّتْ نُفُوسُهُمْ، وَأَخْفَتْ قُلُوبُهُمْ، وَطَوَتْ صُدُورُهُمْ، وَرَبُّكَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ.
فَلَا تَعْمَلْ لِتُذْكَرَ!
وَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((قَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ مُرَائِيًا بَعْدَ مَوْتِهِ، يُحِبُّ أَنْ يَكْثُرَ الْخَلْقُ فِي جَنَازَتِهِ)).
فَيَكُونُ مُرَائِيًا وَهُوَ مَيِّتٌ!!
إِنَّ الرَّجُلَ يَكُونُ مُرَائِيًا بَعْدَ مَوْتِهِ، يُحِبُّ أَنْ يَكْثُرَ الْخَلْقُ فِي جِنَازَتِهِ.
إِنَّ فِي النَّفْسِ مَسَالِكَ وَدُرُوبًا، وَهِيَ مُعَقَّدَةٌ شَائِكَةٌ، قَدْ لَا يَسْتَطِيعُ الْمَرْءُ أَنْ يَعْرِفَ حَقِيقَةَ سُبُلِهَا، وَلَا مَضْمُونَ كَيْنُونَتِهَا، وَإِنَّمَا هُوَ مَاضٍ فِي طَرِيقِهِ، مُلَجِّجٌ فِي سَبِيلِهِ، لَمْ يَتَوَقَّفْ مَرَّةً لِيُنَقِّبَ وَيُفَتِّشَ، وَلِيَبْحَثَ عَنْ طَوِيَّةِ نَفْسِهِ وَذَاتِ قَلْبِهِ.
إِنَّ الرِّيَاءَ قَدْ يَسْتَشْرِي فِي النَّفْسِ حَتَّى يُخَالِطَهَا حَيَاةً وَكَوْنًا؛ كَالْكِبْرِ الَّذِي كَانَ فِي نَفْسِ أَبِي جَهْلٍ وَهُوَ يُذَفِّفُ وَهُوَ يَمُوتُ، وَابْنُ مَسْعُودٍ عَلَى صَدْرِهِ وَهُوَ يَقُولُ لَهُ -بِالْكِبْرِ كُلِّهِ، وَقَدْ عَايَنَ الْآيَاتِ، وَأَظْهَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْعِبَرَ الْبَاهِرَاتِ، وَهُوَ يَقُولُ وَقَدْ خَالَطَ الْكِبْرُ كُلَّ ذَرَّةٍ فِي جَسَدِهِ-: ((لَقَدِ ارْتَقَيْتَ مُرْتَقًى صَعْبًا يَا رُوَيْعِيَ الْغَنَمِ)).
قَدْ يَكُونُ الْمَرْءُ مُرَائِيًا حَتَّى وَهُوَ مَيِّتٌ، فَكَأَنَّ رِيَاءَهُ لَا يَخْرُجُ بِخُرُوجِ رُوحِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُمْتَدٌّ بَعْدَهُ نَبْتَةٌ خَبِيثَةٌ وَثَمَرَةٌ مُرَّةٌ، ((قَدْ يُرَائِي الْمَرْءُ بَعْدَ مَوْتِهِ، يُحِبُّ أَنْ يَكْثُرَ النَّاسُ فِي جَنَازَتِهِ!!)).
قَالَ الْفَيْضُ: قَالَ لِي الْفُضَيْلُ: ((لَوْ قِيلَ لَكَ: يَا مُرَائِي؛ غَضِبْتَ وَشَقَّ عَلَيْكَ، وَعَسَى مَا قِيلَ لَكَ حَقٌّ، تَزَيَّنْتَ لِلدُّنْيَا وَتَصَنَّعْتَ، وَقَصَّرْتَ ثِيَابَكَ، وَحَسَّنْتَ سَمْتَكَ، وَكَفَفْتَ أَذَاكَ حَتَّى يُقَالَ: أَبُو فُلَانٍ عَابِدٌ، مَا أَحْسَنَ سَمْتَهُ، وَمَا أَقْوَمَ دَلَّهُ ! فَيُكْرِمُونَكَ، وَيَنْظُرُونَكَ، وَيَقْصِدُونَكَ، وَيُهْدُونَ إِلَيْكَ؛ مِثْلُ الدِّرْهَمِ الرَّدِيءِ لَا يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ، فَإِذَا قُشِرَ؛ قُشِرَ عَنْ نُحَاسٍ)).
إِذَا زَالَتْ قِشْرَتُهُ تَبَيَّنَتْ حَقِيقَتُهُ، وَحَقِيقَتُهُ زَيْفٌ رَدِيءٌ، لَيْسَتْ لَهَا قِيمَةٌ، وَأَمَّا بَاطِنُهُ فَكَالْقَبْرِ؛ ظَاهِرٌ يَسُرُّ، وَبَاطِنٌ مِنْ دُونِهِ يَضُرُّ، أَلَا مَتَى يَجِدُ الْمَرْءُ خَلَاصَهُ وَيَسْتَقِرُّ عَلَى قَرَارِهِ؟!!
وَالدُّنْيَا عَنَاءٌ وَبَلَاءٌ، وَالدُّنْيَا جِهَادٌ وَكِفَاحٌ، وَلَوْ أَنَّ الْإِنْسَانَ أَخْلَصَ لَحْظَةً، فَقَبِلَ اللهُ مِنْهُ لَكَانَ مِنَ السُّعَدَاءِ النَّاجِينَ؛ وَلَكِنْ مَا الْحِيلَةُ وَالرِّيَاءُ يَسْتَحْوِذُ عَلَى النَّفْسِ، وَيَضْرِبُ فِيهَا بِجُذُورِهِ؛ حَتَّى إِنَّها لا تُقْلَعُ بِمَوْتِهِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيُرَائِي بَعْدَ مَوْتِهِ، فَإِلَى اللهِ الْمُشْتَكَى، وَهُوَ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِهِ.
((تُرَابٌ -وَاللهِ- وَابْنُ تُرَابٍ!))
سَمَاؤُكِ يَا دُنْيَا خِدَاعُ سَرَابِ = وَأَرْضُكِ عُمْرَانٌ وَشِيكُ خَرَابِ
وَمَا أَنْتِ إِلَّا جِيفَةٌ طَالَ حَوْلَهَا = قِيَامُ ضِبَاعٍ أَوْ قُعُودُ ذِئَابِ
نَعِيشُ وَنَمْضِي فِي عَذابٍ كَلَذَّةٍ = مِنَ الْعَيْشِ أَوْ فِي لَذَّةٍ كَعَذَابِ
ذَهَبْنَا مِنَ الْأَحْلَامِ فِي كُلِّ مَذْهَبٍ = فَلَمَّا انْتَهَيْنَا فُسِّرَتْ بِذَهَابِ
وَكُلُّ أَخِي عَيْشٍ وَإِنْ طَالَ عَيْشُهُ = تُرَابٌ وَأَيْمُ اللهِ وَابْنُ تُرابِ
اللهم أَحْسِنْ خِتَامَنَا يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
((انْقِضَاءُ رَمَضَانَ وَمُوَاصَلَةُ الْعِبَادَةِ وَالْعَمَلِ))
انْقَضَى شَهْرُ رَمَضَانَ، وَعَمَلُ الْمُؤْمِنِ لَا يَنْقَضِي بِالْمَوْتِ، فَقَدْ يَمْتَدُّ بَعْدَ الْمَوْتِ؛ مِنْ عِلْمٍ نَافِعٍ، وَوَلَدٍ صَالِحٍ، وَصَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، وَدُونَ هَذِهِ يَنْقَضِي عَمَلُ الْمُؤْمِنِ بِمَوْتِهِ.
قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99].
وَالْيَقِينُ: الْمَوْتُ.
فَعَمَلُكَ دِيمَةٌ حَتَّى تَلْقَى رَبَّكَ..
{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
وَقَالَ ﷺ: ((إِذَا مَاتَ الْعَبْدُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ))؛ فَلَمْ يَجْعَلْ لِلْعَمَلِ غَايَةً إِلَّا الْمَوْتَ، ((إِذَا مَاتَ الْعَبْدُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ))، فَعَمَلُهُ غَايَتُهُ الْمَوْتُ، وَلَمْ يَجْعَلْ لِانْقِطَاعِ الْعَمَلِ غَايَةً دُونَ الْمَوْتِ؛ فَالْعَمَلُ إِلَى الْمَمَاتِ، جِدٌّ وَكَدٌّ، وَجِهَادٌ وَجِلَادٌ، وَعَنَاءٌ وَشَقَاءٌ؛ لِتَحْصِيلِ الْفَوْزِ فِي الْآخِرَةِ؛ حَتَّى لَا تَغُرَّنَا الدُّنْيَا بِبَهْرَجٍ زَائِفٍ لَا حَقِيقَةَ وَرَاءَهُ، وَإِنَّمَا هِيَ كَالْقَبْرِ.
((صُمْ عَنِ الدُّنْيَا، وَاجْعَلْ فِطْرَكَ الْمَوْتَ، الدُّنْيَا كُلُّهَا شَهْرُ صِيَامِ الْمُتَّقِينَ -مَا انْقَضَى الشَّهْرُ- الدُّنْيَا كُلُّهَا شَهْرُ صِيَامِ الْمُتَّقِينَ، يَصُومُونَ فِيهِ عَنِ الشَّهَوَاتِ الْمُحَرَّمَاتِ، فَإِذَا جَاءَهُمُ الْمَوْتُ فَقَدِ انْقَضَىَ شَهْرُ صِيَامِهِمْ، وَاسْتَهَلُّوا عِيدَ فِطْرِهِمْ، كَمَا قَالَ قَائِلُهُمْ:
وَقَدْ صُمْتُ عَنْ لَذَّاتِ دَهْرِي كُلِّهَا = وَيَوْمُ لِقَاكُمْ ذَاكَ فِطْرُ صِيَامِي)).
فِطْرُ صِيَامِي فِي يَوْمِ لِقَاكُمْ، وَيَوْمُ لِقَاكُمْ ذَاكَ فِطْرُ صِيَامِي.
وَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا هُوَ الْغُمُوضُ يَحُفُّ بِالْمَصِيرِ، وَالْمَرْءُ كَالْخَابِطِ فِي عَمَايَةٍ، وَالسَّائِرِ لَا فِي هِدَايَةٍ وَلَا غِوَايَةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ سَائِرٌ إِلَى رَبِّهِ لَا يَدْرِي حَقِيقَةَ نِيَّتِهِ، وَلَا يَدْرِي مَكْنُونَ طَوِيَّتِهِ، وَلَا يَسْتَطِيعُ الْجَزْمَ بِأَنَّ هَذَا للهِ حَقِيقَةً؛ فَلِمَ لَا يَكُونُ لِلنَّفْسِ؟!! وَلِمَ لَا يَكُونُ لِلْهَوَى؟!! وَلِمَ لَا يَكُونُ لِلدُّنْيَا؟!!
وَالْمَرْءُ نَفْسُهُ غَامِضَةٌ فِي مَسَالِكِهَا مُشْتَبِهَةٌ عَلَيْهِ، فَأَنَّى يَجِدُ مَوْضِعَ الْأَرْضِ الصُّلْبَةِ لِقَدَمَيْهِ، وَإِنَّمَا هِيَ مَزَالِقُ لِمَهَالِكَ، وَالْعَاصِمُ اللهُ لَا إِلَهَ سِوَاهُ، فَاللهم أَحْسِنْ خِتَامَنَا أَجْمَعِينَ.
((مَا زَالَ فِي رَمَضَانَ بَقِيَّةٌ!))
((مَنْ صَامَ الْيَوْمَ عَنْ شَهَوَاتِهِ أَفْطَرَ عَلَيْهَا بَعْدَ مَمَاتِهِ، وَمَنْ تَعَجَّلَ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِ قَبْلَ وَفَاتِهِ عُوقِبَ بِحِرْمَانِهِ فِي الْآخِرَةِ وَفَوَاتِهِ)).
مَا زَالَ فِي الْأَمْرِ بَقِيَّةٌ؛ عَسَى اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَنْ يَمُنَّ عَلَيْنَا بِاسْتِدْرَاكِ مَا فَاتَ، وَالْإحْسَانِ فِيمَا هُوَ آتٍ، وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ، عَطَاؤُهُ كَلَامٌ، يَقُولُ لِلشَّيْءِ: كُنْ فَيَكُونُ، وَهُوَ الْجَوَادُ الْكَرِيمُ، وَهُوَ أَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ؛ فَعَسَى يَمُنُّ عَلَيْنَا فِيمَا هُوَ آتٍ بِاسْتِدْرَاكِ مَا فَاتَ مِمَّا كَانَ مِنْ عَجْزٍ وَتَقْصِيرٍ، وَرِيَاءٍ وَسُمْعَةٍ، وَتَخَبُّطٍ وَتَلَدُّدٍ وَحَسْرَةٍ؛ لِتَسْتَقِيمَ الْقُلُوبُ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَلِتَهْدَأَ الْأَرْوَاحُ فِي حَبْرَةِ الْيَقِينِ، عَسَى الْمَرْءُ أَنْ يَجِدَ فِي الدُّنْيَا جَنَّةَ الدُّنْيَا قَبْلَ جَنَّةِ الْآخِرَةِ، وَإِنَّ فِي الدُّنْيَا لَجَنَّةً مَنْ لَمْ يَدْخُلْهَا لَمْ يَدْخُلْ جَنَّةَ الْآخِرَةِ، هِيَ جَنَّةُ الْأُنْسِ بِاللهِ، وَاللَّجْأِ إِلَى اللهِ، وَالِاسْتِعَانَةِ بِاللهِ، وَالِانْطِرَاحِ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ، وَاسْتِعَاذَةً بِهِ مِنْ مَسَاخِطِهِ -جَلَّ فِي عُلَاهُ-، فَعَسَى اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَنْ يَمُنَّ عَلَيْنَا بِجَنَّةِ الْأُنْسِ بِقُرْبِهِ، بِجَنَّةِ لَذَّةِ ذِكْرِهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ الْجَوَادُ الْكَرِيمُ، الْمَسْؤُولُ أَنْ يُدْخِلَنَا الْجَنَّةَ فِي الْآخِرَةِ، وَهُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ.
مَا زَالَ فِي الْأَمْرِ بَقِيَّةٌ، وَلَيْسَتْ بِصُبَابَةٍ وَلَا ثُمَالَةٍ ، وَإِنَّمَا هِيَ قَدْرٌ وَافٍ كَافٍ لَوْ أَحْسَنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِلَيْنَا، يَكْفِي أَنَّا نُؤَمِّلُ مَا زِلْنَا فِيمَا بَقِيَ لَنَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَيَكْفِي لَيْلَةَ الْقَدْرِ أَنَّهَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 1-3].
لَعَلَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يَمُنَّ عَلَيْنَا بِالْعَطَاءِ فِيهَا، وَالْغُفْرَانِ وَالرَّحْمَةِ، وَأَنْ يُحَسِّنَ أَخْلَاقَنَا، وَأَنْ يُبَدِّلَ أَحْوَالَنَا إِلَى مَا يُرْضِيهِ عَنَّا، عَسَى رَبُّنَا أَنْ يَرْحَمَنَا، وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ۚ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 3-4].
كَمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- بِاسْتِنْسَاخِ النُّسْخَةِ السَّنَوِيَّةِ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}؛ مَنْ يُولَدُ وَمَنْ يَمُوتُ، مَنْ يُعْطَى وَمَنْ يُحْرَمُ، مَنْ يُرْفَعُ وَمَنْ يُخْفَضُ، مَنْ يُعَزُّ وَمَنْ يُذَلُّ، مَنْ يَسْتَقِيمُ وَمَنْ يَعْوَجُّ، مَنْ يَحُجُّ وَمَنْ يَعْتَمِرُ، إِلَى آخِرِ مَا قَدَّرَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- مِنَ الْمَقَادِيرِ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ.
فَلَيْتَ شِعْرِي أَفِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ هَذِهِ بَيَانُ أَنَّا لَا نَكُونُ قَبْلَ الَّتِي تَأْتِي أَمْ نَكُونُ؟!!
أَمِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا أَمْ مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ؟!!
لَيْتَ شِعْرِي مَا قَضَى رَبِّي؟!!
تَعَالَوْا نَبْكِي سَاعَةً عَلَى عِلْمِ اللهِ فِينَا؛ عَسَى رَبُّنَا أَنْ يَرْحَمَنَا.
إِنَّ الْفَارُوقَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَأْمُرُ وَلَدَهُ عَبْدَ اللهِ وَهُوَ مَطْعُونٌ فِي كَرْبِ السِّيَاقِ، وَقَدْ وَضَعَ وَلَدُهُ رَأْسَهُ فِي حِجْرِهِ، فَقَالَ: ((وَيْحَكَ! لَا أُمَّ لَكَ، ضَعْ خَدِّي عَلَى التُّرَابِ عَسَى أَنْ يَرَى ذُلِّي فَيَرْحَمَنِي)).
لَا الْجَبْرِيَّةُ وَلَا الْعِزَّةُ وَلَا التَّعَاظُمُ وَلَا التَّفَاخُرُ وَلَا الْكِبْرُ بِنَافِعٍ عِنْدَ رَبِّكَ؛ بَلْ هُوَ ضَارٌّ مَنْ جَاءَ بِهِ، لَا يَنْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا صِفَاتُ الْعَبْدِ، صِفَاتُ الْعَبْدِ ذِلَّةٌ وَانْكِسَارٌ، إِنَابَةٌ وَافْتِقَارٌ، صِفَاتُ الْعَبْدِ صِفَاتُ الْعَبْدِ..
كَانَ ﷺ يَأْكُلُ عَلَى الْأَرْضِ.. يَجْلِسُ عَلَيْهَا، وَيَأْكُلُ عَلَيْهَا، وَيَقُولُ ((إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، أَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ، وَآكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ)).
أَقْبَحُ الرِّيَاءِ الرِّيَاءُ بِتَرْكِ الرِّيَاءِ لِلرِّيَاءِ..
أَقْبَحُ الرِّيَاءِ أَنْ يُرَائِيَ الْمَرْءُ بِتَرْكِ الرِّيَاءِ لِلرِّيَاءِ؛ لِيُوصَفَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ، وَأَمَّا حَقِيقَةُ الْعَبْدِ فَقَدْ بَيَّنَهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ؛ فَقُولُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ)).
هُوَ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُ اللهِ..
الرَّبُّ رَبٌّ، وَالْعَبْدُ عَبْدٌ، الْإِلَهُ هُوَ الْإِلَهُ، صِفَاتُهُ وَأَسْمَاؤُهُ لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا أَحَدٌ، وَالنَّبِيُّ ﷺ أَعْرَفُ الْخَلْقِ بِقَدْرِ رَبِّهِ، فَكَانَ أَعْبَدَهُمْ للهِ.. ﷺ.
لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَا يَكُونُ الْمَرْءُ فِيهَا غَيْرَ عَبْدٍ، وَإِنَّمَا يُحَصِّلُ فِيهَا مَا عِنْدَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- مَنْ حَقَّقَ للهِ فِيهَا الْعُبُودِيَّةَ، مَنْ عَرَفَ التَّوْحِيدَ وَحَقَّقَهُ، فَكَانَ عَبْدًا للهِ صِدْقًا وَحَقًّا يَتَعَرَّضُ لِرَحَمَاتِهِ، مُلْتَمِسًا نَفَحَاتِهِ، عَسَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْ يُفِيضَ عَلَيْهِ مِنْ بَرَكَاتِهِ، وَرَبُّكَ الْجَوَادُ الْكَرِيمُ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ، لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، وَهُوَ الْكَرِيمُ الْوَهَّابُ.
لَا يَنَالُ أَحَدٌ فِيهَا خَيْرًا يُؤَمِّلُهُ إِلَّا إِذَا حَقَّقَ الْعُبُودِيَّةَ لِرَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
أَمَّا أَصْحَابُ الْجَبْرِيَّةِ وَالْعِزَّةِ وَالتَّعَاظُمِ وَالْكِبْرِيَاءِ؛ فَأُولَئِكَ عَنْ رَحْمَةِ اللهِ بِمَبْعَدَةٍ، ((لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ))، ((مَنْ نَازَعَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ رِدَاءَهُ أَوْ إِزَارَهُ -الْكِبْرِيَاءَ وَالْعَظَمَةَ وَالْعِزَّ- قَصَمَهُ)).
وَأَمَّا ((مَنْ لَقِيَ رَبَّهُ بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا، وَلَقِيَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا لَقِيَهُ رَبُّهُ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً)).
تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ..
الْكُلُّ يُدَنْدِنُ؛ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، وَهِيَ نَافِعَتُهُ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ، وَحَقِيقَتُهَا أَيْنَ؟!!
صَاحِبُ الْبِطَاقَةِ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّيِّئَاتُ قَدْ سُطِرَتْ فِي تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ سِجِلًّا، كُلُّ سِجِلٍّ مَدَّ الْبَصَرِ؛ آثَامٌ وَذُنُوبٌ، وَبَلَايَا وَخَطَايَا، تُوضَعُ فِي كِفَّةِ السَّيِّئَاتِ؛ تَرْجُحُ، يُقَالُ لَهُ: أَظَلَمَكَ عِبَادِي الْحَفَظَةُ؟
أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟
أَلَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةٌ؟
يُقِرُّ مُعْتَرِفًا، وَيُوقِنُ بِالْهَلَاكِ..
أَلَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةٌ؟
لَيْسَ لِي عِنْدَكَ يَا رَبِّ مِنْ حَسَنَةٍ.
فَيَقُولُ: بَلَى إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً، وَإِنَّهُ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ، تَنْزِلُ بِطَاقَةٌ فِي كِفَّةِ الْحَسَنَاتِ، تَرْجُحُ كِفَّةُ الْحَسَنَاتِ، وَتَطِيشُ كِفَّةُ السَّيِّئَاتِ، وَإِذَا فِي الْبِطَاقَةِ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)).
وَكُلُّ مُوَحِّدٍ لَهُ هَذِهِ الْبِطَاقَةُ عِنْدَهُ أَصْلُ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))؛ فَمَا السِّرُّ فِي رُجْحَانِ الْبِطَاقَةِ بِتِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ سِجِلًّا، كُلُّ سِجِلٍّ مَدَّ الْبَصَرِ مِنَ الْآثَامِ وَالْخَطَايَا وَالذُّنُوبِ، وَكُلُّ مُوَحِّدٍ لَهُ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَخْرُجْ عَلَيْهَا لَكَانَ كَافِرًا مُخَلَّدًا فِي النَّارِ لَا يَخْرُجُ مِنْهًا أَبَدًا.
فَكُلُّ مُوَحِّدٍ يَخْرُجُ عَلَى ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))؛ فَمَا السِّرُّ فِي اخْتِصَاصِ صَاحِبِ الْبِطَاقَةِ؟!!
لِأَنَّهُ حَقَّقَهَا، أَتَى بِشُرُوطِهَا، فَاهِمًا مَعْنَاهَا، عَامِلًا بِمُقْتَضَاهَا، مُجْتَنِبًا نَوَاقِضَهَا، مُحَقِّقًا فِي الْحَيَاةِ إِيَّاهَا.
أَمَّا أَنْ تُلْفَظَ لَفْظًا وَتُنْقَضَ نَقْضًا فَمَا هَذِهِ بِهَذِهِ، وَإِنَّمَا هَذِهِ مِنْ قَوَارِيرَ، وَلَيْسَتْ بِنَافِعَةٍ يَوْمًا مَنْ أَتَى بِهَا نَاقِضَهَا، وَإِنَّمَا هِيَ نَافِعَةٌ مَنْ أَتَى بِهَا مُحَقِّقَهَا.
فَاللهم حَقِّقْنَا بِالتَّوْحِيدِ، وَجَنِّبْنَا الشِّرْكَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، إِنَّكَ أَنْتَ الْجَوَادُ الْكَرِيمُ.
وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ هِيَ لَيْلَةُ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ، وَلَيْلَةُ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ، وَلَيْلَةُ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ، وَلَيْلَةُ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ، وَلَيْلَةُ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ، وَآخِرُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، كُلُّ ذَلِكَ وَرَدَ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِيمَا نَقَلَ عَنْهُ الْبَغَوِيُّ فِي ((شَرْحِ السُّنَّةِ)): ((كَأَنَّ هَذَا عِنْدِي -وَاللهُ أَعْلَمُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يُجِيبُ عَلَى نَحْوِ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ، يُقَالُ لَهُ: أَنَلْتَمِسُهَا فِي لَيْلَةِ كَذَا؟ فَيَقُولُ: الْتَمِسُوهَا فِي لَيْلَةِ كَذَا، فَهَذَا الْجَوَابُ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ السُّؤَالِ)).
هَذَا كُلُّهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْإِمَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-، وَهُوَ قَوْلٌ قَوِيٌّ مُتَّجِهٌ.
وَأَرْجَحُ الْأَقْوَالِ أَنَّهَا فِي أَوْتَارِ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ: حَدِيثُ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ)). وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).
وَفِي رِوَايَةٍ: ((تَحَرَّوْا أَوِ الْتَمِسُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فَإِنْ ضَعُفَ الْعَبْدُ أَوْ عَجَزَ فَلَا يُغْلَبَنَّ عَلَى السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ))؛ لِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ -يَعْنِي: لَيْلَةَ الْقَدْرِ- فَإِنْ ضَعُفَ أَحَدُكُمْ أَوْ عَجَزَ فَلَا يُغْلَبَنَّ عَلَى السَّبْعِ الْبَوَاقِي)). أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي ((صَحِيحَيْهِمَا)).
وَأَخْرَجَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((إِنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ أُرُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْمَنَامِ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ -أَيْ: تَوَافَقَتْ- فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ، فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيَهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ)).
أُرُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْمَنَامِ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فَأَخْبَرُوا رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَأَمَرَهُمْ بِأَنْ يَتَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ.
دَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى أَنَّ مَعْرِفَتَهَا بِقَطْعٍ وَتَحْدِيدٍ رُفِعَتْ -أَيْ: رُفِعَتْ تِلْكَ الْمَعْرِفَةُ بِالْقَطْعِ وَالتَّحْدِيدِ-؛ لِأَنَّ النَّاسَ تَخَاصَمُوا، كَمَا أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)) مِنْ رِوَايَةِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((خَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ لِيُعْلِمَ عِلْمَهَا، وَيَدُلَّ عَلَى تَحْدِيدِهَا.. خَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَتَلَاحَى رَجُلَانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: ((إِنِّي خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَتَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ، فَرُفِعَتْ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ؛ فَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ، وَالسَّابِعَةِ، وَالْخَامِسَةِ)).
وَفِي رِوَايَةٍ: ((فِي السَّبْعِ، وَالتِّسْعِ، وَالْخَمْسِ)).
مَا زَالَ فِي الْأَمْرِ بَقِيَّةٌ، عَسَى اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- -وَهُوَ الْمَانُّ بِالْخَيْرِ وَحْدَهُ- أَنْ يَمُنَّ عَلَيْنَا بِمُوَافَقَتِهَا، وَأَنْ يَجْعَلَنَا فِيهَا مِنْ عُتَقَائِهِ مِنَ النَّارِ؛ فَكَمْ للهِ -جَلَّ وَعَلَا- فِيهَا مِنَ النَّارِ مِنْ عَتِيقٍ، فَاللهم اجْعَلْنَا فِيهَا مِنْ عُتَقَائِكَ مِنَ النَّارِ، وَارْزُقْنَا فِيهَا تَوْبَةً نَصُوحًا تَسْتَقِيمُ بِهَا أَحْوَالُنَا، وَيَصْلُحُ بِهَا شَأْنُنَا، وَتَنْتَظِمُ بِهَا حَيَوَاتُنَا، وَنَكُونُ فِيهَا مِنَ الصَّالِحِينَ، وَاجْنُبْنَا الشِّرْكَ، وَالشَّكَّ، وَالنِّفَاقَ، وَالرِّيَاءَ وَالسُّمْعَةَ؛ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)): ((مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ))؛ مِمَّا يَقْبَلُ الْغُفْرَانَ، كَفَّرَ اللهُ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ فِيمَا يَقْبَلُ التَّكْفِيرَ، لَا أَنَّهُ يُكَفَّرُ عَنْهُ كُلُّ مَا أَتَى بِهِ؛ مِنْ أَكْلٍ لِأَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَمِنْ ظُلْمٍ لِخَلْقِ اللهِ فِي أَرْضِ اللهِ، وَاعْتِدَاءٍ عَلَى حُرُمَاتِ الْخَلْقِ فِي الْحَيَاةِ، وَإِنَّمَا يُغْفَرُ لَهُ مَا يَقْبَلُ الْغُفْرَانَ، وَيُكَفَّرُ عَنْهُ مَا يَقْبَلُ التَّكْفِيرَ؛ كَقَوْلِ رَبِّكَ عَنِ الرِّيحِ الْمُسَلَّطَةِ عَلَى أَعْدَائِهِ: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا}، وَمَا دَمَّرَتِ السَّمَاوَاتِ وَلَا الْأَرْضَ، وَلَا الْجِبَالَ وَلَا الصُّخُورَ، وَإِنَّمَا دَمَّرَتْ مَا يَقْبَلُ التَّدْمِيرَ، فَكَذَا الشَّأْنُ.
الْكَبَائِرُ تَحْتَاجُ تَوْبَةً، لَا تُغْفَرُ بِمُجَرَّدِ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَلَا بِمُجَرَّدِ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ.
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ)).
وَفِيهَا قَوْلَانِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ؛ أَيْ: إِنَّهُ يُغْفَرُ لِلْعَبْدِ مَا دُونَ الْكَبَائِرِ، فَهَذَا قَوْلٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُغْفَرُ لَهُ مَا دُونَ الْكَبَائِرِ حَتَّى يَكُونَ مُجْتَنِبًا لِلْكَبَائِرِ، ((مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ))، فَلَا يَكُونُ تَكْفِيرٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مِنْ صَغِيرَةٍ وَلَا لَمَمٍ مَا لَمْ تُجْتَنَبِ الْكَبَائِرُ،.
فَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي، وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ، فَيَغْفِرُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِلْعَبْدِ مَا يَقْبَلُ الْغُفْرَانَ مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ، وَبِمَا لَا يَكُونُ شِرْكًا وَلَا بِدْعَةً اعْتِقَادِيَّةً مِمَّا لَا يَقْبَلُهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَلَا يُقِرُّهُ، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48].
وَيَا للهِ! مَا أَكْثَرَ النَّصَبَ وَأَعْظَمَ التَّعَبَ فِي غَيْرِ فَائِدَةٍ وَلَا عَائِدَةٍ!
أَلَمْ يَبْلُغْكَ وَصْفُ نَبِيِّكَ ﷺ لِلْخَوَارِجِ، ((يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَتِلَاوَتَهُ مَعَ تِلَاوَتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، وعِبَادَتَهُ مَعَ عِبَادَتِهِمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، لَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُمْ عَدْلًا وَلَا صَرْفًا))؛ لِأَنَّ الْبِدْعَةَ الِاعْتِقَادِيَّةَ قَدِ اسْتَحْوَذَتْ عَلَى قُلُوبِهِمْ؛ فَفِيمَ كَانَ النَّصَبُ إِذَنْ؟!! وَلِمَ كَانَ التَّعَبُ إِذَنْ؟!!
إِنَّمَا هُوَ عَنَاءٌ وَبَلَاءٌ، وَكَذَا كُلُّ سَائِرٍ عَلَى غَيْرِ طَرِيقٍ.
عَرَفْتَ فَالْزَمْ؛ حَتَّى لَا تُضَيِّعَ عُمُرَكَ، وَتُبَدِّدَ جُهْدَكَ، وَتُدَمِّرَ طَاقَتَكَ؛ حَتَّى لَا تَكُونَ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا، مَجْنُونَةً كَانَتْ تَغْزِلُ غَزْلَهَا، فَإِذَا انْتَهَى النَّهَارُ نَقَضَتْ غَزْلَهَا؛ فَفِيمَ الْعَنَاءُ وَالتَّعَبُ؟!!
اسْتَقِمْ وَلَا تَعْوَجَّ!
وَاثْبُتْ وَلَا تَزِغْ!
وَاعْتَدِلْ وَكُنْ عَلَى الصِّرَاطِ قَائِمًا!
قَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- -كَمَا أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَه بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ- قَالَتْ: قُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ أَيَّ لَيْلَةٍ هِيَ؛ مَا أَقُولُ فِيهَا؟)).
قَالَ: ((قُولِي: اللهم إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي)).
إِقْرَارٌ بِالذَّنْبِ، فَلَا عَفْوَ إِلَّا عَنْ ذَنْبٍ، وَلَا غُفْرَانَ إِلَّا لِخَطِيئَةٍ، ((اللهم إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ))؛ تُحِبُّ أَنْ تَعْفُوَ، وَأَنْ يَعْفُوَ عِبَادُكَ عَنْ عِبَادِكَ.
((فَتَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ، فَرُفِعَتْ))..
مَا أَعْظَمَ جَرِيرَةَ الْخِصَامِ!
وَمَا أَنْكَدَ ثَمَرَتَهُ! رَافِعٌ لِلْخَيْرِ، حَاجِبٌ لِلْبِرِّ، جَالِبٌ لِلشَّرِّ، مَاحِقٌ لِلْهِدَايَةِ، ((فَرُفِعَتْ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ)).
((قُولِي: اللهم إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي)).
جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِلَيْلَةِ الْقَدْرِ أَمَارَاتٍ؛ مِنْهَا مَا يَكُونُ فِيهَا، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ بَعْدَهَا، وَأَمَارَاتُهَا: ((أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِهَا بَيْضَاءَ لَا شُعَاعَ لَهَا، كَمَا فِي حَدِيثِ أُبَيٍّ عِنْدَ مُسْلِمٍ: كَأَنَّهَا طَسْتٌ حَتَّى تَرْتَفِعَ)).
أَمَارَتُهَا أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِهَا بَيْضَاءَ لَا شُعَاعَ لَهَا، أَخْبَرَ بِهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ.
فَهَذِهِ عَلَامَةٌ بَعْدَ انْقِضَائِهَا، قَدْ تَجْلِبُ الْحَسْرَةَ عِنْدَ عِرْفَانِهَا لِمُقَصِّرٍ نَامَ مِلْءَ جُفُونِهِ عَنْ شَوَارِدِهَا مَعَ انْطِوَاءِ قَلْبِهِ عَلَى حِقْدِهِ، وَلَوْ أَنَّهُ نَامَ عَلَى سَرِيرَةٍ صَافِيَةٍ وَطَوِيَّةٍ خَالِصَةٍ لَا تَحْمِلُ لِلْمُسْلِمِينَ حِقْدًا، وَلَا غِشًّا، وَلَا غِلًّا وَلَا دَغَلًا؛ لَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ.
مَنْ لِي بِمِثْلِ سَيْرِكَ الْمُدَلَّلِ = تَمْشِي الْهُوَيْنَا وَتَجِي فِي الْأَوَّلِ
وَلَكِنَّهُ نَامَ عَلَى غِشِّهِ، فَضَيَّعَ وَفَرَّطَ، فَعِرْفَانُهَا لَهُ حَسْرَةٌ وَعَلَيْهِ تِرَةٌ.
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةٌ سَمْحَةٌ طَلِقَةٌ، لَا حَارَّةٌ وَلَا بَارِدَةٌ، تُصْبِحُ الشَّمْسُ صَبِيحَتَهَا ضَعِيفَةً حَمْرَاءَ)). وَالْحَدِيثُ حَدِيثٌ حَسَنٌ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَخْرَجَهُ الطَّيَالِسِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْبَزَّارُ.
لَيْلَةُ الْقَدْرِ كَمَا قَالَ رَبُّنَا: {سَلَامٌ هِيَ}، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((سَمْحَةٌ طَلِقَةٌ، لَا حَارَّةٌ وَلَا بَارِدَةٌ))، مُعْتَدِلَةٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ كَالْفَضِيلَةِ وَسَطٌ بَيْنَ رَذِيلَتَيْنِ، كَالْإِسْلَامِ وَسَطٌ بَيْنَ الْمِلَلِ بَيْنَ الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ، كَأَهْلِ السُّنَّةِ وَسَطٌ بَيْنَ أَهْلِ الْفِرَقِ الْمُنْحَرِفَةِ مِنْ غَالٍ وَجَافٍ.
لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَا حَارَّةٌ وَلَا بَارِدَةٌ.
فَهَذَا مَا وَرَدَ فِي أَمَارَاتِهَا، وَدَعْ عَنْكَ مَا صَاغَتْهُ الْعَوَامُّ عَبْرَ الْقُرُونِ مِنْ خُرَافَاتِهِمْ، وَاشْغَلْ نَفْسَكَ بِذِكْرِ رَبِّكِ وَعِبَادَةِ مَوْلَاكَ، وَأَقْبِلْ عَلَيْهِ بِجَمْعِيَّتِكَ، نَاثِرًا بَيْنَ يَدَيْهِ ذَاتَ نَفْسِكَ؛ لِيُصْلِحَكَ، قَلْ: سَيِّدِي وَمَوْلَاي! هَذِي نَفْسِي قَدِ الْتَوَتْ عَلَيَّ، اشْتَبَهَتْ دُرُوبُهَا، وَتَعَقَّدَتْ مَسَالِكُهَا، وَإِنِّي لَفِي شِبْهِ الْيَأْسِ مِنْ مُعَالَجَتِهَا وَمُزَاوَلَتِهَا وَمُدَاوَاتِهَا، وَلَيْسَ لِذَلِكَ سِوَاكَ فَمُنَّ عَلَيَّ بِإِصْلَاحِهَا، أَصْلِحْ لَنَا أَنْفُسَنَا وَقُلُوبَنَا وَأَحْوَالَنَا.
وَلَا تَعْجِزَنَّ، وَاللهُ يَرْعَاكُمْ.
((فِي وَدَاعِ رَمَضَانَ))
عِبَادَ اللهِ! هَذِهِ الْأَيَّامُ قَدْ أَدْبَرَتْ، وَمِنَ الْمَوْتِ قَرَّبَتْ.
وَالسَّعَادَةُ فِي اجْتِنَابِ الذُّنُوبِ وَالْآثَامِ، وَفِي طَاعَةِ الْمَلِيكِ الْعَلَّامِ.
فَأَقْبِلُوا عَلَى رَبِّكُمْ، وَاتَّقُوا السَّيِّئَاتِ وَالذُّنُوبَ، وَاعْلَمُوا أَنَّ لِلذُّنُوبِ آثَارًا مُعَجَّلَةً وَمُؤَجَّلَةً، وَلَا بُدَّ مِنَ اسْتِيفَائِهَا.
فَمِنْ عُقُوبَاتِ الذُّنُوبِ: أَنَّهَا تُزِيلُ النِّعَمَ، وَتُحِلُّ النِّقَمَ.
فَمَا زَالَتْ عَنِ الْعَبْدِ نِعْمَةٌ إِلَّا بِذَنْبٍ، وَلَا حَلَّتْ بِهِ نِقْمَةٌ إِلَّا بِذَنْبٍ، كَمَا قَالَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((مَا نَزَلَ بِلَاءٌ إِلَّا بِذَنْبٍ، وَلَا رُفِعَ إِلَّا بِتَوْبَةٍ)).
وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشُّورَى: 30].
وَقَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الْأَنْفَال: 53].
فَأَخْبَرَ -تَعَالَى- أَنَّهُ لَا يُغَيِّرُ نِعْمَتَهُ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَى أَحَدٍ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يُغَيِّرُ مَا بِنَفْسِهِ، فَيُغَيِّرُ طَاعَةَ اللهِ بِمَعْصِيَتِهِ، وَشُكْرَهُ بِكُفْرِهِ، وَأَسْبَابَ رِضَاهُ بِأَسْبَابِ سَخَطِهِ.
فَإِذَا غَيَّرَ الْعَبْدُ غُيِّرَ عَلَيْهِ؛ جَزَاءً وِفَاقًا، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ، فَإِنْ غَيَّرَ الْمَعْصِيَةَ بِالطَّاعَةِ؛ غَيَّرَ اللهُ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ بِالْعَافِيَةِ، وَالذُّلَّ بِالْعِزِّ؛ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرَّعْد: 11].
وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ الْإِلَهِيَّةِ عَنِ الرَّبِّ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّهُ قَالَ: «وَعِزَّتِي وَجَلَالِي، لَا يَكُونُ عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِي عَلَى مَا أُحِبُّ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ عَنْهُ إِلَى مَا أَكْرَهُ إِلَّا انْتَقَلْتُ لَهُ مِمَّا يُحِبُّ إِلَى مَا يَكْرَهُ، وَلَا يَكُونُ عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِي عَلَى مَا أَكْرَهُ، فَيَنْتَقِلُ عَنْهُ إِلَى مَا أُحِبُّ إِلَّا انْتَقَلْتُ لَهُ مِمَّا يَكْرَهُ إِلَى مَا يُحِبُّ».
إِذَا كُنْتَ فِي نِعْمَةٍ فَارْعَهَا... فَإِنَّ الذُّنُوبَ تُزِيلُ النِّعَمْ
وَحُطْهَا بِطَاعَةِ رَبِّ الْعِبَادِ.... فَرَبُّ الْعِبَادِ سَرِيعُ النِّقَمْ
وَإِيَّاكَ وَالظُّلْمَ مَهْمَا اسْتَطَعْـتَ.... فَظُلْمُ الْعِبَادِ شَدِيدُ الْوَخَمْ
وَسَافِرْ بِقَلْبِكَ بَيْنَ الْوَرَى... لِتَبْصُرَ آثَارَ مَنْ قَدْ ظَلَمْ
فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ بَعْدَهُمْ... شُهُودٌ عَلَيْهِمْ وَلَا تَتَّهِمْ
وَمَا كَانَ شَيْءٌ عَلَيْهِمْ أَضَـ... رَّ مِنَ الظُّلْمِ وَهُوَ الَّذِي قَدْ قَصَمْ
فَكَمْ تَرَكُوا مِنْ جِنَانٍ وَمِنْ... قُصُورٍ وَأُخْرَى عَلَيْهِمْ أُطُمْ
صَلُوْا بِالْجَحِيمِ وَفَاتَ النَّعِيـ... مُ وَكَانَ الَّذِي نَالَهُمْ كَالْحُلُمْ
اتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ-، وَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ، وَارْجِعُوا إِلَيْهِ، وَاغْتَنِمُوا هَذِهِ الْأَوْقَاتِ.
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ، مُطَّلِعٌ عَلَى مَا فِي قُلُوبِكُمْ، وَسَيُحَاسِبُكُمْ عَلَى مَا قَدَّمْتُمْ وَمَا أَخَّرْتُمْ، وَمَا أَسْرَرْتُمْ وَمَا أَعَلَنْتُمْ، وَمَا هُوَ أَعْلَمُ بِهِ مِنْكُمْ.
فَاتَّقُوا اللهَ، وَاحْذَرُوهُ؛ فَإِنَّهُ قَطَعَ الْيَدَ فِي رُبُعِ دِينَارٍ، وَجَلَدَ الظَّهْرَ حَدًّا فِي مِثْلِ رَأْسِ الدَّبُوسِ مِنَ الْخَمْرِ.
اتَّقُوا اللهَ، وَاحْذَرُوهُ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَنْبَغِي أَنْ يُحْذَرَ عِقَابُهُ، وَأَنْ يُحْذَرَ أَلِيمُ عَذَابِهِ، وَأَنْ يُطْمَعَ فِي رَحْمَتِهِ.
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْعِيدَ الْحَقَّ هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي يَخْرُجُ الْمَرْءُ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الدُّنْيَا سَالِمًا غَانِمًا، وَالْعِيدُ الَّذِي هُوَ الْعِيدُ هُوَ الَّذِي يَخْرُجُ الْمَرْءُ مِنْ رَمَضَانَ مَغْفُورًا لَهُ، كَمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ.
إِنَّهَا مِحْنَةٌ ظَاهِرَةٌ قَلَّ مَنْ يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا!! أَلَمْ يَصْعَدِ الْمِنْبَرَ ﷺ فَجَاءَ دُعَاءُ جِبْرِيلَ، فَأَمَّنَ الْأَمِينُ -أَمِينُ أَهْلِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ- عَلَى أَمِينِ السَّمَاءِ جِبْرِيلَ، فَأَمَّنَ مُحَمَّدٌ ﷺ عَلَى دُعَاءِ جِبْرِيلَ، أَلَيْسَتْ مِحْنَةً؟!
وَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: ((آمِينَ)).
فَلَمَّا نَزَلَ فَسُئِلَ: ((آمِينَ، آمِينَ، آمِينَ، مَا هَذا الَّذِي قُلْتَهُ، وَمَا عَهِدْنَاكَ لَهُ قَائِلًا؟)).
فَقَالَ: ((جَاءَنِي جِبْرِيلُ، فَقَالَ: بَعُدَ رَجُلٌ انْسَلَخَ عَنْهُ رَمَضَانُ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ. فَقُلْتُ: آمِينَ)).
وَفِي رِوَايَةٍ: ((رَغِمَ أَنْفُ عَبْدٍ انْسَلَخَ عَنْهُ رَمَضَانُ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ، فَقُلْتُ : آمِينَ)) .
وَإِذَنْ؛ فَرَمَضَانُ مُعْتَرَكٌ لِلْعِزِّ وَالذُّلِّ، وَمَعْرَكَةٌ مَنْصُوبَةٌ هُنَالِكَ تَأْتِي إِلَيْهَا أَفْيَاءُ النَّاسِ مِنْ كُلِّ صَوْبٍ.
مَعْرَكَةٌ قَائِمَةٌ بِسِجَالٍ وَنِزَالٍ، وبِقِتَالٍ وَجِهَادٍ وَجِلادٍ .
مَعْرَكَةٌ حَقِيقِيَّةٌ، فَفِيهَا عَزِيزٌ وَذَلِيلٌ، وَفِيهَا مَرْفُوعٌ وَمَخْفُوضٌ، وَفِيهَا مَنْ هُوَ مُقَرَّبٌ سَعِيدٌ، وَمَنْ هُوَ مَحْرُومٌ طَرِيدٌ، فِيهَا مَنْ كَتَبَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ السَّعَادَةُ فَلا يَشْقَى مِنْ بَعْدِهَا أَبَدًا، وَمَنْ خَتَمَ اللهُ عَلَى قَلْبِهِ، وَطَبَعَ عَلَيْهِ بِالشَّقَاوَةِ فَلا يَسْعَدُ مِنْ بَعْدِهَا أَبَدًا.
مَعْرَكَةُ عِزٍّ وَذُلٍّ، مَعْرَكَةُ كَرَامَةٍ وَمَذَلَّةٍ -كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ.
فَإِلى أَيِّ شَيْءٍ يَنْبَغِي أَنْ يُدَلَّ عَلَيْهِ النَّاسُ.. عَلَى أَيِّ شَيْءٍ؟!!
يَنْبَغِي أَنْ يُدَلَّ النَّاسُ عَلَى الْأَصْلِ، عَلَى التَّوْبَةِ، أَنْ نَتُوبَ، فَمَا تُبْنَا بَعْدُ -وَإِنْ كُنَّا صَائِمِينَ- إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبِّي، وَقَلِيلٌ ما هُمْ!! لِأَنَّ الْخَيْرَ مَا زَالَ فَي الْأُمَّةِ مَوْصُولًا، وَسَيَظَلُّ بِأَمْرِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْعَمَلَ مَطْلُوبٌ أَصْلًا فِي دِينِ اللهِ -وَأَسَاسًا-، وَأَمَّا الْكَلامُ فَكَثِيرٌ، إِنَّ الكَلامَ كَثِيرٌ، وَلا يُعْتَدُّ مِنَ الْكَلامِ إِلَّا بِمَا صَدَّقَهُ الْعَمَلُ.
وَإِذَنْ؛ فَيَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَعُودَ إِلَى الْأَصْلِ؛ أَنْ نَتُوبَ.
وَالتَّوْبَةُ أَوْبَةٌ، وَالتَّوْبَةُ رَجْعَةٌ وَعَوْدَةٌ:
*وَشَرْطُهَا الْأَوَّلُ: أَنْ تَكُونَ التَّوْبَةُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.
وَأَنِينُ التَّائِبِينَ.. أَنِينُ الْمُخْطِئِينَ.. أَنِينُ الْمُجْتَرِحِينَ لِلسَّيِّئَاتِ وَالذُّنُوبِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مِنْ زَجَلِ الْمُسَبِّحِينَ فِي أَجْوَافِ اللَّيَالِي.
اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا أَعْيُنًا بَاكِيَةً مِنْ جَلالِ خَشْيَتِكَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
*الْإِخْلاصُ للهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَالْإِقْلاعُ الْفَوْرِيُّ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْذُّنُوبِ الْمُلَوِّثَاتِ.
*الْإِقْلاعُ عَنِ الذَّنْبِ، وَالنَّدَمُ، وَالْعَزْمُ بِالْجَزْمِ عَلَى أَنَّ لا يَعُودَ الْمَرْءُ إِلَى ذَلِكَ أَبَدًا.
وَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((النَّدَمُ تَوْبَةٌ)) .
*وَأَنْ تَقَعَ التَّوْبَةُ فِي وَقْتِهَا الْمَضْرُوبِ.
فَأَمَّا عَلَى الْمُسْتَوَى الْإِنْسَانِيِّ فَقَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ الرُّوحُ الْحُلْقُومَ.
وَأَنْت هَاهُنَا لَمْ تَبْلُغْ رُوحُكَ حُلْقُومَهَا، وَلَمْ تَصِلْ بَعْدُ إِلَى ذِرْوَتِها، فَبَابُ التَّوْبَةِ مَا زَالَ مَفْتُوحًا.
وَأَمَّا فِي عُمُومِ الْجِنْسِ الْإِنْسَانِيِّ؛ فَحَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَقَبْلَ ذَلِكَ الْبَابُ مَفْتُوْحٌ، وَالْأَمْرُ مِنَ الرَّبِّ نَازِلٌ بِخَيْرٍ، وَلَا يَنْزِلَ مِنْهُ إِلَّا الْخَيْرُ.
((الْخَوْفُ مِنْ سُوءِ الْخَاتِمَةِ))
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! هَا هُوَ شَهْرُ رَمَضَانَ الْمُبَارَكِ يُوشِكُ أَنْ يَرْحَلَ عَنَّا بَعْدَ أَنْ ذُقْنَا فِيهِ حَلَاوَةَ الطَّاعَةِ، وَلَذَّةَ الْمُنَاجَاةِ، وَتَنَسَّمْنَا فِيهِ رُوحَ التَّكَافُلِ وَالتَّرَاحُمِ، وَهَذِهِ سُنَّةُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي انْقِضَاءِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَوْقَاتِ، فَبِالْأَمْسِ الْقَرِيبِ كَانَ يُهَنِّئُ بَعْضُنَا بَعْضًا بِقُدُومِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَهَا نَحْنُ الْآنَ نُوَدِّعُ أَيَّامَهُ وَلَيَالِيهِ الْمُبَارَكَةَ، وَمَا الْحَيَاةُ إِلَّا أَنْفَاسٌ مَعْدُودَةٌ، وَآجَالٌ مَحْدُودَةٌ، حَيْثُ يَقُولُ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ-: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62].
وَنَحْنُ إِذْ نُوَدِّعُ شَهْرَ رَمَضَانَ الْمُبَارَكَ يَنْبَغِي أَنْ نُدْرِكَ أَهَمِّيَّةَ الْخَوَاتِیمِ، وَأَنْ نَرْجُو حُسْنَ الْخَاتِمَةِ، وَأَنْ نَخَافَ مِنْ سُوءِ الْخَاتِمَةِ، قَالَ تَعَالَى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثُ} [الأعراف: 175-176].
اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ضَرَبَ الْمَثَلَ فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ لِعَالِمِ السُّوءِ الَّذِي يُؤْتِيهِ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ آيَاتِهِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَرْفَعَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَا عَلَى النَّاسِ دَرَجَاتٍ، وَمِنْ أَجْلِ أَنْ يُحْسِنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَاقِبَتَهُ إِذَا مَا أَخَذَ بِهَا، وَالْتَفَتَ إِلَيْهَا، وَعَمِلَ بِمُقْتَضَاهَا، وَسَارَ عَلَى نَهْجِهَا.
فَمَاذَا صَنَعَ؟
أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ، وَانْسَلَخَ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ وَمَوْلَاهُ.
فَضَرَبَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ الْمَثَلَ: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ}.
وَهُوَ مَثَلٌ مُفْظِعٌ جِدًّا، ضَرَبَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِكُلِّ مَنِ انْسَلَخَ مِنْ آيَاتِهِ أَمْرًا وَنَهْيًا، وَالْتِزَامًا وَعَمَلًا، وَجَعَلَ كِتَابَهُ الْعَظِيمَ خَلْفَ ظَهْرِهِ، وَدَبْرَ أُذُنَيْهِ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، وَلَمْ يُعَوِّلْ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَعْمَلْ بِمَا فِيهِ.
وَأَمَّا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ ﷺ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَ بِكِتَابِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- كَمَا يَقُولُ الْعُلَمَاءُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ-: ((لَمْ يَكُنْ فِي أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ مَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَلَا يَتَدَبَّرُهُ وَيَفْقَهُ مَعَانِيَهُ، وَإِنَّمَا حَدَثَتْ هَذِهِ الْبِدْعَةُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَقْوَامٍ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَا يَفْقَهُونَهُ، وَلَا يَفْهَمُونَ مَا يَتْلُونَ مِنْ آيَاتِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)).
فَانْظُرْ -رَحِمَكَ اللهُ- إِلَيْهِ كَيْفَ جَعَلَهَا بِدْعَةً؛ لِأَنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ نَبِيِّنَا ﷺ، وَلَا مَنْ تَبِعَهُ بِإِحْسَانٍ مِنْ أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-.
وَعَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- قَالَ: ((أَدْرَكْتُ ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ كُلُّهُمْ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ النِّفَاقِ)).
أَصْحَابُ الرَّسُولِ ﷺ يَخْشَوْنَ النِّفَاقَ، وَيَخْشَوْنَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ أَنْ يُوَاقِعُوهُ، وَيَخَافُونَ سُوءَ الْخَاتِمَةِ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ حَقًّا وَصِدْقًا.
وَاللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ضَرَبَ الْمَثَلَ فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ بِأَقْوَامٍ آتَاهُمُ الْإِيمَانَ، ثُمَّ خَتَمَ لَهُمْ بِالنِّفَاقِ وَالْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ، وَبَشَّرَهُمْ بِالنِّيرَانِ، نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ.
وَنَسْأَلُهُ -تَعَالَى- أَنْ يُنَجِّيَنَا مِنْهَا بِرَحْمَتِهِ، وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.
{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ۚ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ۚ إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة: 65-66].
فَانْظُرْ إِلَى آيَاتِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَتَدَبَّرْ فِيهَا مَلِيًّا، وَتَأَمَّلْ كَيْفَ أَثْبَتَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُمْ إِيمَانًا، ثُمَّ وَصَمَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَى بَاحَةِ النِّفَاقِ -عِيَاذًا بِاللَّهِ وَلِيَاذًا بِجَنَابِهِ الْعَظِيمِ-.
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ}: يَا مُحَمَّدُ {لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ}؛ وَذَلِكَ كَمَا أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: ((أَنَّهُ فِي غَزْوَةٍ مِنْ غَزَوَاتِ رَسُولِ اللهِ ﷺ -هِيَ غَزْوَةُ تَبُوكَ- جَلَسَ الْمُنَافِقُونَ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: ((لَمْ أَرَ كَقُرَّائِنَا هَؤُلَاءِ أَرْغَبَ بُطُونًا، وَلَا أَجْبَنَ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَلَا أَكْذَبَ أَلْسُنًا)).
يَعْنِي: مُحَمَّدًا ﷺ، وَحَمَلَةَ الْقُرْآنِ مِنْ أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-.
((لَمْ أَرَ كَقُرَّائِنَا هَؤُلَاءِ أَرْغَبَ بُطُونًا)): يَعْنِي: أَوْسَعَ بُطُونًا، وَأَجْبَنَ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَأَكْذَبَ أَلْسُنًا.
فَقَالَ رَجُلٌ: ((بَلْ أَنْتَ مُنَافِقٌ تَتَكَلَّمُ بِالنِّفَاقِ، وَلَأَحْمِلَنَّهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ )).
فَذَهَبَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَوَجَدَ الْوَحْيَ قَدْ سَبَقَهُ، وَأَنْزَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ۚ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ}.
وَبِالْفِعْلِ جَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ يَعْتَذِرُونَ، يَقُولُونَ: يَا رَسُولَ اللهِ!! إِنَّمَا كُنَّا نُمَضِّي الْوَقْتَ، وَنَصْنَعُ كَمَا يَصْنَعُ الرَّكْبُ، نُزْجِي أَوْقَاتَ الْفَرَاغِ.
فَالرَّسُولُ ﷺ -كَمَا بَيَّنَ أَصْحَابُهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-- قَائِمٌ عَلَى نَاقَتِهِ قَدِ ارْتَحَلَهَا، وَضَعَ عَلَيْهَا رَحْلَهُ، وَرَكِبَ فَوْقَهَا ﷺ، وَجَاءَ مَخْشِيُّ بْنُ حُمَيِّرٍ --رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَعَفْوُهُ-، فَأَمْسَكَ بِنِسْعَةِ رَحْلِ رَسُولِ اللهِ ﷺ -وَهُوَ حَبْلٌ مَضْفُورٌ يَكُونُ كَالزِّمَامِ لِلنَّاقَةِ-، وَرِجْلَاهُ تَضْرِبَانِ فِي أَحْجَارِ الطَّرِيقِ، وَقَدْ تَعَلَّقَ بِزِمَامِ نَاقَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ! قَعَدَ بِي اسْمِي، وَاسْمُ أَبِي.
فَاسْتَغْفَرَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَتَابَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْآخَرُونَ؛ فَجَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ يَعْتَذِرُونَ، فَلَا يَزِيدُهُمُ الْمَأْمُونُ ﷺ عَلَى قَوْلِهِ: {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}.
لَا يَزِيدُهُمْ عَلَيْهَا ﷺ، وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِمْ {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ۚ إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مِّنكُمْ}: وَهُوَ مَخْشِيُّ بْنُ حُمَيِّرٍ --رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَعَفْوُهُ-.
وَكَانَ مِنْ تَمَامِ تَوْبَتِهِ: أَنْ دَعَا اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- أَنْ يَمُوتَ شَهِيدًا، وَأَنْ يُغَيَّبَ بِحَيْثُ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ أَيْنَ ذَهَبَتْ جُثَّتُهُ، فَمَاتَ --رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَعَفْوُهُ- فِي (الْيَمَامَةِ) عِنْدَمَا خَرَجَ الْمُسْلِمُونَ يُقَاتِلُونَ أَتْبَاعَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ الْمُتَنَبِّئِ.
فَمَاتَ شَهِيدًا، وَأَخَذُوا يَبْحَثُونَ عَنْ جُثَّتِهِ، فَلَمْ يُدْرَ لَهَا خَبَرٌ، وَلَمْ يُعْثَرْ لَهَا عَلَى أَثَرٍ وَلَا عَيْنٍ -رَحِمَهُ اللهُ-.
يَقُولُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ۚ إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ}.
وَهُمْ إِنَّمَا كَانُوا يَخُوضُونَ، وَيَلْعَبُونَ عَلَى حَسَبِ مَا يَقُولُونَ.
وَأَمَّا اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-؛ فَيُرَاجِعُهُمْ فِي أَمْرٍ دَقِيقٍ {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}.
فَاللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَثْبَتَ لَهُمُ الْإِيمَانَ، وَحَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرَانِ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ.
فَالْعَبْدُ الْمُسْلِمُ يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَلَّا يَرْكَنَ إِلَى ظَاهِرِ الْأَمْرِ فِيمَا وَفَّقَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِلَيْهِ مِنَ الطَّاعَاتِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَخْشَى سُوءَ الْخَاتِمَةِ.
وَالرَّسُولُ ﷺ كَانَ يُكْثِرُ أَنْ يَدْعُوَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ بِهَذَا الدُّعَاءِ: ((اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ)).
يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ فِي أَكْثَرِ مَا يَدْعُو بِهِ رَبَّهُ -جَلَّ وَعَلَا-: ((اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ! ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ)).
يَقُولُ أَنَسٌ: فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّا قَدْ آمَنَّا بِكَ، وَصَدَّقْنَا بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالنُّورِ مِنْ عِنْدِ رَبِّكَ؛ أَفَتَخْشَى عَلَيْنَا؟)).
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّمَا قُلُوبُ الْخَلْقِ جَمِيعًا بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ)).
فَالنَّبِيُّ ﷺ يَدْعُو رَبَّهُ بِهَذَا الدُّعَاءِ، وَالنَّبِيُّ هُوَ النَّبِيُّ ﷺ.
((اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ! ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ)).
وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((اللَّهُمَّ يَا مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ! صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ)).
فَالنَّبِيُّ ﷺ يُبَيِّنُ لَنَا أَنَّ قُلُوبَ الْخَلْقِ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، وَأَنَّكَ لَا تَدْرِي بِمَا سَبَقَ الْكِتَابُ عَلَيْكَ؛ أَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ؟
نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ.
وَلِذَلِكَ كَانَ سُفْيَانُ -رَحِمَهُ اللهُ- يَسْأَلُ النَّاسَ كَثِيرًا، يَقُولُ: ((هَلْ بَكَيْتَ عَلَى سَابِقِ عِلْمِ اللهِ فِيكَ؟)).
فَيَقُولُ لَهُ الْقَائِلُ: ((تَرَكْتَنِي لَا أَفْرَحُ مِنْ بَعْدِهَا أَبَدًا)).
وَكَانَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ -رَحِمَهُ اللهُ- يَقُومُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا- بَاكِيًا، وَيَقُولُ: ((يَا رَبِّ! قَدْ عَلِمْتَ أَهْلَ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَفِي أَيِّ الْفَرِيقَيْنِ كُتِبَ مَالِكٌ؟
وَيَبْكِي بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا- عَلَى سَابِقِ عِلْمِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِيهِ)).
الرَّسُولُ ﷺ الْمُؤَيَّدُ بِالْوَحْيِ مِنْ عِنْدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الَّذِي لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، وَالَّذِي لَا يَتَكَلَّمُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُ بِمَا يُوحِي إِلَيْهِ رَبُّهُ -جَلَّ وَعَلَا- -كَمَا فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ الَّذِي أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي ((صَحِيحَيْهِمَا))-: ((أَنَّ رَجُلًا خَرَجَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ مَخْرَجًا -يَعْنِي فِي غَزَاةٍ مِنْ غَزَوَاتِ رَسُولِ اللهِ ﷺ-، وَأَبْهَمَهُ سَهْلٌ -رَحِمَهُ اللهُ-: وَبَيَّنَهُ غَيْرُهُ، فَقَالُوا: هُوَ قُزْمَانُ، وَكَانَ مُنَافِقًا.
نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَرْحَمَنَا بِرَحْمَتِهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ.
قَالَ: فَكَانَ لَا يَدَعُ شَاذَّةً وَلَا فَاذَّةً إِلَّا اتَّخَذَهَا، لَا يَنِدُّ مِنَ الْجَيْشِ فَارِسٌ وَلَا يَخْرُجُ مِنَ الصَّفِّ خَارِجٌ إِلَّا انْدَفَعَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ بِسَيْفِهِ، يَلْقَى الْحُتُوفَ، وَيُلْقِي بِنَفْسِهِ فِي مَوَارِدِ الْهَلَاكِ بِشَجَاعَةٍ فَائِقَةٍ، وَقُدْرَةٍ مُتَنَامِيَةٍ، يَفْعَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
فَقَالَ الْأَصْحَابُ يَوْمًا لِلنَّبِيِّ ﷺ وَقَدْ فَرَغُوا مِنْ يَوْمِ الْتِحَامٍ وَيَوْمِ لِقَاءٍ، قَالُوا: مَا أَجْزَأَ مِنَّا أَحَدٌ مَا أَجْزَأَ فُلَانٌ يَا رَسُولَ اللهِ ﷺ!!
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((هُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ))!!
فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا صَاحِبُهُ.
فَلَمَّا جَاءَتِ الْمَعْرَكَةُ؛ خَرَجَ فَجُرِحَ جُرْحًا بَلِيغًا، وَأَتَتْهُ جِرَاحَةٌ عَظِيمَةٌ، فَلَمْ يَصْبِرْ عَلَى أَلَمِهَا، فَجَعَلَ نَصْلَ سَيْفِهِ إِلَى الْأَرْضِ، وَوَضَعَ ذُبَابَهُ -يَعْنِي: طَرَفَهُ الْأَعْلَى بَيْنَ ثَدْيَيْهِ-، ثُمَّ اتَّكَأَ عَلَيْهِ، فَخَرَجَ مِنْ ظَهْرِهِ.
قَالَ: فَرَجَعَ الرَّجُلُ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ حَقًّا وَصِدْقًا ﷺ.
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: ((وَمَا ذَاكَ؟)).
يَعْنِي: وَمَا الَّذِي حَمَلَكَ عَلَى أَنْ تَقُولَ هَذَا الْقَوْلَ جَهَارًا نَهَارًا، وَأَنَا أَعْلَمُهُ مِنْكَ، وَأَعْلَمُ أَنَّهُ مُسْتَكِنٌّ فِي قَلْبِكَ، ظَاهِرٌ عَلَى جَوَارِحِكَ؟!
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! كَانَ مِنْ حَالِ فُلَانٍ كَذَا وَكَذَا، وَقُلْتَ فِي شَأْنِهِ: كَيْتَ وَكَيْتَ، ثُمَّ وَقَعَ مِنْ أَمْرِهِ مَا وَقَعَ، وَقَتَلَ نَفْسَهُ، وَلَقِيَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ عَلَى ذَلِكَ.
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، ثُمَّ يَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَدْخُلُ النَّارَ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، ثُمَّ يَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ)).
وَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ -كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ))-: ((مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلَّا وَقَدْ كَتَبَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَقْعَدَهَا مِنَ الْجَنَّةِ أَوْ مَقْعَدَهَا مِنَ النَّارِ، وَعَلِمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ هِيَ أَمْ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ)).
فَقَالَ رَجُلٌ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى الْكِتَابِ -يَعْنِي: الَّذِي كَتَبَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِمَعْرِفَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمَعْرِفَةِ أَهْلِ النَّارِ-، وَنَدَعُ الْعَمَلَ؟)).
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَا، بَلِ اعْمَلُوا؛ فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ)).
{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)} تَلَاهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ.
وَفِي حَدِيثِ النَّبِيِّ ﷺ: ((إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ)). وَهُوَ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ رِوَايَةِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا)).
وَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَثَلُ الْأَعْمَالِ كَمَثَلِ الْإِنَاءِ؛ إِذَا طَابَ أَعْلَاهُ طَابَ أَسْفَلُهُ، وَإِذَا خَبُثَ أَعْلَاهُ خَبُثَ أَسْفَلُهُ)).
فَالرَّسُولُ ﷺ يُنَبِّهُنَا إِلَى عِلْمِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِينَا؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ يَعْلَمُ مَا سَيَكُونُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَكُونَ، فَكَتَبَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
وَأَعْطَانَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ حُرِّيَّةَ الِاخْتِيَارِ فِي الْعَمَلِ الَّذِي يَقَعُ مِنَّا بِمَسْؤُولِيَّةٍ كَامِلَةٍ قَدْ نَاطَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِأَعْنَاقِنَا؛ حَتَّى لَا يَظْلِمَنَا رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.
فَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَنَا الْأَمْرَ فِي مَسْأَلَةِ الِاخْتِيَارِ فِيمَا طَلَبَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنَّا، وَفِي الْأَعْمَالِ الَّتِي تَقَعُ مِنَّا.
وَاللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَعْلَمُهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ نَفْعَلَهَا، وَمِنْ قَبْلِ أَنْ نَأْتِيَهَا، فَكَتَبَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
فَيَا تُرَى؛ هَلْ كَتَبَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي أَهْلِ السَّعَادَةِ، أَمْ كَتَبَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي أَهْلِ الشَّقَاوَةِ؟!!
ذَلِكَ أَمْرٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا عَلَّامُ الْغُيُوبِ، وَسِتِّيرُ الْعُيُوبِ.
وَأَمَّا نَحْنُ؛ فَإِنَّ الْأَمْنَ وَالِاغْتِرَارَ يَأْخُذُ بِأَنْفُسِنَا، وَبِمَعَاقِدِ أَجْفَانِنَا، وَبِمَقَالِيدِ قُلُوبِنَا، وَنَغْتَرُّ بِظَاهِرِ طَاعَةٍ نَأْتِيهَا، مَعَ أَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْطَقَ نَبِيَّهُ الْكَرِيمَ ﷺ: ((إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، ثُمَّ يَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَدْخُلُ النَّارَ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، ثُمَّ يَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ)).
وَهَذَا يُفَسِّرُ حَدِيثَ النَّبِيِّ ﷺ الَّذِي أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: حَدَّثَنَا الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ ﷺ: ((أَنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ إِلَيْهِ الْمَلَكَ، ويُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بكَتْبِ أَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَرِزْقِهِ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ)).
((بكَتْبِ أَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَرِزْقِهِ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ)).
فَهَذَا كِتَابٌ بِالشَّقَاوَةِ وَالسَّعَادَةِ وَالْمَرْءُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ جَنِينًا عِنْدَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ.
وَأَيْضًا عِنْدَ يَوْمِ الْمِيثَاقِ، عِنْدَمَا قَبَضَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَبْضَةً مِنَ الْخَلْقِ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ جَنَّتِي وَلَا أُبَالِي، وَقَبَضَ قَبْضَةً ثُمَّ قَالَ: هَؤُلَاءِ أَهْلُ النَّارِ، وَلَا أُبَالِي.
فَمَنْ لَمْ يَجْزَعْ مِنْ يَوْمِ الْقَبْضَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ عِلْمَ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي فَعَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عِنْدَئِذٍ، أَمِنْ أَهْلِ قَبْضَةِ الشَّقَاوَةِ أَمْ مِنْ أَهْلِ قَبْضَةِ السَّعَادَةِ؟
ذَلِكَ أَمْرٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ يُبَيِّنُ لَنَا -أَيْضًا- أَنَّ الْمَرْءَ يُؤْمَرُ مَلَكُهُ وَهُوَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ عِنْدَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ أَنْ يَكْتُبَ: شَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ؛ فَيَا تُرَى كُتِبَ الْمَرْءُ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ أَمْ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ؟!!
كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ ﷺ إِذَا لَقِيَ أَحَدُهُمْ أَخَاهُ يَقُولُ لَهُ: اجْلِسْ نَبْكِ عَلَى عِلْمِ اللهِ فِينَا.
((اجْلِسْ نَبْكِ عَلَى عِلْمِ اللهِ فِينَا))؛ لِأَنَّا لَا نَدْرِي عِلْمَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ السَّابِقَ فِينَا:
أَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ؟!!
أَمِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ أَمْ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ؟!!
ذَلِكَ أَمْرٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
ثُمَّ يَقُولُ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِيمَا يَرْوِيهِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ((فَوَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، حَتَّى لَا يَبْقَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَدْخُلُ النَّارَ.
وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ؛ حَتَّى لَا يَبْقَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ)).
فَلْنَبْكِ عَلَى عِلْمِ اللهِ فِينَا، وَلْنَسْأَلْ رَبَّنَا -جَلَّ وَعَلَا- أَنْ يَعْفُوَ عَنَّا بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ، وَهُوَ أَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ.
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ سُوءَ الْخَاتِمَةِ وَحُسْنَهَا أَمْرٌ شَخْصِيٌّ جِدًّا، وَأَمْرٌ فِي غَايَةٍ مِنَ السِّرِّيَّةِ فِيمَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ نَفْسِهِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَأَمَّلَ فِيهَا، فَإِنَّ الْمَوْتَ يَأْتِي فَجْأَةً، وَإِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَيُمْهِلَ الَّذِينَ يَتَجَبَّرُونَ يَتَكَبَّرُونَ يَخْدَعُونَ!!
وَلَكِنْ هَيْهَاتَ!!
فَإِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ خَادِعُهُمْ وَهُمْ يُخَادِعُونَهُ -جَلَّ وَعَلَا-، وَرَبُّ الْعَالَمِينَ لَا يُغَالَبُ وَلَيُغْلَبَنَّ مُغَالِبُ الْغَلَّابِ، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
فَهَذَا أَمْرٌ يَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَهُ الْمَرْءُ عَلَى أَنَّهُ مُشْكِلَةٌ شَخْصِيَّةٌ، وَشَخْصِيَّةٌ جِدًّا وَخَاصَّةٌ إِلَى أَبْعَدِ الْحُدُودِ؛ فَإِنَّ الْمَرْءَ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي يَعْلَمُ سِرَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ.
وَحْدَهُ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْدَعَ نَفْسَهُ.
وَحْدَهُ الَّذِي يَدْرِي خُبْرَهُ، وَيَدْرِي سَرِيرَتَهُ.
وَحْدَهُ الَّذِي يَطَّلِعُ عَلَى خَبِيئَةِ نَفْسِهِ، وَمَخْبُوءِ ضَمِيرِهِ، وَمَكْنُونِ فُؤَادِهِ، وَمُتَوَارِي سَرِيرَتِهِ.
فَهِيَ مُشْكِلَةٌ شَخْصِيَّةٌ جِدًّا، وَسِرِّيَّةٌ إِلَى أَبْعَدِ الْمَدَى، الْمَرْءُ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي يَسْتَطِيعُ أَنْ يَعْلَمَ هَلْ هُوَ مُسْتَقِيمٌ عَلَى الْجَادَّةِ أَمْ هُوَ مُنْحَرِفٌ عَنْهَا.
وَحْدَهُ الَّذِي يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقِفَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَنْظُرَ وَازِنًا الْأُمُورَ بِمِيزَانِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَهَذَا لِأَجْلِهِ أَمْ هَذَا لِوَجْهِ الشَّيْطَانِ؟!
أَهَذَا لِوَجْهِ الْحَقِّ أَمْ هُوَ لِقَفَاهُ؟!!
عِبَادَ اللهِ! تَذَكَّرُوا دَائِمًا وَأَبَدًا قَوْلَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مُوصِيًا إِيَّاكُمْ بِأَنْ تَأْخُذُوا بِأَسْبَابِ حُسْنِ الْخَاتِمَةِ، وَأَنْ تَجْتَهِدُوا مُجْتَنِبِينَ سُوءَ الْخَاتِمَةِ بِأَسْبَابِهَا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
وَهَلْ يَمْلِكُ الْمَرْءُ أَلَّا يَمُوتَ إِلَّا مُسْلِمًا، أَخْذًا بِحَقِيقَةِ الدِّينِ وَثَبَاتًا عَلَى أُصُولِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، وَبُعْدًا عَنِ التَّهَارُجِ وَالتَّهَارُشِ، وَبَحْثًا بِارْتِدَادٍ يَسِيرٍ إِلَى الْخَلْفِ هُنَالِكَ فِي أَطْوَاءِ النَّفْسِ بِانْكِفَاءٍ عَلَيْهَا انْكِفَاءَ يَسِيرًا؛ مِنْ أَجْلِ التَّفْتِيشِ وَالتَّنْقِيبِ وَالْبَحْثِ فِي طَوِيَّةِ ذَاتِ النَّفْسِ مِنْ أَجْلِ مَعْرِفَةِ الضَّمِيرِ؛ لِتَحْقِيقِ الْحَقِيقَةِ وَتَخْلِيصِ الْخَلَاصِ بِالْإِخْلَاصِ، مِنْ أَجْلِ الْعَوْدَةِ إِلَى رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ نَظِيفًا كَمَا خَلَقَكَ أَوَّلَ مَرَّةٍ عَلَى فِطْرَةِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ؟!!
فَعَلَى الْمَرْءِ أَلَّا يَغْتَرَّ بِظَاهِرِ عَمَلِهِ، وَلَوْ كَانَ عَمَلًا مِنْ عَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ كَمَا وَصَفَ النَّبِيُّ ﷺ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَدْرِي عِنْدَ الْمَوْتِ أَيَأْتِيهِ التَّثْبِيتُ أَمْ يُخْذَلُ عِنْدَ الْمَوْتِ، فَيَكْفُرُ بِاللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَالْمَوْتُ لَهُ سَكَرَاتُهُ، وَلَهُ غُصَصُهُ كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ وَهُوَ يَمُوتُ: ((سُبْحَانَ اللهِ! إِنَّ لِلْمَوْتِ لَسَكَرَاتٍ)).
فَمَنْ ثَبَّتَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عِنْدَ الْمَمَاتِ فَخَرَجَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى الْإِيمَانِ فَهُوَ السَّعِيدُ حَقًّا، وَمَنْ خَذَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عِنْدَ الْمَمَاتِ فَجَعَلَهُ يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ، وَتَتَخَطَّفُهُ الشَّيَاطِينُ عِنْدَ الْمَوْتِ فَهُوَ الْمَخْذُولُ الْمَحْرُومُ حَقًّا.
وَمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَجْزِمَ بِمَا يَكُونُ عَلَيْهِ حَالُهُ عِنْدَ الْمَمَاتِ، وَهُوَ فِي حَالِ الْحَيَاةِ؟
هَذَا أَمْرٌ لَا يَعْلَمُ عِلْمَهُ إِلَّا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ سُبْحَانَهُ نَسْأَلُهُ –جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- أَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَى الْحَقِّ، وَأَنْ يُلْهِمَنَا الرُّشْدَ، وَأَنْ يُحْسِنَ لَنَا الْخِتَامَ.
((جُمْلَةٌ مِنْ سُنَنِ الْعِيدِ))
لَقَدَ بَيَّنَ لَنَا رَبُّنَا مَا نَصْنَعُ فِي لَيْلَةِ الْعِيدِ، {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185].
التَّكْبِيرُ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ لَيْلَةَ عِيدِ الْفِطْرِ إِلَى صَلَاتِهِ، يُكَبِّرُ الرِّجَالُ فِي الطُّرُقَاتِ وَالْأَسْوَاقِ، وَفِي الْمَخَادِعِ وَالْبُيُوتِ يَرْفَعُونَ بِالتَّكْبِيرِ أَصْوَاتَهُمْ، { وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
إِذَا ثَبَتَتِ الرُّؤْيَةُ يُكُبِّرُ الْمُسْلِمُونَ؛ الرِّجَالُ جَهْرًا، وَالنِّسَاءُ إِسْرَارًا؛ إِذْ لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَرْفَعَ صَوْتَهَا بِذَلِكَ يَسْمَعُهُ الْأَجَانِبُ عَنْهَا، وَلَكِنْ يُكَبِّرُ النَّاسُ لَيلْةَ الْعِيدِ يُحْيُونَ لَيْلَةَ الْعِيدِ بِالتَّكْبِيرِ تَكْبِيرِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- بِحَمْدِهِ وَشُكْرِهِ عَلَى مَا مَنَّ بِهِ مِنَ الْقِيَامِ بِالْفَرْضِ، وَإِتْمَامِ السُّنَّةِ، وَمَا كَانَ مِنْ خَيْرٍ، وَعَلَى رَجَاءِ التَّجَاوُزِ عَمَّا كَانَ مِنْ تَقْصِيرٍ.
وَصِيغَةُ التَّكْبِيرِ: ((اللهُ أَكْبَرُ للهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ للهُ أَكْبَرُ وَللهِ الْحَمْدُ)).
يُكَبِّرُ النَّاسُ وَلَا يَسْتَحُونَ مِنَ التَّكْبِيرِ كَعَادَةِ أَهْلِ الْعَصْرِ، أَيَمْشِي مَاشِيهِمْ فِي الشَّارِعِ فِي الطُّرُقَاتِ يُكُبِّرُ يَسْمَعُهُ النَّاسُ؟!! يَا لَلْعَيْبِ!!
إِنَّهُ أَمْرُ اللهُ وَسُنَّةُ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
وَلَا تَغْفُلَنَّ عَنْ سُنَنِ الْعِيدِ.. إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ مَا صَلَّى الْعِيدَ فِي الْمَسْجِدِ؛ وَإِنَّمَا صَلَّى الْعِيدَ فِي الْمُصَلَّى، يَدَعُ الْمَسْجِدَ النَّبَوِيَّ عَلَى شَرَفِهِ وَشَرَفِ الصَّلَاةِ فِيهِ وَيَخْرُجُ إِلَى الْمُصَلَّى، وَمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ حِكْمَةٍ، وَيَأْمُرُ بِخُرُوجِ الْجَمِيعِ حَتَّى الْعَوَاتِقُ والْحُيَّضُّ وَحَتَّى الْمَرْأَةُ لَا تَجِدُ جِلْبَابًا؛ قَالَ: ((تُعْطِيهَا أُخْتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا)).
يَخْرُجُ الْجَمِيعُ إِلَى الْمُصَلَّى مُخَالِفِينَ الطَّرِيقَ ذَهَابًا وَإِيَابًا؛ لِيُكَثِّرُوا الشُّهُودَ يَوْمَ الْقَيَامَةِ، وَقَدَ فَعَلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ، فَكَانَ يُخَالِفُ الطَّرِيقَ.
وَيَفْصِلُونَ بَيْنَ مَا فَرَضَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَمَا لَمْ يَفْرِضْهُ عَلَيْهِمْ؛ فَفِي يَوْمِ الْفِطْرِ يُفْطِرُونَ قَبْلَ الْخُرُوجِ إِلَى الْمُصَلَّى عَلَى تَمْرَاتٍ وَتَكُونُ وِتْرًا؛ لِيَفْصِلُوا بَيْنَ مَا فَرَضَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الصِّيَامِ، وَمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْفِطْرِ فِي يَوْمِ الْعِيدِ.
يَخْرُجُونَ مُكَبِّرِينَ، مُخَالِفِينَ الطُّرُقَاتِ فِي الثِّيَابِ الْجَدِيدَةِ، مِنَ السُّنَّةِ الْبَيَاضُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَلَوْ كَانَ لَبِيسًا، وَالْجَدِيدُ فِي يَوْمِ الْعِيدِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَبْيَضَ، يُظْهِرُونَ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْهِمْ، وَيُكَبِّرُونَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ بِمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا انْتَهَوْا إِلَى الْمُصَلَّى أَخَذُوا فِي التَّكْبِيرِ عَلَى حَالِهِمْ فِي مَمْشَاهُمْ إِلَى مُصَلَّاهُمْ مُكَبِّرِينَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، لَا عَلَى وَتِيرَةٍ؛ وَإِنَّمَا يُكَبِّرُ كُلٌّ رَبَّهُ.
وَتُؤَخَّرُ الصَّلَاةُ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُخْرِجَ مَنْ لَمْ يُخْرِجْ صَدَقَةَ الْفِطْرِ -صَدَقَتَهُ-؛ إِذْ فَرَضَهَا رَسُولُ اللهِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ؛ مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ مِنْ بُرٍّ، أَوْ مِنْ أَقِطٍ، مِنْ طَعَامِ بَنِي آدَمَ، فَكَانَتْ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ، وَكَفًّا لَهُمْ عَنِ التَّكَفُّفِ فِي يَوْمِ الْعِيدِ، فَلَا يَكُونُ فِي يَوْمِ الْعِيدِ مُحْتَاجٌ، هُوَ يَوْمُ فَرَحٍ بِنِعْمَةِ اللهِ بِعَقِبِ أَدَاءِ فَرِيضَةٍ وَرُكْنٍ مِنْ فَرَائِضِ وَأَرْكَانِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.
فَحُقَّ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَفْرَحُوا، فَجَعَلَ الْفَرَحَ عَامًّا، وَلَا كَفَرَحِ الْبَطَّالِينَ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ يَوْمَ الْعِيدِ مَبَاءَةً لِلتَّدَنِّي فِي سَافِلِ الْأَخْلَاقِ وَمُنْحَطِّ الرَّذَائِلِ وَالْعَادَاتِ مِنَ الِاخْتِلَاطِ وَالسُّفُورِ وَالتَّهَتُّكِ وَالْعُرْيِ وَمَا أَشْبَهَ مِنْ تِلْكَ الْمُخَالَفَاتِ، أَبِمِثْلِ هَذَا يُشْكَرُ اللهُ؟!!
أَعْيَا السُّعَاةَ شُكْرُ اللهِ، فَشُكْرُهُ عَلَى نِعْمَهِ نِعْمَةٌ تَحْتَاجُ شُكْرًا، فَمَا تَنْفَكُّ مِنْ شُكْرٍ أَبَدًا، كَحَمْدِهِ؛ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ خَلْقَهُ لَنْ يُوَفُّوهُ حَقَّهُ مِنَ الْحَمْدِ حَمِدَ نَفْسَهُ؛ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
أَبِمِثْلِ هَذِهِ الْمَعَاصِي يُشْكَرُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى مَا كَانَ مِنْ عِبَادَةٍ وَذِكْرٍ وَقُرْبَةٍ وَوِتْرٍ؟!!
أَبِمِثْلِ هَذَا تُقَيَّدُ النِّعْمَةُ عِنْدَ الْعَبْدِ؟!!
اتَّقُوا ذَلِكَ فِي يَوْمِ الْعِيدِ، اتَّقُوا فِي يَوْمِ الْعِيدِ مَا تَوَاضَعَ عَلَيْهِ الْخَلْقُ مِنَ الرَّذَائِلِ وَالْمُوبِقَاتِ، وَالْتَزِمُوا نَهْجَ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ الَّذِي جَاءَكُمْ بِهِ نَبِيُّكُمْ ﷺ.
النَّبِيُّ ﷺ أَخْبَرَنَا أَنَّ رَمَضَانَ إِذَا كَانَ قَدِ انْقَضَى فَمَا انْقَضَى الصِّيَامُ، وَأَنَّ الْقِيَامَ فِي رَمَضَانَ إِذَا كَانَ قَدِ انْتَهَى فَمَا انْتَهَى مِنْ سَائِرِ الْعَامِ، فَالْأَمْرُ قَائِمٌ عَلَى حَالِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَدْرِيبٌ لِلْمُسْلِمِ عَلَى طَاعَةِ رَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي سَائِرِ عَامِهِ.
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ -فِيمَا رَوَى أَبُو أَيُّوبَ عَنْهُ-: ((مَنْ صَامَ رَمَضانَ ثُمَّ أَتَبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كانَ كصِيَامِ الدَّهْرِ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَعِنْدَ ابْنِ مَاجَه بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ رِوَايَةِ ثَوْبَانَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: ((مَنْ صَامَ سِتَّةَ أَيَّامٍ بَعْدَ الْفِطْرِ كَانَ تَمَامَ السَّنَةِ، {مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها} [الأنعام: 160])).
وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ: ((جَعَلَ اللهُ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا؛ فَشَهْرٌ بِعَشْرَةِ أَشْهُرٍ، وَصِيَامُ سِتَّةِ أَيَّامٍ بَعْدَ الْفِطْرِ تَمَامُ السَّنَةِ)).
شَهْرٌ بِعَشْرَةِ أَشْهُرٍ، وَسِتَّةُ أَيَّامٍ بِشَهْرَيْنِ، فَمَنْ أَتْبَعَ رَمَضَانَ بِصِيَامِ سِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ فَكَأَنَّمَا صَامَ الْعَامَ كُلَّهُ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ: ((صِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ بِعَشْرَةِ أَشْهُرٍ، وَصِيَامُ سِتَّةِ أَيَّامٍ بِشَهْرَيْنِ، فَذَلِكَ صِيَامُ السَّنَةِ)).
وَعِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ بِلَفْظٍ: ((مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَسِتًّا مِنْ شَوَّالٍ فَقَدْ صَامَ السَّنَةَ)).
وَالنَّبِيُّ ﷺ قَدْ دَلَّنَا عَلَى الصِّيَامِ سَائِرَ الْعَامِ؛ ((بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ هِيَ أَيَّامُ الْبِيضِ؛ الثَّالِثَ عَشَرَ وَالرَّابِعَ عَشَرَ وَالْخَامِسَ عَشَرَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ هِجْرِيٍّ))، بِصِيَامِ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ.
النَّبِيُّ ﷺ دَلَّنَا عَلَى صِيَامِ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَصِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ.
دَلَّنَا عَلَى ((أَفْضَلِ الصِّيَامِ وَهُوَ صِيَامُ دَاوُدَ كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا))؛ لِتُفْطَمَ الْأَنْفُسُ عَنْ مَادَّةِ غَيِّهَا وَمَوَادِّ انْحِرَافِهَا، وَلِتَصْفُوَ الْقُلُوبُ، وَتَتَهَذَّبَ الطِّبَاعُ، وَتَسْتَقِيمَ عَلَى الصِّرَاطِ الْأَقْدَامُ.
إِنْ كَانَ الصِّيَامُ فِي رَمَضَانَ قَدِ انْقَضَى بِانْقِضَائِهِ؛ فَمَا انْقَضَى مِنْ سَائِرِ الْعَامِ، وَكَذَلِكَ الْقِيَامُ؛ ((فَإِنَّ شَرَفَ الْمُؤْمِنِ قِيَامُهُ بِاللَّيْلِ، شَرَفُهُ قِيَامُهُ بِاللَّيْلِ، وَعِزَّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ)) كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ لَمْ يَكُنْ يَدَعُ قِيَامَ اللَّيْلِ لَا فِي السَّفَرِ وَلَا فِي الْحَضَرِ، عَلَى ظُهُورِ الرَّوَاحِلِ وَعَلَى أَرْضِ اللهِ، يُصَلِّي فِي السَّفَرِ عَلَى رَاحِلَتِهِ أَنَّى تَوَجَّهَ وِتْرَهُ قِيَامَ لَيْلِهِ مُتَهَجِّدًا لِرَبِّهِ مُقْبِلًا عَلَى إِلَهِهِ وَخَالِقِهِ، وَمُعَلِّمًا لِلْأُمَّةِ كَيْفَ تَكُونُ شَاكِرَةً وَعَابِدَةً وَمُسْتَقِيمَةً.
فَلَا تَغْفُلَنَّ عَنْ سِتِّ شَوَّالٍ.. لَا تَغْفُلَنَّ عَنْ صِيَامِ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ، وَلَا تَغْفُلَنَّ عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ سَائِرَ الْعَامِ، وَاللهُ يَرْعَاكَ وَيَتَوَلَّاكَ.
وَاحْذَرْ أَنْ تُخْرِجَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ بَعْدَ الصَّلَاةِ إِلَّا لِعُذْرٍ؛ كَأَلَّا تَجِدَ مَنْ تُخْرِجُهَا لَهُ، أَوْ أَنْ تُوَكِّلَ مَنْ يُخْرِجُهَا فَلَا يَجِدُ مَنْ يُخْرِجُهَا لَهُ حَتَّى تَنْقَضِيَ الصَّلَاةُ.
وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ حَيْثُ الرَّأْسُ؛ إِذْ هِيَ صَدَقَةٌ زَكَاةٌ عَلَى الرُّؤُوسِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ مِنْ حُرٍّ وَعَبْدٍ وَذَكَرٍ وَأُنْثَى وَصَغِيرٍ وَكَبِيرٍ كَمَا فِي الْحَدِيثِ، فَصَدَقَةُ الْفِطْرِ عَلَى الرُّؤُوسِ فَهِيَ حَيْثُ كَانَتِ الرَّأْسُ إِلَّا أَلَّا يَجِدَ مَنْ يُخْرِجُهَا لَهُ، وَاللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- هُوَ الْمُسْتَعَانُ.
وَأَسْأَلُهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ- أَنْ يَعْفُوَ عَنَّا وَأَنْ يَغْفِرَ لَنَا وَأَنْ يَرْحَمَنَا.
اللهم اغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا، وَعَافِنَا وَاعْفُ عَنَّا.
اللهم إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنَّا.
اللهم إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنَّا.
اللهم أَصْلِحْ أَحْوَالَنَا وَأَحْوَالَ الْمُسْلِمِينَ.
اللهم تُبْ عَلَيْنَا وَعَلَى سَائِرِ الْعُصَاةِ وَالْمُذْنِبِينَ.
وَأَحْسِنْ خِتَامَنَا أَجْمَعِينَ.
وَأَحْسِنْ خِتَامَنَا أَجْمَعِينَ.
وَأَحْسِنْ خِتَامَنَا أَجْمَعِينَ.
وَاجْعَلْ آخِرَ كَلَامِنَا مِنَ الدُّنْيَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
المصدر:حُسْنُ الْخَاتِمَةِ