((مَظَاهِرُ الْإِيجَابِيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُه، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي ((الصَّحِيحِ)) ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النِّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا -يَعْنِي: لَوْ كَانَ كَذَا لَكَانَ كَذَا وَكَذَا- وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللَّهِ، وَمَا شَاءَ فَعَلَ؛ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ)).
وَالْعُلَمَاءُ -عَلَيْهِمُ الرَّحْمَةُ- وَمِنْهُمُ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- عِنْدَ تَعَرُّضِهِ لِشَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ، ذَكَرَ أَنَّ الْقُوَّةَ الَّتِي ذَكَرَهَا النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ إِنَّمَا هِيَ قُوَّةُ الْقَلْبِ، وَقُوَّةُ الرُّوحِ، وَعَزِيمَةُ النَّفْسِ، فَهِيَ الَّتِي تَدْفَعُ الْمَرْءَ فِي الْجِلَادِ عِنْدَ الْجِهَادِ لِأَنْ يَكُونَ سَابِقًا فِي مَوْطِنِ الْمَوْتِ، تَنُوشُهُ الرِّمَاحُ، وَتُمَزِّقُهُ السُّيُوفُ، وَلَا يَتَأَخَّرُ، وَلَا يَنْكُصُ عَلَى عَقِبَيْهِ.
وَلَكِنَّ جَمْهَرَةً غَالِبَةً مِنْ عُلَمَائِنَا -عَلَيْهِمُ الرَّحْمَةُ- أَخَذُوا بِالْإِطْلَاقِ: ((الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ)): قَوِيٌّ فِي بَدَنِهِ، قَوِيٌّ فِي إِيمَانِهِ، قَوِيٌّ فِي صِحَّتِهِ، قَوِيٌّ فِي يَقِينِهِ.
((تَحْقِيقُ الْإِيجَابِيَّةِ بِالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى))
قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((وُجُوبِ التَّعَاوُنِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ)): قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2].
فَالْبِرُّ: اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، وَأَحَبَّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، مِنَ التَّحَقُّقِ بِعَقَائِدِ الدِّينِ وَأَخْلَاقِهِ، وَالْعَمَلِ بِآدَابِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، مِنَ الشَّرَائِعِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَمِنَ الْقِيَامِ بِحُقُوقِ اللهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ، وَمِنَ التَّعَاوُنِ عَلَى الجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا؛ فَكُلُّ هَذَا دَاخِلٌ فِي التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ.
وَمِنَ التَّعَاوُنِ عَلَى التَّقْوَى: التَّعَاوُنُ عَلَى اجْتِنَابِ وَتَوَقِّي مَا نَهَى اللهُ وَرَسُولُهُ عَنْهُ مِنَ الْفَوَاحِشِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَمِنَ الْإِثْمِ وَالْبَغْيِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَالْقَوْلِ عَلَى اللهِ بِلَا عِلْمٍ؛ بَلْ عَلَى تَرْكِ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ.
((نَمَاذِجُ لِلْإِيجَابِيَّةِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ))
مِنْ أَعْظَمِ صُوَرِ الْإِيجَابِيَّةِ: مُسَاعَدَةُ الْخَلْقِ، وَنَبِيُّ اللهِ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أُسْوَةٌ فِي ذَلِكَ وَمِثَالٌ، فَقَدْ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)} [القصص: 22-24].
{وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ} أَيْ: قَصَدَ نَحْوَهَا مَاضِيًا إِلَيْهَا، وَكَانَ مُوسَى قَدْ خَرَجَ خَائِفًا بِلَا ظَهْرٍ وَلَا حِذَاءٍ وَلَا زَادٍ، وَكَانَتْ مَدْيَنُ عَلَى مَسِيرَةِ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ مِنْ مِصْرَ، {قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} أَيْ: قَصْدَ الطَّرِيقِ إِلَى مَدْيَنَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهُوَ أَوَّلُ ابْتِلَاءٍ مِنَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- لِمُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
{وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ}: وَهُوَ بِئْرٌ كَانُوا يَسْقُونَ مِنْهَا مَوَاشِيَهُمْ، {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً}: أَيْ: جَمَاعَةً {مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ}: مَوَاشِيَهُمْ، {وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ} يَعْنِي: سِوَى الْجَمَاعَةِ {امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ} يَعْنِي: تَحْبِسَانِ وَتَمْنَعَانِ أَغْنَامَهُمَا عَنِ الْمَاءِ حَتَّى يَفْرُغَ النَّاسُ وَتَخْلُو لَهُمُ الْبِئْرُ.
{قَالَ} يَعْنِي: مُوسَى لِلْمَرْأَتَيْنِ {مَا خَطْبُكُمَا}: مَا شَأْنُكُمَا؛ لَا تَسْقِيَانِ مَوَاشِيَكُمَا مَعَ النَّاسِ؟
{قَالَتَا لا نَسْقِي} أَغْنَامَنَا {حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} أَيْ: حَتَّى يَصْرِفُوا هُمْ مَوَاشِيَهُمْ عَنِ الْمَاءِ.
وَمَعْنَى الْآيَةِ: لَا نَسْقِي مَوَاشِيَنَا حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ؛ لِأَنَّا امْرَأَتَانِ لَا نُطِيقُ أَنْ نَسْقِيَ، وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نُزَاحِمَ الرِّجَالَ، فَإِذَا صَدَرُوا سَقَيْنَا مَوَاشِيَنَا مَا أَفْضَلَتْ مَوَاشِيهُمْ فِي الْحَوْضِ {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} لَا يَقْدِرُ أَنْ يَسْقِيَ مَوَاشِيَهُ؛ فَلِذَلِكَ احْتَجْنَا نَحْنُ إِلَى سَقْيِ الْغَنَمِ.
فَلَمَّا سَمِعَ مُوسَى قَوْلَهُمَا رَحِمَهُمَا، فَاقْتَلَعَ صَخْرَةً مِنْ رَأْسِ بِئْرٍ أُخْرَى كَانَتْ بِقُرْبِهِمَا لَا يُطِيقُ رَفْعَهَا إِلَّا جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ، {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ} ظِلِّ شَجَرَةٍ، فَجَلَسَ فِي ظِلِّهَا مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ وَهُوَ جَائِعٌ، {فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنـزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ} طَعَامٍ، {فَقِير} يَقُولُ: {إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ} أَيْ: طَعَامٍ، فَقِيرٌ مُحْتَاجٌ، كَانَ يَطْلُبُ الطَّعَامَ لِجُوعِهِ.
*لَقَدْ دَعَا مُؤْمِنُ الْقَرْيَةِ لِاتِّبَاعِ الرُّسُلِ بِحَمَاسَةٍ وَعَزْمٍ؛ دِفَاعًا عَنِ الْحَقِّ الرَّبَانِيِّ، وَحِرْصًا عَلَى صَالِحِ قَوْمِهِ، قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22)} [يس: 20-22].
وَجَاءَ مِنْ أَبْعَدِ مَكَانٍ بِالْمَدِينَةِ رَجُلٌ مُجَاهِدٌ، يُسْرِعُ نَحْوَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَنْ حَمَاسَةٍ وَتَصْمِيمٍ وَتَضْحِيَةٍ بِالنَّفْسِ؛ دِفَاعًا عَنِ الْحَقِّ الرَّبَانِيِّ، لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ قَوْمَهُ كَذَّبُوا الرُّسُلَ، وَأَرَادُوا قَتْلَهُمْ، قَالَ: يَا قَوْمِ! اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ فِيمَا يَدْعُونَكُمْ إِلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِ اللهِ تَعَالَى وَعِبَادَتِهِ.
اتَّبِعُوا الَّذِينَ لَا يَطْلُبُونَ مِنْكُمْ أَجْرًا عَلَى نُصْحِكُمْ وَإِرْشَادِكُمْ، فَهُمْ لَيْسُوا أَصْحَابَ مَصَالِحَ شَخْصِيَّةٍ دُنْيَوِيَّةٍ.
وَهُمْ مُهْتَدُونَ فِي ذَوَاتِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ وَمُعَامَلَاتِهِمْ، فَلَا تَخْسُرُونَ مَعَهُمْ شَيْئًا مِنْ دُنْيَاكُمْ، وَتَرْبَحُونَ مَعَهُمْ صِحَّةَ دِينِكُمْ، فَيَحْصُلُ لَكُمْ خَيْرُ الدُّنْيَا وَخَيْرُ الْآخِرَةِ.
وَلَمَّا دَعَا هَذَا الرَّجُلُ الْمُؤْمِنُ لِاتِّبَاعِ الرُّسُلِ، حَاكَمَهُ أَهْلُ الْقَرْيَةِ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ مِلَّتِهِمْ، وَقَالُوا لَهُ: أَتَرَكْتَ عِبَادَةَ آلَهَتِنَا، وَذَهَبْتَ تَعْبُدُ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ هَؤُلَاءِ الرُّسُلُ؟
فَأَجَابَهُمْ بِحِكْمَةٍ وَسَدَادٍ: نَعَمْ، أُومِنُ بِمَا جَاءُوا بِهِ، وَأَعْبُدُ رَبِّي وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَنِي، وَأَيُّ شَيْءٍ يَمْنَعُنِي مِنْ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِي خَلَقَنِي، وَإِلَيْهِ وَحْدَهُ تُرَدُّونَ عِنْدَ الْبَعْثِ، فَيَجْزِيكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ؟!!
*إِيجَابِيَّةُ نَمْلَةٍ بحِرْصِهَا عَلَى قَوْمِهَا مِنَ النَّمْلِ، وَشُعُورِهَا بِالْمَسْئُولِيَّةِ نَحْوَهُمْ؛ وَتَحْذِيرِهِمْ؛ خَشْيَةً عَلَيْهُمْ، وَرَغْبَةً فِي نَجَاتِهِمْ، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [النمل: 18].
فَسَارَ سُلَيْمَانُ بِجُنُودِهِ الْكَثِيفَةِ يَجْتَازُ أَرْضًا فَأَرْضًا، حَتَّى إِذَا أَشْرَفُوا عَلَى وَادِي النَّمْلِ، قَالَتْ نَمْلَةٌ: يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ، لَا يُكَسِّرَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ دُونَ اكْتِرَاثٍ وَلَا الْتِفَاتٍ.
وَلَوْ لَمْ تَدْخُلُوا وَطَئُوكُمْ وَلَمْ يَشْعُرُوا بِذَلِكَ، فَهُمْ لِشِدَّةِ عَدْلِهِمْ وَفَضْلِهِمْ لَا يَقْتُلُونَ نَمْلَةً فَمَا فَوْقَهَا بِغَيْرِ وَجْهِ حَقٍّ إِلَّا إِذَا وَقَعَ مِنْهُمْ ذَلِكَ بِدُونِ قَصْدٍ وَلَا أَدْنَى عِلْمٍ.
وَفِي كَلَامِ النَّمْلَةِ إِشْعَارٌ بِاهْتِمَامِهَا بِأُمُورِ جَمَاعَتِهَا، بِاعْتِبَارِهَا وَاحِدَةً مِنْ تِلْكَ الْجَمَاعَةِ، وَكَانَ بِوُسْعِهَا أَنْ تَخْتَفِيَ فِي مَكَانٍ أَمِينٍ، وَتَدَعَ بَنِي جِنْسِهَا مِنَ النَّمْلِ وَشَأْنَهُمْ، وَلَكِنَّهَا لَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ، بَلْ قَامَتْ بِتَحْذِيرِهِمْ مَعَ بَيَانِ وَجْهِ هَذَا التَّحْذِيرِ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى شُعُورِهَا بِالْمَسْئُولِيَّةِ نَحْوَهُمْ، وَأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهَا أَنْ تَحْرِصَ عَلَى نَجَاتِهِمْ، وَدَفْعِ الشَّرِّ عَنْهُمْ، كَمَا تَحْرِصُ عَلَى نَجَاةِ نَفْسِهَا وَدَفْعِ الشَّرِّ عَنْهَا.
*لَا يَسْتَوِي الْعَاجِزُ وَالرَّشِيدُ الْآمِرُ بِالْعَدْلِ، قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 76].
وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا -لِبُطْلَانِ الشِّرْكِ- رَجُلَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا وُلِدَ أَخْرَسَ، لَا يَفْهَمُ وَلَا يُفْهِمُ، وَعَاجِزٌ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَعْمَلَ شَيْئًا، وَهُوَ ثَقِيلٌ عَلَى مَنْ يَلِي أَمْرَهُ وَيَعُولُهُ، حَيْثُمَا يُرْسِلُهُ وَيُصَرِّفُهُ فِي طَلَبِ حَاجَةٍ أَوْ كِفَايَةِ مُهِمٍّ لَا يَأْتِي بِنُجْحٍ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَسُ عَاجِزٌ.
هَلْ يَسْتَوِي صَاحِبُ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْمَذْمُومَةِ وَمَنْ هُوَ سَلِيمُ الْحَوَاسِّ، ذُو رُشْدٍ وَرَأْيٍ، يَأْمُرُ النَّاسَ بِالْعَدْلِ وَالْخَيْرِ، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ عَلَى سِيرَةٍ صَالِحَةٍ وَدِينٍ قَوِيمٍ؟!!
هَلْ يَسْتَوِي هَذَانِ الرَّجُلَانِ فِي مَفَاهِيمِكُمْ أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ؟!!
فَكَيْفَ تُسَوُّونَ فِي الْإِلَهِيَّةِ بَيْنَ أَوْثَانِكُمُ الْجَامِدَةِ الَّتِي لَا يُرْجَى مِنْهَا خَيْرٌ، وَلَا يُخْشَى مِنْهَا ضُرٌّ وَبَيْنَ رَبِّ الْعَالَمِينَ، خَالِقِ الْكَوْنِ، وَالْمُتَصَرِّفِ بِكُلِّ شَيْءٍ فِيهِ، وَالْمُحِيطِ بِكُلِّ شَيْئٍ عِلْمًا؟!!
((الْحَثُّ عَلَى الْإِيجَابِيَّةِ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ ))
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا»(). وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ.
وَ«فَسِيلَةٌ»: هِيَ النَّخْلَةُ الصَّغِيرَةُ.
هَذَا فِيهِ مُبَالَغَةٌ فِي الْحَثِّ عَلَى غَرْسِ الْأَشْجَارِ وَحَفْرِ الْأَنْهَارِ؛ لِتَبْقَى هَذِهِ الدَّارُ عَامِرَةً إِلَى آخِرِ أَمَدِهَا الْمَحْدُودِ الْمَعْلُومِ عِنْدَ خَالِقِهَا، فَكَمَا غَرَسَ لَكَ غَيْرُكَ؛ فَانْتَفَعْتَ بِهِ، فَاغْرِسْ أَنْتَ لِمَنْ يَجِيءُ بَعْدَكَ؛ لِيَنْتَفِعَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا صُبَابَةٌ، وَذَلِكَ بِهَذَا الْقَصْدِ لَا يُنَافِي الزُّهْدَ وَالتَّقَلُّلَ مِنَ الدُّنْيَا.
وَالنَّبِيُّ ﷺ ذَكَرَ أَحَادِيثَ فِي اسْتِثْمَارِ الْأَرْضِ وَزَرْعِهَا، وَالْحَثِّ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا أَدَلَّ عَلَى الْحَضِّ عَلَى الِاسْتِثْمَارِ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْكَرِيمَةِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي مَعَنَا؛ فَإِنَّ فِيهِ تَرْغِيبًا عَظِيمًا عَلَى اغْتِنَامِ آخِرِ فُرْصَةٍ مِنَ الْحَيَاةِ فِي سَبِيلِ زَرْعِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَيُجْرَى لَهُ أَجْرُهُ، وَتُكْتَبُ لَهُ صَدَقَتُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
قَوْلُهُ: «فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا»: وَهَذَا -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ- يَتَطَلَّبُ زَمَانًا مَمْدُودًا؛ لِكَيْ يَتَحَصَّلَ الْمَرْءُ عَلَى نَتِيجَتِهِ وعَائِدِهِ؛ لِأَنَّ النَّخْلَةَ يَسْتَمِرُّ نُمُوُّهَا حَتَّى إِثْمَارِهَا سَنَواتٍ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا».
مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا يَقِينًا حِينَئِذٍ، وَلَكِنَّهُ ﷺ يَحُثُّ عَلَى غَرْسِ الْأَشْجَارِ وَحَفْرِ الْأَنْهَارِ، وَعَلى الْعَمَلِ الصَّالِحِ النَّافِعِ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ، وَإِنْ ظَهَرَتْ نَتَائِجُهُ وَعَوَاقِبُهُ عَلَى الْمَدَى الْبَعِيدِ، وَكَانَتْ نَتَائِجُهُ وَثِمَارُهُ بَطِيئَةً جِدًّا.
فِي هَذَا الْحَدِيثِ: التَّرْغِيبُ الْعَظِيمُ عَلَى اغْتِنَامِ آخِرِ فُرْصَةٍ مِنَ الْحَيَاةِ فِي سَبِيلِ زَرْعِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَيُجْرَى لَهُ أَجْرُهُ وَتُكْتَبُ لَهُ صَدَقَتُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالْحَثُّ عَلَى الطَّاعَةِ إِلَى آخِرِ لَحْظَةٍ مِنَ الْحَيَاةِ.
((مِنْ مَظَاهِرِ الْإِيجَابِيَّةِ: الْمُسَارَعَةُ فِي الْخَيْرَاتِ
وَالسَّعْيُ لِنَيْلِ رِضَا اللهِ))
*أَثْنَى اللهُ فِي كِتَابِهِ عَلَى الْمُسَارِعِينَ فِي الْخَيْرَاتِ قَوْلًا وَعَمَلًا، قال تعالى: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)} [الأنبياء: 90].
وَضَعْ فِي ذَاكِرَتِكَ -أَيُّهَا الْمُتَلَقِّي لِكَلَامِ رَبِّكَ- قِصَّةَ زَكَرِيَّا حِينَ نَادَى رَبَّهُ مُتَوَجِّهًا بِقَلْبِهِ فِي دُعَائِهِ أَنْ يَرْزُقَهُ الذُّرِّيَّةَ لَمَّا كَبُرَتْ سِنُّهُ قَائِلًا: يَا رَبِّ لَا تَتْرُكْنِي وَحِيدًا مُنْقَطِعًا لَا وَلَدَ لِي يُسَاعِدُنِي، فَارْزُقْنِي وَارِثًا يَرِثُ النُّبُوَّةَ وَالْعِلْمَ الدِّينِيَّ مِنْ بَعْدِي.
وَأَنْتَ الْأَزَلِيُّ الْأَبَدِيُّ الْبَاقِي بَعْدَ فَنَاءِ الْخَلْقِ، وَخَيْرُ مَنْ تَرْجِعُ كُلُّ الْأَشْيَاءِ وَالْأَحْيَاءِ إِلَى مَحْضِ مُلْكِهِ.
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ دُعَاءَهُ، وَوَهَبْنَا لَهُ عَلَى الْكِبَرِ مِنْ مَحْضِ فَضْلِنَا الْوَاسِعِ، وَقُدْرَتِنَا الْبَاهِرَةِ وَلَدًا ذَكَرًا سَمَّيْنَاهُ يَحْيَى.
وَجَعَلْنَا زَوْجَهُ وَلُودًا بَعْدَمَا كَانَتْ عَقِيمًا، إِنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ بَيْتٍ يُسَارِعُونَ فِي السَّيْرِ فِي طَرِيقِ فِعْلِ الْخَيْرَاتِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَالنِّيَّاتِ، وَيَدْعُونَنَا دَوَامًا رَاغِبِينَ وَرَاهِبِينَ؛ طَمَعًا فِي ثَوَابِنَا الْعَظِيمِ، وَخَوْفًا مِنْ عِقَابِنَا الْأَلِيمِ، وَكَانُوا لَنَا خَائِفِينَ مُتَذَلِّلِينَ مُتَوَاضِعِينَ لِرَبِّهِمْ، سَاكِنِينَ فِي عِبَادَاتِهِمْ وَصَلَوَاتِهِمْ.
*أَمَرَ اللهُ بِالْمُسَارَعَةِ لِنَيْلِ مَغْفِرَتِهِ وَجَنَّتِهِ، وقال -جَلَّ وَعَلَا-: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدِّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133].
وَبَادِرُوا وَسَابِقُوا إِلَى مَا يُوجِبُ الْمَغْفِرَةَ مِنْ رَبِّكُمْ، وَهِيَ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ الْمَأْمُورُ بِفِعْلِهَا، وَسَارِعُوا إِلَى جَنَّةٍ وَاسِعَةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ.
فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ صِفَةَ عَرْضِهَا، فَكَيْفَ بِطُولِهَا؟!!
هُيِّئَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ الْمُمْتَثِلِينَ لِأَوَامِرِهِ، وَالْمُجْتَنِبِينَ لِنَوَاهِيهِ.
*دَلَّنَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ عَلَى خَيْرِ مَا يَتَنَافَسُ فِيهِ الْمُتَنَافِسُونَ وَهُوَ نَعِيمُ الْجَنَّةِ، وقال تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)} [ المطففين: 26].
إِنَّ الْقَائِمِينَ بِمُقْتَضَيَاتِ مَرْتَبَةِ التَّقْوَى؛ بِفِعْلِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَبِفِعْلِ الْخَيْرَاتِ الزَّائِدَةِ عَلَى وَاجِبَاتِ مَرْتَبَةِ التَّقْوَى، الَّذِينَ يَتَوَسَّعُونَ فِي نَوَافِلِ الْعِبَادَاتِ، وَفِي التَّنَزُّهِ عَنِ الْمَكْرُوهَاتِ لَمُحَاطُونَ بِلَذَّاتِ النَّعِيمِ، يَجْلِسُونَ عَلَى الْمَقَاعِدِ الْمُنَجَّدَةِ الْوَثِيرَةِ الْمُزَيَّنَةِ، يَنْظُرُونَ إِلَى مَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ.
تَعْرِفُ -أَيُّهَا الرَّائِي- فِي وُجُوهِهِمْ حُسْنًا ذَا بَرِيقٍ، تَظْهَرُ عَلَيْهِ السِّمَاتُ دَالَّاتٌ عَلَى أَنَّهُمْ سُعَدَاءُ بِمَا فِيهِ يَنْعَمُونَ.
يَسْقِيهِمْ خَدَمُهُمْ مِنْ خَمْرٍ صَافِيَةٍ طَيِّبَةٍ بَيْضَاءَ، خُتِمَ عَلَى ذَلِكَ الشَّرَابِ؛ لِشَرَفِهِ وَنَفَاسَتِهِ وَمُنِعَ أَنْ تَمَسَّهُ الْأَيْدِي إِلَى أَنْ يَفُكَّ خَتْمَهُ الْأَبْرَارُ.
يَجِدُ شَارِبُو هَذَا الرَّحِيقِ فِي آخِرِ شُرْبِهِمْ لَهُ رَائِحَةَ الْمِسْكِ النَّفِيسِ، وَفِي ذَلِكَ الشَّرَابِ الرَّفِيعِ فَلْيَتَسَابَقِ الْمُسَابِقُونَ، وَلْيَتَبَارَ الْمُتَبَارُونَ.
((مِنْ مَظَاهِرِ الْإِيجَابِيَّةِ: الِاجْتِهَادُ فِي الطَّاعَاتِ
وَمُجَانَبَةِ الْمَعَاصِي))
إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ يُخْبِرُنَا أَنَّهُ يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَلَّا نَظْلِمَ أَنْفُسَنَا فِي حَالِ صِحَّتِنَا وَلَا فِي حَالِ فَرَاغِنَا وَعَدَمِ شُغُلِنَا، بَلْ عَلَيْنَا أَنْ نَأْخُذَ مِنَ الصِّحَّةِ لِلْمَرَضِ، وَأَنْ نَأْخُذَ مِنَ الْفَرَاغِ لِلشُّغُلِ.
فَاحْرِصْ عَلَى أَوْقَاتِكَ وَسَاعَاتِكَ؛ حَتَّى لَا تَضِيعَ سُدًى، وَاجْعَلْ لَكَ نَصِيبًا مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ ﷺ:«اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: حَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وشَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ». أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَاحْرِصْ أَنْ تَكُونَ مِنْ خِيَارِ النَّاسِ كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللهِ ﷺ؛ فَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟
قَالَ ﷺ: «مَنْ طَالَ عُمُرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ».
قَالَ:فَأَيُّ النَّاسِ شَرٌّ؟
قَالَ ﷺ: «مَنْ طَالَ عُمُرُهُ، وَسَاءَ عَمَلُهُ». أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- : «وَبِالْجُمْلَةِ؛ فَإنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَعْرَضَ عَنِ اللَّهِ وَاشْتَغَلَ بِالْمَعَاصِي؛ ضَاعَتْ عَلَيْهِ أَيَّامُ حَيَاتِهِ الْحَقِيقِيَّةُ، الَّتِي يَجِدُ غِبَّ إِضَاعَتِهَا يَوْمَ يَقُولُ: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [سُورَةُ الْفَجْرِ: 24]».
فَاحْذَرْ مَجَالِسَ الْفَارِغِينَ، وَاحْفَظْ لِسَانَكَ مِنَ الْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَفَاحِشِ الْقَوْلِ، وَاحْبِسْ لِسَانَكَ عَنْ كُلِّ مَا يُغْضِبُ اللهَ، وَأَلْزِمْ نَفْسَكَ الْكَلَامَ الطَّيِّبَ الْجَمِيلَ، وَلْيَكُنْ لِسَانُكَ رَطْبًا بِذِكْرِ اللهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ يَوْمٍ يَعِيشُهُ الْمُؤْمِنُ فَهُوَ غَنِيمَةٌ.
((مِنْ مَظَاهِرِ الْإِيجَابِيَّةِ: إِصْلَاحُ النَّفْسِ))
كُنْ إِيجَابِيًّا بِالسَّعْيِ وَالِاجْتِهَادِ فِي تَغْيِيرِ مَا بِنَفْسِكِ مِنْ سَيِّئٍ إِلَى حَسَنٍ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11].
إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ أُخْرَى مُنَاقِضَةٍ لِلْأُولَى حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ، فَإِنْ غَيَّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ سَيِّئٍ إِلَى حَسَنٍ؛ غَيَّرَ اللهُ أَحْوَالَهُمْ مِنْ سَيِّئٍ إِلَى حَسَنٍ، وَإِنْ غَيَّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ حَسَنٍ إِلَى قَبِيحٍ؛ غَيَّرَ اللهُ أَحْوَالَهُمْ، وَأَحَلَّ بِهِمْ نِقْمَتَهُ.
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ يُرِيدُ مِنَّا أَنْ نَتَغَيَّرَ، أَنْ نَتَحَرَّرَ مِنْ أَسْرِ الْعَادَاتِ وَمِنْ قَيْدِ التَّقَالِيدِ الَّتِي قَدْ أَوْثَقَتْ أَرْجُلَنَا فِي الْأَرْضِ بِسَلَاسِلَ تَمِيدُ الْأَرْضَ وَلَا تَمِيدُ.
يُرِيدُ مِنَّا رَبُّنَا أَنْ نَتَغَيَّرَ، وَأَنْ نَتَحَرَّرَ مِنْ أَسْرِ الْهَوَى، وَأَنْ نَخْرُجَ مِنْ قَبْضَةِ الْعَادَاتِ إِلَى مَرْضَاةِ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ عَلَى مُقْتَضَى سُنَّةِ سَيِّدِ الْخَلْقِ ﷺ.
((مِنْ مَظَاهِرِ الْإِيجَابِيَّةِ: رِعَايَةُ الْأَهْلِ وَتَعْلِيمُهُمْ))
عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَكُونَ إِيجَابِيًّا نَحْوَ أَهْلِهِ؛ فَإِنَّ لِأَهْلِهِ عَلَيْهِ حَقًّا: رَوَى أَبُو جُحَيْفَةَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ آخَى بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ, فَذَهَبَ سَلْمَانُ لِزِيَارَةِ أَخِيهِ؛ فَلَمْ يَجِدْهُ, وَوَجَدَ أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً -يَعْنِي فِي ثِيَابِ الْمِهْنَةِ- كَأَنَّهَا لَيْسَتْ بِذَاتِ بَعْلٍ.
فَقَالَ لَهَا: مَا هَذَا يَا أُمَّ الدَّرْدَاءِ؟!!
فَقَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَتْ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا.
فَكَنَّتْ عَنِ اعْتِزَالِهِ إِيَّاهَا، وَعَدَمِ قُرْبَانِهِ مِنْهَا بِهَذِهِ اللُّغَةِ الشَّفِيفَةِ الَّتِي لَا تَخْدِشُ وَلَا يَفْعَلُ فِعْلَهَا النَّسِيمُ، فَقَالَتْ: إِنَّ أَخَاكَ لَيْسَتْ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا.
فَلَمَّا جَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَدَّمَ إِلَيْهِ- يَعْنِي: إِلَى سَلْمَانَ- طَعَامًا, فَقَالَ: كُلْ.
فَقَالَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ.
قَالَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: إِنِّي صَائِمٌ.
قَالَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ.
فَأَكَلَ مَعَهُ، وَبَقِيَ مَعَهُ حَتَّى صَلَّيَا الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ، فَلَمَّا رَجَعَا، قَامَ أَبُو الدَّرْدَاءِ؛ لِكَيْ يُصَلِّيَ.
فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: نَمْ, فَنَامَ.
ثُمَّ قَامَ لِيُصَلِّيَ، فَقَالَ: نَمْ, حَتَّى إِذَا كَانَ فِي السَّحَرِ الْأَعْلَى, قَالَ: الْآنَ فَقُمْ، فَصَلَّيَا مَا شَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْ يُصَلِّيَا، ثُمَّ أَخْبَرَهُ سَلْمَانُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ الَّتِي صَدَّقَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ ((إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا؛ فَآتِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ)).
فَلَمَّا أَخْبَرَ بِهَا أَبُو الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((صَدَقَ سَلْمَانُ)). فَاعْتَمَدَهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ.
بَلْ إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَخْبَرَ بِهَا عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، وَكَانَ أَبُوهُ قَدْ زَوَّجَهُ فَلَمْ يَكْشِفْ لِأَهْلِهِ سِتْرًا, ثُمَّ ذَهَبَ عَمْرٌو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ لِيَتَفَقَّدَ أَحْوَالَهُ، ثُمَّ أَعْلَمَ النَّبِيَّ ﷺ بِحَالِهِ.
وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا, إِنَّ لِبَدَنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا, إِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا, إِنَّ لِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا, إِنَّ لِزَوْرِكَ -أَيْ: لِضِيفَانِكَ وَزَائِرِيكَ- عَلَيْكَ حَقًّا, فَآتِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حقَّهُ)).
فَدِينُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ إِذَا الْتَزَمَهُ الْإِنْسَانُ بِبَصِيرَةٍ وَوَعْيٍ؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجِدَ نَصَبًا فِي الْأَخْذِ بِهِ، وَفِي الْعَمَلِ بِتَعَالِيمِهِ.
*وَمِنْ أَسْمَى مَظَاهِرِ الْإِيجَابِيَّةِ: أَنْ نَقِيَ أَنْفُسَنَا وَأَهْلِينَا النَّارَ:
إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَمَرَنَا أَنْ نَقِيَ أَنْفُسَنَا النَّارَ، وَوَصَفَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِبَعْضِ صِفَاتِهَا كَمَا وَصَفَ الْقَائِمِينَ عَلَيْهَا بِبَعْضِ صِفَاتِهِمْ، وَحَذَّرَنَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ ذَلِكَ.
وَأَمَرَنَا أَنْ نَقِيَ أَنْفُسَنَا وَأَهْلِينَا ذَلِكَ الْأَمْرَ الْكَبِيرَ، وَهُوَ وُرُودُ النَّارِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
إنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- نَادَانَا بِوَصْفِ الْإِيمَانِ؛ لَكِيْ يَكُونَ ذَلِكَ حَافِزًا لَنَا عَلَى إِلْقَاءِ سَمْعِ الْقَلْبِ لِمَا يَأْمُرُنَا بِهِ وَمَا يَنْهَانَا عَنْهُ.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}: يَا مَنْ أَعْلَنْتُمْ إِيمَانَكُمْ بِرَبِّكِمْ -جَلَّ وَعَلَا-، فَآمَنْتُمْ بِهِ وَبِمَا أَنْزَلَ مِنْ كِتَابٍ، وَبِالرَّسُولِ الَّذِي أَرْسَلَهُ إِلَيْكُمْ، إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ حَقًّا؛ فَاسْمَعُوا وَعُوا، وَامْتَثِلُوا أَمْرَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَاجْتَنِبُوا مَسَاخِطَهُ.
{قُوا أَنفُسَكُمْ}: اجْعَلُوا بَيْنَ أَنْفُسِكُمْ وَبَيْنَ نَارِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وِقَايَةً وَجُنَّةً، {وَأَهْلِيكُمْ}: فَإِنَّكُمْ رُعَاةٌ فِيهِمْ، وَكُلُّ رَاعٍ فِي رَعِيَّةٍ هُوَ مَسْئُولٌ عَنْهَا، وَالرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ.
وَمَا أَحْسَنَ إِلَيْهِمْ مَنْ مَكَّنَهُمْ مِنْ وَسَائِلِ الْفِسْقِ وَاللَّهْوِ وَالْفُجُورِ، وَإِضَاعَةِ الْأَوْقَاتِ فِي مَعْصِيَةِ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ!!
وَمَا سَعَى بِذَلِكَ فِي وِقَايَتِهِمُ النَّارَ الَّتِي وَصَفَهَا الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ بِقَوْلِهِ: {نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}: لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ، يُعذِّبُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهَا أَهْلَ الْفُجُورِ وَالْفِسْقِ وَالْكُفْرِ، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
{عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ}: فَهُمْ فِي غِلْظَتِهِمْ وَشِدَّتِهِمْ مُطِيعُونَ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهِ؛ بِإِنْزَالِ النَّكَالِ وَالْهَوَانِ وَالْعَذَابِ عَلَى مَنِ اسْتَحَقَّ ذَلِكَ فِي النّارِ الَّتِي أَعَدَّهاَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِلْمُجْرِمِينَ.
إِنَّ الْبُيُوتَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مُنِيرَةً بِآيَاتِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ بِقُرْآنِ الرَّحْمَنِ لَا بِقُرْآنِ الشَّيْطَانِ.
عَلَى الْأَسْمَاعِ أَنْ تَتَنَزَّهَ عَنْ سَمَاعِ الْخَنَا وَالزُّورِ وَالْبُهْتَانِ، وَعَلَى الْأَبْصَارِ أَنْ تَتَنَزَّهَ عَنِ النَّظَرِ إِلَى الْفَوَاحِشِ وَمُطَالَعَةِ الْعَوْرَاتِ، وَالتَّطَلُّعِ إِلَى تِلْكَ الْأُمُورِ الَّتِي حَرَّمَهَا رَبُّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ.
لَقَدْ كَانَتْ أَبْيَاتُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ بِاللَّيْلِ لَهَا دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ مِنْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ.
فَلْنُوَجِّهْ أَهْلِينَا، وَلْنُوَجِّهْ أَنْفُسَنَا إِلَى كِتَابِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، فَمَا ضَلَّ مَنْ ضَلَّ إِلَّا بِتَرْكِ كِتَابِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ لِأَنَّ التَّزْكِيَةَ لِلنَّفْسِ لَا تَكُونُ إِلَّا بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَبِسُنَّةِ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ ﷺ.
{قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}: قَالَ الشَّيْخُ الْعَلَّامَة رَسْلَان -حَفِظَهُ اللهُ-: عَلِّمُوا أَبْنَاءَكُمْ أُصُولَ الِاعْتِقَادِ، دُلُّوهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَالرَّشَادِ.
عَلِّمُوهُمْ دِينَ رَبِّهِمْ: عَقِيدَتَهُ، وَعِبَادَتَهُ، وَمُعَامَلَتَهُ، وَأَخْلَاقَهُ، وَسُلُوكَهُ؛ لِيَفُوزُوا بِالرِّضْوَانِ فِي الْآخِرَةِ مَعَ السَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا.
من خطبة: ((قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا)).
، وَإِلَّا فَقَدْ خُنْتُمُ الْأَمَانَةَ، وَإِلَّا فَمَا أدَّيْتُمْ حَقَّ ذَوِيكُمْ عَلَيْكُمْ.
تَعَلَّمُوا أُصُولَ الِاعْتِقَادِ وَعَلِّمُوهَا، قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ مِنَ الشِّرْكِ الَّذِي يُوَرِّطُ الْخَلْقَ فِي النَّارِ تَوَرُّطًا، وَاللهُ لَا يَغْفِرُهُ {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النِّسَاء: 48].
عَلِّمُوهُمْ أَنْ يَنْذِروا للهِ، إِنْ نَذَرُوا.
عَلِّمُوهُمْ أَلَّا يَذْبَحُوا إِلَّا للهِ، وَأَلَّا يَتَوَكَّلُوا إِلَّا عَلَى اللهِ، أَلَّا يُحِبُّوا إِلَّا فِي اللهِ، وَأَلَّا يُبْغِضُوا إِلَّا فِي اللهِ.
عَلِّمُوهُمْ أَسْمَاءَ اللهِ وَصِفَاتِهِ.
دُلُّوهُمْ عَلَى الصَّوَابِ وَالْحَقِيقَةِ فِي مَسَائِلِ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، ألَّا يَكُونُوا مُرْجِئَةً، وَأَلَّا يَكُونُوا خَوَارِجَ؛ فَيَخْسَرُوا الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ.
عَلِّمُوهُمْ الْحَقَّ الْحَقِيقَ فِي بَابِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، وَإِلَّا صَارُوا مُتَوَاكِلِينَ، لَا يَنْهَضُونَ لِهِمَّةٍ، وَلَا يَأْتُونَ بِعَزْمٍ فِي مُلِمَّةٍ.
عَلِّمُوهُمُ الْوَاجِبَ تِجَاهَ آلِ بَيْتِ رَسُولِ اللهِﷺ، وَأَلَّا يَكُونُوا رَافِضَةً، وَأَلَّا يَكُونُوا نَاصِبَةً؛ حَتَّى يَكُونُوا عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ مَعَ أَهْلِ السُّنَّةِ.
عَلِّمُوهُمُ الْحَقَّ الْحَقِيقَ في أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، حَتَّى يُجَانِبُوا الشِّيعَةَ الرَّوَافِضَ الْمَلَاعِينَ فِي سَبِّهِمْ لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ الْأَمِينِﷺ، وَفِي تَكْفِيرِهِمْ لَهُمْ، وَفِي رَمْيِهِمْ بِالْخِيَانَةِ لِلدِّينِ، وَارْتِدَادِهِمْ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ؛ حَتَّى لَا يَنْجُمَ فِي بَيْتِكَ مَنْ يَقُولُ: هَؤُلَاءِ إِخْوَانُنَا، وَهَؤُلَاءِ نَتَقَارَبُ مَعَهُمْ!!
عَلِّمُوهُمُ الْحَقَّ الْحَقِيقَ فِي كِتَابِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
عَلِّمُوهُمْ أَلَّا يَنْظُرُوا إِلَى كِتَابِ رَبِّهِمْ -جَلَّ وَعَلَا- نَظْرَةَ السُّوءِ؛ فَيَرَوْهُ مُفَكَّكًا لَا يَتَمَاسَكُ كَمَا يَزْعُمُ الْعَلْمَانِيُّونَ وَالْمُسْتَشْرِقُونَ، وَكَمَا يَزْعُمُ الْمُكَفِّرُونَ الْمُنَصِّرُونَ، فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا وَكَثِيرًا.
عَلِّمُوهُمْ حَقَّ رَسُولِ اللهِ، وَعَرِّفُوهُمْ بِهِ.
لَنْ تَقِيَ الْأَهْلَ نَارًا، وَأَنْتَ لَا تَدْرِي وَلدُكَ مَنْ يُصَاحِبُ، وَمِنْ أَيِّ مَعِينٍ يَنْهَلُ؛ فَلَعَلَّهُ قَدْ قُيِّضَ لَهُ مُبْتَدِعٌ يُضِلُّهُ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَأَنْتَ فِي غَفْلَةٍ غَفْلَاءَ!!
لَا تَدَعْ وَلَدَك تَتَلَقَّفُهُ الْجَمَاعَاتُ الضَّالَّةُ، وَالْفِرَقُ الْمُنْحَرِفَةُ.
فَمَا وَقَيْتَهُ النَّارَ، وَأَسَأْتَ، وَتَعَدَّيْتَ، وَظَلَمْتَ! وَلَمْ تَرْعَ فِيهِ أَمَانَةَ اللهِ!
عَلِّمْهُ دِينَ اللهِ، وَدِينُ اللهِ لَا فُرْقَةَ فِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ قِيَامٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، الَّذِي جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللهِﷺ.
وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ امْتِثَالِ أَمْرِ اللهِ فِي قَوْلِهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6].
اتَّقُوا اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي أَنْفُسِكُمْ وَفِي أَهْلِيكُمْ؛ فَإِنَّمَا هِيَ أَمَانَةٌ.
((مِنْ مَظَاهِرِ الْإِيجَابِيَّةِ: مُرَاعَاةُ حُقُوقِ إِخْوَانِكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ))
لَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِالتَّوَادِّ؛ قَالَ ﷺ: ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)).
وَثَبَتَ فِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ))، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ: إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ)).
*وَمِنْ مَظَاهِرِ الْإِيجَابِيَّةِ تِجَاهَ الْمُسْلِمِينَ: قَضَاءُ حَوَائِجِهِمْ:
وَالرَّسُولُ ﷺ يُرَغِّبُ فِي قَضَاءِ حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي إِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَيْهِمْ، وَيُبيِّنُ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَحْسَنَ إِلَى أَخِيهِ؛ أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْهِ، وَإِذَا مَا سَعَى فِي حَاجَةِ أَخِيهِ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَقْضِي حَوَائِجَهُ.
عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يُسْلِمُهُ، مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً؛ فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)). هَذَا حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ.
وَيُبَيِّنُ لَنَا النَّبِيُّ ﷺ فِي حَدِيثٍ حَسَنٍ، فَيَقُولُ: ((وَمَنْ مَشَى مَعَ مَظْلُومٍ حَتَّى يُثبِتَ لَهُ حَقَّهُ؛ ثَبَّتَ اللهُ قَدَمَيْهِ عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ تَزُولُ الْأَقْدَامُ)).
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -كَمَا فِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ))، وَغَيْرِهِ- قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا؛ نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ فِي الدُّنْيَا؛ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ فِي الدُّنْيَا؛ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ)).
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: ((لَا يَزَالُ اللهُ فِي حَاجَةِ الْعَبْدِ مَا دَامَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ)).
*وَمِنْ مَظَاهِرِ الْإِيجَابِيَّةِ تِجَاهَ الْمُسْلِمِينَ: إِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَيْهِمْ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ: إِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى الْمُؤْمِنِ، كَسَوْتَ عَوْرَتَهُ، أَوْ أَشْبَعْتَ جَوْعَتَهُ، أَوْ قَضَيْتَ لَهُ حَاجَةً)).
النَّبِيُّ ﷺ يَجْعَلُ فِي قِمَّةِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَفِي قِمَّةِ الْأَعْمَالِ الْمَقْبُولَةِ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: إِدْخَالَ السُّرُورِ عَلَى الْمُؤْمِنِ: ((كَسَوْتَ عَوْرَتَهُ، أَوْ أَشْبَعْتَ جَوْعَتَهُ، أَوْ قَضَيْتَ لَهُ حَاجَةً)).
وَذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ الْحَاجَةَ مُنَكَّرَةً؛ لِيَدُلَّ عَلَى أَيِّ حَاجَةٍ قَضَيْتَ، قَضَيْتَ لَهُ حَاجَةً بِمُطْلَقِ الْحَاجَةِ.
وَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ، وَأَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟
فَقَالَ ﷺ: ((أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا)).
*النَّبِيُّ ﷺ الْأُسْوَةُ الْحَسَنَةُ فِي قَضَاءِ حَوَائِجِ الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَإِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَيْهِمْ:
النَّبيُّ ﷺ عِنْدَمَا رَجَعَ وَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَرَجَعَ يَقُولُ: «زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي»، قَالَ: «إِنِّي أَخْشَى أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصَابَنِي شَيْءٌ».
قَالَتْ خَدِيجَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: «لَا وَاللهِ، لَا يُصِيبُكَ شَرٌّ أَبَدًا؛ إِنَّكَ لَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَاللهِ لَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا» .
عِنْدَنَا دَلَالَتَانِ:
*الدَّلَالَةُ الْأُولَى: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَتْ أَخْلَاقُهُ لَا تَصَنُّعَ فِيهَا؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- -كَمَا أَخْبَرَ عَنْ أَخْلَاقِهِ- جَعَلَهَا فِي الذِّرْوَةِ الْعُلْيَا مِنْ سُمُوِّ الْأَخْلَاقِ وَجَلَالِهَا وَكَمَالِهَا وَبَهَائِهَا: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
وَالتَّعْبِيرُ بِـ «عَلَى» وَهِيَ الِاسْتِعْلَاءُ، فَهُوَ عَلَى الْخُلُقِ الْعَظِيمِ ﷺ، كَأَنَّهُ يَعْلُوهُ وَيَفُوقُهُ، {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} ﷺ، فَكَانَ هَذَا مِمَّا طَبَعَ اللهُ عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ، وَكَمَّلَهُ بِهِ، فَكَانَ فِي بَيْتِهِ -وَفِي الْبَيْتِ تَبْدُو أَخْلَاقُ الرَّجُلِ- كَانَ عَلَى أَحْسَنِ مَا يَكُونُ مِنَ الْخُلُقِ، فَهَذِهِ دَلَالَةٌ.
*وَالدَّلَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ صَنَائِعَ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ مُحْسِنًا قَوْلًا وَفِعْلًا وَاعْتِقَادًا؛ حَفِظَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عِنْدَ نُزُولِ الْمُلِمَّاتِ، فَصَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ.
قَالَتْ: «لَا وَاللهِ، لَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا»، ثُمَّ ذَكَرَتِ الْعِلَّةَ: «إِنَّكَ لَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الدَّهْرِ»، إِذَنْ؛ مَا دُمْتَ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ بِحَالٍ أَبَدًا أَنْ يُصِيبَكَ شَيْءٌ، أَوْ أَنْ يُخْزِيَكَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، أَوْ أَنْ يَتَخَلَّى عَنْكَ، ﷺ.
((مِنْ مَظَاهِرِ الْإِيجَابِيَّةِ: رِعَايَةُ الْأَيْتَامِ وَالْفُقَرَاءِ))
إِنَّ الصَّدَقَةَ مُسْتَحَبَّةٌ، وَتُشْرَعُ فِي كُلِّ وَقْتٍ، لِإِطْلَاقِ الْحَثِّ عَلَيْهَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلِلتَّرْغِيبِ فِيهَا:
قَالَ تَعَالَى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} [البقرة: 177].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ} [البقرة: 280].
وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي ظِلِّهِ، ذَكَرَ مِنْهُمْ: وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا صَنَعَتْ يَمِينُهُ)).
وَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ الصَّدَقَةُ طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُ الْمُتَصَدِّقِ، غَيْرَ مُمْتَنٍّ بِهَا عَلَى الْمُحْتَاجِ، قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ} [البقرة: 264].
*وَالصَّدَقَةُ عَلَى الْأَقَارِبِ وَالْجِيرَانِ أَفْضَلُ مِنْهَا عَلَى الْأَبْعَدِينَ؛ فَقَدْ أَوْصَى اللهُ بِالْأَقَارِبِ، وَجَعَلَ لَهُمْ حَقًّا عَلَى قَرِيبهِمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ} [الإسراء: 26].
وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَعَلَى ذِي الرَّحِمِ اثْنَتَانِ: صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ)). رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ سَلْمَانَ الضَّبِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)): ((أَجْرَان: أَجْرُ الْقَرَابَةِ وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ)).
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْمَالِ حُقُوقًا سِوَى الزَّكَاةِ:
*نَحْوَ مُوَاسَاةِ الْقَرَابَةِ وَصِلَةِ إِخْوَانِكَ، وَإِعْطَاءِ سَائِلٍ، وَإِعَارَةِ مُحْتَاجٍ، وَإِنْذَارِ مُعْسِرٍ، وَإِقْرَاضِ مُقْتَرِضٍ.
قَالَ تَعَالَى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 19].
*وَيَجِبُ إِطْعَامُ الْجَائِعِ، وَقِرَى الضَّيْفِ، وَكُسْوَةُ الْعَارِي، وَسَقْيُ الظَّمْآنِ، بَلْ ذَهَبَ الْإِمَامُ مَالِكٌ -رَحِمَهُ اللهُ- إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِدَاءُ أَسْرَاهُمْ، وَإِنِ اسْتَغْرَقَ ذَلِكَ أَمْوَالَهُمْ كُلَّهَا.
هَذِهِ كُلُّهَا مِنْ مَحَاسِنِ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ؛ لِأَنَّهُ دِينُ الْمُوَاسَاةِ وَالرَّحْمَةِ، دِينُ التَّعَاوُنِ وَالتَّآخِي فِي اللهِ، فَمَا أَجْمَلَهُ! وَمَا أَجَلَّهُ! وَمَا أَحْكَمَ تَشْرِيعَهُ!
((مِنْ مَظَاهِرِ الْإِيجَابِيَّةِ: الْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ))
مِنْ أَسْمَى صُوَرِ الْإِيجَابِيَّةِ فِي الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ: السَّعْيُ فِي الْإِصْلَاحِ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ تَعَالَى: {فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال: 1].
فَاتَّقُوا اللهَ بِطَاعَتِهِ وَاجْتِنَابِ مُخَالَفَتِهِ، فَإِذَا امْتَلَأَتِ الْقُلُوبُ بِالتَّقْوَى لَمْ يَكُنْ لِلشَّيْطَانِ مَنْفَذٌ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْخِلَافِ مَوْضِعٌ، وَأَصْلِحُوا الْحَالَ فِيمَا بَيْنَكُمْ.
وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10].
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فِي الِالْتِقَاءِ الْفِكْرِيِّ عَلَى عَقِيدَةٍ عِلْمِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَفِي الْتِقَاءِ الْقُلُوبِ عَلَى عَاطِفَةٍ دِينِيَّةٍ وَأَهْدَافٍ غَائِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَفِي الْتِقَائِهِمْ عَلَى أَحْكَامٍ تَشْرِيعِيَّةٍ وَقِيَادَةٍ وَاحِدَةٍ.
فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ إِذَا اخْتَلَفَا وَاقْتَتَلَا، وَاتَّقُوا اللهَ فَلَا تَعْصُوهُ، وَلَا تُخَالِفُوا أَمْرَهُ؛ رَجَاءَ أَنْ تَنَالُوا رَحْمَتَهُ -جَلَّ وَعَلَا-.
((مِنْ مَظَاهِرِ الْإِيجَابِيَّةِ: رِعَايَةُ الْحَيَوَانَاتِ))
إِنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ دِينُ الرَّحْمَةِ، فَالنَّبِيُّ ﷺ لَمْ يَقْبَلْ أَنْ تُحْرَقَ قَرْيَةُ النَّمْلِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ ((لَا يُعَذِّبُ بِعَذَابِ اللهِ إِلَّا اللهُ)).
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ، إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَنَزَعَتْ مُوقَهَا -أَيْ: خُفَّهَا- فَاسْتَقَتْ لَهُ بِهِ -أَيْ: بِالْخُفِّ-، فَسَقَتْهُ -أَيْ: فَسَقَتِ الْكَلْبَ- فَسَقَتْهُ إِيَّاهُ؛ فَغُفِرَ لَهَا بِهِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
دِينٌ يَرْحَمُ رَبُّهُ مَنْ رَحِمَتْ كَلْبًا، وَهِيَ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- عَنِ النَّبيِّ ﷺ، قَالَ: ((دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضَ)). أَيْ: مِنْ هَوَامِّهَا، هَذِهِ امْرَأَةٌ يُعذِّبُهَا اللهُ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَرْحَمْ هَذَا الْحَيَوَانَ.
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: إِنِّي أَنْزِعُ فِي حَوْضِي، حَتَّى إِذَا مَلَأْتُهُ لإِبِلِي؛ وَرَدَ عَلَيَّ الْبَعِيرُ لِغَيْرِي؛ فَسَقَيْتُهُ، فَهَلْ لِي في ذَلِكَ مِنْ أَجْرٍ؟
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ حَرَّى أَجْرٌ)).رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
سَقْيُ الْمَاءِ -حَتَّى وَلَوْ لِلْكِلَابِ؛ حَتَّى وَلَوْ كَانَ لِلْكَلْبِ الضَّالِّ- فِيهِ أَجْرٌ عِنْدَ الْكَبِيرِ الْمُتَعَالِ.
فَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَرُّ, فَوَجَدَ بِئْرًا, فَنَزَلَ فِيهَا, فَشَرِبَ ثُمَّ خَرَجَ، فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ، يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنَ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِي كَانَ بَلَغَ مِنِّي، فَنَزَلَ الْبِئرَ، فَمَلَأَ خُفَّهُ، ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ حَتَّى رَقِيَ -أَيْ: صَعِدَ- فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ اللهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ)).
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا؟
قَالَ: ((فِي كُلِّ كَبدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ)).
((فَشَكَرَ اللهُ لَهُ؛ فَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ)). فِي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
((مِنْ مَظَاهِرِ الْإِيجَابِيَّةِ: الِاجْتِهَادُ فِي الْعَمَلِ
وَالسَّعِيُ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ الْحَلَالِ))
*حَثَّ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ فِي كِتَابِهِ عَلَى العَمَلِ، وَطَلَبِ الرِّزْقِ بِأَنَاةٍ وَرِفْقٍ، مَعَ صَبْرٍ وَكَدْحٍ:
قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ} [الجمعة: ١٠]. يَعْنِي: فَإِذَا فُرِغَ مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، فَتَفَرَّقُوا فِي الْأَرْضِ؛ لِلتِّجَارَةِ وَالتَّصَرُّفِ فِي حَوَائِجِكُمْ وَمَطَالِبِ حَيَاتِكُمْ، وَمَصَالِحِ دُنْيَاكُم، وَاطْلُبُوا رِزْقَ اللهِ بِأَنَاةٍ وَرِفْقٍ، مَعَ صَبْرٍ وَكَدْحٍ، وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا فِي جَمِيعِ أَحْوَالِكُمْ رَغْبَةً فِي الْفَوْزِ بِخَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
*لَقَدْ جَعَلَ اللهُ الْأَرْضَ مُنْقَادَةً لِلْبَشَرِ، وَسَخَّرَ لَهُمُ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُخْتَلِفَةَ؛ مِنْ أَجْلِ حِرَاثَةِ الْأَرْضِ وَزِرَاعَتِهَا وَتَعْمِيرِهَا، وَمِنْ أَجْلِ تَرْقِيَةِ الْحَيَاةِ: قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15].
اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مُنْقَادَةً سَهْلَةً مُطَوَّعَةً، تَحْرُثُونَهَا وَتَزْرَعُونَهَا، وَتَسْتَخْرِجُونَ كُنُوزَهَا، وَتَنْتَفِعُونَ مِنْ طَاقَاتِهَا وَخَصَائِصِ عَنَاصِرِهَا، فَامْشُوا فِي جَوَانِبِهَا وَأَطْرَافِهَا وَنَوَاحِيهَا مَشْيًا رَفِيقًا لِتَحْصِيلِ مَطَالِبِ الْحَيَاةِ، وَكُلُوا مِمَّا خَلَقَهُ اللهُ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ، وَاكْتَسِبُوا الرِّزْقَ مِمَّا أَحَلَّ اللهُ تَعَالَى لَكُمْ، وَتَذَكَّرُوا يَوْمَ الْحِسَابِ، وَإِلَيْهِ وَحْدَهُ تُبْعَثُونَ مِنْ قُبُورِكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْحِسَابِ وَفَصْلِ الْقَضَاءِ وَتَنْفِيذِ الْجَزَاءِ.
((مِنْ مَظَاهِرِ الْإِيجَابِيَّةِ: خِدْمَةُ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ
عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ))
إِنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَشْرَفُ وَأَكْرَمُ مَقَامَاتِ التَّعَبُّدِ للهِ.
هِيَ أَكْرَمُ مَقَامٍ يَقُومُهُ عَبْدٌ لِرَبِّهِ أَنْ يَكُونَ دَاعِيًا إِلَيْهِ، دَالًّا عَلَيْهِ، مُرْشِدًا إِلَى صِرَاطِهِ، مُتَّبِعًا لِسَبِيلِ نَبِيِّهِ، مُقِيمًا عَلَى ذَلِكَ، مُخْلِصًا فِيهِ، آتِيًا بِهِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي يُرْضِيهِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33].
هَذَا اسْتِفْهَامٌ الْغَرَضُ مِنْهُ النَّفْيُ، {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ}: أَيْ: لَا أَحَدَ.
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ}: مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ، لَا إِلَى نَفْسِهِ، وَلَا إِلَى مَنْهَجِهِ، وَلَا إِلَى طَرِيقَتِهِ، وَلَكِنْ إِلَى اللهِ.
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا}: فَالْتَزَمَ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ، وَعَمِلَ بِهِ.
{وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}: فَأَسْلَمَ الزِّمَامَ للهِ وَحْدَهُ بِالشَّرْعِ الْأَغَرِّ، بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لَا يَبْتَدِعُ، وَلَا يَتَزَيَّدُ، وَلَا يَجِدُ حَظَّ نَفْسِهِ، بَلْ يَجْعَلُ ذَلِكَ تَحْتَ مَوَاطِئِ أَقْدَامِهِ، يَدْعُو إِلَى اللهِ مُخْلِصًا، إِلَى اللهِ خَالِصًا، للهِ وَحْدَهُ، فَلَا أَحَدَ هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ قَوْلًا، وَلَا أَكْرَمُ عَلَى اللهِ مِنْهُ فِعْلًا، وَلَا أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ مِنْهُ دَعْوَةً.
وَكُلُّ مُكَلَّفٍ وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108].
فَمَنِ اتَّبَعَ رَسُولَ اللهِﷺ دَعَا إِلَى اللهِ، وَأَتْبَاعُ النَّبِيِّ ﷺ دُعَاةٌ إِلَى اللهِ، كُلٌّ بِحَسَبِهِ، عَلَى حَسَبِ عِلْمِهِ، لَا يَتَزَيَّدُ، وَإِلَّا كَانَ دَاعِيًا إِلَى غَيْرِ رَبِّهِ، وَإِلَى غَيْرِ صِرَاطِهِ، وَإِلَى غَيْرِ دِينِهِ، قَائِلًا عَلَى اللهِ بِلَا عِلْمٍ، وَإِنَّمَا يَدْعُو إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى قَدْرِ عِلْمِهِ وَعَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِ، فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَفِي كُلِّ مَجَالٍ.
وَقَالَ تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].
أَنْتُمْ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ خَيْرُ أُمَّةٍ أُظْهِرَتْ لِلنَّاسِ، وَحُمِّلَتْ وَظِيفَةَ الْخُرُوجِ بِتَبْلِيغِ النَّاسِ دِينَ اللهِ لَهُمْ، وَهَذِهِ الْخَيْرِيَّةُ قَدْ عَلِمَهَا اللهُ فِيكُمْ قَبْلَ أَنْ يُخْرِجَكُمْ؛ لِأَنَّ عِلْمَهُ يَشْمَلُ مَا كَانَ، وَمَا هُوَ كَائِنٌ، وَمَا سَيَكُونُ.
وَسَبَبُ بَقَاءِ تِلْكَ الْخَيْرِيَّةِ فِيكُمْ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ: أَنَّكُمْ سَتَظَلُّونَ تَأْمُرُونَ دَاخِلَ مُجْتَمَعِكُمُ الْمُسْلِمِ بِمَا عُرِفَ فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ حُسْنُهُ، وَتَنْهَوْنَ عَنْ كُلِّ مَا عُرِفَ فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ قُبْحُهُ، فَتَحْمُونَ مُجْتَمَعَكُمْ بِهَذَا -أَيْ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ مِنَ الِانْحِرَافِ الْخَطِيرِ، وَالِانْهِيَارِ إِلَى الْحَضِيضِ الَّذِي بَلَغَتْهُ الْأُمَمُ قَبْلَكُمْ.
وَأَنَّكُمْ سَتَظَلُّونَ تُصَدِّقُونَ بِاللهِ، وَتُخْلِصُونَ لَهُ التَّوْحِيدَ وَالْعِبَادَةَ مَهْمَا اشْتَدَّتْ عَلَيْكُمُ النَّكَبَاتُ مِنَ الْأُمَمِ الْأُخْرَى؛ بُغْيَةَ إِخْرَاجِكُمْ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَى الْكُفْرِ.
*الدَّعْوَةُ إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ سَبِيلُ النَّجَاةِ لِلْأُمَّةِ وَلِلْبَشَرِيَّةِ كُلِّهَا:
إِنَّ مَسْئُولِيَّةَ الْمُسْلِمِ عَظِيمَةٌ، وَمَعَكَ طَوْقُ النَّجَاةِ، وَالنَّاسُ يَغْرَقُونَ تَحْتَ عَيْنِكَ وَأَنْتَ تَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَا تَمُدُّ لَهُمْ يَدًا بِعَوْنٍ؟!!
دِينُ اللهِ يَسْتَنْقِذُ الْبَشَرِيَّةَ مِمَّا تَرَدَّتْ فِيهِ.
دِينُ اللهِ -وَحْدَهُ- يُنْقِذُ النَّاسَ فِي الْأَرْضِ مِمَّا بَلَغُوهُ مِنْ هَذَا الِانْحِطَاطِ الْهَابِطِ.
دِينُ اللهِ، عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُبَلِّغُوهُ خَلْقَ اللهِ، فِي أَرْضِ اللهِ، عَلَى مِنْهَاجِ رَسُولِ اللهِﷺ؛ لِإِنْقَاذِ الْبَشَرِيَّةِ مِنْ دَمَارٍ تَبْدُو عَلَائِمُهُ، وَخَرَابٍ تَتَّضِحُ مَعَالِمُهُ.
((مِنْ مَظَاهِرِ الْإِيجَابِيَّةِ: طَلَبُ الْعِلْمِ وَتَعْلِيمُهُ))
عِبَادَ اللهِ! عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَعْتِصَمَ بِاللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وأَنْ يَسْلُكَ سَبِيلَ الطَّلَبِ عَلَى نَهْجِ الصَّحَابَةِ ومَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ، فَفِي هَذَا النَّجَاةُ، وَلَا نَجَاةَ إِلَّا فِيهِ، فَإِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- جَعَلَ النَّجَاةَ في الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهُمَا مَعْدِنُ الْعِلْمِ وأَصْلُهُ، فَمَهْمَا تَرَكَ الْإِنْسَانُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وتَنَكَّبَهُمَا وَاسْتَدْبَرَهُمَا وَجَعَلَهُمَا دَبْرَ أُذُنيْهِ وَخَلْفَ ظَهْرِهِ؛ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا.
قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي شَرَفِ الْعِلْمِ لِنَبِيِّهِ ﷺ: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114].
فَلَوْ كَانَ شَيْءٌ أَشْرَفَ مِنَ الْعِلْمِ لَأَمَرَ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ ﷺ أَنْ يَسْأَلَهُ الْمَزِيدَ مِنْهُ كَمَا أَمَرَ أَنْ يَسْتَزِيدَهُ مِنَ الْعِلْمِ)).
وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9].
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّهُ سُبْحَانَهُ نَفَى التَّسْوِيَةَ بَيْنَ أَهْلِهِ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ، كَمَا نَفَى التَّسْوِيَةَ بَيْنَ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَأَصْحَابِ النَّارِ، فَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُون} [الزمر: 9] كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الحشر: 20] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ فَضْلِهِمْ وَشَرَفِهِمْ)).
وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [سبأ: 6].
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ أُولِي الْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ حَقًّا، وَجَعَلَ هَذَا ثَنَاءً عَلَيْهِمْ وَاسْتِشْهَادًا بِهِمْ)).
وقال -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: أَهْلُ الذِّكْرِ: أَهْلُ الْقُرْآنِ وَقِيلَ: أَهْلُ الْعِلْمِ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ)).
وَقَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ هُمْ أَهْلُ خَشْيَتِهِ، بَلْ خَصَّهُمْ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ بِذَلِكَ، فَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ}. وَهَذَا حَصْرٌ لِخَشْيَتِهِ فِي أُولِي الْعِلْمِ)).
قَالَ تَعَالَى: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114].
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يَسْأَلَهُ مَزِيدَ الْعِلْمِ، وَكَفَى بِهَذَا شَرَفًا لِلْعِلْمِ أَنْ أَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يَسْأَلَهُ الْمَزِيدَ مِنْهُ)).
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ)).
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ: «الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ، مَلْعُونٌ مَا فِيهَا؛ إِلَّا ذِكْرَ اللهِ، وَمَا وَالَاهُ، وَعَالِمًا وَمُتَعَلِّمًا». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: ((حَدِيثٌ حَسَنٌ))، وَكَذَا حَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ)).
فَطَلَبُ العِلْمِ وتَعْلِيمُهُ مِنْ أَعْظَمِ سَبِيلِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-:
قَالَ أَبو الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((مَنْ رَأَى الْغُدُوَّ وَالرَّوَاحَ إِلَى الْعِلْمِ لَيْسَ بِجِهَادٍ؛ فَقَدْ نَقَصَ عَقْلَهُ وَرَأيَهُ)).
وَجَاءَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: ((إِذَا جَاءَ الْمَوْتُ طَالِبَ الْعِلْمِ وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ مِنَ الطَّلَبِ؛ مَاتَ وَهُوَ شَهِيدٌ)).
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: ((مَن طَلَبَ الْعِلْمَ فَقَدْ بَايَعَ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- )).
وَذَكَرَ ابنُ عَبْدِ الْبَرِّ في ((الْجَامِعِ)) عَن بَعْضِهِم في قَدْرِ العُلَمَاءِ وَقِيمتِهِم:
وَمِدَادُ مَا تَجْرِي به أَقْلَامُهُمْ *** أَزْكَى وَأَفْضْلُ مِن دَمِ الشُّهَدَاءِ
يَا طَالِبِي عِلْمَ النَّبيِّ مُحَمَّدٍ *** مَا أَنْتُمُ وَسُواكُم بِسَــــوَاءِ.
((مِنْ مَظَاهِرِ الْإِيجَابِيَّةِ: حُبُّ الْوَطَنِ الْإِسْلَامِيِّ وَالدِّفَاعُ عَنْهُ))
عِبَادَ اللهِ! مَا دَامَتْ بِلَادُنَا إِسْلَامِيَّةً فَيَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَسْعَى لِاسْتِقْرَارِهَا, وَاكْتِمَالِ أَمْنِهَا, وَيَجِبُ حِيَاطَتُهَا بالرِّعَايَةِ، وَالْحِفَاظِ وَالْبَذْلِ.
قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِينٍ -كَمَا فِي شَرْحِهِ عَلَى ((رِيَاضِ الصَّالِحِينَ))-: ((حُبُّ الْوَطَنِ إِنْ كَانَ إِسْلَامِيًّا فَهَذَا تُحِبُّهُ؛ لِأَنَّهُ إِسْلَامِيٌّ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ وَطَنِكَ الَّذِي هُوَ مَسْقَطُ رَأْسِكَ، وَالوَطَنِ الْبَعِيدِ عَنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ, كُلُّهَا أَوْطَانٌ إِسْلَامِيَّةٌ يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَحْمِيَهَا)).
الْوَطَنُ إِنْ كَانَ إِسْلَاميًّا يَجِبُ أَنْ يُحَبَّ، وَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُشَجِّعَ عَلَى الْخَيْرِ فِي وَطَنِهِ، وَعَلى بَقَائِهِ إِسْلَامِيًّا, وَأَنْ يُسْعَى لِاسْتِقْرَارِ أَوْضَاعِهِ وَأَهْلِهِ, وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ الْمُسْلِمِينَ.
وَمِنْ لَوَازِمِ الْحُبِّ الشَّرْعِيِّ لِلْأَوْطَانِ الْمُسْلِمَةِ أَيْضًا: أَنْ يُحَافَظَ عَلَى أَمْنِهَا وَاسْتِقْرَارِهَا، وَأَنْ تُجَنَّبَ الْأَسْبَابَ الْمُفْضِيَةَ إِلَى الْفَوْضَى وَالِاضْطِرَابِ وَالْفَسَادِ؛ فَالْأَمْنُ فِي الْأَوْطَانِ مِنْ أَعْظَمِ مِنَنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ عَلَى الْإِنْسَانِ.
فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَعْرِفَ قَدْرَ بَلَدِهِ الْإِسْلَامِيِّ، وَأَنْ يُدَافِعَ عَنْهُ، وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَحْصِيلِ اِسْتِقْرَارِهِ وَأَمْنِهِ، وبُعْدِهِ وَإِبْعَادِهِ عَنِ الْفَوْضَى، وَعَنْ الِاضْطِرَابِ، وَعَنْ وُقُوعِ الْمُشَاغَبَاتِ.
عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُحِبَّ بَلَدَهُ الْإِسْلامِيَّ، وَأَنْ يُدَافِعَ عَنْهُ، وَأَنْ يَمُوتَ دُونَهُ؛ فَإِنَّ مَنْ مَاتَ دُونَ مَالِهِ فَهُو شَهِيدٌ، وَالْأَرْضُ مَالٌ، فَمَنْ مَاتَ دُونَ مَالِهِ فَهُو شَهِيدٌ.
قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ شَاكِر -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- : ((إِيَّاكَ أَنْ تَظُنَّ أَنَّ تَقْوَى اللهِ هِيَ الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَنَحْوُهُمَا مِنَ الْعِبَادَاتِ فَقَطْ، إِنَّ تَقْوَى اللهِ تَدْخُلُ فِي كُلِّ شَيْءٍ... وَاتَّقِ اللهَ فِي بَلَدِكَ، لَا تَخُنْهُ وَلَا تُسَلِّطْ عَلَيْهِ عَدُوًّا...)).
فَمَا دَامَ الْوَطَنُ إِسْلَامِيًّا فَيَجِبُ الدِّفَاعُ عَنْهُ، وَيَحْرُمُ الْإِضْرَارُ بِهِ.
((مِنْ مَظَاهِرِ الْإِيجَابِيَّةِ لِلْحِفَاظِ عَلَى الْأَوْطَانِ:
الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ بِعَقِيدَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فِي حُقُوقِ الْحُكَّامِ))
* مِنْ أَعْظَمِ أُصُولِ الدِّينِ: الِاجْتِمَاعُ عَلَى الْحَقِّ، وَالِاعْتِصَامُ بِحَبْلِ اللهِ تَعَالَى:
عِبَادَ اللهِ! لَقَدْ دَلَّتِ النُّصُوصُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ أُصُولِ الدِّينِ: الِاجْتِمَاعَ عَلَى الْحَقِّ، وَالِاعْتِصَامَ بِحَبْلِ اللهِ تَعَالَى.
فَقَدْ قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103].
وَأَخْرَجَ الْآجُرِيُّ فِي ((الشَّرِيعَةِ))، وَاللَّالَكَائِيُّ فِي ((أُصُولِ الِاعْتِقَادِ)) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((عَلَيْكُمْ جَمِيعًا بِالطَّاعَةِ وَالْجَمَاعَةِ؛ فَإِنَّهَا حَبْلُ اللهِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ)).
وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((إِنَّ اللهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا، فَيَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ: قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ)).
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((مُسْنَدِهِ)) عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((ثَلَاثُ خِصَالٍ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ أَبَدًا: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ للهِ، وَمُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْأَمْرِ، وَلُزُومُ الْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مَنْ وَرَاءَهُمْ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا، وَابْنُ مَاجَه، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَالْأَلْبَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا.
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- فِي ((مَجْمُوعِ الْفَتَاوَى)): ((وَهَذِهِ الثَّلَاثُ -يَعْنِي الَّتِي مَرَّ ذِكْرُهَا فِي حَدِيثِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- تَجْمَعُ أُصُولَ الدِّينِ وَقَوَاعِدَهُ، وَتَجْمَعُ الْحُقُوقَ الَّتِي للهِ وَلِعِبَادِهِ، وَتَنْتَظِمُ مَصَالِحَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)).
وَقَالَ الْإِمَامُ الْمُجَدِّدُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: ((لَمْ يَقَعْ خَلَلٌ فِي دِينِ النَّاسِ وَدُنْيَاهُمْ إِلَّا بِسَبَبِ الْإِخْلَالِ بِهَذِهِ الثَّلَاثِ أَوْ بَعْضِهَا)).
قَالَ ذَلِكَ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي خَالَفَ فِيهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ.
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ حُذَيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللهِ ﷺ عَنِ الْخَيْرِ وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ؛ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي -فَكَانَ مِنْ نُصْحِهِ ﷺ لِحُذَيْفَةَ-؛ أَنْ قَالَ لَهُ: ((تَلْزَمَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ)).
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- أَنَّهُمَا قَالَا: ((يَدُ اللهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ)). أَخْرَجَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي ((زَوَائِدِ الْمُسْنَدِ))، وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي ((السُّنَّةِ)) بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ كَمَا قَالَ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((تَحْقِيقِهِ عَلَى السُّنُّةِ)) لِابْنِ أَبِي عَاصِمٍ.
وَأَخْرَجَ الْآجُرِيُّ وَاللَّالَكَائِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((وَمَا تَكْرَهُونَ فِي الْجَمَاعَةِ خَيْرٌ مِمَّا تُحِبُّونَ فِي الْفُرْقَةِ)).
قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((كَانَ يُقَالُ: خَمْسٌ كَانَ عَلَيْهَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ ﷺ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ: لُزُومُ الْجَمَاعَةِ، وَاتِّبَاعُ السُّنَّةِ، وَعِمَارَةُ الْمَسَاجِدِ، وَتِلَاوَةُ الْقُرْآنِ، وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ)) .
وَقَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لِسُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ فِي وَصِيَّةٍ لَهُ: ((لَا تُفَارِقُ الْجَمَاعَةَ))؛ يَعْنِي: سَوَادَ الْمُسْلِمِينَ؛ لَا الْجَمَاعَةَ بِالْمَعْنَى الَّذِي ابْتَدَعَهُ أَهْلُ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ.
أَخْرَجَه الْخَلَّالُ فِي ((السُّنَّةِ)).
وَفِي ((تَارِيخِ دِمَشْق))، وَ((سِيَرِ أَعْلَامِ النُّبَلَاءِ)): ((أَنَّ رَجُلًا كَتَبَ لِابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنْ اكْتُبِ لِي الْعِلْمَ كُلَّهُ -اكْتُبِ إِلَيَّ بِالْعِلْمِ كُلِّهِ-، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنَّ الْعِلْمَ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ إِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَلْقَى اللهَ كَافَّ اللِّسَانِ عَنْ أَعْرَاضِ الْمُسْلِمِينَ، خَفِيفَ الظَّهْرِ مِنْ دِمَائِهِمْ، خَمِيصَ الْبَطْنِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، لَازِمًا لِجَمَاعَتِهِمْ؛ فَافْعَلْ)).
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُ جَاءَ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ مُطِيعٍ حِينَ كَانَ مِنْ أَمْرِ الْحَرَّةِ مَا كَانَ زَمَنَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ -الْحَرَّةُ: أَرْضٌ بِظَاهِرِ مَدِينَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فِيهَا حِجَارَةٌ سُودٌ كَثِيرَةٌ، وَكَانَتْ بِهَا وَقْعَةٌ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ مِنَ الْهِجْرَةِ.
وَسَبَبُ تِلْكَ الْوَقْعَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي الْحَرَّةِ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ خَلَعُوا بَيْعَةَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ لَمَّا بَلَغَهُمْ مَا يَعْتَمِدُهُ مِنَ الْفَسَادِ، فَأَمَّرَ الْأَنْصَارُ عَلَيْهُمْ عَبْدَ اللهِ بْنَ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي عَامِرٍ، وَأَمَّرَ الْمُهَاجِرُونَ عَلَيْهُمْ عَبْدَ اللهِ بْنَ مُطِيعٍ الْعَدَوِيَّ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهُمْ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ مُسْلِمَ بْنَ عُقْبَةَ فِي جَيْشٍ كَثِيرٍ؛ فَهَزَمَهُمْ، وَقُتِلَ مِنَ الْأَنْصَارِ خَلْقٌ كَثِيرٌ جِدًّا.
وَابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- ذَهَبَ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ مُطِيعٍ؛ لِيُبَيِّنَ لَهُ أَنَّ مَا يَفْعَلُهُ خَطَأٌ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ، وَهُوَ خُرُوجٌ عَلَى الْحَاكِمِ، وَنَقْضٌ لِلْبَيْعَةِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ، وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ النَّبِيِّ ﷺ.
جَاءَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ مُطِيعٍ حِينَ كَانَ مِنْ أَمْرِ الْحَرَّةِ مَا كَانَ زَمَنَ يَزِيدَ بْن مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُطِيعٍ: اطْرَحُوا لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وِسَادَةً.
فَقَالَ: إِنَّي لَمْ آتِكَ لِأَجْلِسَ، أَتَيْتُكَ لِأُحَدِّثَكَ حَدِيثًا؛ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ؛ لَقِيَ اللهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا حُجَّةَ لَهُ، وَمَنْ مَاتَ لَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً)).
((لَا حُجَّةَ لَهُ)): أَيْ لَا حُجَّةَ لَهُ فِي فِعْلِهِ، وَلَا عُذْرَ لَهُ يَنْفَعُهُ.
وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَلْيَصْبِرْ؛ فَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنَ السُّلْطَانِ شِبْرًا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً)).
قَالَ الْعُلَمَاءُ: ((مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً)): هِيَ بِكَسْرِ الْمِيمِ؛ مِيتَةً؛ أَيْ: عَلَى صِفَةِ مَوْتِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ حَيْثُ هُمْ فَوْضَى لَا إِمَامَ لَهُمْ)).
وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ؛ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً)).
وَأَخْرَجَ -أَيْضًا- عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ لَقِيَ اللهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا حُجَّةَ لَهُ، وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةً مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً)).
مُفَارَقَةُ الْجَمَاعَةِ، وَمُحَاوَلَةُ تَفْرِيقِهَا مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ.
وَالْجَمَاعَةُ: السَّوَادُ الْأَعْظَمُ؛ مَجْمُوعُ الْمُسْلِمِينَ، لَيْسَتِ الْجَمَاعَةَ مَا يُرِيدُهُ أُولَئِكَ الضُلَّالُّ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ، الَّذِينَ يُؤَمِّرُونَ وَاحِدًا مِنْهُمْ، وَيَنْعَزِلُونَ نَاحِيَةً عَنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ.
وَإِنَّمَا الْجَمَاعَةُ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَجْمُوعُ الْمُسْلِمِينَ وَسَوَادُهُمْ، فَمَنْ فَارَقَهُمْ، وَحَاوَلَ تَفْرِيقَهُمْ؛ فَإِنَّهُ أَتَى أَمْرًا مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ.
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((خَشِيتُ أَنْ أَقُولَ كَلِمَةً تُفَرِّقُ بَيْنَ الْجَمْعِ، وَتَسْفِكُ الدَّمَ، وَيُحْمَلُ عَنِّي غَيْرُ ذَلِكَ)).
مَعَ أَنَّ مَا سَيَقُولُهُ حَقٌّ، لَكِنْ لَمَّا رَجَحَتْ مَصْلَحَةُ الْإِمْسَاكِ عَلَى مَصْلَحَةِ الْكَلَامِ؛ كَفَّ لِسَانَهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
فَلَيْسَ كُلُّ مَا يُعْلَمُ يُقَالُ، لَاسِيَّمَا فِي أَوْقَاتِ الْفِتَنِ.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِلْأَنْصَارِ: ((إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً -أَيْ: اسْتِئْثَارًا بِالْمَالِ وَالدُّنْيَا وَالْمُلْكِ وَالْإِمَارَةِ- إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي وَمَوْعِدُكُمُ الْحَوْضُ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((سَتَكُونُ بَعْدِي أَثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا)).
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! كَيْفَ تَأْمُرُ مَنْ أَدْرَكَ مِنَّا ذَلِكَ؟
قَالَ: ((تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ، وَتَسْأَلُونَ اللهَ الَّذِي لَكُمْ)). أَخْرَجَاهُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).
قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((هَذَا مِنْ مُعْجِزَاتِ النُّبُوَّةِ، وَقَدْ وَقَعَ الْإِخْبَارُ مُتَكَرِّرًا، وَوُجِدَ مَخْبَرُهُ مُتَكَرِّرًا.
وَفِي الْحَدِيثِ الْحَثُّ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ كَانَ الْمُتَوَلِّي ظَالِمًا عَسُوفًا، فَيُعْطَى حَقَّهُ مِنَ الطَّاعَةِ، وَلَا يُخْرَجُ عَلَيْهِ، وَلَا يُخْلَعُ؛ بَلْ يُتَضَرَّعُ إِلَى اللهِ تَعَالَى فِي كَشْفِ أَذَاهُ، وَدَفْعِ شَرِّهِ وَإِصْلَاحِهِ)).
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ خَرَجَ مِنَ السُّلْطَانِ شِبْرًا؛ فَمَاتَ عَلَيْهِ إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً)). أَخْرَجَاهُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).
وَالْمُرَادُ بِـ ((خَرَجَ مِنَ السُّلْطَانِ شِبْرًا)): كِنَايَةٌ عَنْ مَعْصِيَةِ السُّلْطَانِ وَمُحَارَبَتِهِ.
وَالْمُرَادُ بِـ ((الْخُرُوجِ)): السَّعْيُ فِي حَلِّ عَقْدِ الْبَيْعَةِ الَّتِي حَصَلَتْ لِذَلِكَ الْحَاكِمِ وَلَوْ بِأَدْنَى شَيْءٍ، فَكَنَّى عَنْهَا بِمِقْدَارِ الشِّبْرِ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ فِي ذَلِكَ يَؤُولُ إِلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ بِغَيْرِ حَقٍّ.
((لِمَنْ تَكُونُ الْبَيْعَةُ وَالسَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ؟))
مَنِ الَّذِي تَنْعَقِدُ لَهُ الْبَيْعَةُ وَيَجِبُ لَهُ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ؟
قَالَ الشَّوْكَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((السَّيْلِ الْجَرَّارِ)): ((وَأَمَّا بَعْدَ انْتِشَارِ الْإِسْلَامِ، وَاتِّسَاعِ رُقْعَتِهِ، وَتَبَاعُدِ أَطْرَافِهِ؛ فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ قَدْ صَارَ فِي كُلِّ قُطْرٍ أَوْ أَقْطَارٍ الْوِلَايَةُ إِلَى إِمَامٍ أَوْ سُلْطَانٍ، وَفِي الْقُطْرِ الْآخَرِ أَوِ الْأَقْطَارِ كَذَلِكَ، وَلَا يَنْفُذُ لِبَعْضِهِمْ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ فِي قُطْرِ الْآخَرِ وَأَقْطَارِهِ الَّتِي رَجَعَتْ إِلَى وِلَايَتِهِ.
فَلَا بَأْسَ بِتَعَدُّدِ الْأَئِمَّةِ وَالسَّلَاطِينِ، وَيَجِبُ الطَّاعَةُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بَعْدَ الْبَيْعَةِ لَهُ عَلَى أَهْلِ الْقُطْرِ الَّذِي يَنْفُذُ فِيهِ أَوَامِرُهُ وَنَوَاهِيهِ كَصَاحِبِ الْقُطْرِ الْآخَرِ.
فَإِذَا قَامَ مَنْ يُنَازِعُهُ فِي الْقُطْرِ الَّتِي قَدْ ثَبَتَتْ فِيهِ وِلَايَتُهُ وَبَايَعَهُ أَهْلُهُ؛ كَانَ الْحُكْمُ فِيهِ أَنْ يُقْتَلَ إِذَا لَمْ يَتُبْ.
وَلَا تَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْقُطْرِ الْآخَرِ طَاعَتُهُ، وَلَا الدُّخُولُ تَحْتَ وِلَايَتِهِ لِتَبَاعُدِ الْأَقْطَارِ، فَإِنَّهُ قَدْ لَا يَبْلُغُ إِلَى مَا تَبَاعَدَ مِنْهَا خَبْرُ إِمَامِهَا أَوْ سُلْطَانِهَا، وَلَا يُدْرَى مَنْ قَامَ مِنْهُمْ أَوْ مَاتَ، فَالتَّكْلِيفُ بِالطَّاعَةِ وَالْحَالُ هَذِهِ؛ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ.
وَهَذَا مَعْلُومٌ لِكُلِّ مَنْ لَهُ اطِّلَاعٌ عَلَى أَحْوَالِ الْعِبَادِ وَالْبِلَادِ، فَاعْرِفْ هَذَا؛ فَإِنَّ الْمُنَاسِبَ لِلْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ هُوَ هَذَا، وَهُوَ الْمُطَابِقُ لِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ.
وَدَعْ عَنْكَ مَا يُقَالُ فِي مُخَالَفَتِهِ، فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْوِلَايَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَمَا هِيَ عَلَيْهِ الْآنَ -فِي زَمَنِ الشَّوْكَانِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ--، أَوْضَحُ مِنْ شَمْسِ النَّهَارِ، وَمَنْ أَنْكَرَ هَذَا فَهُوَ مُبَاهِتٌ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُخَاطَبَ بِالْحُجَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْقِلُهَا)). انْتَهَى كَلَامُهُ -رَحِمَهُ اللهُ-.
إِذَنْ؛ كُلُّ قُطْرٍ قَامَ فِيهِ إِمَامٌ وَلَوْ كَانَ مُتَغَلِّبًا، فَإِنَّ لَهُ مِنَ الْحُقُوقِ حُقُوقَ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ -حُقُوقَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ-.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُتَّجِهٌ إِلَى الْبَيْعَةِ الَّتِي تَحْصُلُ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ لَا بِالِاخْتِيَارِ، وَعَلَى هَذَا يَثْبُتُ لِهَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ الْمُتَعَدِّدِينَ مَا يَثْبُتُ لِلْإِمَامِ الْأَعْظَمِ يَوْمَ أَنْ كَانَ مَوْجُودًا، فَيُقِيمُونَ الْحُدُودَ وَنَحْوَهَا، وَيُسْمَعُ وَيُطَاعُ لَهُمْ.
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَالسُّنَّةُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ إِمَامٌ وَاحِدٌ وَالْبَاقُونَ نُوَّابُهُ، فَإِذَا فُرِضَ أَنَّ الْأُمَّةَ خَرَجَتْ عَنْ ذَلِكَ لِمَعْصِيَةٍ مِنْ بَعْضِهَا وَعَجْزٍ مِنَ الْبَاقِينَ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَكَانَ لَهَا عِدَّةُ أَئِمَّةٍ؛ لَكَانَ يَجِبُ عَلَى كُلِّ إِمَامٍ أَنْ يُقِيمَ الْحُدُودَ، وَيَسْتَوْفِيَ الْحُقُوقَ)).
وَقَالَ الْإِمَامُ الْمُجَدِّدُ كَمَا فِي ((الدُّرَرِ السَّنِيَّةِ)): ((وَالْأَئِمَّةُ مُجْمِعُونَ مِنْ كُلِّ مَذْهَبٍ عَلَى أَنَّ مَنْ تَغَلَّبَ عَلَى بَلَدٍ أَوْ بُلْدَانٍ؛ لَهُ حُكْمُ الْإِمَامِ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ.
وَلَوْلَا هَذَا مَا اسْتَقَامَتِ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ النَّاسَ مِنْ زَمَنٍ طَوِيلٍ قَبْلَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا؛ مَا اجْتَمَعُوا عَلَى إِمَامٍ، وَلَا يَعْرِفُونَ أَحَدًا مِنَ الْعُلَمَاءِ ذَكَرَ أَنَّ شَيْئًا مِنَ الْأَحْكَامِ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِالْإِمَامِ الْأَعْظَمِ)).
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ الصَّنْعَانِيُّ عِنْدَ شَرْحِ حَدِيثِ النَّبِيِّ ﷺ: ((مَنْ خَرَجَ عَنِ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ وَمَاتَ فَمِيتَتُهُ مِيتَةٌ جَاهِلِيَّةٌ)).
قَالَ: وَكَأَنَّ الْمُرَادَ خَلِيفَةُ أَيِّ قُطْرٍ مِنَ الْأَقْطَارِ، إِذْ لَمْ يُجْمِعِ النَّاسُ عَلَى خَلِيفَةٍ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ الْإِسْلَامِيَّةِ مِنْ أَثْنَاءِ الدَّوْلَةِ الْعَبَاسِيَّةِ، بَلِ اسْتَقَلَّ كُلُّ إِقْلِيمٍ بِقَائِمٍ بِأُمُورِهِمْ؛ إِذْ لَوْ حُمِلَ الْحَدِيثُ عَلَى خَلِيفَةٍ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْإِسْلَامِ لَقَلَّتِ الْفَائِدَةُ)).
إِذَنْ؛ كُلُّ حَاكِمٍ فِي قُطْرٍ لَهُ أَحْكَامُ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ، يُبَايَعُ، وَيُسْمَعُ لَهُ وَيُطَاعُ، وَمَنْ خَرَجَ عَلَيْهِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ وَفَارَقَ السُّلْطَانَ؛ فَمَاتَ فَمِيتَتُهُ مِيتَةٌ جَاهِلِيَّةٌ.
وَلَهُ حُقُوقٌ، وَاجِبَةٌ لَهُ، أَوْجَبَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ، وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ الْأَمِينِ ﷺ، وَاجِبَةٌ، كَمَا تَجِبُ عَلَيْكَ الصَّلَاةُ، وَكَمَا تَجِبُ عَلَيْكَ الزَّكَاةُ، أَوْجَبَهَا اللهُ فِي عُلَاهُ.
إِذَا تَمَّ تَعْيِينُ الْإِمَامِ بِأَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِمَا، وَهُمَا اخْتِيَارُ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ لَهُ، أَوِ اسْتِخْلَافِهِ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ لَهُ مِنَ الْإِمَامِ قَبْلَهُ، أَوْ كَانَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْغَلَبَةِ، وَاسْتَتَبَّ لَهُ الْأَمْرُ؛ وَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْقِيَامُ بِحُقُوقِ هَذَا الْإِمَامِ.
وَحُقُوقُ الْإِمَامِ حُقُوقٌ نَصَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهَا فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، وَنَصَّ عَلَيْهَا النَّبِيُّ ﷺ.
وَذَلِكَ لِيَعْلَمَ الْمُسْلِمُ أَنَّ هَذِهِ الْحُقُوقَ مِنَ الْأَهَمِّيَّةِ فِي غَايَةٍ، وَمِنَ الْخُطُورَةِ فِي نِهَايَةٍ، فَالْقِيَامُ بِهَا حَتْمٌ؛ لَا يُسْمَحُ بِالتَّقْصِيرِ فِيهَا، وَمَنْ قَصَّرَ؛ فَقَدْ رَتَّبَ الشَّرْعُ الْمُطَهَّرُ لَهُ عُقُوبَاتٍ زَاجِرَةً؛ مِنْهَا عُقُوبَاتٌ تَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا، وَمِنْهَا عُقُوبَاتٌ فِي الْآخِرَةِ.
((حُقُوقُ الْحَاكِمِ الْمُسْلِمِ فِي الْإِسْلَامِ))
وَأَمَّا حُقُوقُ الْإِمَامِ، وَأَمَّا حُقُوقُ الْحَاكِمِ، وَأَمَّا حُقُوقُ السُّلْطَانِ، وَأَمَّا حُقُوقُ الرَّئِيسِ؛ فَقَدْ بَيَّنَهَا اللهُ، وَبَيَّنَهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ:
*أَوَّلُّهَا: الْبَيْعَةُ لَهُ: فَيُبَايِعُهُ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، ثُمَّ عُمُومُ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ تَيَسَّرَ حُضُورُهُمْ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مُلْزِمًا لِكُلِّ مُسْلِمٍ.
وَمَعْنَى الْبَيْعَةِ: الْعَهْدُ عَلَى الطَّاعَةِ؛ أَيْ أَنَّ الْمُبَايِعِينَ يُسَلِّمُونَ لِلْإِمَامِ النَّظَرَ فِي أَمْرِ أَنْفُسِهِمْ وَأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ، لَا يُنَازِعُونَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَيُطِيعُهُ الْجَمِيعُ فِيمَا يُكَلِّفُهُمْ بِهِ مِنْ أَمْرٍ فِي الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، بِشَرْطِ أَلَّا يَكُونَ الْأَمْرُ بِمَعْصِيَةٍ للهِ.
وَتَكُونُ هَذِهِ الْبَيْعَةُ بِالْمُصَافَحَةِ وَالْكَلَامِ، أَوْ بِالْكَلَامِ وَحْدَهُ، أَوْ بِالْكِتَابَةِ.
وَدَلِيلُ وُجُوبِ الْبَيْعَةِ: حَدِيثُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ))، وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي ((الْمُسْتَدْرَكِ)) بِلَفْظِ: ((مَنْ مَاتَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِمَامُ جَمَاعَةٍ، فَإِنَّ مَوْتَتَهُ مَوْتَةٌ جَاهِلِيَّةٌ)).
فَأَفَادَ الْحَدِيثُ: وُجُوبَ عَقْدِ الْبَيْعَةِ لِلْإِمَامِ الْقَائِمِ الْمُسْلِمِ، وأنَّ المُطَالَبَ بِهَا جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ تَحْتَ وِلَايَةِ هَذَا الْإِمَامِ.
وَبَيَّنَ الْحَدِيثُ الْعُقُوبَةَ الْمُتَرَتِّبَةَ عَلَى عَدَمِ وُجُودِ الْبَيْعَةِ فِي عُنُقِ الْمُسْلِمِ، وَهِيَ كَوْنُهُ يَمُوتُ كَحَالِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى ضَلَالٍ -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ -جَلَّ وَعَلَا--.
أَمَّا مَنْ نَقَضَ هَذِهِ الْبَيْعَةَ، فَإِنَّ هَذِهِ الْعُقُوبَةَ تَنَالُهُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: ((مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَلْيَصْبِرْ، فَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنَ السُّلْطَانِ شِبْرًا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
فَالْحَقُّ الْأَوَّلُ مِنْ حُقُوقِ الْإِمَامِ أَوِ الْحَاكِمِ أَوِ الرَّئِيسِ أَوِ السُّلْطَانِ، عَلَى اخْتِلَافِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ، الْحَقُّ الْأَوَّلُ: هُوَ الْبَيْعَةُ لَهُ.
*وَالْحَقُّ الثَّانِي: السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ لَهُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-:
وَهَذَا الْحَقُّ أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَأَوْدَعُوهُ فِي كُتُبِ الْعَقَائِدِ الَّتِي يُرَبُّونَ عَلَيْهَا النَّاسَ صِغَارًا وَكِبَارًا، ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا.
وَهُوَ حَقٌّ لَمْ يَتْرُكِ الشَّارِعُ اسْتِنْبَاطَهُ لِلنَّاسِ، بَلْ نَصَّ عَلَيْهِ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ، وَنَصَّ عَلَيْهِ الرَّسُولُ ﷺ فِي سُنَّتِهِ؛ حَتَّى لَا يَبْقَى مَجَالٌ لِلْخِلَافِ فِيهِ.
قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59].
وَهُمُ الْوُلَاةُ وَالْأُمَرَاءُ، ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ جَمَاهِيرُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْمُفَسِّرِينَ وَالْفُقَهَاءِ، وَذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ غَيْرُهم أَيْضًا.
وَهَذَا الْأَمْرُ بِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ مُقَيَّدٌ بِعَدَمِ الطَّاعَةِ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْصِيَةِ للهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.
قَالَ الْإِمَامُ حَرْبٌ الْكِرْمَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي الْعَقِيدَةِ الَّتِي نَقَلَهَا عَنْ جَمِيعِ السَّلَفِ: ((وَإِنْ أَمَرَكَ السُّلْطَانُ بِأَمْرٍ فِيهِ للهِ مَعْصِيَةٌ؛ فَلَيْسَ لَكَ أَنْ تُطِيعَهُ الْبَتَّةَ، وَلَيْسَ لَكَ أَنْ تَخْرُجَ عَلَيْهِ، وَلَا تَمْنَعُهُ حَقَّهُ.
فَدَلَّكَ عَلَى أُمُورٍ:
أَنَّهُ إِذَا أَمَرَكَ بِأَمْرٍ فِيهِ مَعْصِيَةٌ للهِ؛ فَلَا تَسْمَعْ فِي هَذَا الْأَمْرِ بِعَيْنِه وَلَا تُطِعْ، وَلَكِنْ إِيَّاكَ أَنْ تَخْرُجَ عَلَيْهِ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَمْنَعَهُ حَقَّهُ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَنْزِعَ يَدَكَ مِنْ طَاعَتِهِ.
وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي ذَلِكَ فَقَدْ بَلَغَتْ حَدَّ التَّوَاتُرِ، الْأَحَادِيثُ فِي وُجُوبِ طَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ بَلَغَتْ حَدَّ التَّوَاتُرِ أَوْ كَادَتْ أَنْ تَبْلُغَهُ، كَمَا أَفَادَ ذَلِكَ (صَدْرُ الدِّينِ السُّلَمَيُّ) فِي رِسَالَتِهِ ((طَاعَةُ السُّلْطَانِ)).
مِنْهَا: حَدِيثُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ إِلَّا أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
قَالَ الْعَلَّامَةُ الْمُطَهَّرُ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ: ((يَعْنِي سَمْعُ كَلَامِ الْحَاكِمِ وَطَاعَتُهُ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، سَوَاءٌ أَمَرَ بِمَا يُوَافِقُ طَبْعَهُ أَوْ لَمْ يُوَافِقْهُ؛ بِشَرْطِ أَلَّا يَأْمُرَهُ بِمَعْصِيَةٍ.
فَإِنْ أَمَرَهُ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا تَجُوزُ طَاعَتُهُ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ لَهُ مُحَارَبَةُ الْإِمَامِ مَعَ ذَلِكَ.
وَمِثَالُ الْأَمْرِ بِالْمَعْصِيَةِ؛ أَنْ يُؤْمَرُ الْمَرْءُ بِأَنْ يَقْتُلَ نَفْسًا بِغَيْرِ حَقٍّ، أَوْ يُؤْمَرَ بِأَنْ يُرَابِيَ، أَوْ يَشْرَبَ الْخَمْرَ، فَلَا طَاعَةَ لِلِإْمَامِ فِي ذَلِكَ، وَيُسْمَعُ وَيُطَاعُ لَهُ فِيمَا عَدَا هَذَا الْأَمْرِ بِالْمَعْصِيَةِ)).
وَمِنَ الْأَحَادِيثِ: حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: دَعَانَا رَسُولُ اللهِ ﷺ فَبَايَعْنَاهُ، فَكَانَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا: ((أَنْ بَايَعْنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا، وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَأَلَّا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ -قَالَ: إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنَ اللهِ فِيهِ بُرْهَانٌ)). أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ.
وَقَدْ رَتَّبَ النَّبِيُّ ﷺ ثَوَابًا لِمَنِ الْتَزَمَ هَذَا الْأَمْرَ، وَرَتَّبَ عِقَابًا لِمَنْ خَالَفَ هَذَا الْأَمْرَ.
فَفِي ((السُّنَّةِ)) لِابْنِ أَبِي عَاصِمٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((إِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي وَلَا أُمَّةَ بَعْدَكُمْ، أَلَا فَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ، وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ، وَصُومُوا شَهْرَكُمْ، وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ طَيِّبَةً بِهَا نُفُوسُكُمْ، وَأَطِيعُوا أُمَرَاءَكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ)).
وَفِي ((السُّنَّةِ)) لِابْنِ أَبِي عَاصِمٍ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((إِنَّ السَّامِعَ الْمُطِيعَ لَا حُجَّةَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ السَّامِعَ الْعَاصِي لَا حُجَّةَ لَهُ)).
وَالْمَعْنَى: أَنَّ الَّذِي يَسْمَعُ أَوَامِرَ الْإِمَامِ فَيُطِيعُ؛ لَا حُجَّةَ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى مَا عَلَيْهِ، وَأَنَّ الَّذِي يَسْمَعُ أَوَامِرَ الْإِمَامِ فَلَا يُطِيعُ؛ فَلَا حُجَّةَ لَهُ تُقْبَلُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي تَخَلُّفِهِ عَنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ، فَيَهْلِكُ -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ-.
*وَمِمَّا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ لِإِمَامِهِ: الصَّبْرُ عَلَى جَوْرِهِ:
إِذَا ابْتُلِيَ الْمُسْلِمُونَ بِإِمَامٍ جَائِرٍ؛ فَإِنَّ الصَّبْرَ عَلَى جَوْرِهِ هُوَ سَبِيلُ الْمُؤْمِنِينَ وَطَرِيقَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ عَلَيْهِ يُوجِبُ مِنَ الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ أَكْثَرَ مِنْ ظُلْمِهِ، فَيُصْبَرُ عَلَيْهِ كَمَا يُصْبَرُ عِنْدَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَى ظُلْمِ الْمَأْمُورِ وَالْمَنْهِيِّ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ لُقْمَانَ: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: ].
وَهَذَا الْحَقُّ لِلْإِمَامِ ثَبَتَ بِالنُّصُوصِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، مِنْهَا:
حَدِيثُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ؛ فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ؛ فَمِيتَةٌ جَاهِلِيَّةٌ)). أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ.
وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: ((مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ خَرَجَ مِنَ السُّلْطَانِ شِبْرًا فَمَاتَ عَلَيْهِ إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً)).
وَمِنَ الْأَحَادِيثِ: حَدِيثُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((إِنَّهَا سَتَكُونُ بَعْدِي أَثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا)).
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! فَمَا تَأْمُرُنَا؟
قَالَ: ((تَؤُدُّونَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ، وَتَسْأَلُونَ اللهَ الَّذِي لَكُمْ)). أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ.
وَقَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: ((أَثَرَةٌ)): هِيَ الِانْفِرَادُ بِالشَّيْءِ عَمَّنْ لَهُ فِيهِ حَقٌّ وَتَعَلُّقٌ بِالْأَمْوَالِ.
وَقَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: ((وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا)): أَيْ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ؛ إِمَّا بِالتَّقْصِيرِ فِيهَا، أَوْ بِإِحْدَاثِ الْبِدَعِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ: ((فِيهِ الْحَثُّ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ كَانَ الْمُتَوَلِّي ظَالِمًا عَسُوفًا، فَيُعْطَى حَقَّهُ مِنَ الطَّاعَةِ، وَلَا يُخْرَجُ عَلَيْهِ، وَلَا يُخْلَعُ، بَلْ يُتَضَرَّعُ إِلَى اللهِ تَعَالَى فِي كَشْفِ آذَاهُ وَدَفْعِ شَرِّهِ وَإِصْلَاحِهِ)).
وَبِهَذِهِ النُّصُوصِ أَخَذَ سَلَفُنَا الصَّالِحُ فَأَوْدَعُوا فِي كُتُبِ الْعَقَائِدِ؛ الْأَمْرَ بِالصَّبْرِ عَلَى جَوْرِ الْأَئِمَّةِ، فَلَا يَكَادُ يَخْلُو مُؤَلَّفٌ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ.
*وَمِمَّا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ لِإِمَامِهِ: النُّصْحُ لَهُ:
وَهَذَا الْحَقُّ جَاءَ مَنْصُوصًا فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
وَقَبْلَ ذِكْرِ بَعْضِهَا نَعْرِفُ مَعْنَى النُّصْحِ لِإِمَامِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ:
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَأَمَّا النَّصِيحَةُ لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ: فَحُبُّ صَلَاحِهِمْ وَرُشْدِهِمْ وَعَدْلِهِمْ، وَحُبُّ اجْتِمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَيْهِمْ، وَكَرَاهَةُ افْتِرَاقِ الْأُمَّةِ عَلَيْهُمْ.
وَالتَّدَيُّنُ بِطَاعَتِهِمْ فِي طَاعَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَالْبُغْضُ لِمَنْ رَأَى الْخُرُوجَ عَلَيْهِمْ، وَحُبُّ إِعْزَازِهِمْ فِي طَاعَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- )).
وَقَالَ أَبُو عُمْرِو بْنِ الصَّلَاحِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَالنَّصِيحَةُ لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ مُعَاوَنَتُهُمْ عَلَى الْحَقِّ، وَطَاعَتُهُمْ فِيهِ، وَتَذْكِيرُهُمْ بِهِ، وَتَنْبِيهُهُمْ فِي رِفْقٍ وَلُطْفٍ، وَمُجَانَبَةُ الْوُثُوبِ عَلَيْهِ، وَالدُّعَاءُ لَهُمْ بِالتَّوْفِيقِ، وَحَثُّ الْأَغْيَارِ عَلَى ذَلِكَ)).
وَمِنَ الْأَحَادِيثِ الْمُؤَكِّدَةِ لِذَلِكَ حَدِيثُ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((الدِّينُ النَّصِيحَةُ)).
قُلْنَا: لِمَنْ؟
قَالَ: ((للهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمُ فِي ((صَحِيحِهِ)).
فَمَنْ نَصَحَ لِوُلَاةِ الْأَمْرِ؛ فَقَدْ أَدَّى مَا افْتَرَضَ اللهُ عَلَيْهِ، وَمَنْ لَمْ يَنْصَحْ لَهُمْ؛ فَإِنَّ قَلْبَهُ قَدْ مُلِئَ غَيْظًا عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ.
وَلِذَا لَا تَرَى هَذِهِ الْخَصْلَةَ الذَّمِيمَةَ -يَعْنِي الْخُرُوجَ عَلَى الْحُكَّامِ- إِلَّا عِنْدَ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ.
وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: ((ثَلَاثُ خِصَالٍ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ أَبَدًا: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ للهِ، وَمُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْأَمْرِ، وَلُزُومُ الْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مَنْ وَرَاءَهُمْ)). وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ)) عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ فَذَكَرَهُ، وَقَدْ صَحَّحَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَالْأَلْبَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا.
فَهَذِهِ الْخِصَالُ الثَّلَاثُ لَا تُوجَدُ فِي قَلْبٍ إِلَّا وَهُوَ قَلْبٌ طَاهِرٌ مِنَ الْخِيَانَةِ وَالدَّغَلِ وَالشَّرِّ وَالْأَهْوَاءِ؛ لِأَنَّهَا خِصَالٌ تَنْفِي الْغِلَّ وَالْغِشَّ وَمُفْسِدَاتِ الْقُلُوبِ.
فَمُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْأُمُورِ مُنَافٍ لِلْغِلِّ وَالْغِشِّ؛ لِأَنَّ النَّصِيحَةَ لَا تُجَامِعُ الْغِلَّ، وَلَا تُجَامِعُ الْغِشَّ؛ إِذْ هِيَ ضِدُّهُ، فَمَنْ نَصَحَ الْأَئِمَّةَ وَالْأُمَّةَ فَقَدْ بَرِئَ مِنَ الْغِلِّ، وَمَنْ لَمْ يَنْصَحِ الْأَئِمَّةَ فَقَدِ انْغَمَسَ فِي الْغِلِّ -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ تَعَالَى-.
*مِمَّا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ لِإِمَامِهِ: تَوْقِيرُهُ وَاحْتِرَامُهُ.
وَهَذَا الْحَقُّ رَعَاهُ الشَّارِعُ الْحَكِيمُ؛ بِأَنْ أَمَرَ بِهِ أَيْضًا وَنَهَى عَنْ ضِدِّهِ، فَنَهَى عَنْ سَبِّ الْأَئِمَّةِ وَإِهَانَتِهِمْ.
وَقَصْدُ الشَّارِعِ مِنْ ذَلِكَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْقَرَافِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي كِتَابِهِ ((الذَّخِيرَةِ))، حَيْثُ قَالَ: ((قَاعِدَةٌ: ضَبْطُ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَاجِبٌ، وَلَا تَنْضَبِطُ الْمَصَالِحُ الْعَامَّةُ إِلَّا بِعَظَمَةِ الْأَئِمَّةِ فِي نُفُوسِ الرَّعِيَّةِ، وَمَتَى اخْتَلَفَتْ عَلَيْهِمْ أَوْ أُهِينُوا تَعَذَّرَتِ الْمَصْلَحَةُ)).
وَقَدْ سَبَقَهُ إِلَى ذَلِكَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللهِ التَّسْتُرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- عِنْدَمَا قَالَ: ((لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَظَّمُوا السُّلْطَانَ وَالْعُلَمَاءَ، فَإِنْ عَظَّمُوا هَذَيْنِ؛ أَصْلَحَ اللهُ دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ، وَإِنْ اسْتَخَّفُوا بِهَذَيْنِ؛ أَفْسَدُوا دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ)).
فَالشَّارِعُ الْحَكِيمُ إِنَّمَا رَاعَى هَذَا الْأَمْرَ؛ لِأَجْلِ أَنَّ الْمَسْؤُولِيَّاتِ عَلَى الْإِمَامِ كَثِيرَةٌ وَثَقِيلَةٌ، وَلَا يُمْكِنُ لَهُ أَنْ يَقُومَ بِذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ إِلَّا إِذَا كَانَتِ النُّفُوسُ مُوَطَّنَةً عَلَى احْتِرَامِهِ وَتَقْدِيرِهِ؛ مَوْعُودَةً بِالْأَجْرِ عَلَى ذَلِكَ، مُتَوَعَّدَةً بِالْوِزْرِ إِنْ خَالَفَتْ ذَلِكَ.
أَمَّا الْأَمْرُ بِتَوْقِيرِ الْإِمَامِ، فَقَدْ جَاءَتْ بِهِ نُصُوصٌ نَبَوِيَّةٌ شَرِيفَةٌ، وَعَقَدَ كِبَارُ الْعُلَمَاءِ فِي مُؤَلَّفَاتِهِمْ أَبْوَابًا خَاصَّةً بِذَلِكَ.
فَفِي كِتَابِ ((السُّنَّةِ)) لِابْنِ أَبِي عَاصِمٍ بَابٌ فِي ذِكْرِ ((تَعْزِيرِ الْأَمْيِر وَتَوْقِيرِهِ))، وَفِي كِتَابِ ((الْحُجَّةِ فِي بَيَانِ الْمَحَجَّةِ وَشَرْحِ عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ)) لِأَبِي الْقَاسِمِ الْأَصْبهَانِيِّ فَصْلٌ فِي: ((فَضْلِ تَوْقِيرِ الْأَمِيرِ))؛ -يَعْنِي الْحَاكِمَ؛ يَعْنِي الْإِمَامَ؛ يَعْنِي الرَّئِيسَ-.
وَفِي كِتَابِ ((النَّصِيحَةِ لِلرَّاعِي وَالرَّعِيَّةِ)) بَابُ: ((ذِكْرِ النَّصِيحَةِ لِلْأُمَرَاءِ، وَإِكْرَامِ مَحَلِّهِمْ، وَتَوْقِيرِ رُتَبِهِمْ، وَتَعْظِيمِ مَنْزِلَتِهِمْ)).
وَمِنَ النُّصُوصِ فِي ذَلِكَ: مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي ((سُنَنِهِ)) فِي كِتَابِ الْأَدَبِ، بَابٌ: فِي تَنْزِيلِ النَّاسِ مَنَازِلَهُمْ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ)). حَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ)).
وَمِنَ الْأَحَادِيثِ: حَدِيثُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((خَمْسٌ مَنْ فَعَلَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ كَانَ ضَامِنًا عَلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- -وَذَكَرَ مِنْهُنَّ- أَوْ دَخَلَ عَلَى إِمَامِهِ يُرِيدُ تَعْزِيرَهُ أَوْ تَوْقِيرَهُ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ))، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْكَبِيرِ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ الْجَامِعِ)).
وَمَعْنَى: ((كَانَ ضَامِنًا عَلَى اللهِ)): أَيْ ضَامِنًا دُخُولَ الْجَنَّةِ.
وَمِنَ الْأَحَادِيثِ: حَدِيثُ أَبِي بَكْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((السُّلْطَانُ ظِلُّ اللهِ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ أَكْرَمَهُ؛ أَكْرَمَهُ اللهُ، وَمَنْ أَهَانَهُ؛ أَهَانَهُ اللهُ)). أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي ((السُّنَّةِ))، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ.
*أَمَّا النَّهْيُ عَنْ سَبِّهِمْ وَإِهَانَتِهِمْ: فَقَدْ جَاءَتْ بِهِ أَحَادِيثُ وَآثَارٌ عَنِ السَّلَفِ.
مِنَ الْأَحَادِيثِ: قَوْلُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: نَهَانَا كُبَرَاؤُنَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالُوا: ((لَا تَسُبُّوا أُمَرَاءَكُمْ، وَلَا تَغُشُّوهُمْ، وَلَا تُبْغِضُوهُمْ، وَاتَّقُوا اللهَ وَاصْبِرُوا فَإِنَّ الْأَمْرَ قَرِيبٌ)). أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي ((السُّنَّةِ))، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي ((شُعَبِ الْإِيمَانِ)) وَغَيْرُهُمَا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
وَمِنْهَا: قَوْلُ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((إِنَّ أَوَّلَ نِفَاقِ الْمَرْءِ طَعْنُهُ عَلَى إِمَامِهِ)).
أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي ((شُعَبِ الْإِيمَانِ))، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي ((التَّمْهِيدِ)).
وَمِنْهَا: قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ: ((مَا سَبَّ قَوْمٌ أَمِيرَهُمْ إِلَّا حُرِمُوا خَيْرَهُ)). أَخْرَجَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي ((التَّمْهِيدِ))، وَأَبُو عُمَرَ الدَّانِيُّ فِي ((الْفِتَنِ)).
وَمِنْهَا: قَوْلُ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِيَّاكُمْ وَالطَّعْنَ عَلَى الْأَئِمَّةِ، فَإِنَّ الطَّعْنَ عَلَيْهُمْ هِيَ الْحَالِقَةُ -حَالِقَةُ الدِّينِ لَيْسَ حَالِقَةَ الشَّعْرِ- أَلَا إِنَّ الطَّعَّانِينَ -الَّذِينَ يَطْعَنُونَ فِي الْأَئِمَّةِ- أَلَا إِنَّ الطَّعَّانِينَ هُمُ الْخَائِبُونَ وَشِرَارُ الْأَشْرَارِ)). أَخْرَجَهُ ابْنُ زَنْجُويَه فِي كِتَابِ ((الْأَمْوَالِ)).
وَمِنْهَا: قَوْلُ مَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((مَنْ لَعَنَ إِمَامَهُ حُرِمُ عَدْلَهُ)). ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي ((مَنَاقِبِ مَعْرُوفٍ وَأَخْبَارِهِ)).
((مَنْهَجُ الْإِخْوَانِ وَالْجَمَاعَاتِ الضَّالَّةِ فِي مُعَامَلَةِ الْحُكَّامِ))
الْغَرْبِيُّونَ وَأَتْبَاعُهُمْ، وَالْإِخْوَانُ الْمُسْلِمُونَ وَالضُّلَّالُ مِنْ أَشْيَاعِهِمْ وَأَتْبَاعِهِمْ يَقُولُونَ: تُرِيدُونَ تَقْدِيسَ الْبَشَرِ وَعِبَادَتَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، إِنَّمَا الرَّئِيسُ، أَوِ الْإِمَامُ، أَوِ وَلِيُّ الْأَمْرِ، أَوِ الْحَاكِمُ عِنْدَ -هَؤُلَاءِ الضُّلَّالِ الْمُنْحَرِفِينَ- مُوَظَّفٌ يَنْبَغِي أَنْ يُحَاسَبَ وَأَنْ يُرَاجَعَ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَحِينٍ.
فَلَيْسَ بِوَلِيِّ أَمْرٍ!! وَعَلَيْهِ فَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى قَوْلِهِمْ وَلِيُّ أَمْرٍ وَقَدْ غَابَ!!
((وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ فَمِيتَتُهُ مِيتَةٌ جَاهِلِيَّةٌ)).
هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: لَا بُدَّ أَنْ نُعَامِلَهُ مُعَامَلَةً دَقِيقَةً، وَأَنْ يُحَاسِبَهُ كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الرَّعِيَّةِ عَلَى ذَلِكَ النَّحْوِ الَّذِي ابْتَدَعَهُ الغَرْبِيُّونَ وَالْخَوَارِجُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَنْتَمُونَ إِلَى الْقِبْلَةِ، وَسَارَ عَلَى ذَلِكَ خَوَارِجُ الْعَصْرِ -عَامَلَهُمُ اللهُ بِعَدْلِهِ-.
*مَفَاسِدُ مُخَالَفَةِ هَذَا الْأَصْلِ الْعَظِيمِ:
هَذَا النَّهْيُ لَيْسَ تَعْظِيمًا لِذَوَاتِ الْأُمَرَاءِ -النَّهْيُ عَنْ سَبِّهِمْ، عَنِ الْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ، عَنِ الطعن فيهم؛ عَنْ شَتْمِهِمْ، عَنْ إِهَانَتِهِمْ- النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ لَيْسَ تَعْظِيمًا لِذَوَاتِ الْأُمَرَاءِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِعِظَمِ الْمَسْئُولِيَّةِ الَّتِي وُكِلَتْ إِلَيْهِمْ فِي الشَّرْعِ، وَالَّتِي لَا يُقَامُ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ مَعَ وُجُودِ سَبِّهِمْ وَالْوَقِيعَةِ فِيهِمْ؛ لِأَنَّ سَبَّهُمْ يُفْضِي إِلَى عَدَمِ طَاعَتِهِمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَإِلَى إِيغَارِ صُدُورِ الْعَامَّةِ عَلَيْهِمْ، مِمَّا يَفْتَحُ مَجَالًا لِلْفَوْضَى الَّتِي لَا تَعُودُ عَلَى النَّاسِ إِلَّا بِالشَّرِّ الْمُسْتَطِيرِ، كَمَا أَنَّ نَتِيجَتَهُ وَثَمَرَتَهُ سَبُّهُمْ، وَالْخُرُوجُ عَلَيْهِمْ، وَقِتَالُهُمْ، وَتِلْكَ هِيَ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى وَالْمُصِيبَةُ الْعُظْمَى.
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: ((وَلَعَلَّهُ لَا يُعْرَفُ طَائِفَةٌ خَرَجَتْ عَلَى ذِي سُلْطَانٍ؛ إِلَّا وَكَانَ فِي خُرُوجِهَا مِنَ الْفَسَادِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الْفَسَادِ الَّذِي أَزَالَتْهُ)).
وَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَقَلَّ مَنْ خَرَجَ عَلَى إِمَامٍ ذِي سُلْطَانٍ إِلَّا كَانَ مَا تَوَلَّدَ عَلَى فِعْلِهِ مِنَ الشَّرِّ أَعْظَمَ مِمَّا تَوَلَّدَ مِنَ الْخَيْرِ، كَالَّذِينَ خَرَجُوا عَلَى يَزِيدَ بِالمَدِينَةِ، وَكَابْنِ الْأَشْعَثِ الَّذِي خَرَجَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بِالْعِرَاقِ.
وَكَابْنِ الْمُهَلَّبِ الَّذِي خَرَجَ عَلَى ابْنِهِ بِخُرَاسَانَ، وَكَأَبِي مُسْلِمٍ صَاحِبِ الدَّعْوَةِ الَّذِي خَرَجَ عَلَيْهِم بِخُرَاسَانَ أَيْضًا، وَكَالَّذِينَ خَرَجوا عَلَى الْمَنْصُورِ بِالْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ)).
وَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ إِلَى هَذَا الْعَصْرِ مِنْ أَصْحَابِ ((الرَّبِيعِ الْمَاسُونِيِّ)) الَّذِي ضَرَبَ الْأُمَّةَ الْإِسْلَامِيَّةِ فِي مَقْتَلٍ، نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُعَافِيَهَا مِنْ هَذَا بِمَنِّهِ وَفَضْلِهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: ((وَلِهَذَا كَانَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ: أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ الْخُرُوجَ عَلَى الْأَئِمَّةِ وَقِتَالَهَمْ بِالسَّيْفِ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ ظُلْمٌ، كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْمُسْتَفِيضَةُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ فِي الْقِتَالِ وَالْفِتْنَةِ أَعْظَمُ مِنَ الْفَسَادِ الْحَاصِلِ بِظُلْمِهِمْ بِدُونِ قِتَالٍ وَلَا فِتْنَةٍ، فَيُدْفَعُ أَعْظَمُ الْفَسَادَيْنِ بِالْتِزَامِ أَدْنَاهُمَا)).
وَقَدْ نَبَّهَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- إِلَى خُطُورَةِ مُخَالَفَةِ هَذَا الْأَصْلِ، وَذَكَرَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى مُخَالَفَتِهِ، فَقَالَ فِي ((إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ)): ((الْإِنْكَارُ عَلَى الْمُلُوكِ وَالْوُلَاةِ بِالْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ أَسَاسُ كُلِّ شَرٍّ وَفِتْنَةٍ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ.
وَقَدِ اسْتَأْذَنَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- رَسُولَ اللهِ ﷺ فِي قِتَالِ شِرَارِ الْأَئِمَّةِ؛ فَقَالَ: ((مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ))؛ أَيْ: لَا تَفْعَلُوا ذَلِكَ مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَلَاةَ.
قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَفَلَا نُنَابِذُهُمْ بِالسَّيْفِ؟
قَالَ: ((لَا؛ مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ ﷺ: ((مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ، وَلَا يَنْزِعَنَّ يَدًا عَنْ طَاعَةٍ)).
وَمَنْ تَأَمَّلَ مَا جَرَى عَلَى الْإِسْلَامِ فِي الْفِتَنِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ؛ رَآهَا مِنْ إِضَاعَةِ هَذَا الْأَصْلِ، وَعَدَمِ الصَّبْرِ عَلَى مُنْكَرٍ؛ فَطَلَبَ إِزَالَتَهُ؛ فَتَوَلَّدَ مِنْهُ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ)).
فَهَذِهِ حُقُوقُ وَلِيِّ الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ الْإِمَامُ أَوِ الْحَاكِمُ أَوِ الرَّئِيس أَوِ السُّلْطَانُ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَسْمَاءِ وَاتِّحَادِ الْمُسَمَّى، حُقُوقٌ أَحَقَّهَا اللهُ وَشَرَعَهَا عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَمَنْ خَالَفَهَا فَهُوَ ضَالٌّ آثِمٌ، وَإِذَا مَاتَ عَلَى ذَلِكَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً.
وَيَنْبَغِي أَنْ يُعَادَى وَأَنْ يُبْغَضَ فِي اللهِ، وَأَنْ يُدَلَّ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُحَارَبَ بِكُلِّ سَبِيلٍ، وَأَلَّا يُتْرَكَ لِكَيْ يَعِيثَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، فَإِنَّ الْخَطَرَ النَّاجِمَ عَنْهُ أَكْبَرُ بِكَثِيرٍ مِمَّا يُتَصَوَّرُ، كَمَا وَقَعَ وَشَاهَدَهُ النَّاسُ، وَمَا زَالُوا يُعَانُونَ مِنْ آثَارِهِ.
فَاللهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ، وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
((وَسَائِلُ لِتَحْقِيقِ الْإِيجَابِيَّةِ فِي حَيَاةِ الْمُسْلِمِ))
*مِنَ الْوَسَائِلِ النَّافِعَةِ؛ لِيَكُونَ الْمُسْلِمُ إِيجَابِيًّا نَافِعًا فِي مُجْتَمَعِهِ: تَحْقِيقُ الْإِخْلَاصِ:
*فَأَوَّلُ تِلْكَ الْوَسَائِلِ: هُوَ أَنْ نَجْتَهِدَ فِي تَحْقِيقِ الْإِخْلَاصِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ لِأَنَّ الْإِخْلَاصَ هُوَ رُوحُ الْعِبَادَةِ، وَالْإِخْلَاصُ هُوَ رُوحُ الْأَعْمَالِ، وَهُوَ حَقِيقَةُ التَّقْوَى الَّتِي أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَا الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، قَالَ تَعَالَى: {إنما يتقبل الله من المتقين} [المائدة: 27].
*وَمِنَ الْوَسَائِلِ: تَعَلُّمُ الْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ:
عِبَادَ اللهِ! تَعَلَّمُوا وَعَلِّمُوا عَقِيدَةَ أَهْلِ السُّنَّةِ؛ فَهِيَ طَوْقُ النَّجَاةِ، وَهِيَ سَفِينَةُ نُوحٍ، مَنْ رَكِبَهَا نَجَا، وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا غَرِقَ، أَحْسِنُوا فِيمَا هُوَ آتٍ، أَحْسِنُوا فِيمَا بَقِيَ؛ حَتَّى يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ مَا مَضَى، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا أُخِذْتُمْ بِمَا بَقِيَ وَمَا مَضَى عَلَى السَّوَاءِ.
فَالتَّوْحِيدُ مَلْجَأُ الطَّالِبِينَ، وَمَفْزَعُ الْهَارِبِينَ، وَنَجَاةُ الْمَكْرُوبِينَ، وَغِيَاثُ الْمَلْهُوفِينَ، وَحَقِيقَتُهُ إِفْرَادُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ بِالْمَحَبَّةِ وَالْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ، وَالذُّلِّ وَالْخُضُوعِ.
*وَمِنَ الْوَسَائِلِ الْعَظِيمَةِ لِتَحْقِيقِ الْإِيجَابِيَّةِ: الْعُكُوفُ عَلَى كِتَابِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-:
لِنُوَجِّهْ أَنْفُسَنَا إِلَى كِتَابِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَلْنُوَجِّهْ أَهْلِينَا إِلَيْهِ، فَمَا ضَلَّ مَنْ ضَلَّ إِلَّا بِتَرْكِ كِتَابِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ لِأَنَّ التَّزْكِيَةَ لِلنَّفْسِ لَا تَكُونُ إِلَّا بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَبِسُنَّةِ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ ﷺ.
وَعَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُدَاوِمُوا عَلَى ذِكْرِ اللهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يُذِيبُ قَسْوَةَ الْقَلْبِ إِلَّا ذِكْرُ اللهِ، وَلَا يَتَأَتَّى الرِّزْقُ فِي أَحْسَنِ أَحْوَالِهِ إِلَّا بِإِدَامَةِ ذِكْرِ اللهِ.
*مِنْ أَعْظَمِ الْوَسَائِلِ الْمُعِينَةِ عَلَى الْإِيجَابِيَّةِ بِلُزُومِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ: تَحْقِيقُ الْإِيمَانِ:
عِبَادَ اللهِ! كَمْ لِلْإِيمَانِ الصَّحِيحِ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالثَّمَرَاتِ الْعَاجِلَةِ وَالْآجِلَةِ فِي الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ وَالرَّاحَةِ، وَالْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَكَمْ لِهَذِهِ الشَّجَرَةِ الْإِيمَانِيَّةِ مِنَ الثِّمَارِ الْيَانِعَةِ، وَالْجَنَى اللَّذِيذِ، وَالْأُكُلِ الدَّائِمِ، وَالْخَيْرِ الْمُسْتَمِرِّ؛ أُمُورٌ لَا تُحْصَى، وَفَوَائِدُ لَا تُسْتَقْصَى.
وَمُجْمَلُهَا: أَنَّ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَدَفْعَ الشُّرُورِ كُلِّهَا مِنْ ثَمَرَاتِ هَذِهِ الشَّجْرَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الشَّجَرَةَ إِذَا ثَبَتَتْ وَقَوِيَتْ أُصُولُهَا، وَتَفَرَّعَتْ فُرُوعُهَا، وَزَهَتْ أَغْصَانُهَا، وَأَيْنَعَتْ أَفْنَانُهَا؛ عَادَتْ عَلَى صَاحِبِهَا وَعَلَى غَيْرِهِ بِكُلِّ خَيْرٍ عَاجِلٍ وَآجِلٍ.
*مِنْ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ: أَنَّ صَاحِبَ الْإِيمَانِ يَهْدِيهِ اللهُ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَيَهْدِيهِ فِي الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، يَهْدِيهِ إِلَى عِلْمِ الْحَقِّ، وَإِلَى الْعَمَلِ بِهِ، وَإِلَى تَلَقِّي الْمَحَابِّ وَالْمَسَارِّ بِالشُّكْرِ، وَتَلَقِّي الْمَكَارِهِ وَالْمَصَائِبِ بِالرِّضَا وَالصَّبْرِ.
قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} [يونس: 9].
*وَمِنْ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ: حُصُولُ الْفَلَاحِ، الَّذِي هُوَ إِدْرَاكُ غَايَةِ الْغَايَاتِ، فَإِنَّهُ إِدْرَاكُ كُلِّ مَطْلُوبٍ، وَالسَّلَامَةُ مِنْ كُلِّ مَرْهُوبٍ، وَالْهُدَى الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ الْوَسَائِلِ.
كَمَا قَالَ تَعَالَى -بَعْدَ ذِكْرِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ، وَمَا أُنْزِلَ عَلَى مَنْ قَبْلَهُ، وَالْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ، وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، اللَّتَيْنِ هُمَا مِنْ أَعْظَمِ آثَارِ الْإِيمَانِ، قَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5]، فَهَذَا هُوَ الْهُدَى التَّامُّ، وَالْفَلَاحُ الْكَامِلُ.
*وَمِنْ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ: الِانْتِفَاعُ بِالْمَوَاعِظِ وَالتَّذْكِيرُ بِالْآيَاتِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55]، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 77].
*وَمِنْهَا: أَنَّ الْإِيمَانَ يَحْمِلُ صَاحِبَهُ عَلَى الشُّكْرِ فِي حَالَةِ السَّرَّاءِ، وَالصَّبْرِ فِي حَالَةِ الضَّرَّاءِ، وَكَسْبِ الْخَيْرِ فِي كُلِّ أَوْقَاتِهِ.
كَمَا ثَبَتَ فِي ((الصَّحِيحِ)) عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((عَجَبًا لأمرِ المؤمنِ إِنَّ أمْرَه كُلَّهُ خَيْرٌ، إِنْ أصَابتهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيرًا لهُ، وإنْ أصَابتهُ ضَرَّاءُ صَبرَ، فَكَانَ خَيرًا لهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ)).
وَالشُّكْرُ وَالصَّبْرُ هُمَا جِمَاعُ كُلِّ خَيْرٍ، فَالْمُؤْمِنُ مُغْتَنِمٌ لِلْخَيْرَاتِ فِي كُلِّ أَوْقَاتِهِ، رَابِحٌ فِي كُلِّ حَالَاتِهِ.
فَالْإِيمَانُ الصَّادِقُ الصَّحِيحُ يَصْحَبُهُ الْحَيَاءُ مِنَ اللهِ، وَالْحُبُّ لَهُ، وَالرَّجَاءُ الْقَوِيُّ لِثَوَابِهِ، وَالْخَوْفُ مِنْ عِقَابِهِ، وَالنُّورُ الَّذِي يُنَافِي الظُّلْمَةَ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي هِيَ مِنْ مُكَمِّلَاتِ الْإِيمَانِ لَا رَيْبَ أَنَّهَا تَأْمُرُ صَاحِبَهَا بِكُلِّ خَيْرٍ، وَتَزْجُرُهُ عَنْ كُلِّ قَبِيحٍ.
*وَمِنْ وَسَائِلِ تَحْقِيقِ الْإِيجَابِيَّةِ فِي الْحَيَاةِ: الْعِلْمُ:
قَالَ تَعَالَى: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114].
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يَسْأَلَهُ مَزِيدَ الْعِلْمِ، وَكَفَى بِهَذَا شَرَفًا لِلْعِلْمِ أَنْ أَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يَسْأَلَهُ الْمَزِيدَ مِنْهُ)).
*وَمِنْ وَسَائِلِ تَحْقِيقِ الْإِيجَابِيَّةِ: التَّوَكُّلُ وَالْأَخْذُ بِالْأَسْبَابِ:
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِيمَا أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: «أَمَا إِنَّكُمْ لَوْ تَوَكَّلْتُم عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرَزَقَكُمُ اللَّهُ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا، وَتَعُودُ بِطَانًا».
فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَاعِدَتَيْنِ كَبِيرَتَيْنِ فِي أَصْلِ هَذَا الدِّينِ:
*الْأُولَى: هِيَ قَاعِدَةُ التَّوَكُّلِ.
*وَالثَّانِيَةُ: قَاعِدَةُ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ.
وَالْحَدِيثُ يُفْهَمُ فَهْمًا مَضْبُوطًا، وَلَا عُذْرَ لِأَحَدٍ فِي فَهْمِهِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ الْمَغْلُوطِ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ بِنَفْسِهِ فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ؛ فَإِنَّ الطَّيْرَ فِي الْوُكُنَاتِ وَفِي الْأَعْشَاشِ لَا تَبْقَى فِي أَعْشَاشِهَا، وَإِنَّمَا تُبَكِّرُ فِي الذَّهَابِ لِالْتِقَاطِ رِزْقِهَا.
يَقُولُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَوْ تَوَكَّلْتُم عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرَزَقَكُمُ اللَّهُ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو...»: وَالْغُدُوُّ: هُوَ الْخُرُوجُ فِي بُكْرَةِ النَّهَارِ، فَتَغْدُو هَذِهِ الطُّيُورُ مِنْ أَعْشَاشِهَا وَوُكُنَاتِهَا مِنْ أَجْلِ الْتِقَاطِ رِزقِهَا، مُبَكِّرَةً مَعَ خُيُوطِ الْفَجْرِ الْأَوَّلِ، سَاعِيَةً فِي أَرْضِ اللهِ، لَكِنَّهَا لَا تَحْمَلُ لِرِزْقِهَا هَمًّا، وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَرْزُقُهَا كَمَا رَزَقَهَا الْحَيَاةَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْيَا أَحَدٌ مِنْ غَيْرِ رِزْقٍ.
وَالْحَيَاةُ وَالْأَجَلُ يَرْتَبِطَانِ بِالرِّزْقِ ارْتِبَاطًا مُبَاشَرًا، بِحَيْثُ إِنَّهُ لَا يَحْيَا كَائِنٌ حَيٌّ بِغَيْرِ رِزْقٍ، يَقُولُ النَّاسُ: «فُلَانٌ حَيٌّ يُرْزَقُ»، وَلَنْ تَجِدَ أَبَدًا أَنَّ فُلَانًا حَيٌّ لَا يُرْزَقُ، فَارْتِبَاطُ الْأَجَلِ بِالرِّزْقِ أَمْرٌ حَتْمِيٌّ بِصَيْرُورَةٍ تَمْضِي إِلَى الْمَوْتِ، وَحِينَئِذٍ لَا أَجَلَ وَلَا رِزْق.
فَالنَّبِيُّ ﷺ يُبَيِّنُ لَنَا أَنَّ الطُّيُورَ تَغْدُو مُبَكِّرَةً مِنْ أَعْشَاشِهَا، تَطْلُبُ رِزْقَهَا، تَلْتَقِطُهُ فِي جَنَبَاتِ الْأَرْضِ، لَا تَحْمِلُ لَهُ هَمَّا، «خِمَاصًا»: جَمْعُ أَخْمَصٍ، وَهَذَهِ الْحَوَاصِلُ الْخُمْصُ قَدِ الْتَزَقَتْ لُحُومُهَا بِبَعْضِهَا، بِحَيْثُ إِنَّهَا لَا تَحْوِي شَيْئًا، «تَغْدُو خِمَاصًا، وَتَعُودُ بِطَانًا»؛ وَقَدِ امْتَلَأَتْ بُطُونُهَا وَحَوَاصِلُهَا، مِنْ أَيْنَ؟!!
مِنْ رِزْقِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
هَلْ قَدَّرَتْ لِذَلِكَ تَقْدِيرًا؟!!
هَلْ وَضَعَتْ لَهُ خُطَّةً لِلْعَمَلِ مِنْ أَجْلِ اكْتِسَابِهِ؟!!
إِنَّمَا أَخَذَتْ بِالْأَسْبَابِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ مَعَ التَّوَكُّلِ عَلَى رَبِّ الْأَسْبَابِ، بِحَيْثُ إِنَّ الْإِنْسَانَ يَخْرُجُ مِنْ قَيْدِ الرُّبُوبِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِيهِ مَدْخَلٌ، وَيَدْخُلُ فِي أَسْرِ الْعُبُودِيَّةِ، فَهَذَا هُوَ التَّوَكُّلُ، أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ الرُّبُوبِيَّةِ، لَا يَدَّعِي رِزْقًا، وَلَا يَدَّعِي حَوْلًا وَلَا حِيلَةً؛ لِأَنَّ اللهَ هُوَ خَالِقُهُ وَهُوَ رَازِقُهُ، وَهُوَ مَالِكُ أَمْرِهِ، وَنَاصِيتُهُ بِيَدِهِ.
وَهُوَ يَفْعَلُ بِهِ مَا يَشَاءُ عَلَى مُقْتَضَى حِكْمَتِهِ، وَلَا رَادَّ لِقَضَائِهِ فِيهِ، وَلَا رَادَّ لِحُكْمِهِ فِيهِ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ بِمَا يُرِيدُ، وَأَمَّا الْأَخْذُ بِالْأَسْبَابِ فَهَذَا مَوْكُولٌ إِلَى الْعَبْدِ، وَلَا يُعَوِّلُ الْمَرْءُ عَلَى السَّبَبِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَأْخُذُونَ كَثِيرًا بِالْأَسْبَابِ وَلَا يُحَصِّلُونَ شَيْئًا مِنَ النَّتَائِجِ.
*وَمِنْ أَعْظَمِ سُبُلِ تَحْقِيقِ الْإِيجَابِيَّةِ تِجَاهَ الْمُسْلِمِينَ: أَنْ يُحِبَّ الْمُسْلِمُ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ:
عَنْ أَبِي حَمْزَةَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- خَادِمِ رَسُولِ اللهِ ﷺ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وَالْمُرَادُ بِنَفْيِ الْإِيمَانِ: نَفْيُ بُلُوغِ حَقِيقَتِهِ وَنِهَايَتِهِ, كَمَا فِي رِوَايَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ ((لَا يَبْلُغُ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يُحِبَّ لِلنَّاسِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ مِنَ الْخَيْرِ)).
وَقَدْ رَتَّبَ النَّبِيُّ ﷺ دُخُولَ الْجَنَّةِ عَلَى هَذِهِ الْخَصْلَةِ, فَعَنْ يَزِيدَ بْنِ أَسَدٍ الْقَصْرِيِّ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَتُحِبُّ الْجَنَّةَ؟)).
قُلْتُ: نَعَمْ.
قَالَ: ((فَأَحِبَّ لِأَخِيكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)).
فِي الْجُمْلَةِ يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُحِبَّ لِلْمُؤْمِنِينَ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ, وَيَكْرَهَ لَهُمْ مَا يَكْرَهُ لِنَفْسِهِ؛ فَإِنْ رَأَى فِي أَخِيهِ الْمُسْلِمَ نَقْصًا فِي دِينِهِ اجْتَهَدَ فِي إِصْلَاحِهِ.
هَلْ تَرَى أَحَدًا يَفْعَلُ ذَلِكَ -إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ-؟!!
إِذَا رَأَى فِي أَخِيهِ الْمُسْلِمِ نَقْصًا فِي دِينِهِ اجْتَهَدَ فِي إِصْلَاحِهِ, أَيْ فِي إِصْلَاحِ هَذَا النَّقْصِ, وَإِنْ رَأَى فِي غَيْرِهِ فَضِيلَةً فَاقَ بِهَا عَلَيْهِ تَمَنَّى لِنَفْسِهِ مِثْلَهَا, فَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْفَضِيلَةِ دِينِيَّةً كَانَ حَسَنًا. يَعْنِي: أَنْ يَتَمَنَّى ذَلِكَ، وَقَدْ تَمَنَّى النَّبِيُّ ﷺ كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) لِنَفْسِهِ مَنْزِلَةَ الشَّهَادَةِ.
فَبَيَّنَ لَنَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَصْلًا عَظِيمًا يَكْمُلُ الْإِيمَانُ بِهِ, وَتَكْمُلُ بِهِ خِصَالُهُ الْوَاجِبَةُ, أَنْ يُحِبَّ الْمَرْءُ لِأَخِيهِ الْمُؤْمِنِ مَا يُحِبُّهُ لِنَفْسِهِ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا, وَيَكْرَهُ لَهُ مَا يَكْرَهُهُ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا هُوَ مُقْتَضَى الْأُخُوَّةِ الْإِيمَانِيَّةِ.
((ثَمَرَاتُ الْإِيجَابِيَّةِ))
إِنَّ اسْتِقْرَارَ الْأُمَّةِ وَفَلَاحَهَا وَسَعَادَتَهَا يَكُونُ بِالْإِيجَابِيَّةِ وَالِاجْتِهَادِ؛ لِتَحْقِيقِ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى، قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 96].
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ تِلْكَ الْمُجَمَّعَاتِ السَّكَنِيَّةِ الْمُهْلَكَةِ؛ آمَنُوا إِيمَانًا صَحِيحًا صَادِقًا، وَاتَّقَوْا عِقَابَ اللهِ بِأَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ؛ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ بَرَكَاتٍ كَثِيرَاتٍ، وَزِيَادَةِ خَيْرَاتٍ مَعْنَوِيَّةٍ وَمَادِّيَّةٍ تَأْتِيهِمْ مِنْ جِهَةِ السَّمَاءِ وَتَأْتِيهِمْ مِنْ جِهَةِ الْأَرْضِ؛ بِالْمَطَرِ وَالنَّبَاتِ وَالْخَيْرَاتِ، وَالْأَرْزَاقِ وَالسَّلَامَةِ مِنَ الْآفَاتِ.
*فِي السَّلْبِيَّةِ هَلَاكُ الْأَفْرَادِ وَالْمُجْتَمَعَاتِ، وَفِي الْإِيجَابِيَّةِ وَالِاجْتِهَادِ حِفْظُ الْأَفْرَادِ وَرُقِيُّ الْمُجْتَمَعَاتِ وَتَقَدُّمُهَا: قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117].
وَمَا كَانَ رَبُّكَ -يَا رَسُولَ اللهِ- لِيُهْلِكَ أَهْلَ الْقُرَى بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ فِي الدُّنْيَا بِسَبَبِ ظُلْمِهِمُ الْكَبِيرِ، وَالْحَالُ أَنَّ لَدَى كَثِيرٍ مِنْ أَفْرَادِهِمْ الِاسْتِعْدَادَ لِأَنْ يَتَحَوَّلُوا عَنْ طَرِيقِ إِرَادَاتِهِمْ إِلَى الصَّلَاحِ، بِإِصْلَاحٍ مِنْهُمْ لِمَا هُمْ فِيهِ مِنْ فَسَادٍ وَإِفْسَادٍ.
((الْمُسْلِمُ الْإِيجَابِيُّ الْجَادُّ، الْفَائِقُ الْمُمْتَازُ))
الْمُسْلِمُ الْفَائِقُ الْمُسْلِمُ الْمُمْتَازُ الَّذِي يُرِيدُهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ كَيْفًا لَا كَمًّا؛ لِأَنَّ الْغُثَاءَ لَا قِيمَةَ لَهُ فِي الْمُنْتَهَى، وَإِنَّمَا هُمُ الَّذِينَ إِذَا رَفَعُوا الْأَكُفَّ إِلَى السَّمَاءِ فُتِحَتْ لَهُمْ أَبْوَابُهَا، وَإِذَا مَا اسْتَنْصَرُوا اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ نَصَرَهُمْ وَأَعْطَاهُمْ، وَإِذَا مَا طَلَبُوا مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَبَّاهُمْ، وَأَجْزَلَ لَهُمُ الْعَطَاءَ مِنَّةً وَفَضْلًا.
وَهَذَا وَاحِدٌ مِنْهُمْ: مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-، كَانَ يُسْمَّى زَيْنَ الْقُرَّاءِ؛ لِأَنَّ قِرَاءَتَهُ بِتِلَاوَتِهِ لِلْقُرْآنِ كَانَتْ تَنْفُذُ إِلَى الْقُلُوبِ إِلَى الْأَرْوَاحِ مِنْ غَيْرِ حِجَابٍ وَلَا بَوَّابٍ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ بَيْنَ قِرَاءَتِهِ وَالْقُلُوبِ مِنْ حَاجِزِ شَحْمٍ وَلَا لَحْمٍ وَلَا عِظَامٍ، وَإِنَّمَا يُخَاطِبُ الْقُلُوبَ كِفَاحًا.
مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ كَانَ فِي الْجَيْشِ هُنَالِكَ فِي الشَّمَالِ مَعَ الْكُفَّارِ يُجَاهِدُ جِلَادًا فِي سَبِيلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَذَلِكَ الْقَائِدُ الْمُسْلِمُ الْبَطَلُ قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- عَلَى رَأْسِ الْجَيْشِ وَهُوَ أَمِيرُهُ، يَقُولُ: أَيْنَ مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ، لَقَدْ دَنَتْ سَاعَةُ الصِّفْرِ، وَسَوْفَ نَبْدَأُ الْآنَ فِي الْأَمْرِ الْأَكْبَرِ، وَقَدْ لَا نَعُودُ وَلَا يَعُودُ مِنَّا أَحَدٌ، وَإِنَّمَا نَحْنُ ذَاهِبُونَ إِلَى اللهِ، رَاجِعُونَ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، إِلَى رَبِّنَا آيِبُونَ.
يَقُولُ: أَيْنَ مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ؟ فَقَدْ جَدَّ الْجِدُّ، وَاشْتَدُّ الْأَمْرُ، وَدَنَتِ السَّاعَةُ الَّتِي فِيهَا اللِّقَاءُ؟!!
يُقَالُ لَهُ: إِنَّهُ هُنَالِكَ، مُتَّكِئٌ عَلَى رمْحِهِ، يُشِيرُ إِلَى السَّمَاءِ بِأُصْبَعِهِ يَدْعُو رَبَّهُ.
يَقُولُ: لَأُصْبَعُ مُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ فِي الْجَيْشِ أَحَبّ إِلَيَّ مِنْ مِئَةِ أَلْفِ سَيْفٍ شَهِيرٍ بِأَيْدِي مِئَةِ أَلْفِ شَابٍّ طَرِيرٍ.
إِنَّهَا النَّمَاذِجُ الْفَائِقَةُ..
أُمَّةٌ تُرِيدُ الْفَائِقِينَ، تُرِيدُ مَنْ كَانَ فَائِقًا، آخِذًا بِمَنْهَجِ الْعِبَادَةِ عَلَى وَجْهِهِ.
عَبْدَ اللهِ! كُنْ جَادًّا مُتَرَفِّعًا وَلَا تَكُن هَازِلًا، وَلَا تَكُنْ مَائِعًا..
كُنْ جَادًّا مُتَرَفِّعًا..
نَعَمْ.. هَذَا إِمَامُكُمُ الزُّهْرِيُّ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ وَرِضْوَانُهُ- وَهُوَ إِمَامٌ عَلَمٌ، يَدْخُلُ عَلَى هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَهِشَامٌ كَانَ خَلِيفَةَ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ, وَجَلَسَ مَعَهُ مَنْ كَانَ هُنَالِكَ مِنَ الْأَنْجُمِ الزُّهْرِ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ.
فَكَانُوا حَوْلَهُ كَوْكَبَةً مُضِيئَةً فِي رَائِعَةِ الضُّحَى وَفِي وَقْدَةِ الشَّمسِ بَحَرِّهَا, تُكْسَفُ الشُّمُوسُ وَلَا تُكْسَفُ أَنْوَارُهُمْ, وَتَتَوَارَى بِحُجُبِهَا وَلَا تَتَوَارَى أَنْوَارُهُمْ.
وَكَانَ الزُّهْرِيُّ هُنَالِكَ جَالِسًا، وَهِشَامٌ يَرَى لِلْخُصُومَةِ التِي كَانَتْ بَيْنَ بَنِي أُمَيَّةَ وَبَيْنَ الْعَلَوِيِّينَ وَآلِ الْبِيْتِ، وَكَانَ أَمْرُ النِّزَاعِ مَا زَالَ قَائِمًا، كَانَ يَرَى أَنَّ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ -وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ- هَذَا الذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ وَلَهُ الْعَذَابُ الْعَظِيمُ تَوَعُّدًا فِي حَادِثَةِ الْإِفْكِ, كَانَ هِشَامٌ يَرَى أَنَّهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-!!
فَقَالَ لِمَنْ بِجِوَارِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ: مَنْ الذِي تَوَلَّى كِبرَهُ؟
قَالَ: عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ.
فَقَالَ: كَذَبْتَ، إِنَّمَا هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ.
قَالَ: أَمِيرُ الْمُؤمِنِينَ أَدْرَى بِمَا يَقُولُ!!
ثُمَّ قَالَ لِلَّذِي بَعْدَهُ: مَنْ الذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ؟
فَقَالَ: عَبْدُ اللهِ بنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ.
فَقَالَ: كَذَبْتَ، إِنَّمَا هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ.
وَمَرَّ السُّؤَالُ حَتَّى اسْتَقَرَّ عِنْدَ الزُّهْرِيِّ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-، فَقَالَ: مَنْ الذِي تَوَلَّى كِبرَهُ؟
فَقَالَ: عَبْدُ اللهِ بنُ أُبَيِّ بنِ سَلُول.
قَالَ: كَذَبْتَ.
قَالَ: أَنَا أَكْذِبُ لَا أَبَ لَكَ!! وَاللهِ لَوْ نَادَى مُنَادٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَنَّ الْكَذِبَ حَلَالٌ مَا كَذَبْتُ.
جِدٌّ فِي تَرَفُّعٍ، وَتَرَفُّعٌ فِي جِدٍّ؛ لِأَنَّ الْغَايَةَ صَارَتْ مَعْلُومَةً، وَلِأَنَّ الطَّرِيقَ بَاتَ مَكْشُوفًا، وَلِأَنَّ الظَّلَامَ عَادَ مُنْقَشِعًا، وَلِأَنَّ الْغَبَشَ صَارَ مُزَالًا، وَلِأَنَّ الطَّرِيقَ أَصْبَحَتْ وَاضِحَةً, وَلِأَنَّ الْأَقْدَامَ عَلَى الصِّرَاطِ صَارَتْ مُسْتَقِيمَةً، وَلِأَنَّ النَّفْسَ عَادَتْ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالمِينَ الَّذِي خَلَقَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ.
فَقَالَ: حَدَّثَنَا فُلَانٌ, قَالَ حَدَّثَنَا فُلَانٌ حَتَّى بَلَغَ عَائِشَةَ -وَهِيَ صَاحِبَةُ الشَّأنِ فِي حَادِثَةِ الْإِفْك- أَنَّ الَّذِي تَوَلَّى كَبْرَهُ يَوْمَئِذٍ؛ هُوَ عَبْدُ اللهِ بنُ أُبَيِّ بنِ سَلُولٍ.
يَقُولُ هِشَامٌ: قَدْ هَيَّجْنَاكَ فَسَامِحْنَا!! قَدْ هَيَّجْنَاكَ فَسَامِحْنَا!!
جِدٌّ فِي تَرَفُّعٍ، وَتَرَفُّعٌ فِي جِدٍّ, وَلَا زِيَادَةَ وَلَا نُقْصَانَ.
كُنْ جَادًّا مُتَرَفِّعًا، وَلَا تَكُنْ هَازِلًا، وَلَا تَكُنْ مَائِعًا، فَإِنَّ الْوَقْتَ لَا يَحْتَمِلُ, وَإِنَّ الزَّمَانَ لَمْ يَعُدْ بِمُتَّسَعٍ فِيهِ يَحْتَمِلُ، وَإِنَّ الأَمْرَ صَارَ جِدًّا صِرْفًا مَحْضًا لَا مَكَانَ فِيهِ لِلْهَزْلِ وَلَا مَوْضِعَ، فَإِمَّا حَيَاةٌ كَرِيمَةٌ، وَإِمَّا حَيَاةٌ أَذَلُّ مِنْهَا الذُّلُّ ذَاتُهُ.
وَالْإِسْلَامُ يَهِيبُ بِأَبْنَائِهِ؛ أَنْ لَبُّوا دَعْوَةَ الْحَقِّ فَتُوبُوا، تُوبُوا إِلَى اللهِ وَارْجِعُوا, وَإِنْ لَمْ تَكُونُوا عَنِ الْعَقِيدَةِ مُنَافِحِينَ!! فَدَافِعُوا عَنْ أَرْضِكُمْ, وَدَافِعُوا عَنْ عِرْضِكُمْ، وَدَافِعُوا عَنْ شَرَفِكُمْ، وَإِلَّا فَإِنَّ الْمَوْتَ أَوْلَى بِكُمْ، وَأَشْرَفُ لَكُمْ.
وَصَلَّى اللهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ .
المصدر: مَظَاهِرُ الْإِيجَابِيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ