مَنْزِلَةُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَالْمُؤَامَرَةُ عَلَى مِصْرَ الْآنَ!!

مَنْزِلَةُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ رَبِّهِمْ  وَالْمُؤَامَرَةُ عَلَى مِصْرَ الْآنَ!!

((مَنْزِلَةُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ رَبِّهِمْ

وَالْمُؤَامَرَةُ عَلَى مِصْرَ الْآنَ!!))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ أَعْظَمُ الْأَعْمَالِ وَأَزْكَاهَا))

فَقَدِ امْتَحَنَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّلَاةِ وَالسُّجُودِ وَالرُّكُوعِ فَاسْتَجَابُوا طَائِعِينَ, وَامْتَحَنَهُمْ بِالزَّكَاةِ وَدَفْعِ الْمَالِ فَاسْتَجَابُوا طَائِعِينَ, وَامْتَحَنَهُمْ بِالْحَجِّ وَالصَّوْمِ وَتَرْكِ الشَّهَوَاتِ فَلَبَّوْا -كَذَلِكَ- طَائِعِينَ.

ثُمَّ جَاءَ الِامْتِحَانُ الْأَكْبَرُ وَالِاخْتِبَارُ الْأَعْظَمُ، فَكَانَ أَنْ طَلَبَ مِنْهُمْ أَرْوَاحَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ يَبْذُلُونَهَا فِي سَاحَاتِ الْجِهَادِ، فَتَقَدَّمَ أَقْوَامٌ وَتَأخَّرَ آخَرُونَ!

تَأَخَّرَ الْمُنَافِقُونَ: {وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 86].

وَتَقَدَّمَ الصَّادِقُونَ, قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {لَٰكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التوبة: 88].

فَفَرَّقَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِالْجِهَادِ بَيْنَ الصَّادِقِينَ وَالْكَاذِبِينَ, بَيْنَ الْمُحِبِّينَ للهِ وَرَسولِهِ ﷺ وَالْمُدَّعِينَ.

إِنَّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ هُوَ أَعْظَمُ الْأَعْمَالِ وَأَزْكَاهَا, وَهُوَ أَيْسَرُ الطُّرُقِ إِلَى رِضْوَانِ اللهِ تَعَالَى وَالْجَنَّةِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَوْلا أَنْ يَشُقَّ عَلَى المُسلِمِينَ مَا قَعَدْتُ خِلافَ سَرِيَّةٍ, وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي أَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلَ، ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلَ، ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلَ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

وَلَمَّا كَانَ الْجِهَادُ بَذْلَ أَعْظَمِ وَأَنْفَسِ مَا عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ وَهِيَ أَنْفُسُهُمْ يَبْذُلُونهَا دُونَ خَوْفٍ وَلَا تَرَدُّدٍ, وَلَمَّا كَانَ فِيهِ بَذْلُ الْأَمْوَالِ وَتَرْكُ الزَّوْجَاتِ وَالذُّرِّيَّاتِ، وَهَجْرُ الْمَسَاكِنِ وَالْأَوْطَانِ وَالْمَلَذَّاتِ.

وَلَمَّا كَانَ فِيهِ قَتْلُ الْأَنْفُسِ وَإِرَاقَةُ الدِّمَاءِ؛ كَانَ حَرِيًّا بِالشَّرْعِ أَنْ يَضَعَ لَهُ أَعْظَمَ الضَّوَابِطِ وَأَقْوَى الْأَحْكَامِ؛ حَتَّى لَا تُرَاقَ الدِّمَاءُ فِي كُلِّ وَادٍ وَبِكُلِّ سَبِيلٍ, وَحَتَّى لَا يَخْتَلِطَ الْحَابِلُ بِالنَّابِلِ, وَلَا يَدْرِي الْقَاتِلُ فِيمَ قَتَلَ وَلَا الْمَقْتُولُ فِيمَ قُتِلَ.

إِنَّ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَرْوَاحَهُمْ هِيَ أَعْظَمُ شَيْءٍ عِنْدَ اللهِ؛ لِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَزَوَالُ الدُّنيَا أَهوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَقَالَ ﷺ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ: ((مَا أَطْيَبَكِ! وَأَطْيَبَ رِيحَكِ! مَا أَعْظَمَكِ! وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ! وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ, لَحُرْمَةُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ حُرْمَةً مِنْكِ؛ مَالِهِ وَدَمِهِ)).

وَقَدْ بَيَّنَ الدِّينُ الْعَظِيمُ -كِتَابًا وَسُنَّةً- أَنَّ الْجِهَادَ لَيْسَ غَايَةً فِي حَدِّ ذَاتِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ وَسِيلَةٌ.

فَالْجِهَادُ لَيْسَ هَدَفًا فِي ذَاتِهِ وَلَا غَايَةً، إِنَّمَا هُوَ وَسِيلَةٌ لِرَفْعِ رَايَةِ الدِّينِ, وَهُوَ وَسِيلَةٌ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

 ((مَعْنَى الْجِهَادِ وَنَوْعَاهُ وَشُرُوطُهُ))

الْجِهَادُ: مَأْخُوذٌ مِنَ الْجَهْدِ، وَهُوَ التَّعَبُ وَالْمَشَقَّةُ، أَوِ الْجُهْدِ -بِضَمِّ الْجِيمِ وَإِسْكَانِ الْهَاءِ- وَهُوَ بُلُوغُ الطَّاقَةِ.

فَالْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللهِ يُتْعِبُ نَفْسَهُ، وَيَبْذُلُهَا لِطَاعَةِ رَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ رَاجِيًا ثَوَابَهُ، وَطَامِعًا فِي جَنَّتِهِ، يَبِيعُ الْحَيَاةَ الْمَحْدُودَةَ الْمُنَغَّصَةَ بِالْحَيَاةِ الْأُخْرَوِيَّةِ الْخَالِيَةِ مِنَ التَّنْغِيصِ، وَالَّتِي لَيْسَ لَهَا حُدُودٌ وَلَا نِهَايَةٌ.

يُشْتَرَطُ فِي هَذَا الْجِهَادِ:

*أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا عَلَى الْعِلْمِ؛ حَتَّى يَعْلَمَ الْإِنْسَانُ الْأَمْرَ الَّذِي يُجَاهِدُ فِيهِ.

*وَأَنْ يَكُونَ خَالِصًا لِوَجْهِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَالْإِخْلَاصُ فِي ذَلِكَ هُوَ أَعْظَمُ شَرْطٍ فِيهِ.

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا ۖ نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)} [الصف: 10-13].

وَالْجِهَادُ الشَّرْعِيُّ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ، إِلَى:

*جِهَادٍ بِالْعِلْمِ وَاللِّسَانِ.

*وَجِهَادٍ بِالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ.

*فَأَمَّا الْجِهَادُ بِالْعِلْمِ وَاللِّسَانِ: فَهُوَ طَلَبُ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ، وَتَعَلُّمُهُ عَلَى أَيْدِي الْمَشَايِخِ الْمُعْتَبَرِينَ، فَيَأْخُذُونَ ذَلِكَ الْعِلْمَ مِنْ كِتَابِ اللهِ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ﷺ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ.

ثُمَّ يُجَاهِدُ فِي نَشْرِهِ -أَيْ فِي نَشْرِ ذَلِكَ الْعِلْمِ الَّذِي تَعَلَّمَهُ وَحَمَلَهُ-، وَيُجَاهِدُ النَّاسَ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ عَلَيْهِ بِالتَّعْلِيمِ، وَالْخُطَبِ، وَالْمُحَاضَرَاتِ، وَالْكِتَابَةِ.

وَيُجَاهِدُ أَصْحَابَ الِانْحِرَافِ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ الْخَارِجِينَ عَنِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، الْآخِذِينَ بِالْحِزْبِيَّاتِ الْبِدْعِيَّةِ، فَجِهَادُهُمْ بِبَيَانِ أَخْطَائِهِمْ، وَإِظْهَارِ فَسَادِ مُعْتَقَدَاتِهِمْ.

هَذَا كُلُّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ.

وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي: فَهُوَ قِتَالُ الْكُفَّارِ عَلَى نَشْرِ الْإِسْلَامِ بِالْآلَاتِ الْحَرْبِيَّةِ، وَهَذَا أَيْضًا أَعْظَمُ الْجِهَادِ، وَلكِنْ لَهُ شُرُوطٌ:

تَقَدَّمَ ذِكْرُ:

*الْعِلْمِ.

*وَالْإِخْلَاصِ.

*وَأَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْجِهَادُ عَلَى الطَّرِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ، بِأَنْ يَكُونَ تَحْتَ رَايَةِ إِمَامِ مُسْلِمٍ؛ لِأَنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قَالَ مُبَيِّنًا هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ مِنَ الْجِهَادِ: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122].

فَهَذِهِ الْآيَةُ شَمَلَتِ النَّوْعَيْنِ: الْجِهَادَ بِالْعِلْمِ وَاللِّسَانِ، وَالْجِهَادَ بِالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ.

الْجِهَادُ بِالنَّفْسِ؛ كِلَا الْجِهَادَيْنِ مُتَرَتِّبٌ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَفَرَّغَ لِطَلَبِ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ وَمَعْرِفَتِهِ وَإِتْقَانِهِ، ثُمَّ يُجَاهِدُ فِي نَشْرِهِ، وَيُجَاهِدُ مَنْ خَالَفَهُ، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَأْتِيَ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ إِلَّا بِجِهَادِ النَّفْسِ.

وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجَاهِدَ بِالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ -أَيْ بِالسِّلَاحِ وَالْعَتَادِ- وَذَلِكَ يَكُونُ فِي كُلِّ زَمَانٍ بِحَسَبِهِ- لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِلَّا بِجِهَادِ النَّفْسِ أَيْضًا.

*رَسُولُ اللهِ ﷺ كَانَ فِي الذُّرْوَةِ الْعُلْيَا مِنَ الْجِهَادِ:

لَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي الذُّرْوَةِ الْعُلْيَا مِنَ الْجِهَادِ، فَجَاهَدَ فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ بِالْقَلْبِ، وَبِالْبَيَانِ، وَبِالسِّنَانِ.

وَكَانَتْ حَيَاتُهُ ﷺ مَوْقُوفَةً عَلَى الْجِهَادِ بِقَلْبِهِ، وَلِسَانِهِ، وَيَدِهِ، وَأَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى بِالْجِهَادِ بِالْبَيَانِ مِنْ حَيْثُ بَعَثَهُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيرًا * فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان: 51-52].

فَهَذِهِ سُورَةٌ مَكِيَّةٌ أُمِرَ فِيهَا بِجِهَادِ الْكُفَّارِ بِالْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ وَتَبْلِيغِ الْقُرْآنِ، وَكَذَلِكَ جِهَادُ الْمُنَافِقِينَ إِنَّمَا هُوَ بِتَبْلِيغِ الْحُجَّةِ، وَإِلَّا فَهُمْ تَحْتَ قَهْرِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ۚ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التحريم: 9].

((فَضَائِلُ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ))

فَهَذِهِ جُمْلَةٌ مِنْ فَضَائِلِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَبُشْرَيَاتٍ لِجُنُودِنَا الْمُرَابِطِينَ الْمُدَافِعِينَ عَنْ مِصْرِنَا الْإِسْلَامِيَّةِ:

*مِنْ فَضَائِلِ الْجِهَادِ: أَنَّهُ سَبَبٌ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ:

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ فِي بَعْضِ أَيَّامِهِ الَّتِي لَقِيَ فِيهَا الْعَدُوَّ، انْتَظَرَ حَتَّى زَالَتِ الشَّمْسُ، قَامَ فِيهِمْ، فَقَالَ: ((أَيُّهَا النَّاسُ! لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَاسْأَلُوا اللهَ الْعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِروُا، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ)).

ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((اللهم مُنْزِلَ الْكِتَابِ، وَمُجْرِيَ السَّحَابِ، وَهَازِمَ الْأَحْزَابِ، اهْزِمْهُمْ، وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ)) .

 ((فِي بَعْضِ أَيَّامِهِ)): أَيْ فِي بَعْضِ حُرُوبِهِ، وَالْحَرْبُ يُسَمَّى يَوْمًا وَإِنِ اسْتَغْرَقَ أَيَّامًا.

((انْتَظَرَ)): أَيْ تَأَخَّرَ إِلَى مَا بَعْدَ الزَّوَالِ.

أَخْبَرَ عَبْدُ اللهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَقِيَ الْعَدُوَّ فِي بَعْضِ أَيَّامِهِ، فَانْتَظَرَ وَلَمْ يَبْدَأْ بِالْقِتَالِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ زَالَتِ الشَّمْسُ، وَلَمَّا زَالَتِ الشَّمْسُ قَامَ فِيهِمْ -وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَعْدَ الصَّلَاةِ- قَامَ فِيهِمْ خَطِيبًا، فَنَهَاهُمْ عَنْ تَمَنِّي لِقَاءِ الْعَدُوِّ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِعْجَابِ بِالنَّفْسِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْأَلُوا اللهَ الْعَافِيَةَ.

ثُمَّ قَالَ ﷺ: ((فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا)): أَيْ إِنْ حَقَّقَ اللهُ ذَلِكَ، وَابْتُلِيتُمْ بِلِقَاءِ الْعَدُوِّ فَاصْبِرُوا عِنْدَ ذَلِكَ، وَاتْرُكُوا الْجَزَعَ، وَاعْلَمُوا أَنَّ لَكُمْ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ؛ إِمَّا أَنْ يُظْفِرَكُمُ اللهُ بِعَدَوِّكُمْ، وَتَكُونَ لَكُمُ الْغَلَبَةُ، وَيَجْمَعَ اللهُ لَكُمْ بَيْنَ قَهْرِ الْعَدُوِّ فِي الدُّنْيَا وَالثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ تُغْلَبُوا بَعْدَ أَنْ بَذَلْتُمُ الْمَجْهُودَ فِي الْجِهَادِ، فَيَكُونُ لَكُمُ الثَّوَابُ الْأُخْرَوِيُّ.

((وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ)): فَيَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِذَلِكَ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ.

ثُمَّ دَعَا النَّبِيُّ ﷺ رَبَّهُ بِشَرْعِهِ الْمُنَزَّلِ، وَبِقُدْرَتِهِ الْكَامِلَةِ عَلَى إِجْرَاءِ السَّحَابِ، وَعَلَى أَنْ يَهْزِمَ الْأَحْزَابَ، دَعَاهُ ﷺ أَنْ يَنْصُرَ سُبْحَانَهُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى عَدُوِّهِمْ.

*مِنْ فَضَائِلِ الْجِهَادِ: أَنَّهُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا:

وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَمَوْضِعُ سَوْطِ أحَدِكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ خَيرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا الْعَبْدُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَالْغَدْوَةُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا)) .

((الرِّبَاطُ)): مُرَاقَبَةُ الْعَدُوِّ فِي الثُّغُورِ الْمُتَاخِمَةِ لِبِلَادِ الْمُسْلِمِينَ.

أَوْ مُلَازَمَةُ الْمَكَانِ الَّذِي بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ -أَيِ الثُّغُورِ-؛ لِحِرَاسَةِ الْمُسْلِمِينَ وَدِيَارِهِمْ، وَلِمُرَاقَبَةِ عَدُوِّهِمْ.

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200].

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟)).

قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ.

قَالَ: ((إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكْثَرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ)) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُ.

فَالرِّبَاطُ: الْمُثَابَرَةُ عَلَى الْعَمَلِ وَالدَّأَبِ فِيهِ، وَهُوَ إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الصَّلَاةِ؛ لِأَدَائِهَا وَانْتِظَارِ الصَّلَاةِ.

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا)): أَيْ أَنَّ الْمُقَامَ فِي حُدُودِ الْعَدُوِّ مِنَ الْكُفَّارِ؛ رَصْدًا لِحَرَكَاتِهِ، وَحِرَاسَةً لِمَنْ يَكُونُ حَوْلَهُ وَقَرِيبًا مِنْهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، رِبَاطُ يَوْمٍ بِهَذِهِ النِّيَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا.

((وَمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا)): هَذَا الْمِقْدَارُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَمَعْلُومٌ تَفْضِيلُ مَوْضِعِ السَّوْطِ فِي الْجَنَّةِ عَلَى الدُّنْيَا بِأَكْمَلِهَا.

((وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا الْعَبْدُ فِي سَبِيلِ اللهِ)): الذَّهَابُ مِنْ بَعْدِ الظُّهْرِ فِي عَمَلِ الْخَيْرِ، كَمَنْ يَذْهَبُ لِطَلَبِ الْعِلْمِ، أَوْ لِتَعْلِيمِ قَوْمٍ وَإِرْشَادِهِمْ، أَوْ لِقِتَالِ الْكُفَّارِ، أَوْ لِأَيِّ أَمْرٍ فِيهِ صَلَاحٌ لِلدِّينِ.

((وَالْغَدْوَةُ)): إِذَا غَدَا مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إِلَى وَسَطِهِ، ((خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا)).

فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ مُقَامَ يَوْمٍ فِي الرِّبَاطِ، أَوْ مُقَامَ غَدْوَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَوْ أَنْ يَغْدُوَ الْإِنْسَانُ فِي سَبِيلِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَأَنَّ مَوْضِعَ سَوْطٍ أَحَدِنَا فِي الْجَنَّةِ -أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُدْخِلَنَا جَمِيعًا جَنَّةَ الْخُلْدِ، وَأَنْ يَجْعَلَنَا فِي الْفِرْدَوْسِ الْأَعْلَى مِنَ الْجَنَّةِ إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ- كُلُّ ذَلِكَ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْجَنَّةَ بَاقِيَةٌ وَالدُّنْيَا فَانِيَةٌ، وَقَلِيلُ الْبَاقِي خَيْرٌ مِنْ كَثِيرِ الْفَانِي.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((انْتَدَبَ اللهُ -وَلِمُسْلِمٍ: تَضَمَّنَ اللهُ- لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ، لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا جِهَادٌ فِي سَبِيلِي، وَإِيمَانٌ بِي، وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي، فَهُوَ عَلَيَّ ضَامِنٌ أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ أُرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ، نَائِلًا مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ)) .

وَلِلْبُخَارِيِّ: ((مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِهِ، كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ، وَتَوَكَّلَ اللهُ لِلْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِهِ بِأَنْ تَوَفَّاهُ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ يُرْجِعَهُ سَالِمًا مَعَ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ)).

((تَضَمَّنَ اللهُ))، وَفِي رِوَايَةٍ: ((تَكَفَّلَ اللهُ))، وَفِي رِوَايَةٍ: ((تَوَكَّلَ اللهُ))، وَفِي رِوَايَةٍ: ((انْتَدَبَ اللهُ)): كُلُّهَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ تَحْقِيقُ الْمَوْعُودِ، وَمَا ضَمِنَ فِيهِ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَهُوَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ، وَنَحْنُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ؛ لِأَنَّهُ تَكَفَّلَ فِيهِ الْقَادِرُ الَّذِي لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ.

ضَامِنٌ: بِمَعْنَى مَضْمُونٌ، نَحْوَ عِيشَةٌ رَاضِيَةٌ؛ أَيْ مَرْضِيَةٌ.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ: ضَمَانٌ مِنَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا جِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ.

وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا مُخْلِصًا، فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللهِ فِي وَاحِدٍ مِنْ ثَلَاثَةٍ أَوِ اثْنَتَيْنِ، مِنْهَا:

فَإِنْ قُتِلَ؛ فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ.

وَإِنْ بَقِيَ فَقَدْ تَضَمَّنَ اللهُ أَنْ يُرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ بِمَا نَالَهُ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ؛ أَيْ مِنْ أَجْرٍ بِدُونِ غَنِيمَةٍ، أَوْ يَجْمَعُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَهُ بَيْنَ الْغَنِيمَةِ وَالْأَجْرِ.

وَقَالَ ﷺ: ((مَثَلُ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الْقَانِتِ بِآيَاتِ اللهِ، لَا يَفْتُرُ مِنْ صِيَامٍ وَلَا صَلَاةٍ حَتَّى يَرْجِعَ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَتَوَكَّلَ اللهُ لِلْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِهِ بِأَنْ يَتَوَفَّاهُ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ يُرْجِعَهُ سَالِمًا مَعَ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((غَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ)) .

فِي هَذَا الْحَدِيثِ: فَضْلُ الْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

((خَيْرٌ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَغرَبَتْ)): يَعْنِي هُوَ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا.

وَ((الْغَدْوْةُ)): الْخُرُوجُ مِنَ الْغُدُوِّ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الصُّبْحِ إِلَى الزَّوَالِ.

وَ((الرَّوْحَةُ)): هِيَ الْخُرُوجُ فِي الرَّوَاحِ مَا بَيْنَ الزَّوَالِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ.

فَتِلْكَ الْغَدْوَةُ أَوِ الرَّوْحَةُ الَّتِي يَأْتِي بِهَا الْعَبْدُ فِي سَبِيلِ اللهِ، مُخْلِصًا للهِ، وَعَمَلُهُ مُوَافِقٌ لِشَرْعِ اللهِ،  تِلْكَ الْغَدْوَةُ أَوِ الرَّوْحَةُ خَيْرٌ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ أَوْ غَرَبَتْ.

فَفِي هَذَا تَفْضِيلٌ لَهَا عَلَى جَمِيعِ مَتَاعِ الدُّنْيَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْقُصُورِ وَالْمَزَارِعِ، وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَمِنْ مَتَاعِهَا كَالنِّسَاءِ وَمَا أَشْبَهَ.

فَتِلْكَ الْغَدْوَةُ أَوِ الرَّوْحَةُ خَيْرٌ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ أَوْ غَرَبَتْ، مِنْ مَشْرِقِهَا إِلَى مَغْرِبِهَا، فَسُبْحَانَ مَنْ لَا يُقَادَرُ قَدْرُ فَضْلِهِ، وَمَنْ هُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((غَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

*وَمِنْ فَضَائِلِ الْجِهَادِ: أَنَّ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ فِي الدَّرَجَاتِ الْعُلَى مِنَ الْجَنَّةِ:

وقال ﷺ: ((إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، أَعَدَّهَا اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ؛ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَأَعْلَى الْجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ)) . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وقَالَ ﷺ ‏ِلَأَبِي سَعِيدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ)).‏

قَالَ: فَعَجِبَ لَهَا أَبُو سَعِيدٍ، فَقَالَ: أَعِدْهَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ،‏ فَفَعَلَ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((وَأُخْرَى يَرْفَعُ اللهُ بِهَا الْعَبْدَ مِائَةَ دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ))‏.‏

قَالَ: مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟

قَالَ: ‏((الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

وَقَالَ ﷺ: ((مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ دُعِيَ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ: يَا عَبْدَ اللَّهِ! هَذَا خَيْرٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ)).

فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ، مَا عَلَى مَنْ دُعِيَ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ، فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ كُلِّهَا؟

قَالَ: ((نَعَمْ، وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

لَيْسَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ مَنْ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ مَثَلًا أَلَّا يَكُونَ لَهُ صِيَامٌ، وَأَلَّا يَكُونَ لَهُ جِهَادٌ، أَوْ مَنْ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصِّيَامِ فَإِنَّهُ لَا صَدَقَةَ لَهُ، وَلَا جِهَادَ وَلَا خَيْرَ، وَلَكِنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْحَالُ الَّذِي تَخَصَّصَ بِهِ الْبَابُ.

فَإِذَا غَلَبَ عَلَيْهِ الصِّيَامُ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصِّيَامِ -مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ-، وَإِذَا غَلَبَتْ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ مَعَ مَا وَرَاءَ الصَّدَقَةِ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ لَا مَحَالَةَ، دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ.

وَقَالَ ﷺ: ((مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللهِ، حَرَّمَهُ اللهُ عَلَى النَّارِ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَقَالَ ﷺ: ((رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا)) .

وَقَالَ ﷺ: ((مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْز، وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِغَزْوٍ، مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

 ((أَهْدَافُ الْجِهَادِ السَّامِيَةِ))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْجِهَادَ شُرِعَ لِحِمَايَةِ دَعْوَةِ الْحَقِّ الْقَائِمَةِ عَلَى الْإِقْنَاعِ وَالْعَدْلِ، وَرَدِّ الظُّلْمِ الْمُوَجَّهِ إِلَى حَامِلِيهَا بِإِنْقَاذِ الْبَشَرِيَّةِ مِنْ ضَلَالِهَا وَكُفْرَانِهَا.

{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)} [الحج: 39-41].

لَقَدْ شُرِعَ الْجِهَادُ لِدَفْعِ الْفِتْنَةِ الَّتِي تَمْنَعُ النَّاسَ مِنْ سَمَاعِ صَوْتِ الْحَقِّ، وَتُشَوِّهُ الْحَقَائِقَ لِتَصُدَّ النَّاسَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، فَإِنَّ الْقِتَالَ إِنَّمَا هُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ، لَا فِي سَبِيلِ اكْتِسَابِ الْأَمْجَادِ، وَلَا لِلِاسْتِعْلَاءِ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَلَا فِي سَبِيلِ مَغْنَمٍ، وَلَا فِي سَبِيلِ سِيَادَةِ جِنْسٍ عَلَى جِنْسٍ.

{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ۚ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ۚ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ ۖ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ۗ كَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ۖ فَإِنِ انتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)} [البقرة: 190-193].

وَشُرِعَ الْجِهَادُ لِلْقَضَاءِ عَلَى سُلْطَةِ الْعَنَاصِرِ الْفَاسِدَةِ فِي ذَاتِهَا، وَالْمُفْسِدَةِ لِغَيْرِهَا؛ حَيْثُ تَحْمِلُ السِّلَاحَ فِي وَجْهِ الْحَقِّ، وَفِي طَرِيقِ الْعَدْلِ، وَتُخْرِجُ النَّاسَ مِنْ أَوْطَانِهِمْ وَدِيَارِهِمْ، وَتَسْلُبُ مِنْهُمْ مُمْتَلَكَاتِهِمْ، وَتَهْدِمُهَا عَلَيْهِمْ؛ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا.

وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الْجِهَادِ قَتْلُ الْأَبْرِيَاءِ مِنَ الْأَطْفَالِ وَالنِّسَاءِ وَالشُّيُوخِ وَالْعُبَّادِ وَالَّذِينَ لَمْ يُشَارِكُوا فِي الْمَعْرَكَةِ، وَالنَّبِيُّ ﷺ كَانَ يُوصِي قُوَّادَهُ بِذَلِكَ إِذَا أَرْسَلَهُمْ فِي سَرِيَّةٍ يَغْزُونَ بِهَا، وَيُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ.

الْجِهَادُ يَحْتَرِمُ الْعُهُودَ وَالْمَوَاثِيقَ، وَيُحَرِّمُ الْغَدْرَ، وَيُحَرِّمُ الْخِيَانَةَ.

وَيَقُولُ تَعَالَى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58].

{فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ} أَيْ: أَعْلِمْهُمْ أَنَّ الْعَهْدَ الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ قَدِ انْتَهَى، لَا غَدْرَ، وَلَا خِيَانَةَ، وَلَا كَيْدَ، وَلَا اعْتِدَاءَ!!

أَعْلِمْهُمْ أَنَّ الْعَهْدَ الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ قَدِ انْتَهَى؛ لِيَصِلَهُمُ الْأَمْرُ عَلَى وُضُوحٍ تَامٍّ، لَا تَغْدِرْ بِهِمْ، لَا تَهْجِمْ عَلَيْهِمْ وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ عَلَى الْعَهْدِ بَاقُونَ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِنَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَنْ يَغْدِرَ، وَلَيْسَ مِنْ خُلُقِ أَتْبَاعِهِ الْخُلَّصِ الَّذِينَ يَتَمَسَّكُونَ بِهَدْيِهِ، وَيَسِيرُونَ عَلَى نَهْجِهِ، وَيَقْتَفُونَ أَثَرَهُ -صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِمْ-.

فَهَكَذَا الدُّعَاةُ الَّذِينَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، يَنْشُرُونَ عِلْمَهُمْ، وَيُبَلِّغُونَ سُنَّتَهُمْ، لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا مَا لَمْ يَفْعَلْهُ قُدْوَتُهُمْ وَأُسْوَتُهُمْ مُحَمَّدٌ ﷺ.

((مَنْزِلَةُ الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- ))

يَتَرَتَّبُ عَلَى الْجِهَادِ: الشَّهَادَةُ.

وَالشَّهِيدُ: هُوَ الَّذِي قُتِلَ بَاذِلًا دَمَهُ وَنَفْسَهُ مِنْ أَجْلِ اللهِ، يُعَوِّضُهُ اللهُ بِهَذِهِ الْحَيَاةِ الْفَانِيَةِ حَيَاةً أَبَدِيَّةً لَا نِهَايَةَ لَهَا، وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي الْبَرْزَخِ -أَيْ قَبْلَ الْقِيَامَةِ-، وَفِي الْجَنَّةِ بَعْدَ الْقِيَامَةِ.

قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169].

وَلَا تَظُنَّنَّ يَا رَسُولَ اللهِ، وَيَا كُلَّ مُؤْمِنٍ مِنْ أُمَّتِهِ، أَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا كَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يُقْتَلْ فِي سَبِيلِ اللهِ، بَلْ هُمْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ فِي مَحَلِّ كَرَامَتِهِ وَفَضْلِهِ، يُرْزَقُونَ، وَيَأْكُلُونَ، وَيَتَنَعَّمُونَ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ وَتُحَفِهَا.

إِنَّهُمْ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَانُوا رِجَالًا صَابِرِينَ، إِنَّهُمْ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الَّتِي يَحْيَوْنَهَا يَشْعُرُونَ بِسَعَادَةٍ عَظِيمَةٍ بِمَا أَعْطَاهُمُ اللهُ مِنَ الثَّوَابِ وَالْكَرَامَةِ فِي دَارِ النَّعِيمِ.

{فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)} [آل عمران: 170].

وَهُمْ يَفْرَحُونَ بِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ تَرَكُوهُمْ أَحْيَاءً فِي الدُّنْيَا عَلَى مَنْهَجِ الْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ؛ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ إِذَا اسْتُشْهِدُوا فِي سَبِيلِ الله مُخْلِصِينَ لَهُ لَحِقُوا بِهِمْ، وَنَالُوا مِنَ الْكَرَامَةِ مِثْلَ الَّذِينَ نَالُوهُ، وَأَنَّهُمْ لَا خَوْفَ مُسَلَّطٌ عَلَيْهِمْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ، وَلَا يَحْزَنُونَ عَلَى مَا فَاتَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا.

وَقَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111].

إِنَّ اللهَ اشْتَرَى شِرَاءً جَازِمًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمُ الَّتِي خَلَقَهَا، وَأَمْوَالَهُمُ الَّتِي رَزَقَهُمْ إِيَّاهَا، بِأَنْ يَبْذُلُوا طَائِعِينَ مُخْتَارِينَ الْمَالَ؛ لِإِعْدَادِ وَسَائِلِ الْجِهَادِ، وَنَشْرِ الْإِسْلَامِ فِي الْأَرْضِ، وَيَبْذُلُوا النُّفُوسَ لِلْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَقَمْعِ الْكَفَرَةِ الْمُحَارِبِينَ لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، مُقَابِلَ ثَمَنٍ يَدْفَعُهُ لَهُمْ جَزْمًا هُوَ الْجَنَّةُ.

يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ؛ لِإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ، وَإِظْهَارِ دِينِهِ، فَيَقْتُلُونَ أَعْدَاءَ اللهِ، وَيُسْتَشْهَدُونَ فِي سَبِيلِهِ، ذَلِكَ الْوَعْدُ الَّذِي وَعَدَهُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُجَاهِدِينِ فِي سَبِيلِهِ قَدْ أَثْبَتَهُ اللهُ فِي التَّوْرَاةِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَفِي الْإِنْجِيلِ الْمُنَزَّلِ عَلَى عِيسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، كَمَا أَثْبَتَهُ فِي الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ.

وَلَا أَحَدَ أَوْفَى بِالْعَهْدِ مِنَ اللهِ لِمَنْ وَفَّى بِمَا عَاهَدَ اللهَ عَلَيْهِ، فَافْرَحُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ الْمُبَايِعُونَ، وَاسْتَمْتِعُوا بِالسُّرُورِ الَّذِي يَنْزِلُ بِكُمْ؛ بِسَبَبِ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ فِي الْجَنَّةِ الَّذِي تَنَالُونَهُ عِوَضًا عَمَّا تَبْذُلُونَهُ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ رَبَّكُمْ.

وَذَلِكَ الْعِوَضُ الرَّفِيعُ الْمَنْزِلَةِ هُوَ وَحْدَهُ الرِّبْحُ الْكَبِيرُ، وَالظَّفَرُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا يُسَاوِيهِ وَلَا يَفُوقُهُ فَوْزٌ آخَرُ.

*رِيحُ دَمِ الشَّهِيدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رِيحُ الْمِسْكِ:

((عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَا مِنْ مَكْلُومٍ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللهِ إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَكَلْمُهُ يَدْمَى، اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ)) .

((مَا مِنْ مَكْلُومٍ)): مَجْرُوحٍ، ((يُكْلَمُ)): يُجْرَحُ، ((فِي سَبِيلِ اللهِ)): يَعْنِي بِنِيَّةٍ خَالِصَةٍ للهِ، وَبَذْلِ النَّفْسِ؛ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ.

((إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَكَلْمُهُ يَدْمَى)): أَيْ وَجُرْحُهُ يَثْعُبُ مِنْهُ الدَّمُ، وَيَسِيلُ كَهَيْئَتِهِ حِينَ جُرِحَ.

((اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ)): اللَّوْنُ أَحْمَرُ كَلَوْنِ الدَّمِ، وَلَكِنَّ الرِّيحَ رِيحُ الْمِسْكِ وَلَيْسَ بِرِيحِ دَمٍ.

أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّهُ مَا مِنْ مَكْلُومٍ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللهِ، بِأَنْ كَانَ مُخْلِصًا للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، بَاذِلًا نَفْسَهُ لِرَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، طَائِعًا رَاجِيًا مِنَ اللهِ ثَوَابَهُ، خَائِفًا مِنْ عِقَابِهِ، إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجُرْحُهُ يَدْمَى -يَسِيلُ مِنْهُ الدَّمُ- كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ جُرِحَ، اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ.

وَهَذَا فِيهِ فَضِيلَةُ مَنْ يُجْرَحُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَأَنَّ رَائِحَةَ دَمِهِ تَنْتَشِرُ فِي الْمَوْقِفِ، فَيَشُمُّهَا النَّاسُ جَمِيعًا كَأَنَّهَا رَائِحَةُ الْمِسْكِ.

فَيُشْتَرَطُ لِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَمَا مَعْنَى فِي سَبِيلِ اللهِ؟

أَنْ يَكُونَ مُخْلِصًا للهِ فِي الْعَمَلِ الَّذِي أَوْجَبَ جُرْحَهُ، وَأَنْ يَكُونَ عَمَلُهُ صَوَابًا عَلَى مَا شَرَعَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ.

فَإِذَا كَانَتِ النِّيَّةُ مَدْخُولَةً، أَوْ كَانَ الْعَمَلُ عَلَى غَيْرِ صَوَابٍ عَلَى السُّنَّةِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ كَلْمُهُ كَذَلِكَ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِهِ)) .

يُعْلَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ الَّذِينَ يَقْتُلُونَ أَنْفُسَهُمْ بِمَا يُسَمُّونَهُ بِالْعَمَلِيَّاتِ الِاسْتِشْهَادِيَّةِ -وَهِيَ لَيْسَتْ بِاسْتِشْهَادِيَّةٍ، وَإِنَّمَا هِيَ عَمَلِيَّاتٌ انْتِحَارِيَّةٌ، وَكَذَلِكَ مَا يَأْتِي بِهِ الْخَوَارِجُ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ؛ بِإِزْهَاقِ الْأَرْوَاحِ الْبَرِيئَةِ، وَسَفْكِ الدِّمَاءِ الْمَعْصُومَةِ، وَإِتْلَافِ الْأَمْوَالِ الْمُحَرَّمَةِ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ وَلَا هُدًى- يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا أَنَّ عَمَلَهُمْ بَاطِلٌ، وَهُوَ مُوجِبٌ لِغَضَبِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَلَيْسَ بِمُوجِبٍ لِرِضَاهُ -كَمَا زَعَمُوا-.

وَلِهَذَا فَلْيَتَّقُوا اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي أَنْفُسِهِمْ، وَلْيَتَّقِ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الَّذِينَ يُفْتُونَهُمْ بِجَوَازِ مَا عَمِلُوا مِنَ الْإِفْسَادِ، وَلْيَعْلَمُوا أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِخَافٍ عَلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الَّذِي لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ.

قَالَ ﷺ: ((إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَكَلْمُهُ يَدْمَى)): يَنْزِلُ مِنْهُ الدَّمُ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ جُرِحَ.

فَمَا هُوَ السَّبَبُ فِي تَغَيُّرِ رَائِحَةِ الدَّمِ -وَإِنْ كَانَ اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ؟

السَّبَبُ طِيبُ النِّيَّةِ، فَكَمَا طَيَّبَ نِيَّتَهُ طَيَّبَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- رَائِحَةَ دَمِهِ، فَقَدْ بَذَلَ نَفْسَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَامْتَثَلَ الْأَمْرَ، وَكَانَتْ نِيَّتُهُ طَيِّبَةً، فَطَيَّبَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- رَائِحَةَ الدَّمِ، وَتِلْكَ الرَّائِحَةُ الْحَسَنَةُ يَسْتَدِلُّ بِهَا مَنْ شَمَّهَا عَلَى حُسْنِ عَمَلِ صَاحِبِهَا، وَطِيبِ نِيَّتِهِ، وَإِخْلَاصِهِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

يُرِيدُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يُظْهِرَ شَرَفَ مَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَجَعَلَ الدَّمَ بِلَوْنِهِ، وَجَعَلَ الرَّائِحَةَ رَائِحَةَ الْمِسْكِ، يَعْلَمُ ذَلِكَ أَهْلُ الْمَوْقِفِ)) .

*هَلْ يُحْكَمُ لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ بِالشَّهَادَةِ؟

هَلْ يُقَالُ: فُلَانٌ شَهِيدٌ؟

عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ خَطَبَ، فَقَالَ: ((تَقُولُونَ فِي مَغَازِيكُمْ -يَعْنِي فِي غَزَوَاتِكُمْ- تَقُولُونَ: فُلَانٌ شَهِيدٌ! وَمَاتَ فُلَانٌ شَهِيدًا! وَلَعَلَّهُ قَدْ يَكُونُ قَدْ أَوْقَرَ رَاحِلَتَهُ -يَعْنِي حَمَّلَهَا وِقْرًا، وَالْوِقْرُ هُوَ الْحِمْلُ الثَّقِيلُ- أَلَا لَا تَقُولُوا ذَلِكُمْ، وَلَكِنْ قُولُوا كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ مَاتَ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ قُتِلَ فَهُوَ شَهِيدٌ)) . وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.

وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنِ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً، وَيُقَاتِلُ رِيَاءً أَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)). مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ.

وَقَالَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((بَابٌ: لَا يُقَالُ فُلَانٌ شَهِيدٌ)).

وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ((اللهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِهِ، وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ))؛ أَيْ يُجْرَحُ فِي سَبِيلِهِ.

وَقَالَ الْإِمَامُ الطَّحَاوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي بَيَانِ عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: ((وَنَرَى الصَّلَاةَ خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، وَعَلَى مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ، وَلَا نُنْزِلُ أَحَدًا مِنْهُمْ جَنَّةً وَلَا نَارًا، وَلَا نَشْهَدُ عَلَيْهمْ بِكُفْرٍ وَلَا بِشِرْكٍ وَلَا بِنِفَاقٍ مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَنَذَرُ -أَيْ نَتْرُكُ- سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللهِ تَعَالَى)).

قَالَ ابْنُ أَبِي الْعِزِّ الْحَنَفِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي شَرْحِ تِلْكَ الْعَقِيدَةِ -عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ-: ((يُرِيدُ الطَّحَاوِيُّ: أَنَّا لَا نَقُولُ عَنْ أَحَدٍ مُعَيَّنٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَوْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، إِلَّا مَنْ أَخْبَرَ الصَّادِقُ ﷺ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ كَالْعَشَرَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-.

وَإِنْ كُنَّا نَقُولُ: إِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مَنْ شَاءُ اللَّهُ إِدْخَالَهُ النَّارَ، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْهَا بِشَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ، وَلَكِنَّا نَقِفُ فِي الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ، فَلَا نَشْهَدُ لَهُ بِجَنَّةٍ وَلَا نَارٍ إِلَّا عَنْ عِلْمٍ؛ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ بَاطِنَةٌ، وَمَا مَاتَ عَلَيْهِ لَا نُحِيطُ بِهِ، لَكِنْ نَرْجُو لِلْمُحْسِنِ، وَنَخَافُ عَلَى الْمُسِيئِينَ)).

 ((مُحَارَبَةُ الْخَوَارِجِ وَالْبُغَاةِ جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللهِ))

لَقَدْ عَالَجَ الْإِسْلَامُ الْإِرْهَابَ بِعِلَاجٍ حَاسِمٍ، وَآخِرُ الطِّبِّ الْكَيُّ، فَشَرَعَ حَدَّ الْحِرَابَةِ، وَهُوَ حَدٌّ شَرَعَهُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، وَلِلْقَضَاءِ عَلَى جَرِيمَةِ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، الَّتِي تُرَوِّعُ الْأَبْرِيَاءَ وَتَقْتُلُهُمْ، وَتُخِيفُ سُبُلَهُمْ، وَتُضْعِفُ أَمْنَهُمْ، وَتُفَجِّرُ دُورَهُمْ وَمُنْشَآتِهِمْ، وَتُبَدِّدُ ثَرْوَاتِهِمْ، وَتُضَيِّعُ أَوْطَانَ الْمُسْلِمِينَ، فَشَرَعَ لِذَلِكَ كُلِّهِ حَدًّا، وَآخِرُ الطِّبِّ الْكَيُّ.

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيم إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 33].

الْمُحَارِبُونَ للهِ وَرَسُولِهِ هُمُ الَّذِينَ بَارَزُوهُ بِالْعَدَاوَةِ، وَأَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ؛ بِالْكُفْرِ، وَالْقَتْلِ، وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ، وَإِخَافَةِ السُّبُلِ.

وَالْمَشْهُورُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ فِي أَحْكَامِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ الَّذِينَ يَعْرِضُونَ لِلنَّاسِ فِي الْقُرَى وَالْبَوَادِي، فَيَغْصِبُونَهُمْ أَمْوَالَهُمْ، وَيَقْتُلُونَهُمْ، وَيُخِيفُونَهُمْ فَيَمْتَنِعُ النَّاسُ مِنْ سُلُوكِ الطَّرِيقِ الَّتِي هُمْ بِهَا، فَتَنْقَطِعُ بِذَلِكَ.

فَأَخْبَرَ اللهُ أنَّ جَزَاءَهُمْ وَنَكَالَهُمْ عِنْدَ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ أَنْ يُفْعَلَ بِهِمْ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ.

وَالْعُقُوبَاتُ الَّتِي ذَكَرَهَا اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ هِيَ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ:

مَنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ: قُتِلَ وَصُلِبَ.

وَمَنْ أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ: قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ.

وَمَنْ لَمْ يَقْتُلْ وَلَمْ يَأْخُذْ مَالًا: نُفِيَ فِي الْأَرْضِ.

وَهَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ، وَهَذَا هُوَ الْحَسْمُ الْقَاطِعُ، وَهَذَا هُوَ الْعِلَاجُ النَّاجِعُ، وَآخِرُ الطِّبِّ الْكَيُّ، وَهَذَا مِنْ مَحَاسِنِ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.

عِبَادَ اللهِ! قَطْعُ الطَّرِيقِ، وَتَرْوِيعُ الْآمِنِينَ وَالسَّابِلَةِ، وَإِخَافَةُ النَّاسِ، وَتَخْرِيبُ الْمُنْشَآتِ، وَتَفْجِيرُ الْأَبْرَاجِ الْكَهْرُبَائِيَّةِ وَالْأَكْشَاكِ، وَالِاعْتِدَاءُ عَلَى الْمُمْتَلَكَاتِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ؛ كُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْحِرَابَةِ؛ مِنَ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، مِمَّا يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ الْعَارَ وَالشَّنَارَ فِي الدُّنْيَا، مَعَ مَا لَهُ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ الْعَظِيمِ فِي الْآخِرَةِ.

وَيَدْخُلُ فِي الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ وَفِي الْمُحَارَبَةِ للهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ تَخْرِيبُ الْمُنْشَآتِ وَتَحْرِيقُ الْمُمْتَلَكَاتِ، وَالِاعْتِدَاءُ عَلَى الْحُرُمَاتِ، وَتَبْدِيدُ ثَرْوَاتِ الْأُمَّةِ وَمُقَدَّرَاتِهَا.

كُلُّ هَذَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَ حَدُّ الْحِرَابَةِ وَالْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ كَمَا بَيَّنَهُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، وَكَمَا طَبَّقَهُ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى مَنِ اسْتَحَقَّهُ.

نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُسَلِّمَ وَطَنَنَا وَجَمِيعَ أَوْطَانِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ يُؤَلِّفَ بَيْنَ قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، وَأَنْ يَرُدَّ الشَّارِدِينَ، وَأَنْ يُعَلِّمَ الْجَاهِلِينَ، وَأَنْ يَحْفَظَ الدَّاعِينَ إِلَى دِينِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، إِنَّهُ تَعَالَى عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ, صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَومِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((هَذِهِ هِيَ الْمُؤَامَرَةُ عَلَى مِصْرَ الْآنَ))

فَتَتَبَدَّلُ صُوَرُ التَّآمُرِ، وَتَتَغَيَّرُ أَوْجُهُ الْمُتَآمِرِينَ، وَتَبْقَى الْمُؤَامَرَةُ مُسْتَمِرَّةً..

وَصُورَةُ الْمُؤَامَرَةِ عَلَى مِصْرَ الْآنَ تَتَمَحْوَرُ حَوْلَ إِظْهَارِ جَمَاهِيرِ الشَّعْبِ الْمِصْرِيِّ فِي حَالِ قَطِيعَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَاكِمِهِ وَحُكُومَتِهِ.

وَالْغَرَضُ مِنْ ذَلِكَ: تَصْوِيرُ الْحُكْمِ فِي مِصْرَ فِي صُورَةِ الْمَسْخُوطِ عَلَيْهِ مِنْ شَعْبِهِ بِمُقَاطَعَةٍ سَلْبِيَّةٍ تَنْفِي شَرْعِيَّتَهُ وَشَعْبِيَّتَهُ.

وَالْمُقَاطَعَةُ الْمَدْعُوُّ إِلَيْهَا تَهْدِفُ بِجَانِبِ إِعْلَانِ السُّخْطِ وَالرَّفْضِ إِلَى تَصْوِيرِ الْحُكْمِ فِي مِصْرَ فِي صُورَةٍ بَالِغَةٍ مِنَ الْقَمْعِ وَالْبَطْشِ وَإِرْهَابِ الدَّوْلَةِ.

وَهَذِهِ الصُّورَةُ الَّتِي يَبْتَغِي الْمُتَآمِرُونَ الْوُصُولَ إِلَيْهَا مُصَدَّرَةٌ إِلَى الْخَارِجِ؛ مِنْ أَجْلِ إِعْطَاءِ الْمُبَرِّرِ لِلتَّضْيِيقِ السِّيَاسِيِّ وَالِاقْتِصَادِيِّ، وَمُحَارَبَةِ الِاسْتِثْمَارَاتِ بِصُوَرِهَا الْمُخْتَلِفَةِ فِي مِصْرَ، وَانْتِهَاءً بِالتَّدَخُّلِ الْأَجْنَبِيِّ سِيَاسِيًّا وَعَسْكَرِيًّا.

هَذِهِ هِيَ الْمُؤَامَرَةُ عَلَى مِصْرَ وَشَعْبِهَا الطَّيِّبِ فِي هَذَا الْوَقْتِ.

*جُمْلَةٌ مِنْ وَسَائِلِ التَّآمُرِ عَلَى مِصْرَ الْآنَ:

*مِنْ وَسَائِلِ التَّآمُرِ لِإِظْهَارِ الْقَطِيعَةِ وَالْبُغْضِ مِنَ الشَّعْبِ لِحَاكِمِهِ: بَثُّ الْأَرَاجِيفِ الْمُفْتَرَاةِ الْكَاذِبَةِ، وَالْهُجُومُ الْفَاجِرُ بِشَائِعَاتِ الْإِفْكِ وَالْبُهْتَانِ عَلَى الْجَيْشِ الْمِصْرِيِّ الْبَاسِلِ الْنَبِيلِ، وَقُوَّاتِ الْأَمْنِ الْمِصْرِيِّ الْوَاعِيَةِ الْمُتَيَقِّظَةِ.

*وَمِنْ وَسَائِلِ التَّآمُرِ لِتَشْوِيهِ صُورَةِ الشَّعْبِ الْمِصْرِيِّ الْنَبِيلِ: دَفْعُ أَكْبَرِ عَدَدٍ مِنَ الْمِصْرِيِّينَ إِلَى مُقَاطَعَةِ الْحَاكِمِ وَالْحُكْمِ، بِاسْتِغْلَالِ الْمُعَانَاةِ الَّتِي تَدْفَعُهَا الْجَمَاهِيرُ مِنْ أَجْلِ الْإِصْلَاحِ وَالتَّنْمِيَةِ، بِتَحْقِيقِ مَشْرُوعَاتٍ كَانَتْ قَبْلُ حُلْمَ حَالِمٍ وَخَيَالَ مُتَخَيِّلٍ، فَصَارَتْ وَاقِعًا مَحْسُوسًا وَصَرْحًا مَلْمُوسًا.

*وَمِنْ وَسَائِلِ التَّآمُرِ عَلَى مِصْرَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ: الْفُجُورُ فِي الْخُصُومَةِ، وَتَخَلُّقُ النُّخْبَةِ بِسَافِلِ الْأَخْلَاقِ، وَمُنْحَطِّ الصِّفَاتِ؛ مِنَ الْجُحُودِ وَالْإِفْكِ، وَالْمَيْنِ وَالْكَذِبِ، وَكُفْرَانِ النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ اللهُ بِهَا عَلَى مِصْرَ فِي السَّنَوَاتِ الْقَلِيلَةِ الْفَائِتَةِ.

وَالشُّرَفَاءُ مِنَ الْمُغَفَّلِينَ الْمَخْدُوعِينَ يَنْظُرُونَ تَحْتَ أَقْدَامِهِمْ، وَلَا يُبْصِرُونَ أَبْعَدَ مِنْ أُنُوفِهِمْ، وَيُغَلِّبُونَ الْمَصْلَحَةَ الْقَرِيبَةَ الدَّانِيَةَ عَلَى الْمَصْلَحَةِ الْعُلْيَا لِلْوَطَنِ وَاسْتِقْرَارِهِ وَتَحْقِيقِ أَمْنِهِ فِي دَاخِلِهِ وَعَلَى حُدُودِهِ، وَدَفْعِ مَخَاطِرِ الدَّاخِلِ وَالْخَارِجِ عَنْ أَبْنَائِهِ الشُّرَفَاءِ، وَأَرْضِهِ، وَثَرْوَاتِهِ، وَمُسْتَقْبَلِ أَبْنَائِهِ.

مَنْ حَالَ بَيْنَ مُرِيدٍ لِلْإِصْلَاحِ الْحَقِيقِيِّ وَإِصْلَاحَهُ؟!!

وَمَنْ أَقْصَى فَارِسًا يُرِيدُ أَنْ يَتَقَدَّمَ فِي الْمَيْدَانِ بِبَرْنَامَجِهِ، وَأَخْلَاقِهِ، وَمِنْ مُقَدَّرَاتِهِ، مَنْ أَقْصَاهُ عَنْ إِثْبَاتِ مِصْدَاقِيَّتِهِ وَإِخْلَاصِهِ بِمَيْدَانِهِ؟!!

إِنَّ إِصْلَاحَ الْفَاسِدِ، وَتَرْقِيَةَ الْحَيَاةِ، وَتَحْقِيقَ التَّنْمِيَةِ، وَالْوُصُولَ إِلَى الْكِفَايَةِ لَا تَتَحَقَّقُ بِالدَّعَاوَى الْكَاذِبَةِ، وَلَا بِسَيْفِ أَبِي حَيَّةَ النُّمَيْرِيِّ، وَكَانَ فَرُوقَةً رِعْدِيدًا، اتَّخَذَ سَيْفًا مِنْ خَشَبٍ سَمَّاهُ (لُعَابَ الْمَنِيَّةِ).

وَكَانَ لِأَبِي حَيَّةَ غَيْطٌ مِنْ ذُرَةٍ، فَذَهَبَ يَوْمًا يَتَعَهَّدُ حَقْلَهُ، فَسَمِعَ خَشْخَشَةً وَحَرَكَةً بَيْنَ أَعْوَادِ الذُّرَةِ، يَسْمَعُ الصَّوْتَ، وَلَا يُبْصِرُ الْجِرْمَ، فَظَنَّ سَارِقًا، وَتَوَهَّمَ مُفْسِدًا.

فَهَوَّلَ لَهُ خَيَالُهُ نِزَالًا وَحَرْبًا، فَامْتَشَقَ لُعَابَ الْمَنِيَّةِ، وَشَهَرَهُ مِنْ جِرَابِهِ الْقُمَاشِيِّ، وَرَاحَ يُرْعِدُ مُتَوَعِّدًا، وَيَزْأَرُ صَارِخًا، وَبَيْنَمَا هُوَ فِي رَكْضِهِ وَجَوَلَانِهِ أَمَامَ حَقْلِهِ، إِذْ خَرَجَ كَلْبٌ أَجْرَبُ، يَكَادُ هُزَالُهُ يُقْعِدُهُ، فَأَغْمَدَ أَبُو حَيَّةَ سَيْفَهُ، وَتَنَفَّسَ الصُّعَدَاءَ قَائِلًا: الْحَمْدُ للهِ الَّذِي مَسَخَكَ كَلْبًا وَكَفَانَا مَؤُونَةَ قِتَالِكَ!!  

فَإِلَى كُلِّ أَبِي حَيَّةَ مِنَ الْمِصْرِيِّينَ! أَفِيقُوا يَرْحَمُكُمُ اللهُ، وَاعْرِفُوا قَدْرَكُمْ، وَالْزَمُوا حَدَّكُمْ، وَلَا تَعْبَثُوا بِمُسْتَقْبَلِ وَطَنِكُمْ؛ فَإِنَّ الشُّرَفَاءَ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْبَلَدِ لَنْ يُمَكِّنُوكُمْ مِنْ ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ، وَهُمْ لَكُمْ بِالْمِرْصَادِ.

((نِعْمَةُ الْأَمْنِ وَالْأَمَانِ في الْأَوْطَانِ الْمُسْلِمَةِ))

مِنْ لَوَازِمِ الْحُبِّ الشَّرْعِيِّ لِلْوَطَنِ الْمُسْلِمِ: أَنْ يُحَافَظَ عَلَى أَمْنِهِ وَاسْتِقْرَارِهِ، وَأَنْ يُجَنَّبَ الْأَسْبَابَ الْمُفْضِيَةَ إِلَى الْفَوْضَى وَالِاضْطِرَابِ وَالْفَسَادِ؛ فَالْأَمْنُ فِي الْأَوْطَانِ مِنْ أَعْظَمِ مِنَنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ عَلَى الْإِنْسَانِ.

قَالَ تَعَالَى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55]

وَقَدْ قَرَنَ اللهُ تَعَالَى الْأَمْنَ بِالْعِبَادَةِ؛ وَذَلِكَ لِعَظِيمِ قِيمَتِهِ، فَقَالَ تَعَالَى:  {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35].

وَالِابْتِدَاءُ بِطَلَبِ نِعْمَةِ الْأَمْنِ فِي هَذَا الدُّعَاءِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَعْظَمُ النِّعَمِ وَالْخَيْرَاتِ، وَأَنَّهُ لَا يَتِمُّ شَيْءٌ مِنْ مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا إِلَّا بِهِ.

وَقَدْ سُئِلَ أَحَدُ الْعُلَمَاءِ: الْأَمْنُ أَفْضَلُ أَمِ الصِّحَّةُ؟

فَقَالَ: «الْأَمْنُ أَفْضَلُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ شَاةً لَوِ انْكَسَرَتْ رِجْلُهَا فَإِنَّهَا تَصِحُّ بَعْدَ زَمَانٍ، ثُمَّ إِنَّهَا تُقْبِلُ عَلَى الرَّعْيِ وَالْأَكْلِ، وَأَنَّهَا إِذَا رُبِطَتْ فِي مَوْضِعٍ وَرُبِطَ بِالْقُرْبِ مِنْهَا ذِئْبٌ، فَإِنَّهَا تُمْسِكُ عَنِ الْعَلَفِ، وَلَا تَتَنَاوَلُ شَيْئًا إِلَى أَنْ تَمُوتَ.

 وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الضَّرَرَ الْحَاصِلَ مِنَ الْخَوْفِ أَشَدُّ مِنَ الضَّرَرِ الْحَاصِلِ مِنْ أَلَمِ الْجَسَدِ».

وَقَدْ أَجَابَ اللهُ تَعَالَى دَعْوْةَ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَجَعَلَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ آمِنًا, وَجَعَلَ مَكَّةَ بَلَدًا آمِنًا، تُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنْهُ تَعَالَى وَتَفَضُّلًا.

وَقَرَنَ اللهُ تَعَالَى الْأَمْنَ بِالرِّزْقِ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 126].

وَامْتَنَّ اللهُ عَلَى أَهْلِ حَرَمِهِ الْآمِنِ بِالْأَمْنِ، فَقَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67]؛ أَيْ: أَجَهِلَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ قِيمَةَ النِّعْمَةِ الَّتِي هُمْ فِيهَا، وَلَمْ يُدْرِكُوا وَيُشَاهِدُوا أَنَّا جَعَلْنَا بَلَدَهُمْ مَكَّةَ حَرَمًا آمِنًا، يَأْمَنُونَ فِيهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَعَلَى أَمْوَالِهِمْ، وَعَلَى أَعْرَاضِهِمْ، وَالْحَالُ أَنَّ النَّاسَ مِنْ حَوْلِهُمْ يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيَعْتَدِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ.

وَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ حَوْلَ مَكَّةَ يَغْزُو بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيَتَغَاورُونَ وَيَتَنَاهَبُونَ، يُغِيرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَيَنْهَبُ بَعْضُهُمْ مَالَ غَيْرِهِ، وَأَهْلُ مَكَّةَ مُسْتَقِرُّونَ فِيهَا آمِنُونَ، لَا يُعْتَدَى عَلَيْهِمْ مَعَ قِلَّتِهِمْ وَكَثْرَةِ غَيْرِهِمْ، فَذَكَّرَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِهَذِهِ النِّعْمَةِ الْخَاصَّةِ بِهِمْ -بِنِعْمَةِ الْأَمْنِ-.

وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} لِلتَّعَجُّبِ مِنْ حَالِهِمْ، وَلِلتَّوْبِيخِ لَهُمْ عَلَى هَذَا الْجُحُودِ وَالْكُفْرِ لِنِعَمِ اللهِ تَعَالَى.

أَفَبَعْدَ هَذِهِ النِّعْمَةِ الْجَلِيلَةِ يُؤْمِنُونَ بِالْأَصْنَامِ، وَبِنِعْمَةِ اللهِ الَّتِي تَسْتَدْعِي اسْتِجَابَتَهُمْ لِلْحَقِّ يَكْفُرُونَ؟!!

وَكَانَ أَمْنُ أَهْلِ مَكَّةَ بِالْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَقَدْ مَدَحَهُ اللهُ تَعَالَى مَدْحًا عَظِيمًا، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا} [آل عمران: 97]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} [البقرة: 125].

فَجَعَلَهُ اللهُ مَرْجِعًا لِلنَّاسِ، يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَمَلَاذًا وَحِصْنًا لَهُمْ مِنْ كُلِّ خَوْفٍ، فَهُوَ مَوْضِعُ أَمْنِهِمْ وَاطْمِئْنَانِهِمْ.

وَقَالَ تَعَالَى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)} [قريش: 3-4].

وَذَكَرَ تَعَالَى مِنَّتَهُ عَلَى سَبَأٍ، فَقَالَ: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ} [سبأ: 18].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].

وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِحْصَنٍ الْأَنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّـهِ ﷺ قَالَ: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ؛ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا».

*أَيُّهَا الْمِصْرِيُّونَ! اشْكُرُوا اللهَ عَلَى نِعْمَةِ الْأَمْنِ، وَلَا تَكْفُرُوهَا:

نِعْمَةُ الْأَمَانِ مِنْ أَجَلِّ نِعَمِ اللَّـهِ عَلَى الْإِنْسَانِ، وَهِيَ كَكُلِّ النِّعَمِ تَتَطَلَّبُ الشُّكْرَ عَلَيْهَا.

فَالنِّعْمَةُ صَيْدٌ، والشُّكْرُ قَيْدٌ، وشُكْرُ هَذِهِ النِّعْمَةِ بِالِاعْتِرَافِ بِهَا بِالْقَلْبِ بَاطِنًا، وَالثَّنَاءِ عَلَى الْمُنْعِمِ بِهَا بِاللِّسَانِ نُطْقًا ظَاهِرًا، وَتَصْرِيفِهَا فِي مَرْضَاةِ الْمُنْعِمِ بِهَا وَالْمُسْدِيهَا.

وَمِنَ الْكُفْرِ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ -نِعْمَةِ الْأَمْنِ وَالْأَمَانِ-: الْعَبَثُ بِاسْتِقْرَارِ الْوَطَنِ وَأَمْنِهِ.

وَمِنَ الْكُفْرِ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ: الْمُغَامَرَةُ بِمُسْتَقْبَلِهِ، وَتَضْيِيعُ مَاضِيهِ، وَالْعَبَثُ بِحَاضِرِهِ.

وَمِنَ الْكُفْرِ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ: تَأْجِيجُ نِيرَانِ الْأَحْقَادِ بَيْنَ أَبْنَائِهِ، وَتَقْوِيضُ دَعَائِمِ بِنَائِهِ.

وَمِنَ الْكُفْرِ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ: اسْتِغْلَالُ مُعَانَاةِ الْجَمَاهِيرِ الْكَادِحَةِ الْمُرْهَقَةِ الَّتِي أَرْهَقَهَا الْفَقْرُ وَطَحَنَهَا الْغَلَاءُ.

اسْتِغْلَالُ تِلْكَ الْجَمَاهِيرِ الْكَادِحَةِ الْمُرْهَقَةِ؛ لِتَكُونَ وَقُودًا لِمَعْرَكَةٍ فَاشِلَةٍ ظَالِمَةٍ، الْغَالِبُ وَالْمَغْلُوبُ فِيهَا خَاسِرَانِ، وَالْمُضَيَّعُ فِيهَا هُوَ الْوَطَنُ بِدِينِهِ وَتَارِيخِهِ، وَمَاضِيهِ، وَحَاضِرِهِ وَمُسْتَقْبَلِهِ، وَفِي الدُّوَلِ حَوْلَنَا عِظَةٌ وَعِبْرَةٌ.

لَوْ أَنَّ الْمِصْرِيِّينَ شَكَرُوا نِعْمَةَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِمْ؛ لَقَيَّدُوهَا لَدَيْهِمْ، وَحِينَئِذٍ يُؤْتِي اللهُ تَعَالَى عَلَيْهُمْ مَا أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِهِ، وَيَزِيدُهُمْ مِنْهُ، وَهِيَ سُنَّتُهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي خَلْقِهِ، أَنَّهُمْ إِذَا أُنْعِمَ عَلَيْهِمْ فَشَكَرُوا اللهَ تَعَالَى زَادَهُمْ، وَإِذَا أُنْعِمَ عَلَيْهِمْ فَجَحَدُوا نِعْمَةَ اللهِ وَكَفَرُوهُا سَلَبَهَا وَأَزَالَهَا عَنْهُمْ.

فَهَذِهِ سُنَّةُ اللهِ تَعَالَى فِي الْأَفْرَادِ وَفِي الْمُجْتَمَعَاتِ، أَنَّ النِّعْمَةَ لَا تَدُومُ إِلَّا بِشُكْرِهَا، وَأَنَّ النِّعْمَةَ تَزُولُ بِجَحْدِهَا وَكُفْرِهَا.

وَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ لَا يَعْرِفُ النِّعْمَةَ -وَالنَّاسُ أَعْدَاءُ مَا جَهِلُوا-، وَإِذَا كَانَ لَا يَعُدُّ النِّعْمَةَ نِعْمَةً؛ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يُظَنُّ بِحَالٍ أَنْ يَقُومَ بِشُكْرِهَا؛ إِذْ هُوَ جَاهِلٌ بِهَا أَوْ جَاحِدٌ لَهَا، بَلْ هُوَ كَافِرٌ بِكَوْنِهَا نِعْمَةً، بَلْ رُبَّمَا قَدْ عَدَّهَا نِقْمَةً!!

إِذَا كَانَ النَّاسُ فِي وَطَنِهِمْ آمِنِينَ، تَرْحَلُ الظَّعِينَةُ مِنْ أَسْوَانَ إِلَى رَأْسِ الْبَرِّ لَا تَخْشَى إِلَّا اللهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهَا.

إِذَا كَانَ النَّاسُ فِي وَطَنِهِمْ آمِنِينَ، لَا يُرَاعُونَ هَذِهِ النِّعْمَةَ، وَلَا يَقْدُرُونَهَا حَقَّهَا، وَيَعْبَثُونَ بِهَا وَيَكْفُرُونَهَا جَاحِدِينَ إِيَّاهَا، يَسْلُبُهُمُ اللهُ تَعَالَى -نَسْأَلُ اللهَ الْعَافِيَةَ- تِلْكَ النِّعْمَةَ، وَيُذِيقُهُمْ لِبَاسَ الْخَوْفِ!!

فَيَتَلَدَّدُونَ.. يَخْشَوْنَ عَلَى أَعْرَاضِهِمْ، وَيَخَافُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَرْوَاحِهِمْ، وَيَخْشَوْنَ عَلَى ثَرْوَاتِهِمْ وَدِيَارِهِمْ، تُقَطَّعُ سُبُلُهُمْ، وَتُزْهَقُ أَرْوَاحُهُمْ، وَتُسَالُ دِمَاؤُهُمْ، وَتُسْلَبُ ثَرْوَاتُهُمْ، وَتُحْرَقُ بُيُوتُهُمْ، وَتَحْدُثُ الْفَوْضَى الْعَامَّةُ -نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى الْعَافِيَةَ-.

((حُبُّ الْوَطَنِ غَرِيزَةٌ مُتَأَصِّلَةٌ فِي النُّفُوسِ السَّوِيَّةِ))

الْوَطَنِيَّةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ عَاطِفَةٌ تُعَبِّرُ عَنِ انْتِمَاءِ الْمَرْءِ لِبَلَدِهِ, يَعْنِي أَنْ يَكُونَ انْتِمَاءُ الْمُسْلِمِ لِبَلَدِهِ وَوَطَنِهِ مِنْ أَجْلِ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ الطَّاهِرَةِ الظَّاهِرَةِ، وَشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ الْمُعْلَنَةِ, وَمِنْ حَيْثُ هِيَ قِيَامُ الْمُسْلِمِ بِحُقُوقِ وَطَنِهِ الْمَشْرُوعَةِ فِي الْإِسْلَامِ, الْوَطَنِيَّةُ بِهَذَا الْمَعْنَى مَطْلَبٌ شَرْعِيٌّ, وَمَقْصِدٌ دِينِيٌّ.

وَحُبُّ الْوَطَنِ غَرِيزَةٌ مُتَأَصِّلَةٌ فِي النُّفُوسِ السَّوِيَّةِ؛ فَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ فِي حَقِّ مَكَّةَ عِنْدَ هِجْرَتِهِ مِنْهَا: «مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ! وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ، مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ».

وَقَدْ دَعَا النَّبِيُّ ﷺ رَبَّهُ أَنْ يَرْزُقَهُ حُبَّ الْمَدِينَةِ لَمَّا انْتَقَلَ إِلَيْهَا وَسَكَنَهَا, فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ».

وَمِنْ لَوَازِمِ الْحُبِّ الشَّرْعِيِّ لِلْأَوْطَانِ الْمُسْلِمَةِ: أَنْ يُحَافَظَ عَلَى أَمْنِهَا وَاسْتِقْرَارِهَا، وَأَنْ تُجَنَّبَ الْأَسْبَابَ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى الْفَوْضَى وَزَعْزَعَةِ اسْتِقْرَارِهَا، وَبَثِّ الْكَرَاهِيَةِ وَالْبُغْضِ بَيْنَ الرَّعِيَّةِ وَرَاعِيهَا.

فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَعْرِفَ قَدْرَ بَلَدِهِ، وَأَنْ يُدَافِعَ عَنْهُ، وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَحْصِيلِ اسْتِقْرَارِهِ وَأَمْنِهِ، وبُعْدِهِ وَإِبْعَادِهِ عَنِ الْفَوْضَى، وَعَنْ الِاضْطِرَابِ، وَعَنْ وُقُوعِ الْمُشَاغَبَاتِ وَالْمُشَاحَنَاتِ، وَبَثِّ الْكَرَاهِيَةِ وَالْبَغْضَاءِ.

عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُحِبَّ بَلَدَهُ الْإِسْلَامِيَّ، وَأَنْ يُدَافِعَ عَنْهُ، وَأَنْ يَمُوتَ دُونَهُ؛ فَإِنَّهُ مَنْ مَاتَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَالْأَرْضُ مَالٌ، فَمَنْ مَاتَ دُونَ أَرْضِهِ فَهُو شَهِيدٌ.

وَمِصْرُ الَّتِي لَا يَعْرِفُ كَثِيرٌ مِنْ  أَبْنَائِهَا قِيمَتَهَا وَلَا قَدْرَهَا؛ يَنْبَغِي أَنْ يُحَافَظَ عَلَيْهَا، وَأَنْ يُحَافَظَ عَلَى وَحْدَتِهَا، وَأَنْ تُجَنَّبَ الْفَوْضَى وَالْاضْطِرَابَ، وَأَنْ تُنَعَّمَ بِالْأَمْنِ وَالْأَمَانِ وَالِاسْتِقْرَارِ.

((فَضْلُ مِصْرَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ))

فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ عَلَى سَائِرِ الْبُلْدَانِ، كَمَا فَضَّلَ بَعْضَ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ، وَبَعْضَ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي عَلَى بَعْضٍ.

وَالْفَضْلُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: فِي دِينٍ أَوْ دُنْيَا، أَوْ فِيهِمَا جَمِيعًا.

وَقَدْ فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ وَشَهِدَ لَهَا فِي كِتَابِهِ بِالْكَرَمِ، وعِظَمِ الْمَنْزِلَةِ، وَذَكَرَهَا بِاسْمِهَا، وَخَصَّهَا دُونَ غَيْرِهَا، وَكَرَّرَ ذِكْرَهَا، وَأَبَانَ فَضْلَهَا بِآيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ تُنْبِئُ عَنْ مِصْرَ وَأَحْوَالِهَا، وَأَحْوَالِ الْأَنْبِيَاءِ بِهَا، وَالْأُمَمِ الْخَالِيَةِ، وَالْمُلُوكِ الْمَاضِيَةِ، وَالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ.

يَشْهَدُ لَهَا بِذَلِكَ الْقُرْآنُ -وَكَفَى بِهِ شَهِيدًا-، وَمَعَ ذَلِكَ وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي مِصْرَ، وَفِي عَجَمِهَا خَاصَّةً، وَذِكْرِهِ لِقَرَابَتِهِمْوَرَحِمِهِمْ، وَمُبَارَكَتِهِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى بَلَدِهِمْ، وَحَثِّهِ عَلَى بِرِّهِمْ.

رُوِيَ عَنْهُ وَوَرَدَ فِي ذَلِكَ مَا لَمْ يُرْوَ فِي قَوْمٍ مِنَ الْعَجَمِ غَيْرِهِمْ، مَعَ مَا خَصَّهَا اللهُ بِهِ مِنَ الْخِصْبِ وَالْفَضْلِ، وَمَا أَنْزَلَ فِيهَا مِنَ الْبَرَكَاتِ، وَأَخْرَجَ مِنْهَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْحُكَمَاءِ، وَالْخَوَّاصِ وَالْمُلُوكِ، وَالْعَجَائِبِ، بِمَا لَمْ يَخْصُصِ اللهُ بِهِ بَلَدًا غَيْرَهَا، وَلَا أَرْضًا سِوَاهَا.

فَإِنْ ثَرَّبَ عَلَيْنَا مُثَرِّبٌ -أَيْ لَامَنَا لَائِمٌ- بِذِكْرِ الْحَرَمَيْنِ أَوْ شَنَّعَ مُشَنِّعٌ، فَلِلْحَرَمَيْنِ فَضْلُهُمَا الَّذِي لَا يُدْفَعُ، وَمَا خَصَّهُمَا اللهُ بِهِ مِمَّا لَا يُنْكَرُ؛ مِنْ مَوْضِعِ بَيْتِهِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ نَبِيِّهِ وَقَبْرِهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، وَلَيْسَ مَا فَضَّلَهُمَا اللهُ تَعَالَى بِهِ بِبَاخَسٍ فَضْلَ مِصْرَ، وَلَا بِنَاقِصٍ مَنْزِلَتَهَا.

فَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ مِنْ ذِكْرِ مِصْرَ:

فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} [يونس: 87].

وَمَا ذَكَرَهُ اللهُ تَعَالَى عَنْ قَوْلِ يُوسُفَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف: 99].

وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: {اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} [البقرة: 61].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون: 50].

قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: ((هِيَ مِصْرُ))  

وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ مِصْرَ: ((هِيَ الْبَهْنَسَا)).

وَقِبْطُ مِصْرَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- كَانَا بِالْبَهْنَسَا، وَانْتَقَلَا عَنْهَا إِلَى الْقُدْسِ.

وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: ((الرَّبْوَةُ: دِمَشْقُ)) .

قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} [يوسف: 21].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف: 30].

وَالْمَدِينَةُ مَنْفٌ، وَالْعَزِيزُ رَئِيسُ وُزَرَاءِ مِصْرَ حِينَئِذٍ.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا} [القصص: 15].

هِيَ مَنْفُ مَدِينَةُ فِرْعَوْنَ.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} [القصص: 20].

 هِيَ مَنفٌ أَيْضًا.

وَقَالَ تَعَالَى عَنْ إِخْوَةِ يُوسُفَ: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ} [يوسف: 78].

وَقَالَ تَعَالَى عَنْ يُوسُفَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} [يوسف: 100].

وَقَالَ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ وَافْتِخَارِهِ بِمِصْرَ: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف: 51].

وَقَالَ تَعَالَى حِينَ وَصَفَ مِصْرَ وَمَا كَانَ فِيهِ آلُ فِرْعَوْنَ مِنَ النِّعْمَةِ وَالْمُلْكِ بِمَا لَمْ يَصِفْ بِهِ مَشْرِقًا وَلَا مَغْرِبًا، وَلَا سَهْلًا وَلَا جَبَلًا، وَلَا بَرًّا وَلَا بَحْرًا: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ *وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} [الدخان: 25-27].

وَالْمَقَامُ الْكَرِيمُ مِصْرُ، فَقَدْ كَرَّمَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَوَصَفَهَا بِالْكَرَمِ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ.

فَهَلْ يُعْلَمُ أَنَّ بَلَدًا مِنَ الْبُلْدَانِ فِي جَمِيعِ أَقْطَارِ الْأَرْضِ أَثْنَى عَلَيْهِ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ بِمِثْلِ هَذَا الثَّنَاءِ، أَوْ وَصَفَهُ بِمِثْلِ هَذَا الْوَصْفِ، أَوْ شَهِدَ لَهُ بِالْكَرَمِ غَيْرَ مِصْرَ؟

وَرَوَى أَبُو ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((سَتَفْتَحُونَ أَرْضًا يُذْكَرُ فِيهَا الْقِيرَاطُ، فَاسْتَوْصُوا بِأَهْلِهَا خَيْرًا؛ فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَرْفَعُهُ: ((إِذَا فُتِحَتْ مِصْرُ فَاسْتَوْصُوا بِالْقِبْطِ خَيْرًا؛ فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا)) . صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)) وَغَيْرِهَا.

فَأَمَّا الرَّحِمُ: فَإِنَّ هَاجَرَ -أُمَّ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ-- مِنَ الْقِبْطِ مِنْ قَرْيَةٍ نَحْوَ الْفَرَمَا، يُقَالُ لَهَا -أَيْ لِهَاجَرَ-: أَمُّ الْعَرَبِ.

وَأَمَّا الذِّمَّةُ: فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ تَسَرَّى مِنَ الْقِبْطِ مَارِيَةَ أُمَّ إِبْرَاهِيمَ ابْنِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَهِيَ مِنْ قَرْيَةٍ نَحْوَ الصَّعِيدِ، يُقَالُ لَهَا (حَفْنٌ) مِنْ كُورَةِ (أَنْصِنَا) .

وَالْكُورَةُ تَشْمَلُ عَدَدًا مِنَ الْقُرَى وَيُقَابِلُهَا الْمَرْكَزُ فِي النِّظَامِ الْإِدَارِيِّ الْمِصْرِيِّ الْحَاضِرِ.

وَ(أَنْصِنَا) مَدِينَةٌ أَزَلِيَّةٌ مِنْ نَوَاحِي الصَّعِيدِ شَرْقِيِّ النِّيلِ، وَفِي أَوَائِلِ الْقَرْنِ الثَّالِثَ عَشَرَ لِلْهِجْرَةِ قُيِّدَ زِمَامُهَا بِاسْمِ (الشَّيْخُ عُبَادَةَ)، وَمَكَانُهَا الْيَوْمَ الْأَطْلَالُ الْوَاقِعَةُ شَرْقِيَّ النِّيلِ، بِمَرْكَزِ (مَلَّوِي) بِمُحَافَظَةِ الْمِنْيَا.

فَالْعَرَبُ وَالْمُسْلِمُونَ كَافَّةً لَهُمْ نَسَبٌ بِمِصْرَ مِنْ جِهَةِ أُمِّهِمْ مَارِيَةَ أُمِّ إِبْرَاهِيمَ ابْنِ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ لِأَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ ﷺ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْقِبْطُ أَخْوَالُهُمْ.

صَارَتِ الْعَرَبُ كَافَّةً مِنْ مِصْرَ بِأُمِّهِمْ هَاجَرَ، فَهِيَ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ، وَإِسْمَاعِيلُ هُوَ أَبُو الْعَرَبِ الْمُسْتَعْرِبَةِ، وَهُوَ جَدُّ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

أُمُّ إِسْمَاعِيلَ ﷺ، وَهُوَ أَبُو الْعَرَبِ، وَجَدُّ رَسُولِ اللهِ ﷺ، هِيَ أُمُّ الْعَرَبِ، هَاجَرُ الْمِصْرِيَّةُ.

وَقَدْ كَتَبَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُلُوكِ مِنْهُمْ هِرَقَلُ، فَمَا أَجَابَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَكَتَبَ إِلَى الْمُقَوْقِسِ صَاحِبِ مِصْرَ فَأَجَابَهُ عَنْ كِتَابِهِ جَوَابًا جَمِيلًا، وَأَهْدَى إِلَيْهِ ثِيَابًا وَكُرَاعًا -وَالْكُرَاعُ اسْمٌ يَجْمَعُ الْخَيْلَ، وَالْكُرَاعُ السِّلَاحُ أَيْضًا- وَأَهْدَى إِلَيْهِ ثِيَابًا وَكُرَاعًا وَجَارِيَتَيْنِ مِنَ الْقِبْطِ؛ مَارِيَةَ وَأُخْتَهَا وَأَهْدَى إِلَيْهِ عَسَلًا، فَقَبِلَ هَدِيَّتَهُ، وَتَسَرَّى مَارِيَةَ، فَأَوْلَدَهَا ابْنَهُ إِبْرَاهِيمَ، وَأَهْدَى أُخْتَهَا لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ فَأَوْلَدَهَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ حَسَّانٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- .

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُ قَالَ: ((دَعَا نُوحٌ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- رَبَّهُ؛ لِوَلَدِهِ وَلِوَلَدِ وَلَدِهِ: مِصْرَ بْنِ بَيْصَرَ بْنِ حَامِ بْنِ نُوحٍ، وَبِهِ سُمِّيَتْ مِصْرُ، وَهُوَ أَبُو الْقِبْطِ.

قَالَ -أَيْ نُوحٌ -عَلَيْهِ السَّلَامُ--: اللهم بَارِكْ فِيهِ وَفِي ذُرِّيَّتِهِ، وَأَسْكِنْهُ الْأَرْضَ الْمُبَارَكَةَ الَّتِي هِيَ أُمُّ الْبِلَادِ، وَغَوْثُ الْعِبَادِ، وَنَهْرُهَا أَفْضَلُ أَنْهَارِ الدُّنْيَا، وَاجْعَلْ فِيهَا أَفْضَلَ الْبَرَكَاتِ، وَسَخِّرْ لَهُ وَلِوَلَدِهِ الْأَرْضَ، وَذَلِّلْهَا لَهُمْ، وَقَوِّهُمْ عَلَيْهَا)) .

وَالْكَعْبَةُ: الْبَيْتُ الْحَرَامُ، بَيْتُ هَاجَرَ وَابْنِهَا إِسمَاعِيلَ -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ-، اللَّذَيْنِ كَانَا يَسْكُنَانِهِ، وَرُوِيَأَنَّ الْبَيْتَ هُدِمَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَوَلَّتْ قُرَيْشٌ بِنَاءَهُ رَجُلًا مِنَ الْقِبْطِ يُقَالُ لَهُ: (بَاقُوم)، فَأَدْرَكَهُ الْإِسْلَامُ -أَيْ أَدْرَكَ الْإِسْلَامُ الْبَيْتَ الْحَرَامَ- وَهُوَ عَلَى ذَلِكَ الْبِنَاءِ.

وَقَدْ صَاهَرَ الْقِبْطَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، بِتَسَرِّيهِ هَاجَرَ أُمِّ إِسْمَاعِيلَ -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ-.

وَكَذَلِكَ يُوسُفُ بِتَزَوُّجِهِ بِبِنْتِ صَاحِبِ عَيْنِ شَمْسٍ الَّتِي ذَكَرَهَا اللهُ فِي كِتَابِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} [يوسف: 23].

وَكَذَلِكَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ صَاهَرَ  الْمِصْرِيِّينَ بِتَسَرِّيهِ مَارِيَةَ أُمِّ إِبْرَاهِيمَ.

فَلِمِصْرَ قَدْرُهَا حَقِيقَةً وَوَاقِعًا، تَارِيخًا وَجُغْرَافِيَةً، وَكَذَلِكَ شَرْعًا وَدِينًا، وَعَلَى أَبْنَائِهَا أَنْ يَحْمَدُوا اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى نِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ، وَأَنْ يَصُونُوهَا، وَأَنْ يُحَافِظُوا عَلَى أَمْنِهَا، وَأَنْ يُحْبِطُوا كَيْدَ أَعْدَائِهِمْ، وَأَنْ يُفْسِدُوا عَلَى الْمُتَآمِرِينَ مُؤَامَرَاتِهِمْ، وَأَنْ يَتَّقُوا اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فِي حَاضِرِ بَلَدِهِمْ، وَفِي مُسْتَقْبَلِهِ، وَفِي تَارِيخِهِ، وَفِي تُرَاثِهِ، وَفِي أَمْنِهِ وَاسْتِقْرَارِهِ، وَفِي تَنْمِيَتِهِ وَتَرَقِّيهِ فِي مَدَارِجِ الْعُلَى -وَإِنَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ لَقَادِرُونَ بِقُدْرَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ-.

إِنَّهُمْ لِذَلِكَ لَفَاعِلُونَ بِحِفْظِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَهُمْ مِنَ الْفِتَنِ وَمُضِلَّاتِهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَبِتَآلُفِهِمْ وَتَكَاتُفِهِمْ، وَنَزْعِ الشِّقَاقِ وَالْبَغْضَاءِ مِنْ بَيْنِهِمْ، وَتَنْقِيَةِ قُلُوبِهِمْ وَصُدُورِهِمْ لِوُلَاةِ أُمُورِهِمْ، وَبِتَآلُفِهِمْ وَالْتِفَافِهِمْ حَوْلَهُمْ؛ مِنْ أَجْلِ نَفْيِ الْفَوْضَى، وَمِنْ أَجْلِ دَفْعِ الْفَسَادِ، وَمِنْ أَجْلِ إِحْبَاطِ الْمُؤَامَرَاتِ وَالْخُطَطِ الَّتِي تُحَاكُ لَيْلًا وَنَهَارًا لِهَذَا الْبَلَدِ الطَّيِّبِ، وَلِأَهْلِهِ وَشَعْبِهِ، وَثَرْوَتِهِ وَمُسْتَقْبَلِهِ.

نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَحْفَظَ بَلَدَنَا وَجَمِيعَ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ مُضِلَّاتِ الْفِتَنِ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً، إِنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْبَرُّ الْكَرِيمُ وَالْجَوَادُ الرَّحِيمُ.

 ((الْخِلَافُ وَالْإِسْرَافُ مَرَضَانِ يُهَدِّدَانِ الْأُمَّةَ))

أَمْرَانِ كَبِيرَانِ يَقَعَانِ عَلَى التَّزَامُنِ مِنْ غَيْرِ افْتِرَاقٍ، خِلَافٌ يَدُبُّ بَيْنَ أَبْنَاءِ الْأُمَّةِ فِي الْقُطْرِ الْوَاحِدِ، وَفِي الْبَلَدِ الْوَاحِدِ، وَفِي النَّجْعِ الْوَاحِدِ، وَفِي الْقَرْيَةِ الْوَاحِدَةِ، بَلْ فِي الْبَيْتِ الْوَاحِدِ.

وَإِسْرَافٌ نَهَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْهُ, وَحَذَّرَ مِنْهُ، وَوَصَفَ اللهُ تَعَالَى بِهِ أَعْدَى أَعْدَائِهِ مِنْ خَلْقِهِ مِنَ الْبَشَرِ، فَقَالَ: {إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ} [الدخان: 31]، وَهُوَ فِرْعَوْنُ اللَّعِينُ.

ووَصَفَهُ اللهُ تَعَالَى بِالْإِسْرَافِ, وَحَذَّرَ اللهُ تَعَالَى الْعَالَمِينَ مِنْهُ, وَنَهَى عَنِ الْوُقُوعِ فِي هَذِهِ الْخَصْلَةِ الذَّمِيمَةِ الَّتِي وُصِفَ بِهَا هَذَا الَّذِي تَأَبَّى أَنْ يَكُونَ عَبْدًا بِزَعْمِهِ، فَادَّعَى أَنَّهُ رَبٌّ وَإِلَهٌ!!

هَذَانَ الْأَمْرَانِ؛ مِنْ تَهْيِيجِ الْعَدَاوَاتِ بَيْنَ أَبْنَاءِ الْأُمَّةِ, وَمِنَ الْإِسْرَافِ الَّذِي لَا يَلْتَفِتُ إِلَى الْوُقُوعِ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ أَبْنَائِهَا.

 هَذَانِ الْأَمْرَانِ فِي كَلِمَتَيْنِ تَوْرَاتِيَّتَيْنِ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِمَا كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَحْسَبُونَ أَنَّ أَعْدَاءَهُمْ يُحَارِبُونَهُمْ حَرْبًا عَقَائِدِيَّةً، وَإِنَّمَا يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الِاسْتِيلَاءَ عَلَى الثَّرْوَاتِ، وَعَلَى احْتِلَالِ الدِّيَارِ وَالْمَمَالِكِ, وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ مِنْ غَيْرِ اسْتِعْبَادِ الْقُلُوبِ.

فِي ((سِفْرِ إِشْعِيَاءَ)), فِي الْإِصْحَاحِ التَّاسِعَ عَشَرَ، مِنْ رَقْمِ ثَلَاثَةٍ إِلَى رَقْمِ سَبْعَةٍ، يَقُولُ: ((وَأُهَيِّجُ مِصْرِيِّينَ عَلَى مِصْرِيِّينَ, فَيُحَارِبُونَ: كُلُّ وَاحِدٍ أَخَاهُ, وَكُلُّ وَاحِدٍ صَاحِبَهُ, مَدِينَةً مَدِينَةً, وَمَمْلَكَةً مَمْلَكَةً, وَيُهْرَاقُ رُوحُ مِصْرَ دَاخِلَهَا, وَتُنَشَّفُ الْمِيَاهُ مِنَ الْبَحْرِ, وَيَجُفُّ النَّهْرُ  وَيَيْبَسُ, وَتُنْتِنُ التُّرَعُ, وَتَضْعُفُ وَتَجِفُّ سَوَاقِي مِصْرَ, وَيَتْلَفُ الْقَصَبُ وَالْأَسَلُ)).

لَوْ أَنَّ إِنْسَانًا قِيلَ لَهُ: إِنَّ مَا يَقَعُ بَيْنَكُمْ -مَعَاشِرَ الْمِصْرِيِّينَ- أَمْرٌ يُبَيَّتُ لَهُ مِنْ قَدِيمٍ قَدِيمٍ, وَهِيَ عَقِيدَةٌ تُعْتَقَدُ, وَتُتَّخَذُ لَهَا التَّدَابِيرُ وَالْخُطَطُ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَصِيرَ وَاقِعًا تَعِيشُونَهُ, وَتَلْفَحُكُمْ نَارُهُ.

((وَأُهَيِّجُ مِصْرِيِّينَ عَلَى مِصْرِيِّينَ, حَتَّى يَكُونَ الْأَخُ يَقْتُلُ أَخَاهُ)).

 وَالنَّصُّ: ((وَأُهَيِّجُ)) هَكَذَا!!

((وَأُهَيِّجُ مِصْرِيِّينَ عَلَى مِصْرِيِّينَ)): يَتَنَاحَرُونَ، يَتَقَاتَلُونَ، يَسْبِي أَحَدُهُمْ أَخَاهُ, وَيَقْتُلُ أَحَدُهُمْ أَخَاهُ, وَيَعْتَدِي أَحَدُهُمْ عَلَى أَخِيهِ.

((وَأُهَيِّجُ مِصْرِيِّينَ عَلَى مِصْرِيِّينَ, فَيُحَارِبُونَ كُلُّ وَاحِدٍ أَخَاهُ, وَكُلُّ وَاحِدٍ صَاحِبَهُ, مَدِينَةً مَدِينَةً, وَمَمْلَكَةً مَمْلَكَةً)).

وَالنَّتِيجَةُ فِي تَخَالُفِ أَبْنَاءِ الْبَلَدِ الْوَاحِدِ, وَفِي تَعَادِي أَبْنَاءِ الْقُطْرِ الْوَاحِدِ, وَفِي اسْتِنْزَافِ طَاقَاتِ قُوَّاتِ الْبَلَدِ الْوَاحِدِ بِأَبْنَائِهِ، النَّتِيجَةُ: ((وَيُهْرَاقُ رُوحُ مِصْرَ دَاخِلَهَا!!))

 حَفِظَهَا اللهُ, وَسَلَّمَهَا وَجَمِيعَ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ؛ إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

لَوْ أَنَّ إِنْسَانًا، لَوْ إِنَّ مِصْرِيًّا قِيلَ لَهُ هَذَا عَلَى هَذَا التَّأْصِيلِ الَّذِي لَا يُدْفَعُ؛ لَأَنْكَرَهُ؛ لِقُصُورِ النَّظَرِ، وَقِلَّةِ الْحِيلَةِ، وَتَشْوِيشِ الْفِكْرِ، وَمَا وَقَعَ مِنَ الْغَزْوِ فِي الْمُعْتَقَدِ وَفِي الثَّقَافَةِ الْعَامَّةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْجَمَاهِيرَ مِنْ جُمُوعِ الشَّبَابِ فِي مِصْرَ قَدِ اسْتُلِبُوا، وَعُبِثَ بِهُوِيَّتِهِمْ، وَتَرَبَّوْا عَلَى مَنَاهِجَ لَمْ تَنْبُعْ مِنْ دِينِهِمْ، وَلَا مِنْ كِتَابِ رَبِّهِمْ، وَلَا مِنْ سُنَّةِ نَبِيِّهِمْ، وَلَا مِنْ تُرَاثِهِمْ، وَلَا مِنْ تَارِيخِهِمْ، وَلَا مِنْ مَاضِيهِمُ الْمُشْرِقِ، وَلَا مِنْ مَجْدِهِمْ وَفَخَارِهِمْ.

وَإِنَّمَا فُرِّغَتْ أَجْيَالٌ، ثُمَّ حُشِيَتْ بَعْدُ وَمُلِئَتْ بِشَيْءٍ آخَرَ يَجْعَلُ الْمَرْءَ مُشَوَّهًا، لَا يَنْتَمِي لِدِينٍ وَلَا يُحَافِظُ عَلَى عِرْضٍ، وَلَا يُحَافِظُ عَلَى أَرْضٍ، وَيَدْخُلُ فِي اللَّامُبَالَاةِ وَفِي الِاسْتِهَانَةِ، وَهِيَ الدَّاءُ الدَّوِيُّ الْقَاتِلُ الَّذِي اسْتَحْوَذَ عَلَى قُلُوبِ كَثِيرٍ مِنَ الْمِصْرِيِّينَ.

دَاءُ الِاسْتِهَانَةِ، النَّارُ تَرْعَى فِي ثِيَابِ أَكْثَرِهِمْ، وَتَطَالُهُمْ نِيرَانُ الْفِتَنِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَهُمْ يُشَاهِدُونَ آثَارَ الْمُؤَامَرَاتِ حَوْلَهُمْ فِي بُلْدَانٍ كَانَتْ مُسْتَقِرَّةً آمِنَةً، يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا، مِنْ بِلَادٍ لَمْ تَكُنْ مَدِينَةً لِأَحَدٍ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ بِدِرْهَمٍ وَاحِدٍ، كَانَتْ فِي كِفَايَةٍ، بَلْ فِي رَغَدٍ، وَكَانَتْ وَاعِدَةً لِأَبْنَائِهَا بِمُسْتَقْبَلِ ثَرْوَتِهَا الَّتِي آلَتْ إِلَيْهَا.

ثُمَّ وَقَعَ مَا وَقَعَ، وَدَبَّ مَا دَبَّ بِإِحْدَاثِ الْفَجْوَةِ، وَتَعْمِيقِ الْبَغْضَاءِ بَيْنَ الْحُكَّامِ وَرَعِيَّتِهِمْ، مِمَّا أَدَّى إِلَى مَا أَدَّى إِلَيْهِ؛ مِنْ إِنْفَاذٍ لِلْمُؤَامَرَةِ الصُّهْيُو صَلِيبِيَّةِ الْمَاسُونِيَّةِ، الَّتِي تَضَافَرَ عَلَى إِنْجَاحِهَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْبِلَادِ الْعَرَبِيَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ أَعْدَاءٌ لِهَذَا الدِّينِ؛ مِنْ مَشْرِقٍ وَمَغْرِبٍ، وَمِنْ بَنِي جِلْدَتِنَا، الَّذِينَ يُصَلُّونَ إِلَى قِبْلَتِنَا، وَيُصَلُّونَ صَلَاتَنَا، وَيَنْطِقُونَ بِلُغَتِنَا، وَلَكِنَّهُمْ انْحَازُوا إِلَى أُولَئِكَ، وَصَارُوا إِلْبًا وَعَدُوًّا قَاهِرًا مُغَامِرًا بِأَبْنَاءِ دِينِهِمْ وَأَبْنَاءِ عُرُوبَتِهِمْ وَسَاكِنِي وَطَنِهِمْ، حَتَّى آلُوا إِلَى مَا آلُوا إِلَيْهِ.

الْجَمَاهِيرُ الَّتِي اسْتُلِبَتْ، وَالْجَمَاهِيرُ الَّتِي ابْتُلِيَتْ بِدَاءِ الِاسْتِهَانَةِ كَأَنَّهَا لَا تَرَى!! تَعْشُو مِنْهَا الْأَنْظَارُ بَلْ تَعْمَى، فَلَا تَكَادُ تُبْصِرُ شَيْئًا، بَلْ لَا تُبْصِرُ شَيْئًا، وَذَهَبَ الْإِدْرَاكُ عَنْ حِسِّهَا، تَبَلَّدَ، لَا؛ بَلْ مَاتَ، فَهِيَ لَا تَتَّعِظُ وَلَا تَعْتَبِرُ، وَحَتَّى إِذَا مَا وَقَعَ عَلَيْهَا شَيْءٌ فَإِنَّهُ لَا يُثْمِرُ نَتِيجَةً مَرْجُوَّةً، وَقَدْ ذَاقُوا الَّذِي ذَاقُوهُ، وَسَلَّمَ اللهُ.

وَلَوْلَا أَنَّ اللهَ سَلَّمَ مَا بَقِيَ أَحَدٌ فِي أَمْنٍ وَلَا أَمَانٍ، وَلَا هُدُوءٍ وَلَا اطْمِئْنَانٍ، وَلَا سِلْمٍ وَلَا سَلَامٍ، وَلَانْتُهِكَتِ الْأَعْرَاضُ، وَسُلِبَتِ الثَّرْوَاتُ، وَأُرِيقَتِ الدِّمَاءُ، وَأُزْهِقَتِ الْأَرْوَاحُ، وَصَارَ جَمْعُ الْوَطَنِ بَدَدًا، وَشَمْلُهُ مُمَزَّقًا، وَلَكِنَّ اللهَ سَلَّمَ.

لَوْ تَأَمَّلْتَ فِي هَذَا دَلَّكَ عَلَى وُجُوبِ الْتِزَامِ الصَّبْرِ وَالْحِكْمَةِ, وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَّخَذَ الدِّينُ تُكَأَةً مِنْ أَجْلِ إِرَاقَةِ الدِّمَاءِ, وَوُقُوعِ الْفَوْضَى؛ فَكُلُّ هَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى وَفِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

وَمَنْ وَقَعَ فِيهِ فَهُوَ مُتَّبِعٌ لِأَعْدَاءِ اللهِ, مُنَفِّذٌ لِخُطَطِ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ مِنْ أَتْبَاعِ الشَّيَاطِينِ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ كُلَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِهِمْ قَيْنًا وَعَبْدًا مِنَ الْأُمَمِيِّينَ، الَّذِينَ لَا يَرْقُبُونَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً.

 فَعَلَى كُلِّ مَنْ كَانَ وَاعِيًا لِدِينِهِ، مُحَافِظًا عَلَى يَقِينِهِ، مُلْتَزِمًا لِأَمْرِ رَبِّهِ، مُتَّبِعًا لِرَسُولِ اللهِ ﷺ أَنْ يَنْأَى بِنَفْسِهِ عَنْ إِحْدَاثِ الْفَوْضَى وَالشَّرِّ, وَأَنْ يَكُونَ بِمَبْعَدَةٍ عَنْ تَقْرِيرِ مَا هُوَ بَعِيدٌ عَلَى أَعْدَائِنَا حَتَّى يَصِيرَ دَانِيًا, فِيهِ قُرَّةُ الْعَيْنِ لَهُمْ, وَفِيهِ مَا تَرَى مِمَّا يُتَوَعَّدُ بِهِ أَهْلُ مِصْرَ, حَفِظَهَا اللهُ تَعَالَى وَرَعَاهَا وَسَائِرَ بُلْدَانِ الْمُسْلِمِينَ.

هَذَا هُوَ الْأَمْرُ الْأَوَّلُ, تَخَالُفٌ، وَتَدَابُرٌ، وَتَقَاطُعٌ، وَشِقَاقٌ، وَأُهَيِّجُ مِصْرِيِّينَ عَلَى مِصْرِيِّينَ, حَتَّى يَقْتُلَ الْأَخُ أَخَاهُ، وَحَتَّى يَسْبِي الْأَخُ أَخَاهُ, مَدِينَةً مَدِينَةً, وَمَمْلَكَةً مَمْلَكَةً, حَتَّى تَتَبَدَّدُوا فِي الْأَرْضِ مِزَقًا وَبِدَدًا.

هَذَا هُوَ الْأَمْرُ الْأَوَّلُ، تَوْرَاتِيٌّ مَحْضٌ.

فَيَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَحْذَرَ مِنَ التَّخَالُفِ, وَالتَّهَارُجِ, وَالتَّنَاوُشِ, وَالتَّقَاتُلِ, وَالتَّصَارُعِ, وَأَنْ نَكُونَ إِخْوَانًا فِي اللهِ مُتَحَابِّينَ, لَا مُتَدَابِرِينَ, وَلَا مُتَقَاطِعِينَ, دَاعِينَ إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ, حَتَّى يَأْذَنَ اللهُ تَعَالَى بِمَا يَشَاءُ, كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-, وَالْأَمْرُ للهِ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ, يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَقْضِي بِمَا يُرِيدُ.

نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُسَلِّمَ وَطَنَنَا وَجَمِيعَ أَوْطَانِ الْمُسْلِمِينَ .

وَأَمَّا الْأَمْرُ الثَّانِي فَهُوَ: أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النِّعَمِ لَا يَعْرِفُ الْعَبْدُ قَدْرَهَا إِلَّا إِذَا فَقَدَهَا, وَنِعْمَةُ الْمَاءِ الَّتِي أَنْعَمَ اللهُ تَعَالَى بِهَا عَلَى هَذَا الْبَلَدِ بِمَا أَجْرَى فِيهَا مِنَ النَّهْرِ الْمُبَارَكِ, نِعْمَةٌ جَلِيلَةٌ مِنْ أَجَلِّ نِعَمِ اللهِ عَلَى أَهْلِ هَذَا الْبَلَدِ.

 فَيَنْبَغِي عَلَيْهِمْ أَنْ يُحَافِظُوا عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ, وَأَلَّا يُسْرِفُوا فِيهَا مُبَدِّدِينَ إِيَّاهَا, وَهَذَا كُلُّهُ لَا يَرْضَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ, وَلَا يُحِبُّهُ.

 فَالْإِسْرَافُ مِنْ خُلُقِ أَتْبَاعِ الشَّيَاطِينِ مِنْ أَعْدَاءِ الدِّينِ.

 وَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ:

*إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِأَنْ تَبْذُلَ فَوْقَ مَا تَحْتَمِلُهُ طَاقَتُكَ, فَهَذَا إِسْرَافٌ كَمِّيٌّ .

*وَأَمَّا الْإِسْرَافُ الْكَيْفِيُّ: فَأَنْ تَتَجَاوَزَ بِذَلِكَ الْإِنْفَاقِ الْحَدَّ, وَلَوْ كَانَ فِي دِرْهَمٍ وَاحِدٍ, فَإِنَّ وَضْعَ الْقَلِيلِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ مِمَّا يُغْضِبُ اللهَ  -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، هُوَ إِسْرَافٌ؛ لِأَنَّ وَضْعَ الْقَلِيلِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ مِمَّا يُغْضِبُ اللهَ إِسْرَافٌ وَلَوْ كَانَ دِرْهَمًا وَاحِدًا, فَلَيْسَ بِكَثْرَتِهِ عَدًّا, وَإِنَّمَا بِوَضْعِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ كَيْفًا.

فَالْإِسْرَافُ مِنْ حَيْثُ الْكَيْفُ مَا أُنْفِقَ فِي مَعْصِيَةِ الرَّبِّ -جَلَّ وَعَلَا-, وَطَاعَةِ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ, وَلَوْ كَانَ أَقَلَّ الْقَلِيلِ.

فَإِنَّ الْمَرْءَ وَلَوْ مَلَكَ أُلُوفًا مُؤَلَّفَةً, وَأَضْعَافًا مُضَاعَفَةً, وَوَضَعَ دِرْهَمًا وَاحِدًا فِي مَعْصِيَةِ اللهِ, كَانَ مُسْرِفًا مُتَوَعَّدًا بِمَا يُتَوَعَّدُ بِهِ مَنْ أَسْرَفَ, وَتَجَاوَزَ, وَتَعَدَّى, وَظَلَمَ.

 كَأَنْ يَضَعَ دِرْهَمًا فِي يَدِ فَاجِرَةٍ, أَوْ يَشْتَرِي بِدِرْهَمٍ وَاحِدٍ -وَقَدْ مَلَكَ أُلُوفًا مُؤَلَّفَةً- خَمْرًا, فَهُوَ مُسْرِفٌ, وَإِنْ كَانَ مَا أَنْفَقَهُ قَلِيلًا.

وَأَمَّا وَضْعُ الْكَثِيرِ وَلَوِ اشْتَمَلَ عَلَى الْمَالِ كُلِّهِ فِي طَاعَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-, فَلَا يُعَدُّ إِسْرَافًا, كَمَا فَعَلَ الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-, فَقَدْ أَتَى بِمَالِهِ كُلِّهِ، فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ ﷺ صَدَقَةً يَتَصَدَّقُ بِهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ؛ طَاعَةً لِلَّهِ وَطَاعَةً لِرَسُولِ اللهِ ﷺ.

فَانْسَلَخَ مِنْ مَالِهِ جَمِيعًا, وَلَمْ يُرَاجِعْهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَلَمْ يُعَدَّ مُسْرِفًا.

 فَمَهْمَا وَضَعْتَ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ مَالٍ مِمَّا يَرْضَى اللهُ عَنْهُ، وَمَهْمَا كَثُرَ ذَلِكَ الَّذِي تُعْطِي للهِ -جَلَّ وَعَلَا- فَلَيْسَ ذَلِكَ بِإِسْرَافٍ.

وَمَهْمَا وَضَعْتَ مِنْ قَطْرَةٍ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي آتَانَا اللهُ تَعَالَى مِنْ فَضْلِهِ وَنِعَمَتِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ, فَهُوَ إِسْرَافٌ يُبَدِّدُ رُوحَ أُمَّةٍ, وَيُصَحِّرُ أَرْضَ قُطْرٍ مِنْ أَقْطَارِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.

نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُبَارِكَ فِيهِ, وَأَنْ يَحْفَظَهُ وَسَائِرَ أَقْطَارِ الْمُسْلِمِينَ.

وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُ مَا يَدُورُ عِنْدَ مَنْبَعِ النِّيلِ, وَلَا عَلَى مَدَارِ مَجْرَاهُ، فَيُؤَثِّرُ عَلَى مَصَبِّهِ, وَأَنَّ ذَلِكَ مُخَطَّطٌ تَوْرَاتِيٌّ عَلَى حَسَبِ النُّبُوءَةِ, كَمَا فِي الْمَوْضِعِ نَفْسِهِ -الَّذِي مَرَّ-.

وَمِنْ عَجَائِبِ اتِّفَاقِ الْمَقَادِيرِ أَنْ يَكُونَ هَذَا النَّصُّ التَّوْرَاتِيُّ الْمُدَّعَى الْمُفْتَرَى الْمَكْذُوبُ نَصًّا شَامِلًا لِلْأَمْرَيْنِ, وَقَدْ تَزَامَنَا فِي هَذَا الْوَقْتِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ.

((وَأُهَيِّجُ مِصْرِيِّينَ عَلَى مِصْرِيِّينَ))؛ لِكَيْ يَسِيرَ الْمُجْتَمَعُ إِلَى الْفَوْضَى, فَإِذَا وَقَعَتْ -نَسْأَلُ اللهَ الْعَافِيَةَ- فَقَدْ خَسِرَ هَذَا الْقُطْرُ الْمُسْلِمُ الْعَظِيمُ مَكَاسِبَ الْإِسْلَامِ فِيهِ عَلَى مَدَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَرْنًا مِنَ الزَّمَانِ, نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ .

((وَأُهَيِّجُ مِصْرِيِّينَ عَلَى مِصْرِيِّينَ، فَيُحَارِبُونَ كُلُّ وَاحِدٍ أَخَاهُ, وَكُلُّ وَاحِدٌ صَاحِبَهُ)), وَتَقَعُ الْفَوْضَى فِي الْقُطْرِ الَّذِي نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَحْفَظَهُ اللهُ بِحِفْظِهِ الْجَمِيلِ، ((مَدِينَةً مَدِينَةً, وَمَمْلَكَةً مَمْلَكَةً, وَيُهْرَاقُ رُوحُ مِصْرَ دَاخِلَهَا)).

 ثُمَّ يَأْتِي الشِّقُّ الثَّانِي: ((وَتُنَشَّفُ الْمِيَاهُ مِنَ الْبَحْرِ))؛ لِأَنَّ الْمَاءَ إِذَا قَلَّ عِنْدَ الْمَصَبِّ وَهُوَ يَصُبُّ -أَيِ النَّهْرُ- فِي الْبَحْرِ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ-, تَتَحَقَّقُ هَذِهِ النُّبُوءَةُ فِي ((سِفْرِ إِشْعَيَاءَ, فِي الْأَصْحَاحِ التَّاسِعَ عَشَرَ مِنْ رَقْمِ ثَلَاثَةٍ إِلَى رَقْمِ سَبْعَةٍ)): ((وَتُنَشَّفُ الْمِيَاهُ مِنَ الْبَحْرِ)).

 وَهُمْ يُحَاوِلُونَ تَحْوِيلَ الْمَجْرَى عِنْدَ الْمَنْبَعِ بِأَنْ يَصُبَّ النَّهْرُ فِي الْبَحْرِ الْأَحْمَرِ, وَأَلَّا يَمْضِيَ فِي طَرِيقِهِ كَمَا هُوَ مَعْهُودٌ مَرْسُومٌ لَهُ بِقَدَرِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

 حَاوَلُوا ذَلِكَ قَدِيمًا فَلَمْ يُفْلِحُوا, ثُمَّ يُحَاوِلُونَ مَا يُحَاوِلُونَ؛ بِبِنَاءِ السُّدُودِ، وَتَقْلِيلِ حِصَّةِ مِصْرَ مِنَ الْمِيَاهِ؛ حَتَّى لَا يَصِلَ إِلَى هَذِهِ الدِّيَارِ -الَّتِي نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَحْفَظَهَا, وَأَنْ يُبَارِكَ فِي أَبْنَائِهَا, وَأَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ قُلُوبِ أَهْلِهَا حُكَّامًا وَمَحْكُومِينَ؛ حَتَّى يَكُونُوا جَمِيعًا عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ فِي طَاعَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ, وَاتِّبَاعِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ ﷺ.

 يُحَاوِلُونَ مَا يُحَاوِلُونَ؛ حَتَّى لَا يَصِلَ إِلَى هَذِهِ الدِّيَارِ مَا يَكْفِيهَا مِنْ مِيَاهِ النَّهْرِ، فَتَقِلُّ الْمِيَاهُ, وَحِينَئِذٍ تَقَعُ النُّبُوءَةُ التَّوْرَاتِيَّةُ -بِزَعْمِهِمْ-.

وَهَؤُلَاءِ قَوْمٌ عَمَلِيُّونَ, لَيْسُوا بِخَيَالِيِّينَ، هُمْ يَعْرِفُونَ كَيْفَ يُنَفِّذُونَ, وَيُخَطِّطُونَ قَبْلَ التَّنْفِيذِ, وَيُحْسِنُونَ التَّنْفِيذَ بَعْدَ التَّخْطِيطِ؛ مِنْ أَجْلِ الْوُصُولِ إِلَى تَحْقِيقِ النُّبُوءَةِ, وَهِيَ عِنْدَهُمْ مَعْصُومَةٌ، وَوَعْدٌ إِلَهِيٌّ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ.

((وَتُنَشَّفُ الْمِيَاهُ مِنَ الْبَحْرِ, وَيَجِفُّ النَّهْرُ -يَعْنِي: نَهْرَ مِصْرَ, نَهْرَ النِّيلَ- وَيَيْبَسُ وَتُنْتِنُ التُّرَعُ, وَتَضْعُفُ, وَتَجِفُّ سَوَاقِي مِصْرَ, وَيَتْلَفُ الْقَصَبُ وَالْأَسَلُ)).

هَذَا كُلُّهُ مَبْذُولٌ، صَارَ مَعْرُوفًا، فَمَاذَا صَنَعَ قَوْمِي؟!!

مَرُّوا مُرُورَ الْكِرَامِ كَأَنْ لَمْ يَسْمَعُوا شَيْئًا، وَلَمْ يُعَوِّلُوا عَلَى شَيْءٍ، وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ!!

 ((دِينُ الْإِسْلَامِ دِينُ الرَّحْمَةِ وَالسَّلَامِ))

قَالَ ﷺ: ((مَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجَرَهَا، وَلَا يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا، وَلَا يَفِي لِذِي عَهْدٍ عَهْدًا فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ)) . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-.

هَذَا الدِّينُ العَظِيمُ لَمْ يُبِحْ لِأَحَدٍ قَطُّ أَنْ يَعْتَدِيَ عَلَى أَحَدٍ وَلَوْ فِي مِثْقَالِ ذَرَّةٍ، فَإِنْ وَقَعَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ؛ وَلَمْ يُوَفَّ حَقَّهُ فِي الدُّنْيَا؛ فَإِنَّمَا هُوَ الْقِصَاصُ فِي الْآخِرَةِ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَبْعَثُ الخَلَائِقَ يَوْمَ القِيَامَةِ، ثُمَّ يَقْضِي بَيْنَهُمْ؛ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ، وَكَمَا بَيَّنَ الرَّسُولُ ﷺ فِي خِطَابِهِ.

يَبْعَثُ اللهُ تَعَالَى الخَلَائِقَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَيَقْضِي رَبُّنَا بَيْنَهَا بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ؛ حَتَّى لَيَفْصِلَ رَبُّكَ بَيْنَ الشَّاةِ الجَلْحَاءِ الَّتِي لَا قَرْنَ لَهَا وَالشَّاةِ القَرْنَاءِ الَّتِي لَهَا قَرْنٌ، فَنَطَحَتْ بِهِ الجَلْحَاءَ، وَلَمْ يُقْتَصَّ مِنْهَا هَاهُنَا، يَقْتَصُّ اللهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ القَرْنَاءِ لِلجَلْحَاءِ؛ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي الحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٍ فِي «صَحِيحِهِ» ؛ فيُنشئُ لِلْجَلْحَاءِ قَرْنَيْنِ، فَتَضْرِبُ وَتَنْطَحُ الأُخْرَى كَمَا نَطَحَتْهَا وَضَرَبَتْهَا، ثُمَّ يَقُولُ: كُونِي تُرَابًا، عَدْلٌ مَحْضٌ.

إِنَّهُ العَدْلُ الَّذِي لَا عَدْلَ فَوْقَهُ.

إِنَّهُ الحَقُّ الَّذِي لَا حَقَّ بَعْدَهُ.

وَلَمْ يُعْلَمْ مَعَ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ دِينًا أَهَانَهُ وَظَلَمَهُ أَبْنَاؤُهُ فِي هَذَا الْعَصْرِ كَدِينِ الْإِسْلَامِ العَظِيمِ، فَمَا أَكْثَرَ مَا شَوَّهَهُ بَعْضُ مَنِ انْتَمَى إِلَيْهِ وَانْتَسَبَ إِلَيْهِ ظُلْمًا وَزُورًا وَبُهْتَانًا!

لَا يُعْلَمُ دِينٌ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ فَرَّطَ فِيهِ أَقْوَامٌ مِمَّنْ يَنْتَسِبُونَ إِلَيْهِ كَهَذَا الدِّينِ العَظِيمِ، كَأَنَّمَا يَسْعَوْنَ جَاهِدِينَ لِتَشْوِيهِ دِينِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الَّذِي رَضِيَهُ اللهُ لِخَلْقِهِ فِي أَرْضِهِ، يُشَوِّهُونَهُ حَتَّى فِي أَعْيُنِ الْمُسْلِمِينَ الْجَاهِلِينَ، وَعِنْدَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ!!

مَا الَّذِي أَفَادَهُ الْإِسْلَامُ مِنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ وَالتَّجَاوُزَاتِ؟!!

لَمْ يُفِدْ شَيْئًا، بَلْ وَقَعَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ضَرَرٌ وَحَيْفٌ وَظُلْمٌ، وَعَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَعَلَى الْعُلَمَاءِ الْمُسْتَنِيرِينَ مِنْ أَتْبَاعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَقَعَ الظُّلْمُ، وَوَقَعَ التَّهَارُجُ وَالتَّهَارُشُ وَالتَّفَرُّقُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِسَبَبِ أَفْعَالِ بَعْضِ مَنْ يَنْتَمِي إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.

وَلَيْسَ شَرْطًا أَنْ يَكُونَ دَائِمًا مَا يَقَعُ مِنَ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَالِاعْتِدَاءِ، وَالتَّفْجِيرِ، وَالتَّدْمِيرِ، وَالتَّخْرِيبِ، وَالْقَتْلِ، لَيْسَ شَرْطًا أَنْ يَكُونَ مَا يَقَعُ مِنْ ذَلِكَ دَائِمًا وَاقِعًا عَلَى أَيْدٍ مُسْلِمَةٍ آثِمَةٍ ظَالِمَةٍ، وَلَكِنْ مَا يَحْدُثُ وَمَا سَبَقَ أَنْ حَدَثَ مِنَ الْأَحْدَاثِ جَعَلَ النَّاسَ إِذَا وَقَعَ شَبِيهٌ لَهَا يَقُولُونَ: إِنَّمَا هُوَ مِنْ فِعْلِ الْمُسْلِمِينَ.

وَا حَسْرَتَاهُ!! صَارَ مَقْرُونًا بِالمُسْلِمِ وَصْفُ الْإِرْهَابِ، وَهُوَ مِنْهُ بَرَاءٌ.

هَذَا دِينٌ عَلَّمَ الدُّنْيَا السَّلَامَ، عَلَّمَ الدُّنْيَا الرَّحْمَةَ.

إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ عَلَّمَ الدُّنْيَا الرَّحْمَةَ، حَتَّى بِالنَّبَاتِ: «لَا تَقْطَعُوا شَجَرَةً وَلَا تَحْرِقُوهَا» ، بَلْ حَتَّى بِالْجَمَادِ: «لَا تَهْدِمُوا بُنْيَانًا وَلَا تَنْقُضُوهُ» .

لَا تُخَرِّبُوا فِي الأَرْضِ وَلَا تُفْسِدُوا فِيهَا.

عَلَّمَ النَّبِيُّ ﷺ الْعَالَمَ الرَّحْمَةَ، ثُمَّ يَصِيرُ دِينُهُ الْحَقُّ الَّذِي رَضِيَهُ اللهُ لَهُ وَلَنَا وَلِلْعَالَمِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ دينا وَمُعْتَقَدًا، يَصِيرُ دِينُهُ الْحَقُّ مَسْبُوبًا عَلَى كُلِّ لِسَانٍ بِأَفْعَالٍ خَرْقَاءَ.

لَيْسَ شَرْطًا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، نَسْأَلُ اللهَ أَلَّا يَكُونَ، وَأَنْ يَنْتَبِهَ الْمُسْلِمُونَ؛ حَتَّى يَعْلَمُوا مَا يُكَادُ لَهُمْ، وَمَا يُدَبَّرُ لَهُمْ بِلَيْلٍ فِي السَّرَادِيبِ الْمُظْلِمَةِ، بَلْ عَلَى قَوَارِعِ الطُّرُقِ؛ مِنْ أَجْلِ تَفْتِيتِ وَحْدَتِهِمْ، وَمِنْ أَجْلِ تَمْزِيقِ عُرَى وَطَنِهِمْ، الَّذِي تُرْفَعُ عَلَيْهِ جُمَلُ الْأَذَانِ، مُسَبِّحَةً بِحَمْدِ اللهِ، مُكَبِّرَةً أَمْرَهُ، رَافِعَةً شِعَارَ تَوْحِيدِهِ: ((أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، أَشْهَدُ أن مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ)).

((مَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجَرَهَا، وَلَا يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا، وَلَا يَفِي لِذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ)).

النَّبِيُّ ﷺ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ، الَّذِي ذَكَرَهُ مَوْصُولًا إِلَيْهِ ﷺ الطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْكَبِيرِ))، وَكَذَا فِي الْحَدِيثِ الْمَوْقُوفِ عَلَى جُنْدَبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي ((الصَّحِيحِ)) : ((إِنَّ أَوَّلَ مَا يُنْتِنُ مِنَ الْإِنْسَانِ بَطْنُهُ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا يَأْكُلَ إِلَّا طَيِّبًا فَلْيَفْعَلْ، وَمَنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا يُحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ بِمِلْءِ كَفٍّ مِنْ دَمٍ هَرَاقَهُ -أَيْ أَرَاقَهُ- فَلْيَفْعَلْ)).

مَفْهُومُ هَذَا الْمَنْطُوقِ: أَنَّ مَنْ أَهْرَاقَ مِلْءَ كَفٍّ مِنْ دَمٍ حَرَامٍ حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَنَّةِ رَبِّنَا الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ.

((حَقِيقَةُ الْخَوَنَةِ لِمِصْرَ الْحَبِيبَةِ فِي السَّنَوَاتِ الْأَخِيرَةِ))

أَيُّ فَائِدَةٍ تَعُودُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَوْ تَعُودُ عَلَى الْإِسْلَامِ، بَلْ تَعُودُ عَلَى مِصْرَ مِنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَمِنْ بَثِّ الشَّحْنَاءِ وَالْكَرَاهِيَةِ، وَإِشَاعَةِ الشَّائِعَاتِ الْفَاجِرَةِ الظَّالِمَةِ، كُلُّهَا إِفْكٌ وَبُهْتَانٌ.

أَقْوَامٌ مَرَّ عَلَيْهِمْ خَمْسَةُ أَعْوَامٍ؛ يَصِيحُونَ، بَلْ يَنْعَقُونَ عَلَى الْخَرَائِبِ كَالْبُومِ مِنْ دُوَلٍ تُحَارِبُ بَلَدَهُمْ، فَتُحَارِبُ تَبَعًا دِينَ بَلَدِهِمْ، تُحَارِبُ مُسْتَقْبَلَهُمْ، تُحَارِبُ أَعْرَاضَهُمْ، تُهَدِّدُهُمْ فِي أَعَزِّ مَا يَمْلِكُونَ، فِي دِينِهِمْ؛ بِمُحَاوَلَةِ إِشَاعَةِ الْفَوْضَى، وَبَثِّ رُوحِ الْكَرَاهِيَةِ وَالثَّوْرَةِ بَيْنَ أَبْنَاءِ هَذَا الْبَلَدِ الطَّيِّبِ.

مَرَّ عَلَيْهُمْ خَمْسَةُ أَعْوَامٍ مِنْ شُذَّاذِ الْآفَاقِ مِنَ الْمُجْرِمِينَ الَّذِينَ يَدَّعُونَ الرُّجُولَةَ، وَقَدْ فَرُّوا فِرَارَ النَّعَامِ!!

لِمَ لَمْ تَبْقُوا فِي بَلَدِكُمْ، وَتُعْلِنُوا كَلِمَتَكُمْ، وَتَتَحَمَّلُوا تَبِعَةَ مَا تَقُولُونَ، وَمَسْئُولِيَةَ مَا بِهِ تَنْطِقُونَ؟!!

أَيُّهَا الْخَوَنَةُ الْكَذَبَةُ! أَيُّهَا الْجُبَنَاءُ! يَا مَنْ فَرَرْتُمْ فِرَارَ النَّعَامِ، يُطْعِمُكُمْ وَيَغْذُوكُمْ، وَيُنْفِقُ عَلَيْكُمْ -كَمَا يُنْفِقُ الرَّجُلُ عَلَى امْرَأَتِهِ وَأَمَتِهِ، لَا عَلَى عَبْدِهِ، بَلْ عَلَى أَمَتِهِ- أَعْدَاءُ بَلَدِكُمْ، أَعْدَاءُ دِينِكُمْ، أَعْدَاءُ مُسْتَقْبَلِكُمْ.

يُنْفِقُونَ عَلَيْكُمْ، تَنْعَمُونَ بِمَا يَبْذُلُونَ لَكُمْ مِنْ مَالٍ حَرَامٍ، فِيهِ مِنَ الْإِسْرَافِ مَا فِيهِ؛ لِأَنَّهُ وَضْعٌ لَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَلَوْ أَنْفَقَتْهُ دَوْلَةٌ تَمْلُكُ مَالَ الْأَرْضِ كُلَّهُ، فَهُوَ إِسْرَافٌ؛ لِوَضْعِهِ مَوْضِعَ الْمُحَارَبَةِ لِدِينِ اللهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ الْآمِنِينَ؛ مِنْ أَجْلِ إِرَاقَةِ دِمَائِهِمْ، وَاسْتِبَاحَةِ أَعْرَاضِهِمْ، وَسَلْبِ مُقَدَّرَاتِهِمْ وَثَرْوَاتِهِمْ، وَسَفْكِ دِمَائِهِمْ، وَالْعَبَثِ بِمُسْتَقْبَلِ أَبْنَائِهِمْ وَحَفَدَتِهِمْ.

مَرَّتْ خَمْسَةُ أَعْوَامٍ، مَرَّتْ كَئِيبَةً حَزِينَةً يَائِسَةً عَلَى هَؤُلَاءِ، وَسَتَمُرُّ أَعْوَامٌ وَأَعْوَامٌ إِنْ لَمْ يَكُفُّوا، وَكَيْفَ يَكُفُّونَ؟!! هِيَ سَبُّوبَتُهُمْ، هِيَ مَا بِهِ يَعِيشُونَ، وَمِنْهَ يُنْفِقُونَ.

وَتَصَوَّرْ إِنْسَانًا سُلِبَتْ مِنْهُ إِنْسَانِيَّتُهُ، دَعْكَ مِنَ الدِّينِ، وَمِنَ الْمُثُلِ، وَمِنَ الْقِيَمِ، وَمِنَ التَّعَالِيمِ، وَلَكِنْ سُلِبَتْ إِنْسَانِيَّتُهُ، تَدَنَّى، فَصَارَ أَحَطَّ مِنَ الْحَيَوَانِ، فَإِنَّ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ مَا يُدَافِعُ عَنْ جُحْرِهِ، وَمِنَ الطُّيُورِ مَا يُدَافِعُ عَنْ عُشِّهِ، بَلْ مِنَ الْحَشَرَاتِ، النِّمَالُ، النَّحْلُ، يُحَافِظُونَ عَلَى وَطَنِهِمْ وَمُسْتَقَرِّهِمْ، وَيَمُوتُونَ دُونَ أَمْنِهِمْ وَدُونَ ذُرِّيَّتِهِمْ.

هَؤُلَاءِ سُلِبُوا هَذَا كُلَّهُ، فَأَنَّى يَرْعَوُونَ، وَمَتَى يَكُفُّونَ، وَحَيَاتُهُمْ مَوْصُولَةٌ بِهَذَا النَّتْنِ الَّذِي مِنْهُ وَعَلَيْهِ يَعِيشُونَ؟!!

مَرَّتْ خَمْسَةُ أَعْوَامٍ يُهَيِّجُونَ هَذَا الشَّعْبَ الطَّيِّبِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَثُورَ، مِنْ أَجْلِ أَنْ يَنْتَفِضَ -كَمَا يَقُولُونَ-، وَيَدَّعُونَ أَنَّ الثَّوْرَةَ مُسْتَمِرَّةٌ!!

أَيُّ ثَوْرَةٍ؟!!

هَذِهِ كَانَتِ انْتِفَاضَةً، كَأَنَّهَا انْتِفَاضَةُ مَحْمُومٍ، وَلَّتْ وَذَهَبَتْ، وَصَحَّ الْجَسَدُ بَعْدُ، وَأَفَاقَ أَبْنَاءُ هَذَا الْوَطَنِ إِلَّا مَنْ كَانَ مُتَآمِرًا خَائِنًا، لَا يُحَافِظُ عَلَى دِينٍ، وَلَا يُحَافِظُ عَلَى وَطَنٍ، لَا يَنْتَمِي إِلَى أَرْضٍ وَلَا عِرْضٍ.

وَآخِرُ فُرْصَةٍ هِيَ هَذِهِ الَّتِي عَلَيْهَا الْآنَ يَتَكَالَبُونَ، وَيُقَامِرُونَ عَلَى هَذَا الشَّعْبِ؛ حَتَّى يَقِفَ نَاحِيَةً، لِكَيْ يُعَبِّرَ تَعْبِيرًا سَلْبِيًّا، نَاطِقًا بِلِسَانٍ غَيْرِ نَاطِقٍ، وَبِمَنْطِقٍ لَيْسَ سِوَى صَامِتٍ؛ أَنَّهُ لَا يَرْضَى!! وَلَكِنَّهُ مَقْمُوعٌ مَقْهُورٌ، وَكَذَبُوا!!

أَلَا تَرَى الدُّنْيَا؟!!

أَلَا تُبْصِرُ؟!!

أَلَا يَعْلَمُ مَنْ أُوتِيَ ذَرْوًا مِنَ الْعَقْلِ وَقَلِيلًا مِنَ الْحِكْمَةِ مَا يَجْرِي فِي مِصْرَ، وَمَا مَنَّ اللهُ تَعَالَى بِهِ؟!!

أَيُّ فَائِدَةٍ تَعُودُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَوْ تَعُودُ عَلَى الْإِسْلَامِ، بَلْ تَعُودُ عَلَى مِصْرَ مِنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ؟!!

ضَرَرٌ مَاحِقٌ.. وَخَرَابٌ مُبِينٌ.. وَفُرْقَةٌ وَشَتَاتٌ.. وَتَأَخُّرٌ لِلدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ، وَرَمْيٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِمَا هُمْ مِنْهُ بُرَآءُ، وَتَنَازُلَاتٌ عَنْ ثَوَابِتَ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ؛ لِعَدَمِ الْمُرَاعَاةِ لِلضُّغُوطِ الْعَالَمِيَّةِ؛ لِأَنَّ وَطَنَنَا تَمْخُرُ سَفِينَتُهُ بَيْنَ أَنْوَاءِ الْفِتَنِ وَعَوَاصِفِهَا فِي بَحْرِ الظُّلُمَاتِ.

يَنْبَغِي أَلَّا يُحَاوِلَ أَحَدٌ قَطُّ أَنْ يَخْرِقَ سَفِينَةَ الْوَطَنِ خَرْقًا، وَمَنْ فَعَلَ فَوَيْلٌ لَهُ، ثُمَّ وَيْلٌ لَهُ، ثُمَّ وَيْلٌ لَهُ!!

وَيْلٌ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَخْرِقَ السَّفِينَةَ؛ لِيُغْرِقَ أَهْلَهَا، وَيْلٌ لَهُ، ثُمَّ وَيْلٌ لَهُ!!

وَطَنٌ تَمْخُرُ سَفِينَتُهُ فِي بِحَارٍ عَاصِفَاتٍ، وَفِتَنٍ مُدْلَهِمَّاتٍ تَهُبُّ مِنْ هَاهُنَا وَهُنَاكَ، مِنْ دَاخِلٍ وَخَارِجٍ، وَكَيْدٍ ظَاهِرٍ وَبَاطِنٍ، وَأَمْرٍ مُسْتَقِرٍّ قَدْ جَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيهِ عِزَّةً لِلدِّينِ ظَاهِرَةً، يُفَرِّطُ فِيهَا مَنْ يَسْتَبْدِلُ بَعْرَةً بِدُرَّةٍ!!

مَنْ يَدَعُ الدُّرَّةَ الْيَتِيمَةَ لِيَلْتَقِطَ بَعْرَةً نَتِنَةً؟!!

وَمَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا مِنْ أَهْلِ الْعَقْلِ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مَائِقٌ مَجْنُونٌ، أَوْ خَائِنٌ مَفْتُونٌ، أَوْ هُمَا مَعَا.

وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.

 

المصدر:مَنْزِلَةُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَالْمُؤَامَرَةُ عَلَى مِصْرَ الْآنَ!!

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان