الْقِيَمُ الْإِنْسَانِيَّةُ فِي سُورَةِ الْحُجُرَاتِ

الْقِيَمُ الْإِنْسَانِيَّةُ فِي سُورَةِ الْحُجُرَاتِ

((الْقِيَمُ الْإِنْسَانِيَّةُ فِي سُورَةِ الْحُجُرَاتِ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّه نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((عِنَايَةُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ بِالْقِيَمِ وَالْآدَابِ))

فَإِنَّ كِتَابَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيهِ الْأَمْرُ بِالتَّقْوَى، وَفِيهِ النَّهْيُ عَنِ الرَّذَائِلِ، وَالْحَثُّ عَلَى الْفَضَائِلِ، وَفِيهِ التَّخْوِيفُ بِالنَّارِ، وَالتَّرْغِيبُ فِي الْجَنَّةِ، وَفِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَفْهَمُهُ كُلُّ أَحَدٍ، فَهَذَا عَطَاءُ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ لِكُلِّ مَنْ سَمِعَهُ أَوْ تَلَاهُ.

قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء: 9].

إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الْقَرِيبَ مِنْكُمْ، الَّذِي يُتْلَى عَلَيْكُمْ لَهُ وَظَائِفُ كُبْرَى؛ مِنْهَا: أَنَّهُ يَدُلُّ وَيُرْشِدُ إِلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي هِيَ أَقْرَبُ إِلَى الِاعْتِدَالِ الْكَامِلِ فِي كُلِّ سُلُوكٍ بَشَرِيٍّ، وَيُبَشِّرُ الْقُرْآنُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا صَحِيحًا صَادِقًا الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ بِأَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا يَنَالُونَهُ فِي الْجَنَّةِ.

((دُرُوسٌ وَقِيَمٌ وَعِظَاتٌ مِنْ سُورَةِ الْحُجُرَاتِ))

* بَيْنَ يَدَيْ سُورَةِ الْحُجُرَاتِ:

فَسُورَةُ الْحُجُرَاتِ سُورَةٌ مَدَنِيَّةٌ، وَهِيَ عَلَى وَجَازَتِهَا سُورَةٌ جَلِيلَةٌ ضَخْمَةٌ، تَتَضَمَّنُ حَقَائِقَ التَّرْبِيَةِ الْخَالِدَةِ، وَأُسُسَ الْمَدَنِيَّةِ الْفَاضِلَةِ؛ حَتَّى سَمَّاهَا بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ (سُورَةَ الْأَخْلَاقِ).

وَابْتَدَأَتْ سُورَةُ الْحُجُرَاتِ بِالْأَدَبِ الرَّفِيعِ الَّذِي أَدَّبَ اللهُ -تَعَالَى- بِهِ الْمُؤْمِنِينَ تِجَاهَ شَرِيعَةِ اللهِ وَأَمْرِ رَسُولِهِ ﷺ، وَهُوَ أَلَّا يُبْرِمُوا أَمْرًا أَوْ يُبْدُوا رَأْيًا أَوْ يَقْضُوا حُكْمًا فِي وُجُودِ الرَّسُولِ ﷺ حَتَّى يَسْتَشِيرُوهُ وَيَسْتَمْسِكُوا بِإِرْشَادَاتِهِ الْحَكِيمَةِ: {يَا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1].

وَأَمَّا بَعْدَ وَفَاتِهِ ﷺ؛ فَبِالرُّجُوعِ إِلَى سُنَّتِهِ.

ثُمَّ انْتَقَلَتِ السُّورَةُ إِلَى أَدَبٍ آخَرَ، وَهُوَ خَفْضُ الصَّوْتِ إِذَا تَحَدَّثُوا مَعَ الرَّسُولِ ﷺ؛ تَعْظِيمًا لِقَدْرِهِ الشَّرِيفِ، وَاحْتِرَامًا لِمَقَامِهِ السَّامِي؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ كَعَامَّةِ النَّاسِ، بَلْ هُوَ رَسُولُ اللهِ، وَمِنْ وَاجِبِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَأَدَّبُوا مَعَهُ فِي الْخِطَابِ مَعَ التَّوْقِيرِ وَالتَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ}.

وَمِنَ الْأَدَبِ الْخَاصِّ انْتَقَلَتِ السُّورَةُ إِلَى الْأَدَبِ الْعَامِّ.. فَانْتَقَلَتِ السُّورَةُ لِتَقْرِيرِ دَعَائِمِ الْمُجْتَمَعِ الْفَاضِلِ؛ بِأَمْرِ الْمُؤْمِنِينَ بِعَدَمِ السَّمَاعِ لِلْإِشَاعَاتِ، وَبِأَمْرِهِمْ بِالتَّثَبُّتِ مِنَ الْأَنْبَاءِ وَالْأَخْبَارِ؛ لَاسِيَّمَا إِنْ كَانَ الْخَبَرُ صَادِرًا عَنْ شَخْصٍ غَيْرِ عَدْلٍ أَوْ عَنْ مُتَّهَمٍ، فَكَمْ مِنْ كَلِمَةٍ نَقَلَهَا فَاجِرٌ فَاسِقٌ سَبَّبَتْ كَارِثَةً مِنَ الْكَوَارِثِ؟! وَكَمْ مِنْ خَبَرٍ لَمْ يَتَثَبَّتْ مِنْهُ سَامِعُهُ جَرَّ وَبَالًا، وَأَحْدَثَ انْقِسَامًا؟! {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا}.

وَدَعَتْ سُورَةُ الْحُجُرَاتِ إِلَى الْإِصْلَاحِ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمِينَ، وَدَفْعِ عُدْوَانِ الْبَاغِينَ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}. الْآيَاتِ.

وَحَذَّرَتِ السُّورَةُ مِنَ السُّخْرِيَةِ وَالْهَمْزِ وَاللَّمْزِ، وَنَفَّرَتْ مِنَ الْغِيبَةِ، وَالتَّجَسُّسِ، وَالظَّنِّ السَّيِّءِ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَدَعَتْ إِلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَالْفَضَائِلِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَحِينَ حَذَّرَتْ مِنَ الْغِيبَةِ جَاءَ النَّهْيُ فِي تَعْبِيرٍ رَائِعٍ عَجِيبٍ؛ بِصُورَةِ رَجُلٍ يَجْلِسُ إِلَى جَنْبِ أَخٍ لَهُ مَيِّتٍ يَنْهَشُ مِنْهُ، وَيَأْكُلُ لَحْمَهُ: {وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ}. الْآيَةَ.

وَيَا لَهُ مِنْ تَنْفِيرٍ عَجِيبٍ!!

وَخُتِمَتِ السُّورَةُ بِالْحَدِيثِ عَنِ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ ظَنُّوا الْإِيمَانَ كَلِمَةً تُقَالُ بِاللِّسَانِ، وَجَاءُوا يَمُنُّونَ عَلَى الرَّسُولِ إِيمَانَهُمْ، فَبَيَّنَتْ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ، وَحَقِيقَةَ الْإِسْلَامِ، وَشُرُوطَ الْمُؤْمِنِ الْكَامِلِ، وَهُوَ الَّذِي جَمَعَ الْإِيمَانَ، وَالْإِخْلَاصَ، وَالْجِهَادَ، وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ}. إِلَى آخِرِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ.

وَقَدْ سُمِّيَتْ سُورَةَ الْحُجُرَاتِ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- ذَكَرَ فِيهَا حُرْمَةَ بُيُوتِ النَّبِيِّ ﷺ، وَهِيَ الْحُجُرَاتُ الَّتِي كَانَ يَسْكُنُهَا أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ الطَّاهِرَاتُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِنَّ-.

((الْأَدَبُ مَعَ اللهِ وَرَسُولِهِ ﷺ))

سَنَتَكَلَّمُ عَنْ سُورَةِ الْحُجُرَاتِ؛ لِمَا فِيهَا مِنَ الْآدَابِ الْعَظِيمَةِ النَّافِعَةِ؛ فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا يَقْتَضِيهِ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ مِنِ امْتِثَالِ أَوَامِرِ اللَّهِ، وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ، وَأَنْ يَكُونُوا مَاشِينَ خَلْفَ أَوَامِرِ اللَّهِ، مُتَّبِعِينَ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمْ، وَأَلَّا يَتَقَدَّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَلَا يَقُولُوا حَتَّى يَقُولَ، وَلَا يَأْمُرُوا حَتَّى يَأْمُرَ؛ فَإِنَّ هَذَا حَقِيقَةُ الْأَدَبِ الْوَاجِبِ مَعَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَهُوَ عُنْوَانُ سَعَادَةِ الْعَبْدِ وَفَلَاحِهِ، وَبِفَوَاتِهِ تَفُوتُهُ السَّعَادَةُ الْأَبَدِيَّةُ وَالنَّعِيمُ السَّرْمَدِيُّ، وَفِي هَذَا: النَّهْيُ الشَّدِيدُ عَنْ تَقْدِيمِ قَوْلِ غَيْرِ الرَّسُولِ ﷺ عَلَى قَوْلِهِ؛ فَإِنَّهُ مَتَى اسْتَبَانَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؛ وَجَبَ اتِّبَاعُهَا، وَتَقْدِيمُهَا عَلَى غَيْرِهَا كَائِنًا مَا كَانَ.

ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ بِتَقْوَاهُ عُمُومًا، وَهِيَ كَمَا قَالَ طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ: ((أَنْ تَعْمَلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ، تَرْجُو ثَوَابَ اللَّهِ، وَأَنْ تَتْرُكَ مَعْصِيَةَ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ، تَخْشَى عِقَابَ اللهِ)).

إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لِجَمِيعِ الْأَصْوَاتِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ، فِي خَفِيِّ الْمَوَاضِعِ وَالْجِهَاتِ، عَلِيمٌ بِالظَّوَاهِرِ وَالْبَوَاطِنِ، وَالسَّوَابِقِ وَاللَّوَاحِقِ، وَالْوَاجِبَاتِ وَالْمُسْتَحِيلَاتِ وَالْجَائِزَاتِ.

قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1].

((اعْلَمْ أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- إِذَا ابْتَدَأَ الْخِطَابَ بِقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}؛ فَإِنَّهُ كَمَا قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((إِمَّا خَيْرٌ تُؤْمَرُ بِهِ، وَإِمَّا شَرٌّ تُنْهَى عَنْهُ؛ فَارْعَهُ سَمْعَكَ، وَاسْتَمِعْ إِلَيْهِ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ)).

وَإِذَا صَدَّرَ اللهُ الْخِطَابَ بِـ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}؛ فَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْتِزَامَ مَا خُوطِبَ بِهِ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْإِيمَانِ، وَأَنَّ مُخَالَفَتَهُ نَقْصٌ فِي الْإِيمَانِ.

يَقُولُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}؛ أَيْ: لَا تَتَقَدَّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَالْمُرَادُ: لَا تَسْبِقُوا اللهَ وَرَسُولَهُ بِقَوْلٍ أَوْ بِفِعْلٍ.

وَمِنَ التَّقَدُّمِ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ: الْبِدَعُ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهَا؛ فَإِنَّهَا تَقَدُّمٌ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ؛ بَلْ هِيَ أَشَدُّ التَّقَدُّمِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ»، وَأَخْبَرَ بِأَنَّ: «كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ». كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَه، وَغَيْرُهُمْ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ قَدْ بَيَّنَ أَنَّ حَقِيقَةَ حَالِ الْمُبْتَدِعِ أَنَّهُ يَسْتَدْرِكُ عَلَى اللهِ وَعَلَى رَسُولِهِ ﷺ مِمَّا فَاتَ.. مِمَّا يَدَّعِي أَنَّهُ مِنَ الشَّرْعِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ الشَّرِيعَةَ لَمْ تَكْمُلْ، وَأَنَّهُ كَمَّلَهَا بِمَا أَتَى بِهِ مِنَ الْبِدْعَةِ!! وَهَذَا مُعَارِضٌ تَمَامًا لِقَوْلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3].

الْمُبْتَدِعُونَ كُلُّهُمْ تَقَدَّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَلَمْ يُبَالُوا بِهَذَا النَّهْيِ؛ حَتَّى وَإِنْ حَسُنَ قَصْدُهُمْ؛ فَإِنَّ فِعْلَهُمْ ضَلَالَةٌ، وَقَدْ يُثَابُ عَلَى حُسْنِ قَصْدِهِ؛ وَلَكِنَّهُ يُؤْزَرُ عَلَى سُوءِ فِعْلِهِ؛ وَلِهَذَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُبْتَدِعٍ عَلِمَ أَنَّهُ عَلَى بِدْعَةٍ أَنْ يَتُوبَ مِنْهَا، وَيَرْجِعَ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَيَلْتَزِمَ سُنَّةَ الرَّسُولِ ﷺ، وَسُنَّةَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ.

وَمِنَ التَّقَدُّمِ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ -تَعَالَى- وَرَسُولِهِ ﷺ: أَنْ يَقُولَ الْإِنْسَانُ قَوْلًا يُحْكَمُ بِهِ بَيْنَ عِبَادِ اللهِ -أَوْ فِي عِبَادِ اللهِ- وَلَيْسَ فِي شَرِيعَةِ اللهِ؛ كَأَنْ يَقُولَ: (هَذَا حَرَامٌ)، أَوْ (هَذَا حَلَالٌ)، أَوْ (هَذَا وَاجِبٌ)، أَوْ (هَذَا مُسْتَحَبٌّ) بِدُونِ دَلِيلٍ؛ فَإِنَّ هَذَا مِنَ التَّقَدُّمِ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ.

وَعَلَى مَنْ قَالَ قَوْلًا وَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ أَخْطَأَ فِيهِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْحَقِّ؛ حَتَّى لَوْ شَاعَ الْقَوْلُ بَيْنَ النَّاسِ وَانْتَشَرَ، وَعَمِلَ بِهِ مَنْ عَمِلَ مِنَ النَّاسِ؛ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ، وَأَنْ يُعْلِنَ رُجُوعَهُ -أَيْضًا- كَمَا أَعْلَنَ مُخَالَفَتَهُ الَّتِي قَدْ يَكُونُ مَعْذُورًا فِيهَا إِذَا كَانَتْ صَادِرَةً عَنِ اجْتِهَادٍ، فَالْوَاجِبُ الرُّجُوعُ إِلَى الْحَقِّ، فَإِنْ تَمَادَى الْإِنْسَانُ فِي مُخَالَفَةِ الْحَقِّ؛ فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ -تَعَالَى- وَرَسُولِهِ ﷺ.

{لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}؛ الْتَزِمُوا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، الْتَزِمُوا الْكِتَابَ عَلَى مُرَادِ اللهِ، وَالسُّنَّةَ عَلَى مُرَادِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَافْهَمُوا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ بِفَهْمِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ.

{وَاتَّقُوا اللهَ}: هَذَا تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ؛ لِأَنَّ التَّقَدُّمَ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ مُخَالِفٌ لِلتَّقْوَى؛ لَكِنْ نَصَّ عَلَيْهِ وَقَدَّمَهُ لِأَهَمِّيَّتِهِ.

وَمَعْنَى: {وَاتَّقُوا اللهَ}؛ أَيِ: اتِّخِذُوا وِقَايَةً مِنْ عَذَابِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا إِذَا قَامَ الْإِنْسَانُ بِفِعْلِ الْأَوَامِرِ وَتَرْكِ النَّوَاهِي، بِفِعْلِ الْأَوَامِرِ تَقَرُّبًا إِلَى اللهِ -تَعَالَى-، وَمَحَبَّةً لِثَوَابِهِ، وَتَرْكِ النَّوَاهِي خَوْفًا مِنْ عَذَابِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ إِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ، وَتَصَاعَدَ فِي نَفْسِهِ، وَعَزَّ فِي نَفْسِهِ، وَأَوْغَلَ فِي الْإِثْمِ، وَانْتَفَخَتْ أَوْدَاجُهُ، وَقَالَ: أَمِثْلِي يُقَالُ لَهُ: اتَّقِ اللهَ!!

وَمَا عَلِمَ الْمِسْكِينُ أَنَّ اللهَ خَاطَبَ مَنْ هُوَ أَشْرَفُ مِنْهُ وَمَنْ هُوَ أَتْقَى عِبَادِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَأَمَرَهُ بِالتَّقْوَى، قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب: 1].

مَنِ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُؤْمَرَ بِتَقْوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؟!!

كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا يَتَوَجَّبُ أَنْ يُؤْمَرَ بِتَقْوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَالْوَاجِبُ أَنَّهُ إِذَا قِيلَ لَهُ: اتَّقِ اللهَ؛ أَنْ يَزْدَادَ خَوْفًا مِنَ اللهِ، وَأَنْ يُرَاجِعَ نَفْسَهُ، وَأَنْ يَنْظُرَ مَاذَا أُمِرَ بِهِ، إِنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ أَنْ يَتَّقِيَ فُلَانًا وَفُلَانًا، وَإِنَّمَا أُمِرَ أَنْ يَتَّقِيَ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ-!!

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللهَ} كَلِمَةٌ عَامَّةٌ شَامِلَةٌ تَشْمَلُ الشَّرِيعَةَ كُلَّهَا.

{إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيم}: هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَحْذِيرٌ لَنَا أَنْ نَقَعَ فِيمَا نَهَانَا عَنْهُ؛ مِنَ التَّقَدُّمِ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ، أَوْ أَنْ نُخَالِفَ مَا أَمَرَ بِهِ مِنْ تَقْوَاهُ، {سَمِيعٌ}؛ أَيْ: سَمِيعٌ لِمَا تَقُولُونَ {عَلِيمٌ}؛ أَيْ: عَلِيمٌ بِمَا تَقُولُونَ وَمَا تَفْعَلُونَ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ أَشْمَلُ وَأَعَمُّ؛ إِذْ إِنَّ السَّمْعَ يَتَعَلَّقُ بِالْمَسْمُوعَاتِ، وَالْعِلْمَ يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْلُومَاتِ، وَاللهُ -تَعَالَى- مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ.

يَقُولُ الْعُلَمَاءُ -رَحِمَهُمُ اللهُ-: إِنَّ السَّمْعَ الَّذِي اتَّصَفَ بِهِ رَبُّنَا -عَزَّ وَجَلَّ- يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: سَمْعِ إِدْرَاكٍ، وَسَمْعِ إِجَابَةٍ.

فَسَمْعُ الْإِدْرَاكِ مَعْنَاهُ: أَنَّ اللهَ يَسْمَعُ كُلَّ صَوْتٍ؛ خَفِيَ أَوْ ظَهَرَ.

أَمَّا سَمْعُ الْإِجَابَةِ؛ فَمَعْنَاهُ: أَنَّ اللهَ يَسْتَجِيبُ لِمَنْ دَعَاهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [إبراهيم: 39]؛ أَيْ: مُجِيبُ الدُّعَاءِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {عَلِيمٌ}؛ الْمُرَادُ: أَنَّهُ ذُو عِلْمٍ وَاسِعٍ، قَالَ تَعَالَى: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12].

فَعِنْدَمَا تُؤْمِنُ بِأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ، وَأَنَّ اللهَ عَلِيمٌ؛ هَلْ يُمْكِنُ وَأَنْتَ فِي عَقْلِكَ الرَّاشِدِ أَنْ تَقُولَ مَا لَا يُرْضِيهِ -جَلَّ وَعَلَا-؟!!

لَا؛ لِأَنَّهُ يَسْمَعُ، فَلَا يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تُسْمِعَ اللهَ.. أَنْ تُسْمِعَ إِلَهَكَ الْعَظِيمَ مَا لَا يَرْضَاهُ مِنْكَ، أَسْمِعْهُ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ إِذَا كُنْتَ مُؤْمِنًا حَقًّا بِأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ، وَأَعْتَقِدُ لَوْ أَنَّ أَبَاكَ نَهَاكَ عَنْ قَوْلٍ مِنَ الْأَقْوَالِ؛ فَهَلْ تَتَجَرَّأُ أَنْ تُسْمِعَهُ مَا لَا يَرْضَاهُ، أَوْ أَنْ تُسْمِعَهُ مَا نَهَاكَ عَنْهُ؟!!

فَاللهُ أَعْظَمُ وَأَجَلُّ..

وَالْحَقُّ أَنَّ هَذَا فِيهِ بَعْضُ مُرَاجَعَةٍ؛ فَإِنَّ هَيْبَةَ الْأَبِ قَدْ سَقَطَتْ تَمَامًا عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْأَبْنَاءِ!!

فَاحْذَرْ أَنْ تُسْمِعَ اللهَ مَا لَا يَرْضَاهُ مِنْكَ، وَإِذَا آمَنْتَ بِأَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ -وَهَذَا أَعَمُّ مِنَ السَّمْعِ؛ لِأَنَّهُ يَشْمَلُ الْقَوْلَ وَالْفِعْلَ وَحَدِيثَ النَّفْسِ؛ حَتَّى مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُكَ يَعْلَمُهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-- إِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ؛ هَلْ يُمْكِنُ أَنْ تَفْعَلَ شَيْئًا لَا يُرْضِيهِ؟!!

لَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ إِخْبَارِ اللهِ لَنَا بِأَنَّهُ عَلِيمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ؛ أَنْ نَعْلَمَ هَذَا وَأَنْ نَعْتَقِدَهُ فَقَطْ، بَلِ الْمَقْصُودُ هَذَا، وَالْمَقْصُودُ شَيْءٌ آخَرُ، وَهُوَ الثَّمَرَةُ وَالنَّتِيجَةُ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى أَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، فَإِذَا عَلِمْنَا بِأَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ؛ فَهَلْ نَقُولُ مَا لَا يُرْضِيهِ؟!!

لَا؛ لِأَنَّهُ سَوْفَ يَعْلَمُهُ.

وَإِذَا عَلِمْنَا بِأَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ؛ هَلْ نَعْتَقِدُ مَا لَا يَرْضَى؟!!

لَا؛ لِأَنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِنَا، قَالَ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة: 235]، وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24]؛ يَحُولُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ قَلْبِكَ.

فَيَجِبُ عَلَيْنَا إِذَا مَرَّ بِنَا اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ -تَعَالَى- أَوْ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ اللهِ أَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الِاسْمِ وَهَذِهِ الصِّفَةِ، وَأَنْ نَقُومَ بِمَا هُوَ الثَّمَرَةُ.. مِنَ الْإِيمَانِ بِهَذَا الِاسْمِ أَوِ الصِّفَةِ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَدَبٍ عَظِيمٍ وَجَّهَ اللهُ -تَعَالَى- عِبَادَهُ إِلَيْهِ.

هَذَا هُوَ الْأَدَبُ الْأَوَّلُ)).

أَمَّا الْأَدَبُ الثَّانِي؛ أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَمَرَ بِالْأَدَبِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي خِطَابِهِ؛ أَيْ: لَا يَرْفَعُ الْمُخَاطِبُ لَهُ صَوْتَهُ مَعَهُ فَوْقَ صَوْتِهِ، وَلَا يَجْهَرُ لَهُ بِالْقَوْلِ، بَلْ يَغُضُّ الصَّوْتَ، وَيُخَاطِبُهُ بِأَدَبٍ وَلِينٍ، وَتَعْظِيمٍ وَتَكْرِيمٍ، وَإِجْلَالٍ وَإِعْظَامٍ، وَلَا يَكُونُ الرَّسُولُ كَأَحَدِهِمْ، بَلْ يُمَيِّزُوهُ فِي خِطَابِهِمْ، كَمَا تَمَيَّزَ عَنْ غَيْرِهِ فِي وُجُوبِ حَقِّهِ عَلَى الْأُمَّةِ، وَوُجُوبِ الْإِيمَانِ بِهِ، وَالْحُبِّ الَّذِي لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ إِلَّا بِهِ؛ فَإِنَّ فِي عَدَمِ الْقِيَامِ بِذَلِكَ مَحْذُورًا وَخَشْيَةَ أَنْ يُحْبَطَ عَمَلُ الْعَبْدِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، كَمَا أَنَّ الْأَدَبَ مَعَهُ مِنْ أَسْبَابِ حُصُولِ الثَّوَابِ وَقَبُولِ الْأَعْمَالِ.

ثُمَّ مَدَحَ مَنْ غَضَّ صَوْتَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِأَنَّ اللَّهَ امْتَحَنَ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى؛ أَيِ: ابْتَلَاهَا وَاخْتَبَرَهَا، فَظَهَرَتْ نَتِيجَةُ ذَلِكَ بِأَنْ صَلَحَتْ قُلُوبُهُمْ لِلتَّقْوَى، ثُمَّ وَعَدَهُمُ الْمَغْفِرَةَ لِذُنُوبِهِمُ الْمُتَضَمِّنَةِ لِزَوَالِ الشَّرِّ وَالْمَكْرُوهِ، وَالْأَجْرَ الْعَظِيمَ الَّذِي لَا يَعْلَمُ وَصْفَهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَفِي الْأَجْرِ الْعَظِيمِ وُجُودُ الْمَحْبُوبِ.

وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَمْتَحِنُ الْقُلُوبَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْمِحَنِ، فَمَنْ لَازَمَ أَمْرَ اللَّهِ، وَاتَّبَعَ رِضَاهُ، وَسَارَعَ إِلَى ذَلِكَ، وَقَدَّمَهُ عَلَى هَوَاهُ؛ تَمَحَّضَ وَتَمَحَّصَ لِلتَّقْوَى، وَصَارَ قَلْبُهُ صَالِحًا لَهَا، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ؛ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلتَّقْوَى.

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}.

((الْآيَةُ الْأُولَى فِيهَا النَّهْيُ عَنِ التَّقَدُّمِ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ فِي أَيِّ شَيْءٍ؛ سَوَاءٌ مِنَ الْأَقْوَالِ أَوِ الْأَفْعَالِ أَوْ غَيْرِهِمَا، أَمَّا هَذِهِ الْآيَةُ؛ فَهِيَ فِي رَفْعِ الصَّوْتِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ تَقَدُّمٌ فِي الْأَحْكَامِ مِنْ تَحْلِيلٍ أَوْ تَحْرِيمٍ أَوْ إِيجَابٍ.

يَقُولُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ}؛ فَإِذَا خَاطَبَكَ النَّبِيُّ ﷺ بِصَوْتٍ؛ فَاخْفِضْ صَوْتَكَ عَنْ صَوْتِهِ، وَإِذَا رَفَعَ صَوْتَهُ فَارْفَعْ صَوْتَكَ؛ لَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ دُونَ صَوْتِ الرَّسُولِ ﷺ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ}.

{وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ}؛ يَعْنِي: لَا تُنَادُوهُ بِصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ كَمَا يُنَادِي بَعْضُكُمْ بَعْضًا، بَلْ يَكُونُ جَهْرًا بِأَدَبٍ وَتَشْرِيفٍ وَتَعْظِيمٍ يَلِيقُ بِهِ ﷺ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {لَّا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا}؛ يَعْنِي: إِذَا دَعَاكُمْ لِشَيْءٍ؛ فَلَا تَجْعَلُوا دُعَاءَهُ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ، إِنْ شِئْتُمْ أَجَبْتُمْ وَإِنْ شِئْتُمْ فَلَا تُجِيبُوا، بَلْ تَجِبُ عَلَيْكُمُ الْإِجَابَةُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24]، وَهُنَا قَالَ: {وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ}، كَذَلِكَ -أَيْضًا- لَا تُنَادُوهُ بِمَا تَتَنَادَوْنَ بِهِ، لَا تَقُولُوا: يَا مُحَمَّدُ! وَلَكِنْ قُولُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، يَا نَبِيَّ اللهِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

{أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}؛ يَعْنِي: كَرَاهَةَ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ، وَالْمَعْنَى: إِنَّمَا نَهَيْنَاكُمْ عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ فَوْقَ صَوْتِهِ ﷺ، وَعَنِ الْجَهْرِ لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ؛ كَرَاهَةَ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ.

فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي يَرْفَعُ صَوْتَهُ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ﷺ، أَوْ يَجْهَرُ لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِهِ لِبَعْضِ النَّاسِ.. قَدْ يَحْبَطُ عَمَلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ؛ لِأَنَّ هَذَا قَدْ يَجْعَلُ فِي قَلْبِ الْمَرْءِ اسْتِهَانَةً بِرَسُولِ اللهِ ﷺ، وَالِاسْتِهَانَةُ بِالرَّسُولِ ﷺ رِدَّةٌ عَنِ الْإِسْلَامِ تُوجِبُ حُبُوطَ الْعَمَلِ.

وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ؛ كَانَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- جَهْوَرِيَّ الصَّوْتِ، وَكَانَ مِنْ خُطَبَاءِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ؛ تَغَيَّبَ فِي بَيْتِهِ، وَصَارَ لَا يَحْضُرُ مَجَالِسَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَافْتَقَدَهُ الرَّسُولُ ﷺ وَسَأَلَ عَنْهُ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُ فِي بَيْتِهِ مُنْذُ نَزَلَتِ الْآيَةُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولًا يَسْأَلُهُ، فَقَالَ: ((إِنَّ اللهَ -تَعَالَى- يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}.

وَأَخْبَرَهُ -أَيْ: أَخْبَرَ رَسُولَ رَسُولِ اللهِ ﷺ- أَنَّهُ قَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ، وَأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَدَعَاهُ الرَّسُولُ ﷺ، فَحَضَرَ، وَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ -وَالَّذِي فِي الرِّوَايَةِ: أَنَّهُ أَرْسَلَ إِلَيْهِ بِتِلْكَ الْبُشْرَى-.

وَلِذَلِكَ كَانَ ثَابِتٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مِمَّنْ يُشْهَدُ لَهُ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِعَيْنِهِ -أَيْ: عَلَى التَّعْيِينِ-؛ لِأَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ يَشْهَدُ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ بِأَنَّهُ فِي الْجَنَّةِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَلِأَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ يَشْهَدُ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ بِأَنَّهُ فِي النَّارِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَشْهَدْ لَهُ الرَّسُولُ ﷺ؛ فَنَشْهَدُ لَهُ بِالْعُمُومِ، فَنَقُولُ: كُلُّ مُؤْمِنٍ فِي الْجَنَّةِ، وَكُلُّ كَافِرٍ فِي النَّارِ، وَلَا نَشْهَدُ لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، أَوْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ؛ إِلَّا مَنْ شَهِدَ لَهُ اللهُ -تَعَالَى- وَرَسُولُهُ ﷺ.

فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: بَيَانُ تَعْظِيمِ الرَّسُولِ ﷺ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَجْهَرَ لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِهِ لِسَائِرِ النَّاسِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ عَلَى صَوْتِ الرَّسُولِ ﷺ.

لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَأَدَّبَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- بِذَلِكَ؛ حَتَّى كَانَ بَعْضُهُمْ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ ﷺ مُسَارَّةً، وَلَا يَفْهَمُ الرَّسُولُ ﷺ مَا يَقُولُ مِنْ إِسْرَارِهِ حَتَّى يَسْتَثْبِتَهُ مَرَّةً أُخْرَى.

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنِ اسْتَهَانَ بِأَمْرِ الرَّسُولِ ﷺ؛ فَإِنَّ عَمَلَهُ حَابِطٌ؛ لِأَنَّ الِاسْتِهَانَةَ بِالرَّسُولِ ﷺ رِدَّةٌ، وَالِاسْتِهْزَاءَ بِهِ رِدَّةٌ كَمَا قَالَ اللهُ -تَعَالَى- فِي الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِرَسُولِ اللهِ ﷺ -وَالصَّوَابُ: أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَمَا قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-، وَإِنَّمَا كَانُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَانَ إِيمَانُهُمْ ضَعِيفًا؛ بَلْ إِنَّ الْآيَةَ بِنَظْمِهَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ-: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة: 65]، وَكَانُوا يَقُولُونَ: ((مَا رَأَيْنَا مِثْلَ قُرَّائِنَا هَؤُلَاءِ -يَعْنُونَ: الرَّسُولَ ﷺ وَأَصْحَابَهُ- أَرْغَبَ بُطُونًا -يَعْنِي: أَوْسَعَ- وَلَا أَجْبَنَ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَلَا أَكْذَبَ أَلْسُنًا!!))، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَةَ، وَلَمَّا سَأَلَهُمُ الرَّسُولُ ﷺ عَنْ ذَلِكَ؛ قَالُوا: إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ؛ يَعْنِي: نَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ لَا نُرِيدُهُ، وَإِنَّمَا تَكَلَّمْنَا بِمَا تَكَلَّمْنَا بِهِ لِنَقْطَعَ بِهِ عَنَّا عَنَاءَ الطَّرِيقِ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَةَ: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65-66])). أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي ((التَّفْسِيرِ))، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي ((تَفْسِيرِهِ))، وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ مُقْبِل فِي ((صَحِيحِ أَسْبَابِ النُّزُولِ)).

وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ: أَنَّ مَنْ سَبَّ الرَّسُولَ ﷺ؛ كَانَ كَافِرًا مُرْتَدًّا، فَإِنْ تَابَ قَبِلْنَا تَوْبَتَهُ؛ لَكِنَّنَا لَا نَرْفَعُ عَنْهُ الْقَتْلَ، بَلْ نَقْتُلُهُ أَخْذًا بِحَقِّ رَسُولِ اللهِ ﷺ -بَلْ نَقْتُلُهُ: الْجِهَةُ الَّتِي لَهَا ذَلِكَ؛ يَعْنِي: مَا يَكُونُ مِنَ الْحَاكِمِ وَنُوَّابِهِ، وَلَا يُطْلَقُ أَيْدِي النَّاسِ فِي دِمَاءِ النَّاسِ، وَلَا فِي أَبْدَانِهِمْ وَأَبْشَارِهِمْ-، وَإِذَا قَتَلْنَاهُ بَعْدَ تَوْبَتِهِ النَّصُوحِ الصَّادِقَةِ؛ صَلَّيْنَا عَلَيْهِ كَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَتُوبُونَ مِنَ الْكُفْرِ أَوْ مِنَ الْمَعَاصِي.

ثُمَّ أَثْنَى اللهُ -تَعَالَى- عَلَى الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ الرَّسُولِ ﷺ، فَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ ۚ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [الحجرات: 3].

لَمَّا نَهَى عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ فَوْقَ صَوْتِهِ، وَعَنِ الْجَهْرِ لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِنَا لِبَعْضٍ؛ أَثْنَى عَلَى الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ؛ أَيْ: يَخْفِضُونَهَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَدَبٍ، بِلَا إِزْعَاجٍ وَلَا صَخَبٍ، وَلَا رَفْعِ صَوْتٍ، لَكِنْ يَتَكَلَّمُونَ بِأَدَبٍ وَغَضِّ صَوْتٍ.

قَالَ تَعَالَى: {أُولَٰئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ مَعْنَاهَا: أَخْلَصَهَا لِلتَّقْوَى، فَكَانَتْ قُلُوبُهُمْ مَمْلُوءَةً بِتَقْوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ وَلِهَذَا تَأَدَّبُوا بِآدَابِ اللهِ -تَعَالَى- الَّتِي وَجَّهَ لَهَا، فَغَضُّوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ الرَّسُولِ ﷺ، فَأَخْبَرَ عَنْ ثَوَابِهِمْ: {لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ}؛ مَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ لِذُنُوبِهِمْ، وَأَجْرٌ عَظِيمٌ عَلَى أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الصَّلَاحَ صَلَاحُ الْقَلْبِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ وَكَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «التَّقْوَى هَاهُنَا»، وَأَشَارَ إِلَى صَدْرِهِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْقَلْبِ (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ): «التَّقْوَى هَاهُنَا، التَّقْوَى هَاهُنَا، التَّقْوَى هَاهُنَا». أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّقْوَى تَقْوَى الْقَلْبِ، أَمَّا تَقْوَى الْجَوَارِحِ -وَهِيَ إِصْلَاحُ ظَاهِرِ الْعَمَلِ-؛ فَهَذَا يَقَعُ حَتَّى مِنَ الْمُنَافِقِينَ: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ۖ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون: 4]، لَكِنَّ الْكَلَامَ عَلَى تَقْوَى الْقَلْبِ الَّتِي هِيَ بِهَا الصَّلَاحُ، نَسْأَلُ اللهَ -تَعَالَى- أَنْ يَرْزُقَنَا ذَلِكَ.

وَبَعْضُ النَّاسِ يَفْعَلُ الْمَعَاصِيَ؛ كَإِسْبَالِ الثَّوْبِ -مَثَلًا-، أَوْ حَلْقِ اللِّحْيَةِ، أَوْ شُرْبِ الدُّخَانِ، وَتَنْهَاهُ وَتُخَوِّفُهُ مِنْ عِقَابِ اللهِ، فَيَقُولُ: التَّقْوَى هَاهُنَا!! كَأَنَّهُ يُزَكِّي نَفْسَهُ، وَهُوَ قَائِمٌ بِمَعْصِيَةِ اللهِ!!

فَنَقُولُ لَهُ: لَوْ كَانَ مَا هُنَا مُتَّقِيًا -يَعْنِي: الْقَلْبَ-؛ لَكَانَتِ الْجَوَارِحُ مُتَّقِيَةً؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ»)).

قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ فِي نَاسٍ مِنَ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ -تَعَالَى- بِالْجَفَاءِ، وَأَنَّهُمْ أَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، قَدِمُوا وَافِدِينَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَوَجَدُوهُ فِي بَيْتِهِ وَحُجُرَاتِ نِسَائِهِ، فَلَمْ يَصْبِرُوا وَيَتَأَدَّبُوا حَتَّى يَخْرُجَ، بَلْ نَادَوْهُ: يَا مُحَمَّدُ! يَا مُحَمَّدُ! أَيِ: اخْرُجْ إِلَيْنَا، فَذَمَّهُمُ اللَّهُ بِعَدَمِ الْعَقْلِ؛ حَيْثُ لَمْ يَعْقِلُوا عَنِ اللَّهِ الْأَدَبَ مَعَ رَسُولِهِ وَاحْتِرَامَهُ، كَمَا أَنَّ مِنَ الْعَقْلِ وَعَلَامَتِهِ: اسْتِعْمَالَ الْأَدَبِ.

فَأَدَبُ الْعَبْدِ عُنْوَانُ عَقْلِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ مُرِيدٌ بِهِ الْخَيْرَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}؛ أَيْ: غَفُورٌ لِمَا صَدَرَ عَنْ عِبَادِهِ مِنَ الذُّنُوبِ، وَالْإِخْلَالِ بِالْآدَابِ، رَحِيمٌ بِهِمْ؛ حَيْثُ لَمْ يُعَاجِلْهُمْ بِذُنُوبِهِمْ بِالْعُقُوبَاتِ وَالْمَثُلَاتِ.

فَقَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ}؛ أَيْ: مِنْ خَارِجِهَا؛ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ خَلْفِهَا، أَوْ مِنْ قُدَّامِهَا.

{إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات: 4].

((هَذِهِ الْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى قَوْمٍ أَتَوْا إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَكَانَ مَعَهُمْ قَوْمٌ جُفَاةٌ لَا يَقْدُرُونَ الْأُمُورَ قَدْرَهَا، فَجَعَلُوا يُنَادُونَ النَّبِيَّ ﷺ مِنْ وَرَاءِ حُجُرَاتِهِ -أَيْ: حُجُرَاتِ نِسَائِهِ-، وَيَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِذَلِكَ، يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَيْهِمْ، يَقُولُ اللهُ فِي هَؤُلَاءِ: {أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}؛ يَعْنِي: لَيْسَ عِنْدَهُمْ عَقْلٌ، وَالْمُرَادُ بِالْعَقْلِ هُنَا عَقْلُ الرُّشْدِ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ عَقْلَانِ: عَقْلِ رُشْدٍ، وَعَقْلِ تَكْلِيفٍ، فَأَمَّا عَقْلُ الرُّشْدِ فَضِدُّهُ السَّفَهِ، وَأَمَّا عَقْلُ التَّكْلِيفِ فَضِدُّهُ الْجُنُونِ.

وَقَوْلُهُ: {أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَعْقِلُ، وَأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ رَفْعُ صَوْتٍ، بَلْ هُوَ مُتَأَدِّبٌ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّىٰ تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ}؛ يَعْنِي: لَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ مِنْ بَيْتِكَ، وَتُكَلِّمُهُمْ بِمَا يُرِيدُونَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ فِي أَنَّهُمْ يَلْتَزِمُونَ الْأَدَبَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ وَأَنَّ حَاجَتَهُمْ سَتُقْضَى؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ لَمْ يَأْتِهِ أَحَدٌ فِي حَاجَةٍ إِلَّا قَضَاهَا إِذَا كَانَ يُدْرِكُهَا، وَهُوَ أَحَقُّ النَّاسِ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:

مَا قَالَ لَا قَطُّ إِلَّا فِي تَشَهُّدِهِ=لَوْلَا التَّشَهُّدُ كَانَتْ لَاؤُهُ نَعَمُ

{وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}؛ فِي قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللهَ غَفَرَ لَهُمْ وَرَحِمَهُمْ، وَهَذَا مِنْ كَرَمِهِ -جَلَّ وَعَلَا- أَنَّهُ يَغْفِرُ وَيَرْحَمُ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللهُ -تَعَالَى- فِي كِتَابِهِ أَنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ الشِّرْكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ؛ أَيْ: سِوَى الشِّرْكِ لِمَنْ يَشَاءُ، فَكُلُّ أَحَدٍ أَذْنَبَ ذَنْبًا دُونَ الشِّرْكِ مَهْمَا عَظُمَ فَإِنَّهُ تَحْتَ مَشِيئَةِ اللهِ، إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ مَا لَمْ يَتُبْ، فَإِذَا تَابَ فَلَا عَذَابَ)).

((ضَرُورَةُ التَّثَبُّتِ فِي تَلَقِّي الْأَخْبَارِ))

يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَثَبَّتَ وَأَنْ يَتَرَوَّى فِي تَلَقِّي الْأَخْبَارِ وَالرِّوَايَةِ، وَالْعَمَلِ بِهَا، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6].

قَالَ الْعَلَّامَةُ الشِّنْقِيطِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي سُورَةِ الْحُجُرَاتِ عَلَى أَمْرَيْنِ:

الْأَوَّلُ مِنْهُمَا: أَنَّ الْفَاسِقَ إِنْ جَاءَ بِنَبَإٍ مُمْكِنٍ مَعْرِفَةُ حَقِيقَتِهِ، وَهَلْ مَا قَالَهُ فِيهِ الْفَاسِقُ حَقٌّ أَوْ كَذِبٌ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ فِيهِ التَّثَبُّتُ.

وَالثَّانِي: هُوَ مَا اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِهَا أَهْلُ الْأُصُولِ مِنْ قَبُولِ خَبَرِ الْعَدْلِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} يَدُلُّ بِدَليلِ خِطَابِهِ -أَعْنِي: مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ- أَنَّ الْجَائِيَ بِنَبَإٍ إِنْ كَانَ غَيْرَ فَاسِقٍ.. بَلْ عَدْلًا؛ لَا يَلْزَمُ التَّبَيُّنُ فِي نَبَئِهِ.. عَلَى قِرَاءَةِ: {فَتَبَيَّنُوا}، وَلَا التَّثَبُّتُ.. عَلَى قِرَاءَةِ: {فَتَثَبَّتُوا} -قَالَ:- وَهُوَ كَذَلِكَ)).

 (({إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ}؛ الْفَاسِقُ: هُوَ مَنِ انْحَرَفَ فِي دِينِهِ وَعَقِيدَتِهِ وَمُرُوءَتِهِ، وَضِدُّهُ الْعَدْلُ، وَهُوَ مَنِ اسْتَقَامَ فِي دِينِهِ وَمُرُوءَتِهِ، فَإِذَا جَاءَنَا فَاسِقٌ مُنْحَرِفٌ فِي دِينِهِ وَمُرُوءَتِهِ؛ بِمَعْنَى: أَنَّهُ مُصِرٌّ عَلَى الْمَعَاصِي، تَارِكٌ لِلْوَاجِبَاتِ؛ لَكِنَّهُ لَمْ يَصِلْ إِلَى حَدِّ الْكُفْرِ، أَوْ مُنْحَرِفٌ فِي مُرُوءَتِهِ، لَا يُبَالِي بِنَفْسِهِ، يَمْشِي بَيْنَ النَّاسِ مِشْيَةَ الْهَوْجَاءِ، وَيَتَحَدَّثُ بِرَفْعِ صَوْتٍ، وَيَأْتِي مَعَهُ بِأَغْرَاضِ بَيْتِهِ، يَطُوفُ بِهَا فِي الْأَسْوَاقِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يُخَالِفُ الْمُرُوءَةَ؛ فَهَذَا عِنْدَ الْعُلَمَاءِ لَيْسَ بِعَدْلٍ.

{إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ}؛ أَيْ: جَاءَكُمْ بِخَبَرٍ مِنَ الْأَخْبَارِ وَهُوَ فَاسِقٌ؛ فَلَا نَقْبَلُهُ؛ لِمَا عِنْدَهُ مِنَ الْفِسْقِ، وَلَا نَرُدُّهُ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا؛ وَلِهَذَا قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَتَبَيَّنُوا} وَلَمْ يَقُلْ: فَرُدُّوهُ، وَلَمْ يَقُلْ: فَاقْبَلُوهُ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَتَبَيَّنَ، وَفِي قِرَاءَةٍ: (فَتَثَبَّتُوا)، وَهُمَا بِمَعْنًى مُتَقَارِبٍ، وَالْمَعْنَى: أَنْ نَتَثَبَّتَ.

فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ: إِذَنْ؛ لَا فَائِدَةَ مِنْ خَبَرِهِ.

فَالْجَوَابُ: لَا؛ بَلْ فِي خَبَرِهِ فَائِدَةٌ، وَهُوَ أَنَّهُ يُحَرِّكُ النَّفْسَ حَتَّى نَسْأَلَ وَنَبْحَثَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَا خَبَرُهُ مَا حَرَّكْنَا سَاكِنًا، لَكِنْ لَمَّا جَاءَ بِالْخَبَرِ؛ نَقُولُ: لَعَلَّهُ كَانَ صَادِقًا، فَنَتَحَرَّكُ وَنَسْأَلُ وَنَبْحَثُ، فَإِنْ شَهِدَ لَهُ الْوَاقِعُ بِالْحَقِّ قَبِلْنَاهُ؛ لِوُجُودِ الْقَرِينَةِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ؛ وَإِلَّا رَدَدْنَاهُ.

وَقَوْلُهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: {إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} يُفِيدُ أَنَّهُ إِنْ جَاءَنَا عَدْلٌ فَإِنَّنَا نَقْبَلُ الْخَبَرَ؛ لَكِنْ هَذَا فِيهِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ تَفْصِيلٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ، فَمَثَلًا؛ الشَّهَادَةُ بِالزِّنَى:

لَوْ جَاءَنَا رَجُلٌ عَدْلٌ فِي دِينِهِ، مُسْتَقِيمٌ فِي مُرُوءَتِهِ، وَشَهِدَ أَنَّ فُلَانًا زَنَى؛ فَلَا نَقْبَلُ شَهَادَتَهُ -وَإِنْ كَانَ عَدْلًا-، بَلْ نَجْلِدُهُ ثَمَانِينَ جَلْدَةً؛ لِأَنَّهُ قَذَفَ هَذَا الرَّجُلَ الْبَرِيءَ بِالزِّنَى، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4]، فَنَجْلِدُهُ ثَمَانِينَ جَلْدَةً، وَلَا نَقْبَلُ لَهُ شَهَادَةً أَبَدًا، وَنَحْكُمُ بِأَنَّهُ فَاسِقٌ -وَإِنْ كَانَ عَدْلًا- حَتَّى يَتُوبَ، وَإِذَا شَهِدَ رَجُلَانِ عَدْلَانِ عَلَى زَيْدٍ أَنَّهُ زَنَى؛ فَلَا نَقْبَلُ شَهَادَتَهُمَا، وَلَا ثَلَاثَةً، فَإِذَا كَانُوا أَرْبَعَةً عُدُولًا.. فَنَعَمْ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- قَالَ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.

وَإِذَا جَاءَنَا رَجُلٌ شَهِدَ عَلَى شَخْصٍ بِأَنَّهُ سَرَقَ؛ فَلَا نَقْبَلُ شَهَادَتَهُ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ رَجُلَيْنِ، وَإِذَا جَاءَنَا رَجُلٌ شَهِدَ بِأَنَّهُ رَأَى هِلَالَ رَمَضَانَ؛ فَنَقْبَلُ شَهَادَتَهُ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ وَرَدَتْ بِذَلِكَ؛ فَقَدْ قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((تَرَاءَى النَّاسُ الْهِلَالَ -يَعْنِي: لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ-، فَرَأَيْتُهُ، فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ ﷺ أَنِّي رَأَيْتُهُ، فَصَامَهُ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِالصِّيَامِ)). الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ)).

وَعَلَى هَذَا؛ فَخَبَرُ الْعَدْلِ فِيهِ تَفْصِيلٌ -عَلَى مَا تَقَدَّمَ-، وَخَبَرُ الْفَاسِقِ يُتَوَقَّفُ فِيهِ حَتَّى يُتَبَيَّنَ الْأَمْرُ.

ثُمَّ بَيَّنَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- الْحِكْمَةَ مِنْ كَوْنِنَا نَتَبَيَّنُ مِنْ خَبَرِ الْفَاسِقِ، فَقَالَ: {أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}؛ يَعْنِي: أَمَرْنَاكُمْ أَنْ تَتَثَبَّتُوا؛ كَرَاهَةَ أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا تَسَرَّعَ وَلَمْ يَتَثَبَّتْ؛ فَقَدْ يَعْتَدِي عَلَى غَيْرِهِ بِنَاءً عَلَى الْخَبَرِ الَّذِي سَمِعَهُ مِنَ الْفَاسِقِ، وَقَدْ يَكْرَهُهُ، وَقَدْ يَتَحَدَّثُ فِيهِ فِي الْمَجَالِسِ، فَيُصْبِحُ بَعْدَ أَنْ يَتَبَيَّنَ أَنَّ خَبَرَ الْفَاسِقِ كَذِبٌ نَادِمًا عَلَى مَا جَرَى مِنْهُ.

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَتَثَبَّتَ فِيمَا يُنْقَلُ مِنَ الْأَخْبَارِ؛ وَلَاسِيَّمَا مَعَ الْهَوَى وَالتَّعَصُّبِ، فَإِذَا جَاءَكَ خَبَرٌ عَنْ شَخْصٍ وَأَنْتَ لَمْ تَثِقْ بِقَوْلِ الْمُخْبِرِ؛ فَيَجِبُ أَنْ تَتَثَبَّتَ، وَأَلَّا تَتَسَرَّعَ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّكَ رُبَّمَا تَتَسَرَّعُ وَتَبْنِي عَلَى هَذَا الْخَبَرِ الْكَاذِبِ، فَتَنْدَمَ فِيمَا بَعْدُ)).

لَقَدْ حَثَّ الْإِسْلَامُ عَلَى التَّثَبُّتِ وَالتَّبَيُّنِ فِي نَقْلِ الْأَخْبَارِ، وَأَنْ يَطْلُبَ الْمُسْلِمُ الدَّلِيلَ الْبُرْهَانِيَّ عَلَى أَيِّ خَبَرٍ يَسْمَعُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6].

وَقَدْ أَخْبَرَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَنَّ الْإِنْسَانَ مَسْئُولٌ أَمَامَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَمُحَاسَبٌ عَلَى كُلِّ صَغِيرٍ وَجَلِيلٍ: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18].

نَهَى الْإِسْلَامُ أَتْبَاعَهُ أَنْ يُطْلِقُوا الْكَلَامَ عَلَى عَوَاهِنِهِ، وَيُلْغُوا عُقُولَهُمْ عِنْدَ كُلِّ كَلَامٍ وَشَائِعَةٍ، وَيُجَانِبُوا تَفْكِيرَهُمْ عِنْدَ كُلِّ ذَائِعَةٍ، وَنَهَاهُمْ أَنْ يَنْسَاقُوا وَرَاءَ كُلِّ نَاعِقٍ، نَهَاهُمْ أَنْ يُصَدِّقُوا كُلَّ دَاعٍ مَارِقٍ.

عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَفَكَّرَ فِي عَوَاقِبِ الْإِشَاعَةِ، وَأَنْ يَعُودَ مَرَّةً وَمَرَّةً وَمَرَّةً وَمَرَّاتٍ إِلَى آيَةِ سُورَةِ الْحُجُرَاتِ: {أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6].

كُلُّ خَبَرٍ يَنْشُرُهُ الْإِنْسَانُ مِمَّا يُثِيرُ الْفِتْنَةَ أَوِ الْغَوْغَاءَ، أَوْ يُثِيرُ التَّسَخُّطَ، أَوْ يُسَبِّبُ شَتْمًا أَوْ أَذِيَّةً لِأَيِّ إِنْسَانٍ بِغَيْرِ وَجْهِ حَقٍّ، أَوْ يُنَبِّهُ بَعْضَ النَّاسِ عَلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الشَّرِّ كَانُوا عَنْهُ غَافِلِينَ؛ لَا يَجُوزُ نَشْرُهُ، وَنَاشِرُهُ آثِمٌ، يَحْمِلُ إِثْمَ كُلِّ مَا تَسَبَّبَ بِهِ خَبَرُهُ.

وَاللهُ -تَعَالَى- ذَمَّ كُلَّ نَاشِرٍ لِلْأَخْبَارِ الَّتِي تُزَعْزِعُ أَمْنَ النَّاسِ، وَتُثِيرُ الْخَوْفَ، وَتَدْعُو إِلَى الْفَوْضَى فِي الْمُجْتَمَعِ؛ لِأَنَّ السُّوقَةَ وَعَامَّةَ النَّاسِ لَا يَصْلُحُونَ لِمِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَلَا لِأُمُورِ السِّيَاسَةِ، وَلَيْسَ لِعَامَّةِ النَّاسِ أَنْ يَلُوكُوا أَلْسِنَتَهُمْ بِسِيَاسَةِ وُلَاةِ الْأُمُورِ.

السِّيَاسَةُ لَهَا نَاسُهَا، وَلَوْ أَنَّ السِّيَاسَةَ صَارَتْ تُلَاكُ بَيْنَ أَلْسُنِ عَامَّةِ النَّاسِ لَفَسَدَتِ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ الْعَامِّيَّ لَيْسَ عِنْدَهُ عِلْمٌ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ عَقْلٌ.

الْعَامَّةُ لَيْسُوا كَأُولِي الْأَمْرِ وَأُولِي الرَّأْيِ وَالْمَشُورَةِ، فَلَيْسَ الْكَلَامُ فِي السِّيَاسَةِ مِنَ الْمَجَالَاتِ الْعَامَّةِ الَّتِي يَتَكَلَّمُ فِيهَا أَفْرَادُ الْمُجْتَمَعِ جَمِيعًا!!

مَنْ أَرَادَ أَنْ تَكُونَ الْعَامَّةُ مُشَارِكَةً لِوُلَاةِ الْأُمُور فِي سِيَاسَاتِهَا، وَفِي رَأْيِهَا وَفِكْرِهَا؛ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا، وَخَرَجَ عَنْ هَدْيِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-.

هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ مُذِيعًا؛ كُلَّمَا سَمِعَ عَنْ خَبَرٍ مِنْ خَوْفٍ أَوْ أَمْنٍ أَذَاعَهُ، بَلْ قَد يَكُونُ مِنَ الْخَيْرِ أَنْ يَكْتُمَ هَذَا الْخَبَرَ الَّذِي حَصَلَ.

((رَحْمَةُ النَّبِيِّ ﷺ بِالْأُمَّةِ وَنِعْمَةُ الْإِيمَانِ))

إِنَّ أَكْبَرَ الْمِنَنِ: أَنْ يُحَبِّبَ اللهُ الْإِيمَانَ لِلْعَبْدِ، وَيُزَيِّنَهُ فِي قَلْبِهِ، وَيُذِيقَهُ حَلَاوَتَهُ، وَتَنْقَادَ جَوَارِحُهُ لِلْعَمَلِ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ؛ وَيُبَغِّضَ اللهُ إِلَيْهِ أَصْنَافَ الْمُحَرَّمَاتِ.

قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ ۚ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 7].

((هَذِهِ الْآيَةُ جَاءَتْ بَعْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ} وَسَبَبُ مَا سَبَقَ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَلَغَهُ عَنْ قَوْمٍ مَا لَيْسَ فِيهِمْ، فَأَمَرَ اللهُ -تَعَالَى- بِالتَّأَكُّدِ مِنَ الْأَخْبَارِ إِذَا جَاءَ بِهَا مَنْ لَا تُعْرَفُ عَدَالَتُهُ، وَكَأَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- أَرَادُوا مِنَ النَّبِيِّ ﷺ أَنْ يُعَاقِبَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَلَغَهُ عَنْهُمْ مَا بَلَغَهُ.

وَلَكِنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يَفْعَلْ بَعْدَ أَنْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ: { إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا}؛ وَلَكِنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ.

وَقَوْلُهُ: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ ۚ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ}؛ أَيْ: لَشَقَّ عَلَيْكُمْ مَا تَطْلُبُونَهُ مِنَ الرَّسُولِ ﷺ، وَهَذَا لَهُ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَامَ بِأَصْحَابِهِ فِي رَمَضَانَ، يُصَلِّي بِهِمْ صَلَاةَ الْقِيَامِ، فَانْصَرَفُوا وَقَدْ بَقِيَ مِنَ اللَّيْلِ مَا بَقِيَ، وَقَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! لَوْ نَفَّلْتَنَا بَقِيَّةَ لَيْلَتِنَا))؛ يَعْنِي: طَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَقُومَ بِهِمْ كُلَّ اللَّيْلِ.

وَلَكِنَّهُ ﷺ قَالَ لَهُمْ: «مَنْ قَامَ مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ؛ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ»، وَلَمْ يُوَافِقْهُمْ عَلَى طَلَبِهِمْ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْعَنَتِ وَالْمَشَقَّةِ.

وَمِنْهَا: أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ بَحَثُوا عَنْ أَمْرِهِ فِي السِّرِّ -يَعْنِي: فِيمَا لَا يَظْهَرُ لِلنَّاسِ-، وَهُوَ الْعَمَلُ الَّذِي يَفْعَلُهُ فِي بَيْتِهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ، فَكَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: ((إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وَأَمَّا هُمْ؛ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَلِكَ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَنَا أَصُومُ وَلَا أُفْطِرُ، وَقَالَ الثَّانِي: أَنَا أَقُومُ وَلَا أَنَامُ، وَقَالَ الثَّالِثُ: أَنَا لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ)).

فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَ: «أَمَّا أَنَا فَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَقُومُ وَأَنَامُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ؛ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي».

فَحَذَّرَهُمْ أَنْ يَعْمَلُوا عَمَلًا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ.

وَمِنْ ذَلِكَ -أَيْضًا-: حَدِيثُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَعَنْ أَبِيهِ-، أَنَّهُ بَلَغَ النَّبِيَّ ﷺ قَوْلُهُ: إِنَّهُ لَيَصُومَنَّ النَّهَارَ، وَلَيَقُومَنَّ اللَّيْلَ مَا عَاشَ، فَدَعَاهُ النَّبِيُّ ﷺ، قَالَ: «أَنْتَ قُلْتَ هَذَا؟».

قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ: «إِنَّكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ»، ثُمَّ أَرْشَدَهُ لِمَا هُوَ أَفْضَلُ وَأَهْوَنُ.

وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ يُوجَدُ مِنَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- مَنْ لَهُ هِمَّةٌ عَالِيَةٌ؛ لَكِنَّ الرَّسُولَ ﷺ لَا يُطِيعُهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ لَوْ أَنَّهُ أَطَاعَهُمْ)).

{وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}: وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ، وَحَسَّنَهُ وَقَرَّبَهُ مِنْكُمْ، وَأَدْخَلَهُ فِي قُلُوبِكُمْ حَتَّى اخْتَرْتُمُوهُ، وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ بِاللهِ، وَالْخُرُوجَ عَنْ طَاعَتِهِ مِمَّا يَدْخُلُ فِي كَبَائِرِ الْإِثْمِ وَالْمَعَاصِي الَّتِي لَا تَتَجَاوَزُ حُدُودَ الصَّغَائِرِ، أُولَئِكَ الْمُؤْمِنُونَ الْمُحَبَّبُ إِلَيْهِمُ الْإِيمَانُ، الْمُزَيَّنُ فِي قُلُوبِهِمْ.. هُمُ الْمُهْتَدُونَ إِلَى مَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ.

وَهَذَا الْخَيْرُ الَّذِي حَصَلَ لَكُمْ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً عَلَيْكُمْ، وَاللهُ عَلِيمٌ بِكُمْ وَبِمَا فِي قُلُوبِكُمْ، حَكِيمٌ فِي تَدْبِيرِ أُمُورِ خَلْقِهِ.

 ((قَدْ يَقُولُ قَائِلٌ: مَا ارْتِبَاطُ قَوْلِهِ: {وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ} بِقَوْلِهِ: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ ۚ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ

وَالْجَوَابُ: أَنَّكُمْ تُطِيعُونَهُ -أَيِ: الرَّسُولَ -عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ- فِيمَا يُخَالِفُكُمْ فِيهِ؛ لِأَنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ، فَتُقَدِّمُونَ طَاعَةَ النَّبِيِّ ﷺ فِيمَا يُخَالِفُكُمْ فِيهِ؛ لِأَنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ، وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ.

{وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ}؛ أَيْ: جَعَلَهُ مَحْبُوبًا فِي قُلُوبِكُمْ، {وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} بِحَيْثُ لَا تَتْرُكُونَهُ بَعْدَ أَنْ تَقُومُوا بِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ فِعْلَ الْإِنْسَانِ الشَّيْءَ لِلْمَحَبَّةِ قَدْ يَكُونُ مَحَبَّةً عَارِضَةً، لَكِنْ إِذَا زُيِّنَ لَهُ الشَّيْءُ ثَبَتَ فِي الْمَحَبَّةِ وَدَامَتْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ} وَهَذَا فِي الْقَلْبِ، {وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} أَيْضًا فِي الْقَلْبِ، لَكِنْ إِذَا زُيِّنَ الشَّيْءُ الْمَحْبُوبُ لِلْإِنْسَانِ؛ فَإِنَّهُ يَسْتَمِرُّ عَلَيْهِ، وَيَثْبُتُ عَلَيْهِ.

{وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ}: كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ الَّذِي هُوَ مُقَابِلُ الْإِيمَانِ، وَالْفُسُوقَ الَّذِي هُوَ مُقَابِلُ الِاسْتِقَامَةِ، وَالْعِصْيَانَ الَّذِي هُوَ مُقَابِلُ الْإِذْعَانِ، وَهَذَا تَدَرُّجٌ مِنَ الْأَعْلَى إِلَى مَا دُونَ؛ فَالْكُفْرُ أَعْظَمُ مِنَ الْفِسْقِ، وَالْفِسْقُ أَعْظَمُ مِنَ الْعِصْيَانِ.

فَالْكُفْرُ هُوَ الْخُرُوجُ مِنَ الْإِسْلَامِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَأَمَّا الْفِسْقُ؛ فَهُوَ دُونَ الْكُفْرِ؛ لَكِنَّهُ فِعْلُ كَبِيرَةٍ؛ كَأَنْ يَفْعَلَ الْإِنْسَانُ كَبِيرَةً مِنَ الْكَبَائِرِ وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا؛ كَالزِّنَا، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَالسَّرِقَةِ، وَالْقَذْفِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

وَالْعِصْيَانُ: هُوَ الصَّغَائِرُ الَّتِي تُكَفَّرُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ». أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

{أُولَٰئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ}؛ أُولَئِكَ: الْمُشَارُ إِلَيْهِم مَنْ حَبَّبَ اللهُ إِلَيْهِمُ الْإِيمَانَ، وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِهِمْ، وَكَرَّهَ إِلَيْهِمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ {هُمُ الرَّاشِدُونَ}؛ يَعْنِي: الَّذِينَ سَلَكُوا طَرِيقَ الرُّشْدِ، وَالرُّشْدُ فِي الْأَصْلِ: حُسْنُ التَّصَرُّفِ، وَهُوَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ بِحَسَبِهِ، فَالرُّشْدُ فِي الْمَالِ: أَنْ يُحْسِنَ الْإِنْسَانُ التَّصَرُّفَ فِيهِ، وَلَا يَبْذُلُهُ فِي غَيْرِ فَائِدَةٍ، وَالرُّشْدُ فِي الدِّينِ: هُوَ الِاسْتِقَامَةُ عَلَى دِينِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ حَبَّبَ اللهُ إِلَيْهِمُ الْإِيمَانَ، وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِهِمْ، وَكَرَّهَ إِلَيْهِمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَٰئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ، وَهُنَا تَجِدُ هَذِهِ الْأَفْعَالَ كُلَّهَا مُضَافَةً إِلَى اللهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهَا: {فَضْلًا مِنَ اللهِ}؛ يَعْنِي: أَنَّ اللهَ أَفْضَلَ عَلَيْكُمْ فَضْلًا؛ أَيْ: تَفَضُّلًا مِنْهُ، وَلَيْسَ بِكَسْبِكُمْ، وَلَكِنَّهُ مِنَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَلِكَيْ يُعْلَمَ أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ، وَأَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ الْإِيمَانَ فِي الشَّخْصِ، فَمَنْ عَلِمَ اللهُ مِنْهُ حُسْنَ النِّيَّةِ، وَحُسْنَ الْقَصْدِ وَالْإِخْلَاصِ؛ حَبَّبَ إِلَيْهِ الْإِيمَانَ، وَزَيَّنَهُ فِي قَلْبِهِ، وَكَرَّهَ إِلَيْهِ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ، وَمَنْ لَمْ يَعْلَمِ اللهُ مِنْهُ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَعَالَى- يَقُولُ: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]، وَيَقُولُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} [المائدة: 49]، فَالذُّنُوبُ سَبَبٌ لِلْمُخَالَفَةِ وَالْعِصْيَانِ، فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَفَضَّلَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَأَنْعَمَ عَلَيْهِمْ نِعْمَةَ الدِّينِ هُمُ الَّذِينَ وُفِّقُوا لِلْحَقِّ.

قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَضْلًا مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً}؛ يَعْنِي: إِنْعَامًا مِنْهُ عَلَيْهِمْ، وَالنِّعْمَةُ نِعْمَتَانِ: نِعْمَةٌ فِي الدُّنْيَا، وَنِعْمَةٌ فِي الْآخِرَةِ، فَنِعْمَةُ الدُّنْيَا مُتَّصِلَةٌ بِنِعْمَةِ الْآخِرَةِ فِي حَقِّهِمْ.

وَأَمَّا الْكُفَّارُ؛ فَهُمْ مُنَعَّمُونَ فِي الدُّنْيَا، كَمَا قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} [الدخان: 25-27]؛ أَيْ: تَنَعُّمٍ، فَهَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ عَلَيْهِمْ نِعْمَةٌ فِي الدُّنْيَا؛ لَكِنْ فِي الْآخِرَةِ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ وَاللَّعْنَةُ -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ-، أَمَّا الْمُؤْمِنُ؛ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ عَلَى النِّعْمَتَيْنِ جَمِيعًا؛ عَلَى نِعْمَةٍ فِي الدُّنْيَا، وَنِعْمَةٍ فِي الْآخِرَةِ؛ حَتَّى وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا، أَوْ كَانَ مَرِيضًا، أَوْ كَانَ عَقِيمًا، أَوْ لَا نَسَبَ لَهُ وَلَا جَاهَ.. فَإِنَّهُ فِي نِعْمَةٍ؛ لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].

وَخُلَاصَةُ الْكَلَامِ فِي النِّعْمَةِ؛ أَنَّ هُنَاكَ نِعْمَتَيْنِ: نِعْمَةً عَامَّةً لِجَمِيعِ الْخَلْقِ؛ الْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ، وَالْفَاسِقِ وَالْمُطِيعِ، وَنِعْمَةً خَاصَّةً لِلْمُؤْمِنِ، وَهَذِهِ النِّعْمَةُ الْخَاصَّةُ تَتَّصِلُ بِنِعْمَةِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَأَمَّا الْأُولَى؛ فَإِنَّهَا خَاصَّةٌ بِنِعْمَةِ الدُّنْيَا فَقَطْ؛ لِتَقُومَ عَلَى الْكُفَّارِ الْحُجَّةُ.

{وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}: هَذَانِ اسْمَانِ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ يَقْرِنُ اللهُ بَيْنَهُمَا دَائِمًا: الْعِلْمُ وَالْحِكْمَةُ، عَلِيمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، فَعِلْمُ اللهِ -تَعَالَى- مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَالْإِنْسَانُ إِذَا عَلِمَ أَنَّ اللهَ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ -حَتَّى مَا يُضْمِرُهُ فِي قَلْبِهِ، حَتَّى مَا يُخْفِيهِ فِي حَنَايَا صَدْرِهِ-؛ فَإِنَّهُ يَخَافُ وَيَرْهَبُ وَيَهْرَبُ مِنَ اللهِ إِلَيْهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَلَا يَقُولُ قَوْلًا يُغْضِبُ اللهَ، وَلَا يَفْعَلُ فِعْلًا يُغْضِبُ اللهَ، وَلَا يُضْمِرُ عَقِيدَةً تُغْضِبُ اللهَ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يَعْلَمُ ذَلِكَ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ.

وَأَمَّا الْحَكِيمُ؛ فَهُوَ ذُو الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ، وَالْحِكْمَةُ هِيَ: أَنَّ جَمِيعَ مَا يَحْكُمُ بِهِ -جَلَّ وَعَلَا- مُوَافِقٌ وَمُطَابِقٌ لِلْمَصَالِحِ، مَا مِنْ شَيْءٍ يَحْكُمُ اللهُ بِهِ إِلَّا وَهُوَ حِكْمَةٌ عَظِيمَةٌ، قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ ۖ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} [القمر: 5]، وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين: 8]

فَمَعْنَى الْحَكِيمِ؛ أَيْ: ذُو الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ، وَلَهُ مَعْنًى آخَرُ، وَهُوَ: ذُو الْحُكْمِ التَّامِّ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَعَالَى- لَهُ الْحُكْمُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ} [الشورى: 10])).

((إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ وَأُخُوَّةُ الْمُؤْمِنِينَ))

لَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ اللهَ قَدْ أَرْسَى دَعَائِمَ الدِّينِ، وَأَقَامَ أَسَاسَ الْمِلَّةِ الْمَتِينَ، وَأَنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يُعْبَدَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ؛ وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ، بَعْدَ أَنْ أَرْسَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَعَالِمَ الْمِلَّةِ الْغَرَّاءِ، وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ الْمَحَجَّةَ، وَأَقَامَ الْحُجَّةَ؛ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَلَا لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ)).

وَأَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِالْأُخُوَّةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَالْبُنْيَانِ الْمَرْصُوصِ، كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ، ((مَثَلُ الْمُسْلِمِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ)).

وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ ((الْمُسْلِمَ لِلْمُسْلِمِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا -وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ ﷺ-)).

قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1].

(({فَاتَّقُوا اللَّهَ}؛ بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ، وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ، {وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ}: أَصْلِحُوا مَا بَيْنَكُمْ مِنَ التَّشَاحُنِ، وَالتَّقَاطُعِ، وَالتَّدَابُرِ؛ بِالتَّوَادُدِ، وَالتَّحَابِّ، وَالتَّوَاصُلِ، فَبِذَلِكَ تَجْتَمِعُ كَلِمَتُكُمْ، وَيَزُولُ مَا يَحْصُلُ بِسَبَبِ التَّقَاطُعِ؛ مِنَ التَّخَاصُمِ، وَالتَّشَاجُرِ، وَالتَّنَازُعِ.

وَيَدْخُلُ فِي إِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ: تَحْسِينُ الْخُلُقِ لَهُمْ، وَالْعَفْوُ عَنِ الْمُسِيئِينَ مِنْهُمْ؛ فَإِنَّهُ -بِذَلِكَ- يَزُولُ كَثِيرٌ مِمَّا يَكُونُ فِي الْقُلُوبِ مِنَ الْبَغْضَاءِ وَالتَّدَابُرِ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10].

فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ إِذَا اخْتَلَفَا وَاقْتَتَلَا، وَاتَّقُوا اللهَ فَلَا تَعْصُوهُ، وَلَا تُخَالِفُوا أَمْرَهُ؛ رَجَاءَ أَنْ تَنَالُوا رَحْمَتَهُ -جَلَّ وَعَلَا-.

{وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۖ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ ۚ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا ۖ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9].

((طَائِفَتَانِ: مُفْرَدُهَا طَائِفَةٌ، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ، وَقَوْلُهُ: {اقْتَتَلُوا} جَمْعٌ، وَإِنَّمَا جَمَعَ؛ لِأَنَّ الطَّائِفَةَ تَشْتَمِلُ عَلَى أَفْرَادٍ كَثِيرِينَ؛ فَلِذَلِكَ صَحَّ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَى مُثَنَّى؛ مُرَاعَاةً لِلْمَعْنَى؛ وَإِلَّا لَكَانَ مُقْتَضَى اللُّغَةِ أَنْ يَقُولَ: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلَا)؛ لِيُطَابِقَ الضَّمِيرُ مَرْجِعَهُ، لَكِنَّهُ عَادَ إِلَيْهِ بِالْمَعْنَى.

وَالِاقْتِتَالُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ لَهُ أَسْبَابٌ مُتَعَدِّدَةٌ، وَالشَّيْطَانُ قَدْ يَئِسَ أَنْ يُعْبَدَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ؛ وَلَكِنَّهُ رَضِيَ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ كَمَا عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي ((الصَّحِيحِ))، يُحَرِّشُ بَيْنَهُمْ حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا، فَإِذَا حَصَلَ الِاقْتِتَالُ؛ فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الْآخَرِينَ الصُّلْحُ بَيْنَهُمَا؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}؛ أَيِ: اسْعُوا إِلَى الصُّلْحِ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ؛ حَتَّى وَلَوْ كَانَ بِبَذْلِ الْمَالِ، وَالتَّنَازُلِ عَنِ الْحَقِّ لِأَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ أَنْ يَتَنَازَلَ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ عَمَّا يُرِيدُ مِنْ كَمَالِ حَقِّهِ؛ وَإِلَّا لَمَا تَمَّ الصُّلْحُ؛ وَلِهَذَا لَما قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} وَقَالَ: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ} [النساء: 128].

لِأَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ يُرِيدُ أَنْ يُتِمَّ قَوْلَهُ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ التَّنَازُلِ، فَإِذَا أَصْلَحْنَا بَيْنَهُمَا، ثُمَّ حَصَلَ بَغْيٌ؛ قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي}؛ يَعْنِي: لَوْ فُرِضَ أَنَّهُ بَعْدَ الصُّلْحِ عَادَتْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ تُقَاتِلُ الْأُخْرَى؛ فَهُنَا لَا صُلْحَ، بَلْ نُقَاتِلُ الَّتِي تَبْغِي {حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ}؛ أَيْ: حَتَّى تَرْجِعَ إِلَيْهِ، وَأَمْرُ اللهِ؛ يَعْنِي: دِينُهُ وَشَرْعُهُ.

فَانْظُرْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ الْإِصْلَاحَ، فَإِذَا تَمَّ الصُّلْحُ، وَبَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى؛ وَجَبَ أَنْ نُسَاعِدَ الْمَبْغِيَّ عَلَيْهَا، فَنُقَاتِلُ مَعَهَا {فَإِن فَاءَتْ}؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْكَفُّ عَنْ قِتَالِهِمْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ نُجْهِزَ عَلَى جَرِيحٍ، وَلَا أَنْ نَتَّبِعَ مُدْبِرًا، وَلَا أَنْ نَسْلُبَ مَالًا، وَلَا أَنْ نَسْبِيَ ذُرِّيَّةً؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ مُؤْمِنُونَ.

{فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا ۖ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}؛ أَيْ: فَإِنْ فَاءَتْ إِلَى أَمْرِ اللهِ بَعْدَ أَنْ قَاتَلْنَاهَا، وَرَجَعَتْ وَوُضِعَتِ الْحَرْبُ؛ وَجَبَ أَنْ نُصْلِحَ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ، وَهَذَا غَيْرُ الْإِصْلَاحِ الْأَوَّلِ، الْإِصْلَاحُ الْأَوَّلُ لِوَقْفِ الْقِتَالِ، وَهَذَا الْإِصْلَاحُ بِالتَّقْدِيرِ، فَنَنْظُرُ مَاذَا تَلِفَ عَلَى كُلِّ طَائِفَةٍ، ثُمَّ نُسَوِّي بَيْنَهُمَا.

ثُمَّ قَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}: هَذَا كَالتَّعْلِيلِ لِقَوْلِهِ: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}؛ يَعْنِي: إِنَّمَا أَوْجَبَ اللهُ عَلَيْنَا الْإِصْلَاحَ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ الْمُقْتَتِلَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِخْوَةٌ، الطَّائِفَتَانِ الْمُقْتَتِلَتَانِ هُمَا أَخَوَانِ، وَنَحْنُ -أَيْضًا- إِخْوَةٌ لَهُمْ؛ حَتَّى مَعَ الْقِتَالِ.

فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ: أَلَيْسَ النَّبِيُّ ﷺ قَدْ قَالَ: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ». وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ))، وَالْكَافِرُ لَيْسَ أَخًا لِلْمُؤْمِنِ؟!!

فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْكُفْرَ الَّذِي ذَكَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ هُوَ كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ، فَلَيْسَ كُلُّ مَا أَطْلَقَ الشَّرْعُ عَلَيْهِ أَنَّهُ كُفْرٌ يَكُونُ كُفْرًا، فَهُنَا صَرَّحَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِأَنَّ هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ الْمُقْتَتِلَتَيْنِ إِخْوَةٌ لَنَا، مَعَ أَنَّ قِتَالَ الْمُؤْمِنِ كُفْرٌ، فَيُقَالُ: هَذَا كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ، وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ: الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ». أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الطَّاعِنَ فِي النَّسَبِ وَالنَّائِحَةَ عَلَى الْمَيِّتِ لَا يُكَفَّرَانِ كُفْرًا أَكْبَرَ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ فِي شَرِيعَةِ اللهِ -فِي الْكِتَابِ وَفِي السُّنَّةِ- كُفْرَانِ: كفرٌ مُخْرِجٌ عَنِ الْمِلَّةِ، وَكُفْرٌ لَا يُخْرِجُ عَنِ الْمِلَّةِ.

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات ١٠]: وَفِي هَذَا مِنَ الْحَمْلِ عَلَى الْعَطْفِ عَلَى هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ الْمُقْتَتِلَتَيْنِ مَا هُوَ ظَاهِرٌ فِي قَوْلِهِ: {إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} كَمَا أَنَّكَ تُصْلِحُ بَيْنَ أَخَوَيْكَ الْأَشِقَّاءِ مِنَ النَّسَبِ فَأَصْلِحْ بَيْنَ أَخَوَيْكَ فِي الْإِيمَانِ.

{وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: ١٠]؛ يَعْنِي: اتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى- بِأَنْ تَفْعَلُوا مَا أَمَرَكُمْ بِهِ، وَتَتْرُكُوا مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ؛ لِأَنَّكُمْ إِذَا قُمْتُمْ بِهَذَا فَقَدِ اتَّخَذْتُمْ وِقَايَةً مِنْ عَذَابِ اللهِ، وَهَذِهِ هِيَ التَّقْوَى، وَعَلَى هَذَا كُلَّمَا سَمِعْتَ كَلِمَةَ (تَقْوَى) فِي الْقُرْآنِ؛ فَالْمَعْنَى: أَنَّهَا اتِّخَاذُ وِقَايَةٍ مِنْ عَذَابِ اللهِ بِفِعْلِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ.

{لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}؛ أَيْ: لِيَرْحَمَكُمُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- إِذَا اتَّقَيْتُمُوهُ)).

((التَّحْذِيرُ مِنَ السُّخْرِيَةِ وَاللَّمْزِ وَالتَّنَابُزِ بِالْأَلْقَابِ))

((قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي جُمْلَةِ مَا بَيَّنَ لِعِبَادِهِ مِنَ الْآدَابِ وَالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ}.

السُّخْرِيَةُ: هِيَ الِاسْتِهْزَاءُ وَالِازْدِرَاءُ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ: أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- جَعَلَ النَّاسَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا طَبَقَاتٍ، فَقَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف: 32]؛ أَيْ: لِيُسَخِّرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الْمَصَالِحِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا: الِاسْتِهْزَاءُ.

وَقَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء: 21].

إِذَا ثَبَتَ هَذَا التَّفْضِيلُ بَيْنَ النَّاسِ؛ فَهُمْ يَتَفَاضَلُونَ فِي الْعِلْمِ، فَبَعْضُهُمْ أَعْلَمُ مِنْ بَعْضٍ فِي عُلُومِ الشَّرِيعَةِ، وَعُلُومِ الْوَسِيلَةِ إِلَى عُلُومِ الشَّرِيعَةِ؛ كَعُلُومِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ مِنَ النَّحْوِ وَالْبَلَاغَةِ وَغَيْرِهَا، وَهُمْ يَتَفَاضَلُونَ فِي الرِّزْقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ بُسِطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ فِي رِزْقِهِ، وَهُمْ يَتَفَاضَلُونَ فِي الْأَخْلَاقِ، فَمِنْهُمْ ذَوُو الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ الْعَالِيَةِ، وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ، وَهُمْ يَتَفَاضَلُونَ فِي الْخِلْقَةِ، مِنْهُمُ السَّوِيُّ الْخِلْقَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ دُونَ ذَلِكَ، وَيَتَفَاضَلُونَ كَذَلِكَ فِي الْحَسَبِ، مِنْهُمْ مَنْ هُوَ ذُو حَسَبٍ وَنَسَبٍ، وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ؛ فَهَلْ يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْخَرَ مِمَّنْ دُونَهُ؟!!

يَقُولُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ}؛ فَيُخَاطِبُنَا -جَلَّ وَعَلَا- بِوَصْفِ الْإِيمَانِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، وَيَنْهَانَا أَنْ يَسْخَرَ بَعْضُنَا مِنْ بَعْضٍ؛ لِأَنَّ الْمُفَضِّلَ هُوَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَإِذَا كَانَ هُوَ اللهُ؛ لَزِمَ مِنْ سُخْرِيَتِكَ بِهَذَا الشَّخْصِ الَّذِي هُوَ دُونَكَ أَنْ تَكُونَ سَاخِرًا بِتَقْدِيرِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

فَلِمَاذَا تَسْخَرُ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي هُوَ دُونَكَ فِي الْعِلْمِ، أَوْ فِي الْمَالِ، أَوْ فِي الْخُلُقِ، أَوْ فِي الْخِلْقَةِ، أَوْ فِي الْحَسَبِ، أَوْ فِي النَّسَبِ؟!! لِمَاذَا تَسْخَرُ مِنْهُ؟!!

أَلَيْسَ الَّذِي أَعْطَاكَ الْفَضْلَ هُوَ اللهُ الَّذِي حَرَمَهُ هَذَا -فِي تَصَوُّرِكَ-؟!! فَلِمَاذَ؟!!

وَلِهَذَا قَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: {عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ}: رُبَّ سَاخِرٍ الْيَوْمَ مَسْخُورٌ مِنْهُ فِي الْغَدِ، وَرُبَّ مَفْضُولٍ الْيَوْمَ يَكُونُ فَاضِلًا فِي الْغَدِ، وَهَذَا شَيْءٌ مُشَاهَدٌ.

إِذَنْ؛ يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَتَأَدَّبَ بِمَا أَدَّبَهُ اللهُ بِهِ، فَلَا يَسْخَرُ مِنْ غَيْرِهِ؛ عَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا مِنْهُ، {وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ}: وَنَصَّ عَلَى النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ بِالتَّفْصِيلِ؛ حَتَّى لَا يَقُولَ أَحَدٌ: (إِنَّ هَذَا خَاصٌّ بِالرِّجَالِ) لَوْ ذَكَرَ الرِّجَالَ وَحْدَهُمْ، أَوْ خَاصٌّ بِالنِّسَاءِ وَحْدَهُنَّ.

وَهَذَا الْأَدَبُ عَامٌّ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ، وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ طَالِبِ عِلْمٍ أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ مَنْ يَمْتَثِلُ أَمْرَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَيَجْتَنِبُ نَهْيَهُ؛ لِأَنَّهُ مَسْؤُولٌ عَنْ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ:

الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ كَغَيْرِهِ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ.

وَالثَّانِي: أَنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ قُدْوَةٌ، أَيُّ عَمَلٍ يَعْمَلُهُ فَسَوْفَ يَقْتَدِي بِهِ النَّاسُ، وَيَحْتَجُّونَ بِهِ، فَإِذَا كَانَ طَالِبُ الْعِلْمِ هُوَ الَّذِي يَسْخَرُ مِنَ الْعُلَمَاءِ، أَوْ مِمَّنْ دُونَ الْعُلَمَاءِ؛ فَهَذِهِ بَلِيَّةٌ فِي الْوَاقِعِ، فَالْوَاجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ إِذَا خَالَفَ غَيْرَهُ أَنْ يَلْتَمِسَ لَهُ الْعُذْرَ، ثُمَّ يَتَّصِلُ بِهَذَا الْمُخَالِفِ وَيَبْحَثُ مَعَهُ؛ فَرُبَّمَا يَكُونُ الْحَقُّ مَعَ مَنْ خَالَفَهُ، وَيُنَاقِشُهُ بِأَدَبٍ وَاحْتِرَامٍ وَهُدُوءٍ؛ حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْحَقُّ، وَأَمَّا سُخْرِيَتُهُ مِمَّنْ خَالَفَ رَأْيَهُ أَوْ رَأْيَ شَيْخِهِ؛ فَهَذَا غَلَطٌ.

وَكُلُّ إِنْسَانٍ يُخَالِفُكَ فِي قَوْلِكَ فَإِنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْكَ أَنْ تَحْمِلَهُ عَلَى أَحْسَنِ الْمَحَامِلِ، وَأَنَّ هَذَا اجْتِهَادُهُ، وَأَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- سَيَأْجُرُهُ عَلَى اجْتِهَادِهِ إِذَا أَخْطَأَ، وَإِنْ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، ثُمَّ تَتَّصِلُ بِهِ وَتُنَاقِشُهُ، وَلَا تَسْتَحِيي؛ فَرُبَّمَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْحَقَّ مَعَكَ، فَتَكُونُ لَكَ مِنَّةٌ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ، وَرُبَّمَا يَتَبَيَّنُ لَكَ أَنَّ الْحَقَّ مَعَهُ، فَيَكُونُ لَهُ مِنَّةٌ عَلَيْكَ، وَأَمَّا السُّخْرِيَةُ؛ فَهَذَا لَيْسَ مِنْ آدَابِ طَالِبِ الْعِلْمِ؛ بَلْ وَلَا مِنْ آدَابِ الْمُؤْمِنِ مَعَ أَخِيهِ.

هَذَا مُتَعَلِّقٌ بِالْأَخْطَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْلَمُ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْخَطَأِ أَحَدٌ، الْمَعْصُومُ هُوَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَكُلُّ مَنْ دُونَ النَّبِيِّ ﷺ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُرَدُّ.

فَالْمُرَادُ لَا أَهْلَ الْبِدَعِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ الْأَخْطَاءُ الَّتِي يَقَعُ فِيهَا الْعُلَمَاءُ أَوِ الَّتِي يُخَالِفُونَ فِيهَا بَعْضَ النُّصُوصِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَسْلَمُ مِنْهُ أَحَدٌ.

{وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ}؛ اللَّمْزُ: الْعَيْبُ؛ بِأَنْ تَقُولَ: فُلَانٌ بَلِيدٌ، فُلَانٌ طَوِيلٌ، فُلَانٌ قَصِيرٌ، فُلَانٌ أَسْوَدُ، فُلَانٌ أَحْمَرُ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يُعَدُّ عَيْبًا.

وَقَوْلُهُ: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} فُسِّرَ بِمَعْنَيَيْنِ:

الْمَعْنَى الْأَوَّلُ: لَا يَلْمِزْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَّا بِمَنْزِلَةِ نَفْسِ الْإِنْسَانِ، أَخُوكَ بِمَنْزِلَةِ نَفْسِكَ، فَإِذَا لَمَزْتَهُ فَكَأَنَّمَا لَمَزْتَ نَفْسَكَ.

وَالْمَعْنَى الثَّانِي: لَا تَلْمِزْ أَخَاكَ؛ لِأَنَّكَ إِذَا لَمَزْتَهُ لَمَزَكَ، فَلَمْزُكَ إِيَّاهُ سَبَبٌ لِكَوْنِهِ يَلْمِزُكَ؛ وَحِينَئِذٍ تَكُونُ كَأَنَّكَ لَمَزْتَ نَفْسَكَ، وَعَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: «لَعَنَ اللهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ».

فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! كَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟!!

قَالَ: «يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ، فَيَسُبُّ أُمَّهُ». وَالْحَدِيثُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي ((الصَّحِيحِ)).

عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ فِي الْآيَةِ: تَحْرِيمُ عَيْبِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، فَلَا يَجُوزُ لَكَ أَنْ تَعِيبَ أَخَاكَ بِصِفَةٍ خَلْقِيَّةٍ وَلَا بِصِفَةٍ خُلُقِيَّةٍ، أَمَّا الصِّفَةُ الْخَلْقِيَّةُ الَّتِي تَعُودُ إِلَى الْخِلْقَةِ؛ فَإِنَّ عَيْبَكَ إِيَّاهُ فِي الْحَقِيقَةِ عَيْبٌ لِخَالِقِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَالَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَانَ هُوَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَالَّذِي جَعَلَهُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ هُوَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَالْإِنْسَانُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُكْمِلَ خِلْقَتَهُ.. فَيَكُونُ الطَّوِيلُ قَصِيرًا، أَوِ الْقَصِيرُ طَوِيلًا، أَوِ الْقَبِيحُ جَمِيلًا، أَوِ الْجَمِيلُ قَبِيحًا.

فَأَنْتَ إِذَا لَمَزْتَ إِنْسَانًا، وَعِبْتَهُ فِي خِلْقَتِهِ؛ فَقَدْ عِبْتَ الْخَالِقَ فِي الْوَاقِعِ؛ وَلِهَذَا لَوْ وَجَدْنَا جِدَارًا مَبْنِيًّا مَائِلًا وَعِبْنَا الْجِدَارَ؛ فَعَيْبُنَا فِي الْحَقِيقَةِ لِبَانِي الْجِدَارِ، إِذَنْ؛ إِذَا عِبْتَ إِنْسَانًا فِي خِلْقَتِهِ؛ فَكَأَنَّمَا عِبْتَ الْخَالِقَ -عَزَّ وَجَلَّ-.

فَالْمَسْأَلَةُ خَطِيرَةٌ..

أَمَّا عَيْبُهُ بِالْخُلُقِ بِأَنْ يَكُونَ هَذَا الرَّجُلُ سَرِيعَ الْغَضَبِ، شَدِيدَ الِانْتِقَامِ، بَذِيءَ اللِّسَانِ؛ فَلَا تَعِبْهُ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا إِذَا عِبْتَهُ ابْتَلَاكَ اللهُ بِالْعَيْبِ نَفْسِهِ.

لَكِنْ إِذَا وَجَدْتَ فِيهِ سُوءَ خُلُقٍ فَالْوَاجِبُ النَّصِيحَةُ؛ أَنْ تَتَّصِلَ بِهِ إِنْ كَانَ يُمْكِنُ الِاتِّصَالُ بِهِ، وَتُبَيِّنَ لَهُ مَا كَانَ بِهِ مِنْ عَيْبٍ، أَوْ أَنْ تَكْتُبَ لَهُ كِتَابًا: رِسَالَةً بِاسْمِكَ، أَوْ بِاسْمِ نَاصِحٍ -مَثَلًا-.

{وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ}؛ يَعْنِي: لَا يَنْبِزْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِاللَّقَبِ، فَتَقُولُ لَهُ -مَثَلًا-: يَا فَاسِقُ، يَا فَاجِرُ، يَا كَافِرُ، يَا شَارِبَ الْخَمْرِ، يَا سَارِقُ، يَا زَانِي، لَا تَفْعَلْ هَذَا؛ لِأَنَّكَ إِذَا نَبَزْتَهُ بِاللَّقَبِ؛ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ اللَّقَبُ فِيهِ، وَإِمَّا أَلَّا يَكُونَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ فَقَدِ ارْتَكَبْتَ هَذَا النَّهْيَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ وَارْتَكَبْتَ النَّهْيَ أَيْضًا.

ثُمَّ قَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ}؛ يَعْنِي: بِئْسَ لَكُمْ أَنْ تُنْقَلُوا مِنْ وَصْفِ الْإِيمَانِ إِلَى وَصْفِ الْفُسُوقِ، فَإِذَا ارْتَكَبْتُمْ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ؛ صِرْتُمْ فَسَقَةً، فَالْإِنْسَانُ إِذَا ارْتَكَبَ كَبِيرَةً وَاحِدَةً مِنَ الْكَبَائِرِ صَارَ فَاسِقًا، وَإِذَا ارْتَكَبَ صَغِيرَةً وَكَرَّرَهَا وَأَصَرَّ عَلَيْهَا صَارَ فَاسِقًا، فَلَا تَجْعَلْ نَفْسَكَ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَكَمَالِ الْإِيمَانِ فَاسِقًا.

هَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ}؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ جُمْلَةٌ إِنْشَائِيَّةٌ تُفِيدُ الذَّمَّ، وَمَا أَفَادَ الذَّمَّ فَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِلَا شَكٍّ.

فَاسْتَفَدْنَا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: تَحْرِيمَ السُّخْرِيَةِ، وَتَحْرِيمَ لَمْزِ الْغَيْرِ، وَتَحْرِيمَ التَّنَابُزِ بِالْأَلْقَابِ، وَأَنَّ مَنْ صَنَعَ ذَلِكَ فَهُوَ فَاسِقٌ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُؤْمِنًا.

{بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}؛ يَعْنِي: مَنْ كَانَ يَفْعَلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الثَّلَاثَةَ وَلَمْ يَتُبْ؛ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، فَالَّذِي لَا يَتُوبُ يَكُونُ ظَالِمًا، وَ«الظُّلْمُ -كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». أَخْرَجَاهُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

وَإِذَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ؛ فَهَؤُلَاءِ الظَّلَمَةُ لَيْسَ لَهُمْ نُورٌ، فَيَجِبُ الْحَذَرُ مِمَّا نَهَى اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَنْهُ؛ لِأَنَّكَ أَيُّهَا الْعَبْدُ عَبْدٌ للهِ، تَأْتَمِرُ بِأَمْرِهِ، وَتَنْتَهِي عَنْ نَهْيِهِ.

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا مَعْنَى التَّوْبَةِ؟

فَنَقُولُ: التَّوْبَةُ مِنَ الْعَبْدِ: أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ إِلَى طَاعَتِهِ، وَالتَّوْبَةُ مِنَ اللهِ: أَنْ يَقْبَلَ اللهُ مِنَ الْعَبْدِ، فَيُبَدِّلَ سَيِّئَاتِهِ حَسَنَاتٍ)).

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.

هَذَا أَيْضًا مِنْ حُقُوقِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ؛ أَلَّا يَسْخَرَ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ بِكُلِّ كَلَامٍ وَقَوْلٍ وَفِعْلٍ دَالٍّ عَلَى تَحْقِيرِ الْأَخِ الْمُسْلِمِ، فَإِنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى إِعْجَابِ السَّاخِرِ بِنَفْسِهِ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ الْمَسْخُورُ بِهِ خَيْرًا مِنَ السَّاخِرِ، وَهُوَ الْغَالِبُ وَالْوَاقِعُ، فَإِنَّ السُّخْرِيَةَ لَا تَقَعُ إِلَّا مِنْ قَلْبٍ مُمْتَلِئٍ مِنْ مَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ، مُتَحَلٍّ بِكُلِّ خُلُقٍ ذَمِيمٍ، مُتَخَلٍّ مِنْ كُلِّ خُلُقٍ كَرِيمٍ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((بِحَسَبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يُحَقِّرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ}؛ أَيْ: لَا يَعِبْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَاللَّمْزُ: بِالْقَوْلِ، وَالْهَمْزِ: بِالْفِعْلِ، وَكِلَاهُمَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ حَرَامٌ، مُتَوَعَّدٌ عَلَيْهِ بِالنَّارِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} الْآيَةُ، وَسُمِّيَ الْأَخُ الْمُسْلِمُ نَفْسًا لِأَخِيهِ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَكَذَا حَالُهُمْ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ، وَلِأَنَّهُ إِذَا هَمَزَ غَيْرَهُ؛ أَوْجَبَ لِلْغَيْرِ أَنْ يَهْمِزَهُ، فَيَكُونُ هُوَ الْمُتَسَبِّبَ لِذَلِكَ.

{وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ}؛ أَيْ: لَا يُعَيِّرْ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، وَلَا يُلَقِّبْهُ بِلَقَبِ ذَمٍّ يَكْرَهُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ وَهَذَا هُوَ التَّنَابُزُ، وَأَمَّا الْأَلْقَابُ غَيْرُ الْمَذْمُومَةِ فَلَا تَدْخُلُ فِي هَذَا.

{بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ}؛ أَيْ: بِئْسَمَا تَبَدَّلْتُمْ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ بِشَرَائِعِهِ وَمَا تَقْتَضِيهِ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ بِاسْمِ الْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، الَّذِي هُوَ التَّنَابُزُ بِالْأَلْقَابِ.

{وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}: وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى الْعَبْدِ؛ أَنْ يَتُوبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَيَخْرُجَ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، بِاسْتِحْلَالِهِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَالْمَدْحِ لَهُ مُقَابَلَةً عَلَى ذَمِّه إِيَّاهِ.

{وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}؛ فَالنَّاسُ قِسْمَانِ: ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ غَيْرُ تَائِبٍ، وَتَائِبٌ مُفْلِحٌ، وَلَا ثَمَّ قِسْمٌ ثَالِثٌ غَيْرُهُمَا.

((التَّحْذِيرُ مِنْ سُوءِ الظَّنِّ وَالتَّجَسُّسِ وَالْغِيبَةِ))

عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُقَدِّمَ حُسْنَ الظَّنِّ بِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ، {لَّوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُواْ هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ} [النور: 12].

وَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَرْفَعُهُ: «إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ؛ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَجَسَّسُوا، وَلَا تَنَافَسُوا وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخوَانًا».

 ((وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا الظَّنُّ: هُوَ أَنْ يَكُونَ لَدَى الْإِنْسَانِ احْتِمَالَانِ يَتَرَجَّحُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَهُنَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ} وَلَمْ يَقُلْ: اجْتَنِبُوا الظَّنَّ كُلَّهُ؛ لِأَنَّ الظَّنَّ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ:

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: ظَنُّ خَيْرٍ بِالْإِنْسَانِ، وَهَذَا مَطْلُوبٌ: أَنْ تَظُنَّ بِإِخْوَانِكَ خَيْرًا مَا دَامُوا أَهْلًا لِذَلِكَ، وَهُوَ الْمُسْلِمُ الَّذِي ظَاهِرُهُ الْعَدَالَةُ؛ فَإِنَّ هَذَا يُظَنُّ بِهِ خَيْرًا، وَيُثْنَى عَلَيْهِ بِمَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ إِسْلَامِهِ وَأَعْمَالِهِ.

الْقِسْمُ الثَّانِي: ظَنُّ السُّوءِ، وَهَذَا يَحْرُمُ بِالنِّسْبَةِ لِمُسْلِمٍ ظَاهِرُهُ الْعَدَالَةُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ أَنْ تَظُنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ، كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ الْعُلَمَاءُ، فَقَالُوا -رَحِمَهُمُ اللهُ-: يَحْرُمُ ظَنُّ السَّوْءِ بِمُسْلِمٍ ظَاهِرُهُ الْعَدَالَةُ.

أَمَّا ظَنُّ السَّوْءِ بِمَنْ قَامَتِ الْقَرِينَةُ عَلَى أَنَّهُ أَهْلٌ لِذَلِكَ؛ فَهَذَا لَا حَرَجَ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَظُنَّ السَّوْءَ بِهِ.

{إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}؛ وَقَدْ تُوحِي هَذِهِ الْجُمْلَةُ أَنَّ أَكْثَرَ الظَّنِّ لَيْسَ بِإِثْمٍ، وَهُوَ مُنْطَبِقٌ تَمَامًا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ وَقَسَّمْنَاهُ؛ أَنَّ الظَّنَّ نَوْعَانِ: ظَنُّ خَيْرٍ، وَظَنُّ سُوءٍ، ثُمَّ ظَنُّ السُّوءِ لَا يَجُوزُ إِلَّا إِذَا قَامَتِ الْقَرِينَةُ عَلَى وُجُودِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}؛ فَمَا هُوَ الظَّنُّ الَّذِي لَيْسَ بِإِثْمٍ؟

هُوَ ظَنُّ الْخَيْرِ، وَظَنُّ السُّوءِ الَّذِي قَامَتْ عَلَيْهِ الْقَرِينَةُ.. فَهَذَا لَيْسَ بِإِثْمٍ؛ لِأَنَّ ظَنَّ الْخَيْرِ هُوَ الْأَصْلُ، وَظَنُّ السُّوءِ الَّذِي قَامَتْ عَلَيْهِ الْقَرِينَةُ.. هَذَا -أَيْضًا- أَيَّدَتْهُ الْقَرِينَةُ)).

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ آفَاتِ الطَّرِيقِ وَمُهْلِكَاتِ الْقُلُوبِ: سُوءَ الظَّنِّ، وَسُوءُ الظَّنِّ: اعْتِقَادُ جَانِبِ الشَّرِّ، وَتَرْجِيحُهُ عَلَى جَانِبِ الْخَيْرِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ مَعًا.

وَهُوَ مِنَ الصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ الَّتِي تَجْلِبُ الضَّغَائِنَ وَالْكَدَرَ وَالْهَمَّ لِلْفَرْدِ، وَتُفْسِدُ الْمَوَدَّةَ بَيْنَ النَّاسِ، فَتَجِدُ بَعْضَ النَّاسِ يُسِيءُ الظَّنَّ فِي الْآخَرِينَ، وَيَحْسِبُ كُلَّ صَيْحَةٍ وَكُلَّ مَكْرُوهٍ يُقْصَدُ بِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُسِيءُ الظَّنَّ بِالْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ وَأَصْحَابِ الْفَضْلِ؛ لِأَغْرَاضٍ شَخْصِيَّةٍ، وَأَمْرَاضٍ دَاخِلِيَّةٍ.

وَمِنْهُمْ مَنْ يُصَنِّفُ الْعُلَمَاءَ عَلَى هَذَا، فَيَقُولُ: هَذَا عَالِمُ سُلْطَةٍ! وَهَذَا عَالِمٌ يُفْتِي بِكَذَا لِيَحْصُلَ عَلَى كَذَا! وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هَذَا عَالِمٌ بِالطَّلَاقِ وَبِالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ! وَهَذَا عَالِمٌ بِدَوْرَاتِ الْمِيَاهِ! إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَزْعُمُونَ وَيَفْتَرُونَ!!

وَقَدْ نَهَى اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12].

وَقَالَ ﷺ: ((إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ؛ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ)).

وَقَالَ الشَّاعِرُ الْقَدِيمُ:

إِذَا سَاءَ فِعْلُ الْمَرْءِ سَاءَتْ ظُنُونُهُ=وَصَدَّقَ مَا يَعْتَادُهُ مِنْ تَوَهُّــمِ

وَعَـادَى مُحْبِّيـهِ لِقَوْلِ عِـدَاتِـهِ=وَأَصْبَحَ فِي لَيْلٍ مِنَ الشَّكِّ مُظْلِمِ

وَعَدَّ ابْنُ حَجَرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- سُوءَ الظَّنِّ مِنَ الْكَبَائِرِ الْبَاطِلَةِ، وَقَالَ: ((يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ مَعْرِفَتُهَا لِيُعَالِجَ زَوَالَهَا؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ مِنْهَا؛ لَمْ يَلْقَ اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، وَأَنَّهُ يُذَمُّ عَلَيْهَا الْعَبْدُ أَعْظَمَ مِمَّا يُذَمُّ عَلَى الزِّنَى، وَالسَّرِقَةِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ؛ لِعِظَمِ مَفْسَدَتِهَا، وَسُوءِ أَثَرِهَا، وَتَدُومُ بِحَيْثُ تُصْبِحُ حَالًا وَهَيْئَةً رَاسِخَةً فِي الْقَلْبِ، بِخِلَافِ آثَارِ مَعَاصِي الْجَوَارِحِ الَّتِي تَزُولُ بِالتَّوْبَةِ، وَالِاسْتِغْفَارِ، وَالْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَةِ)).

وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ أَنَّ الظَّنَّ فِي الْقُرْآنِ عَلَى أَوْجُهٍ؛ مِنْهَا:

* التُّهَمَةُ: وَمِنْهَا قَوْلُهُ -تَعَالَى- فِي (التَّكْوِيرِ): {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير: 24]؛ أَيْ: بِمُتَّهَمٍ.

* وَمِنْهَا: الْكَذِبُ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ -تَعَالَى- فِي (النَّجْمِ): {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ۖ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28].

وَأَمَّا أَنْوَاعُ الظَّنِّ؛ فَقَدْ قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الظَّنُّ ظَنَّانِ؛ ظَنٌّ إِثْمٌ، وَظَنٌّ لَيْسَ بِإِثْمٍ، فَأَمَّا الَّذِي هُوَ إِثْمٌ؛ فَالَّذِي يَظُنُّ ظَنًّا وَيَتَكَلَّمُ بِهِ، وَأَمَّا الَّذِي لَيْسَ بِإِثْمٍ؛ فَالَّذِي يَظُنُّ وَلَا يَتَكَلَّمُ بِهِ)).

وَالظَّنُّ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأُمُورِ مَذْمُومٌ؛ وَلِهَذَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36]، وَقَالَ تَعَالَى: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12].

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ الْمَقْدِسِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: ((فَلَيْسَ لَكَ أَنْ تَظُنَّ بِالْمُسْلِمِ شَرًّا إِلَّا إِذَا انْكَشَفَ أَمْرٌ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، فَإِنْ أَخْبَرَكَ بِذَلِكَ عَدْلٌ فَمَالَ قَلْبُكَ إِلَى تَصْدِيقِهِ؛ كُنْتَ مَعْذُورًا؛ لِأَنَّكَ لَوْ كَذَّبْتَهُ؛ كُنْتَ قَدْ أَسَأْتَ الظَّنَّ بِالْمُخْبِرِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُحْسِنَ الظَّنَّ بِوَاحِدٍ وَتُسِيئَهُ بِآخَرَ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ تَبْحَثَ: هَلْ بَيْنَهُمَا عَدَاوَةٌ وَحَسَدٌ؟ فَتَتَطَرَّقُ التُّهَمَةُ حِينَئِذٍ بِسَبَبِ ذَلِكَ.

وَمَتَى خَطَرَ لَكَ خَاطِرُ سُوءٍ عَلَى مُسْلِمٍ؛ فَيَنْبَغِي أَنْ تَزِيدَ فِي مُرَاعَاتِهِ، وَتَدْعُوَ لَهُ بِالْخَيْرِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يَغِيظُ الشَّيْطَانَ وَيَدْفَعُهُ عَنْكَ، فَلَا يُلْقِي إِلَيْكَ خَاطِرَ السُّوءِ؛ خِيفَةً مِنَ اشْتِغَالِكَ بِالدُّعَاءِ وَالْمُرَاعَاةِ، وَإِذَا تَحَقَّقْتَ هَفْوَةَ مُسْلِمٍ؛ فَانْصَحْهُ فِي السِّرِّ.

وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ ثَمَرَاتِ سُوءِ الظَّنِّ: التَّجَسُّسَ؛ فَإِنَّ الْقَلْبَ لَا يَقْنَعُ بِالظَّنِّ، بَلْ يَطْلُبُ التَّحْقِيقَ، فَيَشْتَغِلُ بِالتَّجَسُّسِ، وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ يُوصِلُ إِلَى هَتْكِ سِتْرِ الْمُسْلِمِ، وَلَوْ لَمْ يَنْكَشِفْ لَكَ؛ كَانَ قَلْبُكَ أَسْلَمَ لِلْمُسْلِمِ)).

قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَكْثَرُ النَّاسِ يَظُنُّونَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِمْ، وَفِيمَا يَفْعَلُهُ بِغَيْرِهِمْ، وَلَا يَسْلَمُ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ مَنْ عَرَفَ اللهَ وَأَسْمَاءَهُ وَصِفَاتِهِ، وَعَرَفَ مُوجِبَ حَمْدِهِ وَحِكْمَتِهِ، فَمَنْ قَنَطَ مِنْ رَحْمَتِهِ وَأَيِسَ مِنْ رَوْحِهِ، فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ؛ فَلْيَعْتَنِ اللَّبِيبُ النَّاصِحُ لِنَفْسِهِ بِهَذَا، وَلْيَتُبْ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرْهُ مِنْ ظَنِّهِ بِرَبِّهِ ظَنَّ السَّوْءِ.

وَلَوْ فَتَّشْتَ مَنْ فَتَّشْتَ؛ لَرَأَيْتَ عِنْدَهُ تَعَنُّتًا عَلَى الْقَدَرِ وَمَلَامَةً لَهُ، يَقُولُ: إِنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَذَا وَكَذَا!! فَمُسْتَقِلٌّ وَمُسْتَكْثِرٌ، وَفَتِّشْ نَفْسَكَ.. هَلْ أَنْتَ سَالِمٌ؟!!

فَإِنْ تَنجُ مِنْهَا تَنْجُ مِن ذِي عَظِيمَةٍ=وَإِلَّا فَإِنِّي لَا إِخَالُكَ نَاجِيًا)).

وَصَفْوَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الظَّنَّ الْمُحَرَّمَ هُوَ سُوءُ الظَّنِّ بِاللهِ -تَعَالَى-، وَيُقَابِلُهُ وُجُوبُ حُسْنِ الظَّنِّ بِاللهِ.

حُرْمَةُ الظَّنِّ كَذَلِكَ بِالْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ ظَاهِرُهُمُ الْعَدَالَةُ، وَالْمَطْلُوبُ حُسْنُ الظَّنِّ بِهِمْ.

الظَّنُّ الْمُبَاحُ هُوَ الَّذِي يَعْرِضُ فِي قَلْبِ الْمُسْلِمِ فِي أَخِيهِ بِسَبَبِ مَا يُوجِبُ الرِّيبَةَ، وَهَذَا الظَّنُّ لَا يُحَقَّقُ.

سُوءُ الظَّنِّ بِالْمُؤْمِنِينَ.. مَا أَفْظَعَ أَثَرَهُ!! وَمَا أَشَدَّ خَطَرَهُ!! وَرُبَّمَا قَضَى الْمَرْءُ عُمُرَهُ كُلَّهُ فِي صَحَرَاءَ مُوحِشَةٍ وَبَيْدَاءَ قَاحِلَةٍ بِلَا أَنِيسٍ وَلَا جَلِيسٍ، وَلَا مُنَاجٍ وَلَا خَلِيلٍ وَلَا حَبِيبٍ؛ حَتَّى إِذَا أَخَذَ الْإِيَاسُ مِنْ قَلْبِهِ كُلَّ مَأْخَذٍ، وَعَدَتْ عَلَيْهِ عَوَادِي الظُّنُونِ وَالْقُنُوتِ؛ أَبْصَرَ مَنْ عَاشَ مَا سَلَفَ مِنْ عُمُرِهِ يَهْفُو إِلَيْهِ، وَمَضَتْ رُوحُهُ إِلَيْهِ تَحْنُو عَلَيْهِ، وَوَدَّ لَوْ كَانَ مِنْهُ مَكَانَ السُّوَيْدَاءِ مِنْ قَلْبِهِ، فَأَتْرَعَهُ مِنْ صَفْوِ وِدَادِهِ وَمَوْفُورِ حُبِّهِ، ثُمَّ عَدَتْ عَلَيْهِ خَوَاطِرُ سُوءِ الظَّنِّ، تَسُوقُهَا شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَهِيَ خُصُومٌ لِمَنْ أَحَبَّ، وَأَعْدَاءٌ لِمَنْ يَوَدُّ، فَمَكَّنَ لَهَا بِسُوءِ ظَنِّهِ فِي فُؤَادِهِ، فَصَارَ بِهَا خَصْمًا لِحِبِّهِ وَعَدُوًّا لِخِلِّهِ؛ وَلَكِنْ لَا يَسْتَبِينُ.

وَقَدْ نَهَى اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَنِ التَّجَسُّسِ، قَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَلَا تَجَسَّسُوا}؛ لَا تُفَتِّشُوا عَنْ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَّبِعُوهَا، وَاتْرُكُوا الْمُسْلِمَ عَلَى حَالِهِ، وَاسْتَعْمِلُوا التَّغَافُلَ عَنْ أَحْوَالِهِ الَّتِي إِذَا فَتَّشْتَ؛ ظَهَرَ مِنْهَا مَا لَا يَنْبَغِي.

وَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَرْفَعُهُ: «إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ؛ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَجَسَّسُوا، وَلَا تَنَافَسُوا وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخوَانًا».

 ((التَّجَسُّسُ: طَلَبُ الْمَعَايِبِ مِنَ الْغَيْرِ؛ أَيْ: إِنَّ الْإِنْسَانَ يَنْظُرُ وَيَتَصَنَّتُ وَيَتَسَمَّعُ؛ لَعَلَّهُ يَسْمَعُ شَرًّا مِنْ أَخِيهِ، أَوْ لَعَلَّهُ يَنْظُرُ سُوءًا مِنْ أَخِيهِ!!

وَالَّذِي يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ: أَنْ يُعْرِضَ عَنْ مَعَايِبِ النَّاسِ، وَأَلَّا يَحْرِصَ عَلَى الِاطِّلَاعِ عَلَيْهَا.

فَلَا يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَجَسَّسَ، بَلْ يَأْخُذُ النَّاسَ عَلَى ظَاهِرِهِمْ مَا لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ الظَّاهِرِ.

وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنَ الْآيَةِ قِرَاءَةٌ أُخْرَى: (وَلَا تَحَسَّسُوا)؛ فَقِيلَ: مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ -يَعْنِي: التَّجَسُّسَ وَالتَّحَسُّسَ-، وَقِيلَ: بَلْ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَعْنًى، وَالْفَرْقُ: هُوَ أَنَّ التَّجَسُّسَ: أَنْ يُحَاوِلَ الْإِنْسَانُ الِاطِّلَاعَ عَلَى الْعَيْبِ بِنَفْسِهِ، وَالتَّحَسُّسَ: أَنْ يَلْتَمِسَهُ مِنْ غَيْرِهِ، فَيَقُولُ لِلنَّاسِ مَثَلًا: مَا تَقُولُونَ فِي فُلَانٍ؟!! مَا تَقُولُونَ فِي فُلَانٍ؟!!

وَعَلَى هَذَا؛ فَتَكُونُ الْقِرَاءَتَانِ مُبَيِّنَتَيْنِ لِمَعْنَيَيْنِ.. كِلَاهُمَا مِمَّا نَهَى اللهُ عَنْهُ؛ لِمَا فِي هَذَا مِنْ إِشْغَالِ النَّفْسِ بِمَعَايِبِ الْآخَرِينَ، وَلِكَوْنِ الْإِنْسَانِ لَيْسَ لَهُ هَمٌّ إِلَّا أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى الْمَعَايِبِ؛ وَلِهَذَا مَنِ ابْتُلِيَ بِالتَّجَسُّسِ أَوْ بِالتَّحَسُّسِ تَجِدْهُ فِي الْحَقِيقَةِ قَلِقًا دَائِمًا فِي حَيَاتِهِ، وَيَنْشَغِلُ بِعُيُوبِ النَّاسِ عَنْ عُيُوبِهِ، وَلَا يَهْتَمُّ بِنَفْسِهِ، وَهَذَا يُوجَدُ كَثِيرًا مِنْ بَعْضِ النَّاسِ الَّذِينَ يَأْتُونَ إِلَى فُلَانٍ وَإِلَى فُلَانٍ.. مَا تَقُولُ فِي كَذَا؟!! وَمَا تَقُولُ فِي كَذَا؟!!

فَتَجِدُ أَوْقَاتَهُمْ ضَائِعَةً بِلَا فَائِدَةٍ؛ بَلْ هِيَ ضَائِعَةٌ بِمَضَرَّةٍ؛ لِأَنَّ مَا وَقَعُوا فِيهِ فَهُوَ مَعْصِيَةٌ للهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ هَلْ أَنْتَ وَكِيلٌ عَنِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؟!! تَبْحَثُ عَنْ مَعَايِبِ عِبَادِهِ؟!!

وَالْعَاقِلُ هُوَ الَّذِي يَتَحَسَّسُ مَعَايِبَ نَفْسِهِ، وَيَنْظُرُ مَعَايِبَ نَفْسِهِ لِيُصْلِحَهَا، لَا أَنْ يَنْظُرَ فِي مَعَايِبِ الْغَيْرِ لِيُشِيعَهَا -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ-؛ وَلِهَذَا قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 19].

فَعَلَى كُلِّ حَالٍ؛ هَذِهِ آدَابٌ وَتَوْجِيهٌ مِنَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- إِلَى أَخْلَاقٍ فَاضِلَةٍ مَأْمُورٍ بِهَا، وَأَخْلَاقٍ مَنْهِيٍّ عَنْهَا)).

إِنَّ مِنْ أَخْطَرِ آفَاتِ اللِّسَانِ: الْغِيبَةَ، وَهِيَ: ذِكْرُ الْعَيْبِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ، ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ؛ سَوَاءٌ أَكَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ أَمْ لَمْ يَكُنْ.

قَالَ -جَلَّ وَعَلَا- فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ: {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12].

أَيْ: وَلَا يَقُلْ بَعْضُكُمْ فِي بَعْضٍ بِظَهْرِ الْغَيْبِ مَا يَكْرَهُ؛ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَكْلَ لَحْمِ أَخِيهِ وَهُوَ مَيِّتٌ؟!!

لَا شَكَّ أَنَّكُمْ تَكْرَهُونَ ذَلِكَ، وَتَعَافُهُ نُفُوسُكُمْ، وَتَتَقَزَّزُ مِنْهُ؛ فَاكْرَهُوا -أَيْضًا- اغْتِيَابَهُ وَذِكْرَهُ بِمَا يَكْرَهُ.

احْذَرِ الْغِيبَةَ فَهْيَ الْفِسْقُ لَا رُخْصَةَ فِيهِ=إِنَّمَا الْمُغْتَابُ كَالْآكِلِ مِنْ لَحْمِ أَخِيهِ

قَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ: ((الْغِيبَةُ مَرْعَى اللِّئَامِ)).

وَقَالَ أَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ: ((لَا يَذْكُرُ النَّاسَ بِمَا يَكْرَهُونَ إِلَّا سِفْلَةٌ لَا دِينَ لَهُ)).

وَالْغِيبَةُ ذَاتُ أَسْمَاءٍ ثَلَاثَةٍ: الْغِيبَةُ، وَالْإِفْكُ، وَالْبُهْتَانُ، فَإِذَا كَانَ فِي أَخِيكَ مَا تَقُولُ فَهُوَ الْغِيبَةُ، وَإِذَا كَانَ فِيهِ مَا بَلَغَكَ عَنْهُ فَهُوَ الْإِفْكُ، وَإِنْ قُلْتَ فِيهِ مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ الْبُهْتَانُ.

هَكَذَا بَيَّنَ أَهْلُ الْعِلْمِ الْغِيبَةَ؛ فَهِيَ تَشْمَلُ كُلَّ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ مَقْصُودُ الذَّمِّ؛ سَوَاءٌ أَكَانَ بِكَلَامٍ، أَمْ بِغَمْزَةٍ، أَمْ بِإِشَارَةٍ، أَمْ بِكِتَابَةٍ، وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْغِيبَةِ، وَأَنَّهَا مِنَ الْكَبَائِرِ.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْحُجُرَاتِ: ((وَالْغِيبَةُ مُحَرَّمَةٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا رَجَحَتْ مَصْلَحَتُهُ، كَمَا فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَالنَّصِيحَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ)).

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ((الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهَا مِنَ الْكَبَائِرِ، وَأَنَّهُ يَجِبُ التَّوْبَةُ مِنْهَا إِلَى اللهِ تَعَالَى)).

وَهَذَا بَيِّنٌ وَاضِحٌ فِي قَوْلِهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12].

 (({وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا}؛ الْغِيبَةُ فَسَّرَهَا النَّبِيُّ ﷺ بِقَوْلِهِ: ((ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ»، وَهَذَا تَفْسِيرٌ مِنَ الرَّسُولِ ﷺ، وَهُوَ أَعْلَمُ النَّاسِ بِمُرَادِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي كَلَامِهِ.

«ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ»؛ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي خِلْقَتِهِ، أَوْ فِي خُلُقِهِ، أَوْ فِي أَحْوَالِهِ، أَوْ فِي عَقْلِهِ، أَوْ فِي ذَكَائِهِ، أَوْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ؛ مِثْلَ أَنْ تَقُولَ: فُلَانٌ قَبِيحُ الْمَنْظَرِ، دَمِيمٌ، فِيهِ كَذَا، وَفِيهِ كَذَا، تُرِيدُ مَعَايِبَ جِسْمِهِ، أَوْ فِي خُلُقِهِ.. بِأَنْ تَقُولَ: فُلَانٌ أَحْمَقُ، سَرِيعُ الْغَضَبِ، سَيِّءُ التَّصَرُّفِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، أَوْ فِي خِلْقَتِهِ الْبَاطِنَةِ؛ كَأَنْ تَقُولَ: فُلَانٌ بَلِيدٌ، فُلَانٌ لَا يَفْهَمُ، فُلَانٌ سَيِّءُ الْحِفْظِ، وَمَا أَشْبَهَ هَذَا.

وَرَسُولُ اللهِ ﷺ حَدَّهَا بِحَدٍّ وَاضِحٍ بَيِّنٍ: «ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ».

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِيهِ مَا أَقُولُ؟

قَالَ: «إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ». أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ))؛ أَيْ: جَمَعْتَ بَيْنَ الْبُهْتَانِ وَالْغِيبَةِ.

وَعَلَى هَذَا فَيَجِبُ الْكَفُّ عَنْ ذِكْرِ النَّاسِ بِمَا يَكْرَهُونَ؛ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِيهِمْ، أَوْ لَيْسَ فِيهِمْ.

وَاعْلَمْ أَنَّكَ إِذَا نَشَرْتَ عُيُوبَ أَخِيكَ؛ فَإِنَّ اللهَ سَيُسَلِّطُ عَلَيْكَ مَنْ يَنْشُرُ عُيُوبَكَ، جَزَاءً وِفَاقًا، لَا تَظُنَّ أَنَّ اللهَ غَافِلٌ عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ، بَلْ سَيُسَلِّطُ عَلَيْهِ مَنْ يُعَامِلُهُ بِمِثْلِ مَا يُعَامِلُ النَّاسَ.

لَكِنْ إِذَا كَانَتِ الْغِيبَةُ لِلْمَصْلَحَةِ؛ فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ بِهَا، وَلَا حَرَجَ فِيهَا؛ وَلِهَذَا لَمَّا جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ تَسْتَشِيرُهُ فِي رِجَالٍ خَطَبُوهَا؛ بَيَّنَ مَعَايِبَ مَنْ يَرَى أَنَّ فِيهِ عَيْبًا، فَقَدْ خَطَبَهَا ثَلَاثَةٌ: مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، وَأَبُو جَهْمِ بْنُ حَارِثٍ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ ﷺ: «أَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ، وَأَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ -أَيْ: أَنَّهُ كَثِيرُ الْأَسْفَارِ وَالتَّرْحَالِ، أَوْ أَنَّهُ كَثِيرُ الضَّرْبِ لِلنِّسَاءِ-، انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ». أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

فَذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ عَيْبًا فِي هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ؛ لِلنَّصِيحَةِ وَبَيَانِ الْحَقِّ، وَلَا يُعَدُّ هَذَا غِيبَةً بِلَا شَكٍّ؛ وَلِهَذَا لَوْ جَاءَ إِنْسَانٌ يَسْتَشِيرُكَ فِي مُعَامَلَةِ رَجُلٍ، قَالَ: فُلَانٌ يُرِيدُ أَنْ يُعَامِلَنِي بِبَيْعٍ، أَوْ شِرَاءٍ، أَوْ إِجَارَةٍ، أَوْ فِي تَزْوِيجٍ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَأَنْتَ تَعْرِفُ أَنَّ فِيهِ عَيْبًا؛ فَإِنَّ الْوَاجِبَ أَنْ تُبَيِّنَ لَهُ ذَلِكَ، وَلَا يُعَدُّ هَذَا -كَمَا يَقُولُ الْعَامَّةُ- مِنْ قَطْعِ الرِّزْقِ، بَلْ هُوَ مِنْ بَيَانِ الْحَقِّ.

وَعَلَى كُلِّ حَالٍ؛ يُسْتَثْنَى مِنَ الْغِيبَةِ -وَهِيَ ذِكْرُ الرَّجُلِ بِمَا يَكْرَهُ- إِذَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ النَّصِيحَةِ، وَمِنْهُ مَا يُذْكَرُ فِي كُتُبِ الرِّجَالِ؛ مَثَلًا: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ سَيِّءُ الْحِفْظِ، فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ كَذُوبٌ، فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ فِيهِ كَذَا وَكَذَا، يَذْكُرُونَ مَا يَكْرَهُ مِنْ أَوْصَافِهِ؛ نَصِيحَةً للهِ -تَعَالَى- وَلِرَسُولِهِ ﷺ، فَإِذَا كَانَ الْغَرَضُ مِنْ ذِكْرِكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ النَّصِيحَةَ؛ فَلَا بَأْسَ.

كَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْغَرَضُ مِنْ ذَلِكَ الظُّلْمَ وَالتَّشَكِّيَ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا بَأْسَ بِهِ؛ كَأَنْ يَظْلِمَكَ رَجُلٌ، وَتَأْتِيَ إِلَى رَجُلٍ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُزِيلَ هَذِهِ الْمَظْلِمَةَ، فَتَقُولُ: فُلَانٌ أَخَذَ مَالِي، فُلَانٌ جَحَدَ حَقِّي، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَلَا بَأْسَ؛ فَإِنَّ هِنْدَ بِنْتَ عُتْبَةَ جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ تَشْتَكِي زَوْجَهَا أَبَا سُفْيَانَ، تَقُولُ: إِنَّهُ رَجُلٌ شَحِيحٌ، لَا يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي.

فَقَالَ لَهَا الرَّسُولُ ﷺ: «خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ». وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ))

فَذَكَرَتْ وَصْفًا يَكْرَهُهُ أَبُو سُفْيَانَ بِلَا شَكٍّ؛ وَلَكِنَّهُ مِنْ بَابِ التَّظَلُّمِ وَالتَّشَكِّي، وَقَدْ قَالَ اللهُ -تَعَالَى- فِي كِتَابِهِ: {لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ} [النساء: 148]؛ يَعْنِي: فَلَهُ أَنْ يَجْهَرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ لِإِزَالَةِ مَظْلِمَتِهِ.

{أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ}.

يَقُولُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ}: هُوَ اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- رَحِيمٌ، وَهُوَ -تَعَالَى- رَحْمَنٌ، وَقَدِ اجْتَمَعَ الِاسْمَانِ فِي أَعْظَمِ سُورَةٍ فِي كِتَابِ اللهِ؛ فِي الْفَاتِحَةِ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِذَا ذُكِرَ الرَّحْمَنُ وَحْدَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَٰنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَٰنُ} [الفرقان: 60]، أَوْ ذُكِرَ الرَّحِيمُ وَحْدَهُ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {تَوَّابٌ رَحِيمٌ}؛ فَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ؛ يَعْنِي: أَنَّ الرَّحِيمَ وَالرَّحْمَنَ: ذُو الرَّحْمَةِ الْوَاسِعَةِ الشَّامِلَةِ، وَالرَّحْمَنُ إِذَا ذُكِرَ وَحْدَهُ كَذَلِكَ؛ هُوَ ذُو الرَّحْمَةِ الْوَاسِعَةِ الشَّامِلَةِ.

أَمَّا إِذَا اجْتَمَعَا جَمِيعًا؛ فَالرَّحْمَنُ بِاعْتِبَارِ الْوَصْفِ، وَالرَّحِيمُ بِاعْتِبَارِ الْفِعْلِ؛ يَعْنِي: أَنَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ، وَهُوَ -أَيْضًا- رَاحِمٌ وَمُوصِلُ الرَّحْمَةِ إِلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَاءُ ۖ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} [العنكبوت: 21].

أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَعُمَّنِي وَجَمِيعَ إِخْوَانِنَا الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِهِ، وَأَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ دُعَاةِ الْخَيْرِ وَالْإِصْلَاحِ، إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)).

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ}.

نَهَى تَعَالَى عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الظَّنِّ السُّوءِ بِالْمُؤْمِنِينَ {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} وَذَلِكَ كَالظَّنِّ الْخَالِي مِنَ الْحَقِيقَةِ وَالْقَرِينَةِ، وَكَظَنِّ السَّوْءِ الَّذِي يَقْتَرِنُ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ الْمُحَرَّمَةِ، فَإِنَّ بَقَاءَ ظَنِّ السَّوْءِ بِالْقَلْبِ لَا يَقْتَصِرُ صَاحِبُهُ عَلَى مُجَرَّدِ ذَلِكَ، بَلْ لَا يَزَالُ بِهِ حَتَّى يَقُولَ مَا لَا يَنْبَغِي، وَيَفْعَلَ مَا لَا يَنْبَغِي، وَفِي ذَلِكَ أَيْضًا إِسَاءَةُ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ، وَبُغْضُهُ، وَعَدَاوَتُهُ الْمَأْمُورُ بِخِلَافِهَا مِنْهُ.

{وَلا تَجَسَّسُوا}؛ أَيْ: لَا تُفَتِّشُوا عَنْ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَّبِعُوهَا، وَدَعُوا الْمُسْلِمَ عَلَى حَالِهِ، وَاسْتَعْمِلُوا التَّغَافُلَ عَنْ زَلَّاتِهِ الَّتِي إِذَا فَتَّشْتَ ظَهَرَ مِنْهَا مَا لَا يَنْبَغِي.

{وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا}؛ وَالْغَيْبَةُ، كَمَا قَالَ رسول الله ﷺ: ((ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ وَلَوْ كَانَ فِيهِ)).

ثُمَّ ذَكَرَ -تَعَالَى- مَثَلًا مُنَفِّرًا عَنِ الْغَيْبَةِ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ}؛ فَشَبَّهَ أَكْلَ لَحْمِهِ مَيْتًا، وَهُوَ مَكْرُوهٌ لِلنُّفُوسِ غَايَةَ الْكَرَاهَةِ.. شَبَّهَهُ بِاغْتِيَابِهِ، فَكَمَا أَنَّكُمْ تَكْرَهُونَ أَكْلَ لَحْمِهِ، وَخُصُوصًا إِذَا كَانَ مَيْتًا فَاقِدَ الرُّوحِ، فَكَذَلِكَ فَلْتَكْرَهُوا غَيْبَتَهُ، وَأَكْلَ لَحْمِهِ حَيًّا.

{وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ}؛ وَالتَّوَّابُ: الَّذِي يَأْذَنُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ، فَيُوَفِّقُهُ لَهَا، ثُمَّ يَتُوبُ عَلَيْهِ بِقَبُولِ تَوْبَتِهِ، رَحِيمٌ بِعِبَادِهِ، حَيْثُ دَعَاهُمْ إِلَى مَا يَنْفَعُهُمْ، وَقَبِلَ مِنْهُمُ التَّوْبَةَ.

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ: دَلِيلٌ عَلَى التَّحْذِيرِ الشَّدِيدِ مِنَ الْغَيْبَةِ، وَأَنَّهَا مِنَ الْكَبَائِرِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ شَبَّهَهَا بِأَكْلِ لَحْمِ الْمَيْتِ، وَذَلِكَ مِنَ الْكَبَائِرِ.

فَيَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّقِيَ اللهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فِي أَلْسِنَتِنَا، وَلْنَعْلَمْ أَنَّ الْغِيبَةَ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ؛ يَعْنِي: لَنْ تَتُوبَ مِنْهَا إِلَّا إِذَا أَحَلَّكَ مَنِ اغْتَبْتَهُ، تَوَرَّطْتَ؛ لِأَنَّكَ إِذَا تُبْتَ إِلَى اللهِ، فَكَفَفْتَ عَنِ الْغِيبَةِ، وَعَزَمْتَ عَلَى أَلَّا تَعُودَ، وَنَدِمْتَ عَلَى مَا فَعَلْتَ؛ لَا تَصِحُّ تَوْبَتُكَ.

إِذَا كَانَتِ التَّوْبَةُ مُتَعَلِّقَةً بِحُقُوقِ الْعِبَادِ؛ فَإِنَّهَا لَا تُقْبَلُ حَتَّى تُؤَدِّيَ الْحُقُوقَ إِلَى أَصْحَابِهَا.

هَلْ تَذْهَبُ إِلَى مَنِ اغْتَبْتَهُ لِتَقُولَ: اغْتَبْتُكَ؛ فَاجْعَلْنِي فِي حِلٍّ؟!!

سَيَقُولُ لَكَ: مَاذَا قُلْتَ؟!!

فَإِنْ قُلْتَ؛ دَارَتِ الْمَعْرَكَةُ، وَرُبَّمَا سُفِكَتِ الدِّمَاءُ، وَإِنْ لَمْ تَقُلْ؛ قَالَ: لَا وَاللهِ، لَا أُسَامِحُكَ حَتَّى نَمْثُلَ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

لِمَاذَا تُوَرِّطُ نَفْسَكَ؟!!

قَالَ الْحَسَنُ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((لَوْ كُنْتُ مُغْتَابًا أَحَدًا؛ لَاغْتَبْتُ أَبَوَيَّ، هُمَا أَوْلَى بِحَسَنَاتِي)).

مَا دُمْتَ تُوَزِّعُ الْحَسَنَاتِ؛ فَأَبَوَاكَ أَوْلَى بِحَسَنَاتِكَ!!

وَمِنَ السَّفَهِ الْعَقْلِيِّ، وَالْفَسَادِ الْفِكْرِيِّ، وَالْخَلَلِ النَّفْسِيِّ: أَنْ يَقَعَ الْمَرْءُ فِي الْغِيبَةِ؛ لِأَنَّهُ لَنْ يَغْتَابَ إِلَّا مَنْ يُبْغِضُهُ، لَنْ يَغْتَابَ إِلَّا مَنْ يَكْرَهُهُ، فَأَنْتَ تُهْدِي لَهُ حَسَنَاتِكَ، تَجْعَلُ رَقَبَتَكَ فِي يَدِهِ وَهُوَ لَكَ عَدُوٌّ، وَهُوَ لَكَ مُبْغِضٌ، وَأَنْتَ لَهُ كَذَلِكَ!!

هَلْ هَذَا مِنَ الْعَقْلِ فِي شَيْءٍ؟!!

هَذِهِ الطَّوَائِفُ مِنَ الْأَذَى؛ مِنَ السُّخْرِيَةِ بِالنَّاسِ، وَتَعْيِيرِهِمْ، وَمُنَادَاتِهِمْ بِالْأَسْمَاءِ الَّتِي يَكْرَهُونَهَا، وَإِسَاءَةِ الظَّنِّ بِهِمْ، وَالتَّجَسُّسِ عَلَيْهِمْ، وَغِيبَتِهِمْ؛ كُلُّهَا حَرَامٌ وَإِجْرَامٌ، وَمَعَاصٍ شَنِيعَةٌ حَرَّمَهَا الرَّبُّ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ لِأَنَّهَا تُفْسِدُ أَحْوَالَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَنْتَشِرَ بَيْنَهُمْ.

هَذِهِ الشُّرُورُ وَالْآثَامُ بِهَذِهِ الْحُرْمَةِ إِذَا كَانَتْ مُوَجَّهَةً إِلَى عُمُومِ النَّاسِ؛ فَكَيْفَ بِهَا إِذَا كَانَتْ تَسْتَهْدِفُ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْجِيرَانَ وَالْأَصْحَابَ؟!! فَهِيَ بِلَا شَكٍّ أَشَدُّ إِثْمًا، وَأَعْظَمُ جُرْمًا.

((مِيزَانُ التَّفَاضُلِ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-))

قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لحجرات: 13].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ آدَمَ وَحَوَّاءَ، فَالْمَجْمُوعَةُ الْبَشَرِيَّةُ كُلُّهَا تَلْتَقِي عَلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ، وَبَيْنَ النَّاسِ أُخُوَّةٌ إِنْسَانِيَّةٌ عَامَّةٌ، وَجَعَلْنَاكُمْ جُمُوعًا عَظِيمَةً وَقَبَائِلَ مُتَعَدِّدَةً؛ لِيَعْرِفَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فِي قُرْبِ النَّسَبِ وَبُعْدِهِ، لَا لِلتَّفَاخُرِ بِالْأَنْسَابِ وَالتَّعَالِي بِالْأَحْسَابِ، إِنَّ أَرْفَعَكُمْ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَتْقَاكُمْ لَهُ.

إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ عِلْمًا كَامِلًا شَامِلًا بِظَوَاهِرِكُمْ، وَيَعْلَمُ أَنْسَابَكُمْ، خَبِيرٌ عَلَى سَبِيلِ الشُّهُودِ وَالْحُضُورِ بِبَوَاطِنِكُمْ، لَا تَخْفَى عَلَيْهِ أَسْرَارُكُمْ؛ فَاجْعَلُوا التَّقْوَى زَادَكُمْ إِلَى مَعَادِكُمْ.

لَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ النَّاسَ جَمِيعًا سَوَاسِيَةٌ كَأَسْنَانِ الْمُشْطِ، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ عَرَبِيٍّ وَعَجَمِيٍّ، وَلَا فَضْلَ لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ إِلَّا بِتَقْوَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَطَاعَتِهِ.

وَأَخْرَجَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى يَدَيْهِ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، فَصَارُوا عَابِدِينَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مُوَحِّدِينَ، وَأَعْلَمَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ -كَمَا أَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي ((مُسْنَدِهِ)): ((أَيُّهَا النَّاسُ! كُلُّكُمْ لِآدَمَ، وَآدَمُ خُلِقَ مِنَ التُّرَابِ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِتَقْوَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)).

 ((قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}: الْخِطَابُ هُنَا مُصَدَّرٌ بِنِدَاءِ النَّاسِ عُمُومًا، مَعَ أَنَّ أَوَّلَ السُّورَةِ وُجِّهَ الْخِطَابُ فِيهِ لِلَّذِينَ آمَنُوا، وَسَبَبُ ذَلِكَ: أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُوَجَّهٌ لِكُلِّ إِنْسَانٍ؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ التَّفَاخُرُ بِالْأَنْسَابِ مِنْ كُلِّ إِنْسَانٍ، فَيَقُولُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}، وَالْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، {إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ}؛ مِنْ ذَكَرٍ: هُوَ آدَمُ، وَأُنْثَى: هِيَ حَوَّاءُ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى هُنَا: الْجِنْسُ؛ يَعْنِي: أَنَّ بَنِي آدَمَ خُلِقُوا مِنْ هَذَا الْجِنْسِ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى.

وَفِي الْآيَةِ: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَكَوَّنُ مِنْ أُمِّهِ وَأَبِيهِ؛ أَيْ: يُخْلَقُ مِنَ الْأُمِّ وَالْأَبِ، وَلَا يُعَارِضُ هَذَا قَوْلَ اللهِ تَعَالَى: {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: 5-7].

فَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ الْمُرَادَ بِالصُّلْبِ: صُلْبُ الرَّجُلِ، وَالتَّرَائِبِ: تَرَائِبُ الْمَرْأَةِ؛ فَلَا إِشْكَالَ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْقَوْلِ الرَّاجِحِ: إِنَّ الصُّلْبَ وَالتَّرَائِبَ وَصْفَانِ لِلرَّجُلِ؛ يَعْنِي: الْمَاءَ الدَّافِقَ هُوَ مَاءُ الرَّجُلِ، أَمَّا الْمَرْأَةُ؛ فَلَا يَكُونُ مَاؤُهَا دَافِقًا.

وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ الْإِنْسَانُ مَخْلُوقًا مِنْ مَاءِ الرَّجُلِ؛ لَكِنَّ مَاءَ الرَّجُلِ وَحْدَهُ لَا يَكْفِي، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَتَّصِلَ بِالْبُوَيْضَةِ الَّتِي يُفْرِزُهَا رَحِمُ الْمَرْأَةِ، فَيَزْدَوِجُ هَذَا بِهَذَا، فَيَكُونُ الْإِنْسَانُ مَخْلُوقًا مِنَ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا؛ أَيْ: مِنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ.

{وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا}؛ أَيْ: صَيَّرْنَاكُمْ شُعُوبًا {وَقَبَائِلَ}، فَاللهُ -تَعَالَى- جَعَلَ بَنِي آدَمَ شُعُوبًا: وَهُمْ أُصُولُ الْقَبَائِلِ، وَقَبَائِلَ: وَهُمْ مَا دُونَ الشُّعُوبِ.

{وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ}.. هَلِ الْحِكْمَةُ مِنْ هَذَا الْجَعْلِ: أَنْ يَتَفَاخَرَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَيَقُولَ هَذَا الرَّجُلُ: أَنَا مِنْ قُرَيْشٍ، وَهَذَا يَقُولُ: أَنَا مِنْ كَذَا، أَنَا مِنْ كَذَا؟!!

لَيْسَ هَذَا الْمُرَادُ، الْمُرَادُ: التَّعَارُفُ؛ أَنْ يَعْرِفَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا؛ إِذْ لَوْ لَا هَذَا الَّذِي صَيَّرَهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ مَا عُرِفَ الْإِنْسَانُ مِنْ أَيِّ قَبِيلَةٍ؛ وَلِهَذَا كَانَ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ: أَنْ يَنْتَسِبَ الْإِنْسَانُ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا انْتَسَبَ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ؛ غَيَّرَ هَذِهِ الْفِطْرَةَ الَّتِي فَطَرَ اللهُ النَّاسَ عَلَيْهَا، وَهِيَ أَنَّهُمْ شُعُوبٌ وَقَبَائِلُ مِنْ أَجْلِ التَّعَارُفِ، {لِتَعَارَفُوا}؛ أَيْ: لَا لِتَفَاخَرُوا بِالْأَحْسَابِ وَالْأَنْسَابِ.

{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}: لَيْسَ الْكَرَمُ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ مِنَ الْقَبِيلَةِ الْفُلَانِيَّةِ، أَوْ مِنَ الشَّعْبِ الْفُلَانِيِّ، الْكَرَمُ الْحَقِيقِيُّ النَّافِعُ هُوَ الْكَرَمُ عِنْدَ اللهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِالتَّقْوَى، فَكُلَّمَا كَانَ الْإِنْسَانُ أَتْقَى للهِ؛ كَانَ عِنْدَ اللهِ أَكْرَمَ، فَإِذَا أَحْبَبْتَ أَنْ تَكُونَ عِنْدَ اللهِ كَرِيمًا؛ فَعَلَيْكَ بِتَقْوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَالتَّقْوَى كُلُّهَا خَيْرٌ، وَكُلُّهَا بَرَكَةٌ، وَكُلُّهَا سَعَادَةٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62-63].

وَمَا أَكْثَرَ مَا تَرِدُ عَلَى أَسْمَاعِنَا كَلِمَةُ (التَّقْوَى)، وَلَيْسَ لَفْظًا يَجْرِي عَلَى الْأَلْسُنِ وَيَمُرُّ بِالْآذَانِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَفْظًا عَظِيمًا مُوَقَّرًا مُعَظَّمًا مُحْتَرَمًا، وَيَفُوتُ الْإِنْسَانَ مِنَ التَّقْوَى بِقَدْرِ مَا خَالَفَ فِيهِ أَمْرَ اللهِ -تَعَالَى- وَرَسُولِهِ ﷺ.

فَعَلَيْكَ بِتَقْوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ لِتَنَالَ الْكَرَمَ عِنْدَ اللهِ.

{إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} بِكُلِّ شَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ هُنَا مُطْلَقٌ، وَلَمْ يُقَيَّدْ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، {خَبِيرٌ}؛ الْخِبْرَةُ: هِيَ الْعِلْمُ بِبَوَاطِنِ الْأُمُورِ، وَأَمَّا الْعِلْمُ بِالظَّوَاهِرِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ صِفَةُ مَدْحٍ وَكَمَالٍ؛ لَكِنَّ الْعِلْمَ بِالْبَوَاطِنِ أَبْلَغُ، فَيَكُونُ عَلِيمًا بِالظَّوَاهِرِ، وَخَبِيرًا بِالْبَوَاطِنِ، فَإِذَا اجْتَمَعَ الْعِلْمُ وَالْخِبْرَةُ؛ صَارَ هَذَا أَبْلَغَ فِي الْإِحَاطَةِ)).

((حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ وَثَمَرَةُ طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ))

قَالَ اللهُ تَعَالَى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا}؛ الْأَعْرَابُ: اسْمُ جَمْعٍ لِأَعْرَابِيٍّ، وَالْأَعْرَابِيُّ: هُوَ سَاكِنُ الْبَادِيَةِ كَالْبَدَوِيِّ تَمَامًا، فَالْأَعْرَابُ افْتَخَرُوا فَقَالُوا: آمَنَّا.. آمَنَّا، افْتَخَرُوا بِإِيمَانِهِمْ، فَقَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}؛ قِيلَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ؛ لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ} [التوبة: 101].

وَالْمُنَافِقُ مُسْلِمٌ؛ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَثْنًى فِي الظَّاهِرِ؛ إِذْ إِنَّ حَالَ الْمُنَافِقِ أَنَّهُ كَالْمُسْلِمِينَ -يَعْنِي: تَجْرِي عَلَيْهِمُ الْأَحْكَامُ ظَاهِرًا-؛ وَلِهَذَا لَمْ يَقْتُلْهُمُ النَّبِيُّ ﷺ، مَعَ عِلْمِهِ بِنِفَاقِهِمْ، مَعَ أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ ظَاهِرًا لَا يُخَالِفُونَ، وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا.

وَقِيلَ: إِنَّهُمْ أَعْرَابٌ غَيْرُ مُنَافِقِينَ؛ لَكِنَّهُمْ ضُعَفَاءُ الْإِيمَانِ، يَمْشُونَ مَعَ النَّاسِ فِي ظَاهِرِ الشَّرْعِ، لَكِنَّ قُلُوبَهُمْ ضَعِيفَةٌ، وَإِيمَانَهُمْ ضَعِيفٌ.

وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: يَكُونُ قَوْلُهُ: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ أَصْلًا.

وَعَلَى الثَّانِي: أَيْ: لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ الدُّخُولَ الْكَامِلَ الْمُطْلَقَ، فَفِيهِمْ إِيمَانٌ؛ لَكِنْ لَمْ يَصِلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِمْ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ.

وَالْقَاعِدَةُ فِي التَّفْسِيرِ: أَنَّ الْآيَةَ إِذَا احْتَمَلَتْ مَعْنَيَيْنِ؛ فَإِنَّهَا تُحْمَلُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا إِذَا لَمْ يَتَنَافَيَا، فَإِنْ تَنَافَيَا طُلِبَ الْمُرَجِّحُ.

فَالْأَعْرَابُ.. الْغَالِبُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ، فَيَقُولُونَ: آمَنَّا، فَقَالَ اللهُ -تَعَالَى- يُخَاطِبُ النَّبِيَّ ﷺ: {قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}، وَوَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّ الْإِسْلَامَ فِي الْقَلْبِ، وَهُوَ صَعْبٌ، وَأَنَّ الْإِسْلَامَ عَلَامَةٌ فِي الْجَوَارِحِ، وَكُلُّ إِنْسَانٍ يُمْكِنُ أَنْ يَعْمَلَ بِجَوَارِحِهِ عَمَلًا مُتْقَنًا كَأَحْسَنِ مَا يَكُونُ؛ فَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ عَنِ الْخَوَارِجِ أَنَّهُمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، وَأَنَّهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَنَّ الْوَاحِدَ مِنَ الصَّحَابَةِ يَحْقِرُ صَلَاتَهُ عِنْدَ صَلَاتِهِمْ، وَقِرَاءَتَهِ عِنْدَ قِرَاءَتِهِمْ، وَمَعَ ذَلِكَ يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: «إِنَّهُمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ» كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ))، نَسْأَلُ اللهَ الْعَافِيَةَ، ((وَأَنَّهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ))، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ يَسْتَطِيعُهُ كُلُّ إِنْسَانٍ، يُمْكِنُ أَنْ يُصَلِّيَ وَيَسْجُدَ وَيَقْرَأَ وَيَصُومَ وَيَتَصَدَّقَ وَقَلْبُه خَالٍ مِنَ الْإِيمَانِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}.

وَهُنَا التَّعْبِيرُ يَقُولُ: {لَمَّا يَدْخُلِ} وَلَمْ يَقُلْ: (وَلَمْ يَدْخُلْ)، قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِذَا أَتَتْ (لَمَّا) بَدَلَ (لَمْ)؛ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى قُرْبِ وُقُوعِ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ، -فَمَثَلًا- إِذَا قُلْتَ: (فُلَانٌ لَمَّا يَدْخُلْهَا)؛ أَيْ: أَنَّهُ قَرِيبٌ مِنْهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي ۖ بَل لَّمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} [ص: 8]؛ أَيْ: لَمْ يَذُوقُوهُ، وَلَكِنَّهُ قَرِيبٌ مِنْهُ، وَهُنَا قَالَ: {لَمَّا يَدْخُلِ}؛ أَيْ: لَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِمْ؛ وَلَكِنَّهُ قَرِيبٌ مِنَ الدُّخُولِ.

{وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا}: إِنْ أَطَعْتُمُ اللهَ وَرَسُولَهُ بِالْقِيَامِ بِأَمْرِهِ وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ؛ فَإِنَّهُ لَنْ يَنْقُصَكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا، بَلْ سَيُوَفِّرُهَا لَكُمْ كَامِلَةً، كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ۖ وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الأنعام: 160].

فَكُلُّ إِنْسَانٍ يُجْزَى عَلَى عَمَلِهِ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ؛ لَكِنَّ رَحْمَةَ اللهِ -تَعَالَى- سَبَقَتْ غَضَبَهُ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهٌ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}، وَقَدْ يُعَاقَبُ، وَقَدْ يَعْفُو اللهُ عَنْهُ، فَالسَّيِّئَاتُ يُمْكِنُ أَنْ تُمْحَى، وَالْحَسَنَاتُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَنْقُصَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا}؛ أَيْ: لَا يَنْقُصْكُمْ.

{إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}: خَتَمَ الْآيَةَ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ؛ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّهُمْ آمَنُوا.. قَرِيبُونَ مِنَ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، لَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِمْ؛ وَلَكِنَّهُ قَرِيبٌ مِنْ دُخُولِ قُلُوبِهِمْ.

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا}؛ أَيْ: مَا الْمُؤْمِنُونَ إِلَّا هَؤُلَاءِ، وَالْمُرَادُ: الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا، الَّذِينَ تَمَّ إِيمَانُهُمْ؛ إِلَّا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ، آمَنُوا: أَقَرُّوا إِقْرَارًا مُسْتَلْزِمًا لِلْقَبُولِ وَالْإِذْعَانِ، وَلَيْسَ مُجَرَّدُ الْإِقْرَارِ كَافِيًا، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ قَبُولٍ وَإِذْعَانٍ، فَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ هُمُ الَّذِينَ أَقَرُّوا إِقْرَارًا تَامًّا بِمَا يَسْتَحِقُّ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَبِمَا يَسْتَحِقُّ الرَّسُولُ ﷺ، وَقَبِلُوا بِذَلِكَ وَأَذْعَنُوا، {ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا}؛ كَلِمَةُ: {ثُمَّ} هُنَا فِي مَوْقِعٍ مِنْ أَحْسَنِ الْمَوَاقِعِ؛ لِأَنَّ (ثُمَّ) تَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ وَالْمُهْلَةِ، ثُمَّ اسْتَقَرُّوا وَثَبَتُوا عَلَى الْإِيمَانِ مَعَ طُولِ الْمُدَّةِ، {لَمْ يَرْتَابُوا}؛ أَيْ: لَمْ يَلْحَقْهُمْ شَكٌّ فِي الْإِيمَانِ بِاللهِ وَرَسُولِهِ.

وَهُنَا نُنَبِّهُ إِلَى مَسْأَلَةٍ يَكْثُرُ السُّؤَالُ عَنْهَا فِي هَذَا الْوَقْتِ -وَإِنْ كَانَ أَصْلُهَا مَوْجُودًا فِي عَهْدِ الرَّسُولِ ﷺ، وَهِيَ: الْوَسَاوِسُ الَّتِي يُلْقِيهَا الشَّيْطَانُ فِي قَلْبِ الْإِنْسَانِ، فَيُلْقِي الشَّيْطَانُ فِي قَلْبِ الْإِنْسَانِ -أَحْيَانًا- وَسَاوِسَ وَشُكُوكًا فِي الْإِيمَانِ، أَوْ فِي الْقُرْآنِ، أَوْ فِي الرَّسُولِ، يُحِبُّ الْإِنْسَانُ أَنْ يُمَزَّقَ لَحْمُهُ، وَأَنْ يُكَسَّرَ عَظْمُهُ وَلَا يَتَكَلَّمُ بِذَلِكَ؛ فَمَا مَوْقِفُ الْإِنْسَانِ مِنْ هَذَا؟!!

مَوْقِفُ الْإِنْسَانِ مِنْ هَذَا: أَنْ يَسْتَعِيذَ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ وَيَنْتَهِيَ، وَيُعْرِضَ عَنْ هَذَا، وَلَا يُفَكِّرُ فِيهِ إِطْلَاقًا، وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْوَسَاوِسِ صَرِيحُ الْإِيمَانِ؛ أَيْ: خَالِصُ الْإِيمَانِ -وَمَعْنَى كَوْنِهِ صَرِيحَ الْإِيمَانِ: أَنَّ هَذِهِ الْوَسْوَسَةَ الطَّارِئَةَ، وَإِنْكَارَكُمْ إِيَّاهَا، وَتَعَاظُمَكُمْ لَهَا لَا تَضُرُّ إِيمَانَكُمْ شَيْئًا، بَلْ هِيَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إِيمَانَكُمْ صَرِيحٌ لَا يَشُوبُهُ نَقْصٌ، وَلَا يَعْتَوِرُهُ خَلَلٌ- وَهَذَا إِنَّمَا كَانَ خَالِصَ الْإِيمَانِ؛ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَأْتِي لِلْإِنْسَانِ الشَّاكِّ يُشَكِّكُهُ فِي دِينِهِ، وَإِنَّمَا يَأْتِي لِإِنْسَانٍ ثَابِتٍ مُسْتَقِرٍّ؛ لِيُشَكِّكَهُ فِي دِينِهِ فَيُفْسِدَهُ عَلَيْهِ.

فَالْمُؤْمِنُ الَّذِي اسْتَقَرَّ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ، وَاطْمَأَنَّ قَلْبُهُ بِالْإِيمَانِ هُوَ الَّذِي يَأْتِيهِ الشَّيْطَانُ لِيُفْسِدَ عَلَيْهِ، أَمَّا مَنْ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَأْتِيهِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْوَسَاوِسِ، لِأَنَّهُ مُنْتَهٍ مِنْهُ -أَيْ: قَدْ فَرَغَ مِنْ أَمْرِهِ-، وَالْمُهِمُّ أَنَّ قَوْلَهُ: {ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ ثَبَتُوا عَلَى الْإِيمَانِ؛ وَلَوْ طَالَتِ الْمُدَّةُ.

مَا الطَّرِيقَةُ الَّتِي تُوجِبُ لِلْإِنْسَانِ ثُبُوتَ الْإِيمَانِ وَاسْتِقْرَارَهُ؟

أَوَّلًا: أَنْ يَتَفَكَّرَ فِي مَخْلُوقَاتِ اللهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وَأَنَّ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةَ لَمْ تَكُنْ وَلِيدَةَ الصُّدْفَةِ، وَلَمْ تَكُنْ وَلِيدَةً بِنَفْسِهَا.

ثَانِيًا: أَنْ يَتَفَكَّرَ فِي شَرِيعَةِ اللهِ وَكَمَالِهَا.

ثَالِثًا: أَنْ يَتَفَكَّرَ فِي سِيرَةِ النَّبِيِّ ﷺ، وَآيَاتِهِ، وَمَا إِلَى ذَلِكَ.

رَابِعًا: أَنْ يُكْثِرَ مِنْ ذِكْرِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ فَإِنَّهُ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ، وَأَنْ يُكْثِرَ مِنَ الطَّاعَاتِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ؛ لِأَنَّ الطَّاعَاتِ وَالْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ تَزِيدُ الْإِيمَانَ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ -رَحِمَهُمُ اللهُ-.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ}: هَذَا -أَيْضًا- مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: {آمَنُوا}؛ أَيْ: هُمْ مَعَ إِيمَانِهِمْ بِاللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَيَقِينِهِمْ، وَعَدَمِ ارْتِيَابِهِمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُصْلِحُوا عِبَادَ اللهِ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، يُجَاهِدُونَ أَعْدَاءَ اللهِ؛ لِيَرْجِعُوا إِلَى دِينِ اللهِ وَيَسْتَقِيمُوا عَلَيْهِ، لَا لِلِانْتِقَامِ مِنْهُمْ، وَلَا لِلِانْتِصَارِ لِأَنْفُسِهِمْ، وَلَكِنْ لِيَدْخُلُوا فِي دِينِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ: هُوَ الْقِتَالُ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا، لَا لِلِانْتِقَامِ، فَالْقِتَالُ لِلِانْتِقَامِ لَيْسَ إِلَّا مُدَافَعَةً عَنِ النَّفْسِ، أَوْ أَخْذًا بِالثَّأْرِ فَقَطْ، لَكِنَّ الْجِهَادَ حَقِيقَةً: هُوَ أَنْ يُقَاتِلَ الْإِنْسَانُ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا، أَمَّا الْجِهَادُ انْتِصَارًا لِلنَّفْسِ، أَوْ دِفَاعًا عَنِ النَّفْسِ فَقَطْ؛ فَلَيْسَ فِي سَبِيلِ اللهِ، لَكِنْ لَا شَكَّ أَنَّ مَنْ قَاتَلَ دِفَاعًا عَنْ نَفْسِهِ؛ فَإِنَّهُ إِنْ قُتِلَ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَإِنْ قَتَلَهُ صَاحِبُهُ فَصَاحِبُهُ فِي النَّارِ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ ﷺ فِيمَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ مَالَكَ، قَالَ: «لَا تُعْطِهِ».

قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَنِي.

قَالَ: «قَاتِلْهُ».

قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِي؟

قَالَ: «أَنْتَ شَهِيدٌ».

قَالَ: إِنْ قَتَلْتُهُ؟

قَالَ: «فَهُوَ فِي النَّارِ».

فَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ: هُوَ الْقِتَالُ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا، هَذَا هُوَ الَّذِي حَدَّهُ النَّبِيُّ ﷺ، وَفَصَّلَهُ فَصْلًا قَاطِعًا، {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} فِي إِيمَانِهِمْ وَعَدَمِ ارْتِيَابِهِمْ، أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا مِنَ الْأَعْرَابِ: (آمَنَّا) وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا حَقِيقَةً وَلَكِنْ أَسْلَمُوا؛ فَإِنَّهُمْ لَيْسُوا صَادِقِينَ؛ وَلِهَذَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا}.

{قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}: هَذَا إِنْكَارٌ لِقَوْلِ الَّذِينَ قَالُوا: آمَنَّا؛ يَعْنِي: أَتُخْبِرونَ اللهَ -تَعَالَى- بِأَنَّكُمْ آمَنْتُمْ وَهُوَ عَلِيمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ؟!! وَلَيْسَ الْمُرَادُ: أَنْ تَرْفَعُوا جَهْلَهُ عَنْ حَالِكُمْ؛ فَهُوَ يَعْلَمُ حَالَهُمْ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَيَعْلَمُ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ أَوْ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ، لَكِنْ (تُعَلِّمُونَ) هُنَا بِمَعْنَى: تُخْبِرُونَ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ: أَنْ تَرْفَعُوا الْجَهْلَ عَنِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ لِأَنَّ اللهَ لَيْسَ جَاهِلًا بِحَالِهِمْ، بَلْ هُوَ بِهَا عَلِيمٌ، {أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ} حِينَمَا قُلْتُمْ: آمَنَّا {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}؛ وَمِنْهَا -أَيْ: مِمَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ- حَالَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أَوْ غَيْرَ مُؤْمِنِينَ.

{وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} خَفِيٌّ أَوْ بَيِّنٌ، عَامٌّ أَوْ خَاصٌّ؛ فَهُوَ عَلِيمٌ بِهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ۖ قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم ۖ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17].

أَيْ: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ بِإِسْلَامِهِمْ، وَيَعْنِي بِذَلِكَ قَوْمًا أَسْلَمُوا بِدُونِ قِتَالٍ، فَجَعَلُوا يَمُنُّونَ عَلَى الرَّسُولِ ﷺ، يَذْكُرُونَ لَهُ الْفَضَائِلَ، وَيَقُولُونَ: (نَحْنُ آمَنَّا بِكَ مِنْ دُونِ قِتَالٍ)، مَعَ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ لَهُمْ!!

وَلِهَذَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ}، وَقَوْلُهُ: {بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ}: هَذَا إِضْرَابٌ لِإِبْطَالِ مَا سَبَقَ؛ أَيْ: لَيْسَ لَكُمْ مِنَّةٌ عَلَى الرَّسُولِ ﷺ بِإِسْلَامِكُمْ، بَلِ الْمِنَّةُ للهِ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا أَعْظَمُ مِنَّةٍ؛ أَنْ يَمُنَّ اللهُ عَلَى الْعَبْدِ بِالْهِدَايَةِ إِلَى الْإِيمَانِ، مَعَ أَنَّ اللهَ أَضَلَّ كَثِيرًا مِنَ الْأُمَّةِ عَنْهُ.

وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ: ((مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُ مِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ كُلُّهُمْ فِي النَّارِ، وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ)) كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ))، فَمَنْ وُفِّقَ بِأَنَّ كَانَ وَاحِدًا فِي الْجَنَّةِ؛ فَهَذِهِ مِنَّةٌ عَظِيمَةٌ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْأَنْصَارُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- حِينَ جَمَعَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ يَوْمَ قَسْمِ غَنَائِمِ حُنَيْنٍ.. كُلَّمَا ذَكَرَ لَهُمْ شَيْئًا قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ.

قَالَ: «أَلَمْ أَجِدْكُمْ فِي ضَلَالٍ فَهَدَاكُمُ اللهُ بِي؟».

قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ.

قَالَ: «أَلَمْ أَجِدْكُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَجَمَعَكُمُ اللهُ بِي؟».

قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ)). وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

كُلَّمَا ذَكَرَ شَيْئًا قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ، فَالْمِنَّةُ للهِ عَلَى كُلِّ مَنْ هَدَاهُ اللهُ بِنِعَمِهِ، فَالْمِنَّةُ للهِ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَيْهِ.

وَقَوْلُهُ: {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}؛ أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ مِنْ ذَوِي الصِّدْقِ.. الْقَائِلِينَ بِالصِّدْقِ؛ فَإِنَّ الْمِنَّةَ للهِ عَلَيْكُمْ {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ}.

{إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحجرات: 18].

أَخْبَرَ اللهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ يَعْلَمُ كُلَّ مَا غَابَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَمَا ظَهَرَ فَهُوَ مِنْ بَابِ أَوْلَى، وَأَخْبَرَ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَعْلَمُهُ: عَمَلَ بَنِي آدَمَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}، وَهَذِهِ الْآيَةُ تُفِيدُ مَسْأَلَةً عَظِيمَةً فِي سُلُوكِ الْإِنْسَانِ وَعَمَلِهِ، وَهِيَ: أَنْ يَعْلَمَ بِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- بَصِيرٌ بِعَمَلِهِ مُحِيطٌ بِهِ، فَيَخْشَى اللهَ وَيَتَّقِهِ.

وَفِيهَا: التَّرْغِيبُ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ؛ فَإِنَّهَا لَنْ تَضِيعَ.

وَفِيهَا: التَّرْهِيبُ مِنَ الْعَمَلِ السَّيِّءِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ سُيَجَازَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ مَعْلُومٌ عِنْدَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

نَسْأَلُ اللهَ -تَعَالَى- أَنْ يَمُنَّ عَلَيْنَا بِالْهِدَايَةِ وَالتَّوْفِيقِ)).


((الْحُجُرَاتُ سُورَةُ الْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ))

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! هَذِهِ السُّورَةُ سَمَّاهَا كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ (سُورَةَ الْأَخْلَاقِ)، وَهِيَ مَعَ سُورَةِ النُّورِ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعَلَّمَ لِلْأَطْفَالِ الصِّغَارِ، مَعَ بَيَانِ مَا فِيهَا مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي بَيَّنَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَوَضَّحَهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُقِيمُ الْمُسْلِمَ عَلَى الْجَادَّةِ السَّوِيَّةِ.. مِنْ تَحْصِيلِ الْأَخْلَاقِ الْإِسْلَامِيَّةِ الصَّحِيحَةِ.

وَأَمَّا الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ هَذَا كُلِّهِ؛ فَإِنَّهُمْ يَخْبِطُونَ خَبْطَ الْعَمْيَاءِ فِي أَوْدِيَةِ الظُّنُونِ وَالضَّلَالَاتِ.

فَسُورَةُ (الْحُجُرَاتِ) مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعَلِّمَهُ الرَّجُلُ أَوْلَادَهُ، وَأَنْ يَشْرَحَ لَهُمْ مَا وَرَدَ فِي السُّورَةِ مِنَ الْآدَابِ، وَكَذَلِكَ سُورَةُ النُّورِ؛ فَيَنْبَغِي عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُعَلِّمَهَا أَهْلَ بَيْتِهِ، وَأَنْ يَشْرَحَ لَهُمْ مَعَانِيَهَا، وَأَنْ يُبَيِّنَ لَهُمْ آدَابَهَا؛ فَقَدِ اشْتَمَلَتِ السُّورَتَانِ عَلَى جُمْلَةٍ عَظِيمَةٍ صَالِحَةٍ مِنْ آدَابِ الْإِسْلَامِ وَأَخْلَاقِهِ، وَدَلَّتْ عَلَيْهَا بِالْأُسْلُوبِ الْقُرْآنِيِّ الْفَرِيدِ؛ لِأَنَّهُ كَلَامُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَكَلَامُ اللهِ -تَعَالَى- صِفَتُهُ، وَصِفَتُهُ عَلَى قَدْرِ ذَاتِهِ، وَذَاتُهُ لَيْسَ كَمِثْلِهَا ذَاتٌ، فَكَلَامُهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ كَلَامٌ.

وَاللهُ -تَعَالَى- الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.

أَسْأَلُ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- أَنْ يَرْحَمَنَا دُنْيَا وَآخِرَةً، وَأَنْ يُحْسِنَ خِتَامَنَا أَجْمَعِينَ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

المصدر: الْقِيَمُ الْإِنْسَانِيَّةُ فِي سُورَةِ الْحُجُرَاتِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان