((مَجْمُوعُ الْخُطَبِ الْمِنْبَرِيَّةِ))
((سَيْنَاءُ الْمُبَارَكَةُ))
((سَيْنَاءُ الْمُبَارَكَةُ.. الْمَكَانُ وَالْمَكَانَةُ
أَرْضُ الْخَيْرِ وَالنَّمَاءِ وَالتَّضْحِيَةِ))
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((ذِكْرُ سَيْنَاءَ الْمُبَارَكَةِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ))
فَقَدْ ذَكَرَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- سَيْنَاءَ فِي الْقُرْآنِ بِاسْمِهَا مَرَّتَيْنِ، وَفِي الْمَرَّتَيْنِ ذَكَرَهَا اللهُ -تَعَالَى- مُضَافَةً إِلَى الطُّورِ، فَقَالَ -تَعَالَى- فِي سُورَةِ (التِّينِ): {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَٰذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين: 1-8].
((التِّينُ: هُوَ التِّينُ الْمَعْرُوفُ، وَكَذَلِكَ الزَّيْتُونُ، أَقْسَمَ -تَعَالَى- بِهَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ؛ لِكَثْرَةِ مَنَافِعِ شَجَرِهِمَا وَثَمَرِهِمَا، وَلِأَنَّ سُلْطَانَهُمَا فِي أَرْضِ الشَّامِ مَحَلِّ نُبُوَّةِ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
{وَطُورِ سِينِينَ} أَيْ: وَطُورِ سَيْنَاءَ مَحَلِّ نُبُوَّةِ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
{وَهَٰذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ}: وَهُوَ مَكَّةُ الْمُكَرَّمَةُ مَحَلُّ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ.
فَأَقْسَمَ -تَعَالَى- بِهَذِهِ الْمَوَاضِعِ الْمُقَدَّسَةِ الَّتِي اخْتَارَهَا، وَابْتَعَثَ مِنْهَا أَفْضَلَ النُّبُوَّاتِ وَأَشْرَفَهَا.
وَالْمُقْسَمُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} أَيْ: تَامَّ الْخِلْقَةِ، مُتَنَاسِبَ الْأَعْضَاءِ، مُنْتَصِبَ الْقَامَةِ، لَمْ يَفْقِدْ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا شَيْئًا)).
وَذَكَرَ -تَعَالَى- سَيْنَاءَ فِي سُورَةِ (الْمُؤْمِنُونَ)، ((فَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاءَ}: وَهِيَ شَجَرَةُ الزَّيْتُونِ، خُصَّتْ بِالذِّكْرِ؛ لِمَنَافِعِهَا الَّتِي ذَكَرَ بَعْضَهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ} [المؤمنون: 20] أَيْ: فِيهَا الزَّيْتُ الَّذِي هُوَ دُهْنٌ يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الِاسْتِصْبَاحِ، وَاصْطِبَاغٍ لِلْآكِلِينَ، أَيْ: يُجْعَلُ إِدَامًا لِلْآكِلِينَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَنَافِعِ)).
وَقَدْ أَقْسَمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِطُورِ سَيْنَاءَ، وَهُوَ الْجَبَلُ الَّذِي كَلَّمَ اللهُ -تَعَالَى- عَلَيْهِ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَىٰ نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَٰذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَٰذَا أَمْ أَنتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ ۖ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: 1-16].
((يُقْسِمُ -تَعَالَى- بِهَذِهِ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْحِكَمِ الْجَلِيلَةِ؛ عَلَى الْبَعْثِ، وَالْجَزَاءِ لِلْمُتَّقِينَ وَلِلْمُكَذِّبِينَ، فَأَقْسَمَ -تَعَالَى- بِالطُّورِ، وَهُوَ الْجَبَلُ الَّذِي كَلَّمَ اللهُ عَلَيْهِ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، وَأَوْحَى إِلَيْهِ مَا أَوْحَى مِنَ الْأَحْكَامِ.
وَفِي ذَلِكَ مِنَ الْمِنَّةِ عَلَيْهِ وَعَلَى أُمَّتِهِ مَا هُوَ مِنْ آيَاتِ اللهِ الْعَظِيمَةِ، وَنِعَمِهِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ الْعِبَادُ لَهَا عَلَى عَدٍّ وَلَا ثَمَنٍ)).
وَقَدْ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَىٰ ۚ إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} [مريم: 51-53].
((أَيْ: وَاذْكُرْ فِي هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ عَلَى وَجْهِ التَّبْجِيلِ لَهُ، وَالتَّعْظِيمِ وَالتَّعْرِيفِ بِمَقَامِهِ الْكَرِيمِ، وَأَخْلَاقِهِ الْكَامِلَةِ، {إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا}: قُرِئَ بِفَتْحِ اللَّامِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- اخْتَارَهُ وَاسْتَخْلَصَهُ وَاصْطَفَاهُ عَلَى الْعَالَمِينَ، وَقُرِئَ بِكَسْرِهَا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ مُخْلِصٌ للهِ -تَعَالَى- فِي جَمِيعِ أَعْمَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وَنِيَّاتِهِ، فَوَصْفُهُ الْإِخْلَاصُ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ، وَالْمَعْنَيَانِ مُتَلَازِمَانِ؛ فَإِنَّ اللهَ أَخْلَصَهُ لِإِخْلَاصِهِ، وَإِخْلَاصُهُ مُوجِبٌ لِاسْتِخْلَاصِهِ، وَأَجَلُّ حَالَةٍ يُوصَفُ بِهَا الْعَبْدُ: الْإِخْلَاصُ مِنْهُ، وَالِاسْتِخْلَاصُ مِنْ رَبِّهِ، {وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا} أَيْ: جَمَعَ اللهُ لَهُ بَيْنَ الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ، فَالرِّسَالَةُ تَقْتَضِي تَبْلِيغَ كَلَامِ الْمُرْسِلِ، وَتَبْلِيغَ جَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الشَّرْعِ دِقِّهِ وَجِلِّهِ، وَالنُّبُوَّةُ تَقْتَضِي إِيحَاءَ اللهِ إِلَيْهِ، وَتَخْصِيصَهُ بِإِنْزَالِ الْوَحْيِ إِلَيْهِ؛ فَالنُّبُوَّةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، وَالرِّسَالَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَلْقِ.
بَلْ خَصَّهُ اللهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْوَحْيِ بِأَجَلِّ أَنْوَاعِهِ وَأَفْضَلِهَا، وَهُوَ تَكْلِيمُهُ -تَعَالَى- وَتَقْرِيبُهُ مُنَاجِيًا للهِ -تَعَالَى-، وَبِهَذَا اخْتُصَّ مِنْ بَيْنِ الْأَنْبِيَاءِ بِأَنَّهُ كَلِيمُ الرَّحْمَنِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ} أَيِ: الْأَيْمَنِ مِنْ مُوسَى فِي وَقْتِ مَسِيرِهِ، أَوِ الْأَيْمَنِ أَيِ: الْأَبْرَكِ، مِنَ الْيُمْنِ وَالْبَرَكَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} [النمل: 8].
{وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا}: وَالْفَرْقُ بَيْنَ النِّدَاءِ وَالنَّجَاءِ: أَنَّ النِّدَاءَ هُوَ الصَّوْتُ الرَّفِيعُ، أَيِ: الْمُرْتَفِعُ، وَالنَّجَاءُ مَا دُونَ ذَلِكَ، وَفِي هَذَا إِثْبَاتُ الْكَلَامِ للهِ -تَعَالَى- وَأَنْوَاعِهِ مِنَ النِّدَاءِ وَالنَّجَاءِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، خِلَافًا لِمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ مِنَ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ نَحَا نَحْوَهُمْ.
{وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا}: هَذَا مِنْ أَكْبَرِ فَضَائِلِ مُوسَى، وَإِحْسَانِهِ وَنُصْحِهِ لِأَخِيهِ هَارُونَ؛ أَنَّهُ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُشْرِكَهُ فِي أَمْرِهِ، وَأَنْ يَجْعَلَهُ رَسُولًا مِثْلَهُ، فَاسْتَجَابَ اللهُ لَهُ ذَلِكَ، وَوَهَبَ لَهُ مِنْ رَحْمَتِهِ أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا؛ فَنُبُوَّةُ هَارُونَ تَابِعَةٌ لِنُبُوَّةِ مُوسَى -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ-، فَسَاعَدَهُ عَلَى أَمْرِهِ، وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ)).
((وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى الْأَجَلَ}: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَضَى الْأَجَلَ الْوَاجِبَ أَوِ الزَّائِدَ عَلَيْهِ كَمَا هُوَ الظَّنُّ بِمُوسَى وَوَفَائِهِ، اشْتَاقَ إِلَى الْوُصُولِ إِلَى أَهْلِهِ، وَوَالِدَتِهِ، وَعَشِيرَتِهِ، وَوَطَنِهِ، وَظَنَّ مِنْ طُولِ الْمُدَّةِ أَنَّهُمْ قَدْ تَنَاسَوْا مَا صَدَرَ مِنْهُ -يَعْنِي: مِنْ قَتْلِ الْقِبْطِيِّ-، {وَسَارَ بِأَهْلِهِ}: قَاصِدًا مِصْرَ، {آنَسَ} أَيْ: أَبْصَرَ، {مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النَّارِ} أَيْ: آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ، {لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [القصص: 29]: وَكَانَ قَدْ أَصَابَهُمُ الْبَرْدُ، وَتَاهُوا الطَّرِيقَ، {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَىٰ إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص: 30].
فَأَخْبَرَهُ بِأُلُوهِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَأْمُرَهُ بِعِبَادَتِهِ وَتَأَلُّهِهِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14].
{وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ}: فَأَلْقَاهَا، {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ}: تَسْعَى سَعْيًا شَدِيدًا وَلَهَا صُورَةٌ مَخُوفَةٌ، {كَأَنَّهَا جَانٌّ}: ذَكَرُوا الْحَيَّاتِ الْعِظَامَ، {وَلَّىٰ مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} أَيْ: يَرْجِعُ؛ لِاسْتِيلَاءِ الرَّوْعِ وَالْخَوْفِ وَالْفَزَعِ عَلَى قَلْبِهِ، فَقَالَ اللهُ -تَعَالَى- لَهُ: {يَا مُوسَىٰ أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ ۖ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} [القصص: 31]: وَهَذَا أَبْلَغُ مَا يَكُونُ فِي التَّأْمِينِ، وَعَدَمِ الْخَوْفِ)).
وَقَالَ تَعَالَى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ (80) كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي ۖ وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَىٰ (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ} [طه: 80-82].
((يُذَكِّرُ -تَعَالَى- بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَّتَهُ الْعَظِيمَةَ عَلَيْهِمْ بِإِهْلَاكِ عَدُوِّهِمْ، وَمُوَاعَدَتِهِ لِمُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِجَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ؛ لِيُنَزِّلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ الَّذِي فِيهِ الْأَحْكَامُ الْجَلِيلَةُ وَالْأَخْبَارُ الْجَمِيلَةُ، فَتَتِمَّ عَلَيْهِمُ النِّعْمَةُ الدِّينِيَّةُ بَعْدَ النِّعْمَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَيُذَكِّرُ مِنَّتَهُ -أَيْضًا- عَلَيْهِمْ فِي التِّيهِ بِإِنْزَالِ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى، وَالرِّزْقِ الرَّغَدِ الْهَنِيءِ الَّذِي يَحْصُلُ لَهُمْ بِلَا مَشَقَّةٍ، وَأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: {كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} أَيْ: وَاشْكُرُوهُ عَلَى مَا أَسْدَى إِلَيْكُمْ مِنَ النِّعَمِ، {وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ} أَيْ: فِي رِزْقِهِ، فَتَسْتَعْمِلُونَهُ فِي مَعَاصِيهِ، وَتَبْطَرُونَ النِّعْمَةَ؛ فَإِنَّكُمْ إِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ حَلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي، أَيْ: غَضِبْتُ عَلَيْكُمْ، ثُمَّ عَذَّبْتُكُمْ، {وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَىٰ} أَيْ: رَدِيَ وَهَلَكَ وَخَابَ وَخَسِرَ؛ لِأَنَّهُ عَدِمَ الرِّضَا وَالْإِحْسَانَ، وَحَلَّ عَلَيْهِ الْغَضَبُ وَالْخُسْرَانُ)).
((قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ}: وَهُوَ التَّوْرَاةُ، {مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَىٰ}: الَّذِينَ كَانَ خَاتِمَتُهُمْ فِي الْإِهْلَاكِ الْعَامِّ فِرْعَوْنَ وَجُنُودَهُ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ بَعْدَ نُزُولِ التَّوْرَاةِ انْقَطَعَ الْهَلَاكُ الْعَامُّ، وَشُرِعَ جِهَادُ الْكُفَّارِ بِالسَّيْفِ، {بَصَائِرَ لِلنَّاسِ} أَيْ: كِتَابَ اللهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى مُوسَى فِيهِ بَصَائِرُ لِلنَّاسِ، أَيْ: أُمُورٌ يُبْصِرُونَ بِهَا مَا يَنْفَعُهُمْ وَمَا يَضُرُّهُمْ، فَتَقُومُ الْحُجَّةُ عَلَى الْعَاصِي، وَيَنْتَفِعُ بِهَا الْمُؤْمِنُ فَتَكُونُ رَحْمَةً فِي حَقِّهِ، وَهِدَايَةً لَهُ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص: 43].
وَلَمَّا قَصَّ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مَا قَصَّ مِنْ هَذِهِ الْأَخْبَارِ الْغَيْبِيَّةِ نَبَّهَ الْعِبَادَ عَلَى أَنَّ هَذَا خَبَرٌ إِلَهِيٌّ مَحْضٌ، لَيْسَ لِلنَّبِيِّ ﷺ طَرِيقٌ إِلَى عِلْمِهِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الْوَحْيِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَىٰ مُوسَى الْأَمْرَ} أَيْ: بِجَانِبِ الطُّورِ الْغَرْبِيِّ وَقْتَ قَضَائِنَا لِمُوسَى الْأَمْرَ، {وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [القصص: 44]: عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يُقَالَ إِنَّهُ وَصَلَ إِلَيْكَ مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ، {وَلَٰكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ}: فَانْدَرَسَ الْعِلْمُ، وَنُسِيَتْ آيَاتُهُ، فَبَعَثْنَاكَ فِي وَقْتٍ اشْتَدَّتِ الْحَاجَةُ إِلَيْكَ وَإِلَى مَا عَلَّمْنَاكَ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْكَ، {وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا} أَيْ: مُقِيمًا {فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} أَيْ: تُعَلِّمُهُمْ وَتَتَعَلَّمُ مِنْهُمْ، حَتَّى أَخْبَرْتَ بِمَا أَخْبَرْتَ مِنْ شَأْنِ مُوسَى فِي مَدْيَنَ، {وَلَٰكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [القصص: 45] أَيْ: وَلَكِنَّ ذَلِكَ الْخَبَرَ الَّذِي جِئْتَ بِهِ عَنْ مُوسَى أَثَرٌ مِنْ آثَارِ إِرْسَالِنَا إِيَّاكَ، وَوَحْيٌ لَا سَبِيلَ لَكَ إِلَى عِلْمِهِ بِدُونِ إِرْسَالِنَا.
{وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا}: مُوسَى، وَأَمَرْنَاهُ أَنْ يَأْتِيَ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، وَيُبَلِّغَهُمْ رِسَالَتَنَا، وَيُرِيَهُمْ مِنْ آيَاتِنَا وَعَجَائِبِنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْمَاجَرَيَاتِ الَّتِي جَرَتْ لِمُوسَى ﷺ فِي هَذِهِ الْأَمَاكِنِ فَقَصَصْتَهَا كَمَا هِيَ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ حَضَرْتَهَا وَشَاهَدْتَهَا، أَوْ ذَهَبْتَ إِلَى مَحَالِّهَا فَتَعَلَّمْتَهَا مِنْ أَهْلِهَا، فَحِينَئِذٍ قَدْ لَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ؛ إِذِ الْأُمُورُ الَّتِي يُخْبَرُ بِهَا عَنْ شَهَادَةٍ وَدِرَاسَةٍ مِنَ الْأُمُورِ الْمُشْتَركَةِ غَيْرِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْأَنْبِيَاءِ، وَلَكِنَّ هَذَا قَدْ عُلِمَ وَتُيُقِّنَ أَنَّهُ مَا كَانَ وَمَا صَارَ، فَأَوْلِيَاؤُكَ وَأَعْدَاؤُكَ يَعْلَمُونَ عَدَمَ ذَلِكَ، فَتَعَيَّنَ الْأَمْرُ الثَّانِي؛ وَهُوَ أَنَّ هَذَا جَاءَكَ مِنْ قِبَلِ اللهِ وَوَحْيِهِ وَإِرْسَالِهِ، فَثَبَتَ بِالدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ صِحَّةُ رِسَالَتِكَ، وَرَحْمَةُ اللهِ بِكَ لِلْعِبَادِ؛ وَلِهَذَا قَالَ:{وَلَٰكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ} يَعْنِي: الْعَرَبَ وَقُرَيْشًا؛ فَإِنَّ الرِّسَالَةَ عِنْدَهُمْ لَا تُعْرَفُ وَقْتَ إِرْسَالِ الرَّسُولِ وَقَبْلَهُ بِأَزْمَانٍ مُتَطَاوِلَةٍ.
{لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص: 46]: تَفْصِيلَ الْخَيْرِ فَيَفْعَلُونَهُ، وَالشَّرِّ فَيَتْرُكُونَهُ، فَإِذَا كُنْتَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمُ الْمُبَادَرَةَ إِلَى الْإِيمَانِ بِكَ، وَشُكْرَ هَذِهِ النِّعْمَةِ الَّتِي لَا يُقَادَرُ قَدْرُهَا، وَلَا يُدْرَكُ شُكْرُهَا، وَإِنْذَارُهُ لِلْعَرَبِ لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ مُرْسَلًا لِغَيْرِهِمْ؛ فَإِنَّهُ عَرَبِيٌّ، وَالْقُرْآنُ الَّذِي نَزَلَ عَلَيْهِ عَرَبِيٌّ، وَأَوَّلُ مَنْ بَاشَرَ بِدَعْوَتِهِ الْعَرَبُ، فَكَانَتْ رِسَالَتُهُ لَهُمْ أَصْلًا، وَلِغَيْرِهِمْ تَبَعًا، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ} [يونس: 2]، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158])).
((جَبَلُ الطُّورِ نَوَاةُ سَيْنَاءَ الصُّلْبَةُ))
((جَبَلُ الطُّورِ أَوْ إِقْلِيمُ الْجِبَالِ، أَوِ الْكُتْلَةُ الْجَبَلِيَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ كُتْلَةُ الصُّخُورِ الْأَرْكِيَّةِ النَّارِيَّةُ الْبِلَّوْرِيَّةُ الْجرَانِيتِيَّةُ الصَّلْبَةُ تَحْتَلُّ الثُّلُثَ الْجَنُوبِيَّ الْأَقْصَى وَالْأَضْيَقَ مِنْ مُثَلَّثِ شِبْهِ جَزِيرَةِ سَيْنَاءَ، مَا بَيْنَ الْخَلِيجَيْنِ جَنُوبِ خَطِّ عَرْضٍ تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ (29°) بِقَلِيلٍ، بَلْ هِيَ نَفْسُهَا مُثَلَّثٌ مُتَسَاوِي الْأَضْلَاعِ تَقْرِيبًا، مَعَ تَقَعُّرٍ خَفِيفٍ نَحْوَ الْجَنُوبِ فِي الضِّلْعِ الشَّمَالِيِّ، مَعَ مُلَاحَظَةِ أَنَّ مِنَ الضِّلْعِ الشَّرْقِيِّ يَخْرُجُ لِسَانٌ ضَيِّقٌ؛ وَلَكِنَّهُ مُتَّصِلٌ تَمَامًا، وَذَلِكَ بِامْتِدَادِ السَّاحِلِ حَتَّى رَأْسِ خَلِيجِ الْعَقَبَةِ تَقْرِيبًا، فِي حِينِ أَنَّ الضِّلْعَ الْغَرْبِيَّ أَقْصَرُ بِوُضُوحٍ؛ وَلَكِنْ تَخْرُجُ مُنْفَصِلَةً عَنْهُ بِالْمُقَابِلِ بَعْضُ شَظَايَا مُوَازِيَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ.
وَالْكُتْلَةُ كُلُّهَا مَحْدُودَةُ الْمِسَاحَةِ نِسْبِيًّا، هِيَ أَقَلُّ مِنْ تِسْعَةَ عَشَرَ أَلْفِ كِيلُو مِتْر مُرَّبَعٍ (19000 كم2)، أَيْ: هِيَ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثِ شِبْهِ الْجَزِيرَةِ السِّينَاوِيَّةِ بِكَثِيرٍ؛ لَكِنَّهَا مُتَمَيِّزَةٌ إِلَى أَقْصَى حَدٍّ، مُتَبَلْوِرَةُ الشَّخْصِيَّةِ جِدًّا، فَإِلَى الْجَنُوبِ مِنْ خَطِّ أَوْدِيَةِ فِيرَانَ الَّتِي يَفْصِلُهَا عَنِ الْهَضَبَةِ الْوُسْطَى يَتَغَيَّرُ فَجْأَةً كُلُّ شَيْءٍ فِي مُورْفُولُوجِيَّةِ الْإِقْلِيمِ وَمَظْهَرِ الْبِيئَةِ، فَهُنَا قَلَّ أَنْ تُقَابِلَ رِمَالًا أَوْ هِضَابًا مَائِدِيَّةً كَمَا فِي الشَّمَالِ؛ بَلْ حَيْثُمَا اتَّجَهْتَ فَثَمَّ قِمَمُ الْجِبَالِ الْمُدَبَّبَةِ الشَّاهِقَةِ، وَثَمَّةَ الْكُتَلُ الْجَبَلِيَّةُ الضَّخْمَةُ الْحَادَّةُ تَتَسَلَّلُ أَوْ تَنْدَفِعُ بَيْنَهَا أَوْدِيَةٌ عَمِيقَةٌ غَائِرَةٌ.
هُنَا نَوَاةُ سَيْنَاءَ الصُّلْبَةُ، وَقَلْعَتُهَا الْمَعْزُولَةُ الشَّمَّاءُ، الْكُتْلَةُ الْجَبَلِيَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ، أَوْ إِقْلِيمُ الْجِبَالِ، أَوْ جَبَلُ الطُّورِ.
وَبَيْنَمَا يَمْتَدُّ تَحْتَ أَقْدَامِ هَذِهِ الْقَلْعَةِ عَلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ السُّوَيْسِيِّ سَهْلٌ سَاحِلِيٌّ مُتَّسِعٌ نِسْبِيًّا فَإِنَّهَا تَهْوِي إِلَى مُنْحَدَبٍ تَقْرِيبًا إِلَى الْبَحْرِ عَلَى الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ لِتُشْرِفَ عَلَى خَلِيجِ الْعَقَبَةِ مُبَاشَرَةً، كَأَنَّهَا قَلْعَةٌ مُخَنْدَقَةٌ مَائِيًّا، أَمَّا فِي الدَّاخِلِ فَإِنَّ مُثَلَّثَ الْكُتْلَةِ تُخَدِّدُهُ شَبَكَةٌ كَثِيفَةٌ مِنَ الْأَوْدِيَةِ الْعَمِيقَةِ الَّتِي تُصْرَفُ يَمِينًا وَيَسَارًا، فَتَبْدُو فِي هَيْئَتِهَا كَضُلُوعِ الْقَفَصِ الصَّدْرِيِّ لِلْإِنْسَانِ)).
((سَيْنَاءُ أَكْثَرُ مِنْ ثُلُثِ مِصْرَ عُمْقًا!))
((وَمِسَاحَةُ سَيْنَاءَ وَاحِدٌ وَسِتُّونَ أَلْف كِيلُو مِتْر مُرَبَّعٍ (61000 كم2)، حَوَالَيْ سِتَّةٍ بِالْمِائَةِ (6%) مِنْ مِسَاحَةِ مِصْرَ، أَوْ نَحْوَ ثَلَاثَةِ أَمْثَالِ مِسَاحَةِ الدِّلْتَا، تَبْدُو عَلَى الْخَرِيطَةِ كَمُثَلَّثٍ مُنْتَظِمٍ بِدَرَجَةٍ أَوْ بِأُخْرَى، ارْتِفَاعُهُ مِنْ (رَأْسِ بَرَون) حَتَّى (رَأْسِ مُحَمَّدٍ) نَحْوُ ثَلَاثِ مِائَةٍ وَثَمَانِينَ إِلَى ثَلَاثِ مِائَةٍ وَتِسْعِينَ كِيلُو مِتْر (380 : 390 كم)، وَأَقْصَى عَرْضِهِ بَيْنَ السُّوَيْسِ وَالْعَقَبَةِ نَحْوُ مِائَتَيْنِ وَعَشْرَةِ كِيلُو مِتْرَاتٍ (210 كم)، أَيْ: أَنَّ طُولَهُ نَحْوُ ضِعْفِ عَرْضِهِ إِلَّا قَلِيلًا، قُلْ بِالْأَرْقَامِ الْمُدَوَّرَةِ: أَرْبَعُ مِائَةٍ إِلَى مِائَتَيْ كِيلُو مِتْرٍ عَلَى التَّرْتِيبِ.
بِهَذَا الشَّكْلِ تَبْدُو سَيْنَاءُ بِكُتْلَتِهَا الْمُنْدَمِجَةِ الْمُكْتَنِزَةِ كَثِقَلٍ مُعَلَّقٍ، أَوْ كَسَلَّةٍ مُدَلَّاةٍ عَلَى كَتِفِ مِصْرَ الشَّرْقِيِّ فِي أَقْصَى الشَّمَالِ، لَا تَلْتَحِمُ بِهَا إِلَّا بِوَاسِطَةِ بَرْزَخِ السُّوَيْسِ.
وَلَقَدْ أَلِفْنَا لِذَلِكَ أَنْ نَنْظُرَ إِلَى سَيْنَاءَ عَلَى أَنَّهَا تُمَثِّلُ أَقْصَى شَمَالِ شَرْقِ مِصْرَ، وَهَذَا صَحِيحٌ أَسَاسًا بِالطَّبْعِ؛ وَلَكِنْ مَعَ تَصْحِيحَيْنِ ثَانَوِيَّيْنِ، فَلِأَنَّهَا أَكْثَرُ طُولًا مِنْهَا عَرْضًا نَجِدُ ثَمَّةَ مُفَارَقَتَيْنِ مُثِيرَتَيْنِ:
أَوَّلًا: رَغْمَ أَنَّهَا مِنْ أَكْثَرِ أَجْزَاءِ مِصْرَ امْتِدَادًا وَتَطَرُّفًا نَحْوَ الشَّرْقِ إِلَّا أَنَّهَا لَيْسَتِ الْأَكْثَرَ فِي هَذَا الْمِضْمَارِ، فَهَذَا الْمَوْقِعُ إِنَّمَا يَذْهَبُ كَمَا رَأَيْنَا إِلَى مَنْطِقَةِ (عِلْبَةَ) فِي أَقْصَى جَنُوبِ شَرْقِ الصَّحْرَاءِ الشَّرْقِيَّةِ، فَأَقْصَى نُقْطَةٍ شَرْقِيَّةٍ فِي سَيْنَاءَ عِنْدَ رَأْسِ خَلِيجِ الْعَقَبَةِ تَقَعُ عَلَى خَطِّ طُول خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ (35°) شَرْقًا، بَيْنَمَا تَتَجَاوَزُ مَنْطِقَةُ (عِلْبَة) خَطَّ سَبْعَةٍ وَثَلَاثِينَ (37°) شَرْقًا.
ثَانِيًا: فَرَغْمَ أَنَّهَا مِنْ أَكْثَرِ أَجْزَاءِ مِصْرَ شَمَالِيَّةً وَتَمَدُّدًا نَحْوَ الشَّمَالِ إِلَّا أَنَّنَا قَلِيلًا مَا نَذْكُرُ أَنَّهَا -أَيْضًا- بَالِغَةُ التَّعَمُّقِ نَحْوَ الْجَنُوبِ، أَكْثَرُ بِالتَّأْكِيدِ مِمَّا نَتَصَوَّرُ تَقْلِيدِيًّا، فَبَيْنَمَا هِيَ -أَيْ: سَيْنَاءُ- تَبْدَأُ مَعَ سَاحِلِ مِصْرَ الشَّمَالِيِّ حَوَالَيْ خَطِّ عَرْضٍ وَاحِدٍ وَثَلاثِينَ وَنِصْفٍ (31.5°)؛ إِذْ بِهَا تَنْتَهِي عِنْدَ (رَأْسِ مُحَمَّدٍ) بَعْدَ خَطِّ عَرْضٍ ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ (28°) تَقْرِيبًا عَلَى عُرُوضِ (مَلَّوِي) فِي وَسَطِ مُحَافَظَةِ أَسْيُوط، أَيْ: أَنَّهَا تَتَعَمَّقُ حَتَّى عُرُوضِ قَلْبِ الصَّعِيدِ الْأَوْسَطِ، وَأَنْتَ عِنْدَ (رَأْسِ مُحَمَّدٍ) تَكُونُ فِي الْحَقِيقَةِ أَقْرَبَ إِلَى قِنَا وَثَنِيَّةِ قِنَا مِنْكَ إِلَى الْقَاهِرَةِ وَرَأْسِ الدِّلْتَا، وَذَلِكَ بِأَيِّ الطُّرُقِ الْبَحْرِيَّةِ أَوِ الْبَرِّيَّةِ الْمَطْرُوقَةِ، وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى: فَإِنَّ سَيْنَاءَ تَتَرَامَى عَبْرَ نَحْوِ ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ وَنِصْفٍ (3.5) عَرْضِيَّةً لِتَبْلُغَ بِذَلِكَ أَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِ امْتِدَادِ أَوْ عُمْقِ مِصْرَ مِنَ الشَّمَالِ إِلَى الْجَنُوبِ.
بِالِاخْتِصَارِ الشَّدِيدِ: سَيْنَاءُ وَاحِدٌ عَلَى سِتَّةَ عَشَرَ (1/ 16) مِنْ مِصْرَ مِسَاحَةً؛ لَكِنَّهَا أَكْثَرُ مِنْ ثُلُثِ مِصْرَ عُمْقًا)).
((أَهَمِّيَّةُ سَيْنَاءَ لِجُغْرَافْيةِ مِصْرَ كُلِّهَا))
وَمِنَ الْمُمْكِنِ أَنْ يَتَحَوَّلَ شَمَالُ سَيْنَاءَ إِلَى نِطَاقٍ مُنَاظِرٍ وَرُبَّمَا مُنَافِسٍ لِلسَّاحِلِ الشَّمَالِيِّ الْغَرْبِيِّ، وَقَدْ لَا يَكُونُ بَعِيدًا ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي تُصْبِحُ فِيهِ الرُّقْعَةُ الزِّرَاعِيَّةُ الْخَضْرَاءُ مُتَّصِلَةً مُمْتَدَّةً بِلَا انْقِطَاعٍ مِنَ الْقَاهِرَةِ إِلَى السُّوَيْسِ إِلَى رَفَحٍ، وَيُصْبِحُ فِيهِ هَذَا الْخَطُّ حُدُودَ الْمَعْمُورِ الْمِصْرِيِّ الْجَدِيدِ شَرْقًا؛ بَلْ قَدْ يَأْتِي يَوْمٌ يَتَحَوَّلُ فِيهِ نِطَاقُ السَّاحِلِ الشَّمَالِيِّ بِرُمَّتِهِ أَوْ فِي مُعْظَمِهِ مِنَ الْحُدُودِ إِلَى الْحُدُودِ مِنْ رَفَحٍ إِلَى السَّلُّومِ نِطَاقًا وَاحِدًا مُتَّصِلًا مِنَ الْمَزْرُوعِ، يَشْمَلُ شَمَالَ سَيْنَاءَ وَبَرَارِي شَمَالِ الدِّلْتَا بِبُحَيْرَاتِهَا، ثُمَّ (مَارْمَرِيكَا مَرْيُوط)، بَلْ قَدْ يُصْبِحُ هَذَا النِّطَاقُ خَطًّا جَدِيدًا أَسَاسِيًّا مِنْ خُطُوطِ الْعُمْرَانِ وَالْمَعْمُورِ، خَطًّا عَرْضِيًّا وَرَابِعًا يُضَافُ إِلَى خُطُوطِهَا الطُّولِيَّةِ الثَّلَاثَةِ، وَيَتَعَامَدُ عَلَيْهَا.
وَأَخِيرًا وَأَخْطَرُهُ؛ فَلَمَّا كَانَتْ مُعْظَمُ هَذِهِ الْقِطَاعَاتِ سَوَاءً جَنَاحَاهَا شَرْقًا فِي سَيْنَاءَ، أَوْ غَرْبًا فِي السَّاحِلِ الشَّمَالِيِّ الْغَرْبِيِّ سَتَعْتَمِدُ -كَمَا فِي قَلْبِهَا دَاخِلَ الدِّلْتَا- عَلَى مِيَاهِ النِّيلِ جُزْئِيًّا أَوْ كُلِّيًّا؛ فَإِنَّ لَنَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنْ نَقُولَ دُونَ مُبَالَغَةٍ: إِنَّ دِلْتَا النِّيلِ وَمَعَهَا حَوْضَهُ هِيَ الَّتِي سَتَتَّسِعُ وَسَتَنْفَرِجُ لِتَمْتَدَّ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ فِي تَارِيخِهَا الْبَشَرِيِّ -بَلْ وَالطَّبِيعِيِّ- مِنَ الْقَاهِرَةِ إِلَى السُّوَيْسِ إِلَى رَفَحٍ عَلَى جَانِبٍ، وَمِنَ الْقَاهِرَةِ إِلَى النَّطْرُونِ إِلَى السَّلُّومِ عَلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ.
((هَلْ سَيْنَاءُ أَفْرِيقِيَّةٌ أَمْ آسْيَوِيَّةٌ؟))
((وَهَلْ سَيْنَاءُ أَفْرِيقِيَّةٌ أَمْ آسْيَوِيَّةٌ؟
أَفْرِيقِيَّةٌ أَمْ آسْيَوِيَّةٌ؟ هَذَا هُوَ السُّؤَالُ الْقَدِيمُ الْجَدِيدُ الَّذِي يَطْرَحُ نَفْسَهُ عِنْدَ هَذَا الْحَدِّ، وَيَتَطَلَّبُ إِجَابَةً عِلْمِيَّةً شَافِيَةً وَوَاعِيَةً -أَيْضًا-، فَلِأَمْرٍ مَا أَلَحَّ بَعْضُ الْكُتَّابِ وَالْعُلَمَاءِ الْغَرْبِيِّينَ مُنْذُ وَقْتٍ مُبَكِّرٍ فِي الْقَرْنِ التَّاسِعَ عَشَرَ عَلَى هَذَا السُّؤَالِ إِلْحَاحًا سَافِرًا وَمُرِيبًا، لَيْسَ فَقَطْ بَشَرِيًّا، وَلَكِنْ طَبِيعِيًّا، لَيْسَ فَقَطْ جُغْرَافِيًّا، وَلَكِنْ حَتَّى جُيُولُوجِيًّا!
وَمِنْ أَسَفٍ أَنَّ بَعْضًا مِنَّا رَجَّعَ التَّسَاؤُلَ نَفْسَهُ دُونَ وَعْيٍ فِكْرِيٍّ، وَبِلَا نَقْدٍ عِلْمِيِّ كَافٍ؛ لَكِنَّ وَاقِعَ الْأَمْرِ عِلْمِيًّا أَنَّ الْمُشْكِلَةَ مُفْتَعَلَةٌ، وَأَنَّ الْقَضِيَّةَ مُزَيَّفَةٌ، اصْطَنَعَهَا الِاسْتِعْمَارُ تَمْهِيدًا وَتَبْرِيرًا فِكْرِيًّا لِأَغْرَاضٍ سِيَاسِيَّةٍ بَعِيدَةٍ وَمُبَيَّتَةٍ تَكَشَّفَتْ فِيمَا بَعْدُ، أَمَّا الْحَقِيقَةُ الْمَوْضُوعِيَّةُ فِي الْجَدَلِ كُلِّهِ فَمَسْؤُولِيَّةُ الْعِلْمِ، وَالْعِلْمِ الْجُغْرَافِيِّ وَحْدَهُ.
وَسَيْنَاءُ عَلَى حَسَبِ الْحَقِيقَةِ الْعِلْمِيَّةِ هِيَ مِصْرُ الصُّغْرَى؛ فَالْوَاقِعُ أَنَّ سَيْنَاءَ إِنَّمَا هِيَ امْتِدَادٌ أَوْ تَصْغِيرٌ لِصَحَرَاءِ مِصْرَ الشَّرْقِيَّةِ، أَكْثَرُ مِمَّا هِيَ امْتِدَادٌ أَوْ تَصْغِيرٌ لِلْجَزِيرَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَهِيَ أَقْرَبُ فِي الْجُيُولُوجْيَا وَالطُّوبُوغْرَافْيَا وَالْمَنَاخِ وَالْمَائِيَّةِ وَالنَّبَاتِ إِلَى الْأُولَى مِنْهَا إِلَى الثَّانِيَةِ، فَلَا هِيَ جُزْءٌ لَا يَتَجَزَّأُ أَوْ جُزْءٌ يَتَجَزَّأُ مِنْ قَارَّةِ آسْيَا، وَلَا هِيَ مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ الْحَجَرِيَّةِ، أَيِ: الْعَرَبِ الْبَتْرَاءِ، أَوْ شِبْهِ الْقَارَّةِ الْعَرَبِيَّةِ فِي شَيْءٍ.
وَالْحَقِيقَةُ أَنَّ الْخَطَأَ فِي اتِّبَاعِ سَيْنَاءَ جُيُولُوجِيًّا أَوْ جُغْرَافِيًّا أَوْ طَبِيعِيًّا لِلْجَزِيرَةِ الْعَرَبِيَّةِ دُونَ مِصْرَ إِنَّمَا يَنْبُعُ مِنَ انْكِسَارٍ عَامٍّ فِي الرُّؤْيَةِ الْعِلْمِيَّةِ مِثْلَمَا يُذْكَرُ بِخِدَاعِ أَرِسْطُو، فَمِصْرُ وَالْجَزِيرَةُ كِلْتَاهُمَا نَظَائِرُ جُيُولُوجِيَّةٌ عَلَى ضِلْعَيِ الْأُخْدُودِ الْأَفْرِيقِيِّ بَعْدَ أَنْ كَانَتَا أَصْلًا وِحْدَةً جُيُولُوجِيَّةً وَاحِدَةً فِي الْكُتْلَةِ الْعَرَبِيَّةِ النُّوبِيَّةِ الصُّلْبَةِ، فَالتَّشَابُهُ الْجُيُولُوجِيُّ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْجَمِيعِ؛ سَيْنَاءُ وَمِصْرُ وَالْجَزِيرَةُ.
وَسَيْنَاءُ فِي هَذَا هِيَ الْعُقْدَةُ الْجُيُولُوجِيَّةُ مِثْلَمَا هِيَ الْعُقْدَةُ الْجُغْرَافِيَّةُ بَيْنَ الْجَانِبَيْنِ؛ إِلَّا أَنَّهَا دَائِمًا أَقْرَبُ جُيُولُوجِيًّا إِلَى صَحَرَاءِ مِصْرَ الشَّرْقِيَّةِ مِثْلَمَا هِيَ أَدْخَلُ جُغْرَافِيًّا فِي مِصْرَ الْأُمِّ عُمُومًا.
وَبِهَذَا فَإِنَّ السُّؤَالَ -أَفْرِيقِيَّةٌ أَمْ آسْيَوِيَّةٌ- مَحْسُومٌ عِلْمِيًّا، وَلَا مُبَرِّرَ لِحَيْرَةٍ أَوْ لِتَنَاقُضٍ؛ فَسَيْنَاءُ عَلَى الْمُسْتَوَى الطَّبِيعِيِّ أَفْرِيقِيَّةٌ أَكْثَرُ مِمَّا هِيَ آسْيَوِيَّةٌ، وَمِصْرِيَّةٌ أَكْثَرُ مِنْهَا عَرَبِيَّةٌ، كُلُّ هَذَا -لَاحِظْ- عَلَى الْمُسْتَوَى الطَّبِيعِيِّ فِي الْجُولُوجْيَا وَالْجُغْرَافْيَا وَالْأَرْضِ، أَمَّا فِي التَّارِيخِ فِتِلْكَ قِصَّةٌ أُخْرَى.
وَكُلُّ مَا يُمْكِنُ أَنْ نَقُولَهُ هُنَا هُوَ: أَنَّ مِصْرَ كَمَا هِيَ فِي أَفْرِيقْيَا بِالْجُغْرَافْيَا فَإِنَّهَا فِي آسْيَا بِالتَّارِيخِ، وَفِي هَذَا الْمَفْهُومِ فَإِنَّ مِصْرَ تَزْدَادُ آسْيَوِيَّةً بِالضَّرُورَةِ كُلَّمَا اتَّجَهْنَا شَمَالًا بِشَرْقٍ؛ فَالصَّحَرَاءُ الشَّرْقِيَّةُ أَكْثَرُ آسَيْوِيَّةً إِلَى حَدٍّ مَا مِنَ الْغَرْبِيَّةِ، وَسَيْنَاءُ أَكْثَرُ نَوْعًا مِنَ الِاثْنَتَيْنِ؛ وَلَكِنَّهَا فِي النِّهَايَةِ لَا تَزِيدُ آسْيَوِيَّةً وَلَا تَقِلُّ أَفْرِيقِيَّةً عَنْ مِصْرَ، إِنَّهَا بِكُلِّ بَسَاطَةٍ جُزْءٌ لَا يَتَجَزَّأُ مِنْ مِصْرَ، كَمَا تَذْهَبُ تَذْهَبُ)).
وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ.
أَمَّا بَعْدُ:
((الْحَرْبُ عَلَى الْأُمَّةِ فِي عَقِيدَتِهَا وَتَارِيخِهَا وَقِيَمِهَا))
فَلَيْسَ الْعَاقِلُ الَّذِي يَعْرِفُ الْخَيْرَ مِنَ الشَّرِّ، وَإِنَّمَا الْعَاقِلُ كُلُّ الْعَاقِلِ الَّذِي يَعْرِفُ خَيْرَ الْخَيْرَيْنِ لِيَأْخُذَهُ، وَشَرَّ الشَّرَّيْنِ لِيَطْرَحَهُ.
وَالْمُسْلِمُونَ الْيَوْمَ فِي جَوْلَةٍ مِنْ جَوْلَاتِ الصِّرَاعِ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ؛ الْكُفْرِ بِكُلِّ مُؤَسَّسَاتِهِ وَصُوَرِهِ، بِكُلِّ خُطَطِهِ وَدَسَائِسِهِ وَمُؤَامَرَاتِهِ، وَلِلْأَسَفِ هِيَ جَوْلَةٌ قَدْ يَخْسَرُ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ؛ لِأَنَّ أَبْنَاءَ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِمَّنْ يَتَوَجَّهُونَ إِلَى الْقِبْلَةِ مُصِرُّونَ عَلَى أَنْ يَتْرُكُوا انْتِمَاءَهُمُ الْحَقَّ، وَأَنْ يَتَوَجَّهُوا إِلَى قِبْلَةِ الْغَرْبِ بِدِينِ الْغَرْبِ الْفَاجِرِ، وَنُظُمِهِمُ الْبَاطِلَةِ الَّتِي إِنَّمَا اسَتَوْحَوْهَا مِنْ شَيَاطِينِهِمْ.
وَكَثِيرٌ مِنْ أَبْنَاءِ الْأُمَّةِ قَدْ غُيِّبَتْ عَنْهُمْ عُقُولُهُمْ، فَلَا يَعْرِفُونَ الْخَيْرَ مِنَ الشَّرِّ؛ فَضْلًا عَنْ مَعْرِفَةِ خَيْرِ الْخَيْرَيْنِ، وَمَعْرِفَةِ شَرِّ الشَّرَّيْنِ، وَهُوَ أَمْرٌ يُعَدُّ فِي بَابِ الْهَزَائِمِ هَزِيمَةً وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ مَا صُرِعَتْ أُمَّةٌ بِأَكْثَرَ مِنْ أَنْ تُصْرَعَ فِي مَيْدَانِ دِينِهَا وَيَقِينِهَا، وَعَقِيدَتِهَا وَانْتِمَائِهَا، مَا صُرِعَتْ أُمَّةٌ بِمِثْلِ أَنْ تُصْرَعَ فِي ثَوَابِتِهَا، وَأَنْ تُصَابَ فِي قِيَمِهَا، وَمُثُلِهَا، وَيَقِينِهَا، وَحَضَارَتِهَا، وَمَاضِيهَا، مَا صُرِعَتْ أُمَّةٌ بِمِثْلِ هَذَا الَّذِي يَقَعُ فِي الْأُمَّةِ الَّذِي تَجْرِي فِيهِ الْغَوْغَاءُ عَلَى سَنَنٍ إِلَّا أَنَّهُ مُعْوَجٌّ وَمُضْطَرِبٌ!
((تَحْذِيرُ الرَّئِيسِ الْأَمِرِيكِيِّ فَرَانْكِلِين مِنْ خَطَرِ الْيَهُودِ))
كِتَاب ((بُرُوتُوكُولَاتُ حُكَمَاءِ صُهْيُون)) كِتَابٌ يَحْتَوِي عَلَى أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ مَادَّةً أَوْ بُرُوتُوكُولةً، يُدَبِّرُ الْيَهُودُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمَوَادِّ خُطَطًا وَمَكَائِدَ لِلْبَشَرِيَّةِ كُلِّهَا فِي أَيِّ مَوْقِعٍ مِنَ الْأَرْضِ، يُدَبِّرُونَ ذَلِكَ بِعَمَلٍ تَعَاوُنِيٍّ يُرِيدُونَ مِنْ وَرَائِهِ بَسْطَ النُّفُوذِ وَالسَّيْطَرَةَ عَلَى الْعَالَمِ كُلِّهِ، يُرِيدُونَ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ التَّحَكُّمَ فِي مَصَائِرِ شُعُوبِ الْأَرْضِ ضِمْنَ حُلْمِهِمُ الَّذِي يُدَبِّرُونَ فِيهِ أَنْ يَكُونَ الْعَالَمُ كُلُّهُ بِأُمَمِهِ، وَخَيْرَاتِهِ، وَاقْتِصَادِهِ، وَعِلْمِهِ، وَفِكْرِهِ، وَزِرَاعَتِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِي الْأَرْضِ مِنْ مَعَارِفَ وَعُلُومٍ وَبَشَرٍ؛ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كُلُّهُ مُسَخَّرًا لَهُمْ، وَتَحْتَ هَيْمَنَةِ حُكْمِهِمْ بِقِيَادَةِ مَلِكِهِمْ وَمُسْتَشَارِهِمُ الَّذِي يَدَّعُونَ!
إِنَّ خَطَرَ الْيَهُودِ قَدِ الْتَفَتَ إِلَيْهِ قَبْلُ الرَّئِيسُ الْأَمِرِيكِيُّ (بِنْيَامِين فَرَانْكِلِين)، أَدْرَكَ ذَلِكَ، وَأَدْرَكَ أَثَرَ دَسَائِسِهِمْ عَلَى الْمُجْتَمَعِ الْأَمِرِيكِيِّ فِي وَقْتٍ مُبَكِّرٍ، وَاهْتَمَّ بِتَنْبِيهِ بَنِي جِلْدَتِهِ حُكَّامًا وَمَحْكُومِينَ إِلَى خَطَرِ الْيَهُودِ، فَأَعْلَنَ (فَرَانْكِلِين) فِي الْمُؤْتَمَرِ الَّذِي انْعَقَدَ لِإِعْلَانِ الدُّسْتُورِ فِي الْوِلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةِ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ وَسَبْعِ مِائَةٍ وَأَلْفٍ (1789 م)؛ أَعْلَنَ مُوَجِّهًا إِنْذَارًا شَدِيدًا لِلشَّعْبِ الْأَمِرِيكِيِّ يُحَذِّرُ فِيهِ مِنْ خَطَرِ الْيَهُودِ وَمَكَائِدِهِمْ عَلَيْهِمْ، وَجَاءَ فِي تِلْكَ الْكَلِمَةِ قَوْلُهُ: ((هُنَاكَ خَطَرٌ عَظِيمٌ يُهَدِّدُ الْوِلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةَ الْأَمِرِيكِيَّةَ، وَذَلِكَ الْخَطَرُ هُوَ الْيَهُودُ، يَجِبُ الْحَذَرُ مِنْهُمْ؛ فَهُمْ حَيْثُمَا اسْتَقَرُّوا يُوهِنُونَ مِنْ عَزِيمَةِ الشَّعْبِ، وَيُزَعْزِعُونَ الْخُلُقَ التُّجَارِيَّ الشَّرِيفَ.
إِنَّهُمْ كَوَّنُوا حُكُومَةً دَاخِلَ الْحُكُومَةِ، وَحِينَمَا يَجِدُونَ مُعَارَضَةً مِنْ أَحَدٍ فَإِنَّهُمْ يَعْمَلُونَ عَلَى خَنْقِ الْأُمَّةِ مَالِيًّا، كَمَا حَدَثَ لِلْبُرْتُغَالِ وَإِسْبَانْيَا، وَمُنْذُ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ وَسَبْعِ مِائَةِ (1700) عَامٍ وَهُمْ يَنْدُبُونَ مَصِيرَهُمْ لَا لِشَيْءٍ إِلَّا لِادِّعَائِهِمْ أَنَّهُمْ طُرِدُوا مِنَ الْوَطَنِ الْأُمِّ، وَلَكِنْ تَأَكَّدُوا أَنَّهُمْ إِذَا أُعِيدَ إِلَيْهِمُ الْيَوْمَ، وَأَعَادَ إِلَيْهِمْ عَالَمُنَا الْمُتَمَدْيِنُ فِلَسْطِينَ؛ فَإِنَّهُمْ سَيَجِدُونَ الْمُبَرِّرَاتِ الْكَثِيرَةَ لِعَدَمِ الْعَوْدَةِ إِلَيْهَا، أَوْ لِلِاكْتِفَاءِ بِهَا؛ لِمَاذَا؟
الْجَوَابُ: لِأَنَّهُمْ مِثْلُ الطُّفَيْلِيَّاتِ الَّتِي لَا تَعِيشُ إِلَّا عَلَى غَيْرِهَا، هُمْ مَصَّاصُو الدِّمَاءِ!)).
يَقُولُ هَذَا رَئِيسٌ أَمِرِيكِيٌّ وَاعٍ، لَمْ يَكُنْ مَاسُونِيًّا؛ وَهُوَ (بِنْيَامِين فَرَانْكِلِين)، وَيُوَجِّهُ ذَلِكَ لِلْأُمَّةِ الْأَمِرِيكِيَّةِ فِي حِينِهِ وَبَعْدَ حِينِهِ، يَقُولُ: هُمْ مَصَّاصُو الدِّمَاءِ، وَمَصَّاصُو الدِّمَاءِ لَا يَعِيشُونَ إِلَّا عَلَى مَصَّاصِي دِمَاءٍ آخَرِينَ، فَهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَعِيشُوا فَقَطْ بَيْنَهُمْ أَوْ مَعَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، إِنَّهُمْ لَا بُدَّ أَنْ يَعِيشُوا بَيْنَ النَّصَارَى وَبَيْنَ الْآخَرِينَ الَّذِينَ هُمْ لَيْسُوا مِنْ جِنْسِهِمْ.
يَقُولُ (بِنْيَامِين فَرَانْكِلِين): ((أَنَا أَتَّفِقُ تَمَامًا مَعَ الْجِنِرَالِ (جُورْج وَاشُنْطُن)؛ لِأَنَّنَا يَجِبُ أَنْ نَحْمِيَ هَذِهِ الْأُمَّةَ الْوَلِيدَةَ -يَعْنِي: الْوِلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةَ- مِنْ مُحَاوَلَاتِ الِاخْتِرَاقِ وَالتَّأْثِيرِ الْمَاكِرِ، وَهَذَا التَّأْثِيرُ هُمُ الْيَهُودُ، فِي أَيِّ دَوْلَةٍ اسْتَوْطَنَهَا الْيَهُودُ بِأَعْدَادٍ كَبِيرَةٍ فَإِنَّهُمْ قَضَوْا فِيهَا عَلَى الْأَخْلَاقِ، وَهَبَطُوا بِرُوحِهَا الْمَعْنَوِيَّةِ، وَإِذَا لَمْ يُمْنَعِ الْيَهُودُ مِنَ الْهِجْرَةِ إِلَى الْوِلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةِ بِمُوجَبِ الدُّسْتُورِ الْأَمِرِيكِيِّ؛ فَفِي خِلَالِ مِائَتَيْ عَامٍ سَيُصْبِحُ حَفَدَتُنَا خَادِمِينَ وَعَامِلِينَ فِي مَزَارِعِهِمْ وَحُقُولِهِمْ، بَيْنَمَا هُمْ جَالِسُونَ فِي بُيُوتِ الْمَالِ يَفْرُكُونَ أَيْدِيَهُمْ فِي نَشْوَةٍ، وَسَيَحْكُمُونَنَا، وَيُدَمِّرُونَنَا، وَيُغَيِّرُونَ شَكْلَ الْحُكُومَةِ الَّتِي ضَحَّيْنَا وَبَذَلْنَا لِإِقَامَتِهَا بِدِمَائِنَا وَحَيَاتِنَا وَأَمْوَالِنَا وَحُرِّيَّتِنَا الْفَرْدِيَّةِ.
يَقُولُ: أَنَا أُحَذِّرُكُمْ -أَيُّهَا السَّادَةُ- إِذَا لَمْ تَمْنَعُوا الْيَهُودَ، وَتَتَجَنَّبُوهُمْ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ؛ فَسَيَلْعَنُكُمْ أَبْنَاؤُكُمْ فِي قُبُورِكُمْ، وَسَيَذْكُرُ الشَّعْبُ الْأَمِرِيكِيُّ كَلَامِي هَذَا)).
وَلِلْأَسَفِ لَا يَذْكُرُهُ الشَّعْبُ الْأَمِرِيكِيُّ، وَلَنْ يَذْكُرَهُ، لَقَدْ تَسَلَّلَ الْيَهُودُ فَتَمَكَّنُوا، فَصَارَتِ الْوِلَايَاتُ الْمُتَّحِدَةُ الْيَهُودِيَّةُ!
يَقُولُ: ((أَيُّهَا السَّادَةُ! دَعُوا الْيَهُودَ يُولَدُونَ أَيْنَمَا وُلِدُوا؛ حَتَّى وَإِنْ وُلِدَتْ أَجْيَالُهُمْ أَبْعَدَ مَا يَكُونُ عَنْ آسْيَا فَلَنْ يَكُونُوا شَيْئًا آخَرَ، فَأَفْكَارُهُمْ لَا تَتَوَافَقُ وَلَا تَتَمَاشَى مَعَ أَفْكَارِ الْأَمِرِيكَانِ؛ حَتَّى وَلَوْ عَاشُوا وَسَطَنَا مَعَنَا لِعَشْرَةِ أَجْيَالٍ؛ فَالنَّمِرُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُغَيِّرَ جِلْدَهُ، وَالْيَهُودُ تَهْدِيدٌ لِهَذَا الْبَلَدِ إِذَا سُمِحَ لَهُمْ بِدُخُولِهِ، وَيَجِبُ أَنْ يُبْعَدُوا عَنْهُ بِوَاسِطَةِ هَذَا الدُّسْتُورِ)).
كَانَ ذَلِكَ فِي مُؤْتَمَرِ إِعْلَانِ الدُّسْتُورِ..
فِي هَذِهِ الْوَثِيقَةِ الْتَفَتَ (بِنْيَامِين فَرَانْكِلِين) لِخَطَرِ الْيَهُودِ، وَحَذَّرَ قَوْمَهُ مِنْ خَطَرِهِمْ، فَلَمْ يَلْتَفِتُوا لِتَحْذِيرِهِ، وَتَغَلْغَلَ أُولَئِكَ الصُّهْيُونِيُّونَ فِي ذَلِكَ الْمُجْتَمَعِ، ثُمَّ صَارُوا الْيَوْمَ كَأَنَّهُمْ يَحْكُمُونَ الْعَالَمَ عَلَى حَسَبِ حُلْمِهِمُ الْقَدِيمِ، فَتَوَجَّهَ مَا تَوَجَّهَ مِنَ الْأَوَامِرِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ يَكُونُونَ، وَيَكُونُ حُلَفَاؤُهُمْ وَصَنَاؤُعُهُمْ تَتَوَجَّهُ أَوَامِرُهُمْ إِلَى الْحُكُومَاتِ فِي الْعَالَمِ وَكَأَنَّهَا مِنْ بَعْضِ الْوِلَايَاتِ الَّتِي تَتْبَعُهُمْ؛ وَذَلِكَ كُلُّهُ لِأَنَّ الْجَمَاهِيرَ قَدْ غُيِّبَتْ؛ وَلِأَنَّ النَّاسَ قَدْ فُرِّغُوا مِنْ عَقَائِدِهِمْ -إِلَّا مَنْ رَحِمَهُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا--.
((الْمُخَطَّطُ الصُّهْيُوصَلِيبِيُّ لِتَفْتِيتِ الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ))
الَّذِينَ لَمْ يَقْرَؤُوا التَّارِيخَ يَظُنُّونَ مَا صَنَعَتْهُ أَمِرِيكَا بِالْعِرَاقِ مِنِ احْتِلَالٍ وَتَقْسِيمٍ أَمْرًا مُفَاجِئًا جَاءَ وَلِيدَ الْأَحْدَاثِ الَّتِي أَنْتَجَتْهُ، وَأَنَّ مَا حَدَثَ فِي جَنُوبِ السُّودَانِ لَهُ دَوَافِعُ وَأَسْبَابٌ؛ وَلَكِنَّ الْحَقِيقَةَ الْكُبْرَى أَنَّهُمْ نَسُوا أَنَّ مَا يَحْدُثُ الْآنَ هُوَ تَحْقِيقٌ وَتَنْفِيذٌ لِلْمُخَطَّطِ الِاسْتِعْمَارِيِّ الَّذِي خَطَّطَتْهُ وَصَنَعَتْهُ وَصَاغَتْهُ وَأَعْلَنَتْهُ الصُّهْيُونِيَّةُ وَالصَّلِيبِيَّةُ الْعَالَمِيَّةُ لِتَفْتِيتِ الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ، وَتَجْزِئَتِهِ، وَتَحْوِيلِهِ إِلَى فُسَيْفِسَاءٍ وَرَقِيَّةٍ يَكُونُ فِيهَا الْكِيَانُ الصُّهْيُونِيُّ السَّيِّدَ الْمُطَاعَ، وَذَلِكَ مُنْذُ إِنْشَاءِ هَذَا الْكِيَانِ الصُّهْيُونِيِّ عَلَى أَرْضِ فِلَسْطِينَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَتِسْعِ مِائَةٍ وَأَلْفٍ (1948 م).
وَعِنْدَمَا نَذْكُرُ الْوَثِيقَةَ الْخَطِيرَةَ لِـ(بِرْنَارْد لُوِيس) فَإِنَّنَا نَهْدُفُ إِلَى تَعْرِيفِ الْمُسْلِمِينَ بِالْمُخَطَّطِ؛ خَاصَّةً الشَّبَابِ الَّذِينَ هُمْ عِمَادُ الْأُمَّةِ، وَصَانِعُو قُوَّتِهَا وَحَضَارَتِهَا وَنَهْضَتِهَا، وَالَّذِينَ تَعَرَّضُوا لِأَكْبَرِ عَمَلِيَّةِ غَسِيلِ مُخٍّ، يَقُومُ بِهَا فَرِيقٌ يَعْمَلُ بِدَأَبٍ لِخِدْمَةِ الْمَشْرُوعِ الصُّهْيُونِيِّ الْأَمِرِيكِيِّ الصَّلِيبِيِّ؛ لِوَصْمِ تِلْكَ الْمُخَطَّطَاتِ بِأَنَّهَا مُجَرَّدُ نَظَرِيَّةِ الْمُؤَامَرَةِ، رَغْمَ مَا نَرَاهُ رَأْيَ الْعَيْنِ مَاثِلًا أَمَامَنَا مِنْ حَقَائِقَ فِي فِلَسْطِينَ، وَفِي الْعِرَاقِ، وَفِي السُّودَانِ، وَفِي لِيبْيَا، وَسُورِيَّا، وَالْيَمَنِ، وَفِي أَفْغَانِسْتَان، وَالْبَقِيَّةُ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ إِذَا غَفَلْنَا؛ حَتَّى لَا نَنْسَى مَا حَدَثَ لَنَا وَمَا يَحْدُثُ الْآنَ، وَمَا سَوْفَ يَحْدُثُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَيَكُونُ دَافِعًا لَنَا عَلَى الْعَمَلِ وَالْحَرَكَةِ لِوَقْفِ الطُّوفَانِ الْقَادِمِ.
صَاحِبُ مُخَطَّطِ التَّقْسِيمِ -تَقْسِيمِ الْمَنْطِقَةِ-، وَهُوَ الْمُخَطَّطُ الَّذِي اعْتَمَدَتْهُ الْخَارِجِيَّةُ الْأَمِرِيكِيَّةُ وَالْإِدَارَةُ الْأَمِرِيكِيَّةُ؛ صَاحِبُ الْمُخَطَّطِ هُوَ (بِرْنَارْد لُوِيس) الْعَرَّابُ الصُّهْيُونِيُّ، أَعْدَى أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ الْعَصْرِ الْحَدِيثِ، صَاحِبُ أَخْطَرِ مَشْرُوعٍ فِي هَذَا الْقَرْنِ -فِي الْقَرْنِ الْعِشْرِينَ-؛ لِتَفْتِيتِ الْعَالَمِ الْعَرَبِيِّ وَالْإِسْلَامِيِّ مِنْ بَاكِسْتَانَ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَالَّذِي نَشَرَتْهُ مَجَلَّةُ وَزَارَةِ الدِّفَاعِ الْأَمِرِيكِيَّةِ.
هَذَا الصُّهْيُونِيُّ الْعَتِيدُ وَضَعَ ذَلِكَ الْمُخَطَّطَ، وَلَهُ تَفَاصِيلُ أَكْتَفِي بِمَا يَتَعَلَّقُ بِمِصْرَ -حَفِظَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ-، فَفِيمَا يَخُصُّ مِصْرَ تُقَسَّمُ إِلَى أَرْبَعِ دُوَيْلَاتٍ:
* سَيْنَاءُ، وَشَرْقُ الدِّلْتَا تَحْتَ النُّفُوذِ الْيَهُودِيِّ؛ لِيَتَحَقَّقَ حُلْمُ الْيَهُودِ مِنَ النِّيلِ إِلَى الْفُرَاتِ.
* الدُّوَيْلَةُ الثَّانِيَةُ: الدُّوَيْلِةُ النَّصْرَانِيَّةُ عَاصِمَتُهَا الْإِسْكَنْدَرِيَّةُ، تَمْتَدُّ مِنْ جَنُوبِ بَنِي سُوَيْف حَتَّى جَنُوِب أَسْيُوط، وَتَتَّسِعُ غَرْبًا لِتَضُمَّ الْفَيُّومَ، وَتَمْتَدُّ فِي خَطٍّ صَحْرَاوِيٍّ عَبْرَ وَادِي النَّطْرُون؛ لِيَرْبِطَ هَذِهِ الْمَنْطِقَةَ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَقَدِ اتَّسَعَتْ لِتَضُمَّ -أَيْضًا- جُزْءًا مِنَ الْمَنْطِقَةِ السَّاحِلِيَّةِ الْمُمْتَدَّةِ حَتَّى مَرْسَى مَطْرُوح.
* الدُّوَيْلَةُ الثَّالِثَةُ: دُوَيْلَةُ النُّوبَةِ، تَتَكَامَلُ مَعَ الْأَرَاضِي الشَّمَالِيَّةِ السُّودَانِيَّةِ، عَاصِمَتُهَا أَسْوَان، وَتَرْبِطُ الْجُزْءَ الْجَنُوبِيَّ الْمُمْتَدَّ مِنْ صَعِيدِ مِصْرَ حَتَّى شَمَالِ السُّودَانِ بِاسْمِ بِلَادِ النُّوبَةِ بِمَنْطِقَةِ الصَّحَرَاءِ الْكُبْرَى؛ لِتَلْتَحِمَ مَعَ الدَّوْلَةِ الْبَرْبَر الَّتِي سَوْفَ تَمْتَدُّ مِنْ جَنُوبِ الْمَغْرِبِ حَتَّى الْبَحْرِ الْأَحْمَرِ.
* وَأَمَّا مِصْرُ الْإِسْلَامِيَّةُ فَتَكُونُ عَاصِمَتُهَا الْقَاهِرَةَ، وَهِيَ الْجُزْءُ الْمُتَبَقِّي مِنْ مِصْرَ، يُرَادُ لَهَا أَنْ تَكُونَ -أَيْضًا- تَحْتَ النُّفُوذِ الْإِسْرَائِيلِيِّ الْيَهُودِيِّ؛ حَيْثُ تَدْخُلُ فِي نِطَاقِ إِسْرَائِيلَ الْكُبْرَى الَّتِي يَطْمَعُ الْيَهُودُ فِي إِنْشَائِهَا!
لَا جَدِيدَ تَحْتَ الشَّمْسِ، كُلُّ مَا يَحْدُثُ كَانَ مَعْلُومًا سَابِقًا، لَيْسَ هُوَ بِالشَّيْءِ الْجَدِيدِ، كُلُّهُ مَعْلُومٌ، وَكُلُّهُ وَاضِحٌ، وَالتَّخْطِيطُ لَهُ كَانَ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ، لَمْ يَكُنْ فِي الْكُهُوفِ الْمُظْلِمَةِ، وَتَنْفِيذُهُ يَتِمُّ تَحْتَ أَعْيُنِ الْجَمِيعِ.
أَلَا تَرَوْنَ؟!
أَلَا تَسْمَعُونَ؟!
وَلَكِنْ مَاذَا تَصْنَعُونَ؟!
لَا شَيْءَ!!
كَثْرَةٌ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ؛ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ)).
وَالنَّبِيُّ ﷺ يَذْكُرُ تَدَاعِيَ الْأُمَمِ كَمَا يَحْدُثُ الآنَ، هَذِهِ الدُّوَلُ الْغَرْبِيَّةُ مَعَ أَمِرِيكَا تَتَدَاعَى عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ كَتَدَاعِي الْأَكَلَةِ إِلَى قَصْعَتِهَا، هَلُمُّوا هَلُمُّوا إِلَى الثَّرِيدِ وَاللَّحْمِ بِغَيْرِ مَشَقَّةٍ وَلَا تَعَبٍ وَلَا عَنَاءٍ، «يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا -أَوْ: عَلَى قَصْعَتِهَا-».
فَقَالَ قَائِلٌ: ((وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟)).
فَقَالَ: ((بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزِعَنَّ اللهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ)).
فَقَالَ قَائِلٌ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! وَمَا الْوَهْنُ؟)).
قَالَ: ((حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ)).
الْأَمْرُ وَاضِحٌ..
نَسْأَلُ اللهَ حُسْنَ الْخِتَامِ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
المصدر: سَيْنَاءُ الْمُبَارَكَةُ