الْأَبْعَادُ الْإِنْسَانِيَّةُ وَمَخَاطِرُ تَجَاهُلِهَا

الْأَبْعَادُ الْإِنْسَانِيَّةُ وَمَخَاطِرُ تَجَاهُلِهَا

((الْأَبْعَادُ الْإِنْسَانِيَّةُ وَمَخَاطِرُ تَجَاهُلِهَا))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((الْإِسْلَامُ دِينُ رَحْمَةٍ لِلْعَالَمِينَ))

فَإِنَّ الْإسْلَامَ هُوَ دِينُ الرَّحْمَةِ.. دِينُ الرَّحْمَةِ حَتَّى بِالْحَيَوَانَاتِ مَهْمَا صَغُرَتْ؛ فَإنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يَقْبَل أَنْ تُحْرَقَ قَرْيَةُ النَّمْلِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ «لَا يُعَذِّبُ بِعَذَابِ اللهِ إِلَّا اللهُ».

إنَّ النَّبيَّ ﷺ لَمْ يَقْبَلْ أَنْ يَنْزِلَ الْعِقَابُ بِغَيْرِ النَّمْلَةِ الْجَانِيَةِ، فَأَخْبَرَ: «أَنَّ نَبيًّا نَزَلَ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَقَرَصَتْهُ نَمْلَةٌ، فَأَمَرَ بِمَتَاعِهِ أنْ يُنْقَلَ، ثُمَّ أَمَرَ بِحَرْقِ قَرْيَةِ النَّمْلِ، فقَالَ: فَهَلَّا نَمْلَةً وَاحِدَةً!! -يَعْنِي: عَاقِبِ الَّتِي قَرَصَتْكَ-. أَهْلَكْتَ أُمَّةً تُسَبِّحُ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- ))؛ لأنَّ نَمْلَةً قَرَصَتْكَ.

هَذَا هُوَ نَبِيُّكُمْ ﷺ.

دِينٌ جَاءَ رَحْمَةً لِلنَّاسِ أَجْمَعِينَ، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}.

قَالَ ﷺ فِيمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ: «إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ».

إنَّهُ دِينُ الرَّحْمَةِ.. الرَّحْمَةِ الشَّامِلَةِ التي تَشْمَلُ كُلَّ الْأَحْيَاءِ.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ، إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَنَزَعَتْ مُوقَهَا -أَيْ: خُفَّهَا- فَاسْتَقَتْ لَهُ بِهِ -أَيْ: بِالْخُفِّ-، فَسَقَتْهُ -أَيْ: فسَقَتِ الْكَلْبَ- فَسَقَتْهُ إِيَّاهُ، فَغُفِرَ لَهَا بِهِ».

فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ مِنْ دِينٍ يَرْحَمُ رَبُّهُ مَنْ رَحِمَتْ كَلْبًا، وَهِيَ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، كَيْفَ يُتَصَوَّرُ مِنْ دِينٍ يَرْحَمُ مَنْ أَنْزَلَهُ مَنْ كَانَتْ كَذَلِكَ لِرَحْمَتِهَا كَلْبًا أَنْ يُتَّهَمَ بِأَنَّهُ لَا يَحُثُّ عَلَى رَحْمَةِ الْإنْسَانِ؟!!

عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ: «دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ»؛ أَيْ: مِنْ هَوَامِّهَا، هَذِهِ امْرَأَةٌ يُعذِّبُهَا اللهُ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَرْحَمْ هَذَا الْحَيَوَانَ، فَكَيْفَ بِمَنْ لَمْ يَرْحَمْ إِنْسَانًا مِنْ بَنِي آدَمَ؟!

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِلَّذِي كَانَ يَذْبَحُ شَاةً وَأُخْتُهَا تَنْظُرُ إليْهَا: «أنُزِعَتِ الرَّحْمَةُ مِنْ قَلْبِكَ، تُرِيدُ أنْ تُمِيتَهَا مَوْتَاتٍ؟!».


دِينُنَا الْحَنِيفُ دِينُ الرَّحْمَةِ الَّتِي اسْتَمَدَّتْ أَبْعَادَهَا مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ الْمُشَرَّفَةِ؛ حَيْثُ يَقُولُ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ-: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].

((يُخْبِرُ -تَعَالَى- أَنَّهُ جَعَلَ مُحَمَّدًا ﷺ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ؛ أَيْ: أَرْسَلَهُ رَحْمَةً لَهُمْ كُلِّهِمْ، فَمَنْ قَبِلَ هَذِهِ الرَّحْمَةَ وَشَكَرَ هَذِهِ النِّعْمَةَ؛ سَعِدَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ رَدَّهَا وَجَحَدَهَا؛ خَسِرَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)).

 وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].

((يُخْبِرُ -تَعَالَى- أَنَّهُ خَلَقَ بَنِي آدَمَ مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ وَجِنْسٍ وَاحِدٍ، وَكُلُّهُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، وَيَرْجِعُونَ جَمِيعُهُمْ إِلَى آدَمَ وَحَوَّاءَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- بَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً، وَفَرَّقَهُمْ، وَجَعَلَهُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ أَيْ: قَبَائِلَ صِغَارًا وَكِبَارًا، وَذَلِكَ لِأَجْلِ أَنْ يَتَعَارَفُوا؛ فَإِنَّهُمْ لَوِ اسْتَقَلَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِنَفْسِهِ لَمْ يَحْصُلْ بِذَلِكَ التَّعَارُفُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ التَّنَاصُرُ وَالتَّعَاوُنُ، وَالتَّوَارُثُ، وَالْقِيَامُ بِحُقُوقِ الْأَقَارِبِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ جَعَلَهُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ؛ لِأَجْلِ أَنْ تَحْصُلَ هَذِهِ الْأُمُورُ وَغَيْرُهَا، مِمَّا يَتَوَقَّفُ عَلَى التَّعَارُفِ، وَلُحُوقِ الْأَنْسَابِ.

وَلَكِنَّ الْكَرَمَ بِالتَّقْوَى، فَأَكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ، وَهُوَ أَكْثَرُهُمْ طَاعَةً وَانْكِفَافًا عَنِ الْمَعَاصِي، لَا أَكْثَرُهُمْ قَرَابَةً وَقَوْمًا، وَلَا أَشْرَفُهُمْ نَسَبًا، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلِيمٌ خَبِيرٌ، يَعْلَمُ مَنْ يَقُومُ مِنْهُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا مِمَّنْ يَقُومُ بِذَلِكَ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا، فَيُجَازِي كُلًّا بِمَا يَسْتَحِقُّ)).

لَقَدْ كَرَّمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ذُرِّيَّةَ آدَمَ بِالْعَقْلِ وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَسَخَّرَ لَهُمْ جَمِيعَ مَا فِي الْكَوْنِ، وَسَخَّرَ لَهُمُ الدَّوَابَّ فِي الْبَرِّ، وَالسُّفُنَ فِي الْبَحْرِ لِحَمْلِهِمْ، وَرَزَقَهُمْ مِنْ طَيِّبَاتِ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ، وَفَضَّلَهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ تَفْضِيلًا عَظِيمًا، قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70].

((وَهَذَا مِنْ كَرَمِهِ عَلَيْهِمْ وَإِحْسَانِهِ الَّذِي لَا يُقَادَرُ قَدْرُهُ؛ حَيْثُ كَرَّمَ بَنِي آدَمَ بِجَمِيعِ وُجُوهِ الْإِكْرَامِ، فَكَرَّمَهُمْ بِالْعِلْمِ وَالْعَقْلِ وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ، وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْأَوْلِيَاءَ وَالْأَصْفِيَاءَ، وَأَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِالنِّعَمِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ.

{وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ} عَلَى الرِّكَابِ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَالْمَرَاكِبِ الْبَرِّيَّةِ، وَفِي {الْبَحْرِ}: فِي السُّفُنِ وَالْمَرَاكِبِ، {وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ}: مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَنَاكِحِ، فَمَا مِنْ طَيِّبٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ حَوَائِجُهُمْ إِلَّا وَقَدْ أَكْرَمَهُمُ اللَّهُ بِهِ، وَيَسَّرَهُ لَهُمْ غَايَةَ التَّيْسِيرِ.

{وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}: بِمَا خَصَّهُمْ بِهِ مِنَ الْمَنَاقِبِ وَفَضَّلَهُمْ بِهِ مِنَ الْفَضَائِلِ الَّتِي لَيْسَتْ لِغَيْرِهِمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ، أَفَلَا يَقُومُونَ بِشُكْرِ مَنْ أَوْلَى النِّعَمَ وَدَفَعَ النِّقَمَ، وَلَا تَحْجُبُهُمُ النِّعَمُ عَنِ الْمُنْعِمِ فَيَشْتَغِلُوا بِهَا عَنْ عِبَادَةِ رَبِّهِمْ، بَلْ رُبَّمَا اسْتَعَانُوا بِهَا عَلَى مَعَاصِيهِ)).

إِنَّ الْعَدْلَ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ أَعْظَمِ الْمَبَادِئِ الَّتِي أَعْلَى الْإِسْلَامُ مِنْ شَأْنِهَا؛ فَلَا فَضْلَ لِأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا بِحُسْنِ الْعَمَلِ وَالتَّقْوَى؛ فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فَقَالَ: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَعَاظُمَهَا بِآبَائِهَا، فَالنَّاسُ رَجُلَانِ: بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ، وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ، وَخَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مِنَ التُّرَابِ، قَالَ اللَّهُ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13])). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ)). أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي ((الْحِلْيَةِ))، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي ((الشُّعَبِ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

((مِنْ مَعَالِمِ رَحْمَةِ الْإِسْلَامِ: الشَّفَقَةُ بِالضُّعَفَاءِ وَكِبَارِ السِّنِّ))

مِنْ أَهَمِّ مَعَالِمِ رَحْمَةِ دِينِ الْإِسْلَامِ: الشَّفَقَةُ بِالضُّعَفَاءِ وَالْأَطْفَالِ، وَاحْتِرَامُ كِبَارِ السِّنِّ، وَإِعْطَاءُ ذَوِي الْهِمَمِ حُقُوقَهُمْ كَامِلَةً غَيْرَ مَنْقُوصَةٍ، حَيْثُ يَقُولُ نَبِيُّنَا ﷺ: ((هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ)).

وَفِي رِوَايَةٍ: «.. بِدَعْوَتِهِمْ وَصَلَاتِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ»..

وَقَدْ أَعْطَى الْإِسْلَامُ الْكَبِيرَ حَقَّهُ مِنَ الشَّرَفِ وَالتَّقْدِيرِ وَالتَّوْقِيرِ؛ لِمَا خُصَّ بِهِ مِنَ السَّبْقِ فِي الْوُجُودِ وَتَجْرِبَةِ الْأُمُورِ.

وَإِجْلَالُ الْكَبِيرِ هُوَ حَقُّ سِنِّهِ؛ لِكَوْنِهِ تَقَلَّبَ فِي الْعُبُودِيَّةِ لِلهِ فِي أَمَدٍ طَوِيلٍ، وَرَحْمَةُ الصَّغِيرِ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- رفَعَ عَنْهُ التَّكْلِيفَ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيَعْرِفْ حَقَّ كَبِيرِنَا، فَلَيْسَ مِنَّا». وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَالْحَاكِمُ فِي «الْمُسْتَدْرَكِ»، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

قَوْلُهُ ﷺ: «فَلَيْسَ مِنَّا»؛ أَيْ: لَيْسَ عَلَى سُنَّتِنَا، أَوْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْكَمَالِ مِنَّا.

وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ سَبَبَ رَحْمَةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يَرْحَمَ الْإِنْسَانُ خَلْقَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: فَعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ «مَنْ لَا يَرْحَمُ النَّاسَ لَا يَرْحَمُهُ اللهُ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ». أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَغَيْرُهُمْ.

((مِنْ مَعَالِمِ عَظَمَةِ الْإِسْلَامِ: رَحْمَتُهُ فِي الْحُرُوبِ))

لَقَدْ بَلَغَتِ الْقِيَمُ فِي الْإِسْلَامِ أَوْجَ عَظَمَتِهَا حِينَ شَدَّدَتْ عَلَى مُرَاعَاةِ الرَّحْمَةِ حَتَّى فِي الْحُرُوبِ؛ فَإِذَا تَأَمَّلْتَ مَوْقِفَ الْإِسْلَامِ مِنِ امْتِدَادِ الْحَرْبِ، وَالْقِتَالِ لِغَيْرِ الْمُقَاتِلِينَ؛ أَدْرَكْتَ عَظَمَةَ هَذَا الدِّينِ، وَعُمْقَ سَمَاحَتِهِ؛ فَعِنْدَمَا يَأْتِي النَّهْيُ الْقَاطِعُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَمِنْ خُلَفَائِهِ عَنِ اسْتِهْدَافِ: النِّسَاءِ، وَالْوِلْدَانِ، وَالشُّيُوخِ، وَالزَّمْنَى -يَعْنِي: أَصْحَابَ الْعَاهَاتِ-، وَالرُّهْبَانِ، وَالْفَلَّاحِينَ، وَالْأُجَرَاءِ؛ تَعْلَمُ عِنْدَئِذٍ الْمَوْقفَ الْحَقِيقِيَّ لِلْإِسْلَامِ مِنِ اسْتِهْدَافِ «الْمَدَنِيِّينَ» بِالْمُصْطَلَحِ الْحَدِيثِ.

إِذَا تَأَمَّلْتَ هَذِهِ الْأَصْنَافَ: «النِّسَاءَ، الْوِلْدَانَ، الشُّيُوخَ، الْمَعْتُوهِينَ، الْأُجَرَاءَ، الْفَلَّاحِينَ، الرُّهْبَانَ، الْعَبِيدَ، الْوُصَفَاءَ»؛ إِذَا تَأَمَّلْتَ هَذِهِ الْأَصْنَافَ أَدْرَكْتَ أَنَّ هَؤُلَاءِ فِي مَجْمُوعِهِمْ يُمَثِّلُونَ مَنْ لَا يَنْتَصِبُونَ لِلْقِتَالِ، وَلَا يُشَارِكُونَ فِي وَقَائِعِهِ.

وَمِنْ هُنَا جَاءَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ بِحُرْمَةِ قَتْلِ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْمُقَاتَلَةِ وَالْمُمَانَعَةِ، أَوْ كَانَ مِنَ الْمَدَنِيِّينَ بِالْمُصْطَلَحِ الْحَدِيثِ.

وَهَذَا النَّهْيُ عَنِ اسْتِهْدَافِ الْمَدَنِيِّينَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْمُقَاتَلةِ وَالْمُمَانَعَةِ لَمْ يَأْتِ نَتِيجَةَ اخْتِيَارٍ فِقْهِيٍّ، وَلَا تَرْجِيحٍ مَصْلَحِيٍّ، وَإِنَّمَا جَاءَ النَّصُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنِ اسْتِهْدَافِ أَغْلَبِ هَذِهِ الْأَصْنَافِ بِبَيَانٍ نَبَوِيٍّ وَوَحْيٍ إِلَهِيٍّ، مِمَّا يَرْفَعُ دَرَجَةَ هَذَا النَّهْيِ فِي نَفْسِ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ إِلَى أَعْلَى دَرَجَاتِ الْحَذَرِ مِنْ مُخَالَفَتِهِ.

عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: «وُجِدَتِ امْرَأَةٌ مَقْتُولَةً فِي بَعْضِ مَغَازِي رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ». أَخْرَجَاهُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ».

وَعَنِ ابْنِ رَبَاحِ بْنِ رَبِيعٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي غَزْوَةٍ، فَرَأَى النَّاسَ مُجْتَمِعِينَ عَلَى شَيْءٍ، فَبَعَثَ رَجُلًا فَقَالَ: «انْظُرْ عَلَامَ اجْتَمَعَ هَؤُلَاءِ؟»

فَقَالَ: ((عَلَى امْرَأَةٍ قَتِيلٍ)).

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِلَ».

قَالَ: وَعَلَى الْمُقَدِّمَةِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: فَبَعَثَ رَجُلًا فَقَالَ: «قُلْ لِخَالِدٍ لَا يَقْتُلَنَّ امْرَأَةً وَلا عَسِيفًا». أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ، قَالَ: «حَسَنٌ صَحِيحٌ».

وَالْعَسِيفُ: هُوَ الْأَجِيرُ.

((الْمُسْلِمُونَ قَادُوا الْعَالَمَ بِالْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ))

إِنَّ الَّذِي اسْتَخْدَمَ الْقُوَّةَ الْغَاشِمَةَ هُمُ الْغَرْبُ وَلَيْسُوا الْمُسْلِمِينَ.

إِنَّ الْمُسْلِمِينَ حَمَلُوا الْحُرِّيَّةَ الَّتِي تَعْتِقُ الْإِنْسَانَ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ لِغَيْرِ اللهِ، وَحَمَلُوا الْكَرَامَةَ وَالْمُسَاوَاةَ، وَحَمَلُوا الْقِيَمَ الْعُلْيَا الَّتِي جَاءَ بِهَا النَّبِيُّ ﷺ إِلَى كُلِّ أَرْضٍ وَطِأَتْهَا أَقْدَامُهُمْ.

إِنَّ اسْتِخْدَامَ السَّيْفِ فِي الْإِسْلَامِ كَانَ لِرَدِّ الْعُدْوَانِ وَالظُّلْمِ، ثُمَّ اسْتُخْدِمَ السَّيْفُ وَيُسْتَخْدَمُ، وَيُسْتَخْدَمُ، ويُسْتَخْدَمُ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ؛ لِتَصِلَ كَلِمَةُ اللهِ إِلَى الشُّعُوبِ الَّتِي تَحُولُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ كَلِمَةِ اللهِ أَنْظِمَةٌ كَافِرَةٌ مُجْرِمَةٌ ظَالِمَةٌ.

فَهَذَا اسْتِعْمَالُ السَّيْفِ فِي الْإِسْلَامِ.

إِنَّ الَّذِينَ اسْتَخْدَمُوا السَّيْفَ في الظُّلْمِ والقَتْلِ ارْتَكَبُوا كُلَّ مَظَاهِرِ العُنْفِ، الَّذِينَ فَعَلُوا ذلك غَيْرُنَا، والدليلُ: تِلْكَ الشَّهَادَةُ التي أَدْلَى بها ((جُوسْتَافْ لُوبُو)) فِي كِتَابِهِ الشَّهِيرِ ((حَضَارَةِ العَرَبِ))؛ إِذْ يَقُولُ: ((كَانَ أَوَّلَ مَا بَدَأَ بِهِ (رِيكَارْدِيُوسْ) الإِنْجِلِيزِيُّ؛ أنه قَتَلَ مِنْ مُعَسْكَرِ المسلمينَ ثَلَاثَةَ آلَافِ أَسِيرٍ (أَسِير! أَسِير!)، سَلَّمُوا أَنْفُسَهُمْ إليهِ بَعْدَ أَنْ قَطَعَ على نَفْسِهِ العَهْدَ بِحَقْنِ دِمَائِهِمْ، ثُمَّ أَطْلَقَ لِنَفْسِهِ العِنَانَ بِاقْتِرَافِ القَتْلِ وَالسَّلْبِ مِمَّا أَثَارَ -يَقُولُ (لُوبُو)- صَلَاحَ الدِّينِ الأَيُّوبِيَّ النَّبِيلَ الَّذِي رَحِمَ نَصَارَى القُدْسِ، فَلَمْ يَمَسَّهُمْ بِأَذًى، وَأَمَدَّ (فِيلِيبْ) و(قَلْبَ الأسدِ) بالمُرَطِّبَاتِ والأَدْوِيَةِ وَالأَزْوَادِ أَثْنَاءَ مَرَضِهِمَا.

الْإِسْلَامُ يَحْتَرِمُ النَّفْسَ الْإِنْسَانِيَّةَ وَلَوْ كَانَتْ كَافِرَةً، وَيَحْتَرِمُ الْجَسَدَ الْإِنْسَانِيَّ وَلَوْ كَانَ مَقْتُولًا عَلَى الْكُفْرِ؛ فَإِنَّهُ يَنْهَى عَنِ الْمُثْلَةِ، عِنْدَمَا تَشْتَبِكُ الرِّمَاحُ، وَعِنْدَمَا تَتَشَابَكُ الْأَسِنَّةُ، وَعِنْدَمَا تُسَلُّ السُّيُوفُ لَامِعَةً؛ يَأْتِي النَّهْيُ عَنِ الْمُثْلَةِ؛ لِأَنَّ حَامِلَ السَّيْفِ وَمُسَدِّدَ الرُّمْحِ لَا يَخْبِطُ بِهِ خَبْطَ عَشْوَاءَ، وَإِنَّمَا هُوَ فَاعِلٌ بِذَلِكَ بِقُدْرَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى مِنْهَاجِ نَبِيِّنَا الْأَمِينِ ، ((لَا تُمَثِّلُوا وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تَخُونُوا وَلَا تَغُلُّوا))، فَنَهَى عَنِ الْمُثْلَةِ، نَهَى عَنْ أَنْ يُمَثَّلَ بِقَتِيلٍ؛ تُشَوَّهُ صُورَتُهُ أَوْ تُمَزَّقُ أَعْضَاؤُهُ أَوْ يُعْبَثُ بِجُثَّتِهِ.

فَنَهَى النَّبِيُّ عَنِ امْتِهَانِ الْجَسَدِ الْإِنْسَانِيِّ بَعْدَ الْمَمَاتِ، وَإِنْ كَانَ فِي سَاحَةِ الْحَرْبِ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ، وَبَيْنَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ، ثُمَّ يَأْمُرُ الْمُسْلِمِينَ بِأَلَّا يَدَعُوا جُثَثَ الْكَافِرِينَ نَهْبًا لِجَوَارِحِ الطَّيْرِ وَسِبَاعِ الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا تُخَدُّ لَهُمُ الْأَخَادِيدُ، ثُمَّ يُلْقَوْا فِيهَا، ثُمَّ يُهَالُ عَلَيْهِمُ التُّرَابُ احْتِرَامًا لِذَلِكَ الْجَسَدِ الْإِنْسَانِيِّ وَإِنْ كَانَ قَدْ مَاتَ صَاحِبُهُ كَافِرًا كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ مَعَ طَوَاغِيتِ قُرَيْشٍ الَّذِينَ قُتِلُوا بِـ(بَدْرٍ)، وَجِيءَ بِهِمْ، فَجُعِلُوا فِي الْقَلِيبِ، وَكَانَ جَافًّا يَابِسًا، ثُمَّ أُهِيلَ عَلَيْهِمُ التُّرَابُ، وَجُعِلَتْ عَلَيْهِمُ الْحِجَارَةُ.

النَّبِيُّ ﷺ يَأْمُرُ بِعَدَمِ التَّمْثِيلِ بِالْقَتْلَى، وَيَأْمُرُ بِأَنْ يُحْتَرَمَ الْإِنْسَانُ مِنْ حَيْثُ هُوَ إِنْسَانٌ.

((الْإِسْلَامُ دِينُ الْمَشَاعِرِ وَالْأَحَاسِيسِ))

إِنَّ الْحَيَاةَ الْإِنْسَانِيَّةَ فِي جُمْلَتِهَا تَقُومُ عَلَى مَنْظُومَةٍ مِنَ الْأَحَاسِيسِ وَالْمَشَاعِرِ، وَالْإِسْلَامُ الْعَظِيمُ لِأَنَّهُ دِينُ اللهِ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- خَالِقِ الْبَشَرِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ؛ مِنْ تَعَالِيمِهِ الرَّئِيسَةِ مَا يُنَظِّمُ تِلْكَ الْمَشَاعِرَ، وَمَا يُقَيِّدُ تِلْكَ الْأَحَاسِيسَ، حَتَّى تَقُومَ فِي الْمُنْتَهَى عَلَى مَا يَنْبَغِي أَنْ تَقُومَ عَلَيْهِ دِقَّةً وَأَدَاءً، وَحِسًّا وَمَعْنًى، وَحَقِيقَةً وَمَبْنًى.

يَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29].

وَيَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54].

فِي هَذِهِ الْمَنْظُومَةِ مِنَ الْأَحَاسِيسِ وَالْمَشَاعِرِ تَجِدُ حَرَكَةَ أَصْحَابِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ وَسَكَنَاتِهِمْ، وَتَجِدُ فِي تِلْكَ الْمَنْظُومَةِ وَفِي إِطَارِهَا أَقْوَالَهُمْ وَأَفْعَالَهُمْ.

وَالدِّينُ يُشَذِّبُ وَيُهَذِّبُ، وَالتَّعَالِيمُ تُرَقِّي وَتُنَمِّي، وَالنَّبِيُّ ﷺ يَحُوطُ الْمَسِيرَةَ وَيَكْلَؤُهَا بِإِرْشَادِهِ الْكَرِيمِ.

وَلَمْ يُعْفِ الرَّسُولُ ﷺ حَالًا مِنْ أَحْوَالِ الْبَشَرِ مِنْ تَشْذِيبٍ وَتَهْذِيبٍ لِأَحَاسِيسِ الْبَشَرِ فِيهِ وَنَحْوَهُ، حَتَّى صَاغَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ الْإِنْسَانَ كَمَا خَلَقَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَكَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ.

فِي أَدَقِّ دَقَائِقِ الْإِحْسَاسِ، وَفِي أَرْهَفِ الْمَشَاعِرِ تَجِدُ لِلدِّينِ كَلِمَةً، وَتَجِدُ لِلدِّينِ إِرْشَادًا، وَتَجِدُ لِلنَّبِيِّ ﷺ تَعْلِيمًا.

((نَمَاذِجُ لِمُرَاعَاةِ النَّبِيِّ ﷺ لِلْمَشَاعِرِ وَالْأَبْعَادِ الْإِنْسَانِيَّةِ))

فِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)): ((أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَوْمًا بَيْنَ أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، فَضَرَطَ مِنْهُمْ رَجُلٌ -يَعْنِي: أَخْرَجَ وَاحِدَةً مِنْ ذَوَاتِ الْمَسْمُوعِ-، فَضَحِكَ الْقَوْمُ، فَغَضِبَ النَّبِيُّ ﷺ وَقَالَ: ((لِمَ يَضْحَكُ أَحَدُكُمْ مِمَّا يَفْعَلُ!)).

انْظُرْ إِلَى هَذَا الْمَوْقِفِ وَمَا يَحُوطُهُ!

انْظُرْ إِلَى هَذَا الْمَوْقِفِ وَمَا فِيهِ!

وَانْظُرْ إِلَى تِلْكَ الْأُمُورِ الَّتِي أَتَتْ عَكْسًا وَرِدَّةَ فِعْلٍ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْمُسْتَقْبَحِ غَالِبًا؛ بَلْ دَائِمًا، أَنْ يَكُونَ -هَكَذَا- ظَاهِرًا مَكْشُوفًا بِمَحْضَرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَمَعَ أَنَّ ذَلِكَ مَرَّ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ ﷺ لَمْ يَقْبَلْ سُخْرِيَةً وَلَا شِبْهَ اسْتِهْزَاءٍ، وَإِنَّمَا شَذَّبَ وَهَذَّبَ، وَصَفَّى وَنَقَّى، وَأَتَى بِالْمَشَاعِرِ كَمَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ، فَغَضِبَ أَوَّلًا؛ لِيُعْلِنَ اسْتِنْكَارَهُ لِرِدَّةِ فِعْلِ الْأَصْحَابِ عَلَى مَا وَقَعَ مِنْ أَخِيهِمْ عَفْوًا أَوْ قَصْدًا -عَلَى سَوَاءٍ-، فَلَمَّا وَصَلَتِ الرِّسَالَةُ، وَوَعَاهَا الْأَصْحَابُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-؛ أَتَى الْإِرْشَادُ بِالْبَيَانِ مُسْتَنْكِرًا ﷺ: ((لِمَ يَضْحَكُ أَحَدُكُمْ مِمَّا يَفْعَلُ!)).

فَلَمْ يَقْبَلْ نَبِيُّنَا ﷺ هَمْزًا فِي شُعُورِ أَحَدٍ، وَلَا انْتِقَاصًا لِمَشَاعِرِهِ؛ وَإِنْ وَقَعَ مِنْهُ مَا يَسُوءُ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا أَتَى  النَّبِيُّ ﷺ بِالْإِرْشَادِ الْمُبِينِ، وَعَلَّمَ التَّعْلِيمَ الْمُسْتَقِيمَ ﷺ.

وَفِي الْقِمَّةِ الْعُلْيَا مِنْ ذَلِكَ يَقُولُ نَبِيُّنَا ﷺ -كَمَا أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي ((صَحِيحَيْهِمَا))- عَنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- عَنْ خَالَتِهِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنِّي لَأَعْلَمُ إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً، وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى)).

((إِنِّي لَأَعْرِفُ غَضَبَكِ وَرِضَاكِ)).

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ لِعَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: إِنِّي لَمُرَاقِبٌ جِدُّ مُرَاقِبٍ لِأَحْوَالِكِ إِقْبَالًا وَإِدْبَارًا -وَلَا إِدْبَارَ-، وَرِضًا وَسُخْطًا -وَلَا سُخْطَ-، إِنِّي لَمُرَاقِبٌ جِدُّ مُرَاقِبٍ لِمَا يَتَأَتَّى عَلَى صَفْحَةِ قَلْبِكِ مِنْ جَوَلَانِ الْمَشَاعِرِ، وَمِنْ تَدَاوُلِ الْأَحَاسِيسِ، ((إِنِّي لَأَعْرِفُ غَضَبَكِ وَرِضَاكِ))، وَ((إِنِّي لَأَعْلَمُ إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً، وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى)).

وَلَمْ يَقُلْ ﷺ: عَلَيَّ غَضْبَانَةً؛ لِأَنَّهَا حَالَةٌ تَمُرُّ كَسَحَابَةِ الصَّيْفِ تَنْقَشِعُ بَعْدَ حِينٍ، وَمَا هِيَ إِلَّا لَحْظَةٌ أَوْ لُحَيْظَةٌ حَتَّى يَعُودَ الْأَمْرُ إِلَى أَصْلِهِ، وَيَسْتَقِرَّ عَلَى قَرَارِهِ؛ وَلِذَلِكَ يَقُولُ الرَّسُولُ ﷺ: ((عَلَيَّ غَضْبَى))، كَأَنَّمَا هُوَ غَضَبُ التَّدْلِيلِ وَالْإِدْلَالِ.

وَعَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- تَقُولُ لِلنَّبِيِّ ﷺ: ((مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُ ذَلِكَ؟)).

يَقُولُ الرَّسُولُ ﷺ: ((أَمَّا إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً فَإِنَّكِ تَقُولِينَ: لَا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ، وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى قُلْتِ: لَا وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ)).

قَالَتْ: ((أَجَلْ، وَاللَّهِ -يَا رَسُولَ اللَّهِ- مَا أَهْجُرُ إِلَّا اسْمَكَ)).

فَالرَّسُولُ ﷺ يَنْظُرُ إِلَى مِقْيَاسِ الشُّعُورِ عِنْدَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- ارْتِفَاعًا وَانْخِفَاضًا، وَيَعْرِفُ ذَلِكَ ﷺ بِحِسٍّ دَقِيقٍ، مَعَ أَنَّهَا مِنْ مَزِيدِ فِطْنَتِهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- لَمَّا لَمْ تَجِدْ بُدًّا مِنْ مُغَادَرَةِ اسْمِهِ الْكَرِيمِ ﷺ؛ اسْتَعَاضَتْ مِنْهُ بِمَا هُوَ مِنْهُ بِسَبَبٍ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ ﷺ -كَمَا أَخْبَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ- هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ، فَجَنَحَتْ إِلَى إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- عِنْدَ غَضَبِهَا.

فَإِذَا مَا أَتَى الْغَضَبُ، وَإِذَا مَا أَرَادَتْ أَنْ تُعْرِبَ عَنْ ذَلِكَ وَلَوْ إِعْرَابًا دَفِينًا تَكْظِمُهُ حِينًا فَحِينًا، وَهُوَ يَأْبَى إِلَّا أَنْ يَتَفَلَّتَ فِي تِلْكَ الْكَلِمَةِ الَّتِي لَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ؛ وَلَكِنَّ الرَّقَابَةَ الْمُحْكَمَةَ هَاهُنَا لِتِلْكَ الْقُلُوبِ الَّتِي رَبَّاهَا الْإِسْلَامُ الْعَظِيمُ عَلَى تَعَالِيمِهِ وَهَذَّبَهَا بِأُسْلُوبِهِ، فَكَأَنَّمَا صَاغَهَا صِيَاغَةً جَدِيدَةً، وَالرَّسُولُ ﷺ يُشَذِّبُ وَيُهَذِّبُ، وَيَحُوطُ يُرَبِّي وَيُنَمِّي ﷺ، فَلَمْ تَغِبْ عَنْهُ تِلْكَ الْكَلِمَةُ وَلَيْسَ بِهَا مِنْ شَيْءٍ، وَلَعَلَّ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهَا يَمُرُّ عَلَى مَنْ دُونَ النَّبِيِّ ﷺ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْحَظَ فِي ذَلِكَ شَيْئًا، وَلَا يَجِدُ لَهُ فِي قَلْبِهِ أَثَرًا.

((أَمَّا إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً فَإِنَّكِ تَقُولِينَ: لَا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ، وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى قُلْتِ: لَا وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ)).

وَرَبُّ إِبْرَاهِيمَ هُوَ رَبُّ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِمَا وَعَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَسَلَّمَ-.

وَأَمَّا عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فَإِنَّهَا تَقُولُ لِنَبِيِّنَا وَنَبِيِّهَا ﷺ: ((أَجَلْ، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَهْجُرُ إِلَّا اسْمَكَ)) يَعْنِي: مَا يَزَالُ الْقَلْبُ مَعْقُودًا عَلَى الْمَحَبَّةِ لَا يُغَادِرُهَا، وَمَا يَزَالُ الْقَلْبُ مُقِيمًا عَلَى الْحِسِّ الْأَوْفَى بِالْمِكْيَالِ الْأَعْظَمِ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يُنْقَصَ مِنْهُ شَيْءٌ أَبَدًا، وَإِنَّمَا هِيَ حَرَكَةُ اللِّسَانِ بِلَفْظٍ مَكَانَ لَفْظٍ، وَهُمَا بَعْدُ سَوَاءٌ فِي مَنْطِقِ الدِّينِ وَشِرْعَةِ الْخَلِيلِ مُحَمَّدٍ ﷺ.

وَتَلْحَظُ هَاهُنَا أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَزَّلَهَا مَنْزِلَةَ الْمُنْكِرِ لِلْحُكْمِ بَدْءًا؛ فَقَالَ: ((إِنِّي لَأَعْلَمُ))، فَأَتَى بِالْمُؤَكِّدَيْنِ؛ بِـ(إِنَّ) الْمُشَدَّدَةِ، وَبِـ(اللَّامِ)، كَأَنَّمَا هِيَ فِي مُبَالَغَتِهَا فِي إِخْفَاءِ غَضَبِهَا عَنْ نَبِيِّهَا وَسَيِّدِهَا ﷺ.. كَأَنَّمَا تُنْكِرُ أَنْ يَأْتِيَ مِنْهَا غَضَبٌ بِحَالٍ أَبَدًا يَتَعَلَّقُ بِنَبِيِّنَا وَنَبِيِّهَا مُحَمَّدٍ ﷺ، فَأَنْزَلَهَا مَنْزِلَةَ الْمُنْكِرِ لِلْحُكْمِ ابْتِدَاءً، فَقَالَ: ((إِنِّي لَأَعْلَمُ إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً، وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى)).

وَأَمَّا عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-؛ فَهِيَ عَائِشَةُ الَّتِي اخْتَارَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِنَبِيِّهِ الْكَرِيمِ ﷺ، وَالَّتِي جَاءَ جِبْرِيلُ بِسَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ فِيهَا صُورَتُهَا، فَقَالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: ((هَذِهِ زَوْجَتُكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)).

وَلِذَلِكَ تَقُولُ لِلنَّبِيِّ ﷺ: ((مَا أَهْجُرُ إِلَّا اسْمَكَ)).

فَانْظُرْ كَيْفَ أَتْبَعَتْ هَذَا الْقَوْلَ مِنْهَا عِنْدَ قَسَمِهَا بِرَبِّ إِبْرَاهِيمَ وَرَبِّ مُحَمَّدٍ سُخْطًا أَوْ غَضَبًا وَرِضًا؛ أَتْبَعَتْ ذَلِكَ بِالتَّعْلِيلِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَجْمَلِ مَا يَكُونُ، وَالَّذِي هُوَ أَوْفَى مَا يَكُونُ فِي إِظْهَارِ الْمَحَبَّةِ مِنْ لَوْ أَنَّهَا ظَلَّتْ عَلَى الْأَمْرِ مُقِيمَةً بَدْءًا مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ، ((مَا أَهْجُرُ إِلَّا اسْمَكَ))، وَأَمَّا الْحَقِيقَةُ فَقَائِمَةٌ كَمَا هِيَ.

وَأَيْضًا عَنْهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- -كَمَا أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ بِسَنَدَيْهِمَا- قَالَتْ: ((كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا أَرَادَ السَّفَرَ أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ -يَعْنِي: أَدَارَ بَيْنَهُنَّ قُرْعَةً، يَجْعَلُ سِهَامًا بِأَسْمَائِهِنَّ، ثُمَّ يُخْرَجُ سَهْمٌ مِنْ تِلْكَ السِّهَامِ مِنْ غَيْرِ مَا نَظَرٍ فِيهِ، فَإِذَا مَا خَرَجَ لُوحِظَ، فَإِذَا عَلَيْهِ مَنْ أَرَادَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْ تَخْرُجَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي سَفْرَتِهِ، أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ بِذَلِكَ أَعْيُنُهُنَّ، وَأَقْرَبُ أَنْ يَرْضَيْنَ بِذَلِكَ كُلُّهُنَّ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِنَّ-، قَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((فَطَارَتِ الْقُرْعَةُ لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ)) يَعْنِي: فِي سَفْرَةٍ أَرَادَ النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يَأْخُذَ مَعَهُ مِنْهُنَّ ثِنْتَيْنِ، فَأَجْرَى الْقُرْعَةَ وَأَدَارَهَا، ((فَطَارَتْ -أَيْ: وَقَعَتِ الْقُرْعَةُ- لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ))، فَكَانَتَا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي سَفْرَتِهِ.

تَقُولُ عَائِشَةُ: ((وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا كَانَ بِاللَّيْلِ سَارَ مَعَ عَائِشَةَ يَتَحَدَّثُ)).

كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا كَانَ اللَّيْلُ فِي هَدْأَتِهِ، فِي عُذُوبَةِ الْمُنَاجَاةِ وَحَلَاوَةِ السَّمَرِ فِيهِ سَفَرًا؛ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا كَانَ بِاللَّيْلِ سَارَ بِجِوَارِ عَائِشَةَ يُحَدِّثُهَا.

النَّبِيُّ ﷺ فِي سَفَرِهِ عَلَى بَعِيرِهِ، وَعَائِشَةُ عَلَى بَعِيرِهَا فِي هَوْدَجِهَا، وَكَذَا حَفْصَةُ.

اسْتَظْهَرَ الْحَافِظُ فِي ((الْفَتْحِ)) أَنَّ السَّفَرَ كَانَ يَوْمَئِذٍ فِي قِطَارَيْنِ، عَلَى قِطَارٍ مِنْ هَذَيْنِ الْقِطَارَيْنِ عَائِشَةُ، وَعَلَى الْآخَرِ حَفْصَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-.

تَقُولُ عَائِشَةُ: ((وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا كَانَ بِاللَّيْلِ سَارَ مَعَ عَائِشَةَ يَتَحَدَّثُ، فَقَالَتْ حَفْصَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- لِعَائِشَةَ: أَلَا تَرْكَبِينَ اللَّيْلَةَ بَعِيرِي وَأَرْكَبُ بَعِيرَكِ تَنْظُرِينَ وَأَنْظُرُ؟)).

فَقَالَتْ عَائِشَةُ: (( بَلَى، فَرَكِبَتْ، فَجَاءَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى جَمَلِ عَائِشَةَ وَعَلَيْهِ حَفْصَةُ فَسَلَّمَ عَلَيْهَا، ثُمَّ سَارَ حَتَّى نَزَلُوا)).

أَقْبَلَتْ حَفْصَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- عَلَى عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فَقَالَتْ: لَوْ أَنَّنَا صَنَعْنَا حِيلَةً، تَنْظُرِينَ وَأَنْظُرُ!

وَهِيَ تَعْنِي بِذَلِكَ أَنْ تَكُونَ عَلَى جَمَلِ عَائِشَةَ عَلَى بَعِيرِهَا، فَيَأْتِي النَّبِيُّ ﷺ يُخَاطِبُ مَنْ بِالْهَوْدَجِ وَلَا يَعْرِفُهَا، يُخَاطِبُ حَفْصَةَ عَلَى أَنَّهَا عَائِشَةُ، فَتَسَمْعُ مِنْهُ مَا تُحِبُّ أَنْ تَسْمَعَ الزَّوْجُ الْمُحِبَّةُ مِنْ زَوْجِهَا وَسَيِّدِهَا؛ مِنْ مُحَمَّدٍ ﷺ.

وَأَغْرَتْ تِلْكَ الْحَالُ عَائِشَةَ لِحُبِّ اسْتِطْلَاعِهَا لِهَذَا الْمَوْقِفِ كَيْفَ يَكُونُ؛ أَغْرَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فَصَنَعَتْ، فَرَكِبَتْ عَائِشَةُ بَعِيرَ حَفْصَةَ، وَرَكِبَتْ حَفْصَةُ بَعِيرَ عَائِشَةَ.

وَجَاءَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى جَمَلِ عَائِشَةَ وَعَلَيْهِ حَفْصَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فَسَلَّمَ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْحَدِيثُ كَلَامًا.

فَكَأَنَّمَا أُطْلِعَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا- وَ-صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ صَلَاةً وَسَلَامًا أَتَمَّيْنِ أَكْرَمَيْنِ-.

وَأَمَّا عَائِشَةُ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا سَلَّمَ عَلَى حَفْصَةَ سَايَرَهَا، وَظَلَّ مَعَهَا مُسَايِرًا لَهَا، وَلَمْ يَذْكُرِ الْحَدِيثُ حَدِيثًا وَلَا كَلَامًا، وَإِنَّمَا ظَلَّ مُسَايِرًا لَهَا حَتَّى نَزَلُوا جَمِيعًا، فَلَمَّا نَزَلُوا أَخَذَ بِعَائِشَةَ مَا أَقْبَلَ بِهَا وَأَدْبَرَ، وَصَعَدَ بِهَا وَهَبَطَ؛ فَمَاذَا صَنَعَتْ؟

جُمْلَةُ الْأَحَاسِيسِ هَاهُنَا تَمُورُ فِي قَلْبٍ مُحِبٍّ، فِي قَلْبٍ يَعْرِفُ لِلْحَبِيبِ قَدْرَهُ، وَيَعْرِفُ لِلنَّبِيِّ ﷺ مَنْزِلَتَهُ مَعًا، فَيَعْرِفُ لَهُ قَدْرَهُ مَحْبُوبًا، وَيَعْرِفُ لَهُ مَنْزِلَتَهُ نَبِيًّا مَتْبُوعًا ﷺ.

فَقَالَتْ عَائِشَةُ: ((بَلَى، فَرَكِبَتْ، فَجَاءَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى جَمَلِ عَائِشَةَ وَعَلَيْهِ حَفْصَةُ فَسَلَّمَ عَلَيْهَا، ثُمَّ سَارَ حَتَّى نَزَلُوا، وَافْتَقَدَتْهُ عَائِشَةُ، فَلَمَّا نَزَلُوا جَعَلَتْ رِجْلَيْهَا بَيْنَ الْإِذْخِرِ، وَتَقُولُ: يَا رَبِّ! سَلِّطْ عَلَيَّ عَقْرَبًا أَوْ حَيَّةً تَلْدَغُنِي، رَسُولُكَ وَلَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقُولَ لَهُ شَيْئًا)).

أَمَّا عَائِشَةُ فَلَمَّا اسْتَقَرَّ الْقَوْمُ عَلَى قَرَارِهِمْ، فَكَانُوا عَلَى أَرْضِ رَبِّهِمْ، وَذَهَبَتْ تِلْكَ الْحَالُ فِي سَبِيلِهَا؛ أَخَذَتْ عَائِشَةُ نَفْسَهَا كَأَنَّمَا تَحْمِلُ ذَاتَهَا حَمْلًا بِثِقَلٍ مُرَوِّعٍ كَأَمْثَالِ الْجِبَالِ، فَذَهَبَتْ إِلَى الْإِذْخِرِ، ((فَجَعَلَتْ رِجْلَيْهَا)) -كَذَا رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ-، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ: ((فَجَعَلَتْ رِجْلَهَا فِي الْإِذْخِرِ)) -وَهُوَ نَبْتٌ مَعْرُوفٌ فِي إِيوَاءِ الْهَوَامِّ وَبِسُكْنَاهَا إِيَّاهُ مِنْ تِلْكَ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ وَمَا هَبَّ وَدَبَّ، لَا مَا دَرَجَ وَطَارَ-، فَجَعَلَتْ رِجْلَيْهَا فِي ذَلِكَ الْإِذْخِرِ، وَهُوَ مَظِنَّةُ أَنْ يَكُونَ بِهِ مِنَ الْهَوَامِّ مِنَ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ مَا بِهِ- تَقُولُ: ((يَا رَبِّ! سَلِّطْ عَلَيَّ عَقْرَبًا أَوْ حَيَّةً تَلْدَغُنِي، رَسُولُكَ وَلَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقُولَ لَهُ شَيْئًا)).

عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فِي مَوْقِفِ شَدٍّ وَجَذْبٍ، عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فِي مَوْقِفِ قَلْبٍ مَوَّارٍ بِأَحَاسِيسِهِ وَتَفَاعُلَاتِهِ حُبًّا وَوُدًّا، وَهُوَ -أَيْضًا- رَاسِخٌ عَلَى أَصْلِهِ الْمَتِينِ إِيمَانًا وَيَقِينًا، وَالْيَقِينُ حَاجِزٌ، وَالتُّقَى مُلْجِمٌ، وَالتَّقِيُّ مُلْجَمٌ، وَهِيَ لَا تَسْتَطِيعُ فِي الْمُنْتَهَى أَنْ تَصْنَعَ شَيْئًا بَدْءًا؛ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي قَدْ أَقَرَّتْ تِلْكَ الْحَالَ فِي بَدْئِهَا، وَهِيَ الَّتِي فَعَلَتْ ذَلِكَ بِمَلْكِ يَمِينِهَا، وَلَمْ يَجْبُرْهَا أَحَدٌ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا هِيَ الَّتِي اخْتَارَتْ، فَسَايَرَتْ حَفْصَةَ فِي الَّذِي اقْتَرَحَتْ عَلَيْهَا مِنْ ذَلِكَ الْمُقْتَرَحِ، وَأَخَذَ حُبُّ الِاسْتِطْلَاعِ بِنَفْسِهَا مِنْ أَجْلِ أَنْ تَرَى مَا النَّبِيُّ ﷺ صَانِعٌ بَعْدُ.

وَأَمَّا هِيَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فَإِنَّهَا لَا تَمْلِكُ بَشَرِيَّتَهَا عَلَى النَّحْوِ الَّذِي تَرْضَاهُ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَرَادَتْ أَنْ تُصَرِّفَ دَفْقَةَ الْحِسِّ عِنْدَهَا بِهَذَا الْعَمَلِ الَّذِي يَعْجَبُ مِنْهُ الْمَرْءُ حَقًّا؛ غَيْرَ أَنَّ وَرَاءَهُ لِكُلِّ مَنْ مَارَسَ أَمْرَ الْمَوَدَّةِ عَلَى وَجْهِهَا، وَعَرَفَ حَالَ الْمَحَبَّةِ عَلَى حَقِيقَتِهَا.. مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ مَا يُدْرِكُهُ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ؛ فَإِنَّ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- كَانَتْ تَرْمِي -لَا فَقَطْ- إِلَى تَصْرِيفِ مَا تَجِدُ وَمَا تُعَانِي مِنْ ذَلِكَ الْحِسِّ الْفَائِضِ بِتِلْكَ الْغَيْرَةِ الَّتِي أَخَذَتْ بِمَعَاقِدِ أَجْفَانِهَا، فَنَفَتْ عَنْهُ كُلَّ وَسَنٍ وَنَوْمٍ، وَقَدْ حَانَ حِينُهُ وَآنَ أَوَانُهُ، وَجَاءَ وَقْتُ اسْتِقْرَارِ الْجُنُوبِ فِي مَضَاجِعِهَا، وَإِخْلَادِ الْأَنْفُسِ إِلَى مَنَامِهَا، فَأَخَذَ ذَلِكَ بِمَعَاقِدِ أَجْفَانِهَا، فَلَمْ يَدَعْ لَهَا إِلَى الْغُمْضِ وَلَا إِلَى النُّعَاسِ سَبِيلًا، وَأَخَذَ يُقْلِقُهَا إِقْلَاقًا شَدِيدًا، وَيُزَلْزِلُهَا زِلْزَالًا عَنِيفًا؛ حَتَّى إِنَّهَا لَتَذْهَبُ -كَمَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ-، فَتَجْعَلُ رِجْلَيْهَا -لَا رِجْلَهَا كَمَا عِنْدَ مُسْلِمٍ-، وَلَا تَضَارُبَ هَاهُنَا، وَإِنَّمَا أَتَى وَاحِدٌ بِوَاحِدَةٍ، وَأَتَى وَاحِدٌ بِثِنْتَيْنِ وَلَا حَرَجَ- ((جَعَلَتْ رِجْلَيْهَا بَيْنَ الْإِذْخِرِ، وَتَقُولُ: يَا رَبِّ! سَلِّطْ عَلَيَّ عَقْرَبًا أَوْ حَيَّةً تَلْدَغُنِي)).

وَهَذَا أَمْرٌ عَجِيبٌ حَقًّا؛ وَلَكِنَّ مِنْ وَرَائِهِ مَلْحَظًا لِمَنْ عَرَفَ الْحُبَّ يَوْمًا، فَهِيَ إِنَّمَا تُرِيدُ أَنْ تَسْتَجْلِبَ نَبِيَّهَا إِلَيْهَا فِي أَقَلَّ مِنْ لَمْحِ الْبَصَرِ؛ لِأَنَّهَا تَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّهَا مَتَى مَا لُدِغَتْ كَانَ عِنْدَهَا نَبِيُّهَا ﷺ.

وَكَأَنَّهَا تَتَوَسَّلُ بِهَذَا الْأَذَى الْحَالِّ عَلَيْهَا؛ أَمَلًا، بِهَذَا الْأَذَى الَّذِي تَتَمَنَّاهُ تَمَنِّيًا، تَتَوَسَّلُ بِذَلِكَ إِلَى عَوْدِ الْحَالِ إِلَى صَفْوِهَا عَلَى حَقِيقَتِهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ سَلَّطَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهَا وَاسْتَجَابَ لَهَا، وَهِيَ تَدْعُو هَاهُنَا: ((يَا رَبِّ!)).

((يَا رَبِّ! سَلِّطْ عَلَيَّ))، تَقُولُ هَكَذَا فِي دُعَائِهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، لَمْ تَقُلْ: أَرْسِلْ لِي، وَلَمْ تَقُلْ: ابْعَثْ إِلَيَّ، وَإِنَّمَا قَالَتْ: ((سَلِّطْ عَلَيَّ عَقْرَبًا..))، وَهَكَذَا يَأْتِي هَاهُنَا تَنْكِيرٌ لِلتَّفْخِيمِ ((عَقْرَبًا أَوْ حَيَّةً تَلْدَغُنِي))، وَهِيَ تُحَقِّقُ هَاهُنَا، وَلَمْ يَأْتِ مِنْهَا هَذَا الدُّعَاءُ عَلَى سَبِيلِ ذَلِكَ التَّوَسُّلِ الرَّخِيصِ؛ يَعْنِي: أَنْ يَأْتِيَ عَقْرَبٌ تُحِسُّ دَبِيبَهُ، أَوْ تَأْتِيَ حَيَّةٌ تَسْمَعُ لِحَرَكَتِهَا عَلَى الْأَرْضِ حِسًّا وَرَكْضًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْأَمْرُ عَلَى الْحَقِيقَةِ مِنْ غَيْرِ مَا تَخْيِيلٍ، لَا أَنْ يَأْتِيَ ذَلِكَ فَإِذَا مَا أَحَسَّتْهُ هَرَعَتْ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ شَاكِيَةً، وَإِنَّمَا تَقُولُ: ((تَلْدَغُنِي))، وَأَتَتْ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ الدَّالِّ عَلَى التَّجَدُّدِ وَالِاسْتِمْرَارِ، كَأَنَّمَا تُلْدَغُ لَدْغًا مِنْ بَعْدِ لَدْغٍ، كَأَنَّمَا تُعَاقِبُ نَفْسَهَا عَلَى الَّذِي كَانَ مِنْهَا؛ إِذْ صَارَتْ إِلَى مَا صَارَتْ إِلَيْهِ مَعَ حَفْصَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، وَلَيْسَ لِحَفْصَةَ مِنْ ذَنْبٍ، وَلَيْسَ لِحَفْصَةَ مِنْ جَرِيرَةٍ؛ وَلِذَا نَحَتْ بِاللَّائِمَةِ عَلَى نَفْسِهَا، ((يَا رَبِّ! سَلِّطْ عَلَيَّ عَقْرَبًا أَوْ حَيَّةً تَلْدَغُنِي))، ثُمَّ تَقُولُ مُعَلِّلَةً: ((رَسُولُكَ)): هَذَا خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ فِي أَعْدَلِ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ هَاهُنَا؛ ((هُوَ رَسُولُكَ، وَلَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقُولَ لَهُ شَيْئًا))؛ لِأَنَّهُ مُؤَيَّدٌ بِالْوَحْيِ مِنْ عِنْدِكَ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ.

فَانْظُرْ إِلَى هَذِهِ الْأَحَاسِيسِ وَقَدْ صُفِّيَتْ، وَقَدْ رُبِّيَتْ، وَقَدْ شُذِّبَتْ، وَقَدْ هُذِّبَتْ؛ فَكَانَتْ عَلَى هَذَا الْقَانُونِ عَلَى سَوَاءٍ -اللهم ارْضَ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ-.

إِنَّ هَذَا الدِّينَ يُرَاعِي الْأَحَاسِيسَ، وَيُرَاعِي الْمَشَاعِرَ فِي أَدَقِّ الدَّقَائِقِ.

((مُرَاعَاةُ الدِّينِ لِلطَّبِيعَةِ الْبَشَرِيَّةِ))

لَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- خَادِمِ النَّبِيِّ ﷺ وَصَاحِبِهِ، قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- -وَذَلِكَ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ-: ((انْطَلِقْ بِنَا إِلَى أُمِّ أَيْمَنَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- نَزُورُهَا كَمَا كَانَ الرَّسُولُ ﷺ يَزُورُهَا)).

فَانْطَلَقَا.

((فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إلَيْهَا بَكَتْ)).

فَلَمَّا انْتَهَيَا إِلَيْهَا بَكَتْ حِينَ رَأَتْهُمَا.

فَقَالَا لَهَا: ((مَا يُبْكِيكِ؟ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ ﷺ )).

مَا يُبْكِيكِ؟ أَلَا تَعْلَمِينَ أَنَّ مَا عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ ﷺ؟

قَالَتْ: ((مَا أَبْكِي أَلَّا أَكُونَ أَعْلَمُ أَنَّ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ ﷺ، وَلَكِنْ أَبْكِي أنَّ الوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ مِنَ السَّمَاءِ -أَبْكِي لِانْقِطَاعِ خَبَرِ السَّمَاءِ عَنِ الْأَرْضِ؛ تَعْنِي: الْوَحْيَ-، فَهَيَّجَتْهُمَا عَلَى الْبُكَاءِ، فَجَعَلَا يَبْكِيَانِ مَعَهَا)) -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-.

وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي ((صَحِيحَيْهِمَا)) عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ قَالَ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((إِنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- قَدْ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ سُورَةَ {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا})).

قَالَ أُبَيٌّ: ((وَسَمَّانِي؟)).

فَقَالَ: ((نَعَمْ)).

فَبَكَى)).

يَقُولُ أُبَيٌّ لِلنَّبِيِّ ﷺ مُتَسَائِلًا: هَلْ سَمَّانِي اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِتَقْرَأَ عَلَيَّ خَاصَّةً، أَمْ أَمَرَكَ بِأَنْ تَقْرَأَ السُّورَةَ عَلَى بَعْضِ أَصْحَابِكَ فَانْتَدَبْتَنِي لِذَلِكَ؟

أَهُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قَصْدًا، أَمْ مِنْ عِنْدِكَ يَا رَسُولَ اللهِ تَبَعًا؟

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: بَلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- رَأْسًا.

قَالَ أُبَيٌّ: ((وَسَمَّانِي؟)).

قَالَ: ((نَعَمْ)).

فَبَكَى أُبَيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ فَرَحًا وَسُرُورًا بِنِعْمَةِ اللهِ عَلَيْهِ، أَوْ وَجَلًا وَخَوْفًا أَلَّا يَقُومَ بِحَقِّ شُكْرِ نِعْمَةِ اللهِ عَلَيْهِ، وَهُمَا قَوْلَانِ لِعُلَمَائِنَا -عَلَيْهِمُ الرَّحْمَةُ-.

وَعَدِّ عَنْكَ ذَلِكَ، وَتَأَمَّلْ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ لِأُبَيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((إِنَّ اللهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ سُورَةَ {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا})).

وَحْيٌ يَتَنَزَّلُ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ سَلْسَلًا فِي سَلْسَلٍ، آيَاتٍ تَتَرَقْرَقُ بِنُورِ الْحِكْمَةِ مُتَنَزِّلَةً مِنْ عِنْدِ اللهِ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-.

وَاللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يُرَبِّي جِيلَ الصَّحَابَةِ عَلَى يَدَيْ نَبِيِّهِمْ مُحَمَّدٍ ﷺ تَرْبِيَةً فَذَّةً حَقًّا عَجِيبَةً جِدًّا؛ لِأَنَّ الْجِيلَ الْأَوَّلَ الَّذِي شَهِدَ الْحَيَاةَ مَعَ الرَّسُولِ ﷺ وَالْوَحْيُ يَتَنزَّلُ مِنْ لَدُنْ رَبِّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- عَلَى قَلْبِ نَبِيِّهِ ﷺ.

هَذَا الْجِيلُ عَاشَ فَتْرَةً فِي الْحَيَاةِ عَجِيبَةً غَرِيبَةً بِحَقٍّ وَصِدْقٍ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ كَانَ يَبِيتُ وَيُصْبِحُ وَفِي ضَمِيرِهِ وَفِي يَقِينِهِ وَفِي خَلَدِهِ لَا يَغِيبُ عَنْ عَيْنَيْ قَلْبِهِ أَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ سَامِعُهُ، وَأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ مُبْصِرُهُ، وَأَنَّهُ رُبَّمَا أَصْبَحَ أَوْ أَمْسَى وَالْقُرْآنُ يَتَنَزَّلُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ فَيَكْشِفُ خَبِيئَةَ نَفْسِهِ، وَالْقُرْآنُ يَتَنَزَّلُ عَلَى قَلْبِ النَّبِيِّ ﷺ يُخْرِجُ مَكْنُونَ صَدْرِهِ، وَالْقُرْآنُ يَتَنَزَّلُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ يُخْرِجُ الْخَبِيءَ مِنْ أَمْرِهِ.

فَلَا يَخْفَى عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، وَمَا مِنْ هَاجِسٍ يَهْجِسُ فِي النَّفْسِ، وَلَا خَاطِرٍ يَلُوحُ فِي أُفُقِ الْعَقْلِ إِلَّا وَاللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ، إِلَّا وَاللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ خَبِيرٌ بِهِ، عَلِيمٌ بِأَمْرِهِ.

فَكَانَ الْأَصْحَابُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يَعِيشُونَ فَتْرَةً حِينَ كَانَ الْقُرْآنُ يَتَنَزَّلُ عَلَى قَلْبِ النَّبِيِّ ﷺ؛ فَتْرَةً عَجِيبَةً بِحَقٍّ.

وَرَبَّاهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالْأَحْدَاثِ الْمَرِيرَةِ، وَآتَاهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ، وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ؛ فَكَانُوا حَقًّا بَاقَةَ الْوَرْدِ حَوْلَ النَّبِيِّ ﷺ فِي بُسْتَانِ الصَّبْرِ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ يُصِيبُهُ مِنْ ذَلِكَ مَا يُصِيبُهُ، وَاللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَا يَكْتَفِي بِنُزُولِ الْقُرْآنِ، ثُمَّ يَدَعُ الصَّحَابَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- لِكِتَابِهِ -جَلَّ وَعَلَا- لِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ، وَيُخْرِجَ مَكْنُونَاتِ صُدُورِهِمْ، وَإِنَّمَا كَانَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَعْرِضُهُمْ عَلَى كِيرِ الْمِحْنَةِ، وَيُدْخِلُهُمْ أَتُّونَ الْفِتْنَةِ؛ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنَ الْجِهَةِ الْمُقَابِلَةِ خَرَجُوا ذَهَبًا صُرَاحًا خَالِصًا، لَا شَائِبَةَ فِيهِ وَلَا كُدُورَةَ تَعْتَرِيهِ.

وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقُودُ الْمَسِيرَةَ -مَسِيرَةَ الْبَشَرِيَّةِ- بَعْدَ إِذْ أَعْلَنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِلَيْهِ أَنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَأَنَّ الْأَمْرَ قَدْ رَجَعَ إِلَى نِصَابِهِ مِنْ غَيْرِ مَا تَزْيِيفٍ لِمُزَيِّفٍ، وَلَا تَحْرِيفٍ لِمُحَرِّفٍ، وَمِنْ غَيْرِ مَا شَائِبَةٍ تَعْلَقُ بِذَاكِرَةِ الْبَشَرِيَّةِ بَعْدَ بَعْثَةِ خَيْرِ الْبَرِيَّةِ ﷺ.

كَانَ رَبُّكَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- بِسُنَّتِهِ الَّتِي مَضَتْ فِي أُمَّةِ النَّبِيِّ ﷺ يُمَحِّصُ الْأَصْحَابَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَكَانَ وَعْيُهُمْ فَائِقًا، وَكَانَ حِسُّهُمْ ثَاقِبًا، وَكَانَ بَصَرُهُمْ نَافِذًا، وَكَانُوا بِحَقٍّ عَلَى قَدْرِ الْمَسْؤُولِيَّةِ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ مُلْقَاةً عَلَى أَعْتَاقِهِمْ، يَحْمِلُونَهَا فِي حَيَاتِهِمْ، وَيُبَلِّغُونَهَا إِلَى مَنْ بَعْدَهُمْ؛ لِتَصِلَ إِلَيْهِمْ نَقِيَّةً مِنْ كُلِّ زَيْفٍ بَعْدَ مَمَاتِهِمْ، فَأَدَّوُا الْأَمَانَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَكَانُوا سَابِقِينَ بِحَقٍّ كَمَا أَرَادَ رَبُّكَ -جَلَّ وَعَلَا- لِلْجِيلِ الَّذِي اصْطَفَاهُ مِنَ الْبَشَرِيَّةِ مُصَاحِبًا لِخَيْرِ الْبَرِيَّةِ ﷺ.

كَانُوا يُحِسُّونَ أَنَّ الْوَحْيَ عِنْدَمَا يَتَنَزَّلُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ فَهِيَ النِّعْمَةُ الْكُبْرَى، وَهِيَ الْمِنَّةُ الْعُظْمَى؛ وَلِذَلِكَ لَمَّا انْطَلَقَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- إِلَى أُمِّ أَيْمَنَ، يَصِلَانِ مَنْ كَانَ يُحِبُّ نَبِيُّهُمْ ﷺ بَعْدَ مَمَاتِهِ، يَصِلَانِ مَنْ كَانَ يَصِلُهُ الرَّسُولُ ﷺ فِي حَيَاتِهِ، وَهِيَ لَمْحَةٌ مِنْ لَمْحَاتِ الْوَفَاءِ عَزَّ نَظِيرُهَا، وَقَلَّ مَثِيلُهَا إِلَّا فِي هَذَا الْجِيلِ الَّذِي صَاغَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهِ الْوَفَاءَ مُجَسَّمًا، فَكَانَ حَيًّا يَتَحَرَّكُ فِي أَشْخَاصٍ، وَكَانَ مَاثِلًا يَبْدُو فِي ذَوَاتٍ وَأَرْكَانٍ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَى الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ-.

((انْطَلِقْ بِنَا إِلَى أُمِّ أَيْمَنَ نَزُورُهَا كَمَا كَانَ يَزُورُهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ )).

وَأُمُّ أَيْمَنَ حَاضِنَةُ نَبِيِّنَا ﷺ مِنْ بَعْدِ وَفَاةِ أُمِّهِ، وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُحِبُّهَا، وَيُجِلُّهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-.

فَلَمَّا مَاتَ جَاءَ هَذَا الْخَاطِرُ فِي قَلْبِ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَأَخَذَ بِيَدِ الْفَارُوقِ لِكَيْ يَزُورَا مَعًا أُمَّ أَيْمَنَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-:

((انْطَلِقْ بِنَا نَزُورُ أُمَّ أَيْمَنَ كَمَا كَانَ يَزُورُهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ )).

فَلَمَّا تَحَصَّلَا عِنْدَهَا، وَلَمَّا انْتَهَيَا إِلَيْهَا؛ لَمَّا رَأَتْهُمَا وَكَانَتْ تَرَاهُمَا دَائِمًا مَعَ الْحَبِيبِ ﷺ، وَالْآنَ أَيْنَ شَخْصُهُ؟! وَأَيْنَ رَاحَ جِسْمُهُ؟!

فَابْتَدَرَتِ الدُّمُوعُ بِعَيْنَيْهَا تَسِحُّ سَحًّا، وَأَقْبَلَا عَلَيْهَا يُوَاسِيَانِهَا، وَيُؤَمِّلَانِ خَيْرًا، فَقَالَا: ((مَا يُبْكِيكِ؟ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ ﷺ )).

أَمَا تَعْلَمِينَ أَنَّ مَا عِنْدَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- هُوَ خَيْرٌ لِنَبِيِّهِ ﷺ، وَأَنَّهُ قَدِ انْتَقَلَ ﷺ إِلَى الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، وَأَنَّ مَا أَعَدَّهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ بَرْزَخًا وَمَآلًا هُوَ خَيْرٌ مِنْ هَذِهِ الْفَانِيَةِ الَّتِي هِيَ مُصْطَرَعٌ لِلْأَحْدَاثِ، وَمُعْتَرَكٌ لِلنِّيَّاتِ، وَالَّتِي يَتَلَاطَمُ فِيهَا هَذَا الْبَاطِلُ عَلَى سَاحِلِ الْخَيْرِ، يَنْحَسِرُ عَنْهُ حِينًا، وَيَطْغَى عَلَيْهِ حِينًا؟

أَمَا عَلِمْتِ أَنَّ مَا عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هُوَ خَيْرٌ لِنَبِيِّهِ ﷺ؟

وَتَقُولُ الْمَرْأَةُ الْمُؤْمِنَةُ الَّتِي حَضِنَتْ رَسُولَ اللهِ ﷺ صَغِيرًا، فَكَانَ فِي حَضَانَتِهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((مَا أَبْكِي أَلَّا أَكُونَ أَعْلَمُ أَنَّ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ ﷺ، وَلَكِنْ أَبْكِي أنَّ الوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ مِنَ السَّمَاءِ، فَهَيَّجَتْهُمَا عَلَى الْبُكَاءِ، فَجَعَلَا يَبْكِيَانِ مَعَهَا)).

فَقَعَدَا يَبْكِيَانِ، فَأَخَذَا يَذْرِفَانِ الدُّمُوعَ يَسِحَّانِهَا سَحًّا، ((فَهَيَّجَتْهُمَا عَلَى الْبُكَاءِ، فَجَعَلَا يَبْكِيَانِ مَعَهَا)).

 -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-.

كَانَ الْقُرْآنُ يَتَنَزَّلُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ فِي تِلْكَ الْفَتْرَةِ، وَهِيَ فَتْرَةٌ مُتَمَيِّزَةٌ فِي تَارِيخِ الْبَشَرِيَّةِ كُلِّهَا.

كَانَ الْقُرْآنُ يَتَنَزَّلُ لِكَيْ يَقُولَ: يَا فُلَانُ! أَسْرَرْتَ فِي نَفْسِكَ كَذَا، وَأَعْلَنْتَ كَذَا، وَعَمِلْتَ فِي الْخَفَاءِ كَذَا وَفِي الْعَلَنِ كَذَا، وَيَا فُلَانُ وَيَا فُلَانُ.. بِذَاتِهِ، يُخَاطِبُهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَيُكَلِّمُهُ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، يُكَلِّمُهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْهُ إِلَيْهِ، عِنْدَمَا يَتَنَزَّلُ الْقُرْآنُ كَاشِفًا، وَعِنْدَمَا تَتَعَرَّى النَّفْسُ الْإِنْسَانِيَّةُ، فَإِذَا هِيَ مُتَجَرِّدَةٌ مِنْ كُلِّ رِدَاءٍ وَكِسَاءٍ، وَإِذَا هِيَ وَاقِفَةٌ فِي حَالَةٍ مِنْ حَالَاتِ التَّجَرُّدِ الْفَذِّ، يَعْتَرِيهَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ مَا يَعْتَرِيهَا مِنَ الْإِشْفَاقِ وَالْوَجَلِ، وَمِنَ الْمَحَبَّةِ وَالْإِقْبَالِ: يَا فُلَانُ، أَسْرَرْتَ كَذَا مِنْهُ إِلَيْهِ.

عِنْدَمَا يَتَنَزَّلُ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، وَالْمَرْءُ فِي خَلْوَتِهِ يَعْلَمُ أَنَّ اللهَ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ سَامِعٌ إِلَيْهِ، وَأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِهِ شَيْءٌ.

فِي تِلْكَ الْفَتْرَةِ أَخَذَ النَّبِيُّ ﷺ يُرَبِّي الْأُمَّةَ بِدُرُوسِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ؛ وَلَكِنَّ الْأَصْحَابَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- كَانُوا يَثْبُتُونَ مَعَ الرَّسُولِ ﷺ فِي مَهَبِّ الْأَعَاصِيرِ، تَأْتِي إِلَيْهِمْ، يَنْثَنُونَ مَعَهَا حِينًا، وَيَسْتَقِيمُونَ حِينًا، وَفِي كُلِّ الْحَالَاتِ لَا يَخْرُجُونَ عَنِ الطَّبِيعَةِ الْبَشَرِيَّةِ الَّتِي خَلَقَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْإِنْسَانَ عَلَيْهَا.

وَهَذَا وَاحِدٌ مِنْهُمْ؛ مِنْ أَصْحَابِ نَبِيِّكُمْ ﷺ، يُقَرِّرُ قَاعِدَةً مِنَ الْقَوَاعِدِ الْجَلِيلَةِ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، تَأْتِي فِي حِينِهَا -بِحَوْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَقُوَّتِهِ-، وَذَلِكَ لَمَّا جَلَسَ، كَمَا أَخْرَجَ مُسْلِمٌ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ التَّيْمِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ- قَالَ: ((كُنَّا عِنْدَ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَأَخَذَ يُحَدِّثُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: ((يَا حُذَيْفَةُ! أَدْرَكْتُمْ رَسُولَ اللهِ ﷺ؟)).

قَالَ: ((نَعَمْ)).

قَالَ: ((وَتَرَكْتُمُوهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ؟!! أَمَا إِنِّي لَوْ كُنْتُ أَدْرَكْتُ الرَّسُولَ ﷺ لَقَاتَلْتُ مَعَهُ، وَأَبْلَيْتُ)).

فَقَالَ: ((وَيْحَكَ! لَا تَقُلْ هَكَذَا؛ فَإِنَّا كُنَّا وَكُنَّا..)) عَلَى مَا يَأْتِي ذِكْرُهُ إِنْ شَاءَ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-.

وَهَاهُنَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ الْأَمْرُ الَّذِي قَرَّرَهُ حُذَيْفَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَلْحَظَ الْجَانِبَ الْبَشَرِيَّ فِي نَفْسِهِ، وَأَلَّا يَغْلُوَ فِي فِكْرِهِ، وَأَلَّا يَشْتَطَّ فِي خَيَالِهِ، فَيَسْبَحَ مَعَهُ فِي مَسَابِحِ الْوَهْمِ حَيْثُ يَتَلَكَّأُ هُنَالِكَ فِي جَنَبَاتِ خَيَالِهِ، ثُمَّ لَا يَعُودُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا بِقَبْضِ الرِّيحِ، لَا يَتَحَصَّلُ مِنَ الْحَقَّيقَةِ عَلَى شَيْءٍ.

وَمَنْ أَدْرَاكَ أَنَّكَ لَوْ كُنْتَ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ لَمْ تَكُنْ عَدُوًّا لِرَسُولِ اللهِ ﷺ؟!

يَقُولُ الْقَائِلُ: لَوْ كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ لَكُنْتُ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ!!

وَيْحَكَ! وَمَنْ أَدْرَاكَ.. مَنْ أَدْرَاكَ أَنَّكَ لَوْ كُنْتَ مَعَهُ لَمْ تَكُنْ أَبَا جَهْلٍ بِقَضِّهِ وَقَضِيضِهِ، وَشَحْمِهِ وَلَحْمِهِ؟!

وَمَنْ أَدْرَاكَ؟!

فَالْأَمْرُ قَائِمٌ عَلَى قِسْمَةٍ ثُنَائِيَّةٍ لَا يَزِيدُ شَيْءٌ مِنْهَا عَلَى شَيْءٍ، وَإِنَّمَا الْأَمْرُ مُسْتَوٍ هَكَذَا عَلَى الرُّجْحَانِ مِنْ غَيْرِ رُجْحَانٍ.

النَّبِيُّ ﷺ كَمَا سَيَرْوِي حُذَيْفَةُ إِيمَاءً وَضِمْنًا، لَا تَصْرِيحًا وَلَا إِعْلَانًا، فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ، وَكَانَتْ فِي شَوَّالٍ -كَمَا يَقُولُ ابْنُ إِسْحَاقَ- مِنْ سَنَةِ خَمْسٍ (5هـ)، وَكَانَتْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، كَمَا يَقُولُ فِي ((الْمَغَازِي)) الْوَاقِدِيُّ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَى عُلَمَائِنَا أَجْمَعِينَ-.

فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُعَانِي عَنَاءً مُرًّا، كَمَا فِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)) عَنِ الْبَرَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَعَنْ أَبِيهِ، يَقُولُ: ((لَمْ أَكُنْ أَرَى جِلْدَةَ بَطْنِ رَسُولِ اللهِ ﷺ مِنَ الْغُبَارِ))؛ لِأَنَّهُ ﷺ كَانَ يَحْمِلُ التُّرَابَ عَلَى ظَهْرِهِ.

كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَعْمَلُ فِي الْخَنْدَقِ بِيَدَيْهِ ﷺ، فَكَانَ الْبَرَاءُ إِذَا مَا نَظَرَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ لَمْ يَرَ جِلْدَةَ بَطْنِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَلَمْ يُمَيِّزْ لَهَا لَوْنًا مِمَّا تَكَاثَفَ عَلَيْهَا مِنَ الْغُبَارِ، وَفِي عُكَنِ بَطْنِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

يَقُولُ: ((وَكَانَ كَثِيرَ الشَّعْرِ ﷺ، يَحْمِلُ التُّرَابَ عَلَى عَاتِقِهِ، وَظَلَلْنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا نَطْعَمُ شَيْئًا، وَلَا نَجِدُ ذَوَاقًا)) يَعْنِي: لَا طَعَامًا وَلَا شَرَابًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-.

 وَالنَّبِيُّ ﷺ فِي ذَلِكَ يَقُودُهُمْ؛ حَتَّى فِي مَسِيرَةِ الْجُوعِ يَسِيرُ بِهَا النَّبِيُّ ﷺ رَافِعًا لِوَاءَهَا؛ لِكَيْ يَسِيرَ خَلْفَهُ مِنَ الْأَصْحَابِ، ثُمَّ يَأْتِي بَعْدُ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ مَنْ يَسِيرُ عَلَى قَدَمَيْ نَبِيِّهِ ﷺ؛ لِيَعْلَمَ أَنَّهَا دُنْيَا فَانِيَةٌ يَا صَاحِبِي، وَأَنَّهَا لَا تُسَاوِي عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ شَيْئًا، وَلَوْ كَانَتْ تُسَاوِي شَيْئًا عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مَا تَرَكَ نَبِيَّهُ ﷺ وَالثُّلَّةُ الْمُؤْمِنَةُ فِي الْخَنْدَقِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهِنَّ لَمْ يَذُوقُوا ذَوَاقًا، كَمَا فِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)) -رَحِمَهُ اللهُ-.

وَلَكِنْ كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ كَمَا حَدَّدَ لَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ؛ لِكُلِّ عَشَرَةٍ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا يَحْفِرُونَهَا حَفْرًا، وَيَنْقُلُونَ التُّرَابَ نَقْلًا؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَكُونَ سَلْعٌ.. مِنْ أَجْلِ أَنْ يَكُونَ الْجَبَلُ إِلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَالْجُنْدُ الْمُقَاتِلَةُ فِي حَامِيَةِ الرُّشْدِ عَنْ مَدِينَةِ الرَّسُولِ ﷺ، وَلِيَكُونَ الْخَنْدَقُ بَيْنَ النَّبِيِّ ﷺ وَمَعَهُ جُنْدُهُ، وَالْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ جَاؤُوا عَشْرَةَ آلَافٍ مِنْ كُلِّ صَوْبٍ؛ إِذْ حَزَّبَتْ يَهُودُ الْأَحْزَابَ عَلَى الرَّسُولِ ﷺ، فَجَاءَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَرْجَاءِ الْجَزِيرَةِ جَمِيعًا، يَنْفُضُونَ أَمْرَهُمْ نَفْضًا بِكِنَانَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِكَيْ يَسْتَأْصِلُوا النَّبِيَّ ﷺ وَمَنْ مَعَهُ.

النَّبِيُّ ﷺ يَعْمَلُ فِي الْخَنْدَقِ بِيَدَيْهِ، وَيَحْمِلُ التُّرَابَ عَلَى ظَهْرِهِ ﷺ، وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- لَا يَجِدَانِ مِكْتَلًا يَحْمِلَانِ فِيهِ التُّرَابَ، فَيَجْعَلَانِ التُّرَابَ فِي ثَوْبَيْهِمَا، وَيَحْمِلَانِ التُّرَابَ حَمْلًا.

 الْأَصْحَابُ جَمِيعُهُمْ قَدْ تَشَعَّثَتْ رُؤُوسُهُمْ؛ بَلْ تَلَبَّدَتْ رُؤُوسُهُمْ بِهَذَا التُّرَابِ الَّذِي صَيَّرَهُ الْعَرَقُ الْمُبَارَكُ طِينًا عَلَى تِلْكَ الرُّؤُوسِ؛ لِيَكُونَ فَوْقَ الْهَامَاتِ كَأَنَّهُ التِّيجَانُ؛ بَلْ هُوَ التِّيجَانُ فِي الْحَقِيقَةِ.

 وَالرَّسُولُ ﷺ لَا يَخْرُجُ عَنْ هَذَا الْإِطَارِ، يَعْمَلُ بِيَدَيْهِ، وَهُمْ يَرْتَجِزُونَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ: ((اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَةِ، فَارْحَمِ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَةَ)).

يَقُولُهَا النَّبِيُّ ﷺ، يَقُولُهَا مِنْ بَعْدِ انْتِبَاهِهِ مِنْ رَقْدَتِهِ؛ إِذْ أَخَذَ مِنْهُ التَّعَبُ مَأْخَذًا عَظِيمًا، فَجَلَسَ ﷺ، ثُمَّ اسْتَنَدَ بِجَانِبِهِ الْأَيْسَرِ إِلَى صَخْرَةٍ هُنَالِكَ، فَأَخَذَ النَّوْمُ بِمَعَاقِدِ أَجْفَانِهِ، وَوَقَفَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- نَاحِيَتَيْهِ يَرُدَّانِ النَّاسَ؛ لِكَيْ يَسِيرُوا مِنْ بَعِيدٍ؛ حَتَّى لَا يُحْدِثَ أَحَدٌ صَوْتًا، وَلَا يَتَأَتَّى مِنْ أَحَدٍ نَأْمَةٌ بِصَوْتٍ فَيَسْتَيْقِظَ الرَّسُولُ ﷺ مِنْ رِقْدَتِهِ، يَنْشُدَانِ لَهُ بَعْضَ الرَّاحَةِ مِنْ بَعْدِ الْعَنَاءِ، مِنْ بَعْدِ التَّعَبِ، مِنْ بَعْدِ الْجُوعِ، مِنْ بَعْدِ السَّغَبِ ﷺ.

 فَانْتَبَهَ النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَةِ، فَارْحَمِ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَةَ)).

وَأَخَذَ مِعْوَلَهُ، وَأَخَذَ يَعْمَلُ فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ بِيَدَيْهِ ﷺ.

 جَاءَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ.

وَكَانَ الْيَهُودُ يَخَافُونَ عَلَى الْيَهُودِ مِنْ ذَرَارِيهِمْ، عَلَى صِغَارِهِمْ وَعَلَى ذُرِّيَّتِهِمْ يَخَافُونَ، يَفْرَقُونَ مِنَ الْيَهُودِ مِنْ أَعْلَاهُمْ، وَمِنْ فَوْقِهِمْ، كَمَا وَصَفَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.

وَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ؛ فَيَأْتُونَ يَسْتَأْذِنُونَ النَّبِيَّ ﷺ، فَلَا يَسْتَأْذِنُ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا أَذِنَ لَهُ الرَّسُولُ ﷺ؛ لِأَنَّهُ شَرٌّ يُدْفَعُ، وَهَمٌّ يَنْجَلِي، وَأَمَّا بَقَاؤُهُمْ مَعَ الرَّسُولِ ﷺ فَغُصَّةٌ وَشَجًى فِي الْحَلْقِ، وَهُوَ شَوْكَةٌ تَعْتَرِضُ فِي الْحَلْقِ، تَعْتَرِضُ مَسِيرَ الْمَاءِ وَمَسَاغَهُ.

 وَالنَّبِيُّ ﷺ لَا يَأْتِيهِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ إِلَّا أَذِنَ لَهُ ﷺ.

يَقُولُ الْبَرَاءُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((وَاعْتَرَضَتْنَا كُدْيَةٌ)).. ((اعْتَرَضَتْنَا فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ كُدْيَةٌ))، وَهِيَ الصَّخْرَةُ الْعَظِيمَةُ، لَا تَعْمَلُ فِيهَا مَعَاوِلُنَا شَيْئًا، بَلْ تَتَكَسَّرُ عَلَى رَأْسِهَا مِنْ عِنَادِهَا، مِنْ صَخْرَةٍ عَظِيمَةٍ جُلْمُودٍ قَدْ قَامَتْ هُنَالِكَ، قَامَتْ قَائِمَةً فِي جَوْفِ الْخَنْدَقِ مُعْتَرِضَةً، تَتَحَدَّى بِرَأْسِهَا شَامِخَةً، تَتَكَسَّرُ عَلَيْهَا حَدِيدُ تِلْكَ الْفُؤُوسِ الَّتِي أَخَذُوا بِهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-.

وَمَنْ لَهَا إِلَّا النَّبِيُّ ﷺ!!

فَقَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! اعْتَرَضَتْنَا كُدْيَةٌ)).

 يَتَأَتَّى النُّورُ مِنْ قَلْبِ الظَّلَامِ مُنْفَجِرًا مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ، وَيَنْزِلُ النَّبِيُّ ﷺ وَلَهُ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْأَيَّامِ لَمْ يَذُقْ ذَوَاقًا.

 يَنْزِلُ الرَّسُولُ ﷺ فَيَضْرِبُهَا بِمِعْوَلِهِ، فَإِذَا هِيَ كَثِيبٌ أَهْيَلُ، فَإِذَا هِيَ كَثِيبٌ أَهْيَمُ يَتَنَاثَرُ تُرَابًا، وَالنَّبِيُّ ﷺ يَضْرِبُهَا بِقُدْرَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

النَّبِيُّ ﷺ فِي هَذَا الْعَنَاءِ الْمُرِّ، وَفِي هَذَا الْعَنَتِ الْعَانِتِ مَعَهُ أَصْحَابُهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، لَمَّا جَلَسَ حُذَيْفَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَذَلِكَ بَعْدَمَا مَرَّ مَرِيرُ الْأَيَّامِ، وَتَدَافَعَ حَبْوُهَا بِسَعْيِهَا نَحْوَ النِّهَايَةِ؛ جَلَسَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يُحَدِّثُ بِمَا كَانَ هُنَالِكَ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أُولَئِكَ التَّابِعِينَ لَمْ يَشْهَدْ رَسُولَ اللهِ ﷺ فَقَالَ: ((يَا حُذَيْفَةُ! أَدْرَكْتُمْ رَسُولَ اللهِ ﷺ وَرَأَيْتُمُوهُ؟)).

 أَصَحِبْتُمُ النَّبِيَّ ﷺ؟ كُنْتُمْ مَعَهُ تَرَوْنَهُ وَتُكَلِّمُونَهُ، تُخَاطِبُونَهُ وَتُحَدِّثُونَهُ، تَسِيرُونَ فِي رِكَابِهِ، تَقْعُدُونَ بِقُعُودِهِ، وَتَنْطَلِقُونَ بِانْطِلَاقِهِ، كُنْتُمْ تَنْظُرُونَ إِلَى وَجْهِ النَّبِيِّ ﷺ كِفَاحًا، وَتَسْمَعُونَ صَوْتَهُ ﷺ؟!

الرَّجُلُ يَتَفَجَّرُ مِنْ قَلْبِهِ الشَّوْقُ إِلَى نَبِيِّهِ ﷺ، وَلَا حَرَجَ؛ وَلَكِنْ زَادَ الْأَمْرُ عَنْ حَدِّهِ فَانْقَلَبَ إِلَى ضِدِّهِ، قَالَ: يَا حُذَيْفَةُ؛ عِنْدَمَا رَدَّ عَلَيْهِ حُذَيْفَةُ بِالْإِيجَابِ قَالَ: ((نَعَمْ، كُنَّا نُصَاحِبُهُ وَنَسِيرُ مَعَهُ ﷺ )).

فَقَالَ: ((يَا حُذَيْفَةُ! وَاللَّهِ لَوْ أَنِّي أَدْرَكْتُ النَّبِيَّ لَأَبْلَيْتُ، وَقَاتَلْتُ، وَجَاهَدْتُ وَنَصَرْتُ)).

فَقَالَ: ((وَيْحَكَ! لَا تَقُلْ هَكَذَا؛ فَإِنَّا كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْخَنْدَقِ، وَجَاءَ النَّبِيُّ ﷺ يَمُرُّ عَلَى الْأَصْحَابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فِي لَيْلَةِ وَصَفَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَا كَانَ فِيهَا مِنَ الْأَمْرِ، وَمِنْ شِدَّةِ الْخَطْبِ، وَمِنْ عَظِيمِ الْعَنَاءِ مِمَّا أَصَابَ قُلُوبَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

مَرَّ النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((أَلَا رَجُلٌ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ يَكُونُ مَعِي فِي الْجَنَّةِ؟)).

يَقُولُهَا مَرَّةً فَلَا يَقُومُ لَهُ أَحَدٌ، ثُمَّ ثَانِيَةً فَلَا يَقُومُ لَهُ أَحَدٌ، ثُمَّ ثَالِثَةً فَلَا يَقُومُ لَهُ أَحَدٌ.

وَلَكَ أَنْ تَتَأَمَّلَ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْآنَ؛ نَبِيُّكَ ﷺ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِكَ، يَقُولُ: ((أَلَا هَلْ مِنْ رَجُلٍ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ يَكُونُ مَعِي فِي الْجَنَّةِ؟)).

 تَحْظَى بِالرُّفْقَةِ مَعَ الرَّسُولِ ﷺ فِي جَنَّةِ الْخُلْدِ.

 وَالنَّبِيُّ ﷺ يَشْتَرِطُ الرَّجْعَةَ، يَشْتَرِطُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ، وَلَرُبَّمَا فَهِمَهَا الْأَصْحَابُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- عَلَى أَنَّ مَنْ ذَهَبَ فَلَمْ يَعُدْ فَإِنَّهُ لَا يَتَحَصَّلُ عَلَى الْوَعْدِ الَّذِي وَعَدَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ؛ إِذْ شَرَطَ الرَّجْعَةَ إِلَيْهِ: ((يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ)).

وَلَكِنْ لَوْ أَنَّكَ تَأَمَّلْتَ فِي الْأَمْرِ بَعِيدًا عَنِ الظَّرْفِ الَّذِي كَانَ فِيهِ مِنَ الْهَوْلِ الْهَائِلِ، وَالشِّدَّةِ الشَّدِيدَةِ، وَالْكَرْبِ الْكَارِبِ، وَمَا كَانَ هُنَالِكَ مِمَّا وَصَفَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مِنَ الْقُرِّ الشَّدِيدِ الَّذِي يَنْخَرُ فِي الْعِظَامِ نَخْرًا، مِنَ الْبَرْدِ الْعَنِيفِ الَّذِي يُحِيطُ الرَّجُلَ يُجَلِّلُهُ، كَأَنَّمَا يَجْعَلُهُ فِي طَوْقٍ مِنْ حَدِيدٍ، هَذَا الْبَرْدُ الشَّدِيدُ لَمْ يَكُنْ وَحْدَهُ، وَإِنَّمَا كَانَتِ الرِّيحُ تَزْأَرُ كَأَمْثَالِ الْعَوَاصِفِ، لَوْ أَخْرَجَ الرَّجُلُ أُصْبُعَهُ لَمْ يَرَهْ، كَمَا قَالَ حُذَيْفَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي وَصْفِ الْحَالِ.

وَهُنَالِكَ مَا هُنَالِكَ مِنْ ذَلِكَ الْخَوْفِ الَّذِي أَخَذَ بِالْقُلُوبِ {إذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر}، كَمَا وَصَفَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ حَالَهُمْ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ.

لَكَ أَنْ تَتَصَوَّرَ الْآنَ تِلْكَ الْأَعْيُنَ الَّتِي زَاغَ بَصَرُهَا، وَتِلْكَ الْقُلُوبَ الَّتِي عَلَتْ بِخَوْفِهَا حَتَّى بَلَغَتِ الْحَنَاجِرَ، كَمَا قَالَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.

حُذَيْفَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَقُولُ: ((إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لَمْ يَقُمْ لَهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- )).

وَمَعَ أَنَّكَ إِذَا مَا تَأَمَّلْتَ فِي الْكَلَامِ بَعِيدًا عَنِ الظَّرْفِ الَّذِي قِيلَ فِيهِ؛ تَجِدُ فِيهِ أَوْ تَشُمُّ مِنْ خِلَالِهِ رَائِحَةَ الْوَعْدِ بِالْعَوْدَةِ إِنْ شَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.

((أَلَا هَلْ مِنْ رَجُلٍ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ يَكُونُ مَعِي فِي الْجَنَّةِ؟)).

يَكُونُ رَفِيقَ الرَّسُولِ ﷺ فِي الْجَنَّةِ.

 لَمْ يَقُمْ أَحَدٌ.

 يَقُولُ حُذَيْفَةُ: ((وَكُنْتُ هُنَالِكَ فِي مِرْطٍ لِامْرَأَتِي)).

 فِي مِلَاءَةٍ لِامْرَأَتِهِ قَدْ تَلَفَّحَ بِهَا مِنْ شِدَّةِ الْبَرْدِ؛ إِذْ جَعَلُوا النِّسَاءَ خِلْفَةً، ثُمَّ إِنَّهُ يَقُومُ جَاثِيًا عَلَى رُكْبَتَيْهِ.

قَالَ: ((فَلَمَّا جَاءَ الرَّسُولُ  ﷺ بِإِزَائِي قَالَ: ((يَا حُذَيْفَةُ!))، تَقَاصَرْتُ لِلْأَرْضِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- )).

هُوَ يُشْفِقُ الْآنَ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ سَيُعَيِّنُهُ، فَإِذَا مَا عَيَّنَهُ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنَ الْقِيَامِ.

فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ ﷺ قَالَ: ((يَا حُذَيْفَةُ!)).

 قَالَ: ((لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ!))، وَهُوَ يَتَقَاصَرُ إِلَى الْأَرْضِ.

 قَالَ: ((اذْهَبْ فَائْتِنِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ، وَلَا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ)).

 يَعْنِي: لَا تُحَفِّزْهُمْ عَلَيَّ؛ حَتَّى إِذَا مَا ظَهَرَ شَخْصُكَ هُنَالِكَ رُبَّمَا ظَنُّوا أَنَّكَ طَلِيعَةٌ لِهُجُومٍ شَامِلٍ عَلَيْهِمْ؛ وَحِينَئِذٍ تَكُونُ قَدْ أَثَرْتَ ثَائِرَتَهُمْ عَلَى الرَّسُولِ ﷺ وَمَنْ مَعَهُ.

أَمَّا حُذَيْفَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَإِنَّهُ يَقُولُ: ((أَخَذَنِي مِنَ الْبَرْدِ مَا أَقْبَلَ بِي وَأَدْبَرَ، وَأَخَذَنِي مِنَ الْخَوْفِ مَا ارْتَكَزَ فِي الْقَلْبِ ارْتِكَازًا)).

 وَأَمَّا الرَّسُولُ ﷺ فَإِنَّهُ يَأْمُرُهُ بِهَذَا الْأَمْرِ فِي صَرَاحَةٍ مَعْهُودَةٍ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ: ((وَلَا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ، وَلَا تُحْدِثْ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنِي)).

يَقُولُ حُذَيْفَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((فَوَاللَّهِ! مَا هُوَ إِلَّا أَنْ مَضَيْتُ لِأَمْرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ حَتَّى ذَهَبَ مِنِّي وَمِنْ قَلْبِي كُلُّ مَا خَلَقَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهِ مِنْ خَوْفٍ وَقُرٍّ، وَكَأَنَّمَا أَمْشِي فِي حَمَّامٍ)).

 فَاجْتَازَ الْخَنْدَقَ، وَذَهَبَ، وَكَانَتِ الرِّيحُ تَعْمَلُ عَمَلَهَا هُنَالِكَ فِي الْأَحْزَابِ، كَمَا وَصَفَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، كَانَتْ تَكْفِأُ الْقُدُورَ، وَكَانَتْ تُطَيِّرُ الْخِيَامَ، وَتَقْتَلِعُ الْأَوْتَادَ، وَتُقَطِّعُ الْأَسْبَابَ، تُقَطِّعُ الْحِبَالَ، وَيُلْقِي اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي الْقُلُوبِ مِنَ الذُّعْرِ وَمِنَ الرُّعْبِ، وَمِنَ الْمَخَافَةِ مَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ عَلِيمٌ.

يَقُولُ حُذَيْفَةُ: ((فَلَمَّا تَحَصَّلْتُ هُنَالِكَ كُنْتُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ، فَرَأَيْتُ رَجُلًا يُصْلِي ظَهْرَهُ النَّارَ مِنْ شِدَّةِ الْبَرْدِ، وَلَمْ أَكُنْ أَعْرِفُ أَبَا سُفْيَانَ قَبْلُ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ أَدْرَكْتُ أَنَّهُ هُوَ، وَإِذَا بِهِ يَقُولُ: لِيَنْظُرْ كُلٌّ مِنْكُمْ جَلِيسَهُ، لِيَنْظُرْ كُلٌّ مِنْكُمْ جَلِيسَهُ)).

وَأَمَّا حُذَيْفَةُ، ذَلِكَ الطَّلِيعَةُ الرَّبِيئَةُ الَّذِي اخْتَصَّهُ الرَّسُولُ ﷺ بِهَذِهِ الْمُهِمَّةِ الِاسْتِطْلَاعِيَّةِ الِاسْتِكْشَافِيَّةِ لِجُنْدِ الْمُسْلِمِينَ فِي تِلْكَ الْمَعْرَكَةِ الْمَهُولَةِ وَالْمَوْقِعَةِ الْحَاسِمَةِ.

أَمَّا حُذَيْفَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ فَلَا تَغِيبُ عَنْهُ فِطْنَتُهُ فِي التَّوِّ وَاللَّحْظَةِ، يُمْسِكُ بِيَدَيْ مَنْ عَلَى يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ، يَقُولُ: ((مَنْ أَنْتَ؟ يَقُولُ: أَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، مَنْ أَنْتَ: أَنَا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، فَيَقُولُ: نَعَمٌ نَعَمٌ)).

أَمَّا حُذَيْفَةُ فَلَا يَنْتَظِرُ أَنْ يُمْسِكَ أَحَدٌ بِيَدِهِ لِيَسْأَلَهُ، وَإِنَّمَا يَأْخُذُ بِزِمَامِ الْمُبَادَرَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: ((فَلَمَّا رَأَيْتُ أَبَا سُفْيَانَ وَضَعْتُ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ أَقْبَلْتُ عَلَيْهِ، فَتَذَكَّرْتُ قَوْلَ الرَّسُولِ ﷺ: ((وَلَا تُحْدِثْ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنِي)) )).

حُذَيْفَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَعُودُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ بِخَبَرِ الْقَوْمِ، يَجِدُ النَّبِيَّ ﷺ قَائِمًا يُصَلِّي، فَلَمَّا فَرَغَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ صَلَاتِهِ، كَانَتْ عَلَيْهِ عَبَاءَةٌ، فَجَعَلَ فَضْلَهَا -يَعْنِي: جَعَلَ شَيْئًا مِنْهَا- عَلَى حُذَيْفَةَ؛ لِأَنَّ حُذَيْفَةَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ إِلْقَاءِ بَيَانِهِ الَّذِي أَتَى بِهِ بَيْنَ يَدَيْ نَبِيِّهِ ﷺ عَادَ الْبَرْدُ إِلَيْهِ.

يَقُولُ: ((وَإِذَا أَنَا أُقَرْقِفُ مِنْ شِدَّةِ الْبَرْدِ، فَجَعَلَ الرَّسُولُ ﷺ فَضْلَ الْعَبَاءَةِ عَلَيَّ، وَأَخَذَ يُصَلِّي حَامِدًا رَبَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- وَشَاكِرًا)).

يَقُولُ: ((وَأَخَذَنِي النَّوْمُ، فَلَمْ أَسْتَيْقِظْ حَتَّى أَصْبَحْتُ، يَقُولُ لِيَ النَّبِيُّ ﷺ: ((قُمْ يَا نَوْمَانُ))، فَقَامَ حُذَيْفَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

وَإِذَنْ؛ فَهَؤُلَاءِ الْأَصْحَابُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ يُوَارِي مَا جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي ضَمِيرِهِ مِنِ اعْتِمَالِ تِلْكَ الْبَشَرِيَّةِ الَّتِي جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَنَا سِيَاجًا، وَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَنَا قَيْدًا مِمَّا فِينَا مِنْ ضَعْفٍ بَشَرِيٍّ، وَعَجْزٍ إِنْسَانِيٍّ.

 وَلَكِنْ لَا نَتَوَقَّفُ عِنْدَ حُدُودِ هَذَا الْقُصُورِ، وَإِنَّمَا نَسْتَدْرِكُ ذَلِكَ كُلَّهُ -بِفَضْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَرَحْمَتِهِ-، مُتَجَاوِزِينَ إِيَّاهُ، قَافِزِينَ فَوْقَ تِلْكَ الْمُعَوِّقَاتِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ نَصِلَ إِلَى الشَّاطِئِ -بِرَحْمَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ- مِنْ غَيْرِ مَا عَجْزٍ وَلَا تَوَانٍ، كَمَا كَانَ أَصْحَابُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ، كَانُوا عَلَى الطَّبِيعَةِ الْبَشَرِيَّةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-؛ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يَتَفَاعَلُونَ مَعَ كِتَابِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَسُنَّةِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ ﷺ، فَصَنَعَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِمْ فِي التَّارِيخِ مَا لَمْ يَحْدُثْ مِثْلُهُ قَطُّ فِي تَارِيخِ الْإِنْسَانِيَّةِ، مُنْذُ كَانَ الْإِنْسَانُ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ.

وَمَا أَدْرَاكَ أَنَّكَ لَوْ كُنْتَ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ لَمْ تَكُنْ أَبَا جَهْلٍ؛ إِذْ تَقُولُ: لَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَكُنْتُ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ؟!!

 وَيْحَكَ! وَمَا يُدْرِيكَ؟!

لَقَدْ كَانُوا عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ، وَتَعْمَلُ الطَّبِيعَةُ الْبَشَرِيَّةُ عَمَلَهَا.

يَقُولُ ﷺ: ((هَلْ مِنْ رَجُلٍ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ يَكُونُ مَعِي فِي الْجَنَّةِ؟)) يَكُونُ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ؟

 وَأَيْنَ نَبِيُّكُمْ فِي الْجَنَّةِ ﷺ؟!

فِي الْفِرْدَوْسِ الْأَعْلَى مِنْهَا.

وَلَكِنَّ الْخَوْفَ يَحْجُبُ الْقَلْبَ عَنِ الْإِبْصَارِ أَحْيَانًا، وَلَكِنَّ الْقُرَّ يُقْعِدُ الْمَرْءَ إِلَى الْأَرْضِ لَاطِئًا بِهَا أَحْيَانًا، وَلَكِنَّ الطَّبِيعَةَ الْبَشَرِيَّةَ تَضْرِبُ قَيْدًا وَسِيَاجًا حَوْلَ الْقَلْبِ وَالْجَسَدِ مَعًا، فَلَا يَقُومُ إِلَى النَّبِيِّ أَحَدٌ ﷺ حَتَّى يُعَيِّنَ بِنَفْسِهِ، وَيَقُولَ مَعَ التَّعْيِينِ، فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ طَاعَةِ الرَّسُولِ ﷺ.

فَقَامَ طَاعَةً لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَطَاعَةً لِرَسُولِهِ ﷺ.

 وَحِينَئِذٍ عِنْدَمَا يَأْتِي أَمْرُ الْقِيَمِ يَصِيرُ أَمْرُ الطَّبِيعَةِ الْبَشَرِيَّةِ بِعُجَرِهَا وَبُجَرِهَا، بِكُلِّ مَا فِيهَا مِنْ ضَعْفِهَا وَعَجْزِهَا؛ يَصِيرُ أَمْرُ الطَّبِيعَةِ الْبَشَرِيَّةِ تَحْتَ الْأَقْدَامِ بِمَوَاطِئِهَا، ثُمَّ فَلْتَنْطَلِقِ الْقِيَمُ إِلَى أَمَامَ أَمَامَ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَنْظُرَ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً، مُيَمِّمَةً وَجْهَهَا صَوْبَ الْحَقِّ، وَصَوْبَ الْحَقِّ وَحْدَهُ.

فَهَذَا هُوَ الدَّرْسُ -عِبَادَ اللهِ- الَّذِي عَلَّمَنَاهُ حُذَيْفَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مِمَّا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ.

وَهَذَا نَبِيُّنَا ﷺ يَأْتِيهِ وَحْشِيٌّ قَاتِلُ حَمْزَةَ عَمِّ النَّبِيِّ ﷺ، وَأَخُوهُ مِنَ الرَّضَاعِ، وَأَسَدُ اللهِ الْمُنَافِحُ عَنْ دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الْحَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمُّ نَبِيِّنَا ﷺ.

يَأْتِي وَحْشِيٌّ مَعَ الرُّسُلِ مِنْ ثَقِيفٍ؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَا يَنَالُ الرُّسُلَ الْمُرْسَلِينَ إِلَيْهِ إِلَّا بِكُلِّ مَعْرُوفٍ، فَمَا رَاعَ الرَّسُولَ ﷺ إِلَّا وَحْشِيٌّ قَائِمٌ بَيْنَ يَدَيْهِ، قَالَ: ((آنْتَ وَحْشِيٌّ؟)).

 قَالَ: ((نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ)).

 قَالَ: ((أَنْتَ الَّذِي قَتَلْتَ حَمْزَةَ؟)).

 فَقَالَ: ((قَدْ بَلَغَكَ الَّذِي كَانَ مِنْ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ)).

 وَلَمْ يُجَبِّهْهُ بِقَوْلِهِ: قَتَلْتُهُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي بَلَغَكَ، وَأَنْتَ بِهَذَا الْأَمْرِ عَلِيمٌ.

 فَقَالَ: ((تَسْتَطِيعُ أَنْ تُغَيِّبَ عَنِّي وَجْهَكَ؟)).

 فَفَعَلَ؛ فَلَمْ يَرَ النَّبِيُّ ﷺ وَجْهَهُ حَتَّى انْتَقَلَ الرَّسُولُ ﷺ إِلَى الرَّفِيقِ الْأَعْلَى.

هُنَا أَمْرٌ بَشَرِيٌّ يَعْرِضُ، وَعَدْلٌ نَبَوِيٌّ يَقُومُ.

 هُنَا أَمْرٌ يَعْتَمِلُ فِي الضَّمِيرِ: ((أَنْتَ قَاتِلُ حَمْزَةَ؟))، أَنْتَ قَاتِلُ الْأَسَدِ غِيلَةً؛ إِذْ تَكْمُنُ لَهُ هُنَالِكَ وَرَاءَ الصَّخْرَةِ، ثُمَّ تَأْتِي بِالْحَرْبَةِ، فَتَجْعَلُهَا مَا بَيْنَ الْعَانَةِ وَالسُّرَّةِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ بَيْنِ وَرِكَيْهِ.

أَنْتَ قَاتِلُ حَمْزَةَ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَتَحَصَّلَ عَلَى الْحُرِّيَّةِ -وَلَا حُرِّيَّةَ-؟!

أَنْتَ قَاتِلُ الْأَسَدِ غِيلَةً وَاغْتِيَالًا؟! 

((أَنْتَ قَاتِلُ حَمْزَةَ؟)).

 يَقُولُ: ((بَلَغَكَ الَّذِي كَانَ مِنْ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ)).

وَلَا يَنَالُ مِنْهُ النَّبِيُّ ﷺ مَنَالًا سِوَى أَنْ يَقُولَ: ((غَيِّبْ عَنِّي وَجْهَكَ))، لَا أُرِيدُ أَنْ أَرَاكَ.

 لِأَنَّهُ أَتَى مُسْلِمًا يَشْهَدُ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ ﷺ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ.

وَإِذَنْ؛ فَلْتَتَوَارَ الطَّبِيعَةُ الْبَشَرِيَّةُ مِنْ هَاهُنَا -قَوْلًا وَاحِدًا-، وَهُنَا يَتَأَتَّى الْعَدْلُ الْقَائِمُ، فَلَا يَنَالُهُ بِشَيْءٍ، وَمَاذَا يَصْنَعُ لَهُ وَقَدْ أَعْلَنَ الْإِسْلَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ؟! وَكَيْفَ يَنَالُ مِنْهُ وَقَدْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ مُسْلِمًا وَوَافِدًا رَسُولًا لِثَقِيفٍ مَعَ وَفْدِهَا!

وَحِينَئِذٍ يَقُولُ: ((أَوَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُغَيِّبَ عَنِّي وَجْهَكَ؟)).

 وَلَفْظُ الِاسْتِطَاعَةِ هَاهُنَا سُؤَالًا وَرَدَ كَذَلِكَ فِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)) -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تُغَيِّبَ عَنِّي وَجْهَكَ؟)).

فَقَطْ لَا أُرِيدُ أَنْ أَرَاكَ، لَا أُرِيدُ أَنْ أَرَى ذَلِكَ الْمَاضِيَ الدَّامِيَ يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الدَّمُ الزَّكِيُّ الْمَسْفُوحُ مُنْفَجِرًا مِنْ ذَلِكَ الْجُرْحِ الَّذِي أَحْدَثْتَهُ، لَا أَقُولُ: أَحْدَثْتَهُ بِأَدِيمِ حَمْزَةَ، وَإِنَّمَا أَحْدَثْتَهُ بِأَدِيمِ قَلْبِي.

وَالنَّبِيُّ ﷺ -كَمَا تَعْلَمُونَ- لَمَّا عَادَ مِنْ بَعْدِ أُحُدٍ، لَمَّا عَادَ مِنْ بَعْدِ مَقْتَلِ الْأَسَدِ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْأَصْحَابِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَوَجَدَ النِّسَاءَ هُنَالِكَ يَنْدِبْنَ مَنْ قُتِلَ مِنَ الشُّهَدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، لَا ذَلِكَ النَّدْبُ الَّذِي نَهَى عَنْهُ الشَّرْعُ الْحَنِيفُ، وَإِنَّمَا كُنَّ يُعَدِّدْنَ الْمَآثِرَ فِيمَا يُعَدِّدْنَ مِنَ الْمَآثِرِ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِنَّ-، يَتَفَجَّرُ الْحُزْنُ فِي قَلْبِ النَّبِيِّ ﷺ يَقُولُ: ((وَلَكِنَّ حَمْزَةَ لَا بَوَاكِيَ لَهُ)).

وَيَذْهَبُ الْأَنْصَارُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يَأْمُرُونَ النِّسْوَةَ بِأَنْ يَنْدِبْنَ حَمْزَةَ.

 أَلَا جَزَاكُمُ اللهُ خَيْرًا وَجَزَاكُنَّ، أَمْسِكْنَ عَنْ ذَلِكَ، رَضِيَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَنِ الْأَصْحَابِ وَالصَّحَابِيَّاتِ أَجْمَعِينَ وَجَمْعَاوَاتٍ.

النَّبِيُّ ﷺ يَأْتِي بِهَذَا التَّوَازُنِ الَّذِي بَيَّنَهُ حُذَيْفَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي وَاقِعِ الْحَيَاةِ قَائِمًا مِثَالًا مَضْرُوبًا، مِثَالًا عَمَلِيًّا يَأْتِي بِهِ النَّبِيُّ ﷺ؛ لَا يَطْغَى أَمْرٌ مِنْ أَمْرِ الْمَشَاعِرِ عَلَى قِيمَةٍ مِنَ الْقِيَمِ؛ مَهْمَا كَانَ ذَلِكَ الْأَمْرُ مِنْ أُمُورِ الْمَشَاعِرِ طَاغِيًا.

بَلْ يَتَوَقَّفُ عِنْدَ حَدٍّ، وَلْيَنْتَهِ عِنْدَ مُنْتَهًى، يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تُغَيِّبَ عَنِّي وَجْهَكَ؟)).

 فَكَانَ.

وَمِنْهَا يَأْتِي مَا يَأْتِي مِنْ أَمْرِ فِعْلِ الْفَارُوقِ وَقَوْلِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، يَأْتِيهِ رَجُلٌ يَقُولُ: ((يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! أُرِيدُ أَنْ أُطَلِّقَ امْرَأَتِي)).

 يَقُولُ: ((وَيْحَكَ! وَلِـمَ؟)).

 يَقُولُ: ((لَمْ أَعُدْ أُحِبُّهَا)).

 يَقُولُ: ((أَوَ كُلُّ الْبُيُوتِ تُبْنَى عَلَى الْحُبِّ؟! فَأَيْنَ الرِّعَايَةُ؟! وَأَيْنَ التَّذَمُّمُ؟!)).

 وَهُنَا أَمْرٌ يَحْدُثُ فِي الْقَلْبِ مَا يُحْدُثُ بِسَبَبِهِ مِنِ اخْتِلَالٍ وَاضْطِرَابٍ؛ لَا أُحِبُّهَا، وَأُرِيدُ أَنْ أُفَارِقَهَا، وَلَمْ يَقُلِ الصَّحَابِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: إِنِّي أُبْغِضُهَا، وَلَكِنْ فَقَطْ لَا أُحِبُّهَا.

 فَيَقُولُ: ((وَيْحَكَ! أَوَ كُلُّ الْبُيُوتِ تُبْنَى عَلَى الْحُبِّ؟! فَأَيْنَ الرِّعَايَةُ؟! وَأَيْنَ التَّذَمُّمُ؟!)).

وَانْظُرْ هَاهُنَا إِلَى هَذَا التَّوَازُنِ بَيْنَ هَذِهِ الْقِيَمِ السَّامِيَةِ.

 رِعَايَةٌ وَتَذَمُّمٌ.

 وَإِنَّمَا أَخَذْتَهَا بِذِمَّةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ تَرْعَاهَا.

 وَإِنَّمَا أَخَذْتَهَا بِأَمْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ تَحُوطُهَا.

 وَإِنَّمَا أَخَذْتَهَا بِفَضْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْكَ، فَلَهَا حَقُّهَا.

وَلَكِنْ لَا أُحِبُّهَا، وَهَذَا قَلْبٌ يَتَمَرَّدُ بَيْنَ الْجَوَانِحِ، يُرِيدُ مَحَبَّةً، وَيُرِيدُ شَوْقًا، وَهَذَا قَلْبٌ يَعْتَرِيهِ مَا يَعْتَرِيهِ مِنْ هَذَا الضَّعْفِ الْبَشَرِيِّ؛ وَلَكِنَّ زِمَامَهُ مُعَلَّقٌ بِيَدِ الشَّرْعِ.

((وَيْحَكَ! أَوَ كُلُّ الْبُيُوتِ تُبْنَى عَلَى الْحُبِّ؟! فَأَيْنَ الرِّعَايَةُ؟! وَأَيْنَ التَّذَمُّمُ؟!)).

وَأَيْضًا فِي مَوْقِفٍ هُوَ أَعْلَى وَأَجَلُّ يَأْخُذُهُ مِمَّا أَخَذَ مِنْ مِشْكَاةِ النَّبِيِّ ﷺ، يَأْتِيهِ قَاتِلُ أَخِيهِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَقَدْ قَضَى شَهِيدًا، يَقُولُ: ((أَنْتَ قَاتِلُ زَيْدٍ؟)).

 فَقَالَ: ((نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ)).

 قَالَ: ((وَاللَّهِ! لَا أُحِبُّكَ)).

 أَسْلَمَ.

 ((وَاللَّهِ! لَا أُحِبُّكَ حَتَّى تُحِبَّ الْأَرْضُ الدَّمَ)).

فَقَالَ: ((أَوَ ذَلِكَ يَمْنَعُنِي حَقًّا هُوَ لِي، أَوْ يَطُولُنِي بِشَرٍّ لَا أَسْتَحِقُّهُ؟)).

قَالَ: ((لَا)).

 قَالَ: ((إِذَنْ لَا أُبَالِي؛ إِنَّمَا يَبْكِي عَلَى الْحُبِّ النِّسَاءُ)).

يَقُولُ: ((وَاللَّهِ! لَا أُحِبُّكَ حَتَّى تُحِبَّ الْأَرْضُ الدَّمَ)).

مَعَ أَنَّهُ أَسْلَمَ، وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ.

((وَاللَّهِ لَا أُحِبُّكَ)).

 مَعَ أَنَّهُ كَانَ سَبَبًا لِدُخُولِ أَخِيهِ الْجَنَّةَ شَهِيدًا فِي مَقَامِ الشُّهَدَاءِ.

 ((وَاللَّهِ لَا أُحِبُّكَ)).

 نَزْعَةُ الْبَشَرِ فِي الْبَشَرِ.

 ((أَنْتَ قَاتِلُ أَخِي؟ وَاللَّهِ لَا أُحِبُّكَ، لَا أُحِبُّكَ حَتَّى تُحِبَّ الْأَرْضُ الدَّمَ)).

وَلَكِنَّ الْقِيَمَ هِيَ الْقِيَمُ.

 يَقُولُ: ((هَذَا الَّذِي تَذْكُرُ مِنْ عَدَمِ  مَحَبَّتِكَ إِيَّايَ يَمْنَعُنِي حَقًّا هُوَ لِي، أَوْ يَطُولُنِي بِشَرٍّ لَا أَسْتَحِقُّهُ؟)).

 الْأَمْرُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْعَدْلِ وَإِنْ كُنْتُ لَا أُحِبُّكَ؛ بَلْ وَلَوْ كُنْتُ أَبْغَضُكَ، وَلَوْ كُنْتُ لَا أُحِبُّكَ؛ بَلْ لَوْ كُنْتُ أَبْغَضُكَ.

يَقُولُ: ((إِذَنْ لَا أُبَالِي، إِنَّمَا يَبْكِي عَلَى الْحُبِّ النِّسَاءُ)).

وَهَوُ خَطَأٌ لَا شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّ مَحَبَّةَ عُمَرَ لَا شَكَّ نَافِعَتُهُ، لَا شَكَّ أَنَّ مَحَبَّةَ عُمَرَ مِمَّا يَحْرِصُ عَلَيْهِ الْمَرْءُ الْمُسْلِمُ؛ وَلَكِنْ مَا حِيلَتُهُ وَهُوَ قَاتِلُ أَخِيهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؟!

وَلَكِنْ يَتَأَتَّى هَذَا الْوَسَطُ الَّذِي جَاءَ بِهِ الدِّينُ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَ الْمَشَاعِرِ الْمُتَأَجِّجَةِ فِي الْأَعْمَاقِ عَلَى حَسَبِ الطَّبِيعَةِ الْبَشَرِيَّةِ فِي تَدَنِّيهَا وَتَخَلُّفِهَا، وَلَكِنَّ الْعَدْلَ هُوَ الْعَدْلُ، وَالْإِنْصَافَ هُوَ الْإِنْصَافُ، وَالْقِيَمَ هِيَ الْقِيَمُ.

((دِينُ الْحِفَاظِ عَلَى الْأَبْعَادِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَالْمَشَاعِرِ الْبَشَرِيَّةِ))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ هَذَا الدِّينَ إِنَّمَا أَتَى مِنْ أَجْلِ أَنْ يُعِيدَ الْإِنْسَانَ إِلَى الْهَيْئَةِ الَّتِي خَلَقَهُ اللهُ عَلَيْهَا، خَلَقَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا- مُتَفَرِّدًا مُتَوَحِّدًا، خَلَقَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْإِنْسَانَ لِيُعْبَدَ فِي أَرْضِهِ بِأَمْرِهِ عَلَى مُقْتَضَى شَرْعِهِ، وَعَلَى مَا أَتَى بِهِ أَنْبِيَاؤُهُ إِلَى خَاتَمِهِمْ مُحَمَّدٍ ﷺ، ثُمَّ إِنَّهُ يُرَاعِي الْأَحَاسِيسَ وَالْمَشَاعِرَ؛ لِأَنَّ الْحَيَاةَ الْبَشَرِيَّةَ فِي جُمْلَتِهَا مَا هِيَ إِلَّا مَنْظُومَةٌ مِنَ الْأَحَاسِيسِ وَالْمَشَاعِرِ، وَالدِّينُ إِنَّمَا يُشَذِّبُ وَيُهَذِّبُ، وَيُصَفِّي وَيُنَقِّي، وَهَذَا -كَمَا تَرَى- ظَاهِرٌ لَائِحٌ فِي كُلِّ حِينٍ وَحَالٍ، يَتَأَتَّى مِنْ تِلْكَ الْمَحَبَّةِ الدَّفِينَةِ بِالتَّعْبِيرِ عَنْهَا وَفِي كَفِّهَا؛ حَتَّى لَا تَطْغَى طُغْيَانَهَا، وَأَيْضًا فِي هَذَا الْأَدَاءِ الْعَذْبِ لِتِلْكَ الْأَحَاسِيسِ وَالْمَشَاعِرِ، مُتَفَاعِلَةً فِي الْإِقْبَالِ وَالْإِدْبَارِ وَفِي السُّخْطِ وَفِي الرِّضَا.

فَكُونُوا -عِبَادَ اللهِ- عِبَادَ اللهِ حَقًّا.

أَسْأَلُ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ- أَنْ يَعْفَوُ عَنَّا وَعَنْكُمْ وَعَنِ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ، وَأَنْ يَجْمَعَنَا أَجْمَعِينَ مَعَ النَّبِيِّ الْأَمِينِ فِي الْفِرْدَوْسِ الْأَعْلَى مِنَ الْجَنَّةِ؛ إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

المصدر:الْأَبْعَادُ الْإِنْسَانِيَّةُ وَمَخَاطِرُ تَجَاهُلِهَا

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  الِابْتِلَاءُ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ
  الْقُدْسُ إِسْلَامِيَّةٌ لَا عِبْرِيَّةٌ
  الْجَارُ مَفْهُومُهُ وَحُقُوقُهُ
  التَّضْحِيَةُ لِأَجْلِ الْوَطَنِ سَبِيلُ الشُّرَفَاءِ وَالْعُظَمَاءِ الْأَوْفِيَاءِ
  عاشوراء والإخوان
  حسْنُ الْعِشْرَةِ وَحِفْظُهَا
  الإسلام دين الرحمة والسلام، وفضل شهر الله المحرم وصوم عاشوراء
  خرافات الشيعة في عاشوراء
  جَبْرُ الْخَاطِرِ وَأَثَرُهُ عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ
  رَمَضَانُ شَهْرُ الْمُرَاقَبَةِ الذَّاتِيَّةِ وَصِنَاعَةِ الضَّمِيرِ الْحَيِّ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان