رَمَضَانُ شَهْرُ الْجُودِ وَالْكَرَمِ وَالِانْتِصَارَاتِ

رَمَضَانُ شَهْرُ الْجُودِ وَالْكَرَمِ وَالِانْتِصَارَاتِ

((رَمَضَانُ شَهْرُ الْجُودِ وَالْكَرَمِ وَالِانْتِصَارَاتِ))

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.  

أَمَّا بَعْدُ:

((تَرْبِيَةُ النَّبِيِّ ﷺ الصَّحَابَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- عَلَى الْجُودِ))

فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُرَبِّي أَصْحَابَهُ عَلَى الْبَذْلِ وَالْجُودِ وَالْكَرَمِ، وَيَحُضُّهُمْ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَعَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-, قَالَ: رَغَّبَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الصَّدَقَةِ يَوْمًا، وَقَدْ صَادَفَ ذَلِكَ مَالًا عِنْدِي، فَقُلْتُ: الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إِنْ سَبَقْتُه يَوْمًا.

قَالَ: فَانْقَلَبْتُ إِلَى أَهْلِي، فَأَتَيْتُ بِشَطْرِ مَالِي -يَعْنِي بِنِصْفِهِ- حَتَّى وَضَعَتُهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

 فَقَالَ: «مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟».

 قُلْتُ: مِثْلَهُ.

 قَال: ثُمَّ جَاءَ أَبُو بَكْرٍ، فَوَضَعَ مَا أَتَى بِهِ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ ﷺ.

فَقَالَ: «مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟»

 قَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللهَ وَرَسُولَهُ .

فَقَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: لَا جَرَمَ، لَا أُسَابِقُكَ إِلَى شَيْءٍ بَعْدَهَا أَبَدًا .

 فَأَذْعَنَ لَهُ بِالسَّبْقِ، وَصَدَّقَ فِعْلُ أَبِي بَكْرٍ مَا كَانَ فِي نَفْسِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: الْيَوْمَ أَسْبِقُهُ إِنْ كُنْتُ سَابِقَهُ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَسْبِقْهُ.

 وَهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَكْنِزُونَ شَيْئًا مِنَ الْمَالِ، وَلَا يَحْرِصُونَ عَلَيْهِ؛ بَلْ كَانُوا أَجْوَدَ الْخَلْقِ بَعْدَ النَّبِيِّ ﷺ بِعَطِيَّةٍ، وَهِبَةٍ، وَصِلَةٍ، وَبِرٍّ .

 وَالرَّسُولُ ﷺ يُعَلِّمُهُمْ، وَيَدْعُوهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَيُرَبِّيهِمْ عَلَيْهِ، حَتَّى إِنَّهُ ﷺ كَانَ جُودُهُ لَا يُبْقِي لَدَيْهِ شَيْئًا مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يُقِيتَ ذَا كَبِدٍ رَطْبَةٍ .

عَبْدَ اللهِ! لَا تَبْغِ عَلَى الْإِطْعَامِ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا، وَإِنَّمَا تَقَعُ صدَقَتُكَ فِي يَدِ اللهِ، فَيُرَبِّيهَا لَكَ، كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، يَعْنِي مُهْرَهُ.

فَمَا يَزَالُ يَرْبُو وَيَرْبُو حَتَّى تَكُونَ التَّمْرَةُ جَبَلًا مِنْ تَمْرٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَنَّى هَذَا، وَمَا امْتَلَكْتُ عُشْرَ مِعْشَارِهِ فِي الدُّنْيَا أَبَدًا؟!!

يَقُولُ: «صَدَقَتُكَ فِي يَوْمِ كَذَا، مَا زِلْتُ أُرَبِّيهَا لَكَ» يَعْنِي: أَزِيدُهَا لَكَ بَرَكَةً، وَعَطَاءً، وَبِرًّا، حَتَّى صارَتْ إِلَى مَا تَرَى .

وَقَدْ كَانَ الرَّسُولُ ﷺ يُخْبِرُ النَّاسَ مِنْ أَصْحَابٍ وَمَنْ يَلِي، يُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ مَا مِنْ يَوْمٍ جَدِيدٍ إِلَّا وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَجْعَلُ مَلَكَيْنِ هُنَالِكَ قَائِمَيْنَ، يَقُولُ أَحَدُهُمَا: «اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا» .

((اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكَرَمَ وَأَهْلَهُ))

لَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ -فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي ((جَامِعِهِ))، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ-: «إِنَّ اللهَ كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكُرَمَاءَ، جَوَادٌ يُحِبُّ الْجَوَدَةَ، يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأُمُورِ، وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا» .

فَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هُوَ الْكَرِيمُ وَهُوَ الْجَوَادُ، وَيُحِبُّ الْكَرَمَ وَأَهْلَهُ، وَيُحِبُّ الْجُودَ وَأَهْلَهُ، وَيُحِبُّ مَعَالِيَ الْأُمُورِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْكَرَمَ وَالْجُودَ مِنْ مَعَالِي الْأُمُورِ.

وَيَكْرَهُ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- السَّفَاسِفَ، وَالْأُمُورَ الْـمُسْتَصْغَرَةَ، وَالْأَحْوَالَ الْـمُسْتَرْذَلَةَ، يَكْرَهُ اللهُ سَفْسَافَ الْأَخْلاقِ، ومُنحَطَّهَا، وَيُحِبُّ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- مَعَالِيَ الْأُمُورِ.

«الْجُودُ وَالْإِيثَارُ فِي رَمَضَانَ»

إِنَّ الرَّسُولَ ﷺ كَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ ؛ فَهَذَا مَحَلٌّ لِلتَّرْبِيَةِ الْعَمَلِيَّةِ عَلَى الْجُودِ، وَالْبَذْلِ، وَالْعَطَاءِ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ يُمَارِسُ ذَلِك فِي وَاقِعِ الْحَيَاةِ، وَفِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ؛ لِيَقْتَدِيَ بِهِ مَنْ هُنَالِكَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَمَنْ يَأْتِي بَعْدُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى يَرِثَ اللهُ الْأَرْضَ وَمَن عَلَيْهَا.

 «وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ» يَعْنِي: يَبْلُغُ الْجُودُ مِنْهُ غَايَةَ الْوُسْعِ بِحَيْثُ لَا جُودَ فَوْقَ جُودِهِ يَكُونُ لِمَخْلُوقٍ أَبَدًا ﷺ.

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يُبَيِّنُ لَنَا عَلَى لِسَانِ نَبِيِّنَا ﷺ طَرِيقَةً عَمَلِيَّةً لِلْخُرُوجِ مِنْ قَيْدِ النَّفْسِ، وَمِنْ أَسْرِ شُحِّهَا؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَتَدَرَّبَ الْإِنْسَانُ عَلَى الْعَطَاءِ، وَيَجْعَلُهَا النَّبِيُّ ﷺ حَالَةً مِن حَالَاتِ الْبَذْلِ الَّذِي لَا يَتَنَاهَى؛ حَتَّى إِنَّهُ لَيَقُولُ: «وَابْتِسَامُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ صدَقَةٌ» .

 وَمَا هِيَ بِشَيْءٍ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ، وَلَكِنَّهَا عُنْوَانٌ عَلَى بَاطِنٍ مُنْبَسِطٍ لِخَلْقِ اللهِ الْـمُؤْمِنِينَ.

وَأَمَّا كَذَاذَةُ الطَّبْعِ، وَأَمَّا الْغِلْظَةُ وَالْجَفَاءُ وَالفَظَاظَةُ؛ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُبِضَّ شَيْئًا مِنَ ابْتِسَامٍ، وَلَا شَيْئًا مِنْ فَرَحٍ يَلْقَى بِهِ مُؤْمِنٌ مَؤْمِنًا، وَيُلَاقِي بِهِ مُسْلِمٌ مُسْلِمًا.

فَالنَّبِيُّ ﷺ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ كَمَا وَصَفَ ابْنُ عبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- حَالَهُ: «أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْـمُرْسَلَةِ» .

وَكَانَ هُوَ فِي حَالَتِهِ فِي غَيْرِ شَهْرِ رَمَضَانَ أَكْرَمَ النَّاسِ, وَأَجْوَدَ النَّاسِ ﷺ؛ فَفِي «الصَّحِيحِ» : أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ بِبُرْدَةٍ فَأَهْدَتْهَا إِلَيْهِ.

تَدْرُونَ مَا الْبُرْدَةُ؟

 قَالُوا: الشَّمْلَةُ .

 قَالَ: شَمْلَةٌ مُطَرَّزَةٌ بِحَاشِيَتِهَا، مَنْسُوجَةٌ بِحَاشِيَتِهَا .

فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ ﷺ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا فَلَبِسَهَا.

 فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللهِ, اكْسُنِيهَا.

 فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «هِيَ لَكَ». وَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا.

 ثُمَّ دَخَلَ النَّبِيُّ ﷺ بَيْتَهُ, فَأَقْبَلَ أَصْحَابُهُ -أَيْ أَصْحَابُ الرَّجُلِ، أَقْبَلُوا عَلَيْهِ لَائِمِينَ، وَقَالُوا: تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ السَّائِلَ، وَأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ لِشَيْءٍ: لَا، قَطُّ، وَأَنَّكَ مَتَى سَأَلْتَهُ أَنْ يُعْطِيَكَهَا أَعْطَاكَهَا مِنْ غَيْرِ مَا تَسْوِيفٍ وَلَا مَنْظَرَةٍ - يَعْنِي مِنْ غَيْرِ مَا انْتِظَارٍ وَلَا تَرَيُّثٍ-، وَأَخَذُوا يَلُومُونَهُ يَقُولُونَ: إِنَّهُ إِنَّمَا أَخَذَهَا وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهَا ﷺ.

فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: وَاللهِ مَا أَخَذْتُهَا إِلَّا رَجَاءَ بَرَكَتِهَا؛ إِذْ جَعَلَهَا عَلَى جِلْدِهِ، إِذْ جَعَلَهَا عَلَى جَسَدِهِ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ كَفَنِي.

فَكَانَتْ!!

فَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ فِي حَالَاتِهِ جَمِيعِهَا أَجْوَدَ الْخَلْقِ، لَا يَرُدُّ سَائِلًا، وَيُعْطِي عَطَاءَ مَنْ لَا يَخْشَى الْفَقْرَ, كَمَا فِي «الصَّحِيحِ» : أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ غَنَمًا فِي شِعْبٍ بَيْنَ جَبَلَيْنِ .

فَأَعْطَاهُ الرَّسُولُ ﷺ إِيَّاهَا جَمِيعَهَا.

فَعَادَ الرَّجُلُ إِلَى قَوْمِهِ يَقُولُ: إِنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءً لَا يَخْشَى الْفَقْرَ.

 يُعْطِي النَّبِيُّ ﷺ عَطَاءً بِلَا حُدُودٍ، وَهُوَ يُعْطِي عَطَاءَ مَنْ لَا يَخْشَى الْفَقْرَ.

 وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَتَأَلَّفُ بِالْعَطَاءِ، وَبِالْبَذْلِ قُلُوبَ أَقْوَامٍ لَا تُقَادُ إِلَّا بِزِمَامِ الْعَطَاءِ، وَلَا تَنْقَادُ إِلَّا لَه.

كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَجْوَدَ النَّاسِ, وَأَكْرَمَ النَّاسِ, وَأَحْسَنَ النَّاسِ, وَأَجْمَلَ النَّاسِ.

عِبَادَ اللهِ! يَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: «يَا ابْنَ آدَمَ! أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ», يَقُولُ النَّبِيُّ : «يَمِينُهُ مَلْئَى، سَحَّاءَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، لَا تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ» .

نَعَمْ! لَو أَنَّكَ نَظَرْتَ مَا أَنْفَقَ، وَكَمْ أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَق الْخَلْقَ؛ لَعَلِمْتَ أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَعْظَمٌ عِنْدَ الْخَلْقِ، وَأَمَّا عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ فَشَيْءٌ هَيِّنٌ يَسِيرٌ.

((الْحَثُّ عَلَى أَلْوَانٍ مِنَ الصَّدَقَاتِ فِي رَمَضَانَ))

إِنَّ الأَعْمَالَ الَّتِي تُعْمَلُ فِي رَمَضَانَ مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ كَثِيرَةٌ؛ مِنْهَا: الصَّدَقَةُ:

*فَالصَّدَقَةُ مِنْ أَعْمَالِ هَذَا الشَّهْرِ، وَمِمَّا يتَأَكَّدُ فِيهِ: الصَّدَقَةُ وَالجُودُ بِالمَوْجُودِ؛ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالخَيْرِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ» .

لَقَدْ رَغَّبَ النَّبِيُّ فِي تَفْطِيرِ الصَّائِمِ، وَإِطْعَامِ الطَّعَامِ، وَسَقْيِ المَاءِ:

النَّبِيُّ ﷺ يُخْبِرُنَا النَّبِيُّ أَنَّ مَنْ فَطَّرَ فِيهِ- أَيْ فِي رَمَضَانَ- صائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ؛ وَلَوْ بِمَذْقَةٍ مِنْ مَاءٍ أَوْ لَبَنٍ، وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، يَجْعَلُ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- الثَّوَابَ وَافِرًا، وَيَجْعَلُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْعَطَاءَ وَاصِلًا؛ وَلَوْ عَلَى جَرْعَةِ مَاءٍ.

فَمَا أَبْلَغَهُ مِنْ عَطَاءٍ لَا يُقَابِلُ إِلَّا جَرْعَةً مِنْ مَاءٍ، هِيَ مَبْذُولَةٌ فِي كُلِّ حِينٍ لِطَالِبِهَا بِفَضْل رَبِّهَا وَقُدْرَتِهِ!!

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئٌ» ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: «حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ».

 وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» : عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ قَالَ: أَيُّ الإِسْلَامِ خَيْرٌ؟

قَالَ: «تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ، وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ».

وَعَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ : أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟

قَالَ: «إِدْخَالُكَ السُّرُورَ عَلَى مُؤْمِنٍ، أشْبَعْتَهُ مِنْ جُوعٍ، كَسَوْتَهُ مِنْ عُرْيٍ، قَضْيْتَ لَهُ حَاجَةً، أَعَنْتَهُ، فَرَّجْتَ لَهُ كَرْبًا بِإِذْنِ رَبِّهِ» .

وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ» . وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «لَيْسَ صَدَقَةٌ أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ مَاءٍ» . رَوَاهُ البَيْهَقِيُّ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

يَحْفِرُ بِئْرًا، يَجْعَلُ لِلنَّاسِ صُنْبُورًا فِي سَبِيلٍ، يَبْذُلُ المَاءَ لِابْنِ السَّبِيلِ وَالعَطْشَانِ.

سَقْيُ المَاءِ؛ حَتَّى وَلَوْ لِلكِلَابِ؛ حَتَّى وَلَوْ كَانَ لِلكَلْبِ الضَّالِّ؛ فِيهِ أَجْرٌ عِنْدَ الكَبِيرِ المُتَعَالِ.

 وَتَلَوُّثُ المِيَاهِ شَائِعٌ ذَائِعٌ لَا يَخْفَى، وَتَدِبُّ بِسَبَبِهِ أَمْرَاضٌ تَفْتِكُ بِالأَجْسَادِ وَتَفْرِيهَا فَرْيًا، فَمَنْ شَارَكَ أَوْ صَنَعَ لَهُمْ صَنِيعًا؛ لِيَكُونَ مَاؤُهُ بَعِيدًا عَنْ هَذَا التَّلَوُّثِ؛ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الحَدِيثِ، وَقَدْ أَتَى بِأَعْظَمِ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَقَرَّبَ بِهِ عَبْدٌ إِلَى اللهِ.

عِبَادَ اللهِ! مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَّقِيَ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ؛ لِأَنَّهُ إِذَا قَامَ النَّاسُ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ، وَيَنْظُرَ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ، وَيَنْظُرُ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ؛ فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَتَّقِيَ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ .

يَا لَهُ مِنْ دِينٍ لَوْ كَانَ لَهُ رِجَالٌ! يَا لَهُ مِن دِينٍ لَوْ كَانَ لَهُ رِجَالٌ!!

اللَّهُمَّ أَصْلِحْ أَحْوَالَنَا، وَارْزُقْنَا الْجُودَ وَالْكَرَمَ؛ وَأَنْت الْجَوَادُ الْكَرِيمُ.

 ((رَمَضَانَ شَهْرُ الِانْتِصَارَاتِ وَالْأَحْدَاثِ الْعَظِيمَةِ))

لَقَدْ شَهِدَ شَهْرُ رَمَضَانَ العَديدَ مِنَ الأَحْدَاثِ الفَارِقَةِ فِي مَسِيرَةِ التَّارِيخِ الإِنْسَانِيِّ عَامَّةً، وَالإِسْلَامِيِّ خَاصَّةً، وَمِنْ ذَلِكَ:

* بَعْثَةُ النَّبِيِّ ﷺ، وَنُزُولُ الْوَحْيِ فِي رَمَضَانَ:

إنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ هُوَ شَهْرُ الْأَحْدَاثِ الْجِسَامِ وَالْانْتِصَارَاتِ الْعِظَامِ، وَمِنْ أَكْبَرِ الْأَحْدَاثِ الَّتِي شَهِدَهَا الْعَالَمُ إِنْ لَمْ يَكُنْ أَكْبَرَهَا: بَدْءُ نُزُولِ الْوَحْيِ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ.

وَقَدْ بَدَأَ ذَلِكَ النُّزُولُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ قَدِ اعْتَادَ فِي رَمَضَانَ مِنْ كُلِّ عَامٍ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى غَارِ حِرَاءٍ بِمَكَّةَ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَتَحَنَّثَ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ، وَكَانَ يَأْخُذُ مَعَهُ ﷺ مَا تَيَسَّرَ مِنْ زَادٍ.

فَإِذَا قَضَى ﷺ وَطَرَهُ مِنْ تِلْكَ الْخَلْوَةِ فِي الْغَارِ، وَنَفِدَ مَا مَعَهُ مِنَ الزَّادِ؛ نَزَلَ إِلَى أَهْلِهِ بِمَكَّةَ؛ لِيَتَزَوَّدَ مَرَّةً أُخْرَى، حَتَّى أَذِنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يَبْدَأَ نُزُولُ الْوَحْيِ عَلَيه ﷺ، وَجَاءَهُ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ؛ وَنُبِّئَ النَّبِيُّ ﷺ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿اقْرَأ﴾، وَكَانَ أَمْرًا عَظِيمًا لَمْ يَشْهَدْهُ النَّبِيُّ ﷺ، وَلَا هُوَ بِالْمَعْهُودِ فِي حَيَاةِ النَّاسِ.

وَفُوجِئَ النَّبِيُّ ﷺ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الوَحْيِ وَالمَلَكِ، وَنَزَلَ مِنَ الْغَارِ تَرْتَعِدُ فَرَائِصُهُ، وَهَوَّنَتْ خَدِيجَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- الطَّاهِرَةُ الْبَرَّةُ عَلَى الرَّسُولِ ﷺ مَا كَانَ، مُقْسِمَةً بِاللهِ -جَلَّ وَعَلَا- أَنَّ اللهَ لَا يُخْزِيهِ أَبَدًا، مُسْتَدِلَّةً عَلَى ذَلِكَ بِمَا كَانَ مِنْ كَرِيمِ الْخِصَالِ وَعَظِيمِ الْفَعَالِ الَّذِي كَانَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَيْهِ مِنَ الْخُلُقِ الْحَسَنِ، وَمِمَّا كَانَ يَأْتِي بِهِ ﷺ مِنَ الْمَكْرُمَاتِ، حَيْثُ قَالَتْ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: «وَاللهِ لَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا».

ثُمَّ أَخَذَتْ رَسُولَ اللهِ ﷺ إِلَى ابْنِ عَمِّهَا وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، فَقَصَّ الرَّسُولُ ﷺ عليه مَا كَانَ، فَقَالَ وَرَقَةُ -وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، وَقَرَأَ فِي كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَكَانَ مُنْتَظِرًا مَقْدِمَ النَّبِيِّ الْخَاتَمِﷺ-، فَلَمَّا قَصَّ عَلَيْهِ الرَّسُولُ ﷺ مَا كَانَ، قَالَ: «قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ، إِنَّهُ النَّامُوسُ الَّذِي كَانَ يَنْزِلُ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي كُنْتُ فِيهَا جَذَعًا، أَمَا إِنِّي لَوْ كُنْتُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ؛ لَنَصَرْتُكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا».

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟».

فَقَالَ: «مَا جَاءَ أَحَدٌ قَوْمَهُ بِمِثْلِ مَا أَتَيْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ».

ثُمَّ لَمْ يَنْشِبْ أَنْ مَاتَ، وَمَضَى الْوَحْيُ مُتَتَابِعًا.

فَأَنْزَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْقُرْآنَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَبَدَأَ الْوَحْيُ الْمَعْصُومُ الَّذِي غَيَّرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهَدْيِهِ الدُّنْيَا كُلَّها، وَأَخْرَجَ بِهِ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، بَدَأَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ: ﴿شَهْرُ  رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ [البقرة: 185].

وَ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ﴾ [القدر: 1].

فَهَذَانِ مَوْضِعَانِ دَلَّ فَيهِمَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ بَدْءًا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَهَذَا الْحَدَثُ الْفَرِيدُ فِي تَارِيخِ الْبَشَرِيَّةِ كُلِّهَا كَانَ فَارِقًا بَيْنَ عَهْدَيْنِ؛ بَيْنَ مَا قَبْلَ الْوَحْيِ الْمُنَزَّلِ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ رِسَالَةَ الرَّسُولِ ﷺ هِيَ آخِرُ رِسَالَاتِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ.

وَالرَّسُولُ ﷺ أَرْسَلَهُ اللهُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً فِي عُمُومِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَإِلَى الْجِنِّ كَذَلِكَ، فَهَذَا حَدَثُ الْأَحْدَاثِ فِي تَارِيخِ الْبَشَرِيَّةِ؛ نُبِّئَ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ﷺ، وَبَدَأَ نُزُولُ الْوَحْيِ فِي رَمَضَانَ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ فِي السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ مِنَ الْبَعْثَةِ؛ تُوُفِّيَ عَمُّهُ، وَتُوُفِّيَتْ زَوْجُهُ خَدِيجَةُ -رَضِيَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهَا-، وَضَاقَتْ مَكَّةُ بِالدَّعْوَةِ، وَأَجْمعَ أَهْلُهَا عَلَى الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ، وَمُعَادَاةِ الرَّسُولِ ﷺ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ يَتَلَمَّسُ مَجَالًا جَدِيدًا لِتَفْتَحَهُ الدَّعْوَةُ بِنُورِهَا، وَلتُنْشَرَ فِيهِ هِدَايَةُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، فَخَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى الطَّائِفِ؛ وَعُظْمُ أَهْلِهَا مِنْ ثَقِيفٍ، وَعَرَضَ النَّبِيُّ ﷺ الدَّعْوَةَ عَلَى ثَلَاثَةٍ مِنْ سَادَتِهَا؛ وَهُمْ: عَبْدُ يَالِيلَ بْنُ عَمْروٍ ،وأَخَوَاهُ حَبِيبٌ وَمَسْعُودٌ، فَكَانُوا بَيْنَ مُكَذِّبٍ وَسَاخِرٍ.

قَالَ أَحَدُهُمْ لِلنَّبِيِّ ﷺ: «إِنَّهُ يُمَزِّقُ أَسْتَارَ الْكَعْبَةِ إِنْ كَانَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَدْ أَرْسَلَهُ».

وَقَالَ الْآخَرُ: «إِنْ كَانَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَدْ أَرْسَلَكَ؛ فَأَنْتَ أَجَلُّ فِي عَيْنِي مِنْ أَنْ أُكَلِّمَكَ، وَإِنْ كُنْتَ تَكْذِبُ عَلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ فَأَنْتَ أَقَلُّ مِنْ أَنْ أُكَلِّمَكَ، فَلَا أُكَلِّمُكَ عَلَى كُلِّ حَالٍ».

وَأَمَّا الثَّالِثُ؛ فَقَالَ لِلرَّسُولِ ﷺ: «أَلَمْ يَجِدِ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- غَيْرَكَ لِيُرْسِلَهُ؟!!».

وَأَبَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَقَدْ سَلَّطُوا عَلَيْهِ الْغِلْمَانَ وَالسُّفَهَاءَ، فَقَذَفُوهُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى دُمِّيَتْ عَقِبُهُ ﷺ.

وَالْتَجَأَ إِلَى ظِلِّ حَائِطٍ لِعُتْبَةَ وَشَيْبَةَ وَلَدَيْ رَبِيعَةَ وَقَدْ عَطَفَتْهُمَا عَلَيْهِ الرَّحِمُ، فَأَرْسَلَا عَدَّاسًا -وَكَانَ غُلَامًا لَهُمَا نَصْرَانِيًّا- بِقِطْفٍ مِنْ عِنَبٍ، وَأَبَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَّا أَنْ يَقَعَ الْاعْتِذَارُ لِلرَّسُولِ ﷺ قَبْلَ أَنْ يُبَارِحَ، فَذَهَبَ عَدَّاسٌ بِالْعِنَبِ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَلَمَّا أَهْوَى إِلَيْهِ الرَّسُولُ ﷺ؛ قَالَ: «بِسْمِ اللهِ».

فَقَالَ عَدَّاسٌ: هَذَا شَيْءٌ لَمْ أَسْمَعْهُ قَطُّ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْأَرْضِ.

فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: «مِنْ أَيْنَ أَنْتَ يَا عَدَّاسُ؟».

فَقَالَ: مِنْ نِيْنَوَى.

قَالَ: «مِنْ بَلَدِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ يُونُسَ بنِ مَتَّى؟».

فَقَالَ: وَمَا يُدْرِيكَ بِيُونُسَ؟

قَالَ: «هُوَ أَخِي، كَانَ نَبِيًّا، وَأَنَا نَبِيٌّ ﷺ».

فَأَهْوَى عَدَّاسٌ عَلَى رَأْسِهِ وَيَدَيْهِ وَقَدَمَيْهِ مُقَبِّلًا، وَعَاَد إِلَى سَيِّدَيْهِ؛ فَقَالَا: وَيْحَكَ يَا عَدَّاسُ؛ مَا هَذَا الَّذِي صَنَعْتَ مَعَ الرَّجُلِ؟

قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَحَدٌ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ ﷺ.

فَهَكَذا كَذَّبَتْ ثَقِيفٌ، وَقَدْ ذَهَبَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى الطَّائِفِ دَاعِيًا؛ فَلَقِيَتْهُ بِكُلِّ سُوءٍ؛ حَتَّى قَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- لِلنَّبِيِّ ﷺ: ((هَلْ وَجَدْتَ مِنْ قَوْمِكَ يَوْمًا قَطُّ كَانَ أَشَدَّ عَلَيْكَ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟)).

قَالَ ﷺ: «لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ، وَأَشَدُّ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ لَمَّا ذَهَبْتُ إِلَى الطَّائِفِ لِدَعْوَةِ ثَقِيفٍ إِلَى دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، فَكَانَ مِنْهُمْ مَا هُوَ مَعْلُومٌ، قَالَ: فَذَهَبْتُ مَغْمُومًا، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَسَمِعْتُ حِسًّا فِي السَّمَاءِ، فَإِذَا هُوَ جِبْرِيلُ يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ؛ إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَدْ عَلِمَ مَا قَالَ لَكَ قَوْمُكَ وَمَا صَنَعُوا، وَقَدْ أَرْسَلَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ، فَإِنْ شِئْتَ أَنْ يُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ فَعَلَ.

فَقَالَ ﷺ: لَا، اللَّهُمَّ اِهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ».

* غَزْوَةُ بَدْرٍ فِي رَمَضَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ:

وَفِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ هِجْرَةِ الرَّسُولِ ﷺ: نَمَا إِلَى عِلْمِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ فِي عِيرٍ عَظِيمَةٍ، وَقَافِلَةٍ كَبِيرَةٍ، وَمَالٍ وَفِيرٍ، ورِزْقٍ غَزِيرٍ قَدْ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ، فخَرَجَ النّبِيُّ ﷺ أَوْ أَرْسَلَ، فَلَمْ يُدْرِكْ.

ثُمَّ نَمَا إِلَى عِلْمِهِ ﷺ بَعْدُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ قَافِلٌ بِالْقَافِلَةِ، فَأَرَادَ الرَّسُولُ ﷺ أَنْ يَسْتَطْلِعَ الْأَمْرَ، وَأَرْسَلَ رَجُلَيْنِ عَلَى بَعِيرَيْنِ مِمَّا يُعْلَفُ بِعَلَائِفِ يَثْرِبَ، فخَرَجَا.

وَأَمَّا أَبُو سُفْيَانَ؛ فَقَدْ كَانَ أَرِيبًا حَصِيفًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فذَهَبَ إِلَى مَجْدِيٍّ، فَسَأَلَهُ: هَلْ رَأَيْتَ مَا يُرِيبُ؟

قَالَ: لَا، غَيْرَ أَنِّي رَأَيْتُ رَجُلَيْنِ قَدْ أَنَاخَا بَعِيرَيْهِمَا في هَذَا المَوْضِعِ.

فَذَهَبَ أَبُو سُفْيَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَفَتَّ البَعْرَ؛ فوَجَدَ النَّوَى -نَوَى يَثْرِبَ-، فَقَالَ: هَذِهِ واللهِ عَلَائِفُ يَثْرِبَ، وَإِنَّ مُحَمَّدًا لَنَا لَبِالْمِرْصَادِ، وَأَرْسَلَ إِلَى قُرَيْشٍ أَنْ أَدْرِكُوا عِيرَكُمْ، وخَالَفَ هُوَ إِلَى سَاحِلِ البَحْرِ فَنَجَى.

وَنَدَبَ الرَّسُولُ ﷺ أَصْحَابَهُ لِلْخُرُوجِ لِلْعِيرِ لَا لِلنَّفِيرِ، فَخَرَجَ مَعَهُ ثَلَاثُمِئَةٍ وبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، جُلُّهُمْ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَيْهِمْ فِي الخُرُوجِ، وَمَا ظَنَّ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ يَجِدُ قِتَالًا، وَلَوْ ظَنُّوا ذَلِكَ مَا تَخَلَّفَ عَنْهُ وَاحِدٌ، وَلَفَدَوْهُ بِأَرْوَاحِهِمْ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ-.

خَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ لِيَتَعَرَّضَ لِلْعِيرِ؛ لِيَرُدَّ بَعْضَ ما سُلِبَ مِمَّا نَهَبَتْ قُرَيْشٌ وَاسْتَوْلَتْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُبْقِ لِأَحَدٍ مِنَ المُسْلِمِينَ شَيْئًا من مالٍ أو متاعٍ؛ حَتَّى قَالَ الرَّسُولُ ﷺ لَمَّا نَزَلَ مَكَّةَ فَاتِحًا، فَلَمْ يَجِدْ مَكَانًا يَنْزِلُ فيهِ، وقَدْ قِيلَ لَهُ: فَلْتَنْزِلْ في دَارِكَ وَدَارِ أَبِيكَ.

فقال ﷺ: «وهَلْ أَبْقَى لَنَا عَقِيلٌ مِنْ دَارٍ؟!».

فَلَمْ يَكُنْ لَهُ بِمَكَّةَ دَارٌ -صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ-، فَنَزَلَ عِنْدَ أُمِّ هَانِئٍ.

إِذَنْ، النَّبِيُّ ﷺ إِنَّمَا خَرَجَ لِيَرُدَّ بَعْضَ مَا سُلِبَ مِنْ ثَرْوَاتِ قُرَيْشٍ الَّتِي نَهَبَتْ مِنَ المُسْلِمِينَ، وَمَا كَانَ فِي هَذَا مِنْ عَابٍ، وَمَا عَلَى المُسْلِمِينَ فِي فِعْلِهِ مِنْ تَثْرِيبٍ، وَإِنَّمَا هُوَ رَدٌّ لِبَعْضِ الحَقِّ السَّلِيبِ.

وَأَبَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَّا أَنْ يَلْقَى ﷺ النَّفِيرَ، وأَلَّا يَلْقَى العِيرَ وَمَعَهُ هَذِهِ الثُّلَّةُ المُبَارَكَةُ مِنْ أَصْحَابِهِ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ-.

نَزَلَ النّبِيُّ ﷺ بَدْرًا، وَأَمَّا قُرَيْشٌ؛ فَإِنَّهَا أَعَدَّتْ عُدَّتَها، وجَاءَتْ لِلِقَاءِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فأَدْرَكَهُمُ البَشِيرُ؛ أَرْسَلَهُ أَبُو سُفْيَانَ: أَنَّ اللهَ قَدْ نَجَّى عِيرَكُمْ، وحَفِظَ عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ؛ فَلَا تَخْرُجُوا لِلِقَاءِ مُحَمَّدٍ وَحِزْبِهِ ﷺ.

فَقَالَ فِرْعَوْنُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو جَهْلٍ: «وَاللهِ لَا نَعُودُ حَتَّى نَنْزِلَ بَدْرًا، حَتَّى نُوقِدَ النِّيرَانَ، ونَنْحَرَ الجُزُرَ، وتَعْزِفَ عَلَيْنَا القِيَانُ، وحَتَّى تَسْمَعَ بِنَا العَرَبُ، فَمَا يَزَالُونَ فِي هَيْبَةٍ مِنَّا أَبَدًا».

وَأَبَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَّا أَنْ تَسْمَعَ بِهِمُ العَرَبُ؛ بَلْ أَبَى اللهُ إِلَّا أَنْ تَسْمَعَ بِهِمُ الدُّنْيَا إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، وَبَدَلَ أَنْ يَنْحَرُوا الجُزُرَ؛ نُحِرُوا هُمْ، وَبَدَلَ أَنْ تَعْزِفَ عَلَيْهِمُ القِيَانُ؛ نَاحَتْ عَلَيْهِمُ النَّوَائِحُ، وَبَدَلَ أَنْ يُوقِدُوا النِّيرَانَ؛ أُوقِدَتْ لَهُمُ النِّيرَانُ: ﴿وَاللهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: 21].

أَبَوْا أَنْ يَعُودُوا، وَعَلِمَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِمَا كَانَ، وَاسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، فَتَكَلَّمَ المُهَاجِرُونَ فَأَحْسَنُوا، وَهُوَ يَقُولُ ﷺ: «أَلَا تُشِيرُونَ عَلَيَّ أَيُّهَا النَّاسُ؟».

فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَقَالَ: «كَأَنَّكَ تَعْنِينَا يَا رَسُولَ اللهِ»؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ فِي بَيْعَةِ العَقَبَةِ، لَمْ يَشْتَرِطْ عَلَيْهِمْ حِمَايَتَهُ خَارِجَ المَدِينَةِ، فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَوْثِقَ، وَكَانَ عِبْءُ المَعْرَكَةِ إِنْ وَقَعَتْ سَيَكُونُ عَلَى كَوَاهِلِ الْأَنْصَارِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-؛ لِكَثْرَةِ العَدَدِ، ثُمَّ هُمْ لَمْ يُعْطُوا العَهْدَ وَالمِيثَاقَ لِلنَّبِيِّ ﷺ فِي البَيْعَةِ بِحِمَايَتِهِ خَارِجَ مَدِينَتِهِ ﷺ، فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَوْثِقَ.

فَقَامَ سَعْدٌ، فَقَالَ: «كَأَنَّكَ تَعْنِينَا يَا رَسُولَ اللهِ».

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «أَجَلْ».

فَقَالَ سَعْدٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «يَا رَسُولَ اللهِ؛ وَاللهِ لَوِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا البَحْرَ فخُضْتَهُ؛ لَخُضْنَاهُ خَلْفَكَ، اِمْضِ لِمَا تُحِبُّ يَا رَسُولَ اللهِ؛ فَوَاللهِ إِنَّا لَصُدُقٌ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَوَاللهِ إِنَّا لَشُجْعَانٌ فِي الحُرُوبِ... إِلَى آخِرِ مَا قَالَ»، فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ.

وَوَقَعَ ذَلِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَكانَتْ مَعرَكَةً حَاسِمَةً فَاصِلَةً فِي تَارِيخِ المُسلِمِينَ، وسُمِّيَتْ بِيَومِ الفُرْقَانِ؛ حَيْثُ فَرَقَتْ بَينَ زَمَنِ الاسْتِضْعَافِ، وَزَمَنِ قُوَّةِ المُسْلِمِينَ، فَرَقَتْ بَينَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ، وَلا ضَيرَ فَهِيَ فِي شَهرِ رَمَضانَ، شَهْرِ الفُرْقَانِ.

وَدَائِمًا تَكُونُ الْأَحْدَاثُ عَلَى هَذَا النَّحْوِ: فَسَادٌ يَسْتَشْرِي فِي الْعَالَمِ، وَمُفْسِدُونَ يَتَسَلَّطُونَ عَلَى أَقْوَاتِ النَّاسِ وَأَرْزَاقِهِمْ، وَعَلَى مُسْتَقْبَلِهِمْ وَحَيَاتِهِمْ، يُبَدِّلُونَ وَجْهَ الحَيَاةِ المُشْرِقَ، وَيَسْتَعْبِدُونَ الخَلْقَ مِنْ دُونِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَيَرْكَبُونَ أَكْتَافَ النَّاسِ بِغَيْرِ مُوجِبٍ وَلَا حَقٍّ، ثُمَّ تَأْتِي إِرَادَةُ التَّغْيِيرِ، لَا إِرَادَةُ التَّدْمِيرِ: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11].

وَكَانَتْ فُرْقَانًا فِي تَارِيخِ العَالَمِ كُلِّهِ، فُرْقَانًا بَيْنَ عَهْدٍ مَضَى وَعَهْدٍ بَقِيَ، لَا يَعْلَمُ إِلَّا اللهُ مَتَى يَنْقَضِي!

كَانَتْ فُرْقَانًا كَمَا وَصَفَهَا اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ وَوَصَفَ يَوْمَهَا، فِي السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ هِجْرَةِ النَّبِيِّ ﷺ، وَدَارَتْ رَحَى الحَرْبِ الضَّرُوسِ بَيْنَ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَمَعَهُ ثَلَاثُمِئَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَمَا مَعَهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ مِنَ الظَّهْرِ، فَكَانَ الثَّلَاثَةُ وَالْأَكْثَرُ يَتَعَاقَبُونَ عَلَى البَعِيرِ الوَاحِدِ مَرْحَلَةً وَمَرْحَلَةً وَمَرْحَلَةً، ثُمَّ فَلْيَمْضِ البَعِيرُ هَانِئًا مَرْحَلَةً؛ رَحْمَةً وَشَفَقَةً وَعَدْلًا لَا جَوْرَ فِيهِ وَلَا ظُلْمَ يَلْحَقُهُ، وَبِهِ يَنْصُرُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ النَّاسَ.

دَارَتْ رَحَى المَعْرَكَةِ بَيْنَ هَذِهِ الثُّلَّةِ المُبَارَكَةِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَأَلْفٍ مِنَ المُشْرِكِينَ، خَرَجُوا لِلِقَاءِ، وَخَرَجُوا لِلنِّزَالِ، وَأَمَّا أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ فَإِنَّمَا خَرَجُوا لِلْعِيرِ، وَلَمْ يَخْرُجُوا لِلنَّفِيرِ، وَمَا اتَّخَذُوا لِلْأَمْرِ عُدَّةً، وَمَا أَعَدُّوا لَهُ أُهْبَةً، وَإِنَّمَا خَرَجُوا خُرُوجًا يَسِيرًا لَمْ يَعْزِمْ فِيهِ رَسُولُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَنْ يَخْرُجُوا، وَلَا أَنْ يَكُونُوا عَلَى اسْتِعْدَادٍ لِحَرْبٍ.

وَمَعَ ذَلِكَ نَصَرَهُمُ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هُوَ نَاصِرٌ حِزْبَهُ، وَهُوَ الَّذِي يُعْلِي كَلِمَتَهُ، وَهُوَ الَّذِي يَرْفَعُ رَايَةَ الحَقِّ، وَهُوَ الَّذِي يُعِزُّ مَنْ نَصَرَهُ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- نَاصِرٌ مَنْ نَصَرَهُ، وَالرَّسُولُ ﷺ يَضْرَعُ إِلَى رَبِّهِ، وَيَتَوَجَّهُ مُبْتَهِلًا إِلَى اللهِ رَبِّ العَالمَيِنَ بِالدُّعَاءِ: «اللهم إِنْ تَهْلِكْ هَذِهِ العِصَابَةُ -يَعْنِي أَصْحَابَهُ-؛ فَلَنْ تُعْبَدَ فِي الأَرْضِ».

وَالكُفَّارُ يَسْتَفْتِحُونَ: «اللَّهُمَّ عَلَى أَقْطَعِنَا لِلرَّحِمِ، وَعَلَى مَنْ آتَانَا بِمَا لَا نَعْرِفُ، وَعَلَى أَبْعَدِنَا مِنَ الحَقِّ دِينًا»، يَسْتَفْتِحُ بِذَلِكَ المُشْرِكُونَ الكَافِرُونَ، وَيَسْتَفْتِحُ بِهِ فِرْعْوْنُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَلَكَ أَنْ تَعْجَبَ الْعَجَبَ كُلَّهُ مِنْ هَذَا الَّذِي يَقُولُ هَذَا الرَّجُلُ!!

فَمَنِ الَّذِي قَطَعَ الرَّحِمَ؛ أَهُوَ أَمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ؟!

وَمَنِ الَّذِي هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا وَأَقْوَمُ قِيلًا؛ أَهُوَ أَمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ؟!

وَمَنْ هُوَ الَّذِي هُوَ أَسَدُّ دِعَايَةً، وَالَّذِي هُوَ أَقْوَمُ سَبِيلًا؛ أَهُوَ أَمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ؟!

نَصَرَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ جُنْدَهُ، وَأَعَزَّ حِزْبَهُ، وَنَصَرَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ المُسْلِمِينَ فِي بَدْرٍ، فَذَبَحُوهُمْ ذَبْحًا، وَأَسَرُوا مِنْهُمْ سَبْعِينَ، وعَادُوا ظَافِرِينَ مُظَفَّرِينَ، وَعَادَتْ قُرَيْشٌ تَنْدِبُهَا نَوَادِبُهَا، وَتَنُوحُ عَلَيْهَا نَوَائِحُهَا، وَتَبْكِي دَمًا، وَأَعَزَّ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ نَبِيَّهُ ﷺ وَالمُسْلِمِينَ مَعَهُ

* فَتْحُ مَكَّةَ وَتَحْطِيمُ الْأَصْنَامِ فِي رَمَضَانَ:

وَمِنَ الأَحْدَاثِ الفَاصِلَةِ فِي تَارِيخِ الإِسْلَامِ وَالمُسْلِمِينَ، وَالْخَلْقِ أَجْمَعِينَ: فَتحُ مَكَّةَ.

مَرَّتِ الْأَيَّامُ فِي طَرِيقِهَا، وَفَتَحَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَكَّةَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ وَالْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنَ السَّنَةِ الثَّامِنَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَدَخَلَ النَّبِيُّ ﷺ مَكَّةَ ظَافِرًا وَمُنْتِصَرًا، وَعَابِدًا للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- خَاشِعًا وَمُنِيبًا، وَطَافَ بِالْبَيْتِ، وَكَانَ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ صَنَمٌ لِقُرَيْشٍ مِنْ عَقِيقٍ أَحْمَرَ، وَقَدْ كُسِرَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى؛ فَجَعَلُوا مَكَانَهَا يَدًا مِنْ ذَهَبٍ، وَكَانَ كَبِيرَ آلِهَتِهِمْ، وَهُوَ هُبَلُ.

فَأَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِالْأَصْنَامِ، فَجُمِعَتْ خَارِجَ الْبَيْتِ بَعْدَ أَنْ طَافَ ﷺ وَمَعَهُ رُمْحٌ قَصِيرٌ، فَكَانَ يَطْعَنُ بِرُمْحِهِ ﷺ فِي أَعْيُنِ الْأَصْنَامِ وَفِي أَوْجُهِهَا؛ فَتَخِرُّ تَحْتَ قَدَمَيْهِ ﷺ، وَكَانَ فِي رَمَضَانَ هَذَا الْحَدَثُ الْعَظِيمُ، وَهُوَ تَحْطِيمُ الْأَصْنَامِ.

حُطِّمَتِ الْأَصْنَامُ فِي رَمَضَانَ، أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِهَا، فَأُخْرِجَتْ خَارِجَ الْبَيْتِ، ثُمَّ أُضْرِمَتْ فِيهَا النِّيرَانُ، وَفِي السَّنَةِ نَفْسِهَا أَرْسَلَ النَّبِيُّ ﷺ مَنْ هَدَمَ مَنَاةَ وَالْعُزَّى وَسُوَاعًا.

فالنَّبِيُّ ﷺ دَخَلَ مَكَّةَ فِي السَّنَةِ الثَّامِنَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ فِي رَمَضَانَ فَاتِحًا وَظَافِرًا ﷺ، وَعَلَا صَوْتُ اَلْأَذَانِ يُعْلِنُ أَنَّ اللهَ أَكْبَرُ، أَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَكْبَرُ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ، وَأَكْبَرُ مِنَ الْأَعْرَافِ وَالتَّقَالِيدِ، وَأَكْبَرُ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، يُعْلِنُهَا بِلَالٌ -رَضِيَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُ- فَوْقَ الْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ.

فَتَحَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَكَّةَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ وَالْمُسْلِمِينَ مَعَهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَحُطِّمَتِ الْأَصْنَامُ، ثُمَّ أَرْسَلَ النَّبِيُّ ﷺ فِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ مَنْ هَدَمَ اللَّاتَ، وَخَلَتِ الْجَزِيرَةُ مِنْ شِرْكِهَا، وَأَقْفَرَتِ الدِّيَارُ مِنْ أَصْنَامِهَا، وَعُبِدَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.

وَقَعَ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ.

* حَفْرُ النَّبِيِّ ﷺ الْخَنْدَقَ فِي رَمَضَانَ:

فَفِي رَمَضَانَ مِنَ السَّنَةِ الْخَامِسَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ وَالصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يَحْفِرُونَ الْخَنْدَقَ؛ اسْتِعَدَادًا لِمَا يَكُونُ مِنْ قُدُومِ قُرَيْشٍ وَأَحْلَافِهَا غَازِيَةً مَدِينَةَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَأَمَّا غَزْوَةُ الْخَنْدَقِ نَفْسُهَا؛ فَقَدْ وَقَعَتْ فِي شَوَّالٍ مِنَ السَّنَةِ عَيْنِهَا.

وَأَمَّا مَا كَانَ مِنَ الْاسْتِعَدَادِ بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ، وَالرَّسُولُ يَحْمِلُ فِي ذَلِكَ التُّرَابَ عَلَى عَاتِقِهِ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ أَشْرَفُ خَلْقِ اللهِ، وَأَحَبُّ الْخَلْقِ إِلَى اللهِ ﷺ؛ حِيَاطَةً لِدِينِهِ، وَنُصْرَةً لِرَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ فَنَصَرَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَكانَ يُرَدَّدُ:

وَاللهِ لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا                 وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا

فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا                 وَثَبِّتِ الْأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا

وَالنَّبِيُّ ﷺ بَيْنَهُمْ يُحَفِّزُهُمْ إِلَى الْحَقِّ وَعَمَلِ الْخَيْرِ؛ حَتَّى رَدَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَيْدَ الْمُشْرِكِينَ فِي نُحُورِهِمْ، وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ؛ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ.

ففِي شَهْرِ رَمَضَانَ المُباركِ وَقَعَتْ أَحْدَاثٌ جِسَامٌ، وَمِنْ أَهَمِّهَا: فَتْحُ الْأَنْدَلُسِ، ذلكَ الْفِرْدَوسُ المَفْقُودُ.

* فَتْحُ الْأَنْدَلُسِ فِي رَمَضَانَ:

وَفِي السَّنَةِ الْحَادِيَةِ وَالتِّسْعِينَ من هجرة الرسول الأكرم ﷺ: فَتَحَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْأَنْدَلُسَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ طَارِقُ بْنُ زِيَادٍ -رَحِمَهُ اللهُ- مُرْسَلًا مِنْ قِبَلِ مُوسَى بْنِ نُصَيْرٍ، فَفَتَحَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَتْحَهُ.

وَكَانَتْ خُطَّةُ الْمُسْلِمِينَ: أَنْ يَكُونَ الْبَحْرُ الْأَبْيَضُ الْمُتَوَسِّطُ بُحَيْرَةً إِسْلَامِيَّةً، فَذَهَبُوا غَازِينَ إِلَى قُبْرَصَ، ثُمَّ كَانُوا مُرِيدِينَ عَلَى نِيِّةِ الْإِصْعَادِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَكُونُوا ذَاهِبِينَ فِي غَرْبِ أُورُبَّة، ثُمَّ فَلْيَلْقَهُمْ مَنْ يَأْتِي مُشَرِّقًا مِنْ قِبَلِ الْأَنْدَلُسِ بَعْدَ غَزْوِ فَرَنْسَا، وَكَانُوا عَلَى مَشَارِفِ جَنُوبِهَا؛ إِلَّا أَنَّ اللهَ لَمْ يَشَأْ لَهَا الْهِدَايَةَ، فَظَلَّتْ سَادِرَةً فِي كُفْرِهَا، وَفِي عَمَايَتِهَا، وَفِي ضَلَالِهَا وشِرْكِهَا، ولَمْ يَأْذَنْ لَهَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِخَيْرٍ.

فَتَحَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَفْرِيقِيَّةَ فِي شَمَالِهَا جَمِيعِهِ؛ حَتَّى جَازُوا الْعُدْوَةَ إِلَى بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ، فَفَتَحُوهَا بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، كَلِمَةِ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)).

وَمِنَ الْأَحْدَاثِ الْجِسَامِ الَّتِي وَقَعَتْ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ: مَوْقِعَةُ مَرْجِ الصُّفَّرِ، وَمَوْقِعَةُ عَينِ جَالُوتَ.

* مَوْقِعَتَا مَرْجِ الصُّفَّرِ، وَعَيْنِ جَالُوتَ فِي رَمَضَانَ:

فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِمَئَةٍ مِنْ هِجْرَةِ الرَّسُولِ ﷺ: كَانَتْ  «مَوْقِعَةُ مَرْجِ الصُّفَّر» أَوْ «مَوْقِعَةُ شَقْحَب» الَّتِي كَانَ فِيهَا النَّاصِرُ مُحَمَّدُ بْنُ قَلَاوونٍ، وَالْخَلِيفَةُ الْمُسْتَكْفِي بِاللهِ، وَكَانَ مَعَهُمَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ الله تَعَالَى رَحْمَةً وَاسِعَةً-، فَبَدَّدُوا جُمُوعَ التَّتَارِ، وَمَزَّقُوهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ، وَنَصَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْمُسْلِمِينَ نَصْرًا عَزِيزًا مُؤَزَّرًا.

وَقَبْلَ ذَلِكَ فَتَحَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَتْحًا عَظِيمًا، فِي «عَيْنِ جَالُوتَ» نَصَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْمُسْلِمِينَ عَلَى التَّتَارِ؛ فَانْحَسَرَتْ مَوْجَةُ الْهَمَجِيَّةِ وَالْفَوْضَى عَلَى صَخْرَةِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمَةِ بِجُنْدِ الشَّامِ وَجُنْدِ مِصْرَ، فَبَدَّدُوهُمْ كُلَّ مُبَدَّدٍ، وَشَتَّتُوهُمْ كُلَّ مُشَتَّتٍ، وَمَزَّقُوهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ، وَمَنْ نَجَا مِنَ الْقَتْلِ أُسِرَ، ثُمَّ كَانَ بَعْدُ عَبْدًا ذَلِيلًا، فَحَسَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- تِلْكَ الْمَوْجَةَ، وَكُلُّ ذَلِكَ كَانَ وَاقِعًا فِي رَمَضَانَ تَحْتَ رَايَةِ الْإِسْلَامِ.

لَمْ يُنْصَرِ الْمُسْلِمُونَ قَطُّ إِلَّا تَحْتَ رَايَةِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، وَلَمْ يَكُنِ الْمَعْنَى فِي هَذَا كُلِّهِ: أَنَّهُ إِذَا تَسَلَّطَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُفْسِدِينَ... مِنَ الْمُشْرِكِينَ الضَّالِينَ عَلَى مَقَالِيدِ الْأَمْرِ فِي الْأُمَّةِ؛ أَنْ تَصِيرَ الْأُمَّةُ كُلُّهَا مِنَ الْمُفْسِدِينَ الْمُجْرِمِينَ الضَّالِينَ، بَلْ كَانَتِ الْأُمَّةُ تُحَافِظُ عَلَى نَقَائِهَا، ثُمَّ يَذْهَبُ هَذَا الْخَبَثُ بَعِيدًا إِذَا مَا عَلَا صَوْتُ الْإِسْلَامِ، وَإِذَا مَا رُفِعَتْ رَايَةُ التَّوْحِيدِ، وَكَذَلِكَ الشَّأْنُ دَائِمًا وَأَبَدًا.

* حَرْبُ الْعَاشِرِ مِنْ رَمَضَانَ، آخِرُ انْتِصَارَاتِ المُسْلِمِينَ:

حَتَى فِي آخِرِ مَا شَهِدَ المُسْلِمُونَ فِي هَذَا العَصْرِ: فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَتِسْعِين وَثَلَاثِ مِئةٍ وَأَلْف مِنْ هِجْرَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فِي مِثْلِ هَذِهِ الأَيَامِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي العَاشِرِ مِنْهُ: (10 مِنْ رَمَضَان 1393هـ)، وَهُوَ مُوافِقٌ لِلسَّادِسِ مِنَ الشَّهْرِ العَاشِرِ مِنْ سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ وَتِسْعِ مِئةٍ وَأَلْف مِنَ التَّارِيخِ النَّصْرَانيِّ (6/10/1973): لمَّا رُفِعَت رَايَةُ التَّوْحِيدِ، وَعَلَتْ كَلِمَةُ التَّكْبِيرِ؛ نَصَرَ اللهُ رَبُّ العَالمِينَ المُسْلِمِينَ.

وَلَم يُنْصَرُوا إِلَّا بِالإِسْلَامِ العَظِيم، وَلَنْ يُنْصَرَ المُسْلِمُونَ فِي أَيِّ بُقْعَةٍ مِنْ بِقَاعِ الأَرْضِ، وَلا فِي أَيِّ زَمَانٍ مِنَ الأَزْمِنَةِ، وَلنْ تَكُونَ لَهُم شَوْكَةٌ، وَلَنْ تُسمَعَ لهُم كَلِمَةٌ، وَلَنْ تُرْفَعَ لَهُم رَايَةٌ إِلَّا بِالإِسْلَامِ العَظِيمِ، وَبِالتَّوْحِيدِ الكَرِيمِ.

فِي مِثْلِ هَذِهِ الأَيَّامِ مِنْ سَنَةِ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِ مِئةٍ وَأَلْف مِنْ هِجْرَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ «فِي 10 مِنْ رَمَضَان 1393هـ»: رَدَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى المُسْلِمِينَ عَامَّةً، وَعَلَى المِصْرِيِّينَ وَجُنْدِ الشَّامِ خَاصَّةً بَعْضَ الكَرَامَةِ السَّلِيبَةِ، وَأَعَزَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- دِينَهُ، وَنَصَرَ جُنْدَهُ لمَّا فَاءَ النَّاسُ إِلَى الحَقِّ وَرَجَعُوا إِلَيْهِ.

الْأَسْبَابُ الْحَقِيقِيَّةُ لِنَكْسَةِ عام (1967م):

لَقَدْ كَانَ الَّذِينَ عَلَى الأَمْرِ قَبْلُ قَدْ عَاثُوا فِي الأَرْضِ فَسَادًا، وَتَحَوَّلَت سِهَامُهُمْ إِلَى نُحُورِ أَبْنَاءِ شَعْبِهِم، فَسَامُوهُم الخَسْفَ، وَأَذَلُّوهُم، وَشَرَّدُوهُم كُلَّ مُشَرَّدٍ، وَأَنْزَلُوا بِهِم سُوءَ العَذَابِ، أَبَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَّا أَنْ يُرِيَهُم بَعْضَ الَّذِي وَعَدَهُم، وَأَوْعَدَهُم بِهِ فِي هَذِهِ الحَيَاة.

أَبَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إلَّا أَنْ يَشْرَبُوا كَأْسًا مُتْرَعَةً مِنَ الذُّلِّ فِي الحَيَاةِ، وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

وَكَانُوا لِسُوءِ التَّدْبِيرِ قَدْ صَاحُوا بِكُلِّ فَجٍّ أَنَّهُم سَوْفَ يُلْقُونَ اليَهُودَ فِي البَحْرِ، وَأَنَّهَا شِرْذِمَةٌ قَلِيلَةٌ مُسْتَضْعَفَةٌ لَا يُؤْبَهُ لَهَا، وَأَنَّهَا لَا تَثْبُتُ عَلَى النَّفْخِ لَا عَلَى الجِلَادِ وَالحَرْبِ.

ثُمَّ دُفِعَ بِالجِيشِ المَصْرِيِّ وَجُنْدِهِ مِنْ خَيْرِ أَجْنَادِ الأَرْضِ؛ مَا هُزِمُوا مِنْ خَوَرٍ وَلَا ضَعْفٍ، وَإِنَّمَا يُؤْتَونَ بِالغَدْرِ وَيُؤْخَذُونَ بِالخِيَانَةِ، كَانُوا قَدْ دَفَعُوا بِالجِيشِ البَاسِلِ إِلَى الصَّحَرَاءِ المَكْشُوفَةِ، كَأَنَّمَا يُرْهَبُونَ عَدُوَّهُم، وَكَأَنَّمَا يَسْتَدِرُّونَ العَطْفَ مِنْ أُمَمِ الأَرْضِ؛ مَخَافَةَ أَنْ يَحِيقَ بِالشِّرْذِمَةِ الطَّاغِيَةِ مِنْ يَهُودٍ سُوءُ العَذَابِ، هَكَذَا قَدَّرُوا؛ لِأَنَّ الغِوَايَةَ كَانَتْ سَادِرَةً، وَلِأَنَّ تَحْوِيلَ المُجْتَمَعِ مِنْ دِينِهِ، وَمِنْ هُويَّتِهِ الْأَصِيلَةِ كَانَ مُرَتَّبًا وَمُنَظَّمًا -أَلَا سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ-.

عِنْدَمَا تَحِيدُ الأُمَّةُ عَنْ مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، عِنْدَمَا يَصِيرُ المُجْتَمَعُ مُسْتَنْقَعًا كَبِيرًا تَرْتَعُ فِيهِ نَوَازِعُ الرَّذِيلَةِ، وَتَنْطَلِقُ فِيهِ الشَّهَوَاتُ مِنْ عُقُلِهَا، وَلَا تَجِدُ فِيهِ مَكَانًا تَحْمِي فِيهِ سَمْعَك وَبَصَرَك، وَلَا تَحْمِي فِيهِ مِنَ الفِتَنِ نَفْسَكَ؛ حَتَّى المَسَاجِدَ أَفْسَدُوهَا، وَعَدَوْا عَلَيْهَا فَخَرَّبُوهَا، وَجَعَلُوا فِيهَا مِنْ أَهْلِ الجَهْلِ مَنْ جَهَّلُوا، وَمِنْ أَهْلِ الحِزْبِيَّةِ مَنْ أَفْسَدُوا عَلَى النَّاسِ دِينَهُم، فَصَارَتْ كَمَسَاجِدِ ضِرَارٍ، لَا يَجِدُ المَرْءُ فِيهَا بُغْيَتَهُ، وَلَا يَلْقَى فِيهَا سَكِينَتَهُ، وَلَا تَسْتَقِرُّ فِيهَا رُوحُهُ عَلَى قَرَارٍ!!

وَقَعَ مَا وَقَعَ؛ مِنْ تَغْيِيبٍ لِدِينِ الإِسْلَامِ العَظِيمِ، ثُمَّ أَرَادَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالنَّكْبَةِ أَنْ يَخْرُجَ النَّاسُ مِنْ نِدَاءِ بَاطِلٍ بِقَوْلِ قَائِلِهِم: «أَمْجَاد! يَا عَرَب! أَمْجَاد»!! إِلَى قَوْلِ: «اللَّهُ أَكْبَرُ»؛ فبِهَا نُنْصَرُ إِذَا مَا حَقَّقْنَاهَا فِي النُّفُوسِ وَالضَّمَائِرِ وَالقُلُوبِ، وَكَانَتْ وَاقِعًا يُعَاشُ فِي الحَيَاةِ.

نَصْرُ الْعَاشِرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَشِعَارُ «اللهُ أَكْبَرُ»:

أَبَى اللهُ إلَّا أَنْ يَحْفَظَ عَلَى أَرْضِ الكِنَانَةِ دِينَهَا، وَعَلَى أَبْنَائِهِم إِسْلَامَهُم، وَأَنْ يُعِزَّهُم اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِدِينِ الإِسْلَامِ العَظِيمِ، وَتَحَطَّمَتِ الأُسْطُورَةُ أُسْطُورَةُ الشَّعْب الَّذِي يَدُهُ طُولَى، فَمَهْمَا أَرَادَ أَنْ يَصِلَ بِيَدِهِ إِلَيْهِ وَصَلَ.

أَرَادَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يُحَطِّمَ أُسْطُورَةَ الجَيْشِ الَّذِي لَا يُقْهَرُ، فَسِيمَ العَذَابَ، وَسَارَ كَالدَّجَاجِ لَا يَجِدُ مَأْوَى، وَقَدْ عَدَتْ عَلَيْهِ السِّبَاعُ، وَنَصَرَ اللهُ رَبُّ العَالمِينَ المِصْرِيِّينَ، وَجُنْدَ الشَّام نَصْرًا مُؤزَّرًا، وَحَاقَ بِيَهُودٍ مَا كَانُوا يُوْعَدُونَ، وَلهَا أَخَوَاتٌ إِذَا عَادَ المُسْلِمُونَ إِلَى دِينِ الحَقِّ، وَفَاءُوا إِلَى طَرِيقِ الرُّشْدِ، وَرَفَعُوا رَايَةَ التَّوْحِيدِ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُول اللهِ».

وَكَذَبَ مَنْ قَالَ: «إِنَّ يَهُودَ لَمْ تَكُنْ تَخْشَى المُسْلِمِينَ بَعْدَ النَّكْبَةِ»، فَهَذَا وَهْمُ وَاهِمٍ وَخَيَالُ عَابِث، إِنَّمَا كَانُوا مِنْهُم عَلَى الرَّهْبَةِ، وَالدَّلِيلُ: مَا كَانَ، فَهَذَا مَانِعٌ مَائِيٌّ عَظِيمٌ؛ سُلِّطَتْ عَلَيْهِ أَنَابِيبُ النَّابَالْمِ، حَتَّى إِذَا مَا بَدَأَ المِصْرِيُّونَ فِي العُبُورِ لِذَلِكَ المَانِعِ المَائِيِّ؛ اشْتَعَلَتِ القَنَاةُ نَارًا، فَأَعَدُّوا ذَلِكَ، ثُمَّ أَعَدُّوا السَّدَّ التُّرابيَّ، وَاجْتِيَازُهُ لَا يَكُونُ إِلَّا بشِبْهِ مُعْجِزَةٍ تَأْتِي مِنْ قِبَلِ مَنْ هُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، إِلَى مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ «خَطِّ بَارْلِيف».

وَوَضَعُوا العَسْكَرِيَّةَ عَلَى المَحَكِّ؛ لِيَنْظُرَ العَالَمُ كُلُّهُ إِلَى هَذَا الجُنْدِ المُسْلِمِ مِنْ أَرْضِ الكِنَانَةِ، وَقَدْ صَدَّ قَبْلُ أَمْوَاجَ الهَمَجِيَّةِ التَّتَرِيَّةِ، وَأَمْوَاجَ الفَوْضَى الصَّلِيبِيَّةِ، وَكُلَّ غَازٍ أَرَادَ أَنْ يَعْبُرَ إِلَى دِيَارِ الإِسْلَامِ؛ تَحَطَّمَ عَلَى صَخْرَةِ هَذِهِ الأُمَّةِ المُبَارَكَةِ، وَبِسَواعِدِ أَبْنَائِهَا، تُحَرِّكُهَا عَزَمَاتُ إِيمَانِهَا بِقُلُوبِهَا، بِأَنَّهُ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، وَأَنَّنَا إِنَّمَا نَدُورُ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ، وَهُمَا حُسْنَيَانِ مَعًا: إِمَّا النَّصْرُ وَإِمَّا الشَّهَادَةُ، فَجَازُوا تِلْكَ المَوَانِعَ كُلَّهَا، وَلَمْ يَقِفْ فِي وَجْهِهِم شَيْءٌ، وَلَا صَدَّهُمْ عَنْ بُغْيَتِهِمْ.

فِي مِثْلِ هَذِهِ الأَيَّام نَصَرَ اللهُ رَبُّ العَالمِينَ جُنْدَهُ، وَصَارَ إِخْوَانُ القِرَدَةِ وَالخَنَازِيرِ كَعَجُوزٍ تَلْطِمُ مُوَلْوِلَةً، تَسْتَجْدِي أُمَمَ الكُفْرِ العَتَادَ وَالسِّلَاحَ وَالمَئُونَةَ، وَهَؤلَاءِ يَرْفَعُونَ شِعَارًا وَاحِدًا: «اللهُ أَكْبَرُ».

اللهُ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.

اللهُ أَكْبَرُ مِنْ مَوَانعِ المَاءِ، وَمِنْ مَوَانِعِ التُّرَابِ وَسَوَاتِرِهَا.

اللهُ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ خَطِّ دِفَاعٍ.

اللهُ أَكْبَرُ مِنَ الطَّائِراتِ وَالدَّبَّابَاتِ، وَالمَدَافِعِ وَالصَّوَارِيخِ.

اللهُ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ عَادٍ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ.

اللهُ أَكْبَرُ مِنْ أُمَمِ الكُفْرِ كُلِّهَا.

فَكَانَ النَّصْرُ، وَهُوَ دَرْسٌ مَطْرُوحٌ كَانَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الأَيَّامِ، وَمَا زَالَ دَرْسًا مَطْرُوحًا إِلَى اليَوْمِ، وَسَيَظَلّ، فَهَلْ مِنْ مُسْتَفِيدٍ؟!

أَسْبَابُ نَصْرِ الْعَاشِرِ مِنْ رَمَضَانَ:

كَانَتْ مَوْقِعَةً مِنَ المَوَاقِعِ الظَّافِرَةِ، تُعِيدُ إِلَى العَالَمِ نَسَائِمَ المَاضِي البَعِيدِ، نَسَائِمَ يَوْمِ بَدْرٍ، نَسَائِمَ يَومِ عَيْنِ جَالُوتَ، تُعِيدُ إِلَى الأُمَّةِ نَسَائِمَ تُرَطِّبُ القُلُوبَ، وَتَحْنُو عَلَى الأَفْئِدَةِ؛ لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّهُ لَا يُعْجِزُهُ أَحَدٌ وَلَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، وَلَيُغْلَبَنَّ مُغَالِبُ الغَلَّابِ.

نَصَرَ اللهُ رَبُّ العَالمِينَ جُنْدَهُ، وَكَانَتِ الأُمَّةُ -وَكُنَّا حَاضِرِيهَا- عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَتَعْجَبُ: كَيْفَ زَالَتِ الأَحْقَادُ فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ؟!!

كَيْفَ انْمَحَقَتِ الأَحْسَادُ فِي ثَانِيَةٍ أَوْ أَقَلَّ مِنْهَا؟!!

كَيْفَ صَارَ النَّاسُ قَلْبًا وَاحِدًا نَابِضًا يَضْرَعُ إِلَى اللهِ بِأَكُفِّ ضَرَاعَةٍ نَقِيَّةٍ تَقِيَّةٍ، لَا سَارِقَةٍ، وَلَا غَاصِبَةٍ، وَلَا مُرْتَشِيَةٍ، وَلَا مُلَوَّثَةٍ بِدِمَاءِ تَعْذِيبِ البَشَرِ، وَإِنَّمَا هِيَ خَاضِعَةٌ للهِ نَقِيَّةٌ، وَهِيَ ذَلِيلَةٌ للهِ تَقِيَّةٌ؟!!

كَيْفَ تَحَوَّلَ المُجْتَمَعُ كُلُّه فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ إِلَى قَلْبٍ تَقِيٍّ نَابِضٍ بِالصِّدْقِ، وَرُوحٍ مُوَحِّدَةٍ نَاطِقَةٍ بِالحَقِّ؟!!

كَيْفَ تَكَاتَفَ النَّاسُ؟!!

كَيْفَ تَآزَرَ النَّاسُ؟!!

كَيْفَ َتَعَاوَنُوا وَتَعَاضَدُوا؟!!

كَيْفَ فَزِعُوا جَمِيعًا إِلَى اللهِ؛ لِيَنْصُرَ جُنْدَهُ؟!

وَكَانَ الجُنْدُ بَيْنَ النَّكْبَةِ وَالنَّصْرِ، قَدْ رُبُّوا عَلَى مَعْرِفَةِ الحَقِّ، وَسَارَت فِيهِم دُعَاةٌ يَدْعُونَهُمْ إِلَى دِينِ الهُدَى وَإِلَى دِينِ الحَقِّ الَّذِي جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَعَلَّمُوهُم مَعَانِيَ الجِهَادِ، وَعَرَفُوا مَعْنَى الشَّهَادَةِ وَحَلَاوَةَ الاسْتِشْهَاد، وَلَمْ يَكُونُوا مِمَّن يُقَاتِلُ عَنْ أَرْضٍ بِلَا هُوِيَّةٍ، وَإِنَّمَا هِيَ أَرْضٌ إِسْلَامِيَّةٌ، إِذَا مَاتَ مُدَافِعٌ عَنْهَا فَقَدْ مَاتَ شَهِيدًا، فَهِيَ أَرْضُ الإِسْلَامِ.

هِيَ هَذِهِ الكِنَانَةُ... كِنَانَةُ اللهِ فِي أَرْضِهِ.

تِلْكَ الصَّخْرَةُ الَّتِي تَتَحَطَّمُ عَلَيْهَا أَمْوَاجُ الغُزَاةِ بِفَضْلِ اللهِ.

وَهُمْ مِنْ أَرَقِّ النَّاسِ قُلُوبًا، ومِنْ أَخْشَعِهِم نُفُوسًا، وَمِنْ أَتْقَاهُمْ أَفْئِدَةً إِذَا عَرَفُوا الحَقَّ وَلَزِمُوهُ، وَقَدْ وَصَّى بِهِم رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ خَاصًّا بِقُطْرٍ وَلَا شَعْبٍ، وَإِنَّمَا هُوَ لِعُمومِ الأُمَّةِ بِجَمِيعِ أَجْنَاسِهَا، وَبِكُلِّ النَّاطِقِينَ بِلُغَتِهِمْ يَشْهَدُونَ أَنَّهُ «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ»، وَكَانَ نَصْرًا عَزِيزًا.

هُوَ دَرْسٌ يُسْتَلْهَمُ.

وَحَادَ مَنْ حَادَ بَعْدُ؛ حَتَّى حُرِقَ الحَرَمُ الإِبْرَاهِيمِيُّ، وَاُعْتُدِيَ عَلَى المُصَلِّينَ فِيهِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَإنَّا للهِ وَإنَّا إِلَيهِ رَاجِعُونَ!!

فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَجْعَلَ سِجِلَّيْنِ؛ وَاحِدًا لِلانْتِصَارَاتِ فِي رَمَضَانَ، وَآخَرَ لِلانْكِسَاراتِ فِي رَمَضَانَ؛ فَاصْنَعْ؛ وَلَكِنْ مَا هُوَ العَامِلُ المُشْتَرَكُ بَيْنَ هَذَيْنِ الأَمْرَيْنِ؟

هُوَ: إِذَا تَمَسَّكْتُمْ بِدِينِ اللهِ نُصِرْتُمْ، وَإِذَا خَفَّتْ قَبْضَتُكُمْ عَلَى دِينِ رَبِّكُم كُسِرْتُمْ وَهُزِمْتُم.

وَلَنْ يَعُودَ إِلَيْكُم مَجْدُكُم وَلَنْ يَحْتَرِمَكُم العَالَمُ إلا بِتَمَسُّكِكُمْ بِدِينِكُمْ.

وَاِحْتِرَامُ العَالمِ لَكُم مَطْلُوبٌ؛ لِأَنَّهُم إِنْ لَمْ يَحْتَرِمُوكُمْ؛ فَلَنْ يَسْمَعُوا دَعْوَتَكُم، وَأَنْتُم أُمَّةٌ دَاعِيَةٌ إِلَى التَّوْحِيدِ، إِلَى الإِسْلَامِ العَظِيمِ، لَيْسَ لَكُم قِيمَةٌ إِلَّا بِهِ، فَقِيمَتُكُم بِإِسْلَامِكُم.

قِيمَتُكُم بِدِينِكُم!

قِيمَتُكُم بِتَوْحِيدِكُم!

فَإِذَ نَظَرْتَ فِي السِّجِلَّيْنِ مَعًا؛ وَجَدْتَ العَامِلَ المُشْتَرَكَ.

وَلَمْ يَكُنْ فِي الأَحْدَاثِ الَّتِي مَرَّتْ إِلَّا قَلِيلًا إِلَّا المَعْنَى القَائِم؛ وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ مَعْنَى أَنْ تَكُونَ طُهْمَةٌ فَاجِرَةٌ... وَأَنْ تَكُونَ جَمَاعَةٌ نَاكِرَةٌ... وَأَنْ تَكُونَ عِصَابَةٌ مُفْسِدَةٌ قَدْ تَحَكَّمَتْ فِي شَيْءٍ؛ لَيْسَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنْ تَصِيرَ الأُمَّةُ كُلُّهَا فَاجِرَةً، وَأَنْ تَصِيرَ الأُمَّةُ كُلُّهَا فَاسِدَةً مُفْسِدَةً، وَإِنَّمَا تُحَافِظُ الأُمَّةُ عَلَى نَقَائِهَا؛ وَإِنْ فَسَدَ مَنْ فَسَدَ، وَإِنَّمَا يُفْرَزُ مِنَ الأُمَّةِ بَعْدُ مَنْ يُعْلِي اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهِ الرَّايَةَ، وَيُثَبِّتُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَنْ شَاءَ عَلَى الحَقِّ بِالحَقِّ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

أَسْأَلُ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ- أَنْ يَرُدَّنَا وَالمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ إِلَى الحَقِّ رَدًّا جَمِيلًا.

اللَّهُمَّ رُدَّنَا وَالمُسْلِمِينَ جَمِيعًا إِلَى الحَقِّ رَدًّا جَمِيلًا، وَأَحْسِنْ خِتَامَنَا أَجْمَعِينَ.

اللَّهُمَّ أَحْسِنْ خِتَامَنَا أَجْمَعِينَ.

اللَّهُمَّ أَحْسِنْ خِتَامَنَا أَجْمَعِينَ.

اللَّهُمَّ جَنِّبْ وَطَنَنَا مِصْرَ، وَجَمِيعَ أَوْطَانِ المُسْلِمِينَ مُضِلَّاتِ الفِتَنِ؛ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَطَهِّرْ وَطَنَنَا وَجَمِيعَ أَوْطَانِ المُسْلِمِينَ مِنَ الكُفْرِ وَالكَافِرِينَ، وَالشِّرْكِ وَالمُشْرِكِينَ، وَالخِيَانَةِ وَالخَائِنِينَ، وَالفَسَادِ وَالمُفْسِدِينَ، وَالبِدْعَةِ وَالمُبْتَدِعِينَ يَا رَبَّ العَالمِينَ، وَيَا أَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ، وَيَا ذَا القُوَّةِ المَتِين.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

 

المصدر:رَمَضَانُ شَهْرُ الْجُودِ وَالْكَرَمِ وَالِانْتِصَارَاتِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  ذِكْرُ اللهِ فِي رَمَضَانَ
  اللجان النوعية والثورة المسلحة
  مذابح اليهود
  الْبِرُّ بِالْأَوْطَانِ مِنْ شَمَائِلِ الْإِيمَانِ
  التَّعْلِيمُ ضَرُورَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَنَصَائِحُ غَالِيَةٌ لِلطُّلُّابِ
  عقيدة أهل الإسلام في حقوق الحكام
  تَنْظِيمُ النَّسْلِ بِشُرُوطِهِ قَضِيَّةُ أَخْذٍ بِالْأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ
  حياة النبي صلى الله عليه وسلم من الميلاد إلى البعثة
  اللهَ اللهَ فِي أُمَّهَاتِكُمْ!!
  التَّأَسِّي بِأَخْلَاقِ الرَّسُولِ الْكَرِيمِ ﷺ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان