((حُسْنُ الْخَاتِمَةِ بَيْنَ الِاجْتِهَادِ وَالتَّوْفِيقِ))
جَمْعٌ وَتَرْتِيبٌ مِنْ خُطَبِ الشَّيْخِ الْعَلَّامَةِ:
أَبِي عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيد رَسْلَان -حَفِظَهُ اللهُ-.
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((تَوَاضُعُ الصَّالِحِينَ وَعَدَمُ الِاغْتِرَارِ بِالنَّفْسِ))
فَقَدْ أَخْرَجَ الذَّهَبِيُّ فِي تَرْجَمَتِهِ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ -رَحِمَهُ اللهُ-: عَنْ عَبَّاسٍ الدُّورِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي فَزَارَةَ، وَكَانَ جَارًا لَنَا قَالَ: كَانَتْ أُمِّي مُقْعَدَةً مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً، فَقَالَتْ لِي يَوْمًا: يَا بُنَيَّ، اذْهَبْ إِلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ، فَاسْأَلْهُ أَنْ يَدْعُوَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لِي عَسَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَتَقَبَّلَ دُعَاءَهُ فَيُبْرِئَنِي مِنَ الْمَرَضِ الَّذِي أَلَمَّ بِي.
قَالَ: فَذَهَبْتُ، فَضَرَبْتُ الْبَابَ فَإِذَا هُوَ فِي دِهْلِيزٍ لَهُ وَرَاءَ الْبَابِ يُصَلِّي، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ قَالَ: مَنْ؟
قُلْتُ: فُلَانٌ، وَقَدْ أَرْسَلَتْنِي أُمِّي وَهِيَ مُقْعَدَةٌ مُنْذُ عِشْرِينَ، تَسْأَلُكَ أَنْ تَدْعُوَ اللهَ لَهَا.
فَقَالَ: فَأَجَابَنِي مُغْضَبًا، وَقَالَ: بَلْ أَنَا أَحْوَجُ إِلَى دُعَائِهَا مِنْهَا إِلَى دُعَائِي.
سَلْهَا أَنْ تَدْعُوَ اللهَ لِي.
قَالَ: فَانْصَرَفْتُ فَإِذَا عَجُوزٌ قَدْ خَرَجَتْ مِنْ عِنْدِ أَحْمَدَ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-، فَقَالَتْ: قَدْ تَرَكْتُهُ يَدْعُو اللهَ لَهَا.
قَالَ: فَعُدْتُ إِلَى بَيْتِنَا، فَضَرَبْتُ الْبَابَ، فَخَرَجَتْ أُمِّي فَفَتَحَتْ لِيَ الْبَابَ)).
وَلَكَ أَنْ تَنْظُرَ فِي قَوْلِ أَحْمَدَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((بَلْ أَنَا أَحْوَجُ أَنْ تَدْعُو اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لِي مِنْ أَنْ أَدْعُوَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَهَا)).
فِي هَذَا النَّظَرِ إِلَى النَّفْسِ وَمُرَاعَاةِ جَانِبِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الْفَعَّالِ لِمَا يُرِيدُ، أَمْرٌ يَنْبَغِي أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَيْهِ الْعَبْدُ الصَّادِقُ فِي سَيْرِهِ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
((الْخَوْفُ مِنْ سُوءِ الْخَاتِمَةِ))
قَالَ تَعَالَى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثُ} [الأعراف: 175-176].
اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ضَرَبَ الْمَثَلَ فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ لِعَالِمِ السُّوءِ الَّذِي يُؤْتِيهِ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ آيَاتِهِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَرْفَعَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَا عَلَى النَّاسِ دَرَجَاتٍ، وَمِنْ أَجْلِ أَنْ يُحْسِنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَاقِبَتَهُ إِذَا مَا أَخَذَ بَهَا، وَالْتَفَتَ إِلَيْهَا وَعَمِلَ بِمُقْتَضَاهَا، وَسَارَ عَلَى نَهْجِهَا.
فَمَاذَا صَنَعَ؟
أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ، وَانْسَلَخَ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ وَمَوْلَاهُ.
فَضَرَبَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ الْمَثَلَ {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثُ}.
وَهُوَ مَثَلٌ مُفْظِعٌ جِدًّا، ضَرَبَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِكُلِّ مَنِ انْسَلَخَ مِنْ آيَاتِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَمْرًا وَنَهْيًا، وَالْتِزَامًا وَعَمَلًا، وَجَعَلَ كِتَابَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ خَلْفَ ظَهْرِهِ، وَدَبْرَ أُذُنَيْهِ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، وَلَمْ يُعَوِّلْ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَعْمَلْ بِمَا فِيهِ.
وَأَمَّا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ ﷺ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَ بِكِتَابِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- كَمَا يَقُولُ الْعُلَمَاءُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ-: ((لَمْ يَكُنْ فِي أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ مَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَلَا يَتَدَبَّرُهُ وَيَفْقَهُ مَعَانِيَهُ، وَإِنَّمَا حَدَثَتْ هَذِهِ الْبِدْعَةُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَقْوَامٍ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَا يَفْقَهُونَهُ، وَلَا يَفْهَمُونَ مَا يَتْلُونَ مِنْ آيَاتِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)).
فَانْظُرْ إِلَيْهِ كَيْفَ جَعَلَهَا بِدْعَةً؛ لِأَنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ نَبِيِّنَا ﷺ وَلَا مَنْ تَبِعَهُ بِإِحْسَانٍ مِنْ أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-.
وَعَنْ أَبِي مُلَيْكَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- قَالَ: ((أَدْرَكْتُ ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ كُلُّهُمْ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ النِّفَاقِ)).
أَصْحَابُ الرَّسُولِ ﷺ يَخْشَوْنَ النِّفَاقَ، وَيَخْشَوْنَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ أَنْ يُوَاقِعُوهُ، وَيَخَافُونَ سُوءَ الْخَاتِمَةِ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ.
*أَقْوَامٌ آتَاهُمُ اللهُ الْإِيمَانَ ثُمَّ خُتِمَ لَهُمْ بِالنِّفَاقِ وَالْكُفْرِ:
وَاللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ضَرَبَ الْمَثَلَ فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ بِأَقْوَامٍ آتَاهُمُ الْإِيمَانَ، ثُمَّ خَتَمَ لَهُمْ بِالنِّفَاقِ وَالْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ، وَبَشَّرَهُمْ بِالنِّيرَانِ.
نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُنَجِّيَنَا مِنْهَا بِرَحْمَتِهِ، وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.
{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ۚ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ۚ إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة: 65-66].
فَانْظُرْ إِلَى آيَاتِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَتَدَبَّرْ فِيهَا مَلِيًّا، وَتَأَمَّلْ كَيْفَ أَثْبَتَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُمْ إِيمَانًا، ثُمَّ وَصَمَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَى بَاحَةِ النِّفَاقِ -عِيَاذًا بِاللَّهِ وَلِيَاذًا بِجَنَابِهِ الْعَظِيمِ-.
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ} يَا مُحَمَّدُ {لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ}، وَذَلِكَ كَمَا أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَقَتَادَةَ، دَخَلَ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ: ((أَنَّهُ فِي غَزْوَةٍ مِنْ غَزَوَاتِ رَسُولِ اللهِ ﷺ -هِيَ غَزْوَةُ تَبُوكٍ- جَلَسَ الْمُنَافِقُونَ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: ((لَمْ أَرَ كَقُرَّائِنَا هَؤُلَاءِ أَرْغَبَ بُطُونًا، وَلَا أَجْبَنَ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَلَا أَكْذَبَ أَلْسُنًا)).
يَعْنِي: مُحَمَّدًا ﷺ، وَحَمَلَةَ الْقُرْآنِ مِنْ أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-.
((لَمْ أَرَ كَقُرَّائِنَا هَؤُلَاءِ أَرْغَبَ بُطُونًا))، يَعْنِي: أَوْسَعَ بُطُونًا، وَأَجْبَنَ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَأَكْذَبَ أَلْسُنًا.
فَقَالَ رَجُلٌ: ((بَلْ أَنْتَ مُنَافِقٌ تَتَكَلَّمُ بِالنِّفَاقِ، وَلَأَحْمِلَنَّهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ)).
فَذَهَبَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَوَجَدَ الْوَحْيَ قَدْ سَبَقَهُ، وَأَنْزَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ۚ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ}.
وَبِالْفِعْلِ جَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ يَعْتَذِرُونَ، يَقُولُونَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ إِنَّمَا كُنَّا نُمَضِّي الْوَقْتَ، وَنَصْنَعُ كَمَا يَصْنَعُ الرَّكْبُ، نُزْجِي أَوْقَاتَ الْفَرَاغِ.
فَالرَّسُولُ ﷺ كَمَا بَيَّنَ أَصْحَابُهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- قَائِمٌ عَلَى نَاقَتِهِ قَدِ ارْتَحَلَهَا، وَضَعَ عَلَيْهَا رَحْلَهُ، وَرَكِبَ فَوْقَهَا ﷺ، وَجَاءَ مَخْشِيُّ بْنُ حُمَيِّرٍ --رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَعَفْوُهُ-، فَأَمْسَكَ بِنِسْعَةِ رَحْلِ رَسُولِ اللهِ ﷺ -وَهُوَ حَبْلٌ مَضْفُورٌ يَكُونُ كَالزِّمَامِ لِلنَّاقَةِ-، وَرِجْلَاهُ تَضْرِبَانِ فِي أَحْجَارِ الطَّرِيقِ، وَقَدْ تَعَلَّقَ بِزِمَامِ نَاقَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ قَعَدَ بِي اسْمِي وَاسْمُ أَبِي.
فَاسْتَغْفَرَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَتَابَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْآخَرُونَ؛ فَجَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ يَعْتَذِرُونَ، فَلَا يَزِيدُهُمُ الْمَأْمُونُ ﷺ عَلَى قَوْلِهِ: {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}.
لَا يَزِيدُهُمْ عَلَيْهَا ﷺ، وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِمْ {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ۚ إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مِّنكُمْ} وَهُوَ مَخْشِيُّ بْنُ حُمَيِّرٍ --رَحِمَهُ اللهُ- وَعَفْوُهُ-.
وَكَانَ مِنْ تَمَامِ تَوْبَتِهِ: أَنْ دَعَا اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- أَنْ يَمُوتَ شَهِيدًا، وَأَنْ يُغَيَّبَ بِحَيْثُ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ أَيْنَ ذَهَبَتْ جُثَّتُهُ، فَمَاتَ --رَحِمَهُ اللهُ- وَعَفْوُهُ- فِي (الْيَمَامَةِ) عِنْدَمَا خَرَجَ الْمُسْلِمُونَ يُقَاتِلُونَ أَتْبَاعَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ الْمُتَنَبِّئِ.
فَمَاتَ شَهِيدًا، وَأَخَذُوا يَبْحَثُونَ عَنْ جُثَّتِهِ، فَلَمْ يُدْرَ لَهَا خَبَرٌ، وَلَمْ يَعْثَرْ لَهَا عَلَى أَثَرٍ وَلَا عَيْنٍ -رَحِمَهُ اللهُ-.
يَقُولُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ۚ إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ}.
وَهُمْ إِنَّمَا كَانُوا يَخُوضُونَ وَيَلْعَبُونَ عَلَى حَسَبِ مَا يَقُولُونَ.
وَأَمَّا اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-؛ فَيُرَاجِعُهُمْ فِي أَمْرٍ دَقِيقٍ {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}.
فَاللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَثْبَتَ لَهُمُ الْإِيمَانَ، وَحَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرَانِ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ.
فَالْعَبْدُ الْمُسْلِمُ يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَلَّا يَرْكَنَ إِلَى ظَاهِرِ الْأَمْرِ فِيمَا وَفَّقَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِلَيْهِ مِنَ الطَّاعَاتِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَخْشَى سُوءَ الْخَاتِمَةِ.
((سُؤَالُ النَّبِيِّ ﷺ رَبَّهُ الثَّبَاتَ عَلَى الدِّينِ))
وَالرَّسُولُ ﷺ كَانَ يُكْثِرُ أَنْ يَدْعُوَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ بِهَذَا الدُّعَاءِ: ((اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ)).
يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ فِي أَكْثَرِ مَا يَدْعُو بِهِ رَبَّهُ -جَلَّ وَعَلَا-: ((اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ)).
يَقُولُ أَنَسٌ: فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ إِنَّا قَدْ آمَنَّا بِكَ، وَصَدَّقْنَا بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالنُّورِ مِنْ عِنْدِ رَبِّكَ؛ أَفَتَخْشَى عَلَيْنَا؟)).
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّمَا قُلُوبُ الْخَلْقِ جَمِيعًا بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ)).
فَالنَّبِيُّ ﷺ يَدْعُو رَبَّهُ بِهَذَا الدُّعَاءِ، وَالنَّبِيُّ هُوَ النَّبِيُّ ﷺ.
((اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ)).
وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((اللَّهُمَّ يَا مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ)).
فَالنَّبِيُّ ﷺ يُبَيِّنُ لَنَا أَنَّ قُلُوبَ الْخَلْقِ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، وَأَنَّكَ لَا تَدْرِي بِمَا سَبَقَ الْكِتَابُ عَلَيْكَ؛ أَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ؟
نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ.
وَلِذَلِكَ كَانَ سُفْيَانُ -رَحِمَهُ اللهُ- يَسْأَلُ النَّاسَ كَثِيرًا، يَقُولُ: هَلْ بَكَيْتَ عَلَى سَابِقِ عِلْمِ اللهِ فِيكَ؟
فَيَقُولُ لَهُ الْقَائِلُ: تَرَكْتَنِي لَا أَفْرَحُ مِنْ بَعْدِهَا أَبَدًا.
وَكَانَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ -رَحِمَهُ اللهُ- يَقُومُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا- بَاكِيًا، وَيَقُولُ: ((يَا رَبِّ؛ قَدْ عَلِمْتَ أَهْلَ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَفِي أَيِّ الْفَرِيقَيْنِ كُتِبَ مَالِكٌ؟
وَيَبْكِي بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا- عَلَى سَابِقِ عِلْمِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِيهِ)).
((لَا تَغْتَرَّ بِالظَّاهِرِ وَاسْأَلْ رَبَّكَ الْإِخْلَاصَ))
الرَّسُولُ ﷺ الْمُؤَيَّدُ بِالْوَحْيِ مِنْ عِنْدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الَّذِي لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، وَالَّذِي لَا يَتَكَلَّمُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُ بِمَا يُوحِي إِلَيْهِ رَبُّهُ -جَلَّ وَعَلَا- كَمَا فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ الَّذِي أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي ((صَحِيحَيْهِمَا)): ((أَنَّ رَجُلًا خَرَجَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ مَخْرَجًا -يَعْنِي فِي غَزَاةٍ مِنْ غَزَوَاتِ رَسُولِ اللهِ ﷺ-، وَأَبْهَمَهُ سَهْلٌ -رَحِمَهُ اللهُ-: وَبَيَّنَهُ غَيْرُهُ، فَقَالُوا: هُوَ قُزْمَانُ، وَكَانَ مُنَافِقًا.
نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَرْحَمَنَا بِرَحْمَتِهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ.
قَالَ: فَكَانَ لَا يَدَعُ شَاذَّةً وَلَا فَاذَّةً إِلَّا اتَّخَذَهَا، لَا يَنِدُّ مِنَ الْجَيْشِ فَارِسٌ وَلَا يَخْرُجُ مِنَ الصَّفِّ خَارِجٌ إِلَّا انْدَفَعَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ بِسَيْفِهِ، يَلْقَى الْحُتُوفَ، وَيُلْقِي بِنَفْسِهِ فِي مَوَارِدِ الْهَلَاكِ بِشَجَاعَةٍ فَائِقَةٍ، وَقُدْرَةٍ مُتَنَامِيَةٍ، يَفْعَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
فَقَالَ الْأَصْحَابُ يَوْمًا لِلنَّبِيِّ ﷺ وَقَدْ فَرَغُوا مِنْ يَوْمِ الْتِحَامٍ وَيَوْمِ لِقَاءٍ، قَالُوا: مَا أَجْزَأَ مِنَّا أَحَدٌ مَا أَجْزَأَ فُلَانٌ يَا رَسُولَ اللهِ ﷺ.
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((هُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ)).
فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا صَاحِبُهُ.
فَلَمَّا جَاءَتِ الْمَعْرَكَةُ؛ خَرَجَ فَجُرِحَ جُرْحًا بَلِيغًا، وَأَتَتْهُ جِرَاحَةٌ عَظِيمَةٌ، فَلَمْ يَصْبِرْ عَلَى أَلَمِهَا، فَجَعَلَ نَصْلَ سَيْفِهِ إِلَى الْأَرْضِ، وَوَضَعَ ذُبَابَهُ -يَعْنِي: طَرَفَهُ الْأَعْلَى بَيْنَ ثَدْيَيْهِ-، ثُمَّ اتَّكَأَ عَلَيْهِ، فَخَرَجَ مِنْ ظَهْرِهِ.
قَالَ: فَرَجَعَ الرَّجُلُ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ ،فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ حَقًّا وَصِدْقًا ﷺ.
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: ((وَمَا ذَاكَ؟)).
يَعْنِي: وَمَا الَّذِي حَمَلَكَ عَلَى أَنْ تَقُولَ هَذَا الْقَوْلَ جَهَارًا نَهَارًا وَأَنَا أَعْلَمُهُ مِنْكَ، وَأَعْلَمُ أَنَّهُ مُسْتَكِنٌّ فِي قَلْبِكَ، ظَاهِرٌ عَلَى جَوَارِحِكَ؟
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ كَانَ مِنْ حَالِ فُلَانٍ كَذَا وَكَذَا، وَقُلْتَ فِي شَأْنِهِ كَيْتَ وَكَيْتَ، ثُمَّ وَقَعَ مِنْ أَمْرِهِ مَا وَقَعَ، وَقَتَلَ نَفْسَهُ، وَلَقِيَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ عَلَى ذَلِكَ.
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، ثُمَّ يَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَدْخُلُ النَّارَ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، ثُمَّ يَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ)).
وَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلَّا وَقَدْ كَتَبَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَقْعَدَهَا مِنَ الْجَنَّةِ أَوْ مَقْعَدَهَا مِنَ النَّارِ، وَعَلِمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ هِيَ أَمْ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ)).
فَقَالَ رَجُلٌ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى الْكِتَابِ -يَعْنِي: الَّذِي كَتَبَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِمَعْرِفَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمَعْرِفَةِ أَهْلِ النَّارِ-، وَنَدَعُ الْعَمَلَ؟
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَا، بَلِ اعْمَلُوا؛ فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ)).
{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ (7) وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىٰ (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَىٰ (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ (10)} تَلَاهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ.
وَفِي حَدِيثِ النَّبِيِّ ﷺ: ((إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ))، وَهُوَ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ رِوَايَةِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا)).
وَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَثَلُ الْأَعْمَالِ كَمَثَلِ الْإِنَاءِ؛ إِذَا طَابَ أَعْلَاهُ طَابَ أَسْفَلُهُ، وَإِذَا خَبُثَ أَعْلَاهُ خَبُثَ أَسْفَلُهُ)).
فَالرَّسُولُ ﷺ يُنَبِّهُنَا إِلَى عِلْمِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِينَا؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ يَعْلَمُ مَا سَيَكُونُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَكُونَ، فَكَتَبَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَأَعْطَانَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ حُرِّيَّةَ الِاخْتِيَارِ فِي الْعَمَلِ الَّذِي يَقَعُ مِنَّا بِمَسْئُولِيَّةٍ كَامِلَةٍ قَدْ نَاطَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِأَعْنَاقِنَا؛ حَتَّى لَا يَظْلِمَنَا رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.
فَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَنَا الْأَمْرَ فِي مَسْأَلَةِ الِاخْتِيَارِ فِيمَا طَلَبَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنَّا، وَفِي الْأَعْمَالِ الَّتِي تَقَعُ مِنَّا.
وَاللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَعْلَمُهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ نَفْعَلَهَا، وَمِنْ قَبْلِ أَنْ نَأْتِيَهَا، فَكَتَبَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
فَيَا تُرَى؛ هَلْ كَتَبَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي أَهْلِ السَّعَادَةِ، أَمْ كَتَبَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي أَهْلِ الشَّقَاوَةِ؟ ذَلِكَ أَمْرٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا عَلَّامُ الْغُيُوبِ وَسِتِّيرُ الْعُيُوبِ.
وَأَمَّا نَحْنُ؛ فَإِنَّ الْأَمْنَ وَالِاغْتِرَارَ يَأْخُذُ بِأَنْفُسِنَا، وَبِمَعَاقِدِ أَجْفَانِنَا، وَبِمَقَالِيدِ قُلُوبِنَا، وَنَغْتَرُّ بِظَاهِرِ طَاعَةٍ نَأْتِيهَا، مَعَ أَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْطَقَ نَبِيَّهُ الْكَرِيمَ ﷺ: ((إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، ثُمَّ يَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ ،فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَدْخُلُ النَّارَ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، ثُمَّ يَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ)).
وَهَذَا يُفَسِّرُ حَدِيثَ النَّبِيِّ ﷺ الَّذِي أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: حَدَّثَنَا الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ ﷺ: ((أَنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يرْسِلُ اللَّهُ إليه الْمَلَكَ، ويُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بكَتْبِ أَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَرِزْقِهِ، وَشَقِىٌّ أَوْ سَعِيدٌ)).
((بكَتْبِ أَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَرِزْقِهِ وَشَقِىٌّ أَو سَعِيدٌ)).
فَهَذَا كِتَابٌ بِالشَّقَاوَةِ وَالسَّعَادَةِ وَالْمَرْءُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ جَنِينًا عِنْدَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ.
وَأَيْضًا عِنْدَ يَوْمِ الْمِيثَاقِ، عِنْدَمَا قَبَضَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَبْضَةً مِنَ الْخَلْقِ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ جَنَّتِي وَلَا أُبَالِي، وَقَبَضَ قَبْضَةً ثُمَّ قَالَ: هَؤُلَاءِ أَهْلُ النَّارِ، وَلَا أُبَالِي.
فَمَنْ لَمْ يَجْزَعْ مِنْ يَوْمِ الْقَبْضَةِ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ عِلْمَ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي فَعَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عِنْدَئِذٍ، أَمِنْ أَهْلِ قَبْضَةِ الشَّقَاوَةِ أَمْ مِنْ أَهْلِ قَبْضَةِ السَّعَادَةِ؟ ذَلِكَ أَمْرٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ يُبَيِّنُ لَنَا أَيْضًا أَنَّ الْمَرْءَ يُؤْمَرُ مَلَكُهُ وَهُوَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ عِنْدَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ أَنْ يَكْتُبَ: شَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ؛ فَيَا تُرَى كُتِبَ الْمَرْءُ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ أَمْ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ؟!
كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ ﷺ إِذَا لَقِيَ أَحَدُهُمْ أَخَاهُ يَقُولُ لَهُ: اجْلِسْ نَبْكِي عَلَى عِلْمِ اللهِ فِينَا.
((اجْلِسْ نَبْكِي عَلَى عِلْمِ اللهِ فِينَا)).
لِأَنَّا لَا نَدْرِي عِلْمَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ السَّابِقَ فِينَا؛ أَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ؟
أَمِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ أَمْ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ؟
ذَلِكَ أَمْرٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
ثُمَّ يَقُولُ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِيمَا يَرْوِيهِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ((فَوَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، حَتَّى لَا يَبْقَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيُعمل بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَدْخُلُ النَّارَ.
وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ؛ حَتَّى لَا يَبْقَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيُعمل بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ)).
فَلْنَبْكِ عَلَى عِلْمِ اللهِ فِينَا، وَلْنَسْأَلْ رَبَّنَا -جَلَّ وَعَلَا- أَنْ يَعْفُوَ عَنَّا بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ، وَهُوَ أَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ.
((صُوَرٌ مِنْ سُوءِ وَحُسْنِ الْخَاتِمَةِ))
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ سُوءَ الْخَاتِمَةِ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ أَمْثِلَةً لَهُ كَثِيرَةً؛ فَهَذَا هُوَ الْإِمَامُ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- يَذْكُرُ فِي ((الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ)) نَقْلًا عَنْ ابْنِ الْجَوْزِيِّ فِي أَحْدَاثِ سَنَةِ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ (53هـ): أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ (عَبْدُهُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ)، كَانَ هَذَا الرَّجُلُ كَثِيرَ الْغَزْوِ لِلرُّومِ، يَخْرُجُ فِي سَبِيلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مُجَاهِدًا مُعَرِّضًا نَفْسَهُ لِأَنْ يَكُونَ قَتِيلًا -نَحْسَبُهُ حِينَئِذٍ شَهِيدًا إِنْ فَعَلَ-، وَلَكِنْ كَانَ كَثِيرَ الْغَزْوِ لِلرُّومِ، ثُمَّ إِنَّهُ فِي مَرَّةٍ مِنْ مَرَّاتِ غَزْوِهِ، وَفِي حَالَةٍ مِنْ حَالَاتِ الْحِصَارِ لِحِصْنٍ مِنْ حُصُونِ الرُّومِ رَأَى امْرَأَةً مِنَ الرُّومِ، فَهَوِيَهَا فَرَاسَلَهَا: كَيْفَ السَّبِيلُ إِلَيْكِ؟!!
فَقَالَتْ: لَا سَبِيلَ إِلَّا بِأَنْ تَتْرُكَ الْإِسْلَامَ وَتَدْخُلَ فِي الْكُفْرِ.
فَفَعَلَ؛ فَخَرَجَ مُتْسَرْبِلًا بِأَذْيَالِ الظَّلَامِ حَتَّى دَخَلَ الْحِصْنَ وَتَرَكَ الدِّينَ وَدَخَلَ فِي الْبَاطِلِ فِي الْكُفْرِ فَكَانَ هُنَالِكَ.
يَقُولُ رَاوِي الْقِصَّةِ: فَكُنَّا نَمُرُّ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَنَنْظُرُ إِلَيْهِ وَنَقُولُ: كَيْفَ شَأْنُكَ؟
فَيَقُولُ: وَاللهِ إِنِّي الْآنَ مَا أَذْكُرُ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا تِلْكَ الْآيَةَ: {رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر: 2].
فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هُوَ الْمَسْئُولُ أَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَى الدِّينِ الْحَقِّ، فَإِنَّ عَنَاصِرَ الثَّبَاتِ قَدْ عَزَّتْ بَلْ نَدُرَتْ، وَإِنَّ وَسَائِلَ سُوءِ الْخَاتِمَةِ قَدْ كَثُرَتْ بَلْ قَدْ غَزَتِ الْعُقُولَ وَالْقُلُوبَ وَالْحَيَاةَ فِي جَمِيعِ مَنَاحِيهَا، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ إِلَّا بِتَثْبِيتِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ مُخْبِرًا عَنِ الْفِتَنِ -إِنَّهَا عَظِيمَةٌ حَقًّا-: ((يَبِيتُ الرَّجُلُ مُسْلِمًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، وَيُصْبِحُ مُسْلِمًا وَيُمْسِي كَافِرًا، وَيَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا)).
مَتَى مَا لُوِّحَ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا -وَالنَّبِيُّ ﷺ أَتَى بِـ(عَرَضٍ) هَاهُنَا مُنْكَرًا لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّحْقِيرِ ((وَيَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا)) بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ، الْمُهِمُّ أَنْ يُبْذَلُ لَهُ مَالٌ وَلَوْ كَانَ حَقِيرًا ضَئِيلًا، وَلَوْ كَانَ كَالْعَظْمَةِ الَّتِي تُرْمَى لِلْكَلْبِ فِي مَزْجَرِهِ، فَهِيَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا فَحَسْبُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.
إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي يَرْبِطُ عَلَى الْقُلُوبِ.
وَهَذَا (ابْنُ السَّقَّاءِ) كَانَ يَحْضَرُ مَجَالِسَ الْعِلْمِ، وَيَغْشَى مُنْتَدَيَاتِ الْعُلَمَاءِ، وَيَسْمَعُ الْعِلْمَ وَالْفِقْهَ، ثُمَّ دَخَلَ مَرَّةً حَلْقَةَ الْإِمَامِ الْهَمْدَانِيِّ فَأَسَاءَ الْأَدَبَ، وَسَأَلَ سُؤَالًا عَجِيبًا، فَقَالَ لَهُ: إِنِّي أَشْتَمُّ فِي سُؤَالِكَ رَائِحَةَ الْكُفْرِ، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ تَمُوتَ عَلَى غَيْرِ الْمِلَّةِ ؛ فَكَانَ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ.
وَأَمَّا أَهْلُ الثَّبَاتِ فَخُذْ إِلَيْكَ مِثَالًا وَاحِدًا مِنْهُمْ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَرَحْمَتُهُ عَلَى مَنْ أَتَى بَعْدَ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ.
هَذَا خُبَيْبُ بْنُ عَدِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَهُوَ هُنَالِكَ يُحْمَلُ لِيُصْلَبَ، لِتُضْرَبَ عُنُقُهُ وَهُوَ يَتَرَنَّمَ بِذَلِكَ الْأَمْرِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُوَ نِسْبَتُهُ لِلدِّينِ الْكَرِيمِ دِينِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ الْأَمِينُ ﷺ لَا يُبَالِي، وَإِنَّمَا ثَبَاتُهُ عَلَى دِينِ رَبِّهِ هُوَ الْمُهِمُّ.
نَسْأَلُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يُحْسِنَ لَنَا الْخِتَامَ أَجْمَعِينَ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ, صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَومِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((جُمْلَةٌ مِنْ عَلَامَاتِ حُسْنِ الْخَاتِمَةِ))
فَإِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا خَتَمَ اللهُ لَهُ بِالْحُسْنَى فَقَدْ نَجَا وَفَازَ، وَلِحُسْنِ الْخَاتِمَةِ عَلَامَاتٌ بَيَّنَهَا النَّبِيُّ ﷺ وَدَلَّ عَلَيْهَا.
فَقَدْ أَخْبَرَنَا النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ مِنْ عَلَامَاتِ حُسْنِ الْخَاتِمَةِ أَنْ يَقُولَ الْإِنْسَانُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، فَفِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ((مَنْ كَانَ آخِرَ كَلَامِهِ مِنَ الدُّنْيَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ)).
فَالنُّطْقُ بِالْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ، كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، كَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ، مِفْتَاحِ دَارِ السَّعَادَةِ، وَهِيَ كَلِمَةُ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، النُّطْقُ بِهَا قَبْلَ الْوَفَاةِ، وَأَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ آخِرَ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ الْإِنْسَانُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا عَلَامَةٌ مِنْ عَلَامَاتِ حُسْنِ الْخَاتِمَةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ رَتَّبَ عَلَى النُّطْقِ بِهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ دُخُولَ الْجَنَّةِ.
وَهَذَا يَدْفَعُنَا إِلَى الْإِكْثَارِ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ، وَأَنْ نَجْتَهِدَ فِي تَلْقِينِ مَوْتَانَا إِذَا مَا ظَهَرَتْ عَلَيْهِمْ عَلَامَاتُ الْمَوْتِ، وَكَانُوا فِي سِيَاقِ الِاحْتِضَارِ أَنْ نُلَقَّنَهُمْ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، فَيَأْتِي الْإِنْسَانُ إِلَى الْمُحْتَضَرِ الَّذِي يَمُوتُ وَيَأْمُرُهُ، يَقُولُ لَهُ: ((قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)).
وَالنَّبِيُّ ﷺ لَمَّا حَضَرَتِ الْوَفَاةُ عَمَّهُ أَبَا طَالِبٍ، وَكَانَ كَافِرًا لَمْ يُسْلِمْ، وَلَكِنَّهُ كَانَ كَثِيرَ الدِّفَاعِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يَصِلْ إِلَى الرَّسُولِ ﷺ شَيْءٌ يَكْرَهُهُ إِلَّا بَعْدَ مَوْتِهِ -إِلَّا بَعْدَ مَوْتِ عَمِّهِ- مَعَ أَنَّهُ كَافِرًا.
وَالنَّبِيُّ ﷺ بَعْدَ أَنْ مَاتَتْ أُمُّهُ كَفَلَهُ جَدُّهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، فَظَلَّ عِنْدَهُ سَنَتَيْنِ ثُمَّ مَاتَ، فَكَفَلَهُ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ، فَبَقِيَ النَّبِيُّ ﷺ مَعَ عَمِّهِ، وَكَانَ عَمُّهُ يُحِبُّهُ حُبًّا شَدِيدًا، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ؛ ذَهَبَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَأْمُرَهُ بِقَوْلِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ، لِيَشْفَعَ لَهُ بِهَا عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
ذَهَبَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى عَمِّهِ وَهُوَ فِي سِيَاقِ الْمَوْتِ، فَوَجَدَ عِنْدَهُ رَجُلَيْنِ مِنْ رُؤُوسِ الْكُفْرِ مِنْ قُرَيْشٍ -مِنْ رُؤُوسِ الْكُفْرِ فِي مَكَّةَ- فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: ((يَا عَمُّ! قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، كَلِمَةٌ أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ)).
فَقَالَا لَهُ هَذَانِ الرَّجُلَانِ مِنْ رُؤُوسِ الْكُفْرِ: أَتَدَعُ دِينَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَتَتْبَعُ مُحَمَّدًا؟
فَلَمْ يَقُلْهَا.
وَكَرَّرَ النَّبِيُّ ﷺ الْأَمْرَ مَرَّةً وَمَرَّةً، وَخَرَجَتْ رُوحُ أَبِي طَالِبٍ -عَمِّ رَسُولِ اللهِ ﷺ- وَلَمْ يَقُلْ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)).
نَأْخُذُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي مَرَّ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْبَغِي عَلَيْهِ إِذَا حَضَرَ عِنْدَ مَيِّتٍ يَحْتَضِرُ -يَمُوتُ- أَنْ يَأْمُرَهُ بِقَوْلِ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، ((فَإِنَّ مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ مِنَ الدُّنْيَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ)).
وَشَيْءٌ آخِرُ هُوَ أَنَّهُ يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَتَّقِيَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي مَرْضَانَا وَفِي الْمُحْتَضَرِينَ مِنْ أَهْلِينَا، وَأَلَّا نُمَكِّنَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ أَنْ يَحْضُرَ احْتِضَارَهُمْ وَلَا أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُمْ عِنْدَ مَوْتِهِمْ، فَقُرَنَاءُ السُّوءِ مَنَعُوا أَبَا طَالِبٍ مِنْ قَولِ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، وَزَيَّنُوا لَهُ الْكُفْرَ وَالْبَاطِلَ، وَقَالُوا لَهُ: أَتَدَعُ دِينَكَ وَدِينَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَتَتْبَعُ مُحَمَّدًا ﷺ؟ فَكَانَ آخِرَ مَا قَالَ أَنَّهُ عَلَى دِينِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَمَاتَ كَافِرًا.
*وَمِنْ عَلَامَاتِ حُسْنِ الْخَاتِمَةِ أَنْ يَمُوتَ الْمُسْلِمُ بِرَشْحِ الْجَبِينِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَخْبَرَ ((أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَمُوتُ بِعَرَقِ الْجَبِينِ -بِرَشْحِ الْجَبِينِ-))، فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ فِي حَالَ السِّيَاقِ -فِي حَالِ الِاحْتِضَارِ وَهُوَ يَعْرَقُ -وَيَعْرَقُ جَبِينُهُ عَرَقًا غَزِيرًا- فَهَذَا مِنْ عَلَامَاتِ حُسْنِ الْخَاتِمَةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَخْبَرَ أَنَّ الَّذِي يَمُوتُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ هُوَ الْمُؤْمِنُ.
*وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ مِنْ عَلَامَاتِ حُسْنِ الْخِتَامِ: أَنْ يُقَيِّضَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِلْعَبْدِ عَمَلًا صَالِحًا وَيَقْبِضَهُ عَلَيْهِ.
فِي آخِرِ عُمُرِهِ يُقَيِّضُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَهُ عَمَلًا صَالِحًا؛ يُؤَذِّنُ فِي الْمَسْجِدِ، يَخْدِمُ فِيهِ مُتَطَوِّعًا، يَسْعَى فِي الصُّلْحِ بَيْنَ النَّاسِ، يَأْمُرُ بِالسُّنَّةِ، يَلْتَزِمُ بِهَا وَيَدْعُو إِلَيْهَا، يَأْتِي بِأَيِّ عَمَلٍ صَالِحٍ مِمَّا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ فِي آخِرِ عُمُرِهِ، وَيَقْبِضُهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى هَذَا الْعَمَلِ الصَّالِحِ.
*مِنْ عَلَامَاتِ حُسْنِ الْخِتَامِ: أَنْ يَمُوتَ الْإِنْسَانُ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللهِ، أَوْ مُرَابِطًا فِي سَبِيلِ اللهِ، أَوْ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ بَيْتِهِ لِلْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْبَضُ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ، فَكُلُّ هَذَا وَعَدَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِ الْحُسْنَى.
*عَدَّ النَّبِيُّ ﷺ أَنْوَاعًا أُخْرَى مِنَ الشُّهَدَاءِ غَيْرَ شَهِيدِ الْمَعْرَكَةِ:
*مِنْ عَلَامَاتِ حُسْنِ الْخِتَامِ -أَيْضًا-: أَنْ يَمُوتَ شَهِيدًا، لَا فِي الْمَعْرَكَةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ سَأَلَ أَصْحَابَهُ يَوْمًا عَنِ الشَّهِيدِ: ((مَا تَعُدُّونَ الشَّهِيدَ فِيكُمْ؟)).
فَقَالُوا: الَّذِي يَمُوتُ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
يَمُوتُ فِي سَاحَةِ الْوَغَى، فِي سَاحَةِ الْقِتَالِ.
قَالَ: ((إِنَّ شُهَدَاءَ أُمَّتِي إِذَنْ لَقَلِيلٌ)).
ثُمَّ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنْوَاعًا مِنَ الشُّهَدَاءِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَلَيْسُوا مِمَّنْ مَاتَ فِي الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا فِي سَاحَةِ الْمَعْرَكَةِ.
شَهِيدُ الْمَعْرَكَةِ، وَمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا؛ هَذَا شَهِيدُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ هَذَا يُكَفَّنُ فِي ثِيَابِهِ، لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَيَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجُرْحُهُ يَخْرُجُ مِنْهُ رِيحُ الْمِسْكِ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ مَعَ أَنَّ اللَّوْنَ لَوْنُ الدَّمِ.
هَذَا شَهِيدُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَأَمَّا شُهَدَاءُ الْآخِرَةِ لَا شُهَدَاءُ الدُّنْيَا؛ فَلَا تَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ شَهَادَةِ الْقَتْلِ فِي الْمَعَارِكِ جِهَادًا فِي سَبِيلِ اللهِ.
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الْمَبْطُونُ شَهِيدٌ، مَنْ قَتَلَهُ بَطْنُهُ فَهُوَ شَهِيدٌ))؛ يَعْنِي الَّذِي يُصَابُ فِي كَبِدِهِ فَيَمُوتُ بِهِ، أَوْ فِي كُلْيَتَيْهِ فَيَمُوتُ بِذَلِكَ، الَّذِي يَأْتِيهِ سَرَطَانٌ فِي الْأَمْعَاءِ، أَوْ فِي الْمُسْتَقِيمِ، أَوْ فِي الْمَثَانَةِ، أَوْ فِي الْبُرُوسْتَاتَا أَوْ مَا أَشْبَهَ، يَعْنِي مَا كَانَ مِنْ أَمْرٍ يَكُونُ مُؤَدِّيًا إِلَى الْمَوْتِ فِي الْبَطْنِ، فَإِنَّ مَنْ صَبَرَ عَلَى ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَاحْتِسَابًا عِنْدَ اللهِ مَا لَهُ مِنَ الْأَجْرِ الْحَسَنِ؛ فَهُوَ شَهِيدٌ.
فِي التَّقْسِيمِ الطِّبِيِّ التَّشْرِيحِيِّ الْحَدِيثِ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْبَطْنِ وَالْحَوْضِ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مَعْهُودًا عِنْدَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَالْقُرْآنٌ عَرَبِيٌّ، فَمَهْمَا كَانَ مِنْ دَاءٍ فِي الْحَوْضِ مِنْ شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْتُ بَعْضَهُ، فَأَدَّى إِلَى الْوَفَاةِ، فَهُوَ أَيْضًا دَاخِلٌ فِي قَوْلِ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((الْمَبْطُونُ شَهِيدٌ)).
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((صَاحِبُ السِّلِّ شَهِيدٌ))؛ السِّلُّ: هُوَ السُّلُّ، يَعْنِي الْمَسْلُولُ الَّذِي يُصِيبُهُ السُّلُّ غَالِبًا فِي رِئَتَيْهِ، فَإِنَّهُ إِذَا مَاتَ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ أَيْضًا شَهِيدًا كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ.
((وَمَنْ مَاتَ مَطْعُونًا -أَيْ بِالطَّاعُونِ- فَهُوَ شَهِيدٌ)).
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((صَاحِبُ الْهَدْمِ شَهِيدٌ))؛ يَعْنِي الَّذِي يَسْقُطُ عَلَيْهِ جِدَارٌ، يَسْقُطُ عَلَيْهِ السَّقْفُ، يُهْدَمُ عَلَيْهِ الْبَيْتُ، فَيَمُوتُ؛ هُوَ شَهِيدٌ، قَالَ ﷺ: ((صَاحِبُ الْهَدْمِ شَهِيدٌ)).
وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((الْغَرِقُ شَهِيدٌ، وَالْحَرِقُ شَهِيدٌ))؛ يَعْنِي مَنْ مَاتَ غَرَقًا فَهُوَ شَهِيدٌ أَيْضًا، وَمَنْ مَاتَ مَحْرُوقًا فَهُوَ شَهِيدٌ أَيْضًا.
فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنْوَاعًا مِنَ الشُّهَدَاءِ، وَذَكَرَ لَوْنًا مِنَ الشَّهَادَةِ، كَانَ الصَّحَابَةُ أَنْفُسُهُمْ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِنَ الشَّهَادَةِ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا سُئِلُوا عَنِ الشَّهِيدِ، قَالُوا: الَّذِي يَمُوتُ فِي الْمَعْرِكَةِ، فَقَالَ: ((إِذَنْ شُهَدَاءُ أُمَّتِي قَلِيلٌ)).
*وَالَّذِي يُدَافِعُ عَنْ مَالِهِ، عَنْ عِرْضِهِ، يُدَافِعُ عَنْ دَمَهِ، هَذَا أَيْضًا إِذَا مَاتَ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَأَمَّا مَنْ اعْتَدَى عَلَيْهِ فَهَذَا قَاتِلٌ، يُحَاسِبُهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- حِسَابَ الْقَاتِلِينَ الْمُعْتَدِينَ.
*ذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ -أَيْضًا- مِنْ أَنْوَاعِ الشُّهَدَاءِ الْمَرْأَةُ تَمُوتُ فِي نِفَاسِهَا، ((فَتَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَجُرُّهَا وَلِيدُهَا بِسَرَرِهِ حَتَّى يُدْخِلَهَا الْجَنَّةَ))، السَّرَرُ هُوَ الْحَبْلُ السُّرِّيُّ.
فَتَصَوَّرْ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَالْمَرْأَةُ تَمُوتُ فِي أَثْنَاءِ الْوَضْعِ أَوْ تَمُوتُ فِي أَثْنَاءِ النِّفَاسِ -يَعْنِي قَبْلَ أَنْ تَطْهُرَ مِنْ نِفَاسِهَا-، فَهَذِهِ، يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ وَلَدَهَا يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَارًّا لَهَا بِسَرَرِهِ -يَعْنِي بِالْحَبْلِ السُّرِّيِّ- حَتَّى يُدْخِلَهَا الْجَنَّةَ)).
فَالنَّبِيُّ ﷺ ذَكَرَ لَنَا هَذِهِ الْأُمُورَ، وَكُلُّهَا مِنْ عَلَامَاتِ حُسْنِ الْخِتَامِ.
*مِنْ عَلَامَاتِ حُسْنِ الْخِتَامِ أَنْ يَمُوتَ الْإِنْسَانُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ أَوْ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَنْ مَاتَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ أَوْ فِي يَوْمِهَا وَقَاهُ اللهُ فِتْنَةَ الْقَبْرِ)).
وَفِتْنَةُ الْقَبْرِ أَعْظَمُ فِتْنَةٍ يَتَعَرَّضُ لَهَا الْإِنْسَانُ بَعْدَ مَوْتِهِ إِلَى أَنْ يُقِيمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- السَّاعَةَ، فِتْنَةُ الْقَبْرِ وَاقِعَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي قُبُورِكُمْ)).
وَبَيَّنَ ﷺ أَنَّ فِتْنَةَ الْقَبْرِ عَظِيمَةٌ جِدًّا، وَأَنَّ مَنْ نَجَا مِنْهَا؛ نَجَا مِمَّا وَرَاءَهَا، فَإِذَا كَانَ الْقَبْرُ يَسِيرًا وَكَانَ أَمْرُهُ غَيْرَ عَسِيرٍ، فَإِنَّ مَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ وَأَسْهَلُ، وَأَمَّا إِذَا مَا رَسَبَ الْإِنْسَانُ فِي الِاخْتِبَارِ عِنْدَ الْفِتْنَةِ فِي الْقَبْرِ، فَمَا بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ أَعْسَرَ وَيَكُونُ أَشَدَّ.
يَقِي اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْمُسْلِمُ مِنْ هَذِهِ الْفِتْنَةِ الْعَظِيمَةِ -مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ- إِذَا مَاتَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ أَوْ مَاتَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ.
عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي أَنْ يَكُونَ مُوصِيًا بِوَصِيَّةٍ شَرْعِيَّةٍ مُنْضَبِطَةٍ قَبْلَ مَوْتِهِ، لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُفَرِّطُ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْكَبِيرِ، مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ((مَا حَقُّ امْرِئٍ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ تَحْتَ رَأْسِهِ)).
كُلُّ هَؤُلَاءِ أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ لَهُمْ مَقَامًا عِنْدَ اللهِ بِشَرْطِ أَنْ يَمُوتُوا عَلَى التَّوْحِيدِ وَالصَّبْرِ عَلَى مَقَادِيرِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ، مُتَّبِعِينَ لِلنَّبِيِّ الْكَرِيمِ ﷺ.
إِذَا آتَى اللهُ عَبْدًا خَيْرًا، فَأَمَاتَهُ بِعَلَامَةٍ مِنْ تِلْكَ الْعَلَامَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا الرَّسُولُ ﷺ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ دَلَائِلِ أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَدْ أَحْسَنَ خَاتِمَتَهُ.
((هَلْ يُحْكَمُ لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ بِالشَّهَادَةِ؟))
هَلْ يُقَالُ فُلَانٌ شَهِيدٌ؟
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ خَطَبَ، فَقَالَ: ((تَقُولُونَ فِي مَغَازِيكُمْ -يَعْنِي فِي غَزَوَاتِكُمْ- تَقُولُونَ: فُلَانٌ شَهِيدٌ، وَمَاتَ فُلَانٌ شَهِيدًا، وَلَعَلَّهُ قَدْ يَكُونُ قَدْ أَوْقَرَ رَاحِلَتَهُ -يَعْنِي حَمَّلَهَا وِقْرًا، وَالْوِقْرُ هُوَ الْحِمْلُ الثَّقِيلُ- أَلَا لَا تَقُولُوا ذَلِكُمْ، وَلَكِنْ قُولُوا كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ مَاتَ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ قُتِلَ فَهُوَ شَهِيدٌ)). وَهَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ))، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُور فِي ((سُنَنِهِ))، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنِ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً، وَيُقَاتِلُ رِيَاءً أَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)). مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((بَابٌ: لَا يُقَالُ فُلَانٌ شَهِيدٌ)).
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ((اللهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِهِ، وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ))؛ أَيْ يُجْرَحُ فِي سَبِيلِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ الطَّحَاوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي بَيَانِ عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: ((وَنَرَى الصَّلَاةَ خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، وَعَلَى مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ، وَلَا نُنْزِلُ أَحَدًا مِنْهُمْ جَنَّةً وَلَا نَارًا، وَلَا نَشْهَدُ عَلَيْهمْ بِكُفْرٍ وَلَا بِشِرْكٍ وَلَا بِنِفَاقٍ مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَنَذَرُ -أَيْ نَتْرُكُ- سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللهِ تَعَالَى)).
قَالَ ابْنُ أَبِي الْعِزِّ الْحَنَفِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي شَرْحِ تِلْكَ الْعَقِيدَةِ -عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ-: ((يُرِيدُ الطَّحَاوِيُّ: أَنَّا لَا نَقُولُ عَنْ أَحَدٍ مُعَيَّنٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَوْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، إِلَّا مَنْ أَخْبَرَ الصَّادِقُ ﷺ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ كَالْعَشَرَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَإِنْ كُنَّا نَقُولُ: إِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مَنْ شَاءُ اللَّهُ إِدْخَالَهُ النَّارَ، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْهَا بِشَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ، وَلَكِنَّا نَقِفُ فِي الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ، فَلَا نَشْهَدُ لَهُ بِجَنَّةٍ وَلَا نَارٍ إِلَّا عَنْ عِلْمٍ، لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ بَاطِنَةٌ، وَمَا مَاتَ عَلَيْهِ لَا نُحِيطُ بِهِ، لَكِنْ نَرْجُو لِلْمُحْسِنِ، وَنَخَافُ عَلَى الْمُسِيئِينَ)).
«مَوْتُ الْمُسْلِمِ دِفَاعًا عَنِ الْوَطَنِ الْإِسْلَامِيِّ مِنْ عَلَامَاتِ حُسْنِ الْخِتَامِ»
إِنَّ الْأَمْنَ وَالِاسْتِقْرَارَ نِعْمَةٌ عَظِيمٌ نَفْعُهَا، كَرِيمٌ مَآلُهَا، وَبِاللَّهِ ثُمَّ بِالْأَمْنِ يُحَجُّ الْبَيْتُ الْعَتِيقُ، وَتُعَمَّرُ الْمَسَاجِدُ، وَيُرْفَعُ الْأَذَانُ مِنْ فَوْقِ الْمَنَارَاتِ، وَيَأْمَنُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ، وَتَأْمَنُ السُّبُلُ.
بِاللَّهِ ثُمَّ بِالْأَمْنِ تُرَدُّ الْمَظَالِمُ لِأَهْلِهَا فَيُنْتَصَرُ لِلْمَظْلُومِ وَيُرْدَعُ الظَّالِمُ، وَتُقَامُ الشَّعَائِرُ، وَيَرْتَفِعُ شَأْنُ التَّوْحِيدِ مِنْ فَوْقِ الْمَنَابِرِ، وَيَجْلِسُ الْعُلَمَاءُ لِلْإِفَادَةِ، وَيَرْحَلُ الطُّلَّابُ لِلِاسْتِفَادَةِ، وَتُحَرَّرُ الْمَسَائِلُ، وَتُعْرَفُ الدَّلَائِلُ، وَيُزَارُ الْمَرْضَى، وَيُحْتَرَمُ الْمَوْتَى، وَيُرْحَمُ الصَّغِيرُ وَيُدَلَّلُ، وَيُحْتَرَمُ الْكَبِيرُ وَيُبَجَّلُ، وَتُوصَلُ الْأَرْحَامُ، وَتُعْرَفُ الْأَحْكَامُ، وَيُؤْمَرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيُنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيُكَرَّمُ الْكَرِيمُ وَيُعَاقَبُ اللَّئِيمُ...
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَبِالْأَمْنِ اسْتِقَامَةُ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَبِالْأَمْنِ صَلَاحُ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ, وَالْحَالِ وَالْمَآلِ.
والْجَيْشُ الْمِصْرِيُّ يُحَارِبُ الْعَالَمَ كُلَّهُ فِي سَيْنَاءَ, تَجَمَّعَتْ عَلَيْهِ مَنْ بَيْنَ أَقْطَارِهَا وَلَنْ يَضُرُّوهُ شَيْئًا -إِنْ شَاءَ اللهُ-.
الْعَالَمُ كُلُّهُ يُحَارِبُ الْجَيْشَ الْمِصْرِيَّ فِي سَينَاء!! وَالْمُقَاتِلُ الْمِصْرِيُّ مِنْ فَجْرِ التَّارِيخِ, عَقِيدَتُهُ: ((النَّصْرُ أَوْ الشَّهَادَةُ)), لَا يَعْرِفُ سِوَى هَذَا.
يُقَتَّلُونَ, فِي سَبِيلِ اللهِ يَمْضُونَ, تُزْهَقُ أَرْوَاحُهُم, تُكْلَمُ قُلُوبُ أُمَّهَاتِهِم، يَتَيَتَّمُ أَطْفَالُهُم, تَتَرَمَّلُ نِسَاؤُهُمْ, يَبْكِيهِمْ كُلُّ جَارٍ وَحَبِيبٍ، وَهُمْ يَتَسَاقَطُونَ, لَا يُبَالُونَ, عَقِيدَتُهُمْ: ((النَّصْرُ أَوْ الشَّهَادَةُ)), لِمَاذَا يُقْتَلُونَ؟!
هُم يُقَاتِلُونَ مِنْ أَجْلِ الْقَضِيَّةِ, مِنْ أَجْلِ وَأْدِ الْمُؤَامَرَةِ.
يَقُولُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ مَاتَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ»، وَالْأَرْضُ مَالٌ, فَمَنْ مَاتَ دُونَ أَرْضِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ.
أَرْضٌ يُرْفَعُ فِيهَا الْأَذَانُ، يُوَحَّدُ فِيهَا الرَّحِيمُ الدَّيَّانُ، أَرْضٌ تُقَامُ فِيهَا الشَّعَائِرُ مِنَ الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ، أَرْضٌ تَظْهَرُ فِيهَا مَظَاهِرُ الْإِسْلَامِ.
الْجَيْشُ الْمِصْرِيُّ يُعَانِي مُعَانَاةً مُرَّةً فِي سَينَاء؛ لِأَنَّ الوَضْعَ هُنَالِكَ فِي غَايَةِ التَّعْقِيدِ, لَيْسَ كَمَا يَبْدُو لِلنَّظْرَةِ الْأُولَى, وَالنَّظْرَةُ الْأُولَى حَمْقَاءُ, الْوَضْعُ مُعَقَّدٌ غَايَةَ التَّعْقِيدِ, وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَالْبَوَاسِلُ مِنَ الرِّجَالِ يُوَاجِهُونَ بِصُدُورٍ مَكْشُوفَةٍ, وَسَوَاعِدَ مَفْتُولَةٍ, وَعَقَائِدَ قَائِمَةً, لَا يُبَالُونَ, يَمُوتُونَ, يَتَسَاقَطُونَ.
لَا بَأْسَ, إِنَّ الْمَجْدَ لَا يُصْنَع إِلَّا بِالتَّضْحِيَّاتِ الغَالِيَةِ, بِالدِّمَاءِ النَّازِفَةِ, بِالْأَرْوَاحِ الزَّاهِقَةِ..
إِنَّ الْقِيَمَ وَالْمُثُلَ لَا يُؤَسَسُ لَهَا وَلَا تُعْلَى, إِلَّا بِالتَّضْحِيَّاتِ الْعَظِيمَةِ, إِنَّ الْمَجْدَ الْعَظِيمَ لَا يُصْنَعْ إِلَّا بِتَضْحِيَةٍ عَظِيمَةٍ.
هُمْ يُدَافِعُونَ, وَلَوْلَا أَنَّ اللهَ قَيَّدَ هَؤُلَاءِ عِنْدَ الْبَوَابَةِ الشَّرْقِيَّةِ, وَعِنْدَ الْحُدُودِ الْغَرْبِيَّةِ, وَعِنْدَ الْحُدُودِ الْجَنُوبِيَّةِ, وَفِي الْبَحْرِ الْأَحْمَرِ, وَفِي السَّمَاءِ, وَعِنْدَ الْمُؤَسَّسَاتِ وَالْمُنْشَآتِ, لَوْلَا أَنَّ اللهَ قَيَّدَ هَؤُلَاءِ مَعَ إِخْوَانِهِمْ مِنْ الشُّرْطَةِ الْمَدَنِيَّةِ, الَّذِينَ يَصْطَادُونَهُمْ وَهُمْ يَحْمُونَهُمْ, وَمَا كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ لِيَجْرُؤَ عَلَى أَنْ يَمْشِيَ فِي ضَوْءِ النَّهَارِ يَسْعَى عَلَى قَدَمَيْهِ, خَفَافِيشُ لَا تَعِيشُ إِلَّا فِي الظَّلَامِ.
إِنَّ عَقِيدَةَ التَّكْفِيرِيِّينَ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ الْجَيْشَ وَالشُّرْطَةَ فِي سَيْنَاءَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ مُرْتَدُّونَ, وَهُمْ أَكْفَرُ مِنَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى -عِنْدَهُمْ-!!
وَمِنْ عَقِيدَتِهِمْ: أَنَّهُ إِذَا قَاتَلَ الْيَهُودُ الْجَيْشَ الْمِصْرِيَّ، فَهَؤُلَاءِ التَّكْفِيرِيُّونَ مَعَ اليَهُودِ ضِدَّ الْجَيْشِ الْمِصْرِيِّ؛ لِأَنَّ الْيَهُودَ عِنْدَهُمْ -وَكَذِلَكَ النَّصَارَى- أَهْلُ كِتَابٍ, وَأَمَّا الْجَيْشُ عِنْدَهُمْ فَكَافِرٌ مُرْتَدٌّ, وَالمُرْتَدُّ أَشَدُّ كُفْرًا مِنَ الْكِتَابِيِّ!!
أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ هَؤُلَاءِ التَّكْفِيرِيِّينَ، وَأَنْ يَجْعَلَ كَيْدَهُمْ فِي نُحُورِهِمْ، وَأَنْ يَهْدِيَ شَبَابَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَى مَا فِيهِ خَيْرُ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ.
الْكُلُّ مُسْتَهْدَفٌ, مُؤَسَّسَاتُكُمْ, أَمْوَالُكُمْ, أَبْنَاؤُكُمْ, أَعْرَاضُكُمْ, أَمْوَالُكُمْ, حَيَاتُكُمْ, مُسْتَقْبَلُكُمْ, وَمُسْتَقْبَلُ أَبْنَائِكُمْ, وَمُسْتَقْبَلِ حَفَدَتِكُمْ فِي مَهَابِّ الرِّيَاحِ الْأَرْبَعَةِ, فَكَيْفَ تَنَامُون؟! كَيْفَ تَضْحَكُونَ؟! كَيْفَ تَصْخَبُونَ؟! كَيْفَ تَتَغَافَلُونَ؟! أَلَا تُفِيقُونَ!!
((حُسْنُ الْخَاتِمَةِ بَيْنَ اجْتِهَادِ الْعَبْدِ وَتَوْفِيقِ الرَّبِّ -جَلَّ وَعَلَا- ))
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ سُوءَ الْخَاتِمَةِ وَحُسْنَهَا أَمْرٌ شَخْصِيٌّ جِدًّا، وَأَمْرٌ فِي غَايَةٍ مِنَ السِّرِّيَّةِ فِيمَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ نَفْسِهِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَأَمَّلَ فِيهَا، فَإِنَّ الْمَوْتَ يَأْتِي فَجْأَةً، وَإِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَيُمْهِلَ الَّذِينَ يَتَجَبَّرُونَ يَتَكَبَّرُونَ يَخْدَعُونَ، وَلَكِنْ هَيْهَاتْ!! فَإِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ خَادِعُهُمْ وَهُمْ يُخَادِعُونَهُ -جَلَّ وَعَلَا-، وَرَبُّ الْعَالَمِينَ لَا يُغَالَبُ وَلَيُغْلَبَنَّ مُغَالِبُ الْغَلَّابِ، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ.
فَهَذَا أَمْرٌ يَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَهُ الْمَرْءُ عَلَى أَنَّهُ مُشْكِلَةٌ شَخْصِيَّةٌ، وَشَخْصِيَّةٌ جِدًّا وَخَاصَّةٌ إِلَى أَبْعَدِ الْحُدُودِ؛ فَإِنَّ الْمَرْءَ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي يَعْلَمُ سِرَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ..
وَحْدَهُ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْدَعَ نَفْسَهُ..
وَحْدَهُ الَّذِي يَدْرِي خُبْرَهُ، وَيَدْرِي سَرِيرَتَهُ..
وَحْدَهُ الَّذِي يَطَّلِعُ عَلَى خَبِيئَةِ نَفْسِهِ، وَمَخْبُوءِ ضَمِيرِهِ، وَمَكْنُونِ فُؤَادِهِ، وَمُتَوَارِي سَرِيرَتِهِ..
فَهِيَ مُشْكِلَةٌ شَخْصِيَّةٌ جِدًّا، وَسِرِّيَّةٌ إِلَى أَبْعَدِ الْمَدَى، الْمَرْءُ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي يَسْتَطِيعُ أَنْ يَعْلَمَ هَلْ هُوَ مُسْتَقِيمٌ عَلَى الْجَادَّةِ أَمْ هُوَ مُنْحَرِفٌ عَنْهَا، وَحْدَهُ الَّذِي يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقِفَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَنْظُرَ وَازِنًا الْأُمُورِ بِمِيزَانِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَهَذَا لِأَجْلِهِ أَمْ هَذَا لِوَجْهِ الشَّيْطَانِ، أَهَذَا لِوَجْهِ الْحَقِّ أَمْ هُوَ لِقَفَاهُ؟!!
عِبَادَ اللهِ! تَذَكَّرُوا دَائِمًا وَأَبَدًا قَوْلَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مُوصِيًا إِيَّاكُمْ بِأَنْ تَأْخُذُوا بِأَسْبَابِ حُسْنِ الْخَاتِمَةِ، وَأَنْ تَجْتَهِدُوا مُجْتَنِبِينَ سُوءَ الْخَاتِمَةِ بِأَسْبَابِهَا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
وَهَلْ يَمْلِكُ الْمَرْءُ أَلَّا يَمُوتَ إِلَّا مُسْلِمًا، أَخْذًا بِحَقِيقَةِ الدِّينِ وَثَبَاتًا عَلَى أُصُولِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، وَبُعْدًا عَنِ التَّهَارُجِ وَالتَّهَارُشِ، وَبَحْثًا بِارْتِدَادٍ يَسِيرٍ إِلَى الْخَلْفِ هُنَالِكَ فِي أَطْوَاءِ النَّفْسِ بِانْكِفَاءٍ عَلَيْهِ انْكِفَاءَ يَسِيرًا مِنْ أَجْلِ التَّفْتِيشِ وَالتَّنْقِيبِ وَالْبَحْثِ فِي طَوِيَّةِ ذَاتِ النَّفْسِ مِنْ أَجْلِ مَعْرِفَةِ الضَّمِيرِ لِتَحْقِيقِ الْحَقِيقَةِ وَتَخْلِيصِ الْخَلَاصِ بِالْإِخْلَاصِ، مِنْ أَجْلِ الْعَوْدَةِ إِلَى رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ نَظِيفًا كَمَا خَلَقَكَ أَوَّلَ مَرَّةٍ عَلَى فِطْرَةِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.
وَعَلَى الْمَرْءِ أَلَّا يَغْتَرَّ بِظَاهِرِ عَمَلِهِ، وَلَوْ كَانَ عَمَلًا مِنْ عَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ كَمَا وَصَفَ النَّبِيُّ ﷺ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَدْرِي عِنْدَ الْمَوْتِ أَيَأْتِيهِ التَّثْبِيتُ أَمْ يُخْذَلُ عِنْدَ الْمَوْتِ، فَيَكْفُرُ بِاللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَالْمَوْتُ لَهُ سَكَرَاتُهُ، وَلَهُ غُصَصُهُ كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ وَهُوَ يَمُوتُ: ((سُبْحَانَ اللهِ! إِنَّ لِلْمَوْتِ لَسَكَرَاتٍ))، فَمَنْ ثَبَّتَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عِنْدَ الْمَمَاتِ فَخَرَجَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى الْإِيمَانِ فَهُوَ السَّعِيدُ حَقًّا، وَمَنْ خَذَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عِنْدَ الْمَمَاتِ فَجَعَلَهُ يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ، وَيَتَخَطَّفُهُ الشَّيَاطِينُ عِنْدَ الْمَوْتِ فَهُوَ الْمَخْذُولُ الْمَحْرُومُ حَقًّا.
وَمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَجْزِمَ بِمَا يَكُونُ عَلَيْهِ حَالُهُ عِنْدَ الْمَمَاتِ، وَهُوَ فِي حَالِ الْحَيَاةِ؟
هَذَا أَمْرٌ لَا يَعْلَمُ عِلْمَهُ إِلَّا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ سُبْحَانَهُ نَسْأَلُهُ –جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- أَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَى الْحَقِّ، وَأَنْ يُلْهِمَنَا الرُّشْدَ، وَأَنْ يُحْسِنَ لَنَا الْخِتَامَ.
اللهم إِنَّا نَسْأَلُكَ حُسْنَ الْخَاتِمَةِ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.
المصدر:حُسْنُ الْخَاتِمَةِ بَيْنَ الِاجْتِهَادِ وَالتَّوْفِيقِ